تفسير سورة المسد

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة المسد من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ ؛ روي عن ابنِ عبَّاس أنه قال :" " لَمَّا " نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾ صَعَدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الصَّفَا وَنَادَى :" يَا صَبَاحَاهْ " فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَ ﷺ :" يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِب، يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي لُؤَيٍّ، لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلاً بسَفْحِ الْجَبَلِ قَدْ أظَلَّتْكُمْ أكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي ؟ " قَالُوا : نَعَمْ، قَالَ :" فَإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذابٍ شَدِيدٍ " فَقَالَ أبُو لَهَبْ : تَبّاً لَكَ! ألِهَذا دَعَوْتَنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ ".
والتَّبَاتُ : الْخُسَرانُ الذي يؤدِّي إلى الهلاكِ، والمعنى : خَسِرَتْ يداهُ من كلِّ خيرٍ. وأضافَهُ إلى اليَدَين ؛ لأنَّ العملَ أكثرُ ما يجرِي على اليدَين.
ومعنى قولهِ ﴿ وَتَبَّ ﴾ أي وخَسِرَ هو بنفسهِ خُسراناً لا يفلِحُ بعدَهُ أبداً، واختلفُوا في المعنى الذي ذكرَهُ اللهُ بالكُنيَةِ، قال بعضُهم : إنما ذكرَهُ بها ؛ لأنه كان اسمهُ عبدُ العُزَّى فلذلك ذُكِرَ بالكُنيَةِ. وقال بعضُهم كان مشهوراً بهذه الكُنيَة. وقال بعضهم : كانت وَجنَتاهُ حمراوَينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾ ؛ أي لا تنفعهُ كثرة مالهِ في الآخرة ولا ينفعهُ ما أعَدَّ من الكَيدِ والحِيَلِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ما أغنَى عنه مالهُ وولده، سُمِّي الولدُ كَسْباً ؛ لأن ولدَ الرجُل من كسبهِ، قال ﷺ :" إنَّ أفْضَلَ مَا أكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبهِ، وَإنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبهِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ ﴾ ؛ أي سيدخلُ أبو لَهب ناراً لا يسكنُ لَهبُها ولا يطفأُ جَمرُها، قرأ أبو رجاء (سَيُصَلَّى) بالتشديد وضمِّ الياء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴾ ؛ اسمها أُمُّ جَميل بنتُ حرب، أختُ أبي سفيان، يُصْلِيها اللهُ معه، وكانت عَورَاء، وقولهُ تعالى :﴿ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴾ أي نقَّالَةً للكذب، قال ابنُ عباس :((إنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي بالنَّمِيمَةِ))، تقولُ العرب : فلانٌ يَحْطِبُ على فلانٍ ؛ أي ينمُّ عليه.
وقال الضحَّاك :((كَانَتْ تَأْتِي بالشَّوْكِ وَالْفَضَلاَتِ، فَتَطْرَحُهَا باللَّيْلِ فِي طَرِيقِ النَّبِيِّ ﷺ وَأصْحَابهِ لِتَعْقِرُهُمْ، وَكَانَتْ تُعَيِّرُ رَسُولَ اللهِ ﷺ بالْفَقْرِ، فَعَيَّرَهَا اللهُ تَعَالَى بالاحْتِطَاب)).
وهو ما تحمله من الشوكِ. قراءةُ العامَّة (حَمَّالَةُ) بالرفع، على أنه خبر لمبتدأ، ويجوز أن يكون نعتاً وخبرُ المبتدأ (فِي جِيدِهَا)، ومن نصبَ (حَمَّالَةَ) فعلى الذمِّ والشتمِ، كقوله تعالى ﴿ مَّلْعُونِينَ ﴾ [الأحزاب : ٦١] والمعنى : أعنِي حَمَّالَةَ الحطب، وفي قراءةِ عبدِ الله (وَمَرِيَّتُهُ حَمَّالة الْحَطَب)، وقراءة أبي قلابة (وَامْرَأتُهُ حَامِلَةَ الْحَطَبِ) على وزن فاعلة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ﴾ ؛ في عُنقها حبلٌ في الآخرةِ له ثقلُ الحديدِ، وحرارةُ النار، وخشُونَةِ اللِّيف، وقال ابنُ عبَّاس :((مَعْنَاهُ : فِي عُنُقِهَا سِلْسِلَةٌ ذرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً مِنْ حَدِيدٍ، لَوْ وُضِعَتْ مِنْهَا حَلَقَةٌ عَلَى جَبَلٍ لَذابَ، كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، تَدْخُلُ فِي فِيْهَا، وَتَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهَا، وَيُلْوَى سَائِرُ بَاقِيهَا فِي عُنُقِهَا، وَذلِكَ لأَنَّهَا كَانَتْ لَهَا قِلاَدَةٌ فَاخِرَةٌ وَكَانَتْ تَقُولُ : لأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)).
ويقال : إنَّها اختنَقت في الدُّنيا بحبلٍ من ليفٍ خنَقَها اللهُ به فأهلَكها، ويجعلُ في الآخرةِ في عنُقها جبلٌ من نارِ تُساق به إلى النار.
والْمَسَدُ في اللغة : الْفَتْلُ، والممسُود : المفتولُ. وَقِيْلَ : المسَدُ : الحديدةُ التي تدورُ عليها البكَرَةُ تجعلُ في عنقِِها سلسلةً، وتُجعَلُ السلسلةُ في تلك الحديدةِ، فهي تُجتَذبُ بها في النار وتختلفُ بها في النار، كما تختلفُ بالدَّلوِ في البئرِ على البكَرةِ، يُشْهِرُها الله بهذه العلامةِ في جهنَّم، تُرفَعُ مرَّة، وتُخفَضُ أخرى مع سائرِ أنواع العقوباتِ.
Icon