تفسير سورة الحديد

أضواء البيان
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْحَدِيدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، مِنْ قَوْلِهِمْ سَبَحَ إِذَا صَارَ بَعِيدًا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْفَرَسِ: سَابِحٌ، لِأَنَّهُ إِذَا جَرَى يَبْعُدُ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
إِذْ لَا أَزَالُ عَلَى رِحَالَةِ سَابِحٍ نَهْدٍ تَعَاوَرُهُ الْكُمَاةُ مُكَلَّمِ
وَقَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ:
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ حَوْلَهُمُ وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمُ الْبَقَرُ
إِلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مُقْرَبَةً فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْفِكَرُ
وَهَذَا الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ «سَبَّحَ» قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِدُونِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [٣٣ ٤٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [٧٦ ٢٦]، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ هُنَا: سَبَّحَ لِلَّهِ، وَعَلَى هَذَا فَسَبَّحَهُ وَسَبَّحَ لَهُ لُغَتَانِ كَنَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ. وَشَكَرَهُ وَشَكَرَ لَهُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ أَحْدَثَ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ أَيِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ تَعَالَى، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ، وَقِيلَ: سَبَّحَ لِلَّهِ أَيْ صَلَّى لَهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ لِلَّهِ، أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ - بَيَّنَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْآيَةَ [٥٩ ١]، وَقَوْلِهِ فِي الصَّفِّ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْآيَةَ [٦١ ١]، وَقَوْلِهِ فِي الْجُمُعَةِ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الْآيَةَ [٦٢ ١]، وَقَوْلِهِ فِي التَّغَابُنِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْآيَةَ [٦٤ ١].
وَزَادَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ يُسَبِّحْنَ لِلَّهِ مَعَ مَا فِيهِمَا
540
مِنَ الْخَلْقِ وَأَنَّ تَسْبِيحَ السَّمَاوَاتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْجَمَادَاتِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَفْقَهُهُ أَيْ لَا نَفْهَمُهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [١٧ ٤٤]، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ الْمَذْكُورَ فِيهَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ [٢١ ٧٩]، وَنَحْوِ ذَلِكَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ.
وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا الرَّدُّ الصَّرِيحُ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ هُوَ دَلَالَةُ إِيجَادِهَا عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْكَائِنَاتِ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا يَفْهَمُهَا كُلُّ الْعُقَلَاءِ، كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢ ١٦٤]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ الْآيَةَ [١٣ ١٥]، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ الْآيَةَ [١٨ ٧٧]، وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا الْآيَةَ [٢٣ ٧٢]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
وَقَدْ عَبَّرَ تَعَالَى هُنَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيدِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: سَبَّحَ لِلَّهِ الْآيَةَ [٥٧ ١]، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْحَشْرِ، وَالصَّفِّ، وَعَبَّرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ، وَغَيْرِهِمَا بِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي تَارَةً وَبِالْمُضَارِعِ أُخْرَى لِيُبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ لِلَّهِ هُوَ شَأْنُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ، وَدَأْبُهُمْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ. ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [٥٧ ١]، قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَاهُ مِرَارًا، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْعَزِيزَ هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ هِيَ الْغَلَبَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [٦٣ ٨]، وَقَوْلُهُ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، أَيْ: غَلَبَنِي فِي الْخِصَامِ، وَمِنْ أمْثَالِ الْعَرَبِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، يَعْنُونَ: مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
541
كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا
وَالْحَكِيمُ: هُوَ مَنْ يَضَعُ الْأُمُورَ فِي مَوَاضِعِهَا وَيُوقِعُهَا فِي مَوَاقِعِهَا.
وَقَوْلُهُ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [٥٧ ١]، غُلِّبَ فِيهِ غَيْرُ الْعَاقِلِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يُغَلِّبُ غَيْرَ الْعَاقِلِ، فِي نَحْوِ: «مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» لِكَثْرَتِهِ، وَتَارَةً يُغَلِّبُ الْعَاقِلَ لِأَهَمِّيَّتِهِ. وَقَدْ جَمَعَ الْمِثَالُ لِلْأَمْرَيْنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ الْآيَةَ [٢ ١١٦]، فَغَلَّبَ غَيْرَ الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ، وَغَلَّبَ الْعَاقِلَ فِي قَوْلِهِ: قَانِتُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.
قَوْلُهُ: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [٥٧ ٤]، قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ الْآيَاتِ [٩ ١٢]، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ الْآيَةَ [٧ ٥٤].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [٥٧ ٤]، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ الْآيَةَ [٧ ٥٤]، وَذَكَرْنَا طَرَفًا صَالِحًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [٤٧ ٢٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ الْآيَةَ [٣٤ ٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ وَالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، مَعَ بَيَانِ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ الْآيَةَ [١٦ ١٢٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، أَيْ وَاضِحَاتٍ. وَهِيَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، مِنَ الظُّلُمَاتِ: أَيْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الطَّلَاقِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ الْآيَتَانِ [٦٥ ١٠ - ١١]، وَآيَةُ الطَّلَاقِ هَذِهِ بَيَّنَتْ أَنَّ آيَةَ الْحَدِيدِ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيدِ: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [٥٧ ٩]، أَيْ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ الْآيَةَ [٦٥ ١١].
فَالدَّعْوَةُ إِلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْخُرُوجِ بِنُورِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ عَامَّةٌ، وَلَكِنَّ التَّوْفِيقَ إِلَى الْخُرُوجِ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ خَاصٌّ بِمَنْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الطَّلَاقِ الْمَذْكُورَةُ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [١٠ ٢٥].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ نُورًا يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [٤ ١٧٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [٥ ١٥ - ١٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا [٦٤ ٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [٧ ١٥٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا الْآيَةَ [٤٢ ٥٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا الْآيَةَ [١٩ ٤٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ، وَأَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [٥٧ ١٢].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِمَّا ذَكَرْنَا - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، أَمَّا سَعْيُ نُورِهِمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، فَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَزَادَ فِيهَا بَيَانَ دُعَائِهِمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا الْآيَةَ [٦٦ ٨].
وَأَمَّا تَبْشِيرُهُمْ بِالْجَنَّاتِ فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَبَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُبَشِّرُهُمْ وَأَنَّ رَبَّهُمْ أَيْضًا يُبَشِّرُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [٩ ٢١ - ٢٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ إِلَى قَوْلِهِ: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [٤١: ٣٠ - ٣٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي «يُنَادُونَهُمْ» رَاجِعٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ إِذَا رَأَوْا نُورَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، قَالُوا لَهُمُ: انْظُرُوا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، وَقِيلَ لَهُمْ جَوَابًا لِذَلِكَ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا
544
نُورًا، وَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِالسُّورِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُمْ يُنَادُونَ الْمُؤْمِنِينَ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، كُنَّا نَشْهَدُ مَعَكُمُ الصَّلَوَاتِ وَنَسِيرُ مَعَكُمْ فِي الْغَزَوَاتِ وَنَدِينُ بِدِينِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، أَيْ كُنْتُمْ مَعَنَا فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا مَعَانِيَ الْفِتْنَةِ وَإِطْلَاقَاتِهَا فِي الْقُرْآنِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ مَعَانِي إِطْلَاقَاتِهَا فِي الْقُرْآنِ الضَّلَالَ كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَيْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ: أَيْ أَضْلَلْتُمُوهَا بِالنِّفَاقِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ بَاطِنٌ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [٨ ٣٩]، أَيْ لَا يَبْقَى شِرْكٌ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَقَوْلُهُ: وَتَرَبَّصْتُمْ [٥٧ ١٤]، التَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا تَرَبُّصُ الْمُنَافِقِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ الدَّوَائِرَ أَيِ انْتِظَارُهُمْ بِهِمْ نَوَائِبَ الدَّهْرِ أَنْ تُهْلِكَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مُنَافِقِي الْأَعْرَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ [٩ ١٠١]، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [٩ ٩٨].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَارْتَبْتُمْ أَيْ شَكَكْتُمْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَشَكُّهُمُ الْمَذْكُورُ هُنَا وَكُفْرُهُمْ بِسَبَبِهِ بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [٩ ٤٥].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ [٥٧ ١٤]، الْأَمَانِيُّ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، وَهِيَ مَا يُمَنُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْبَاطِلِ، كَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ فِي نِفَاقِهِمْ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا سُفَهَاءُ فِي صِدْقِهِمْ، أَيْ فِي إِيمَانِهِمْ، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ الْآيَةَ [٢ ١١ - ١٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ الْآيَةَ [٢ ١٣].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْأَمَانِيِّ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْغُرُورِ الَّذِي اغْتَرُّوا بِهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [٤ ١٢٣ - ١٢٤].
وَقَوْلُهُ: حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ [٥٧ ١٤]، الْأَظْهَرُ أَنَّهُ الْمَوْتُ لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ بِهِ الْعَمَلُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [٥٧ ١٤]، هُوَ
545
الشَّيْطَانُ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي هِيَ الْمَفْعُولُ لِكَثْرَةِ غُرُورِهِ لِبَنِي آدَمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [١٧ ٦٤].
وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ الْكَثِيرَ الْغُرُورِ غَرَّهُمْ بِاللَّهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ لُقْمَانَ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [٣٥ ٥]، وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ فَاطِرٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [٣٥ ٥ - ٦].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ لُقْمَانَ وَآيَةِ فَاطِرٍ الْمَذْكُورَتَيْنِ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [١٠ ٥٥] وَتَرْتِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَغُرَّهُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ - دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ مِمَّا يَغُرُّهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بِالْبَعْثِ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَالْغُرُورُ بِالضَّمِّ الْخَدِيعَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ الْآيَةَ [٣ ٩١]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مُضَارِعٍ فِي الْقُرْآنِ مَجْزُومٌ بِـ «لَمْ» إِذَا تَقَدَّمَتْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا هُنَا - فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ.
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: هُوَ أَنْ تُقْلَبَ مُضَارَعَتُهُ مَاضَوِيَّةً، وَنَفْيُهُ إِثْبَاتًا، فَيَكُونَ بِمَعْنَى الْمَاضِي الْمُثْبَتِ، لِأَنَّ «لَمْ» حَرْفٌ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارِيَّةٌ، فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ، فَيَتَسَلَّطُ النَّفْيُ الْكَامِنُ فِيهَا عَلَى النَّفْيِ الصَّرِيحِ فِي «لَمْ» فَيَنْفِيهِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَيَرْجِعَ الْمَعْنَى إِلَى الْمَاضِي الْمُثْبَتِ. وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ» أَيْ: آنَ لِلَّذِينِ آمَنُوا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِلتَّقْرِيرِ، وَهُوَ حَمْلُ الْمُخَاطَبِ عَلَى أَنْ
546
يَقِرَّ فَيَقُولَ: بَلَى. وَقَوْلُهُ: «يَأْنِ» : هُوَ مُضَارِعُ «أَنَى يَأْنَى» إِذَا جَاءَ إِنَّاهُ أَيْ وَقْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
وَلِقَدْ أَنَى لَكَ أَنْ تَنَاهَى طَائِعًا أَوْ تَسْتَفِيقَ إِذَا نَهَاكَ الْمُرْشِدُ فَقَوْلُهُ: أَنَى لَكَ أَنْ تَنَاهَى طَائِعًا، أَيْ جَاءَ الْإِنَاهُ الَّذِي هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي تَتَنَاهَى فِيهِ طَائِعًا، أَيْ حَضَرَ وَقْتُ تَنَاهِيكَ، وَيُقَالُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: آنَ يَئِينُ كَبَاعَ يَبِيعُ، وَأَنَى يَأْنِي كَرَمَى يَرْمِي، وَقَدْ جَمَعَ اللُّغَتَيْنِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَمَّا يَئِنْ لِي أَنْ تُجَلَّى عَمَايَتِي وَأُقْصِرَ عَنْ لَيْلَى بَلَى قَدْ أَنَى لِيَا
وَالْمَعْنَى عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ حَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَى لَهُمْ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، أَيْ جَاءَ الْحِينُ وَالْأَوَانُ لِذَلِكَ، لِكَثْرَةِ مَا تَرَدَّدَ عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَاجِرِ الْقُرْآنِ وَمَوَاعِظِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ [٥٧ ١٦]، الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا فِي مَحِلِّ رَفْعِ فَاعِلٍ بِـ «أَنْ»، وَالْخُشُوعُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَالِانْخِفَاضُ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبِينُهُ وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمُ خَاشِعُ
فَقَوْلُهُ: «خَاشِعٍ» أَيْ مُنْخَفَضٍ مُطْمَئِنٍ، وَالْخُشُوعُ فِي الشَّرْعِ خَشْيَةٌ مِنَ اللَّهِ تُدَاخِلُ الْقُلُوبَ، فَتَظْهَرُ آثَارُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ بِالِانْخِفَاضِ وَالسُّكُونِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْخَائِفِ.
وَقَوْلُهُ: لِذِكْرِ اللَّهِ، الْأَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ خُشُوعُ قُلُوبِهِمْ لِأَجْلِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [٨ ٢]، أَيْ خَافَتْ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، فَالْوَجَلُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ هَذِهِ، وَالْخَشْيَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ الْقُرْآنُ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [٥٧ ١٦] مِنْ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [٨٧ ١ - ٣]، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
547
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [٣٩ ٢٣]. فَالِاقْشِعْرَارُ الْمَذْكُورُ وَلِينُ الْجُلُودِ وَالْقُلُوبِ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِأَحْسَنِ الْحَدِيثِ - يُفَسِّرُ مَعْنَى الْخُشُوعِ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ هُنَا كَمَا ذُكِرَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [٥٧ ١٦]، قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ [٢ ٧٤] بَعْضَ أَسْبَابِ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، فَذَكَرْنَا مِنْهَا طُولَ الْأَمَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا فِي آيَةِ الْحَدِيدِ هَذِهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ الْأُخَرِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَثْرَةِ الْفَاسِقِينَ، مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [٣ ١١٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: ٢٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا الْآيَةَ [٣٩ ٢١]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى سَبَبِ اصْفِرَارِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ مَا أَصَابَ مِنَ الْمَصَائِبِ فِي الْأَرْضِ كَالْقَحْطِ وَالْجَدَبِ وَالْجَوَائِحِ فِي الزِّرَاعَةِ وَالثِّمَارِ وَفِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْمَوْتِ كُلَّهُ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابٍ قَبْلَ خَلْقِ النَّاسِ، وَقَبْلَ وُجُودِ الْمَصَائِبِ، فَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [٥٧ ٢٢]، الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْخَلِيقَةِ الْمَفْهُومَةِ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ [٥٧ ٢٢]، أَوْ إِلَى الْمُصِيبَةِ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ رُجُوعَهُ لِذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [٥٧ ٢٢]، أَيْ سَهْلٌ هَيِّنٌ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُصِيبُ النَّاسَ شَيْءٌ مِنَ الْمَصَائِبِ إِلَّا وَهُوَ
مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ قَبْلَ ذَلِكَ - أَوْضَحُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [٩ ٥١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [٦٤ ١١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [٢ ١٥٥]، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [٢ ١٥٥] قَبْلَ وُقُوعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ مَعْلُومَةٌ لَهُ - جَلَّ وَعَلَا - قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَلِذَا أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهَا سَتَقَعُ، لِيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لَهَا وَقْتَ نُزُولِهَا بِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُعِينُهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا.
وَنَقْصُ الْأَمْوَالِ وَالثَّمَرَاتِ مِمَّا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ. وَنَقْصُ الْأَنْفُسِ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَنْفُسِ مِمَّا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَنْفُسِ، وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ هَذِهِ: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [٥٧ ٢٣]، أَيْ بَيَّنَّا لَكُمْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ مُقَدَّرَةٌ مَكْتُوبَةٌ قَبْلَ وُجُودِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ مَا كَتَبَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَجْلِ أَلَّا تَحْزَنُوا عَلَى شَيْءٍ فَاتَكُمْ، لِأَنَّ فَوَاتَهُ لَكُمْ مُقَدَّرٌ، وَمَا لَا طَمَعَ فِيهِ قَلَّ الْأَسَى عَلَيْهِ، وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ، لِأَنَّكُمْ إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ مَا كَتَبَ لَكُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَالْخَيْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَكُمْ قَلَّ فَرَحُكُمْ بِهِ، وَقَوْلُهُ: «تَأْسَوْا» مُضَارِعُ أَسِيَ بِكَسْرِ السِّينِ يَأْسَى بِفَتْحِهَا أَسًى بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى الْقِيَاسِ، بِمَعْنَى حَزِنَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [٥ ٦٨]. وَقَوْلُهُ: «مِنْ مُصِيبَةٍ» مَجْرُورٌ فِي مَحِلِّ رَفْعٍ؛ لِأَنَّهُ فَاعِلُ «أَصَابَ» جُرَّ بِـ «مِنَ» الْمَزِيدَةِ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ، وَ «مَا» نَافِيَةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْشُورَى، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [٤٢ ١٧]، وَقَدَّمْنَا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ.
بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ إِقَامَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ تَنْبَنِي عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا هُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [٥٧ ٢٥]، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِقَامَةَ الْبَرَاهِينِ عَلَى الْحَقِّ، وَبَيَّنَ الْحُجَّةَ وَإِيضَاحَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. فَإِذَا أَصَرَّ الْكُفَّارُ عَلَى الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ مَعَ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى أَنْزَلَ الْحَدِيدَ، أَيْ: خَلَقَهُ لِبَنِي آدَمَ لِيَرْدَعَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَهُوَ قَتْلُهُمْ إِيَّاهُمْ بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالسِّهَامِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ هُنَا: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [٥٧ ٢٥]، تُوَضِّحُهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [٩ ١٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [٨ ١٢]، وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [٥٧ ٢٥]، لَا يَخْفَى مَا فِي الْحَدِيدِ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ [١٣ ١٧]، لِأَنَّ مِمَّا يُوقَدُ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ الْمَتَاعِ - الْحَدِيدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ الْآيَةَ [٤٣ ٢٨ - ٢٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مِنْ سُورَةِ الْحَدِيدِ فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ سِيَاقَهَا وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَدْ غَلِطَ، وَأَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَعْظُمُ مِمَّا وَعَدَ بِهِ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِتْيَانِهِمْ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ الْآيَةَ [٢٨ ٥٢ - ٥٤].
وَكَوْنُ مَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَعْظَمَ، أَنَّ إِيتَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أَعْطَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِثْلَهُ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [٥٧ ٢٨]، وَزَادَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [٥٧ ٢٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ - جَاءَ
550
مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [١٠ ١٠٧].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ فَاطِرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [٣٥ ٢].
551
Icon