تفسير سورة الجاثية

أضواء البيان
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ، مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» - سِتَّةَ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - تَعَالَى -.
الْأَوَّلُ مِنْهَا: خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.
الثَّانِي: خَلْقُهُ النَّاسَ.
الثَّالِثُ: خَلْقُهُ الدَّوَابَّ.
الرَّابِعُ: اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
الْخَامِسُ: إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ.
السَّادِسُ: تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ.
وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُوقِنُونَ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ وَآيَاتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَلِذَا قَالَ: لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، ثُمَّ قَالَ: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
وَهَذِهِ الْبَرَاهِينُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ - جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
179
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ - فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [٥٠ ٦ - ٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٣٤ ٩]. وَقَوْلِهِ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [١٠ ١٠١]. وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٧ ١٥٨]. وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [٣٠ ٢٢] فِي «الرُّومِ» وَ «الشُّورَى» [٤٢ ٢٩]. وَقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [٤٠ ٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [٤٠ ٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [٥١ ٤٧ - ٤٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْلِهِ: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [٧٨ ٦ - ١٢]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ النَّاسَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَفِي خَلْقِكُمْ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. [٣٠ ٢٠]. وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [٢ ٢١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [٧١ ١٣ - ١٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [٣٩ ٦]. وَقَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [٥١ ٢١]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ الدَّوَابَّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الشُّورَى» : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [٤٢ ٢٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ الْآيَةَ [٢ ١٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ
180
مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٣٩ ٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [٣٩ ٦]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا، وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢ ١٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «آلِ عِمْرَانَ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [٣ ١٩٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «فُصِّلَتْ» : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ الْآيَةَ [٤١ ٣٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا الْآيَةَ [٣٦ ٣٧ - ٣٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [٢٤ ٤٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [٢٨ ٧١ - ٧٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٢٣ ٨٠]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا الْخَامِسُ مِنْهَا، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ، وَإِنْبَاتُ الرِّزْقِ فِيهَا، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢ ١٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا إِلَى قَوْلِهِ: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٨٠ ٢٤ - ٣٢].
181
وَإِيضَاحُ هَذَا الْبُرْهَانِ بِاخْتِصَارٍ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ - أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يَنْظُرَ وَيَتَأَمَّلَ فِي طَعَامِهِ، كَالْخَبْزِ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَعِيشُ بِهِ، مِنْ خَلْقِ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِنَبَاتِهِ.
هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَخْلُقَهُ؟
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ بِالْفِعْلِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِإِنْزَالِهِ عَلَى الْأَرْضِ رَشًّا صَغِيرًا، حَتَّى تُرْوَى بِهِ الْأَرْضُ تَدْرِيجًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ هَدْمٌ وَلَا غَرَقٌ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ [٢٤ ٤٣] ؟.
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ فِعْلًا، وَأُنْزِلَ فِي الْأَرْضِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الْأَكْمَلِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَشُقَّ الْأَرْضَ وَيُخْرِجَ مِنْهَا مِسْمَارَ النَّبَاتِ؟
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ النَّبَاتَ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ، وَانْشَقَّتْ عَنْهُ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُخْرِجَ السُّنْبُلَ مِنْ ذَلِكَ النَّبَاتِ؟
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ السُّنْبُلَ خَرَجَ مِنَ النَّبَاتِ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنَمِّيَ حَبَّهُ وَيَنْقُلَهُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ حَتَّى يُدْرَكَ وَيَكُونَ صَالِحًا لِلْغِذَاءِ وَالْقُوتِ؟
الْجَوَابُ: لَا.
وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٦ ٩٩]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [٧٨ ١٤ - ١٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [٣٦ ٣٣]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
182
وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَهُ - تَعَالَى - الرِّزْقَ عَلَى الْمَاءِ فِي آيَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ - قَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا الْآيَةَ [٤٠ ١٣].
وَأَمَّا السَّادِسُ مِنْهَا، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢ ١٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [٣٠ ٤٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [١٥ ٢٢]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاهِينَ الْعَظِيمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ - ثَلَاثَةٌ مِنْهَا مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الَّتِي يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْبَعْثِ، كَثْرَةً مُسْتَفِيضَةً.
وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَسُورَةِ «النَّحْلِ» وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَلْنَا عَلَيْهَا مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَسَنُعِيدُ طَرَفًا مِنْهَا هُنَا لِأَهَمِّيَّتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
وَالْأَوَّلُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْمَذْكُورَةِ: هُوَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ خَلْقَهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - مِنْ أَعْظَمِ الْبَرَاهِينِ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ مَنْ خَلَقَ الْأَعْظَمَ الْأَكْبَرَ لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ الْأَضْعَفِ الْأَصْغَرِ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [٤٠ ٥٧] أَيْ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْأَكْبَرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَصْغَرِ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [٣٦ ٨١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٤٦ ٣٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:
183
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ الْآيَةَ [١٧ ٩٩]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٧٩ ٢٧ - ٣٣].
وَنَظِيرُ آيَةِ «النَّازِعَاتِ» هَذِهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الصَّافَّاتِ» : فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا الْآيَةَ [٣٧ ١١] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْ مَنْ خَلَقْنَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهُمَا الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِلَى قَوْلِهِ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [٣٧ ٥ - ١٠].
وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْبَرَاهِينِ الْمَذْكُورَةِ: فَهُوَ خَلْقُهُ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ الْمَرَّةَ الْأُولَى ; لِأَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ - خَلْقَهُمْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ - لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْبُرْهَانِ عَلَى الْبَعْثِ كَثِيرٌ جِدًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [٢٢ ٥] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [٣٦ ٧٨ - ٧٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ الْآيَةَ [١٩ ٦٦ - ٦٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [٣٠ ٢٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [١٧ ٥١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [٢١ ١٠٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [٥٠ ١٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [٥٦ ٦٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى [٥٣ ٤٥ - ٤٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [٧٥ ٣٦ - ٤٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
184
إِلَى قَوْلِهِ: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [٩٥ ١ - ٧] يَعْنِي أَيَّ شَيْءٍ يَحْمِلُكَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالدِّينِ - أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ - وَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي خَلَقْتُكَ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَتِهِ مَرَّةً أُخْرَى. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الْبُرْهَانُ الثَّالِثُ مِنْهَا، وَهُوَ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا عَلَى الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; لِأَنَّ مَنْ أَحْيَا الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَحْيَاءٌ بَعْدَ مَوْتٍ.
فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٤١ ٣٩]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [٢٢ ٥ - ٧]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٣٠ ٥٠]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [٧ ٥٧].
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى أَيْ نَبْعَثُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً كَمَا أَخْرَجْنَا تِلْكَ الثَّمَرَاتِ بَعْدَ عَدَمِهَا، وَأَحْيَيْنَا بِإِخْرَاجِهَا ذَلِكَ الْبَلَدَ الْمَيِّتَ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [٣٠ ١٩] يَعْنِي تُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [٥٠ ١١]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ.
أَشَارَ - جَلَّ وَعَلَا - لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ يَتْلُوهَا عَلَيْهِ مُتَلَبِّسَةً بِالْحَقِّ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَا مِنْ خَلْفِهِ.
185
وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ - ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ بِلَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [٢ ٢٥١ - ٢٥٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «آلِ عِمْرَانَ» : وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ [٣ ١٠٧ - ١٠٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تِلْكَ - بِمَعْنَى هَذِهِ.
وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعِيدِ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَى الْقَرِيبِ، كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ [٢ ٢] بِمَعْنَى: هَذَا الْكِتَابُ. كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُ خُفَافِ بْنِ نَدْبَةَ السُّلَمِيِّ:
فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا فَعَمْدًا عَلَى عَيْنِي تَيَمَّمْتُ مَالِكًا
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ تَأَمَّلْ خُفَافًا أَنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
يَعْنِي أَنَا هَذَا.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ، وَذَكَرْنَا أَوْجُهَهُ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) - فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: نَتْلُوهَا أَيْ نَقْرَؤُهَا عَلَيْكَ.
وَأَسْنَدَ - جَلَّ وَعَلَا - تِلَاوَتَهَا إِلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّهَا كَلَامُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، وَأَمَرَ الْمَلَكَ أَنْ يَتْلُوَهُ عَلَيْهِ مُبَلِّغًا عَنْهُ - جَلَّ وَعَلَا -.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [٧٥ ١٦ - ١٩].
فَقَوْلُهُ: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ، أَيْ قَرَأَهُ عَلَيْكَ الْمَلَكُ الْمُرْسَلُ بِهِ مِنْ قِبَلِنَا مُبَلِّغًا عَنَّا، وَسَمِعْتَهُ مِنْهُ، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أَيْ فَاتَّبِعْ قِرَاءَتَهُ وَاقْرَأْهُ كَمَا سَمِعْتَهُ يَقْرَؤُهُ.
وَقَدْ أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [٢٠ ١١٤].
وَسَمَاعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ مِنَ الْمَلَكِ الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ كَلَامَ اللَّهِ وَفَهْمُهُ لَهُ - هُوَ مَعْنَى تَنْزِيلِهِ إِيَّاهُ
186
عَلَى قَلْبِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [٢ ٩٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [٢٦ ١٩٢ - ١٩٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ [٤٥ ٦] يَعْنِي آيَاتِهِ الشَّرْعِيَّةَ الدِّينِيَّةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقَيْنِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقَيْنِ أَيْضًا.
أَمَّا إِطْلَاقَاهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:
فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا - وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ - فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانٍ:
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْآيَاتِ عَلَامَاتُ الدَّارِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ:
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبِينُهُ وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمُ خَاشِعُ
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، يَقُولُونَ: جَاءَ الْقَوْمُ بِآيَتِهِمْ، أَيْ بِجَمَاعَتِهِمْ.
وَمِنْهُ قَوْلُ بُرْجُ بْنُ مُسْهِرٍ:
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلُنَا بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا
وَقَوْلُهُ: بِآيَاتِنَا، يَعْنِي بِجَمَاعَتِنَا.
وَأَمَّا إِطْلَاقَاهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا: إِطْلَاقُ الْآيَةِ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ، كَآيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ.
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا: فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ عَلَى الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [٣ ١٩٠].
أَمَّا الْآيَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ فَهِيَ بِمَعْنَى الْآيَةِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعَلَامَةُ ; لِأَنَّ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ عَلَامَاتٌ قَاطِعَةٌ، عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ.
187
وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا أَيْضًا مِنَ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ الْعَلَامَةُ ; لِأَنَّ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ - عَلَامَاتٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا، لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ بُرْهَانِ الْإِعْجَازِ، أَوْ لِأَنَّ فِيهَا عَلَامَاتٍ يُعْرَفُ بِهَا مَبْدَأُ الْآيَاتِ وَمُنْتَهَاهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا مِنَ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، لِتَضَمُّنِهَا جُمْلَةً وَجَمَاعَةً مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ وَحُرُوفِهِ.
وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ أَصْلَ الْآيَةِ أَيَيَةٌ - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْيَاءَيْنِ بَعْدَهَا - فَاجْتَمَعَ فِي الْيَاءَيْنِ مُوجِبَا إِعْلَالٍ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَحَرِّكَةٌ حَرَكَةً أَصْلِيَّةً بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
مِنْ وَاوٍ وَيَاءٍ بِتَحْرِيكِ أُصِلْ أَلِفًا أَبْدِلْ بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلْ
إِنْ حُرِّكَ التَّالِي... ........ إِلَخْ.
وَالْمَعْرُوفُ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ أَنَّهُ إِنِ اجْتَمَعَ مُوجِبَا إِعْلَالٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ تَصْحِيحُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَإِعْلَالُ الثَّانِي بِإِبْدَالِهِ أَلِفًا، كَالْهَوَى وَالنَّوَى وَالطَّوَى وَالشَّوَى، وَرُبَّمَا صُحِّحَ الثَّانِي وَأُعِلَّ الْأَوَّلُ، كَغَايَةٍ وَرَايَةٍ، وَآيَةٍ - عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَقْوَالٍ عَدِيدَةٍ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِعْلَالَهُمَا لَا يَصِحُّ، وَلِهَذَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ لِحَرْفَيْنِ ذَا الْإِعْلَالُ اسْتُحِقْ صُحِّحَ أَوَّلٌ وَعَكْسٌ قَدْ يَحِقْ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنَّ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ مَعَ ظُهُورِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى لُزُومِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ ; أَنَّهُ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُؤْمِنَ بِشَيْءٍ آخَرَ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُؤْمِنُ بِحَدِيثٍ لَآمَنَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ ; لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ اللَّهِ مُتَوَعَّدٌ بِالْوَيْلِ، وَأَنَّهُ أَفَّاكٌ أَثِيمٌ، وَالْأَفَّاكُ: كَثِيرُ الْإِفْكِ، وَهُوَ أَسْوَأُ الْكَذِبِ، وَالْأَثِيمُ: هُوَ مُرْتَكِبُ الْإِثْمِ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، فَهُوَ مُجْرِمٌ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ - قَدْ ذَكَرَهُ - تَعَالَى - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَتَوَعَّدَ الْمُكَذِّبِينَ لِهَذَا الْقُرْآنِ بِالْوَيْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَيَّنَ اسْتِبْعَادَ إِيمَانِهِمْ بِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْمُرْسَلَاتِ:
188
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [٤٧ ٤٨ - ٥٠]. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كَقَوْلِهِ هُنَا: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ.
وَقَدْ كَرَّرَ - تَعَالَى - وَعِيدَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْوَيْلِ فِي سُورَةِ «الْمُرْسَلَاتِ» كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ «الْمُرْسَلَاتِ» : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ كَقَوْلِهِ هُنَا فِي «الْجَاثِيَةِ» : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِآيَاتِهِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِآيَاتِهِ كَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِهِ - تَعَالَى - وَقَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ يُتْلَى، ثُمَّ يُصِرُّ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فِي حَالَةِ كَوْنِهِ مُتَكَبِّرًا عَنِ الِانْقِيَادِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ آيَاتُ الْقُرْآنِ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ آيَاتِ اللَّهِ، لَهُ الْبِشَارَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهُوَ الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «لُقْمَانَ» : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ [٣١ ٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحَجِّ» : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [٢٢ ٧٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [٤٧ ١٦]. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: مَاذَا قَالَ آنِفًا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُبَالُونَ بِمَا يَتْلُو عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْآيَاتِ وَالْهُدَى.
وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمَبْحَثِ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ [٤١ ٤ - ٥].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا خُفِّفَتْ فِيهِ لَفْظَةُ (كَأَنْ)، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَأَنَّ إِذَا خُفِّفَتْ كَانَ اسْمُهَا مُقَدَّرًا، وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهَا، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
189
وَخُفِّفَتْ كَأَنَّ أَيْضًا فَنُوِي مَنْصُوبُهَا وَثَابِتًا أَيْضًا رُوِي
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» أَنَّ الْبِشَارَةَ تُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُرُّ، وَأَنَّهَا رُبَّمَا أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُوءُ أَيْضًا. وَأَوْضَحنَا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَفْظَةَ وَيْلٌ كَلِمَةُ عَذَابٍ وَهَلَاكٍ، وَأَنَّهَا مَصْدَرٌ لَا لَفْظَ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَأَنَّ الْمُسَوِّغَ لِلِابْتِدَاءِ بِهَا مَعَ أَنَّهَا نَكِرَةٌ كَوْنُهَا فِي مَعْرِضِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ.
قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ -: يُؤْمِنُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ -: تُؤْمِنُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ.
وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَالسُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو -: يُومَنُونَ، بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا وَصْلًا وَوَقْفًا.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا فِي الْوَقْفِ دُونَ الْوَصْلِ.
وَالْبَاقُونَ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَوَعُّدُ الْأَفَّاكِ الْأَثِيمِ بِالْوَيْلِ، وَالْبِشَارَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ أَصَرَّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا، أَيْ مَهْزُوءًا بِهَا، مُسْتَخِفًّا بِهَا، ثُمَّ تَوَعَّدَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، وَأَنَّهُمْ سَيُعَذَّبُونَ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - قَدْ بَيَّنَهُ - تَعَالَى - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ
«الْكَهْفِ» : ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا [١٨ ١٠٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْكَهْفِ» أَيْضًا: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ الْآيَةَ [١٨ ٥٦ - ٣٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [٤٥ ٣٤ - ٣٥].
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ -: هُزُؤًا بِضَمِّ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مُحَقَّقَةٌ.
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الزَّايِ وَإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ هُزْءًا، بِسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مُحَقَّقَةٌ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ.
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْوَقْفِ، فَعَنْ حَمْزَةَ نَقْلُ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الزَّايِ، فَتَكُونُ الزَّايُ مَفْتُوحَةً بَعْدَهَا أَلْفٌ، وَعَنْهُ إِبْدَالُهَا وَاوًا مُحَرَّكَةً بِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أَيْ لِأَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِءُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا إِهَانَتُهُمْ وَخِزْيُهُمْ وَشِدَّةُ إِيلَامِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ.
وَلَيْسَ فِيهِ تَطْهِيرٌ وَلَا تَمْحِيصٌ لَهُمْ، بِخِلَافِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ عُذِّبُوا فَسَيَصِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَذَابِ.
فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِعَذَابِهِمْ مُجَرَّدَ الْإِهَانَةِ، بَلْ لِيَئُولُوا بَعْدَهُ إِلَى الرَّحْمَةِ وَدَارِ الْكَرَامَةِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ. الْآيَةَ [١٤ ١٥ - ١٦]. وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ أَصَحَّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ (وَرَاءَ) بِمَعْنَى أَمَامَ.
فَمَعْنَى مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ أَيْ أَمَامَهُ جَهَنَّمُ يَصْلَاهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:
191
وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [١٨ ٧٩] أَيْ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ.
وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الشَّوَاهِدَ الْعَرَبِيَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ وَرَاءَ بِمَعْنَى أَمَامَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ آيَةُ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ أَيْ أَمَامَهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ.
أَوْضَحَ فِيهِ أَنَّ مَا كَسَبَهُ الْكُفَّارُ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ بِشَيْءٍ، فَلَا يُجْلَبُ لَهُمْ بِسَبَبِهِ نَفْعٌ وَلَا يُدْفَعُ عَنْهُمْ بِسَبَبِهِ ضُرٌّ، وَإِنَّمَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَالْمَعْبُودَاتِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا شُرَكَاءُ لِلَّهِ - لَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْضًا بِشَيْءٍ.
وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ اللَّتَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، قَدْ أَوْضَحَهُمَا اللَّهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ.
أَمَّا الْأُولَى مِنْهُمَا، وَهِيَ كَوْنُهُمْ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا - فَقَدْ أَوْضَحَهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [١١١ ١ - ٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [٩٢ ١١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ الْآيَةَ [١٠٤ ٢ - ٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٣٩ ٥٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ الْآيَةَ [٦٩ ٢٧ - ٢٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [٧ ٤٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ الْآيَةَ [٢٦ ٨٧ - ٨٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى الْآيَةَ [٣٤ ٣٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [٣ ١٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٣ ١١٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمُجَادَلَةِ» :
192
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا الْآيَةَ [٥٨ ١٦ - ١٧].
وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا، وَهِيَ كَوْنُهُمْ لَا تَنْفَعُهُمُ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ - فَقَدْ أَوْضَحَهَا - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «هُودٍ» : وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [١١ ١٠١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٤٦ ٢٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [٢٨ ٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا [١٨ ٥٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً الْآيَةَ [٤٦ ٥ - ٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [٣٥ ١٣ - ١٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [١٩ ٨١ - ٨٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [٢٩ ٢٥].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، الْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَوْلِيَاءِ هُنَا: الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي يُوَالُونَهَا بِالْعِبَادَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَسَبُوا وَمَا اتَّخَذُوا - مَوْصُولَةٌ - وَهِيَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ; لِأَنَّ مَا الْأُولَى فَاعِلُ يُغْنِي، وَمَا الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا، وَزِيَادَةُ لَا قَبْلَ الْمَعْطُوفِ عَلَى مَنْفِيٍّ - مَعْرُوفَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يُغْنِي أَيْ لَا يَنْفَعُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْغَنَاءِ - بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ - وَهُوَ النَّفْعُ.
193
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَلَّ غَنَاءً عَنْكَ مَالٌ جَمَعْتَهُ إِذَا صَارَ مِيرَاثًا وَوَارَاكَ لَاحِدُ
فَقَوْلُهُ: قَلَّ غَنَاءً، أَيْ قَلَّ نَفْعًا. وَقَوْلُ الْآخَرِ
:
قَلَّ الْغَنَاءُ إِذَا لَاقَى الْفَتَى تَلَفًا قَوْلُ الْأَحِبَّةِ لَا تَبْعَدْ وَقَدْ بَعِدَا
فَقَوْلُهُ: الْغَنَاءُ أَيِ النَّفْعُ.
وَالْبَيْتُ مِنْ شَوَاهِدِ إِعْمَالِ الْمَصْدَرِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَوْلُ الْأَحِبَّةِ، فَاعِلُ قَوْلِهِ: الْغَنَاءُ. وَأَمَّا الْغِنَاءُ - بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ - فَهُوَ الْأَلْحَانُ الْمُطْرِبَةُ.
وَأَمَّا الْغِنَى - بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ - فَهُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ.
وَأَمَّا الْغَنَى - بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ - فَهُوَ الْإِقَامَةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: غَنِيَ بِالْمَكَانِ - بِكَسْرِ النُّونِ - يَغْنَى - بِفَتْحِهَا - غَنَى - بِفَتْحَتَيْنِ - إِذَا أَقَامَ بِهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [١٠ ٢٤]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [٧ ٩٢] كَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا.
وَأَمَّا الْغُنَى - بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ - فَهُوَ جَمْعُ غُنْيَةٍ، وَهِيَ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ الْإِنْسَانُ.
وَأَمَّا الْغُنَاءُ - بِالْمَدِّ وَالضَّمِّ - فَلَا أَعْلَمُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَهَذِهِ اللُّغَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي مَادَّةِ غَنِيَ كُنْتُ تَلَقَّيْتُهَا فِي أَوَّلِ شَبَابِي فِي دَرْسٍ مِنْ دُرُوسِ الْفِقْهِ لَقَّنَنِيهَا شَيْخِي الْكَبِيرُ أَحْمَدُ الْأَفْرَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارُ الْجَكَنِيُّ، وَذَكَرَ لِي بَيْتَيْ رَجَزٍ فِي ذَلِكَ لِبَعْضِ أَفَاضِلِ عُلَمَاءِ الْقُطْرِ، وَهُمَا قَوْلُهُ:
وَضِدُّ فَقْرٍ كَإِلَى، وَكَسَحَابِ النَّفْعُ، وَالْمُطْرِبُ أَيْضًا كَكِتَابِ
وَكَفَتًى إِقَامَةٌ وَكَهُنَا جَمْعٌ لِغُنْيَةٍ لِمَا بِهِ الْغَنَى
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ.
الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا هُدًى رَاجِعَةٌ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ [٤٥ ٦]. وَقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْآيَةَ [٤٥ ٦].
194
وَقَوْلِهِ: يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ [٤٥ ٨]. وَقَوْلِهِ: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا [٤٥ ٩].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هَدًى، وَأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ لَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا كَوْنُ الْقُرْآنِ هُدًى، فَقَدْ ذَكَرَهُ - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٧ ٥٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [١٦ ٨٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [٢ ١٨٥]. وَقَوْلِهِ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [٢ ١ - ٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [٤١ ٤٤]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا كَوْنُ مَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ الْآيَةَ [١١ ١٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا [٢٠ ٩٩ - ١٠١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا [١٨ ١٠٦]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ الْآيَةَ [٤١ ١٧]. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ - أَنَّ الْهُدَى يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقًا عَامًّا، بِمَعْنَى أَنَّ الْهُدَى هُوَ الْبَيَانُ وَالْإِرْشَادُ وَإِيضَاحُ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحَقَّ وَأَوْضَحْنَاهُ، وَأَرْشَدْنَاهُمْ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ، وَكَقَوْلِهِ: هُدًى لِلنَّاسِ [٢ ١٨٥]. وَقَوْلِهِ هُنَا: هَذَا هُدًى - وَأَنَّهُ يُطْلَقُ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ، وَهُوَ التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالِاصْطِفَاءِ، كَقَوْلِهِ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [٢ ٢]. وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [٤١ ٤٤]. وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى
195
[٤٧ ١٧]. وَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [٦ ٩٠]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» أَنَّ مَعْرِفَةَ إِطْلَاقِ الْهُدَى الْمَذْكُورِينَ، يَزُولُ بِهَا الْإِشْكَالُ الْوَاقِعُ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
وَالْهُدَى مَصْدَرُ هَدَاهُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ هُنَا مِنْ جِنْسِ النَّعْتِ بِالْمَصْدَرِ، وَبَيَّنَا فِيمَا مَضَى مِرَارًا أَنَّ تَنْزِيلَ الْمَصْدَرِ مَنْزِلَةَ الْوَصْفِ إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَإِمَّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ.
وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى: هَذَا الْقُرْآنُ ذُو هُدًى، أَيْ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ الْهُدَى لِمَنِ اتَّبَعَهُ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩].
وَعَلَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي اتِّصَافِ الْقُرْآنِ بِالْهُدَى حَتَّى أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ نَفْسُ الْهُدَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّجْزِ الْعَذَابُ، وَلَا تَكْرَارَ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ الْعَذَابَ أَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ، وَالْمَعْنَى: لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالْأَلِيمُ مَعْنَاهُ الْمُؤْلِمُ. أَيْ: الْمَوْصُوفُ بِشِدَّةِ الْأَلَمِ وَفَظَاعَتِهِ.
وَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْفَعِيلَ وَصْفًا بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ، فَمَا يُذْكَرُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ مِنْ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ إِنْ صَحَّ عَنْهُ فَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْفَعِيلِ بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَذَابٌ أَلِيمٌ [٢ ١٠٤] أَيْ مُؤْلِمٌ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [٢ ١١٧] أَيْ مُبْدِعُهُمَا، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ الْآيَةَ [٣٤ ٤٦] أَيْ مُنْذِرٍ لَكُمْ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
فَقَوْلُهُ: الدَّاعِي السَّمِيعُ، يَعْنِي الدَّاعِيَ الْمُسْمِعَ. وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلِفْتَ لَهَا بَخِيلٍ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
أَيْ مُوجِعٌ. وَقَوْلُ غَيْلَانَ بْنِ عُقْبَةَ:
196
وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُورٍ شَمَرْدَلَاتٍ يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ
أَيْ مُؤْلِمٌ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، بِخَفْضٍ أَلِيمٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِرِجْزٍ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، بِرَفْعِ أَلِيمٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِعَذَابٍ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا الْآيَةَ [١٦ ١٤]. وَفِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [٤٣ ١٢ - ١٣]. قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ [١٧ ٧]. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [٤٥ ١٦].
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ فَضَّلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [٢ ٤٧ - ١٢٢] فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَوْلِهِ فِي «الدُّخَانِ» : وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [٤٤ ٣٢]. وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [٧ ١٤٠].
وَلَكِنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - بَيَّنَ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الْآيَةَ
197
[٣ ١١٠]. فَـ (خَيْرَ) صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَالْآيَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ.
وَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي أُمَّتِهِ: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» : وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ مَعْنَى حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْمَذْكُورِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ; لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ الْمَعْصُومُ الْمُتَوَاتِرُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [٣ ١١٠] وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [٢ ١٤٣]. وَقَوْلُهُ: وَسَطًا أَيْ خِيَارًا عُدُولًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ - لَا يُعَارِضُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ آنِفًا فِي تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ الْوَارِدَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ذُكِرَ فِيهِمْ حَالَ عَدَمِ وُجُودِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَالْمَعْدُومُ فِي حَالِ عَدَمِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُفَضَّلَ أَوْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِ.
وَلَكِنَّهُ - تَعَالَى - بَعْدَ وُجُودِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِأَنَّهَا خَيْرُ الْأُمَمِ.
وَهَذَا وَاضِحٌ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ - إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ ذِكْرُ أَحْوَالٍ سَابِقَةٍ.
لِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَفَرُوا بِهِ وَكَذَّبُوا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [٢ ٨٩].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ فَضْلًا إِلَّا مَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِهِمُ السَّابِقِ، لَا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ السَّابِقِ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ
198
تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّهَا هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ، كَمَا أَوْضَحْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةَ فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [٤٣ ٤٣].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
نَهَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [١٧ ٢٢]- أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَأْمُرُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَنْهَاهُ، لِيُشَرِّعَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِأُمَّتِهِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [٤٥ ١٨].
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَّبِعُ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَكِنَّ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ فِيهِ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [٧٦ ٢٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [٦٨ ٨]. وَقَوْلِهِ: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [٦٨ ١٠]. وَقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [١٧ ٣٩]. وَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [٣٩ ٦٥]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَدِلَّةَ الْقُرْآنِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَاطَبُ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ، فِي آيَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» الْمَذْكُورَةِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الشُّورَى» : وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ [٤٢ ١٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْعَامِ» : فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [٦ ١٥٠]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «الْقَصَصِ» : فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [٢٨ ٥٠]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» أَنَّ الْحَقَّ لَوِ اتَّبَعَ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَ الْعَالَمُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [٢٣ ٧١].
وَالْأَهْوَاءُ: جَمْعُ هَوًى بِفَتْحَتَيْنِ وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنْ يَاءٍ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مِرَارًا أَنَّ الظُّلْمَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَصْلُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَأَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِهِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ وَضْعَ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَنْ خَلَقَ وَرَزَقَ هُوَ أَشْنَعُ أَنْوَاعِ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَلِذَا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقُ الظُّلْمِ بِمَعْنَى الشِّرْكِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٢ ٢٥٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [١٠ ١٠٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [٢٥ ٢٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ لُقْمَانَ: يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [٣١ ١٣]. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [٦ ٨٢] بِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ مِنْ أَنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ - جَاءَ مَذْكُورًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ «الْأَنْفَالِ» : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [٨ ٧٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٦ ١٢٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [٢ ٢٥٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ الْآيَةَ [٤ ٧٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [٣ ١٧٥]. وَقَوْلِهِ:
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ الْآيَةَ [١٦ ١٠٠]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ وَيَجْتَنِبُونَ نَهْيَهُ.
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاؤُهُ، فَهُوَ وَلِيُّهُمْ وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ ; لِأَنَّهُمْ يُوَالُونَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ، وَهُوَ يُوَالِيهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْجَزَاءِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
ثُمَّ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِأَوْلِيَائِهِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [١٠ ٦٣]. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَانُوا يَتَّقُونَ كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْآيَةَ [٥ ٥٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [٢ ٢٥٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [٤٧ ١١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [٧ ١٩٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْمَلَائِكَةِ: قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ الْآيَةَ [٣٤ ٤١]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَالْبَصَائِرُ جَمْعُ بَصِيرَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [١٢ ١٠٨] أَيْ عَلَى عِلْمٍ وَدَلِيلٍ وَاضِحٍ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ بَرَاهِينُ قَاطِعَةٌ، وَأَدِلَّةٌ سَاطِعَةٌ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقٌّ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ بَصَائِرُ لِلنَّاسِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أُخْرَيَاتِ «الْأَعْرَافِ» :
قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٧ ٢٠٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْعَامِ» : قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [٦ ١٠٤].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ «الْجَاثِيَةِ» مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ بَصَائِرُ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ، ذَكَرَ - تَعَالَى - مِثْلَهُ فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» عَنْ كِتَابِ مُوسَى الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [٢٨ ٤٣].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى وَرَحْمَةً - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا كَوْنُهُ هُدًى فَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ قَرِيبًا.
وَأَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً فَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [١٨ ١]. وَفِي أَوَّلِهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [١٨ ١]. وَفِي «فَاطِرٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا [٣٥ ٢]. وَفِي «الزُّخْرُفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ الْآيَةَ [٤٣ ٣٢].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَيْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: هَذَا اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى مُذَكَّرٍ مُفْرَدٍ، وَالْخَبَرُ الَّذِي هُوَ بَصَائِرُ جَمْعٌ مُكَسَّرٌ مُؤَنَّثٌ.
فَيُقَالُ: كَيْفَ يُسْنَدُ الْجَمْعُ الْمُؤَنَّثُ الْمُكَسَّرُ إِلَى الْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُرْآنِ كِتَابٍ وَاحِدٍ، تَصِحُّ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِهَذَا، وَهَذَا الْكِتَابُ الْوَاحِدُ يَشْتَمِلُ عَلَى بَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، فَصَحَّ إِسْنَادُ الْبَصَائِرِ إِلَيْهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهَا كَمَا لَا يَخْفَى.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ (ص) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -:
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [٣٨ ٢٨].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ.
قَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [٢٥ ٤٣].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً.
قَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [٢ ٧].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [٤٤ ٣٥]. وَقَوْلِهِ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [٢٣ ٣٥ - ٣٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [٥٠ ٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [٧٩ ١٠ - ١٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [٣٦ ٧٨]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ الْقُرْآنِيَّةَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَبَيَّنَّا دَلَالَتَهَا عَلَى أَنَّ الْبَعْثَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ - فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، وَسُورَةِ «النَّحْلِ»، وَسُورَةِ «الْحَجِّ»، وَأَوَّلِ سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ، وَأَحَلْنَا عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا.
وَبَيَّنَّا فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ كُفْرٌ بِاللَّهِ، وَالْآيَاتِ الَّتِي
فِيهَا وَعِيدُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ بِالنَّارِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [٢٥ ١١].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ [٤٠ ٧٨].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [١٨ ٤٩].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [١٩ ٧٩]. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «طه» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [٢٠ ١١٥].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ.
قَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ: يُسْتَعْتَبُونَ، فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [١٦ ٨٤].
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا - قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [٤٣ ٧٧].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أَتْبَعَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَمْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا - بِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَالَمِينَ - مُسْتَحِقٌّ لِكُلِّ حَمْدٍ وَلِكُلِّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [١ ٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ «الزُّمَرِ» : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [٣٩ ٧٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [٦ ٤٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الْأَنْعَامِ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [٦ ١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «سَبَإٍ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [٣٤ ١]. وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ «فَاطِرٍ» : الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٣٥ ١].
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ لَهُ الْكِبْرِيَاءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَعْنِي أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالسُّلْطَانِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ هُوَ مَعْبُودُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، الَّذِي يَلْزَمُهُمْ تَكْبِيرُهُ وَتَعْظِيمُهُ وَتَمْجِيدُهُ، وَالْخُضُوعُ وَالذُّلُّ لَهُ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [٤٣ ٨٤ - ٨٥].
فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يُعَظَّمُ وَيُعْبَدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيُكَبَّرُ وَيُخْضَعُ لَهُ وَيُذِلُّ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [٣٠ ٢٧].
فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ الْوَصْفَ الْأَكْمَلَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَوْصَافِ وَأَكْمَلُهَا وَأَجَلُّهَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: الْعَظَمَةُ إِزَارِي
205
وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَسْكَنْتُهُ نَارِي».
206
Icon