تفسير سورة الأحقاف

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿شِرْكٌ﴾ شركة ونصيب ﴿أَثَارَةٍ﴾ بقية من الشيء ﴿تُفِيضُونَ﴾ الإِفاضة في الشيء: الخوضُ فيه والاندفاع يقال: أفاضوا في الحديث اندفعوا فيه، وأفاض الناس من عرفات أي دفعوا منها ﴿بِدْعاً﴾ البدع بالكسر الشيء المبتدع قال الرازي: والبِدعُ والبديع من كل شيء المبدع، والبدعة ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله بحكم السُنَّة ﴿إِفْكٌ﴾ كذب ﴿كُرْهاً﴾ بكرةٍ ومشقة ﴿فِصَالُهُ﴾ فطامه ﴿أوزعني﴾ ألهمني ﴿أُفٍّ﴾ كلمة تضجّر وتبرم ﴿خَلَتِ﴾ مضت.
التفسِير: ﴿حم﴾ الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية ﴿تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم﴾ أي هذا الكتاب المجيد منزَّل من عند الإِله العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه ﴿مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق﴾ أي ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثاً، وإِنما خلقناهما خلقاً متلبساً بالحكمة، لندل على وحدانيتنا وكمال قدرتنا ﴿وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي وإِلى زمنٍ معيَّن هو زمن فنائهما يوم القيامة {
178
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: ٤٨] ﴿والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ﴾ أي وهؤلاء الكفار معرضون عما خُوّفوه من العذاب ومن أهوال الآخرة، لا يتفكرون فيه لا يستعدون له.. ثم لما بيَّن وجود الإِله العزيز الحكيم ردَّ على عبدة الأصنام فقال ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخبروني عن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وتزعمون أنا ألهة ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض﴾ ؟ أي أرشدوني وأخبروني أيَّ شيءٍ خلقوا من أجاء الأرض، وممَّا على سطحها من إِنسان أو حيوان؟ ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات﴾ ؟ أي أمْ لهم مشاركة ونصيب مع الله في خلق السموات؟ ﴿ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ﴾ أي هاتوا كتاباً من الكتب المنزلة من عند الله قبل هذا القرآن يأمركم بعبادة هذه الأصنام؟ وهو أم تعجيز لأنهم ليس لهم كتابٌ يدل على الإِشراك بالله، بل الكتب كلُّها ناطقة بالتوحيد ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ أي أو بقية من علمٍ من علوم الأولين شاهدة بذلك ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي إن كنتم صادقين في دعواكم أنها شركاء مع الله قال في البحر: طلبمنهم أن يأتوا بكتابٍ يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة الله، أو بقيةٍ من علوم الأولين، والغرضُ توبيخهم لأن كل كتاب الله المنزَّشلة ناطقة بالتوحيد وإِبطال الشرك، فليس لهم مستند من نقل أو عقبل.. ثم أخبر تعالى عن ضلال المشركين فقال ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة﴾ ؟ أي لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يعبد أصناماً لا تسمع دعاء الداعين، ولا تعهلم حاجاتِ المحتاجين، ولا تستجيب لمن ناداها أبداً لأنها جمادات لا تسمع ولا تعقل ﴿وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ﴾ أي وهم لا يسمعون ولا يفهمون دعاء العابدين، وفيه تهكم بها وبعبدتها، وإِنما ذكر الأصنام بضمير العقلاء، لأنهم لما عبدوها ونزَّلوها منزلة من يضر وينفع، صحَّ أن توصف بعدم الاستجابة وبعد السمع والنفع، مجاراة لزعم الكفار ﴿وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً﴾ أي وإِذا جمع الناس للحساب يوم القايمة كانت الأصنام أعداءً لعابديها يضرونهم ولا ينفعونهم ﴿وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ أي وتتبرأ الأصنام من الذين عبدوها قال المفسرون: إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عابديها وتقول
﴿تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: ٦٣] وهذه الآية كقوله تعالى ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾ [مريم: ٨٢] واللهُ على كل شيء قدير ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ أي وإِذا قرئت عليهم آيات القرآن واضحات ظاهرات أنها من كلام الله ﴿قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ أي قال الكافرون عن القرآن الحق لما جاءهم من عند الله ﴿هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي هذا سحرٌ لا شبهة فيه ظاهر كونه سحراً، وإنما وضع الظاهر ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ موضع الضمير تسجيلاً عليهم بكمال الكفر والضلالة قال في البحر: وفي قوله ﴿لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ تنبيه على أنهم لم يتأملوا ما يُتلى عليهم، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عناداً وظلماً، ووصفوه بأنه ﴿مُّبِينٌ﴾ أي ظاهر أنه سحر لا شبهة فيه ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ أي أيقولون اختلق محمد هذا القرآن وافتراه من تلقاء نفسه؟ وهو إِنكار توبيخي ﴿قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً﴾
179
أي قل إن افتريتُه على سبيل الفرض فالله حسبي في ذلك كوهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه، ولا تقتدرون أنتم على أن تردُّوا عني عذاب الله، فكيف أفتريه من أجلكم وأتغرض لعقابه؟ ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي هو جل وعلا أعلمُ بما تخوضون في القرآن وتقدحون به من قولكم هو شعر، هو سحر، هو افتراء، وغير ذلك من وجوه الطعن ﴿كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي كفى أن يكون تعالى شاهداً بيني وبينكم، يشهد لي بالصدق والتبليغ، ويشهد عليكم بالجحود والتكذيب ﴿وَهُوَ الغفور الرحيم﴾ أي وهو الغفور لمن تاب، الرحيم بعابده المؤمنين قال أبو حيان: وفيه وعدٌ لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر، وإِشعارٌ بحلمه تعالى عليهم إِذْ لم يعالجهم بالعقوبة ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل﴾ أي لست أول رسول طرق العالمم، ولا جئت بأمرٍ لم يجىء به أحدٌ قبلي، بل جئت بما جاء به ناسٌ كثيرون قبلي، فلأيّ شيءٍ تنكرون ذلك عليَّ؟ والبدْعُ والبديعُ من الأشياء هو الذي لم يُر مثله قال ابن كثير: أي ما أنا بالأمر الذى لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم، فقد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم ﴿وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ﴾ أي ولا أدري بما يقضي الله عليَّ وعليكم، فإن قدر الله مغيَّب ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ أي لا أتبع إلا ما ينزله اللهُ عليَّ من الوحي، ولا أبتدع شيئاً من عندي ﴿وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي وما أنا إلا رسولٌ منذرٌ لكم من عذاب الله، بيّن الإِنذار بالشواهد الظاهرة، والمعجزات الباهرة ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ﴾ أي قل يا محمد: أخبروني يا معشر المشركين إن كان هذا القرآن كلام الله حقاً وقد كذبتم به وجحتموه وجوابه محذوف تقديره: كيف يكون حالكم؟ ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم﴾ أي وقد شهد رجل من علماء بني إِسرائيل على صدق القرآن، فآمن به واستكبرتم أنتم عن الإِيمانت، كيف يكون حالكم، ألستم أض الناس وأظلم الناس؟ قال الزمخشري: وجوابُ الشرط محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ودلَّ على هذا المحذوف قوله تعالى ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي لا يوفق للخير والإِيمان من كان فاجراً ظالماً قال المفسرون: والشاهدُ من بني إسرائيل هو «عبد الله بن سلام» وذلك حين قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة جاء إليه ابن سلام ليمتحنه، فلما نظر إلى وجهه علم أن ليس بوجه كاذب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعملهنَّ إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أُمه؟ فلما أجابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: أشهد أنك رسول الله حقاً.
. الخ ثم ردَّ تعالى على شبهةٍ أخرة من شبه المشركين فقال ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ﴾ أو وقال كفار مكة في حق المؤمنين: لو كان هذا القرآن والدين خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء الضعفاء!! وقال ابن كثير: يعنون «بلالاً» و «عماراً» و «صيهباً» و «خباباً» وأشباههم من المستضعَفين والعبيد والإِماء ممن أسلم
180
وآمن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ أيم ولمّا لم يهتدوا بالقرآن مع وضوح إِعجازه، قالوا هذا كذبٌ قديم مأثور عن الأقدمين، أتى به محمد ونسبه إلى الله تعالى ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً﴾ أي ومن قل القرآن التوراة التي أنزلها الله على موسى قدوةً يؤتم بها في دين الله وشرائعه كا يؤتم بالإِمام، ورحمة لمن آمن بها وعمل بما فيها قال الإِمام الفخر: ووجه تعلق الآية بما قبلها أن المشركين طعنوا في صحة القرآن، وقالوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء الصعاليك، فردَّ الله عليهم بأنكم لاتنازعون أن الله أنزل التوراة على موسى، وجعل هذا الكتاب التوراة إماماً يقتدى به، ثم إن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإِذا سلمتم كونها من عند الله، فاقبلوا حكمها بأن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولٌ حقاً من عند الله ﴿وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً﴾ أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن، مصدّقٌ للكتب قبله بلسانٍ عربي فصيح، فكيف ينكرونه وهو أفصح بياناً، وأظظهر رهاناً، وأبلغ إعجازاً من التوراة؟ ﴿لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ أي ليخوِّف كفار مكة الظالمين من عذاب الجحيم، ويبشر المؤمنين المحسنين بجنات النعيم.
. ولما بيَّن تعالى أحوال المشركين المكذبين بالقرآن، أردفه بذكر أحوال المؤمنين المستقيمين على شريعة الله فقال ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾ أي جمعوا بين الإِيمان والتوحيد والاستقامة على شريعة الله ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي فلا يلحقهم مكروهٌ في الآخرة يخافون منه ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا في الدنيا ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي أولئك المؤمنون المستقيمون في دينهم، هم أهل الجنة ماكثين فيها أبداً ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي نالوا ذلك النعيم جزاءً لهم على أعمالهم الصالحة ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً﴾ لمَّاكان رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما حثَّ تعالى العباد عليه والمعنى أمرنا الإِنسان أمراً جازماً مؤكداً بالإِحسان إلى الوالدين، ثم بيَّن السبب فقال ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً﴾ أي حملته بكرهٍ ومشقة ووضعته بكرهٍ ومشقة ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ أي ومده حمله ورضاعه عامان ونصف، فهي لا تزال تعاني التعب والمشقة طيلة هذه المدة قال ابن كثير: أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً من وحَم، وغثيان، وثقل، وكرب إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، ووضعته بمشقة أيضاً من الطَّلق وشدته، وقد استدل العلماء بهذه الآية مع التي في لقمان ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [لقمان: ١٤] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قويٌ صحيح ﴿حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ أي حتى إِذا عاش هذا الطفل وبلغ كما قوته وعقله ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ أي واستمر في الشباب والقوة حتى بلغ أربعين سنة وهو نهاية اكتمال العقل والرشد ﴿قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ﴾ أي قال ربِّ ألهمني شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ وعلى والديَّ حتى ربياني صغيراً ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ﴾ أي ووفقني لكي أعمل عملاً صالحاً يرضيك عني {
181
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي} أي اجعل ذريتي ونسلي صالحين قال اشيخ زاده: طلب هذا الداعي من الله ثلاثة أشياء: الأول: أن يوفقه الله للشكر على النعمة والثاني: أن يوفقه للإِتيان بالطاعة المرضية عند الله والثالث: أن يصلح له في ذريته، وهذه كمال السعادة البشرية ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين﴾ أي إِني يا رب تبت إليك من جميع الذنوب، وإِني من المستمسكين بالإِسلام قال ابن كثير: وفي الآية إرشادٌ لمن بلغ الأربعين أن يجدِّد التوبة والإِنابة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ ويعزم عليها ﴿أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر نتقبل منهم طاعاتهم ونجازيهم على أعمالهم بأفضلها ﴿وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة﴾ أي ونصفح عن خطيئاتهم وزلاتهم، في جملة أصحاب الجنة الذين نكرمهم بالعفو والغفران ﴿وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾ أي بذلك الوعد الصادق الذي وعدناهم به على ألسنة الرسل، بأن نتقبل من محسنهم ونتجاوز عن مسيئهم.
. ولما مثَّل تعالى لحال الإِنسان البار بوالديه وما آل إليه حاله من الخير والسعادة، مثَّل لحال الإِنسان العاقِّ لوالديه وما يئول إليه أمره من الشقاوة والتعاسة فقال ﴿والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ﴾ أي وأمَّا الوالد الفاجر الذي يقول لوالديه إِذا دعواه إلى الإِيمان أفٍ لكما أي قبحاً لكما على هذه الدعوة ﴿أتعدانني أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي﴾ ؟ أي أتعدانني أن أُبعث بعد الموت وقد مضت قرونٌ من الناس قبلي ولم يُبعث منهم أحد؟ ﴿وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله وَيْلَكَ آمِنْ﴾ أي وأبواه يسألان الله أن بغيثه ويهديه للإِسلام قائلين له: ويْلك آمنْ بالله وصدِّق بالبعث والنشور وإِلاَّ هلكت ﴿إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي وعدُ الله صدقٌ لا خُلف فيه ﴿فَيَقُولُ مَا هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ أي فيقول ذلك الشقي: ما هذا الذي تقولان من أمر البعث إلاّ خرافات وأباطيل سطرَّرها الألولون في الكتب مما لا أصل له قال تعالى ﴿أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾ أي أولئك المجرمون هم الذين حقَّ عليهم قول الله بأنهم أهل النار قال القرطبي: أي وجب عليهم العذاب وهي كلمة الله كما في الحديث «هؤلاء في النار ولا أبالي» ﴿في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس﴾ أي في جملة أمم من أصحاب النار قد مضت قبلهم من الكفرة الفجار من الجن والإِنس ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ﴾ أي كانوا كافرين لذلك ضاع سعيهم وخسروا أخرتهم، وهو تعليل لدخولهم جهنم قال الإِمام الفخر: قال بعضهم: إن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصّديق قبل إِسلامه، والصحيحُ أنه لا يراد بالآية شخص معيَّن، بل المراد منها كل من كان موصوفاً بهذه الصفة، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الحقِّ فأباه وأنكره، ويدل عليه أن الله تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه ﴿أُفٍّ لَّكُمَآ﴾ بأنه من الذين حقَّ عليهم القول بالعذاب، ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إِسلامه وكان من سادات المسلمين فبطل حمل الآية عليه ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ أي لكلٍ من المؤمنين والكافرين مراتب ومنازل بحسب أعمالهم، فمراتب المؤمنين في الجنة علاية، ومراتب الكافرين في جهنم سافلة {
182
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي وليعطيهم جزاء أعمالهم وافيه كاملة، المؤمنون بحسب الدرجات، والكفارون بحسب الدركات، من غير نقصان بالثواب، ولا زيادة في العقاب.
183
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أحوال بعض الأشقياء، أعقبه بذكر حال الكفار والفجار في الآخرة، ثم ذكر قصة عاد الذين أهلكهم الله بطغيانهم مع ما كانوا عليه من القوة والشدة، تذكيراً لكفار قريش بعاقبة التكذيب والطغيان، وختم السورة الكريمة بقصة النفر من الجنِّ الذين آمنوا بالقرآن حين سمعوه ودعوا قومهم إِلى الإِيمان.
183
اللغَة: ﴿الهون﴾ الهوان والذل ﴿الأحقاف﴾ الرمال العظيمة جمع حِقْف وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوجَّ، والأحقاف ديار عاد ﴿لِتَأْفِكَنَا﴾ لتصرفنا وتزيلنا، والإِفك: الكذب ﴿عَارِضاً﴾ سحاباً يعرض في الأفق ﴿تُدَمِّرُ﴾ تُهلك، والتدميرُ الهلاك وكذلك الدَّمار ﴿صَرَّفْنَا﴾ بعثنا ووجهنا ﴿يَعْيَ﴾ يضعف ويعجز من الإِعياء وهو التعب والعجز.
التفسِير: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار﴾ أي وذكّرهم يا محمد يوم يُكشف الغطاء عن نار جهنم، وتبرز للكافرين فيقرَّبون منها وينظرون إِليها ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا﴾ في الكلام حذف أي ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً أذهبتم طيباتكم أي لقد نلتم وأصبتم لذائد الدنيا وشهواتها فلم يبق لكم نصيب اليوم في الآخرة قال في البحر: والطيبات هنا المستلذات من المأكل والمشارب، والملابس والمفارش. والمراكب والمواطىء، وغير ذلك مما ينتعَّم به أهل الرفاهية ﴿واستمتعتم بِهَا﴾ اي وتمتعتم بتلك اللذائذ والطيبات في الدنيا قال المفسرون: المراد بالآية إِنكم لم تؤمنوا حتى تنالوا نعيم الآخرة، بل اشتغلتم بشهوات الدنيا ولذائذها عن الإِيمان والطاعة، وأفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي، وآثرتم الفاني على الباقي، فلم يبق لكم بعد ذلك شيء من النعيم، ولهذا قال بعده ﴿فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون﴾ أي ففي هذا اليوم يوم الجزاء تنالون عذاب الذُلِّ والهَوان ﴿بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ أي بسبب استكباركم في الدنيا عن الإِيمان وعن الطاعة ﴿وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ أي وبسبب فسقكم وخروجكم عن طاعة الله، وارتكاب الفجور والآثام قال الإِمام الفخر: وهذه الآية تدل على المنع من التنعم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبَّخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولا يؤدي شكر المنعم بطاعته والغِيمان به، وأما المؤمن فإِنه يؤدي بإِيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ودليله ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق﴾ [الأعراف: ٣٢] ! ﴿نعم لا يُنكر أن الاحتراز عن التنعيم أولى، وعليه يُحمل قول عمر «لو شئتُ لكنتُ أطيبكم طعاماً، وأحسنكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة» وقال في التسهيل: الآية في الكفار بدليل قوله تعالى {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ﴾ وهي مع ذلك واعظةٌ لأهل التقوى من المؤمنين، ولذلك قال عمر لجابر ابن عبد الله وقد رآه اشترى لحماً أو كلما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه} أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ممن قال الله فيهم ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا﴾ !! ﴿واذكر أَخَا عَادٍ﴾ أي اذكر يا محمد لهؤلاء المشركين قصة بني الله هود عليه السلام مع قومه عادٍ ليعتبروا بها ﴿إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف﴾ أي حين حذَّر قومه من عذاب الله إِن لم يؤمنوا وهم مقيمون بالأحقاف وهي تلالٌ عظيمة من الرمل في بلاد اليمن قال ابن كثيكر: الأحقاف جمع حِقْف وهو الجبل من الرمل، قال قتادة: كانوا حياً باليمن أهل رملٍ مشرفين على البحر بأرضٍ يُقال لها: الشَحْر ﴿وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ أي وقد مضت الرسلُ بالإِنذار من قبل هودٍ ومن بعده، والجملة اعتراضية وهي إخبار من الله تعالى أنه قد بعث رسلاً متقدمين قبل هودٍ وبعده ﴿أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله﴾
184
أي حذَّرهم هود عليه السلام قائلا لهم: بأن لا تعبدوا إلا الله ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي إِني أخاف عليكم إِن عبدتم غير الله عذاب يومٍ هائلٍ وهو يوم القيامة ﴿قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا﴾ أي قالوا جواباً لإِنذاره: أجئتنا يا هود لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ وهو استفهام، يراد منه التسفيه والتجهيل لما دعاهم إليه ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أي فأتنا بالعذاب الذي وعدتنا به إن كنت صادقاً فيما تقولم قال ابن كثير: استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعاداً منهم لوقوعه ﴿قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله﴾ أي قال لهم هود: ليس علم وقت العذاب عندي إنما علمه عند الله ﴿وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ﴾ أي وإِنما أنا مبلّغٌ ما أرسلني به الله إليكم ﴿ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾ أي ولكنني أجدكم قوماً جهلة في سؤالكم استعجال العذاب ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ﴾ أي فلما رأوا السحاب معترضاً في أفق السماء متجهاً نحو أوديتهم استبشروا به ﴿قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ أي وقالوا هذا السحاب يأتينا بالمطر قال المفسريون: كانت عاد قد أبطأ عنهم المطر، وقُحطوا مدةً طويلةً من الزمن، فلما رأوا ذلك السحاب العارض ظنوا أنه مطر ففرحوا به واستبشروا وقالوا: هذا عراضٌ ممطرنا ﴿بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ﴾ أي قال لهم هود: ليس الأمر كما زعمتم أنه مطر، بل هو ما استعجلتم به من العذاب ثم فسَّره بقوله ﴿رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي هو ريحٌ عاصفة مدمّرة فيها عذابٌ فظيع مؤلم ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ أي تُخرَرِّب وتُهلك كل شيء أتت عليه من رجالٍ ومواشٍ وأموال، بأمره تعالى وإِذنه قال ابن عباس: أو ما جاءت الريح على قوم عاد، كانت تأتي على الرجال المواشي فترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء حتى يصبح الواحد منهم كالريشة، ثم تضربهم على الأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، فهي التي قال الله فيها ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ أي تدمرّ كل شيء مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها، والتدميرُ الهلاك، وفي الحديث عن عائشة قالت:
«كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهه، فقلت يا رسول الله: الناسُ إِذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إِذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية؟ فقال يا عائشة: ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، عُذّب قوم بالريح»، وقد رأى قوم العذاب فقالوا ﴿هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ ﴿فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ أي فأصبحوا هلكى لا تُرى إِلا مساكنهم، لأن الريح لم تبق منهم إِلا الآثار والديار خاوية ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين﴾ أي بمثل هذه العقوبة الشديدة نعاقب من كان عاصياً مجرماً قال الرازي: والمقصود منه تخويف أهل مكة، ولهذا قال بعده ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ﴾ «إِنْ» نافية بمعنى «ما» أي ولقد مكَّنا عاداً في الذي لم نمكنكم فيه يأ أهل مكة من القوة، والسَّعة، وطور الأعمار، وهو خطاب لكفار مكة على وجهه التهديد ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً﴾ أي وأعطيناهم الأسماع والأبصار
185
والقلوب، ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على الخالق المنعم ﴿فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ أي فما نفعتهم تلك الحواس أي نفع، ولا دفعت عنهم شيئاً من عذاب الله قال الإِمام الفخر: المعنى أنّا فتحنا عليهم أبواب النعم: أعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل، وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبَر، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدينا ولذاتها، فلا جرم أنها لم تغن عنهم من عذاب الله شيئاً ﴿إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله﴾ تعليلٌ لما سبق أن لأنهم كانوا يكفرون وينكرون آيات الله المنزَّلة على رسله ويكذبون رسله ﴿وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي ونزل وأحاطبهم العذاب الذي كانوا يستعجلون به بطريق الاستهزاء ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى﴾ تخويفٌ آخر لكفار مكة أي ولقد أهلكنا القرى المجاورة لكم يا أهل مكة والمحيطة بكم، كقرى عاد وثموج وسبأ وقوم لوط، والمراد بإهلاك القرى إِهلاكُ أهلها ﴿وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي وكررنا الحجج والدلالات، والمواعظ والبينات، أوضحناها وبيَّناها لهم لعلهم يرجعون عن كفرهم وضلالهم ﴿فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ﴾ أي فهلاَّ نصرتهم آلهتهم التي ترقبوا بها إلى الله بزعمهم، وجعلوها شفعاءهم لتدفع عنهم العذاب؟! و «لولا» تحضيضية بمعنى هلاَّ ومعناها النفي أي لم تنصرهم آلهتهم ولم تدفع عنهم عذاب الله ﴿بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ﴾ أي غابوا عن نصرتهم وهم أحوج ما يكونون إليهم، فإِن الصديق وقت الضيق قال أبو السعود: وفي الآية تهكمٌ بهم كأنَّ عدم نصرهم كان لغيبتهم ﴿وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي وذلك الذي أصابهم هو كذبهم وافتراؤهم على الله، حيث زعموا أن الأصنام شركاء الله وشفعاء لهم عند الله ﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن﴾ أي واذكر يا محمد حين وجهنا إليك وبعثنا جماعةً من الجن ليستمعوا القرآن قال البيضاوي: والنفر دون العشرة، روى أنهم وافوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده القرآن ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ﴾ أي فلما حضروا القرآن عند تلاوته قال بعضهم لبعضٍ: اسكتوا لاستماع القرآن قال القرطبي: هذا توبيخٌ لمشركي قريش، أي إِن الجنَّ سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله، وأنتم معرضون مصرّون على الكفر ﴿فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ أي فلما فُرغَ من قراءة القرآن رجعوا إِلى قومهم مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا قال الرازي: وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلاّ وقد آمنوا ﴿قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى﴾ أي سمعنا كتاباً رائعاً مجيداً منزَّلاً على رسولٍ من بعد موسى قال ابن عباس: إن الجنَّ لم تكن قد سمعت بأمر عيسى عليه السلام ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي مصدِّقاً لما قبله من التوارة ﴿يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي هذا القرآن يرشد إلى الحقِّ المبين، وإِلأى دين الله القويم ﴿ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ﴾ أي أجيبوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يدعوكم إليه من الإِيمان وصدِّقوا برسالته ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ أي يمحو الله
186
عنكم الذنوب والآثام ﴿وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي ويخلِصْكم وينجكم من عذاب شديد مؤلمٍ ﴿وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض﴾ هذا ترهيبٌ بعد الترغيب أي ومن لم يؤمن بالله ويستجيب لدعوة رسوله، فإِنه لا يفوت الله طلباً، ولا يعجزه هرباً ﴿وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ﴾ أي وليس له أنصار يمنعونه من عذاب الله ﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي أولئك الذي لا يستجيبون لدعوة الله في خسرانٍ واضح، وإِلى هنا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن، ثم ذكر تعالى الأدلة على قدرته ووحدانيته فقال ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ أي أولم يعلم هؤلاء الكفار المنكرون للبعث والنشرو أن الله العظيم القدير الذي خلق السمواتِ والأرض ابتداءً من غير مثال سابق ﴿وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ أي ولم يضعف ولم يتعب بخلقهنَّ ﴿بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى﴾ ؟ أي قادرٌ على أن يعيد الموتى بعد الفناء، ويحييهم بعد تمزق الأشلاء؟ ﴿بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي بلى إنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، فكما خلقهم يعيدهم ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار﴾ أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين الأهوال والشدائد التي يرونها في الآخرة، وذكّرهم يوم يُعرضون على النار فيقال لهم ﴿أَلَيْسَ هذا بالحق﴾ ؟ أي أليس هذا العذاب الذي تذوقونه حقٌّ؟
﴿أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ﴾ [الطور: ١٥] ﴿قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا﴾ أي قالوا بلى وعزة ربنا، أكَّدوا كلامهم بالقسم طعماً في الخلاص قال الفخر الرازي: والمقصود بالآية التهكمُ بهم، والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٨] ﴿قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أي فيقال لهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم ﴿فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل﴾ أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين كما صبر مشاهير الرسل الكرام وهم «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى» ﴿وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ أي ولا تدع على كفار قريش تعجيل العذاب فإِنه نازل بهم لا محالة ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾ أي كأنهم حين يعاينون العذاب في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعةً واحدة من النهار، لما يشاهدون من شدة العذاب وطوله ﴿بَلاَغٌ﴾ أي هذا بلاغ وإِنذار ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون﴾ أي لا يكون الهلاك والدمار إلا للكافرين الخارجين عن طاعة الله.
تنبيه: قال المفسرون: «إن الجنَّ كانوا يسترقون السمع، فلما حُرست السماء بالشهب، قال إبليس: إن هذا الذي حدث بالسماء من أمر حدث في الأرض، فبعث سراياه ليعرف الخبر، فذهب ركبٌ من نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة، فلما بلغوا باطن نخلة سمعوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي ويتلو القرآن، فاستمعوا له وقالوا: أنصتوا ثم لما انتهى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من القراءة آمنوا ثم رجعوا إلى قومهم منذرين فدعوهم إلى الإِيمان، وجاءوا بعد ذلك جماعات جماعات إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذلك سبب قوله تعالى ﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن﴾.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التعجيز ﴿ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ﴾ [الأحقاف: ٤] أمرٌ يراد منه التعجيز.
٢ - جناس الاشتقاق ﴿يَدْعُواْ.. وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ﴾ ومثله ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾ [الأحقاف: ١٠].
٣ -
187
الطباق بين ﴿آمَنَ.. وَكَفَرْتُمْ﴾ وبين ﴿يُنذِرَ.. وبشرى﴾.
٤ - ذكر الخاص بعد العام ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ﴾ ثم قال ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً﴾ [الأحقاف: ١٥] فذكر الخاص بعد العام لزيادة العانية والاهتمام بشأن الأم لحقها العظيم.
٥ - الطباق بين ﴿حَمَلَتْهُ.. وَوَضَعَتْهُ﴾.
٦ - صيغة الحصر ﴿مَا هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ [الأحقاف: ١٧].
٧ - الاستعارة ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ [الأحقاف: ١٩] استعار الدرجات للمراتب، للسعداء والأشقياء.
٨ - الإِيجاز بالحذف مع التوبيخ والتقريع ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا﴾ أي يقال لهم أذهبتم.
٩ - الإِطناب بتكرار اللفظ ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً﴾ ثم قال ﴿فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ﴾ لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.
١٠ - توافق الفواصل مما يزيد في جمال الكلام وحسن تناسقه وهو من المحسنات البديعية مثل ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الجاثية: ٣٣] ﴿وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ ﴿وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ الخ.
188
Icon