تفسير سورة التكوير

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

إلا محض افتراء، وأن لجاجكم في عداوته، وتألبكم عليه ما هو إلا عناد واستكبار، وأنكم في قرارة نفوسكم عالمون حقيقة أمره، ودخيلة دعوته.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾ ولفت ومحي ضوؤها، وسقطت من مقرها حين خراب العالم الذي يعيش فيه الحي في حياته الدنيا، ولا يبقى في عالمه الآخر الذي ينقلب إليه شيء من هذه الأجرام، وارتفاع (١) ﴿الشَّمْسُ﴾ على أنه فاعل لفعل مضمر يفسره ما بعده على الاشتغال، وهذا عند البصريين، لا فاعله؛ لأن الفاعل لا يتقدم على فعله، وأما عند الكوفيين والأخفش.. فهو مرفوع على الابتداء؛ لأن التقدير خلاف الأصل، والأول أولى؛ لأن ﴿إِذَا﴾ فيها معنى الشرط، والشرط مختص بالفعل، وعلى الوجهين الجملة في محل الجر بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها.
والحاصل: أن ﴿إِذَا﴾ في هذه المواضع الاثني عشر: ظرف مضمن معنى الشرط، وجوابها ﴿عَلِمَتْ﴾، كما سيأتي، ومعنى ﴿كُوِّرَتْ﴾: لفت، من كورت العمامة إذا لففتها بضم بعض أجزائها إلى بعض على جهة الاستدارة، على أن المراد بذلك، إما رفعها وإزالتها من مقرها، فإن الثوب إذا أريد رفعه عن مكانه، وستره بجعله في صندوق أو غيره.. يلف لفًا ويطوى، نظير قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ﴾ فكان بين السماء والرفع علاقة اللزوم، فتكويرها كناية عن رفعها. قال سعدي المفتي: ولا منع من إرادة المعنى الحقيقي أيضًا، وكون الشمس كرة مصمتة على تسليم صحته لا يمنع من تلك الإرادة؛ لجواز أن يحدث الله فيها قابلية التكوير، بأن يصيرها منبسطة، ثم يكورها، إن الله على كل شيءٍ قدير. انتهى.
وأما لف ضوئها المنبسط في الآفاق، المنتشر في الأقطار، بأن يكون إسناد كورت إلى ضمير الشمس مجازيًا، أو بتقدير مضاف على أنه عبارة عن إزالتها، والذهاب بها بحكم استلزام زوال اللازم لزوال الملزوم، فاللف على هذا مجاز عن الإعدام، إذ لا مساغ لإرادة المعنى الحقيقي؛ لأن الضوء لكونه من الأعراض لا يتصور فيه السلف، وقيل: معنى ﴿كُوِّرَتْ﴾: ألقيت من فلكها على وجه الأرض، كما
(١) روح البيان.
وصفت النجوم بالانكدار مأخوذ من طعنه فكوره إذا ألقاه على الأرض.
فالحاصل: أن التكوير، إما بمعنى لف جرمها، أو لف ضوئها، أو الرمي بها. وفي الحديث: "إن الشمس والقمر نوران مكوران في النار يوم القيامة"؛ أي: مرميان فيها لازدياد الحر في جهنم، وكذا قال الطيبي: تكويرهما فيها ليعذب بهما أهل النار، لاسيما عباد الأنوار، لا ليعذبهما في النار، فإنهما بمعزل عن التكليف، بل سبيلهما في النار سبيل النار نفسها، وسبيل الملائكة الموكلين بها. انتهى. وكذا قال في تفسير الفاتحة للفناري: إن السماء إذا طويت واحدة بعد واحدة.. يرمى بكواكبها في النار.
فإن قيل: كيف يمكن تكويرهما في النار، وقد ثبت بالهندسة أن قرص الشمس في العظم يساوي كرة الأرض مئة وستين مرة وربع الأرض وثمنها؟.
أجيب: بأن الله تعالى قادر على أن يدخلها في قشرة جوزة على ذلك العظم، يقول الفقير (١): قد ثبت أن الله تعالى يمد الأرض يوم القيامة، فتكون أضعاف ما كانت عليه على أن وسعة الدارين ثابتة لكثرة أهلهما ووسعتهم، لأنه ثبت أن ضرس الكافر مثل جبل أُحد، وجسمه مسيرة ثلاثة أيام، فإذا كان جسد كل كافر على هذا الغلظ والعظم.. فاعتبر منه ووسعة جهنم، فقرص الشمس في النار كجوزة في وسط بيت واسع، ولا يعرف حد الدارين إلا الله تعالى.
٢ - ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢)﴾؛ أي: وإذا النجوم تناثرت وذهب لألؤها، كما جاء في قوله: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢)﴾ يقال: انكدر الطائر من الهواء إذا انقض، والأصل في الانكدار: الانصباب، قال أبو عبيدة: انصبت كما ينصب العقاب. قال الكلبي وعطاء: تمطر السماء يومئذٍ نجومًا، فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض، وقيل: انكدارها: طمس نورها. و ﴿النُّجُومُ﴾: جمع نجم، وهو الكوكب الطالع، وبه شبه طلوع النبات والرأي، فيقال: نجم النبت والرأي نجمًا ونجومًا، فالنجم اسم مرة، ومصدر أخرى، وذلك أن النجوم - على ما روى ابن عباس رضي الله عنهما - قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور، وتلك السلاسل
(١) روح البيان.
بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض.. تساقطت تلك الكواكب من أيديهم؛ لأنه مات من يمسكها.
٣ - ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣)﴾؛ أي: وإذا الجبال قلعت عن أماكنها، ورفعت عن وجه الأرض، وأبعدت عن أماكنها، وسيرت في الهواء كالسحاب بالرجفة الحاصلة حين زلزلت الأرض، فتقطع أوصالها، وتقذف في الفضاء، وذلك حين النفخة الثانية، ونحو الآية قوله: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (٢٠)﴾ وقوله: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً﴾.
٤ - ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ﴾؛ أي: النوق الحوامل التي في بطونها أولادها، وهي أكرم الأموال لديهم وأعزها عندهم ﴿عُطِّلَتْ﴾؛ أي: أهملت ولم يعن بشأنها لاشتداد الخطب وفداحة الهول، و ﴿الْعِشَارُ﴾: جمع عشراء، كنفاس ونفساء، وليس فعلاء يجمع على فعال غير عشراء ونفساء، كما في "القاموس". والعشراء: هي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، وخص العشار؛ لأنها أنفس أموال العرب وأعزها عندهم، ومنها معظم أسباب معاشهم، ومعنى: ﴿عُطِّلَتْ﴾: تركت هملًا بلا راع، والعطل: فقدان الزينة والشغل، ويقال لمن يجعل العالم بزعمه فارغًا عن صانع أتقنه وزينه ورتبة: معطل، وعطل الدار عن ساكنيها، والإبل عن راعيها.
والمعنى (١): وإذا العشار تركت مسيبة مهملة غير منظور إليها مع كونها محبوبة مرغوبة عند أهلها؛ لاشتغال أهلها بأنفسهم، وذلك عند مجيء مقدمات قيام الساعة، فإن الناس حينئذٍ يتركون الأموال والأملاك، ويشتغلون بأنفسهم، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨)﴾، وقال الإِمام أبو الليث وغيره: هذا على وجه المثل، لأنه في القيامة لا تكون ناقة عشراء، يعني: إن هول القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء.. لعطلها، واشتغل بنفسه، لعلهم جعلوا يوم القيامة ما بعد النفخة الثانية، أو مبادي الساعة من القيامة، لكن يمكن وجود العشراء في المبادي، فلا يكون تمثيلًا، فيكون ذلك في الدنيا، وقيل: (٢) العشار: السحاب، فإن العرب تشبهها بالحامل، ومنه قوله تعالى؛ ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (٢)﴾ ومعنى تعطيلها: عدم
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
إمطارها، وقيل: المراد أن الديار تعطل فلا تسكن، وقيل: الأرض التي تعشر زرعها تعطل فلا تزرع، وقيل: إذا قاموا من القبور.. شاهدوا الوحوش والدواب محشورة، وعشارهم فيها التي كانت كرائم أموالهم لم يعبؤوا بها لشغلهم بأنفسهم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿عُطِّلَتْ﴾ بالتشديد، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بالتخفيف، وقيل: هو وهم، وعَطَلَت بفتحتين، بمعنى: تعطلت؛ لأن التشديد فيه للتعدي، يقال منه: عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه، وعطلت المرأة فهي عاطل: إذا لم يكن عليها الحلي، فلعل هذه القراءة عن ابن كثير لغة استوى فيها فعلت وأفعلت، والله أعلم. انتهى.
٥ - ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ﴾ قال في "القاموس": الوحش: حيوان البر كالوحيش، والجمع: وحوش وحشان، والواحد: وحشي، قال ابن الشيخ (٢): هو اسم لما يستأنس بالإنسان من حيوان البر، والمكان الذي لا أنيس فيه وحشي، وخلاف الوحشي: الأهلي. ﴿حُشِرَتْ﴾؛ أي: جمعت من كل جانب، واختلط بعضها ببعض وبالناس مع نفرة بعضها عن البعض وعن الناس أيضًا، وتفرقها في الصحارى والقفار، وذلك الجمع من هول ذلك اليوم، وقيل: بعثت للقصاص إظهارًا للعدل. قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص، فيقتص للجماء من القرناء، فإذا قضي بينها.. ردت ترابًا، فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم، وإعجاب بصورته، أو بصوته، كالطاووس والبلبل ونحوهما، فإذا بعثت الحيوانات للقصاص تحقيقًا لمقتضى العدل، فكيف يجوز مع هذا أن لا يحشر المكلفون من الإنس والجن، وقيل: حشرها: موتها.
والمعنى: أي ماتت وهلكت، تقول العرب إذا أضرت السنة بالناس، وأصابتهم بالقحط والجدب.. حشرتهم السنة؛ أي: أهلكتهم، وهلاكها يكون من هول ذلك الحادث العظيم.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿حُشِرَتْ﴾ بالتخفيف، وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
بالتشديد.
٦ - ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦)﴾؛ أي: أوقدت فصارت نارًا تضطرم، من سجر التنور: إذا ملأه بالحطب ليحميه. ووجه الإيقاد: أن جهنم في قعور البحار، وتحت أطباق الأرض، إلا أنها الآن مطبقة لا يصل أثر حرارتها إلى ما فوقها من البحار؛ ليتيسر انتفاع أهل الأرض بها، فإذا انتهت مدة الدنيا.. يرفع الحجاب، فيصل تأثير تلك النيران إلى البحار، فتسخن فتصير حميمًا لأهل النار، أو تبعث عليها ريح الدبور، فتنفخها وتضرمها، فتصير نارًا على ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما في وجه الإيقاد، فالمراد (١) من تسجيرها: إضرامها نارًا، فإن ما في باطن الأرض من النار يظهر بتشققها، وتمزق طبقاتها العليا، وحينئذٍ يصير الماء بخارًا، ولا يبقى إلا النار.
وقد أثبت البحث العلمي غليان البراكين، وهي جبال النار التي في باطن الأرض، وتشهد لذلك الزلازل الشديدة التي تشق الأرض والجبال في بعض الأطراف، كما ظهر في مسِّينا بإيطاليا سنة (١٩٠٩ م)، وحدث في اليابان بعد ذلك، وفي جاوا، وفي أغادير بالمغرب، وفي تركيا وإيران وجيانا، وجاء في بعض الأخبار: إن البحر غطاء جهنم، وقال الفراء: معنى سجرت: ملئت بأن صارت بحرًا واحدًا وكثر ماؤها
ووجه الامتلاء (٢): أن الجبال تندك وتفرق أجزاؤها، وتصير كالتراب الهائل الغير المتماسك، فلا جرم تنصب أجزاؤها في أسافلها، فتمتلىء المواضع الغائرة من الأرض، فيصير وجه الأرض مستويًا مع البحار، فتصير البحار بحرًا واحدًا مسجورًا؛ أي: ممتلئًا، وبه قال الربيع بن خثيم والكلبي ومقاتل والحسن والضحاك، وقال بعضهم: ملئت بإرسال عذبها على مالحها؛ أي: فجر الزلزال ما بينها حتى اختلطت وعادت بحرًا واحدًا، ثم أسيلت حتى بلغت الثور، فابتلعها، فلما بلغت إلى جوفه نفدت، وقال الحسن: يذهب ماؤها حتى لا يبقى فيها قطرة، قال الراغب: وإنما يكون كذلك لتسجير النار فيها؛ أي: إضرامها، وقيل: معنى ﴿سُجِّرَتْ﴾: أنها صارت حمراء كالدم من قولهم: عين سجراء؛ أي: حمراء.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿سُجِّرَتْ﴾ بالتشديد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف.
والتشديد (٢) في مثل هذه الأفعال قد يكون لتكثير الفعل وتكريره، والتخفيف يحتمل القليل والكثير.
وخصت هذه السورة بـ ﴿سُجِّرَتْ﴾ موافقة لقوله: ﴿سُعِّرَتْ﴾، لأن معنى ﴿سُجِّرَتْ﴾ عند أكثر المفسرين: أوقدت فصارت نارًا، فيقع التوعد بتسجير النار، وتسجير البحار، وخصت سورة الانفطار بـ ﴿فُجِّرَتْ﴾ موافقة لقوله: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢)﴾، لأن في كلٍّ من تساقط الكواكب، وسيلان المياه على وجه الأرض، وبعثرة القبور؛ أي: قلب ترابها مزايلة الشيء عن مكانها.
٧ - وبعد أن عدد ما يحدث من مقدمات الفناء، وبطلان الحياة في الأرض، وامتناع المعيشة فيها.. أخذ يذكر ما يكون بعد ذلك من البعث والنشور، فقال: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ﴾ الظاهر: نفوس الإنسان، ويحتمل أن تعم الجن أيضًا، كما في بعض التفاسير. ﴿زُوِّجَتْ﴾ التزويج: جعل أحد زوجًا لآخر، وهو يقتضي المقارنة؛ أي: قرنت الأرواح بأجسادها بأن ردت إليها حين النشأة الآخرة، قاله عكرمة والضحاك والشعبي. وفي (٣) هذا إيماء إلى أن النفوس كانت باقية من حين الموت إلى حين المعاد، فبعد أن كانت منفردة عن البدن.. تعود إليه، أو قرنت كل نفس (٤) بشكلها، وبمن كان في طبقتها في الخير والشر، فيضم الصالح إلى الصالح في الجنة، ويضم رجل السوء إلى رجل السوء في النار، أو قرنت بكتابها أو بعملها، فالنفوس المتمردة زوجت بأعمالها السيئة، والمطمئنة بأعمالها الحسنة، أو نفوس المؤمنين بحور العين، ونفوس الكفرة بالشياطين، وقيل: قرن كل رجل إلى من كان يلازمه من ملك أو سلطان، كما في قوله تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾، أو قرن كل عابد بمعبوده من دون الله تعالى، أو قرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، وقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين.
وقرأ الجمهور: بواو مشددة، وقرأ عاصم في رواية: ﴿زووجت﴾ على وزن
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
فوعلت، والمفاعلة تكون بين الإثنين. اهـ من "البحر".
٨ - ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ﴾؛ أي: البنت المدفونة حية، يقال: وأد بنته يئدها وأدًا، وهي مؤودة إذا دفنها في القبر وهي حية، وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو الاسترقاق أو لحوق العار بهم من أجلهن، وكانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به، فهو أحق بهم، فقد كان الوأد يتم في صورة بشعة قاسية تقشعر لهولها الأبدان، وتذوب لها القلوب حسرات. قال في "الكشاف" (١): فقد كان الرجل الجاهلي، إذا ولدت له بنت، فأراد أن يستحييها، ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية؛ أي: بلغت من العمر ست سنوات.. قال لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء، فيأخذها من أمها المسكينة الحزينة، فيذهب بها حتى يبلغ بها البئر، هذا الوالد القاسي الذي هو الوحش الكاسر بعينه، فيقول لها وهو واقف على حافة البئر: انظري فيها، فتنظر الفريسة المسكينة فيها، فيدفعها من خلفها، ويسقطها في البئر، ثم يهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض، فيالله. ما أعظم هذه القسوة، وما أبشع هذه الجريمة، وما أغلظ هذه القلوب التي قدت من صخر، إذ تقتل البريئات، وتسفك دم الطفلات الطاهرات بغير جرم سوى خوف الفقر أو خوف العار، ويروى أنه كانت المرأة في الجاهلية إذا قرب أوان وضعها حفرت الحفرة، فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتًا رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابنًا حبسته وأبقته إليها، وكانت هذه حال العرب قبل الإِسلام، حتى جاءهم الله تعالى بهذا الدين العظيم، فلما خالطت بشاشة قلوبهم غيرتها إلى قلوب رحيمة رقيقة كريمة جياشة بالرأفة والحنان، فمحا الإِسلام عنهم وصمة هذا العار وهذا الخزي، فما أعظم نعمة الإِسلام على الإنسانية بأسرها؛ لمحوه هذه العادة القبيحة منهم، وغيرها من سيء العادات.
﴿سُئِلَتْ﴾؛ أي: سألها الله سبحانه وتعالى بنفسه إظهارًا للعدل، أو بأمره للملك
٩ - ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ﴾ من الذنوب الموجبة للقتل عقلًا ونقلًا ﴿قُتِلَتْ﴾؛ أي: قتلها أبوها حيةً فعلًا أو رضي، وتوجيه السؤال إليها لتسليتها، وإظهار كمال الغيظ والسخط
(١) الكشاف بتصرف وزيادة.
161
لوائدها، وإسقاطه عن درجة الخطاب، والمبالغة في تبكيته، كما في قوله تعالى: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ﴾، ولذا لم يسأل الوائد عن موجب قتله لها.
وجه التبكيت: أن المجني عليه إذا سئل بمحضر من الجاني، ونسب إليه الجناية دون الجاني.. كان ذلك بعثًا للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه، فيعثر على براءة ساحة صاحبه، وعلى أنه هو المستحق لكل نكالٍ فيفحم، وهذا النوع من الاستدراج واقع على سبيل التعريض، وهو أبلغ، فلذلك اختير على التصريح، وإنما قال: ﴿قُتِلَتْ﴾ على الغيبة لما أن الكلام إخبار عنها، لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت، فيقال: قتلت على الخطاب، وعلى قراءة: ﴿سألت﴾: أي: الله، أو قاتلها، لا حكاية لكلامها حين سألت فيقال: قتلت على الحكاية عن نفسها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن أطفال المشركين، فقال: لا يعذبون، احتج بهذه الآية، فإنه ثبت بها أن التعذيب لا يستحق إلا بالذنب، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن الوائدة والموؤودة في النار؛ أي: إذا كانت الموؤودة بالغةً.
وقرأ الجمهور: ﴿الْمَوْءُودَةُ﴾ بهمزة بين الواوين اسم مفعول. وقرأ البزي في رواية: ﴿الموؤدة﴾ بهمزة مضمومة على الواو، فاحتمل أن يكون الأصل: الموؤودة، كقراءة الجمهور، ثم نقل حركة الهمزة إلى الواو بعد حذف الهمزة، ثم همز الواو المنقول إليها الحركة، واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد، فالأصل: مأوودة، فحذفت إحدى الواوين علي الخلاف الذي فيه المحذوف واو المد، أو الواو التي هي عين الكلمة نحو: مقوول؛ حيث قالوا فيه: مقول. وقرىء ﴿الموودة﴾ بضم الواو الأولى، وتسهيل الهمزة، أعني: التسهيل بالحذف ونقل حركتها إلى الواو، وقرأ الأعمش: المودة بسكون الواو على وزن الفعلة كالمودة، وكذا وقف حمزة بن مجاهد، ونقل الفراء: أن حمزة يقف عليها، كالموودة؛ لأجل الخط؛ لأنها رسمت كذلك، والرسم سنة متبعة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿سُئِلَتْ﴾ مبنيًا للمفعول، ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)﴾ كذلك بتخفيف التاء، وبتاء التأنيث فيهما. وقرأ الحسن والأعرج: ﴿سيلت﴾ بكسر السين
(١) البحر المحيط.
162
من سأل يسيل، وذلك على لغة من قال سأل بغير همزة. وقرأ أبو جعفر بشد الياء، لأن الموؤودة اسم جنس، فناسب التكثير باعتبار الأشخاص. وقرأ ابن مسعود وعلي وابن عباس وجابر بن زيد وأبو الضحى ومجاهد: ﴿سألت﴾ مبنيًا للفاعل ﴿قتلت﴾ بسكون اللام وضم التاء حكايةً لكلامها حين سألت، وعن أبي وابن مسعود أيضًا والربيع بن خيثم وابن يعمر ﴿سألت﴾ مبنيًا للفاعل، ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)﴾ مبنيًا للمفعول بتاء التأنيث فيهما إخبارًا عنها، ولو حكي كلامها.. لكان قتلت بضم التاء، وفي مصحف أبي: ﴿وإذا الموؤودة سألت بأي ذنب قتلتني﴾. ومعنى: سألت على قراءة البناء للفاعل: أن المقتولة تتعلق بأبيها يوم القيامة، فتقول: بأي ذنب قتلتني، فلا يكون له عذر، قاله ابن عباس، وروى عكرمة عن ابن عباس: عن النبي - ﷺ - قال: "إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقًا ولدها بثدييها، ملطخًا بدمائه، فيقول: يا رب هذه أمي، وهذه قتلتني".
١٠ - ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ﴾؛ أي: صحف (١) الأعمال ﴿نُشِرَتْ﴾؛ أي: فتحت للحساب، فإنها تطوى عند الموت، وتنشر عند الحساب؛ أي: تفتح فيعطاها الإنسان منشورةً بأيمانهم وشمائلهم، فيقف على ما فيها، وتحصى عليه جميع أعماله، فيقول: مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وعن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله - ﷺ - قال: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة"، فقلت يا رسول الله: فكيف بالنساء؟ قال: "شغل الناس يا أم سلمة"، قلت: وما شغلهم؟ قال: "نشر الصحف فيها مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل". ونقل الزمخشري قول المرشد بن وداعة قال: إذا كان يوم القيامة.. تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم؛ أي: مكتوب فيها ذلك، وهي صحف غير صحف الأعمال.
وقرأ أبو رجاء (٢)، وقتادة والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم ﴿نُشِرَتْ﴾ بتخفيف الشين، وباقي السبعة: بتشديدها.
والمعنى (٣): أي وإذا صحف الأعمال ظهرت للعاملين في موقف الحساب، حتى لا يرتابوا فيها، ولا ينبغي أن نبحث عن تلك الصحف؛ لنعلم أهي على مثال
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
الأوراق التي تكتب فيها في الدنيا، أم تشبه الألواح أو نحو ذلك مما جرى استعماله في الكتابة، فإن ذلك مما لا يصل إليه علمنا، ولم يجيء نص قاطع عن المعصوم - ﷺ - يفسر ذلك.
١١ - ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١)﴾؛ أي: قلعت (١) وأزيلت بحيث ظهر ما وراءها، وهو الجنة والعرش، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء المستور به، والكشط: قلع عن شدة التزاق، والقشط بالقاف: لغة فيه، وهي قراءة ابن مسعود، قال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف، وقال الفراء: نزعت فطويت.
والمعنى: أزيلت فلم يبق غطاء ولا سماء، ولم يوجد ما يطلق عليه اسم الأعلى والأسفل.
وقرأ عبد الله: ﴿قشطت﴾ بالقاف، وهما كثيرًا ما يتعاقبان، كقولهم: عربي قح وكح، وتقدمت قراءته ﴿قافورًا﴾؛ أي: كافورًا.
١٢ - ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢)﴾، أي: أوقدت للكافرين إيقادًا شديدًا لتحرقهم إحراقًا أبديًا، سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم، فإسعار النار: زيادة التهابها لا حدوثها ابتداءً، وبه يندفع احتجاج من قال: النار غير مخلوقة الآن؛ لأنها تدل على أن تسعرها معلق بيوم القيامة، وذلك لأن فيه الزيادة والاشتداد.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص وابن ذكوان (٢): ﴿سُعِّرَتْ﴾ بالتشديد؛ لأنها أوقدت مرة بعد مرة، وقرأ باقي السبعة وعلي بالتخفيف.
والمعنى: أي وإذا جهنم التي يعاقب فيها أهل الكفر والطغيان.. أوقدت إيقادًا شديدًا، فيكون ألم من يدخل فيها من أشد الآلام التي تحدث عن مس النيران للأجسام الحية، وقد جاء في سورة البقرة: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.
١٣ - ﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣)﴾ أي: قربت (٣) إلى المتقين، وأدنيت منهم ليدخلوها، كقوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١)﴾، وقال الحسن: إنهم يقربون منها، لا أنها تزول عن موضعها، فالمواد من التقريب التعكيس للمبالغة، كما في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ حيث تعرض النار عليهم تحقيرًا وتحسيرًا
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
فقلب مبالغة، ويحتمل أن يكون المراد التقريب المعنوي، وهو جعل أهلها مستحقين لدخولها مكرمين فيها، والأول أولى. قيل: هذه الأمور الاثنا عشر ستة منها في الدنيا؛ أي: فيما بين النفختين، وهي من أول السورة إلى قوله: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦)﴾ وستة في الآخرة؛ أي: بعد النفخة الثانية، وهي: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧)﴾ إلى هنا. وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: ستة آيات قبل القيامة، بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن، واختلطت الدواب والطير والوحوش، وماج بعضهم في بعض، فحينئذٍ تقول الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فينطلقون إلى البحر، فإذا هو نار تتأجج؛ أي: تتلهب، قال: فبينما، هم كذلك إذ صدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم. كذا في "المعالم".
١٤ - وجواب الجميع قوله: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤)﴾ وقدمت على أن المراد بها زمان واحد متسع محيط بما ذكر من أول السورة إلى هنا من الاثني عشر شيئًا، مبدأه النفخة الأولى، ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق، لكن لا بمعنى أنها تعلم ما تعمل في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد، أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي، بل عند نشر الصحف إلا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه، وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلًا للخطب، وتفظيعًا للحال؛ أي: علمت ما أحضرته في صحيفة عملها، وما أحضرته في موقف المحاسبة وعند الميزان؛ لأن الأعمال أعراض لا يمكن إحضارها. اهـ "زاده". أي: علمت (١) كل نفس من النفوس ما أحضرته واكتسبته من الأعمال خيرًا أو شرًا، على حذف العائد إلى الموصول، فـ ﴿نَفْسٌ﴾ في معنى العموم، كما صرح به في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾، وقوله: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ﴾، وقولهم: - إن النكرة في سياق الإثبات لا تعم، بل هي للأفراد النوعية - غير مطرد، ويجوز أن يكون التنوين للأفراد الشخصية إشعارًا بأنه إذا
(١) روح البيان.
165
علمت حينئذٍ نفس من النفوس ما أحضرت.. وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي التي علمت ما أحضرت، فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه: لعلك ستندم على ما فعلت، وربما ندم الإنسان على ما فعل، فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو للوجود لا متيقن به، أو نادر الوقوع، بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمرًا يرجى فيه الندم، أو قلما يقع فيه، فكيف إذا كان قطعي الوجود كثير الوقوع.
والمراد بـ ﴿مَا أَحْضَرَتْ﴾: أعمالها من الخير والشر، وبحضورها: إما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها، وإما حضور أنفسها لأن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة، وإسناد حضورها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله، لما أنها عملتها في الدنيا كأنها أحضرتها في الموقف، ومعنى علمها بها حينئذٍ: أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة، فإن كانت صالحة.. تشاهدها على صور أحسن مما كانت تشاهدها عليه في الدنيا؛ لأن الطاعة لا تخلو فيها عن نوع مشقة، وقد ورد: "حفت الجنة بالمكاره"، وإن كانت سيئة تشاهدها على ما هي عليه هاهنا؛ لأنها كانت مزينة لها، موافقة لهواها، كما ورد: "وحفت النار بالشهوات". وقال بعضهم (١): العلم بالأعمال كناية عن المجازاة عليها من حيث إن العلم لازم للمجازاة.
والمعنى (٢): أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث السالفة.. تعلم كل ما كان من عملها متقبلًا، وما كان منه مردودًا عليها، فكثير من الناس كانوا في الحياة الدنيا مغرورين بما تزينه لهم الشياطين، وسيجدون أعمالهم يوم القيامة غير مقبولة ولا مرضي عنها، بل هي مبعدة من الله مستحقة لغضبه، فالذين يعملون أعمالهم رئآء الناس ليس لهم من عملهم إلا الجهد والمشقة، ولا تكون متقبلة عند ربهم، فعلينا أن ننظر إلى الأعمال بمنظار الشرع، ونزنها بميزانه الصحيح، والله لا يتقبل من الأعمال إلا ما صدر عن قلب مليء بالإيمان عامر بحبه والرغبة في رضاه، والحرص على أداء واجباته التي فرضها عليه.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
166
١٥ - ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ ﴿لا﴾ صلة؛ أي: زائدة، أورد لكلام سابق؛ أي: ليس الأمر كما تزعمون أيها الكفرة من أن القرآن سحر أو شعر أو أساطير، ثم ابتدأ فقال: أقسم ﴿بِالْخُنَّسِ﴾؛ أي: بالكواكب الرواجع من آخر الفلك إلى أوله
١٦ - ﴿الْجَوَارِ﴾؛ أي: التي تجري مع الشمس والقمر ﴿الْكُنَّسِ﴾؛ أي: التي تختفي تحت ضوء الشمس. والخنس: جمع خانس، وهو المتأخر، من خنس الرجل عن القوم خنوسًا - من باب دخل -: إذا تأخر، وأصل الخنس: الرجوع إلى خلف، والخناس: الشيطان؛ لأنه يضع خرطومه على قلب العبد، فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا غفل عاد إلى الوسوسة.
والمعنى: أقسم بالكواكب الرواجع من آخر الفلك إلى أوله، وهي ما عدا النيرين من السبعة السيارة، وهي الدراري الخمسة، وهي: زحل، ويسمى: كيوان أيضًا، وهو في السماء السابعة، والمشتري، ويسمى: راويس وبرجيس أيضًا، وهو في السماء السادسة، والمريخ - بكسر الميم -، ويسمى: بهرام أيضًا، وهو في السماء الخامسة، والشمس في الرابعة، والزهرة، وتسمى: أناهيذ أيضًا، وهي في السماء الثالثة، وعطارد، ويسمى: الكاتب أيضًا، وهو في السماء الثانية، والقمر في السماء الدنيا؛ أي: الأولى، ونظمها بعضهم في بيت واحد على ترتيبها في السموات:
زُحَلٌ شَرَى مِرِّيْخَهُ مِنْ شَمْسِهِ فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الأَقْمَارُ
وهي (١) الكواكب السبعة السيارة، كل منها يجري في فلك، فزحل في السابع، وما يليه في السادس، والجواري حذفت منه الياء في رسم المصحف تبعًا للفظ، جمع: جارية بمعنى: سائرة. و ﴿الْكُنَّسِ﴾: جمع كانس، وهو الداخل في الكناس؛ أي: في الحجاب والستارة المستتر به، وصفت الخنس بالجوار الكنس؛ لأنها تجري في أفلاكها، أو بأنفسها على ما عليه أهل الظواهر مع الشمس والقمر، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس، فخنوسها رجوعها بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرَّ راجعًا في أوله، فرجوعه من آخر البرج إلى أوله هو الخنوس، وكنوسها: اختفاؤها تحت ضوئها، وأما القمران.. فلا يكنسان بهذا المعنى، وقال
(١) روح البيان.
في "عين المعانى": لخنوسها في مجراها، واستتارها في كناسها؛ أي: في موضع استتارها فيه، كما تكنس الظباء. انتهى. من كنس الوحش - من باب جلس - إذا دخل كناسه، وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر، وقيل: جميع الكواكب تخنس بالنهار، فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل؛ أي: تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها، وقيل: المراد (١) بها: بقر الوحش؛ لأنها تتصف بالخنس وبالجوار وبالكنس. وقال عكرمة: الخنس البقر، والكنس الظباء، فهى تخنس إذا رأت الإنسان، وتنقبض وتتأخر وتدخل كناسها. وقيل: هي الملائكة، والأول أولى لذكر الليل والصبح بعد هذا.
ووجه تخصيص هذه الخمسة بالذكر من بين سائر النجوم: أنها تستقبل الشمس، وتقطع المجرة؛ أي: الفلك. وقال في "الصحاح": الخنس: الكواكب كلها؛ لأنها تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل؛ أي: تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها، وقد أقسم بها سبحانه لما في حركتها وظهورها طورًا، واختفائها طورًا آخر من الدلائل علي قدرة مصرفها، وبديع صنعه، وإحكام نظامه، ولله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان أو جماد، وإن لم يُعلم وجه الحكمة في ذلك، أما العبد.. فليس له ذلك، إذ لا يجوز له أن يقسم إلا بالله تعالى.
١٧ - ﴿وَاللَّيْلِ﴾ معطوف على ﴿الْخُنَّسِ﴾، ﴿إِذَا عَسْعَسَ﴾؛ أي: أدبر (٢) ظلامه، لأن إقبال الصبح يكون بإدبار الليل، كما قال في "الوسيط": لما كان طلوع الصبح متصلًا بإدبار الليل.. كان المناسب أن يفسر عسعس بأدبر؛ ليكون التعاقب في الذكر على حسب التعاقب في الوجود. انتهى. أو أقبل، فإنه من الأضداد كذلك سعسع، وذلك في مبدأ الليل، وهذا المعنى أنسب لمراعاة المقابلة مع قرينه، وقال المبرد: عسعس الليل: أقبل أو أدبر، وهو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره.
١٨ - ﴿وَالصُّبْحِ﴾ معطوف عليه ﴿إِذَا تَنَفَّسَ﴾، في: أضاء وأشرق، والعامل في ﴿إِذَا﴾ معنى القسم، و ﴿إِذَا﴾ وما بعدها في موضع الحال؛ أي: وأقسم بالليل مدبرًا،
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
وبالصبح مضيئًا، يقال: تنفس الصبح إذا تبلج؛ أي: أسفر وأضاء. جعل تنفس الصبح عبارةً عن طلوعه وانبساطه تحت ضوئه، بحيث زال معه عسعسة الليل، وهي الغبرة الحاصلة في آخره، والنفس في الأصل: ريح مخصوص يروح القلب ويفرج عنه بهبوبه عليه.
والمعنى (١): أي وأقسم بالليل إذا أدبر وولى، وفي إدباره زوال الغمة التي تغمر كثيرًا من الأحياء إذا ما دهمها الليل، وخيم عليها بظلامه المرهب المخيف، فإذا انجابت الظلمة وانحسر الليل وأدبر.. ارتاحت النفوس الخائفة، وتنفست باستقبال فجر جديد ويوم جديد، وأقسم بالصبح إذا أسفر وأضاء وظهر نوره في الوجود، وفي انشقاق الفجر وانبلاج ضوئه، وانفلاق صبحه بشرى للأنفس البشرية بحياة جديدة في نهار جديد، إذ تنطلق الإرادات لتحصيل الرغبات، وسد الحاجات، واستدراك ما فات، والاستعداد لما هو آت، بعملها الجديد في جنات معروشات، قال الزمخشري: إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفسًا له على سبيل المجاز كما سيأتي في مبحث البلاغة،
١٩ - ثم ذكر المحلوف عليه فقال: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: (٢) إن هذا القرآن الكريم الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة، فالضمير للقرآن، وإن لم يجر له ذكر للعلم به، أو إن ما أخبركم به محمد - ﷺ - من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة وغيرها. ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ﴾ عظيم، وسفير ﴿كَرِيمٍ﴾ بين الله سبحانه وبين رسله بسر وحيه هو جبريل عليه السلام، أتاه به من عند الله سبحانه إلى محمد - ﷺ -، ليس بكهانة ولا اختلاق من عند محمد - ﷺ -، بل هو قول نزل به جبريل وحيًا من ربه، فأضافه إلى جبريل الذي هو أمين وحيه، وهو في الحقيقة قول الله؛ لأنه جاء به من عند الله تعالى، فإسناده إليه باعتبار السببية الظاهرة في الإنزال والإيصال، ويدل على أن المراد بالرسول هو جبريل ما بعده من ذكر قوته ونحوها. قال السهيلي: ولا يجوز أن يراد بالرسول النبي - ﷺ -، وإن كان رسولًا كريمًا؛ لأن الآية نزلت في معرض الرد والتكذيب لمقالة الكفار الذين قالوا: إن محمدًا - ﷺ - تقوله، وهو قوله، فقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)﴾ جبريل الأمين عليه السلام. ووصفه بـ ﴿رَسُولٍ﴾؛ لأنه رسول عن الله إلى الأنبياء، ثم وصف هذا
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
الرسول بأوصاف خمسة (١):
١ - ﴿كَرِيمٍ﴾؛ أي: عزيز على ربه عظيم عنده، إذ أعطاه أفضل العطايا، وهي الهداية والإرشاد، وأمره أن يوصلها إلى أنبيائه ليبلغوها لعباده، وكذا كريم عند الناس؛ لأنه يجيء إليهم بواسطة الرسول بأفضل العطايا، وهو المعرفة والهداية، ويتعطف على المؤمنين ويقهر الأعداء.
٢ - ٢٠ ﴿ذِي قُوَّةٍ﴾ قوية في الحفظ والبعد عن النسيان والخطأ، وقد جاء في آية أخرى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥)﴾؛ أي: ذي (٢) قدرة شديدة على ما يكلف به، لا عجز ولا ضعف، روي أنه - ﷺ - قال لجبريل: "ذكر الله سبحانه قوتك، فأخبرني بشيء من آثارها" قال: رفعت قريات قوم لوط الأربع من الماء الأسود بقوادم جناحي، حتى سمع أهل السماء نباح الكلب، وأصوات الديكة، ثم قلبتها. ومن قوته: أنه صاح صيحةً واحدةً بثمود فأصبحوا جاثمين، وأنه يهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف، وأنه رأى شيطانًا يقال له: الأبيض صاحب الأنبياء، قصد أن يتعرض للنبي - ﷺ -، فدفعه دفعة رفيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند. وقيل: المراد بالقوة: القوة في أداء طاعة الله، وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف.
٣ - ﴿عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ﴾ وخالقه ومالكه، والظرف متعلق بقوله: ﴿مَكِينٍ﴾؛ أي: ذي مكانة رفيعة، ومنزلة عظيمة، وجاه عظيم عند مالك العرش وخالقه، فالعندية عندية إكرام وتشريف، لا عندية مكان وجهة، فإنه تعالى منزه عن أماثلها، ونظيره قوله: "أنا عند المنكسرة قلوبهم" فإن المراد به: القرب والإكرام، ومن مكانته عند الله تعالى ومرتبته أنه جعله تالي نفسه في قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ فله عظيم منزلة عندية، فأين منزلة من يلازم السلطان عند سرير الملك من مرتبة من يلازمه عند الوضوء ونحوه.
٤ - ٢١ ﴿مُطَاعٍ﴾ فيما بين الملائكة المقربين، يصدرون عن أمره، ويرجعون إلى رأيه لعلمهم بمنزلته عند الله تعالى، قال: في "فتح الرحمن": ومن طاعتهم له أنهم
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
فتحوا أبواب السماء ليلة المعراج بقوله لرسول الله - ﷺ -، وطاعة جبريل فريضة على أهل السموات؛ كما أن طاعة محمد - ﷺ - فريضة على أهل الأرض ﴿ثَمَّ﴾؛ أي: عند ذي العرش.
٥ - ﴿أَمِينٍ﴾ على سر وحيه، وتبليغ رسالته إلى أنبيائه قد عصمه الله تعالى من الخيانة فيما يبلِّغه، والزلل فيما يقوم به من الأعمال، و ﴿ثَمَّ﴾ بفتح المثلثة: ظرف مكان؛ إما لما قبله؛ أي: مطاع هناك؛ أي: في السموات، وإما لما بعده؛ أي: مؤتمن عند الله تعالى على وحيه ورسالاته إلى أنبيائه، فيكون إشارةً إلى عند ذي العرش؛ أي: أمين عند ذي العرش جل وعلا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿ثَمَّ﴾ بفتح المثلثة على أنها ظرف مكان للبعيد، والعامل فيها: ﴿مُطَاعٍ﴾ أو ما بعده كما مر آنفًا، وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو برهشيم وابن مقسم: ﴿ثَمَّ﴾ بضمها حرف عطف على أنها عاطفة للترتيب والتراخي في الرتبة؛ لأن ما بعدها أعظم مما قبلها، وقال صاحب "اللوامح": ﴿ثَمَّ﴾ هنا بمعنى الواو العاطفة لأن معنى المهلة والتراخي لا يصلح هنا، وذلك لأن جبريل عليه السلام كان متصفًا بالصفتين معًا في حال واحدة، فهو مطاع أمين معًا، فلو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى، ثم أمين عند انفصاله عنهم حال وحيه إلى الأنبياء عليهم السلام.. لجاز أن لو ورد به أثر. انتهى.
٢٢ - وبعد أن وصف الرسول وصف المرسل إليه، فقال: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ﴾ يا أهل مكة وهو رسول الله - ﷺ -، معطوف على جواب القسم، ولذا قال في "فتح الرحمن": وهذا أيضًا جواب القسم ﴿بِمَجْنُونٍ﴾؛ أي: صاحب جنون؛ أي: وليس (٢) محمد - ﷺ - بالمجنون، كما كانت ترميه قريش بذلك حين كانت تسمع منه غريب الأخبار عن اليوم الآخر، مما لم يكن معروفًا لهم، كما حكي عنهم في قوله: ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)﴾، وفي قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)﴾، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٤٦)}، وهذه الجملة داخلة في جواب القسم كما مر، فأقسم سبحانه بأن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدًا - ﷺ - ليس كما يقولون من أنه مجنون، وأنه يأتي بالقرآن من جهته، وفي التعرض لعنوان المصاحبة تلويح بإحاطتهم بتفاصيل أحواله - ﷺ - خبرًا، وعلمهم بنزاهته - ﷺ - عما نسبوه إليه بالكلية، واستدلال (١) عليهم، وإقامة للحجة على كذبهم في دعواهم، فإنه إذا كان صاحبهم، وكانوا قد خالطوه وعاشروه، وعرفوا عنه ما لم يعرفه سواهم من استقامة وصدق لهجة وكمال عقل ووفور حلم، وتفوق على جميع الأنداد والأتراب في صفات الخير.. لم يكن ادعاؤهم عليه ما يناقض ذلك إلا باطلًا من القول وزورًا.
وقد استدل بهذا (٢) على فضل جبريل عليه السلام على رسول الله - ﷺ -، حيث وصف جبريل بست خصال، كل واحدة منها تدل على كمال الشرف ونباهة الشأن، واقتصر في ذكر رسول الله - ﷺ - على نفي الجنون عنه، وبين الذكرين تفاوت عظيم.
ولكن هذا الاستدلال ضعيف؛ إذ المقصود هنا: رد قول الكفرة في حقه - ﷺ -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ لا تعداد فضائلهما، والموازنة بينهما، على أن في توصيف جبريل بهذه الصفات بيانًا لشرف سيد المرسلين بالنسبة إليه من حيث إن جبريل مع هذه الصفات هو الذي يؤيده، ويبلغ الرسالة إليه، فأي رتبة أعلى من مرتبته بعدما ثبت أن السفير بينه وبين ذي العرش مثل هذا الملك المقرب؟.
وقال سعدي المفتي: الكلام مسوق لحقية المنزل دلالة على صدق ما ذكر فيه من أهوال القيامة على ما يدل عليه الفاء السببية في قوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾، ولا شك أن ذلك يقتضي وصف الآتي، فلذلك بولغ فيه دون وصف من أنزل عليه، فلذلك اقتصر فيه على نفي ما بهتوه. انتهى.
٢٣ - واللام في قوله: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣)﴾ موطئة للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد رأى وأبصر محمد - ﷺ - جبريل عليه السلام على صورته الأصلية بالأفق المبين؛ أي: بمطلع الشمس الأعلى من قبل المشرق، فالمراد (٣) بالأفق هنا: حيث
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
تطلع الشمس، استدلالًا بوصفه بـ ﴿الْمُبِينِ﴾، فإن نفس الأفق لا مدخل له في تبين الأشياء وظهورها، وإنما يكون له مدخل في ذلك من حيث كونه مطلعًا لكوكب نير يبين الأشياء، والكوكب المبين هو الشمس، إسناد الإبانة إلى مطلعها مجاز باعتبار سببيته لها في الجملة، فإن البيان في الحقيقة لضياء الطالع منه، ثم خصَّ من بين المطالع ما هو أعلى المطالع وأرفعها، وهو المطلع الذي إذا طلعت الشمس منه تكون في غاية الارتفاع، والنهار في غاية الطول والامتداد، وذلك عندما تكون الشمس عند رأس السرطان قبل تحولها إلى برج الأسد، وتوجه النهار إلى انتقاص، وإنما فعل ذلك حملًا للمبين على الكمال، فإنه كلما كان الكوكب أرفع وأعلى، وكلما كان النهار أطول.. كان البيان والإظهار أتم وأكمل، وإنما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣)﴾ مع أنه قد رآه غير مرة؛ لأنه رآه هذه المرة في صورته، له ست مئة جناح. قال سفيان: إنه رآه في أفق السماء الشرقي، وقال ابن بحر: في أفق السماء الغربي، وقال مجاهد: رآه نحو أجياد، وهو مشرق مكة. روي أن الرسول - ﷺ -: سأل جبريل أن يتراءى له في صورته التي خلقه الله عليه، فقال: ما أقدر على ذلك، وما ذاك إليَّ، فأذن له، فأتاه عليها، وذلك في جبل حراء في أوائل البعثة، فرآه رسول الله - ﷺ - قد ملأ الآفاق بكُلْكُل - الكلكل بوزن هدهد: الجسم الكبير الغليظ - رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، وله ست مئة جناح من الزبرجد الأخضر، فغشي عليه - ﷺ -، فتحول جبريل في صورة بني آدم، وضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه، فقيل لرسول الله - ﷺ -: ما رأيناك منذ بعثت أحسن منك اليوم، فقال: "جاءني جبريل في صورته، فعلق بي هذا من حسنه". قالوا: ما رآه أحد من الأنبياء غيره - ﷺ - في صورته التي جبل عليها، فهو من خصائصه - ﷺ -. قيل: هذه الرؤية بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض في صورته، له ست مئة جناح، وقيل: هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى.
وقد ذكرت هذه الرؤية في سورة النجم في قوله: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤)﴾.
٢٤ - ﴿وَمَا هُوَ﴾؛ أي: وما محمد - ﷺ -، ﴿عَلَى الْغَيْبِ﴾، أي: على ما يخبره من الوحي إليه وغيره من الغيوب مما كان علمه غائبًا عن أهل مكة ﴿بِضَنِينٍ﴾؛ أي: ببخيل؛ أي: لا يبخل
173
بالوحي فيزوي بعضه غير مبلغه، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده عن أهله، حتى يأخذ حلوانًا؛ أي: أجرة، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه، وفيه إشارة إلى أن إمساك العلم عن أهله بخل، مأخوذ من ضن بالشيء يضن - بالفتح - ضنًا بالكسر وضنانة - بالفتح -: إذا بخل، فيكون من باب علم، كما سيأتي بسطه في مبحث التصريف.
وهكذا قرأ: ﴿بِضَنِينٍ﴾ بالضاد المعجمة عثمان وابن عباس أيضًا، والحسن وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة وجماعة غيرهم وجمهور السبعة: نافع وعاصم وحمزة وابن عامر. قال في "النشر": هو كذلك في جميع خطوط المصاحف التي يتداولها الناس، وقرأ عبد الله وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم، ومن السبعة: ابن كثير وأبو عمرو الكسائي: ﴿بظنين﴾ بالظاء المشالة على أنه فعيل بمعنى: مفعول، أي: بمتهم، من الظنة - بكسر الظاء -: وهي التهمة، واختار أبو عبيدة هذه القراءة؛ لأن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموه، فنفي التهمة أولى من نفي البخل، ولأن البخل يتعدى بالباء لا بعلى، والمعنى على هذه القراءة: أي: وليس محمد بمتهم على القرآن، وما فيه من قصص وأنباء وأحكام، بل هو ثقة أمين، لا يأتي به من عند نفسه، ولا يبدل منه حرفًا بحرف، ولا معنى بمعنى، إذ لم يعرف عنه الكذب في ماضي حياته، فهو غير متهم فيما يحكيه عن رؤية جبريل، وسماع الشرائع منه، وفي "الكشاف": هو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبي بالضاد، وكان رسول الله - ﷺ - يقرأ بهما، ولابد للقارىء من معرفة مخرجي الضاد والظاء، فإن مخرج الضاد: من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، ومخرج الظاء: من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا.
فإن قيل (١): فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكانه، فهل تبطل الصلاة؟.
قلنا: قال في "المحيط البرهاني": إذا أتى بالظاء مكان الضاد، أو على العكس، فالقياس أن تفسد صلاته، وهو قول عامة المشايخ، وقال مشايخنا بعدم الفساد للضرورة في حق العامة، خصوصًا العجم، فإن أكثرهم لا يفرقون بين الحرفين، وإن فرقوا ففرقًا غير صواب.
(١) روح البيان.
174
وفي "الخلاصة": لو قرأ بالظاء مكان الضاد، أو بالضاد مكان الظاء تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد، وأما عند عامة المشايخ كأبي مطيع البلخي، ومحمد بن سلمة، لا تفسد صلاته.
٢٥ - ثم نفى عنه فرية أخرى كانوا يتقولونها عليه، فقال: ﴿وَمَا هُوَ﴾؛ أي: وما هذا القرآن ﴿بِقَوْلِ شَيْطَانٍ﴾ من الشياطين المسترقة للسمع المرجومة بالشهب ﴿رَجِيمٍ﴾؛ أي: مطرود من رحمة الله تعالى، مرمي بالشهب. قال الكلبي: يقول: إن القرآن ليس بشعر ولا كهانة، كما قالت قريش. قال عطاء: يريد بالشيطان: الشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبي - ﷺ - في صورة جبريل، يريد أن يفتنه، وهو الذي يأتي الأنبياء لافتتانهم.
والمعنى (١): أي وما هذا الذي يتكلم به محمد - ﷺ - بقول ألقاه الشيطان على لسانه حين خالط عقله، كما تزعمون، فإنه قد عرف بصحة العقل، وبالأمانة على الغيب، فلا يكون ما يحدِّث به من خبر الآخرة والجنة والنار من قول الشياطين.
وقد حكى الله سبحانه على الأمم جميعًا أنهم رموا أنبياءهم بالجنون، فقال: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢)﴾،
٢٦ - ثم ذكر أنهم قوم قد ضلوا طريق التدبر، وجهلوا سبيل الحكمة، فقال: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦)﴾ وهذا (٢) استضلال لهم فيما يسلكونه من أمر القرآن، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ظهور أنه وحي مبين، وليس مما يقولون في شيء، كما تقولون لمن ترك الجادة بعد ظهورها: هذا الطريق الواضح، فأين تذهب؟ شبهت حالهم بحال من يترك الجادة، وهو معظم الطريق، ويتعسف إلى غير المسلك، فإنه يقال له: أين تذهب؟ استظلالًا له، وإنكارًا على تعسفه، فقيل لمن يقول في حق القرآن ما لا ينبغي بعد وضوح كونه وَحْيًا حقًا: أيَّ طريق تسلكون آمن من هذه الطريقة التي ظهرت حقيقتها، ووضحت استقامتها و ﴿أين﴾ ظرف مكان مبهم منصوب بـ ﴿تَذْهَبُونَ﴾، قال أبو البقاء: التقدير: إلى أين تذهبون؟ فحذف حرف الجر، ويجوز أن لا يصار إلى الحذف، بل إلى طريق التضمين، فكأنه قيل: أين تؤمون؟
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): فأي سبيل تسلكونها، وقد سدت عليكم السبل، وأحاط بكم الحق من جميع الجوانب، وبطلت مفترياتكم، فلم يبق لكم سبيل تستطيعون الهرب منها.
٢٧ - ثم بين حقيقة القرآن، فقال: ﴿إِنْ هُوَ﴾: ﴿إِنْ﴾: نافية، والضمير عائد إلى القرآن؛ أي: ما هذا القرآن ﴿إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾؛ أي: موعظة وتذكير لهم، والمراد الإنس والجن بدلالة العقل، فإنهم المحتاجون إلى الوعظ والتذكير.
والمعنى: أي: وما هذا القرآن إلا عظة للخلق كافة، يتذكرون بها ما غرز في طباعهم من حب الخير، وإنما أنساهم ذكره ما طرأ عليهم بمقتضى الإلف والعادة من ملكات السوء التي تحدثها أمراض البيئة والمجتمع، والقدوة السيئة.
٢٨ - ثم بين أنه لا ينتفع بهذه النظم كل العالمين فقال: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ﴾ أيها المكلفون بالإيمان والطاعة، وهو (٢) بدل من ﴿العالمين﴾ بإعادة الجار، بدل البعض من الكل، ولا تخالف بين الأصل، المتبوع والفرع التابع؛ لأن الأول باعتبار الذات، والثاني باعتبار التبع. وقوله: ﴿أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ مفعول المشيئة؛ أي: لمن شاء منكم الاستقامة والثبات على الحق والإيمان والطاعة، وإبداله من ﴿العالمين﴾ مع أنه ذكر شامل لجميع المكلفين؛ لأنهم هم المنتفعون بالتذكير دون غيرهم، فكأنه مختص بهم، ولم يوعظ به غيرهم.
والمعنى (٣): أنه ذكر يتذكر به من وجه إرادته للاستقامة على جادة الحق والصواب، أما من انحرف عن ذلك.. فلا يؤثر فيه هذا الذكر، ولا يخرجه من غفلته.
والخلاصة: أن على مشيئة المكلف تتوقف الهداية، وقد فرض عليه أن يوجه فكره نحو الحق، ويطلبه ويجد في كسب الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
٢٩ - ثم رفع توهم أن إرادة الإنسان مستقلة في فعل ما يريد، وله الاختيار التام فيما يفعل، وهو منقطع العلاقة في إرادته من سلطان ربه، فقال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ﴾؛
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
176
أي (١): الاستقامة مشيئةٌ مستتبعةٌ لها في وقت من الأوقات، يا من يشاؤها، وذلك أن الخطاب في قوله: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ﴾ يدل على أن منهم من يشاء الاستقامة، ومنهم من لا يشاؤها، فالخطاب هنا لمن يشاؤها منهم، يروى أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨)﴾. قال: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ﴾ إلخ. ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى من إقامة المصدر موقع الزمان؛ أي: إلا وقت أن يشاء الله تعالى تلك المشيئة المستتبعة للاستقامة، فإن مشيئتكم لا تستتبعها بدون مشيئة الله لها؛ لأن المشيئة الاختيارية مشيئة حادثة، فلابد لها من محدث، فيتوقف حدوثها على أن يشاء محدثها إيجادها، فظهر أن فعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة، وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فأفعال العباد ثبوتًا ونفيًا موقوفة الحصول على مشيئة الله، كما عليه أهل السنّة. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: مالك الخلق ومربيهم أجمعين بالأرزاق الجسمانية والروحانية، وفي الحديث القدسي: "يا ابن آدم، تريد وأريد، فتتعب فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد"، قال وهب بن منبه: قرأت في كتب كثيرة: مما أنزل الله على الأنبياء "إنه من جعل إلى نفسه شيئًا من المشيئة.. فقد كفر". قال أبو بكر الواسطي رحمه الله: أعجزك في جميع صفاتك، فلا تشاء إلا في مشيئته، ولا تعمل إلا بقوته، ولا تطيع إلا بفضله، ولا تعصي إلا بخذلانه، فماذا يبقى لك، وبما تفتخر من أعمالك، وليس منها شيء إليك إلا بتوفيقه. انتهى.
والمعنى (٢): أي إنَّ إرادتكم الخير لا تحصل لديكم إلا بعد أن يخلقها الله تعالى فيكم بقدرته الموافقة لإرادته، فهو الذي يودع فيكم إرادة فعل الخير، فتنصرف هممكم إليه، ولو شاء لسلبكم هذه الإرادة، وجعلكم كالحيوانات لا إرادة لها. وفي قوله: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ بيان لعلة هذا؛ فإنه لما كان رب العالمين هو الذي مَنَحَكُم كل ما تتمتعون به من القوى كالإرادة وغيرها، وهو صاحب السلطان عليكم.. كانت إرادتكم مستندة إلى إرادته، وخاضعة لسلطانه، فلو شاء أن يوجهها إلى غير ما
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
177
وجهت له.. توجهت، ولو شاء أن يمحوها.. محيت، فله الأمر وله الحكم، وهو على كل شيء قدير.
والخلاصة: وما تشاؤون الاستقامة يا من شاؤوها في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تعالى إياها منكم.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾، وقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، والآياتُ القرآنية في هذا المعنى كثيرة.
الإعراب
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤)﴾.
﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية متعلق بالجواب، وجوابها في الاثني عشر موضعًا التي وقعت فيها.. قوله الآتي: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤)﴾. ﴿الشَّمْسُ﴾: نائب فاعل مرفوع على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده تقديره: إذا كورت الشمس كورت، وإلى هذا جنح الزمخشري، ومنع الرفع على الابتداء؛ لأن ﴿إِذَا﴾ تقتضي الفعل لما فيها من معنى الشرط، وجوز ما منعه الزمخشري الكوفيون، والأخفش من البصريين، والجملة المحذوفة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، وجوابها جملة ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾ الآتي، ﴿كُوِّرَتْ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿الشَّمْسُ﴾، والجملة جملة مفسرة للمحذوفة لا محل لها من الإعراب. ﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿النُّجُومُ﴾: مرفوع على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا تقديره: وإذا انكدرت النجوم، والجملة المحذوفة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، وجوابها ﴿عَلِمَتْ﴾ الآتي، وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿إذا﴾
178
المذكورة قبلها، وجملة ﴿انْكَدَرَتْ﴾ مفسرة للمحذوف، لا محل لها من الإعراب. وكذا جملة قوله: ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤)﴾ معطوفة على جملة ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾، والتقدير فيهما: وإذا سيرت الجبال سيرت، وإذا عطلت العشار عطلت، وكذا الجمل في قوله: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥)﴾ ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨)﴾ معطوفات على قوله: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾، والتقدير فيها: وإذا حشرت الوحوش حشرت، وإذا سجرت البحار سجرت، وإذا زوجت النفوس زوجت، وإذا سئلت المؤودة سئلت، فهي مماثلة لها في إعرابها المتقدم. ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿قُتِلَتْ﴾، وجملة ﴿قُتِلَتْ﴾ سدت مسد المفعول الثاني لـ ﴿سُئِلَتْ﴾، والجمل في قوله: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣)﴾ معطوفات على ما تقدم أيضًا، والتقدير فيها: وإذا نشرت الصحف نشرت، وإذا كشطت السماء كشطت، وإذا سعرت الجحيم سعرت، وإذا أزلفت الجنة أزلفت. ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾ الشرطية في المواضع المذكورة، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ الأولى مستأنفة استئنافًا نحويًا لا محل لها من الإعراب، وما بعدها معطوفة عليها. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿عَلِمَتْ﴾؛ لأن العلم هنا عرفانية، وجملة: ﴿أَحْضَرَتْ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة لا محل لها من الإعراب.
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١)﴾.
﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾. استئنافية ﴿لا﴾: زائدة لتأكيد القسم ﴿أُقْسِمُ﴾: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنا، والجملة الفعلية جملة قسم مستأنفة لا محل له من الإعراب ﴿بِالْخُنَّسِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُقْسِمُ﴾. ﴿الْجَوَارِ﴾: صفة لـ ﴿الخنس﴾ أو بدل منه، والصفة تتبع الموصوف تبعه بالجر، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها الثقل لأنه اسم منقوص، وحذفت الياء خطًا تبعًا لحذفها في اللفظ. ﴿الْكُنَّسِ﴾: نعت لـ ﴿الْجَوَارِ﴾ مجرور بالكسرة، ﴿وَاللَّيْلِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿اللَّيْلِ﴾ معطوف على ﴿الْخُنَّسِ﴾، أو يقال: ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم، ﴿اللَّيْلِ﴾: مجرور بواو القسم،
179
الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالليل. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط ﴿عَسْعَسَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّيْلِ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، والظرف متعلق بفعل القسم المحذوف؛ أي: أقسم بالليل وقت عسعسته، ﴿وَالصُّبْحِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة على ﴿اللَّيْلِ﴾، أو واو قسم، ﴿الصُّبْحِ﴾: مقسم به مجرور بواو القسم ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط ﴿تَنَفَّسَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿وَالصُّبْحِ﴾، والجملة في محل الجر بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، والظرف متعلق بفعل القسم المحذوف؛ أي: وأقسم بالصبح وقت تنفسه. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَقَوْلُ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿قول﴾: خبر ﴿إن﴾ ﴿رَسُولٍ﴾: مضاف إليه ﴿كَرِيمٍ﴾: صفة أولى لـ ﴿رَسُولٍ﴾، وجملة ﴿إن﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وفي قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨)﴾ أقوال متلاطمة في إعرابها ضربت عنها صفحًا؛ لأنه لا طائل تحتها، فلترجع إلى الكتب الباحثة عنها إن شئت. ﴿ذِي قُوَّةٍ﴾ صفة ثانية لـ ﴿رَسُولٍ﴾، ﴿عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من ﴿مَكِينٍ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، فأعربت حالًا. ﴿مَكِينٍ﴾ صفة ثالثة ﴿مُطَاعٍ﴾ صفة رابعة ﴿ثَمَّ﴾ ظرف مكان بمعنى هناك، متعلق بـ ﴿مُطَاعٍ﴾ أو بـ ﴿أَمِينٍ﴾. ﴿أَمِينٍ﴾ صفة خامسة لـ ﴿رَسُولٍ﴾.
﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٢٧)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿مَا﴾: نافية حجازية، ﴿صَاحِبُكُمْ﴾: اسمها، ﴿بِمَجْنُونٍ﴾: خبرها، و ﴿الباء﴾ زائدة، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧)﴾ على كونها جواب القسم، ﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿رَآهُ﴾: ﴿رأى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، و ﴿الهاء﴾: ضمير عائد على جبريل في محل النصب مفعول به لـ ﴿رأى﴾؛ لأن رأى هنا بصرية. ﴿بِالْأُفُقِ﴾: متعلق بـ ﴿رأى﴾. ﴿الْمُبِينِ﴾: صفة لـ ﴿الْأُفُقِ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)﴾ على كونها جواب القسم، ﴿وما﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿مَا﴾: حجازية، ﴿هُوَ﴾ في محل الرفع اسمها ﴿عَلَى الْغَيْبِ﴾ متعلق بـ ﴿ضنين﴾،
180
﴿عَلَى﴾ بمعنى: الباء، و ﴿بِضَنِينٍ﴾: خبر ﴿مَا﴾، و ﴿الباء﴾ زائدة، والجملة معطوفة أيضًا على جواب القسم، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿مَا﴾: حجازية ﴿هُوَ﴾: اسمها، ﴿بِقَوْلِ﴾: خبرها، و ﴿الباء﴾ زائدة ﴿شَيْطَانٍ﴾: مضاف إليه ﴿رَجِيمٍ﴾: صفة ﴿شَيْطَانٍ﴾، والجملة معطوفة أيضًا على جواب القسم، ﴿فَأَيْنَ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿أَيْنَ﴾: اسم استفهام عن المكان المبهم في محل النصب على الظرفية مبني على الفتح، والظرف متعلق بـ ﴿تَذْهَبُونَ﴾، و ﴿تَذْهَبُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿إِنْ﴾: نافية ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر ﴿ذِكْرٌ﴾: خبر ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾: متعلق بـ ﴿ذِكْرٌ﴾، أو نعت له، والجملة مستأنفة، ﴿لِمَنْ﴾: بدل من قوله: ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ بإعادة الجار، وجملة ﴿شَاءَ﴾ صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة لا محل من الإعراب، ﴿مِنْكُمْ﴾: حال من فاعل ﴿شَاءَ﴾، وجملة ﴿أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿شَاءَ﴾؛ أي: لمن شاء منكم استقامته. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَا﴾ نافية ﴿تَشَاءُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء من أعم الأوقات ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿يَشَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾: بدل من الجلالة، أو نعت له، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه، والظرف المقدر منصوب على الاستثناء من أعم الأوقات، والتقدير: وما تشاؤون في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تعالى إياها؛ أي: مشيئتكم الاستقامة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾؛ أي: لفت وذهب بضوئها، وفي "المصباح": كار الرجل العمامة كورًا - من باب قال - أدارها على رأسه، وكل دور كور تسمية بالمصدر، والجمع: أكوار مثل ثوب وأثواب، وكورها بالتشديد مبالغةً، ومنه يقال: كورت الشيء إذا لففته على وجه الاستدارة، وقوله تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾ المراد به: طويت كطي السجل: وعبارة الزمخشري في التكوير وجهان:
أولًا: أن يكون من كورت العمامة إذا لففتها؛ أي: يلف ضوؤها لفًا، فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها؛ لأنها ما دامت
181
باقيةً كان ضياؤها منبسطًا غير ملفوف.
ثانيًا: أو يكون لفها عبارةً عن رفعها وسترها؛ لأن الثوب إذا أريد رفعه لف وطوي، ونحوه قوله: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ﴾، وأن يكون من: طعنه فجوره وكوره إذا ألقاه؛ أي: تلقى وتطرح عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار. ويتلخص مما أوردته معاجم اللغة ما يلي: وكار العمامة على رأس يكور كورًا إذا لفها وأدارها، وكور الله الليل على النهار: أدخل هذا في هذا، وكورت الشمس: جمع ضوؤها، ولف كما تلف العمامة. قيل: اضمحلت وذهبت.
﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢)﴾؛ أي: انقضت وتساقطت على الأرض، والأصل في الانكدار: الانصباب، وقال أبو عبيدة: انكدرت: انصبت، كما تنصب العقاب إذا كسرت، فانكدار النجوم: انتشارها وتساقطها حتى تذهب ويمحى ضوؤها.
﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣)﴾ وتسيير الجبال يكون حين الرجفة التي تزلزل الأرض، فتقطع أوصالها، وتفصل منها جبالها، وتقذفها في الفضاء. والسير: المضي في الأرض، والسير ضربان: باختيار وإرادة من السائر، نحو: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ﴾، وبقهر وتسخير، كتسيير الجبال.
﴿وَإِذَا الْعِشَارُ﴾ جمع عشراء - بضم العين وفتح الشين - النوق الحوامل، كالنفاس في جمع النفساء، وليس فعلاء يجمع على فعال غير عشراء ونفساء، كما في "القاموس". والعشراء: هي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنّة، وهي أنفس ما يكون عند أهلها، وروي أنه - ﷺ - مر في أصحابه بعشار من النوق، فغض بصره، فقيل له: هذه أنفس أموالنا، فلم تنظر إليها؟ فقال: "قد نهاني الله عن ذلك" ثم تلا: " ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ...﴾ الآية". قال الأعشى في المدح:
هُوَ الْوَاهِبُ الْمِئَةِ الْمَصْطَفَا ةِ إِمَّا مَخَاضًا وَإِمَّا عِشَارَا
﴿عُطِّلَتْ﴾؛ أي: تركت معطلة مهملة غير منظور إليها، وتعطيلها: إهمالها، وذهابها حيث تشاء؛ لعظم الهول وشدة الكرب، من التعطيل: وهو التفريع والإهمال.
﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ﴾ جمع وحش، والوحش: حيوان البر الذي ليس في طبعه
182
التآنس ببني آدم، يجمع على: وحوش ووحشان، والواحد: وحشي كما مر عن "القاموس". والأهليّ: خلاف الوحشي.
﴿حُشِرَتْ﴾؛ أي: جمعت واختلط بعضها ببعض من هول ذلك اليوم، أو ماتت وهلكت.
﴿سُجِّرَتْ﴾ يقال: سجر التنور يسجر سجرًا - من باب نصر -: إذا ملأه وقودًا وأحماه، وسجر الماء النهر إذا ملأه، وسجر البحر: فاض، وسجر الماء في حلقه: صبه، وسجر الكلب: سنده بالساجور، وسجر الشيء: أرسله، هذا ما ذكرته معاجم اللغة بصدد هذه المادة، وكلب مسجور: أي مطوق بالساجور، وهو طوق من حديد، مسمر بمسامير حديدة الأطراف، وقد أحصى القرطبي الأقوال في تسجير البحار كمادته، ونشير إليها بإيجاز: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦)﴾؛ أي:
١ - ملئت من الماء، فيفيض بعضها إلى بعض، فتصير شيئًا واحدًا.
٢ - وقيل: أرسل عذبها على مالحها حتى امتلأت.
٣ - وقيل: صارت بحرًا واحدًا.
٤ - وقيل: يبست فلا يبقى من مائها قطرة.
٥ - وقيل: أوقدت فصارت نارًا.
٦ - وقيل: هي حمرة مائها حتى تصير كأنها الدم.
﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧)﴾؛ أي: قرنت الأرواح بأجسادها.
﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨)﴾ والموءودة: هي التي دفنت وهي صغيرة، وقد كان ذلك عادة فاشية في جاهلية العرب، وكان ذوو الشرف منهم يمنعون من هذا، حتى افتخر بذلك الفرزدق فقال:
وَجَدِّيْ الَّذِيْ مَنَعَ الْوَائِدَا تِ وَأَحْيَا الْوَئِيْدَ فَلَمْ يُوْءَدِ
والفرزدق: هو أبو فراس همام بن غالب بن صعصعة، افتخر بجده صعصعة، إذ كان منع وأد البنات، وكان يشتريهن من آبائهن، فجاء الإِسلام وقد أحيا سبعين موؤودة، قال في "الأساس": وأد ابنته: أثقلها بالتراب، وأصله من الثقل، كأنها تثقل من التراب حتى تموت، ومنه: اتئد؛ أي: توفر وأثقل، فالابنة وئيد ووئيدة
183
وموءودة. وقال الزمخشري في "الكشاف": وأد يئد مقلوب من آد يؤود: إذا أثقل، قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾؛ لأنه إثقال بالتراب.
﴿وَإِذَا الصُّحُفُ﴾ والمراد بالصحف: صحف الأعمال الذي تنشر على العباد حين يقفون للحساب.
﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١)﴾؛ أي: كشفت وأزيلت عما فوقها، كما يكشط جلد الذبيحة عنها. قال الراغب: هو من كشط الناقة؛ أي: تنحية الجلد عنها، والكشط: التقشير، يقال: كشطت جلد الشاة. سلخته عنها.
﴿سُعِّرَتْ﴾؛ أي: أوقدت إيقادًا شديدًا. ﴿أُزْلِفَتْ﴾؛ أي: أدنيت من أهلها وقربت منهم.
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥)﴾ جمع: خانس، وهو المنقبض المستخفي، يقال: خنس فلان بين القوم إذا انقبض واختفى، والخنوس: الانقباض والاستخفاء، وبابه: دخل، وفي "الصحاح": الخنس: الكواكب كلها؛ لأنها تخنس في المغيب، ولأنها تخفى نهارًا.
﴿الْجَوَارِ﴾ جمع: جارية؛ أي: سائرة، حذفت ياؤه في رسم المصحف تبعًا للفظ.
﴿الْكُنَّسِ﴾ جمع كانس أو كانسة، من قولهم: كنس الظبي كنوسًا - من باب نزل - إذا دخل كناسه بكسر الكاف، وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر، وتكنس الظبي: تغيب واستمر في كناسه، وتكنس الرجل: دخل في الخيمة، وتكنست المرأة: دخلت في الهودج. والمراد ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦)﴾: جميع الكواكب، وخنوسها: غيوبتها عن البصر نهارًا، وكنوسها: ظهورها للبصر ليلًا، فهي تظهر في أفلاكها، كما تظهر الظباء في كنسها.
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧)﴾؛ أي: أقبل بظلامه أو أدبر. قال الفراء: عسعس الليل وعسعس: إذا لم يبق منه إلا القليل. وقال الخليل: عسعس الليل: أقبل وأدبر.
﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨)﴾؛ أي: أسفر، وظهر نوره. قال علقمة بن قرط:
184
وقال رؤبة:
حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا
يَا هِنْدُ مَا أسْرَعَ مَا تَسَعْسَعَا مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ فَتَى سَرَعْرَعَا
والتنفس: خروج النسيم من الجوف، واستعير للصبح، ومعناه: امتداده حتى يصير نهارًا واضحًا. ﴿رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ فكريم صفة تقتضي نفي المذام كلها، وإثبات صفات المدح اللائقة به. ﴿أَمِينٍ﴾؛ أي: مقبول القول يصدق فيما يقوله، مؤتمن على ما يرسل به من الوحي. اهـ من "البحر".
﴿مَكِينٍ﴾؛ أي: ذي مكانة وجاه عند ربه، يعطيه ما سأله، يقال: مكن فلان لدى فلان إذا كانت له عنده حظوة ومنزلة.
﴿مُطَاعٍ﴾: اسم مفعول من أطاع الرباعي، أصله: مطوع بوزن مفعل، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال.
﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤)﴾ الظنين: المتهم، فعيل بمعنى مفعول يقال: ظننت الرجل اتهمته، والضنين: البخيل، قال الشاعر:
أَجُوْدُ بِمَكْنُوْنِ الْحَدِيْثِ وَإِنَّنِيْ بِسِرِّكَ عَنْ مَا سْأَلْتَنِي لَضَنِيْنُ
﴿رَجِيمٍ﴾: مرجوم مطرود من رحمة الله تعالى.
﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦)﴾؛ أي: أي مسلك تسلكون، وقد قامت عليكم الحجة؟
﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨)﴾؛ أي: يثبت على الطريق الواضح، وأصل ﴿شَاءَ﴾: شيء بوزن فعل بكسر العين، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح، وأصل ﴿يَسْتَقِيمَ﴾: يستقوم، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مد.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾؛ لأن تكويرها
185
عبارة عن إزالة نورها، والذهاب بها بحكم التزام زوال اللازم لزوال الملزوم، وفيه استعارة تصريحية تبعية؛ لأن التكوير حقيقة في تكوير الثوب والعمامة ولفها، فاستعير لإزالة ضوء الشمس بجامع الستر في كل، وكذا قوله: ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣)﴾؛ لأن السير حقيقة في الذهاب في الأرض والمضي فيها، فاستعير لإعدام الجبال وإزالتها عن مكانتها.
ومنها: توجيه السؤال إلى الموءودة في قوله: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨)﴾.. لتسليتها، وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها، وإسقاطه عن درجة الخطاب، والمبالغة في تبكيته، ولذا لم يسأل الوائد عن موجب قتله لها، فإن سؤالها أفظع في ظهور جناية القاتل، وإلزام الحجة عليه، فإنه إذا قيل للموءودة: إن القتل لا يجوز إلا لذنب عظيم، فما ذنبك، وبأي ذنب قتلت؟ كان جوابها: إني قتلت بغير ذنب، فيفتضح القاتل ويصير مبهوتًا. اهـ "زاده".
ومنها: تنكير ﴿نَفْسٌ﴾ في قوله: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤)﴾؛ لإفادة العموم، وقد يعترض معترض بأن النكرة لا تفيد العموم إلا إذا كانت في سياق النفي، وهي هنا واقعة في سياق الإثبات، فلا تفيد العموم، بل تفيد الإفراد والنوعية، فكيف يتفق الإفراد مع العموم الذي يناسبه المقام؟ فالجواب: أن كونها للعموم في سياق النفي دون الإثبات أغلبي لا كلي، فلا ينافي أنه قد يقصد بها العموم في سياق الإثبات بقرينة المقام كما هنا، وقد يجاب هنا بجواب آخر: وهو أن النكرة هنا وقعت في سياق الشرط، وسياق الشرط كسياق النفي في أن النكرة للعموم إذا وقعت في كل منهما.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿الْخُنَّسِ﴾ و ﴿الْكُنَّسِ﴾، وفي الكلمتين أيضًا فن الالتزام، وهو لزوم النون فيهما قبل السين.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨)﴾ فقد شبه الليل بإنسان يقبل ويدبر، ثم حذف المشبه به، وأخذ منه شيئًا من لوازمه، وهو لفظ عسعس؛ أي: أقبل وأدبر، كما شبه الصبح بحيوان حي يتنفس، فحذف المشبه به، وأتى بشيء من لوازمه، وهو التنفس؛ أي: خروج النفس من الجوف، أو يقال: إنه شبه الليل بالمكروب الحزين الذي حبس بحيث لا يتحرك، فإذا تنفس وجد راحته، وهنا لما
186
طلع الصبح، فكأنه تخلص من الحزن كلية، فعبر عن ذلك بالتنفس.
ومنها: إسناد القول إلى جبريل في قوله: ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ فإسناد القول إليه باعتبار السببية الظاهرة في الإنزال والإيصال على أن المراد بالرسول هو جبريل.
ومنها: التعرض لعنوان المصاحبة في قوله: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢)﴾ للتلويح بإحاطتهم بتفاصيل أحواله - ﷺ - خبرًا، وعلمهم بنزاهته عما نسبوه إليه بالكلية، فإنه كان بين أظهرهم في مدد طويلة، وقد جربوا عقله، فوجدوه أكمل الخلائق فيهم، ولقبوه بالأمين الصادق.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ فإن إسناد الإبانة إلى مطلع الشمس مجازي باعتبار المحلية لها، فإن الإبانة في الحقيقة لضياء الطالع منه كما مر.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦)﴾ حيث شبه حالهم بحال من يترك الجادة وسلك غيرها، فإنه يقال له: أين تذهب؟ استظلالًا له وإنكارًا على تعسفه كما مر.
ومنها: الطباق بين لفظ ﴿الْجَحِيمُ﴾ و ﴿الْجَنَّةُ﴾.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿أَمِينٍ﴾ و ﴿مَكِينٍ﴾.
ومنها: توافق الفواصل رعاية لرؤوس الآيات مثل ﴿كُوِّرَتْ﴾، ﴿سُيِّرَتْ﴾ ﴿سُجِّرَتْ﴾، ﴿سُعِّرَتْ﴾، ومثل ﴿الْخُنَّسِ﴾ و ﴿الْكُنَّسِ﴾ ومثل: ﴿عَسْعَسَ﴾ و ﴿تَنَفَّسَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
187
خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الموضوعات
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - أهوال يوم القيامة.
٢ - الإقسام بالنجوم وبالليل وبالصبح، على أن القرآن منزل من عند الله تعالى بوساطة رسول كريم.
٣ - إثبات نبوة محمد - ﷺ -.
٤ - بيان أن القرآن عظة وذكرى لمن أراد الهداية، وتوجهت نفسه إلى فعل الخير.
٥ - مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله سبحانه، وليس لها استقلال بالعمل (١).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
* * *
(١) كان الفراغ من سورة التكوير بعون الملك القدير في أوساط شهر شعبان المبارك في يوم الأربعاء قبيل الغروب، اليوم التاسع عشر منه من شهور سنة: ١٩/ ٨/ ١٤١٦ هـ ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات والتسليمات والصلات.
188
سورة الانفطار
سورة الانفطار مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة النازعات، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾ بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وآياتها: تسع عشرة آية، وكلماتها: ثمانون كلمة، وحروفها: ثلاث مئة وسبعة وعشرون حرفًا.
مناسبتها لما قبلها: أن الكلام في السابقة في البحث عن أهوال يوم القيامة، وهذه أيضًا، افتتحت بمثل ذلك ليتصل الكلام فيهما اتصال النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه، وكلها محكم، فليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
ومما ورد في فضلها: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي - ﷺ - قال: "من سره أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾، و ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾، و ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾ "، ومنه ما أخرجه النسائي عن جابر قال: قام معاذ فصلى العشاء فطول، فقال النبي - ﷺ -: "أفتَّان أنت يا معاذ؟ أين أنت عن سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، وإذا السماء انفطرت؟ ". وأصل الحديث في الصحيحين، ولكن بدون ذكر: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾، وقد تفرد بها النسائي، وسميت بسورة الانفطار: أخذًا من مبدئها، وقد اشتملت هذه السورة على الكلام في البعث، والتذكير بيوم القيامة، وإن النفس تشهد فيه ما عملت، وعلى مناقشة الإنسان في شأن مخالفته لربه، وتماديه في فجوره مع أنه عَزَّ وَجَلَّ صاحب نعم جليلة عليه، وقد جعل له شهودًا عليه أو له، وهم عدول.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
189

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (١٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)﴾.
المناسبة
افتتح (١) سبحانه هذه السورة بمثل ما افتتح به سابقتها من ذكر أمور تحدث حين خراب هذا العالم، وتكون مقدمة ليوم العرض والحساب والجزاء، وهو يوم القيامة، منها أمران علويان هما: انفطار السماء، وانتثار الكواكب. وأمران سفليان هما: تفجير البحار، وبعثرة القبور. ثم أبان أنه في ذلك اليوم تتجلى للنفوس أعمالها على حقيقتها، فلا ترى خيرًا في صورة شر، ولا تتخيل شرًا في مثال خير، كما يقع في الدنيا لأغلب النفوس، فيعرف أهل الخير أنهم وإن نجوا مقصرين، فيأسفون على ما تركوا، ويستبشرون بما عملوا، ويعض أهل السوء بنان الندم، ويوقنون بسوء المنقلب، ويتمنون أن لو كانوا ترابًا.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في صدر السورة: أنه في يوم القيامة يبدل نظام هذا العالم، ويسأل الخلائق عما قدمت أيديهم، ويحاسبهم على ما اقترفوا من آثام، ويقرعهم على تكاسلهم في أداء ما أمروا به، ويجزيهم أحسن الجزاء على ما قدموا من عمل صالح.. أردف هذا بخطاب الإنسان، واستفساره عما دعاه إلى مخالفة خالقه، وتماديه في فجوره وطغيانه، واسترساله مع دواعي النفس الأمارة بالسوء،
(١) المراغي.
190
مع أنه لو تدبر في نفسه، وفي خلقه.. لوجد من شواهد ربوبية خالقه ما هو جدير بشكرانه، ومداومته على طاعته، وهو الذي خلقه فسواه، وجعله على أحسن صورة، وكمله بالعقل والفهم والتدبر في عواقب الأمور ومصايرها.
قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) أن من دلائل نعمه على الإنسان خلقه على أحسن صورة، وأن ذلك يدل على أن له حياةً أخرى غير هذه الحياة، فيها يجازى بما عمل من خير أو شر.. أعقب هذا ببيان أنه لا شيء يمنعه عن التصديق بهذا اليوم إلا العناد والتكذيب، فالشعور النفسي يوحي به، والدليل النقلي الذي أتى به الرسول يصدقه، والله لم يترك عملًا لعباده إلا أحصاه وحفظه، ليوفي كل عامل أجره، فقد وكل الكرام الكاتبين المطهرين عن الغلط والنسيان بكتابته وضبطه، ثم ذكر أن الناس في هذا اليوم فريقان: بررة مطيعون لربهم فيما به أمر وعنه نهى - وهؤلاء يتقلبون في النعيم - وفجرة يتركون أوامر الدين، وأولئك يكونون في دار العذاب والهوان، يقاسون حر النار، وأنه في هذا اليوم لا يجد المرء ما يعول عليه سوى ما قدمت يداه، فيجفوه الأولياء، ويخذله الشفعاء، ويتبرأ منه الأقرباء، فلا شفيع ولا نصير ولا وزير ولا مشير، والحكم لله وحده، وهو المهيمن على عباده، وبيده تصريف أمورهم، وهو الصادق في وعده، العدل الحكيم في وعيده، فلا مهرب لعامل مما أعدله من الجزاء على عمله.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: نزلت في أبي بن خلف، والله أعلم.
وقد نقل البغوي عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا: نزلت هذه الآية في الأسود بن شريف حين ضرب النبي - ﷺ -، لم يعاقب في الحالة الراهنة، فأنزل الله تعالى: ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ وورد أن النبي - ﷺ - لما تلا هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦)﴾.. قال: "غره جهله".. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في
(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.
191
Icon