ﰡ
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ)، النداء للناس أجمعين في عصر النبوة؛ عرب وعجم، أبيض وأسود وأحمر، الحاضرون في عصر النبي - ﷺ -، ومن جاء بعدهم، فالخطاب لهم بناء على أن ما ثبت للحاضرين يثبت على المقبلين بقانون المساواة الذي يثبت تساوي الناس في التكليف، وإنه لَا يرفع الخطاب إلا عن من ليس أهلا للخطاب، (اتَّقُوا رَبَّكُمْ)، أي ادّرِعوا لباس التقوى، ولتمتلئ نفوسكم باتقاء عذاب اللَّه تعالى، وخشيته سبحانه، فخشية اللَّه درع المؤمن، ووقايته من النار،
و (زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) من إضافة المصدر إلى ظرفه، أي الزلزلة التي تكون في يوم الساعة، وهو يوم القيامة، وعبر عن ذلك اليوم بالساعة؛ لأنه يكون ساعة شديدة خطيرة، لها ما بعدها من هول أعظم، وحساب وعقاب، وقد عبر اللَّه سبحانه عن هذه الزلزلة بقوله: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)، أي أنها شديدة شدة لَا يُكتنه كنهها، ولا يعبر عنها إلا بأنها (شَيْءٌ عَظِيمٌ)، فالشيء اسم لكل شديد، أي أن الألفاظ تضيق عن معانيها، فلا يتسع لها لفظ إلا ما يكون لفظا عاما غير محدودة، لأن شدتها غير محدودة، ولا يحدها نطاق.
وقد صور اللَّه تعالى هول هذه الزلزلة، فقال عز من قائل:
صور اللَّه تعالى الفزع الذي ينال الناس عند رؤية هذه الزلزلة فقال: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ)، تذهل أي تنسى وتغفل، والذهول شغل يورث حزنا ونسيانا، وقوله تعالى: (عَمَّا أَرْضَعَتْ)، " ما " إما أن تكون بمعنى " الذي "، ويكون المعنى تذهل ناسية طفلها الذي أرضعته، وغذته من لبنها الذي هو قطعة منها، وكأنها في هذا الحزن الداهم تنسى نفسها أو قطعة من ذاتها، ويصحح أن تكون " ما " مصدرية، والمعنى أنها تنسى إرضاعها فتنسى تغذيه من هو كشخصها، أو امتداد
وإنه من هول هذا الموقف، وتلك الزلزلة (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا)
من الرهبة والفزع، فالحبالى ينزل حملهن من الفزع قبل ميعاد وضعه، ووضعه على الرغم منها لفزعها، واضطرابها، وكأن هذه الزلزلة تزلزل الجسم، وتزلزل النفس، كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأسَاءُ وَالضرَّّاءُ وَزُلْزِلُوا...)، وقد صور اللَّه تعالى حالهم بعامة رجالا ونساء، مراضع وغير مراضع، حبالى وغير حبالى، فقال: (وَتَرى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى)، أي تراهم كالبكارى، (وَمَا هُم بِسُكَارَى) فكأن هنا استعارة مؤداها أن الناس لفرط ذهولهم، ونسيانهم لأنفسهم شبهوا بالسكارى، فهم في غفلة وذهاب رشد، وضياع وعي كالسكارى، وإن لم يكونوا في حقيقة أمرهم سكارى تناولوا مسكرا، كما تقول لشجاع قوي هو أسد وليس بأسد، أي أنه في شجاعة الأسد، كأنه هو هو، وإن كان رجلا عاقلا، ولعل ذلك يكون أبلغ في وصفه بالشجاعة.
(وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) الاستدراك هنا لنفي السُّكر عنهم، وإن كانوا كالسكارى، وبهذا الاستدراك بين سبحانه شدة عذابه الواقع عند الزلزلة، والمتوقع بعدها، وأنهم يستقبلون هولا أشد وقعا، وأعظم إيلاما، فهو ليس إفزاعا عقليا ونفسيا فقط، بل هو مع ذلك إيلام حسي بالنار كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
وإنه مع هذه الزلزلة التي تزلزل العقول والنفوس، هنا ناس في لهو عن توقع ذلك مع شدة النذير، وكثرة العبر:
إنه في الوقت الذي ينذر رسول اللَّه محمد - ﷺ - بأخبار يوم القيامة الذي تكون فيه السماوات غير السماوات وتزلزل النفوس والعقول بزلزلة الأرض يكون
ومن يجادلون في ذات اللَّه على النحو الذي أشرنا إليه، كالذي جاء خبره عن النضر بن الحارث لَا يكون جدلهم قائما على علم علموه، أو رسالة بلغوها، ولكنه التقليد المجرد للمبطلين، ولذا قال تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) الشيطان هنا عام يشمل شيطان الإنس من القادة والأمراء والرؤساء الضالين المضلين، ويشمل شياطين الجن الذين يوسوسون بالشر، ويزينونه، وقوله تعالى: (كُلَّ شَيْطَانٍ)، الكلية تدل على أنهم يتبعون المنحرف من الأفكار والأقوال، فيتبعون أحيانا شياطين الوجودية، وأحيانا شياطين الشيوعية ورئيسها اليهودي، وأحيانا شياطين التحلل من كل خلق كريم، و (مَّرِيدٍ) معناه المتجرد من كل معنى كريم، والعاري عن الفضائل، جاء في مفردات الأصفهاني ما نصه: " المارد والمريد من شياطين الجن والإنس المتعري من الخيرات في قولهم إذا تعرى عن الورق، ومنه قيل رملة مرد، إذا لم تنبت شيئا ".
الضمير في (عَلَيْهِ) يعود إلى الشخص الذي يجادل بغير علم؛ لأنه هو المتحدث عنه؛ ولأن الكتابة التي يقدرها اللَّه تعالى تكون على المكلفين، فالأنسب عود الضمير إلى المجادل بغير علم، ويكون معنى (تَولَّاهُ) جعل الولاية له على نفسه، واتبعه فيما يوسوس به شيطان الإنس من دعوة إلى الباطل والفجور، وفيما يوسوس شيطان الجن من إغراء بالشهوات والأمنيات الباطلة، أي فمن يجعله له وليا، ويتبعه، ويحسبه نصيرا له، (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ)، أي يوقعه في الضلالة، (وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)، أي يسلك معه الطريق إلى عذاب السعير، أي إلى جهنم وبئس المهاد.
ويجوز أن تجعل الضمير في (عَلَيهِ) يعود إلى الشيطان المريد، وكذلك الضمير في (تَوَلَّاهُ) يعود إليه، ويكون أن من يتولاه الشيطان ويسيطر عليه ويجعله تابعا له يضله، ويوصله إلى عذاب السعير، وفى الحالين التعبير بقوله تعالى: (وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)، فيه تهكم، ومؤداه أن الرسل يهدون إلى الجنة، أما الذين يتبعون الشياطين، فإن إغراءهم يوصلهم إلى النار، وتلك هدايتهم إن صح أن تسمى هداية.
* * *
القدرة على الابتداء تدل على البعث
قال اللَّه تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
* * *
النداء في قوله تعالى:
(إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ) تخفيف من اللَّه تعالى لحالهم، فليست حالهم حال ريب وشك، بل حالهم حال إنكار، فذكر اللَّه تعالى حال الإنكار، والدليل المبين في جواب الشرط يثبت للمرتاب والمنكر، وإن التعبير بالريب كما قلنا تخفيف من حال المشركين وغيرهم من المنكرين، وهو أيضا فيه تصوير للنفس التي لم تفطر على اليقين، ولا على الإنكار؛ لأنه مغيَّب لَا يُعلم، فقد يعتري النفس شك لأنه لَا يعلم إلا بالنقل، فيكون الخطاب موافقا لكثير من الفِطَر، إذا كان الخطاب يذكر حال الريب دون القطع بالإنكار، وهو فوق ذلك يدعو المنكرين إلى أن تكون حالهم حال ريب وتردد لَا حال قطع وإنكار، بل انتظار حتى يجيء
(خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ) كان الخلق من تراب مرتين: أولاهما في أصل الخلق والتكوين فخلق آدم أبا الخليقة من تراب، وقد ذكر سبحانه قصة ذلك الخلق وذلك التكوين، والمرة الثانية أن ذلك متجدد مستمر، فالأب والأم يأكلان مما تنبته الأرض من نبات، وثمرات مختلف ألوانها، ومن حيوان يرعى فيها، وما ينتجه طينها من نبات، فذلك من الأرض بتحويل عناصرها إلى نبات، وأشجار وتوليد الثمار من الأشجار، ثم تحول العناصر المختلفة إلى نطفة، وفي كل الأحوال يكوِّن سبحانه شيئا من شيء فهل يعجز عن تحويل الرميم إلى حي.
(ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ) وهي ماء الرجل يلتقي بخلية المرأة التي ينفثها رحمها في حال الحيض، وسمى النطفة، لأنه ينطفه أي يقطر منه وقد سماه سبحانه ماء دافقا، كما في قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩)، (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)، أي أن النطفة صارت علقة، وهي قطعة لحم طرية ثم تجمدت، وصارت مبتدأ لخلق آخر، وهو مضغة؛ ولذا قال عز من قائل: (ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ)، أي انتهت العلقة إلى مضغة، وصارت هذه ابتداء خلق آخر، (مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة)، أي مصورة مميزة الأجزاء بالخلق والتكوين، وليست قطعة لحم فقط، بل صارت ذات شكل مميز يشير إلى أجزاء بعد كمال تكوينها، ولا تكون مخلقة قبل هذا التخليق وبيان الأعضاء، ولعل المخلقة هي التي تكون عظاما غير مكسوة بلحم أو مكسوة.
ونحسب غير المخلقة هي التي تكون مضغة لم تتكون عظامها؛ ولذا لم تذكر هنا حال كونها صارت عظاما، كما ذكر سبحانه في سورة " المؤمنون "، حيث قال
ولقد قال تعالى: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)، " اللام " لام التعليل إذا كانت متعلقة بـ " ذكرنا " محذوفة، أي ذكرنا ذلك (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)، أي نعلمكم بالخلق والتكوين، وتكون اللام النافية إذا كانت اللام متعلقة بقوله: (خَلَقْنَاكُم)، أي خلقنا الإنسان) ذلك الخلق ليكون المآل والعاقبة أن يتبين لكم، وأن تعلموا بهذا الخلق والتكوين أمرين:
الأمر الأول - عجائب صنع اللَّه تعالى في خلق الكون والإنسان، كما أشار إلى ذلك بقوله جل وعز: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)، وإن الله وحده هو الذي يخلق الأشياء من عدم، ثم يتولى هو سبحانه وتعالى تحويلها من حال إلى حال، حتى استوى الإنسان خلقا سويا.
الأمر الثاني - أن الذي حول التراب إلى كائنات حية، وتوالدت بخَلْقِه الأحياء أليس بقادر على أن يحيي الموتى.
(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ) " الواو " كما يقول المفسرون واو الاستئناف، وإني أرى أن الواو واو الحال، أي أنه والحال أننا نضع على سبيل القرار في الأرحام ما نشاء، من نطفة وعلقة ومضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة، فإنها في الأرحام تتحول من نطفة إلى علقة، فمضغة مخلقة بالعظام وغير مخلقة، وتكسى العظام باللحم، وإن قوله تعالى: (مَا نَشَاءُ)، أي الذي نشاؤه في أدواره المختلفة، فهو
(ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا)، أي يخرج كل واحد منكم طفلا لَا يقوى على الحياة وحده؛ لأنه يكون ضعيفا كما قال اللَّه تعالى: (... وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا)، وأطول مدة لحاجة المولود إلى أبويه من الحيوان هو الإنسان، وفيها يحتاج إلى الرضاعة والحضانة، حتى يستوي شابا يبلغ أشده، وتكمل قواه، هذا قوله تعالى: (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكمْ)، ثم عاطفة لتبلغوا أشدكم على فعل محذوف، هو في معنى جزء العلة، وتقديره مأخوذ من الكلام السابق، والمعنى يخرجكم طفلا لتتربوا وتكبروا شيئا فشيئا وتكَلأُون برعاية آبائكم وأمهاتكم، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ)، وكان العطف بـ " ثم "؛ لأن مدة الطفولة، تطول ولا تقصر، فالتراخي ثابت بالزمان، وبالبعد بين الطفولة والرجولة و " أشُدّ " يقول البيضاوي إنها جمع شدة، كأنْعُم جمع نِعمة، والشدة هنا القوة المستمكَنة التي تعتمد على ذاتها ويكون لها كيان مستقل عن أبويه، ومنكم من يتوفاه اللَّه تعالى في قوته وشبابه أو كهولته حتف أنفه أو قتلا في جهاد أو اعتداء: (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) ولم يقل سبحانه وتعالى يبلغ أرذل العمر؛ لأن بلوغ أرذل العمر ليس بلوغ غاية تُتَغيَّا وصالحة في ذاتها، وعبر بقوله: (يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ)؛ لأنه رجعة إلى الوراء، وعودة إلى الضعف في جسمه فَيَهِن العظم، ويتقوَّس الظهر، ويضعف العقل، ويضل الفكر، وينسى بعد أن كان يعلم؛ ولذا قال (لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا)، أي أن ما علمه ينساه، فما كان من علم يذهب وما كان عنده من تدبير وقدرة على العمل، ووزن للأمور، وسماه تعالى: (أَرْذَلِ الْعُمُرِ)، أي العمر المرذول الذي يكون عبئا على صاحبه.
وقد ذكر سبحانه بعد هذا الدليل الملزم المبين قدرة اللَّه تعالى ذكر دليلا آخر، وهو في المطر والنبات كما كان الأول في الإنسان، وإذا كان في الأول نعمة الإيجاد، ففي الثاني نعمة الإرث.
تصوير لتغيير اللَّه تعالى الأحياء أو مواضعها من حال إلى حال والخطاب في قوله تعالى: (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً) لكل من هو أهل للخطاب؛ لأنه استدلال للجميع على قدرة اللَّه تعالى في الأشياء من حال إلى حال، وأنه يخرج الحي من الميت، (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً)، أي جف نباتها وذبل ما فيها ومات، وصارت كالأرض الميتة لَا حياة فيها ولا نبات ولا ماء، والهمود واضح أنه يعتري النبات، ووصفت به الأرض؛ لأنه محل هموده، ومحل حياته، فهو من إطلاق اسم الشيء وإرادة محله.
(فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ) من السماء أو الأنهار أو العيون، وسمي إنزالا؛ لأن أكثر الماء الذي يكون غيثا من السماء وماء الأنهار من الغيث، وماء العيون من ماء الأنهار الدفين في الأرض، فالأصل هو الإنزال، فيصح أن يطلق على ماء السماء، وماء الأنهار والمياه الجوفية العذبة.
والضمير في (عَلَيْهَا) يعود إلى الأرض، و (اهْتَزَّتْ)، أي اهتز نباتها الأخضر، فيميل يمينا وشمالا بالرياح التي تميله، والاهتزاز للنبات لَا للأرض، ولكن أطلقت الأرض وأريد نباتها لأنها محله؛ ولأن الاهتزاز يراه الرائي في اهتزاز النبات، وهو منبسط بلون سندسي، فيرى كأن الأرض هي التي تهتز لَا النبات، (وَرَبَتْ): أي نمت وعلت، والنمو والعلو للنبات، وهذا مجاز على النحو الذي ذكرناه، والعلو وصفت به الأرض؛ لأن الرائي يراه، كأن الأرض هي التي تعلو، وقال تعالى في إنبات الأرض: (وَأَنْبَتَتْ مِن كُل زَوْج بَهِيج)، أي حسن المظهر، يظهر في الأرض كأن يد راسم رسمته وزخرفته، و (زَوْج) المراد به الألوان المتقابلة من أبيض وأزرق، وأحمر وأصفر، فتبارك اللَّه الخلاق العليم.
بعد ذلك أخذ اللَّه سبحانه النتيجة من هذين الدليلين اللذين ينبهان العقول التي تدرك، وتلهمهم بالدليل المزيل لريبهم، إن كانوا يرتابون، ويفحمهم بالدليل القاطع إن كانوا ينكرون.
(ذَلِكَ) الإشارة إلى تحويل كون الإنسان من تراب إلى نطفة، ثم إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم قراره في الرحم حتى يستكمل نموه في الدور الأول في بطن أمه، ثم يخرج طفلا في الوجود، ثم يبلغ أشده، وإنزال الماء والنبات، كل ذلك بسبب أن اللَّه هو الحق، فـ " الباء " للسببية (الْحَقُّ)، أي الثابت في ذاته المطلق في الوجود كله، فهو الموجود واجب الوجود، وكل موجود يستمد وجوده منه، وهو يخلق سبحانه وتعالى الأشياء ابتداء ويخلق بعضها من بعضها، فلا غرابة أن يخلق من الرميم حيا، ولو كانت في تكوين حجارة أو حديد، أو ما هو أقوى صلابة من هذين، (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى)؛ لأنه خلقها ابتداء فإعادتها أسهل عليه، كما قال تعالى: (... كمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، ثم ذكر سبحانه وتعالى قدرته عز وجل بـ " أنَّ " المؤكدة، وذكر لفظ الجلالة الذي يشتمل على الوصف كماله، والتنزيه من كل نقص، وأكده بتقديم الجار والمجرور (عَلَى كل شَيْءٍ) على (قَدِير)؛ لأن ذلك يدل على عظيم اهتمامه بخلقه.
وقد قدر سبحانه ما هو قاطع، وهو لب الإيمان، فقال عز من قائل:
الواو عاطفة على (بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)، وهي تتضمن القصر، أي اللَّه وحده هو الحق، ولا حق غيره سبحانه، فعطف على ذلك (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ
* * *
الجاحدون ومرضى القلوب والمنافقون
قال اللَّه تعالى:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٨) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٩) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)
* * *
هذه السورة مدنية، وفي المدينة التقى النبي - ﷺ - باليهود، وغيرهم من أهل الكتاب، ولم يكن الجدل بين النبي - ﷺ - لذلك تشعبت المناقشة حول اللَّه تعالى إلى شعب شتى فوق الجدل في عبادة الأوثان والإشراك باللَّه سبحانه وتعالى، فكان الجدل حول ما أشاعه العرب من عبادة، وحول إرسال الرسل من غير بني
المجادلة في اللَّه تعالى هي المجادلة في ذاته وصفاته وقدرته وعلمه ووحدانيته، وكل مجادلة حول شركاء له مجادلة في ذات اللَّه، وقوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ)، أي بغير علم يثبت بالضرورة، منكرًا كل أمر تهدي إليه الفطرة، ومتجاهلا الحقائق الثابتة بأن يتجاهل أن الأوثان لَا تضر ولا تنفع، ومنكر البدهيات، فمعنى (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بجهالة، (وَلا هُدًى)، ولا دليل يهدي إلى الحق ويبينه، ويسدد المدارك إلى الحق، (وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ)، أي ولا كتاب منقول غير الحق، ويوضح السبيل إليه، ومعنى ذلك أنهم حائرون بائرون، لَا يأخذون بعلم ضروري، ولا بعلم يأتي بالنظر والبرهان، ولا بمنقول من كتاب منزل منير، ويهدي إلى سواء السبيل.
والآية السابقة، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) مع هذه الآية ليستا واردتين على مورد واحد، فالآية السابقة واردة على الذين يتبعون كل شيطان متمرد من شياطين الإنس ويقلدونه ويسيرون وراءه سير التابع وراء المتبوع، وهذه الآية التي نتكلم في معانيها السامية واردة في الذين يقولون مستقلين غير تابعين لمارد ولا ذي سلطان، ولكنهم لَا يتبعون علما ضروريا، ولا علما نظريا، ولا علما منقولا عن معصوم ينسب كلامه إلى رب العالمين.
وهذا من شأنه أن يعرض عن الحق، ويضل غيره؛ ولذا قال سبحانه؛
(العِطْف) هو الجانب، و (ثَانِيَ) اسم فاعل من ثنى يثني، أي لواه مستكبرا أو معرضا، أو هما معًا، أي مع أنه يجادل في اللَّه بغير أي نوع من العلم، بل
وإنهم بهذا التفاخر بالباطل والكبرياء والاستعلاء يضلون غيرهم لضعفهم، ولذا قال تعالى: (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)، أي ليضل غيره عن طريق الحق، فاستعلاء الباطل يغري باتباعه، وإذلال أهل الحق يغري بتركه إلا من ربط اللَّه تعالى على قلبه.
وقد ذكر اللَّه تعالى عند مغالبة الحق والباطل، فقال عز من قائل: (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ)، يجعل كلمة الحق هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى، كما كان الخزي في بدر، والأحزاب، وغيرهما، وذلك لَا يعفيهم من عذاب الآخرة (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) هو وضعه في جهنم المحرقة نارها، وعبر بـ (نُذِيفهُ)، لأن الإلقاء في الجحيم من غير أن يذوق حريق النار، ويلهب إحساسه بها - لَا يدرك معه حقيقة العذاب، لأن العذاب في ذات الإحساس بالنار.
الإشارة في (ذَلِكَ) للعذاب و " الباء " للسببية، أي بسبب ما قدمت يداك، والمراد بما قدمت أنت، وعبر عن الذات باليد، من قبل التعبير عن الكل باسم الجزء، وهو من المجاز المرسل، إذا كان لذلك مزيد اختصاص فيما يساق له القول كما يعبر عن الجاسوس بالعين، وهنا كذلك عبر عن الذات باليد التي يكون بها الاعتداء بالبطش وسفك الدماء أو الاغتصاب والإيذاء.
و (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، أي يقال له ذلك الذي نزل بك متكافئ مع ما قدمت يداك فما كان اللَّه ظالما، ولكن أنت الظالم، ولذا قال تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ للْعَبِيدِ)، وأن معطوف على (بِمَا
هذا صنف من الناس لَا يدخل الإيمان قلبه إلى درجة الصبر على البلاء في إيمانه، بل يكون إسلامه بظاهر، وهو كأُولئك الأعراب، الذين قالوا: آمنا، وأمرهم اللَّه تعالى أن يقولوا: أسلمنا، ولما يدخل الإيمان بعد في قلوبهم، هؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ).
" الحرف " هنا هو الطرف، أي يعبد اللَّه على طرف من الدين، كالذي يكون على طرف من الجيش يقر فيه إذا أحس بالنصر ليأخذ من الغنيمة، وإن أحسَّ بالهزيمة فرَّ لكيلا يناله القتل وآثار الهزيمة، وقال سبحانه: (يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرفٍ)، أي على طرف الإيمان، فلا يعبده عبادة من امتلأ قلبه بالإيمان، وذاق بشاشته، وأحس باطمئنان نفس، واستقامة اعتقاد، وهذا تصوير لضعفاء الإيمان الذين اضطرب اعتقادهم، فكأنهم يكونون على حرف مع الإيمان وهو أقرب إلى الكفر، فطرف الشيء هو الأقرب إلى ما يجافيه، وقد قالوا: إنها نزلت في بعض الأعراب الذين قدموا المدينة وكان بعضهم إذا صح بدنه، ونتج إبله وولدت امرأته وكسب مالا وماشية، قال ما أصبت من هذا الدين إلا خيرا واطمأن، وإن أصابه شر قال ما أصبت وانقلب، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي - ﷺ - فيسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث، وعام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به، وإن وجدوه عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير، ويصدق على هؤلاء قوله
تعالى فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ)، أي أصابهم أمر يسرهم، وهو خير اطمأنوا وسكنوا، (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ)، أي شديدة فيها ابتلاء لإيمانه واختبار لنفسه وترف لقوة إيمانه، انقلب على وجهه، أي ارتد بعد إسلام، وكفر بما أعلن الإيمان، وإن كان على طرف، وعبر سبحانه عن ردته بقوله: (انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) وهذا التعبير فيه تشبيه حال المرتد عن دينه بحال من انقلب فوق وجهه فصار رأسه في أسفله، ورجلاه في أعلاه أي تصويره بصورة شوهاء، شاه منظرها، وقبحت حقيقتها.
وإن من يكون كذلك خسر الدنيا بما أصابه من فتنة لم يعتبر بها في دينه، وكانت شرا عليه في دنياه، إذا لم يستفد بها في دينه، وخسر الآخرة، لأنه يموت كافرا، وذلك الأمر الذي آل إليه هو الخسران المبين الواضح.
وقد وصف اللَّه تعالى من تكون هذه حاله بأنه كعبدة الأوثان على سواء.
أي أن هذا الذي انقلب على وجهه وتشاءم بالإسلام يعود مرتدا إلى من لا يضر وما لَا ينفع، فإذا كان لم يعجبه دين اللَّه تعالى وتشاءم إذا أصابته فتنة يختبر بها إيمانه وتسليمه الأمور إلى اللَّه تعالى خالق كل شيء الذي ينفع ويضر، فقد رجا ما لَا يضر وما لَا ينفع، لقد ترك دعاء اللَّه تعالى وحاد إلى دعاء ما لَا يضر وما لَا ينفع، و (دُونِ اللَّهِ) معناها غير اللَّه، (مَا لَا يَضُرُّهُ)، أي الذي لَا يضر، أي ليس سبب فيه التشاؤم الذي بغض إليكم دين الحق لأنكم فتنتم فيه ليختبر مقدار تسليمكم للَّه، وقد زعمتم أنه لَا يضر إيمانكم به، فهو أيضا لَا ينفعكم؛ ولذا كرر اسم الموصول، أي يدعون ما لَا يضر، وهو أيضا ما لَا ينفع، فالإسلام دين اللَّه الذي يضر وينفع أما غيره فدين ما لَا يضر وما لَا ينفع.
في الآية السابقة ذكر سبحانه أنهم يدعون ما لَا يضرهم، وما لَا ينفعهم، وقلنا: إنه كان لَا يضرهم فهو لَا ينفعهم، وأن الموصوف واحد، ولكن خطر على عقلي بعد كتابة ما تقدم أنهما واردان على موصوفين أولهما لَا يضر، وثانيهما لا ينفع كما يدل تكرار الموصول، وهذا ضلال، ويناسب ما ذكر من بعد أنه الضلال البعيد الموغل في طريق الضلال، والمعنيان بين يدي القارئ يتخير أحدهما، والقرآن حمَّال معان كلها بيِّن لَا إيهام فيه قط.
وفى هذه الآية التي نتكلم في معناها، نجدها تشير إلى أن الذي يدعوه من العقلاء، بدليل التعبير بـ (مَنْ) في قوله: (لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَفْعِهِ)، ويكون الدعوة بمعنى الالتجاء والاستغاثة، أو الموالاة والنصرة، والاعتماد عليه، و (اللام) في قوله تعالى: (لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ)، تفيد التوكيد، سواء أكانت للتعليق أو للابتداء، فتلك تخريجات نحوية لَا تمنع ما تدل عليه من توكيد المعاني و " مَنْ " كما أشرنا تفيد أن من يدعونه من العقلاء، وليس معبودًا من الأوثان والجمادات، وأن الدعوة للنصرة والموالاة، والمعاونة على الباطل، وكان ضره أكبر من نفعه؛ لأن الاعتماد عليه فيه ضرر عقلي ونفسي؛ لأنه يعتمد على غير اللَّه، والاعتماد على غير الله تعالى رقٌّ لهذا المخلوق يحد من الحرية، ويمنع الانطلاق إلى العمل الصالح؛ ولأنه ضعيف مثله، لَا ينتصر له، ولأنه يجره إلى الشر، فيكون التعاون بينهما قائما على الإثم والعدوان، ولأن الاعتماد عليه اعتماد على شفير هارٍ ينهار به في نار جهنم.
وخلاصة القول في معنى هذه الآية الكريمة: أن موضوعها ليس دعوة الأوثان والأحجار، إنما موضوعها الاستنصار بالأشخاص، والاعتماد على أهل الباطل في الولاء، والذين يعاشرونهم.
* * *
جزاء المتقين والفصل بين الناس
قال اللَّه تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (١٤) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (١٥) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
* * *
بعد ذلك بين سبحانه جزاء أهل الإيمان الصادق، فقال:
هذا جزاء المؤمنين الأبرار الذين آمنوا فطهروا قلوبهم وعقولهم من رجس الوثنية، وأزالوا ضلال الناس في أنفسهم، وفي الاعتماد على غير اللَّه تعالى، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أي عملوا كل ما فيه خير للناس، وخير لأنفسهم، وسلامة اعتقادهم وطاعتهم في عبادتهم، وإن اللَّه تعالى يسكنهم جنات فيها نعيم دائم مقيم، يلتقي فيها نعيم الجسم بسرور النفس، فالإقامة دائمة في ريحان الجنة، والأنهار تجري من تحت الأشجار فيكون متعة النظر، وراحة البصر، وإن هذه إرادة اللَّه تعالى، وقد أكد سبحانه هذه الإرادة، بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) أكد سبحانه وتعالى أنه سبحانه فاعل مختار لَا تصدر عنه الأشياء صدور العِلَّة عن معلولها، ولا السبب عن سببه، كما ضل الفلاسفة وغيرهم ممن اتبعهم، وقد أكد سبحانه القول بتأكيدات ثلاثة، أولها: " إنَّ "، وثانيها: لفظ الجلالة الذي يتضمن الوصف بكل كمال، وثالثها: التعبير بالمضارع الذي يدل على أنه سبحانه فعل ما أراد، ويفعل دائما ما يريد.
هذه الآية لبطلان وهم من يتوهم أن اللَّه تعالى لن ينصره إذا طلب النصرة العادلة منه، واعتمد على غيره، وذلك رد على من يوالي العباد من الموالي والعشراء في النصرة، فاللَّه وحده هو نعم المولى ونعم النصير، وبئس من يطلب نصرا من غيره وإنه ناصر نبيه في الدنيا والآخرة.
والضمير في (يَنصُرَهُ) في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ) يعود إلى النبي - ﷺ - وإن كان لم يجر ذكره في الآيات قبله، أو في الآية السابقة، فإنه حاضر في نفس القارئ للقرآن، وفي قلب كل مؤمن فهو حاضر دائما، وإن محمدًا بعد الهجرة قد قامت حروب بينه وبين المشركين، وبينه وبين اليهود، واللَّه ناصره دائما، ولم يهزم في موقعة، وإذا كان قد أصيب بجراح وقتل من قتل في أُحُد فهو لم يهزم ولم يندحر فيها، وكان ذلك يغيظ الكافرين وخصوصا اليهود الذين كانوا يجاورونه في المدينة، ويذهب بهم في طغيانهم إلى أن يتمنوا ألا ينصره اللَّه تعالى، كما يتمنى الحاسد الحقود، وقد بين سبحانه في هذه الآية أن من المستحيل ألا ينصره اللَّه وليموتوا بغيظهم؛ ولذا قال: (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُره اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ) من كان يظن مستمرا في ظنه الذي لا يصدُق، والاستمرار في هذا الظن هو من التعبير بـ (كَانَ)، و " أنْ " مخففة من الثقيلة، واسمها الحال والشأن، أي من يظن أن الحال والشأن أن لن ينصر اللَّه محمدا، وذلك مستحيل، فليمدد بسبب إلى السماء، والسبب: الحبل الذي يصعد به على النخل، والسماء. روي عن ابن عباس أنه قال: إنه سقف البيت، أي
وهذا تخريج صادق كل الصدق، وهو في مضمونه كقوله تعالى: (... قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ...)، وإنا نوافق على التخريج ما دام منتجا معنى سليما مستقيما يتفق مع جلال القرآن، ومع سياق القصص في السيرة، ولكن نخالف فقط تفسير السماء بالسقف، فذلك ليس في القرآن، إنما تفسر السماء بما هو فوقك، من السماء ذات البروج، ومعنى " ليمدد "، أي ليمتد بالحبل إلى السماء، ثم ليقطعه فإنه يسقط مختنقا مجندلا، و " الكيد " التدبير، وإن اللَّه تعالى ناصر عبده محمدا في الدنيا والآخرة، ولتذهب نفس أعدائه حسرات، وكما أن الله تعالى ناصر نبيه في الدنيا والآخرة. ناصر نبيه: مثبت صدق رسالته بالقرآن المبين، ولذا قال تعالى:
الإشارة إلى إنزال الآيات البينات الواضحات الهادية الدالة على صدق الرسول، والمشابهة بين ما قدر اللَّه تعالى إنزاله وما أنزله فعلا، أي أنزلناه في الواقع كما قدرناه في علمنا، وهذا تأكيد لإرادة اللَّه تعالى في أن تكون معجزة النبي - ﷺ - من نوع الوحي بآيات بينات، وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يُرِيدُ)، أي كذلك الإنزال أن اللَّه تعالى يهدي إليه من يريد له الهداية ويسلكها، وإني أرى أن المشابهة ليست بين الإنزال المقدر في علمه الأزلي، والمنزول الواقعي، وإنما أرى أن المشابهة بين نصر اللَّه لنبيه في الدنيا والآخرة وإقامة الحجة لرسالته في الدنيا، حتى يبلغ الأجل، ويكون المعنى كما ننصره في الدنيا والآخرة أيدناه بالمعجزة الباهرة القاطعة التي تتحدى الأجيال كلها أن يأتوا بمثله، وأنزلنا آيات بينات
وبين بعد ذلك سبحانه أن الناس جميعا مجزيون بعملهم يستوي في ذلك المؤمن والمشرك واليهودي، والنصراني والصابئ، فقال عز من قائل:
وقد ذكر سبحانه أصنافا ستة، وهم: المؤمنون، واليهود، والصابئون (وهم عبدة الكواكب الذين ادعوا دخولهم في النصرانية عندما أرادهم المأمون الخليفة العباسي على أن يدخلوا في دين كتابي، وهم أخفى الناس لاعتقاد)، (وَالنَّصَارَى) على اختلاف طوائفهم ما بين كاثوليك وأرثوذكس، وإنجيليين، (وَالْمَجُوسَ)، وهم عبدة النار، (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، أي الذين أشركوا مع اللَّه تعالى غيره في العبادة، وبهذا يدخل فيهم الذين قالوا: إن الملائكة بنات اللَّه، ويدخل البراهمة؛ لأنهم قالوا: إن كرشنة ابن اللَّه، وهم يصورون آلهتهم بتماثيل، كما يدخل البوذية؛ لأنهم قالوا إن بوذا ابن اللَّه، ويدخل الكونفوشيوسية الآخذون بتعاليم كونغ فوتس الذي حُرِّف بكونفشيوس، وهكذا فهم يدخلون في المشركين؛ لأن الإشراك غير مقصور على العرب الأقدمين، بل هو فيهم وفي غيرهم مع ملاحظة أن كونغ فوتس بوذي الديانة ولكن له مذهبا خلقيا أخذ به أهل الصين.
وإن ذكر هؤلاء جميعا في موضوع واحد متعاطفين يدل على أمرين:
الأمر الثاني - أن اللَّه وحده هو الذي يبين يوم القيامة: الحق فيثيب أهله، والباطل فيعذب الذين تردوا فيه؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الفصل بين الأشياء والأشخاص إبانة كل بخيره وشره، والفصل بين الأقوال تبين صادقها من كاذبها، وحقها من باطلها، وكذلك الفصل بين النحل وأصحابها، أي بيان الحق فيها والباطل منها، وجزاء أهل الباطل، وثواب أهل الحق، وإن ذلك الفصل هو الحق؛ لأن الفاصل هو اللَّه تعالى، وهو خير الفاصلين؛ ولأنه العالم بكل شيء وبهم جميعا، ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، أي عالم علم من شاهد وعاين، فهو حكم مؤيد بأسبابه، وشاهده الأكبر، وقوله تعالى: (عَلَى كلِّ شَيْء شَهِيدٌ) فيه التعدية بـ " على " إشارة إلى معنى الرقابة عليهم، والإحاطة بهم، وهو بكل شيء محيط؛ لأن كل شيء خاضع له سبحانه.
* * *
خضوع الوجود لإرادته سبحانه
قال اللَّه تعالى:
* * *
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥).
والسجود طوعا هو بإرادة العبادة من العقلاء المختارين، والسجود كرها، أي بحكم الخضوع المطلق لإرادة المنشئ للكون الواحد القهار.
و (مَن) في قوله:. (مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ) ظاهر الكلام أن ذلك من العقلاء كالملائكة الذين لَا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والعقلاء من الجن والإنس المختارين المريدين، والباقي ممن ذكر من الشمس والقمر والنجوم والجبال والدواب، هؤلاء ينطبق عليهم السجود كرها، فالوجود كله خاضع للَّه سبحانه، وإن من شيء إلا يسبح بحمده فهم خاضعون له خضوع الشيء لمن أوجده، فالجبال تخر له وتصير هباء منبثا، وتتحرك بإرادته وأمره، ثم ذكر سبحانه الظالمين والمهتدين من عباده بالتفرقة بين الضال والمهتدي فقال سبحانه: (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)، أي كثير اهتدوا وآمنوا فهم في ذاتهم ليسوا عددا قليلا، وإن كان الفريق الثاني أكثر عددا، وإن لم يكونوا مهتدين؛ ولذا قال تعالى: (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)، أي أنه ليس بالمهتدي، بل كان من عبدة الأوثان أو من أهل التثليث، أو من أعداء البشرية اليهود، أو من عبدة النيران، أو من عبدة الكواكب وعبدة الملائكة الذين قالوا عنهم إنهم بنات اللَّه تعالى.
وذكر سبحانه وتعالى هؤلاء الضالين بجزائهم، وهو قوله: (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) للإشارة إلى أنه ملازمهم، به يعرفون، وبه يعيَّنون وقوله تعالى: (حَقَّ
وإن الله قسم الناس، مهتد مكرم، ومهين قد لازمته الإهانة، ولا يمكن أن يكرمه أحد أبدا؛ ولذا قال تعالى: (وَمن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِم) وإهانة الله تعالى لمن يكتب له في لوحه المحفوظ وقدره المحتوم، إنما تكون لمن سلك سبيل الغواية، وسد مسامع الهداية، فيأخذه سبحانه إلى مواطن الهوان، فبفعله هانَ، وبإعراضه عن الحق مريدا مختارا عُذِّب، وحق عليه العذاب فما لأحد أن يكرمه، ولا يمكن أن يُمكَّن من ذلك، ولا قدرة له عليه.
وقد أكد سبحانه إرادته الخالدة فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)، أي مما يريده ويشاؤه ويحبه، وليس لأحد من خلقه عنده إرادة (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، وأعمالهم في سلطان إرادة الله سبحانه وتعالى فلا تخرج حركة عن حركة إلا بإذنه، وهو السميع العليم، وقد أكد سبحانه أن له وحده المشيئة المطلقة، والإرادة المختارة بـ (إِن) المؤكدة، وبذكر لفظ الجلالة الذي يدل على الإرادة المطلقة، والاتصال بكل كمال، والله على كل شيء قدير.
* * *
الخصمان أمام الله يوم القيامة
قال الله تعالى:
(هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّمَا أَرَادُوا
* * *
الخصمان هما الذين آمنوا بمحمد - ﷺ -، والذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وهما خصمان؛ لأنهما في جانبين متقابلين؛ ولأن المؤمنين يؤمنون بكل ما جاء عن الله، وغيرهم يجادلون في اللَّه؛ لأن الخصومة في الحق قائمة بينهم وهي من جانب الذين اتبعوا محمدا - ﷺ - هداية وإرشادا، ومجادلة بالتي هي أحسن، ومن جانب المخالفين لهم عناد وإغواء ودس وخيانة، ومجادلة بالباطل، وادعاء له.
وواضح أن الخصومة كانت في الدنيا، وفي الآخرة كان الجزاء الوفاق، وكل ينال ما يستحق، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ)، أي تقدر لهم على قدر أجسامهم، وتقطع وتخاط، بحيث تحيط النار بأجسامهم ماسة أبدانهم كما يمس الثوب جسم اللابس له، ويحتك بلحمه،
الصهر إذابة الحديد، فقوله تعالى: (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ) من أحشاء من معدة وأمعاء وقلب وكبد وغيرها، يذاب هذا كله، وأي عذاب يكون في هذه الحال، (وَالْجُلُودُ) أيضا تذاب من شدة الحرارة، ولا شك أن ذلك كله تصوير للعذاب الذي ينزل بهم، وإنه لواقع، واللَّه هو الذي ينجي المؤمنين بفضل رحمته، وبمنٍّ منه، وهو الرءوف الرحيم.
وقد وصف سبحانه بقية من عذابهم، فقال:
المقامع جمع مِقمْع، وهو ما يذلل به، ويدفع، وكان خزنة جهنم من الملائكة الأطهار، واقفون كلما هموا أن يخرجوا من النار ردوهم إليها بهذه المقامع التي تزودهم وتدفعهم، وتردهم إليها؛ ولذا قال تعالى:
فارين من جهنم ونيرانها وغمها وآلامها ردوا بالمقامع إليها وأعيدوا فيها، وقالوا لهم: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)، أي عذاب النار التي تحرق أجسامكم في ظاهرها كما شوت أحشاؤكم في باطنها، كما أذقتم المؤمنين العذاب في الدنيا، وقوله: (مِنْ غَمٍّ)، أي بسبب غم العذاب وغم البؤس، وشعورهم بأنه أبدي خالد، هذا جزاء الكافرين المعد لهم الذي يرتقبهم، وهو جزاء الخصم الأول، أما الخصم الثاني وهو المؤمن فجزاؤه روح وريحان وجنة النعيم؛ ولذا قال عز من قائل:
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٢٣)
وإذا كانت ثياب المجرمين قطعت من نار لبسوها، فثياب المؤمنين من ذهب ولآلئ وحرير؛ ولذا قال تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا).
يصح أن تكون من تبعيضه، أي يحلون بعض أساور من ذهب، وأساور جمع لسوار، إذ هي جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، ويصح أن تكون (مِنْ) ابتدائية، أي يحلون، وحليتهم من أساور فتكون بيانية، أي هي من أساور، (وَلُؤلؤًا) عطف على محل (مِنْ أَسَاوِرَ)، لأن محلها النصب، أو نقول مفعول لفعل محذوف تقديره وترصع لؤلؤا، (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)، أي لَا يلبسون إلا حريرًا، وهذا أقصى أحوال النعيم الحسي، وقد يقال: كيف يذكر ذلك على أنه من نعيم أهل الجنة، وقد وردت الآثار بأن الذهب والحرير حرام على رجال الأمة، فكيف يذكران على أنهما من نعيم أهل الجنة (١).
والجواب عن ذلك: إن الجنة ليست دار تكليف، إنما هي دار ثواب، ولذا كان فيها أنهار من خمر لذة للشاربين، (لا يُصَدَّعُونَ عَنهَا وَلاً يُنْزِفُونَ)
________
(١) عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حُرِّمَ لِبَاسُ الحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ. رواه الترمذي: اللباس - ما جَاء في الحرير والذهب. وقال حسن صحيح. وعن حُذَيفَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ، وَالحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ، هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ».
رواه البخاري: اللباس - لبس الحرير وافتراشه للرجال (٥٣٨٣)، ومسلم: اللباس والزينة (٣٨٤٩).
وإنه بجوار هذا النعيم الحسي من كل الجوانب في الجنة النعيم المعنوي؛ ولذا قال تعالى:
هذا وصف لأهل الجنة من أقوالهم وأفعالهم في الدنيا، أم هو وصف لأقوالهم في الجنة، وقبل أن نتكلم في مكان القول نشير إلى بعض ما يدل عليه: القول الطيب هو القول الحق، الذي يتقرب به إلى الله تعالى، والذي يقرر القائل له كمال اللَّه تعالى ووحدة ألوهيته والطاعة للَّه تعالى، وتكبيره، وتقديسه، وتسبيحه، والخضوع المطلق له، وحمده في كل وقت، و (صِرَاطِ الْحَمِيدِ)، هي طريق اللَّه تعالى بإعلان عبادته وحده لَا يشرك به شيئا، و (الْحَمِيدِ)، أي المحمود في كل ما يوصف به، والإضافة إما أن تكون بيانية، كقولهم خاتم حديد، أي خاتم هو حديد، ويكون المعنى صراط هو الحميد المحمود في كل مسالكه من مبتدئه إلى منتهاه، فهو طريق كل خير، ينتقل فيه من مرحلة خير إلى غيرها، فهو مراحل الاستقامة تبتدئ من أولها إلى نهايتها، ويصح أن يكون المراد من (الْحَمِيدِ) ذات اللَّه تعالى لأنه المختص بالحمد، ويكون المعنى، وهدوا إلى طريق الله تعالى البالغة الموصلة له مثل قوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ...)، وهدوا بالبناء للمجهول في الفعلين، ولم يذكر الفاعل مع أن الهداية كلها من اللَّه تعالى، فحذف للعلم به؛ ولأن الهداية تتعدد مسالكها، فهي تبتدئ بعمل من المهدي بأن يتجه إلى الحق مخلصا النية، فيأخذ اللَّه بيده ويبلغ به إلى أقصى ما يبلغ به من مراتبه.
بقى أن نتكلم في زمانها ومكانها، أكانت في الدنيا، وهي التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء الوفاق في الآخرة، ويكون ذكرها في الجنة تحقيقا لها، وتأكيدا لها
وثمة اتجاه آخر، وهو أن هدايتهم إلى القول الطيب، والصراط الحميد هو في الآخرة ويكون من النعيم النفسي، إذ إن أهل الجنة يسمرون ويتبادلون القول الطيب، والسلوك الحميد في الآخرة، فيضاف إلى إنعام اللَّه إنعامٌ بالمسامرة التي ليس فيها فسوق في القول، بل مبادلة محبة ومحبة، وعندي أنه يجمع بين القولين، فتكون الهداية إلى القول الطيب والطريق المحمود في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم.
بعد أن بين اللَّه تعالى جزاء المؤمنين عاد سبحانه إلى ذكر جزاء الكافرين وأعمالهم التي استحقوا بها هذا الجزاء فقال تعالى:
ابتدأ سبحانه وتعالى القول بذكر الكافرين مؤكدا كفرهم بـ " إنَّ " الدالة على التأكيد، وقد ذكر الموصول لبيان أن الصلة هي سبب هذا الجزاء، والصلة فيها أمور ثلاثة تستدعي الاستنكار والعذاب الشديد:
الأمر الأول - الكفر، وكفر أهل مكة هو الإشراك باللَّه تعالى بعبادة الأوثان.
الأمر الثاني - الصد عن سبيل اللَّه تعالى بإيذاء المؤمنين ومحاربتهم، ودعوة العرب إلى عدم الإيمان باللَّه وبرسوله.
الأمر الثالث - بصدهم عن المسجد الحرام، ومنعهم من أداء المؤمنين الحج فيه، ويظهر أن هذه الآية نزلت في فترة الحديبية؛ لأن المسلمين حيل بينهم وبين الوصول إلى المسجد الحرام، وهو للناس جميعا؛ ولذا وصفه اللَّه تعالى بالموصول
و (الْعَاكِفُ) المقيم في مكة، وعبر عنه بالعاكف إيماء إلى أنه ينبئ أن يكون عاكفا عابدا، لَا أن يكون وثنيا مشركا، صادًّا عنه مانعًا له، والبادي: المقيم في البادية، وإذا كان المقيم ببادية يستوي مع المقيم في مكة حول البيت الحرَام فأولى المتحضر المقيم في الحاضرة؛ ولذا قالوا: إن البادي هو من يكون من غير أهل مكة سواء الحاضر فيها والبادي، والتعبير بالمضارع في يصدون إشارة إلى استمرارهم على الصد عن سبيل اللَّه.
وخبر " إن " محذوف، دل عليه ما يجيء بعد ذلك من قوله: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ) تقديره له عذاب شديد، وقوله تعالى: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، أي إن الذي يريد فيه إلحادا وميلا عن الحق واحترام البيت وصيانته بظلم يرتكبه بالشرك والاعتداء على حرماته، وصد الناس، ومنعهم من الطواف يذيقه اللَّه تعالى من عذاب أليم ينزل به في الدنيا بالحروب التي تهزمهم، وفي الآخرة بالنار يذوقون حريقها.
وفى قوله تعالى: (وَمَن يرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ) أمور بيانية نشير إليها:
________
(١) كلمة (سواء) منصوبة: قراءة حفص، وجبلة عن المفضل عن عاصم، وقرأ الباقون بالنصب. غاية الاختصار: ٢/ ٥٧٨.
ونرى أن الإلحاد هنا من النوع الذي يبطل الإيمان، فهو ميل وانحراف إلى عبادة غير اللَّه تعالى، وقد فعل ذلك المشركون في المسجد الحرام، فقد كانت الأوثان مادة ذلك الإلحاد في البيت وموضوعة على الكعبة نفسها.
الأمر الثاني - أن قوله تعالى: (بِظُلْمٍ)، بيان لنوع الإلحاد، وهو الظلم، والشرك أفظع الظلم وأشده، ولقد قال تعالى: (... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وإن اللفظ المطلق إذا لم يقيد انصرف إلى أكمل أفراده، فهو هنا انصرف إلى الشرك وكان من المشركين مع الشرك الذي هو أشد الظلم ظلمات أخرى فكان فيهم ظلم الضعفاء وإيذاؤهم، وكان فيهم ظلم الاعتداء المتكرر منهم على المؤمنين، وكان فيهم ظلم الاستهزاء بالنبي - ﷺ -، وكان فيهم ظلم الغدر والخيانة ونكث العهود، وكانوا لَا يرقبون في المؤمنين إِلًّا وَلَا ذِمَّةً.
الأمر الثالث - في قوله تعالى: (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، (مِنْ) هنا بيانية أو ابتدائية، أي نذقه عذابا أليما، أو نذقه ذوقا مرا مأخوذا من عذاب أليم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
قال اللَّه تعالى:
(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
* * *
الحج شريعة إبراهيم باني البيت - عليه السلام -، لأنه باني الكعبة، ولأنه أول من أمره اللَّه سبحانه وتعالى بالدعوة إليه، ولأن مناسكه كلها هي مناسك إبراهيم - عليه السلام -؛ لأن ما فيه من هدْي يومئ إلى فدية اللَّه تعالى الذي فدى بها إسماعيل - عليه السلام - عندما هم بذبحه، برؤيا إبراهيم - عليه السلام -، وذكر هنا في هذا المقام إشارة إلى أنه ليس حق الطواف فيه مقصورا على قريش وحدها.
وقوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر يا محمد لهؤلاء الذين يصدون عن البيت، (وِإذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ)، بوأ بمعنى
فسر الله تعالى العبادة التي طالب اللَّه سبحانه وتعالى خليله بها هي:
أولا - (لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا)، أي شيئا من الشرك، أي اجعل عبادتك لي خالصة، فلا تشرك في عبادتك صنما، ولا كوكبا، ولا شمسا ولا قمرا، ولا تُرائي بأي نوع من الرياء في أي عبادة من العبادات.
وثانيا - تطهير البيت من كل ما فيه قاذورات حسا أو معنى، (لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، والقائمون هم القائمون للصلاة، فكأنه قد ذكر فيها الأمر بالصلاة، بالأمر بأركان من قيام وركوع وسجود، و (الرُّكَّعِ) جمع راكع، و (السُّجُودِ) جمع ساجد وقوله تعالى: (أَنْ لَا تُشْرِكْ) وما عطف عليها فيها الطلب بالنهي في (لَا تُشْرِكْ)، وبالطلب في (وَطَهِّرْ بيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّع السُّجُودِ)، وأضاف سبحانه وتعالى إلى ذاته البيت في قوله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) إلى آخره، تشريفا لهذا البيت زاده اللَّه تشريفا وتكريما، ولبيان أن البيت بيت الله تعالى للناس أجمعين، فلا يسوغ لأحد أن يصد عنه؛ لأنه يصد عن أكرم بيوت اللَّه تعالى، فكأن الصد عنه تحدِّ للَّه تعالى، ولقد أمر سبحانه بعد الأمر بما أمر، وبما نهى عنه - أمر بأن يؤذن للحج، فقال تعالى:
(وَأَذِّنْ) أمر من اللَّه تعالى لإبراهيم باني الكعبة، (وَأَذِّنْ) - من " أذن " بمعنى أجاز - وأعلم كآذن، والتأذين: الإعلام والدعوة، والمؤذن هوَ الداعي إلى اللَّه تعالى، وخصص - عرفا - بالدعوة إلى الصلاة.
(فِي النَّاسِ) إخبار للناس كلهم عربا وعجما، وهي دعوة عامة إلى حج البيت الحرام، وعدى الفعل بـ " في "، ولم يقل " الناس "، بل قال تعالى: (فِي النَّاسِ) للإشارة إلى عموم الإعلام في الناس، لأنه إذا لم يذكر (في)، فقد يفهم أنه يكلم أهل عصره، أو من يمكنه خطابهم فقط، وذكر (فِي) يدل على أن الإعلام في أوساط الناس كلهم، لَا فرق بين القريب الداني والبعيد القاصي، فالجميع يجب أن يبادروا إلى الحج إلى بيت اللَّه، لأنه أول بيت وضع للعبادة للناس، ولأن التأذين بالحج يتضمن إعلام الناس، أو معناه إعلام الناس تعدى بالباء.
والحج معناه القصد، وخص بالقصد إلى بيت اللَّه الحرام، وخصص عرفا شرعيا، أو اصطلاحا دينيا بالقصد إلى الكعبة طائفا، وإلى الصفا والمروة ساعيا، وإلى عرفة واقفا في ميقاته، وهو من زوال اليوم التاسع، والبيات بمنى، والوقوف بالمشعر الحرام، وهو المزدلفة، والعود إلى منى ورمي الجمار بها بعد النحر في أيام ثلاث بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق ويكون الهدْي، وسيشار إلى كثير من ذلك في الآيات التي نتكلم في معانيها من بعد.
(يَأتُوكَ رِجَالًا)، أي إذا ناديت وأعلمتهم بفريضة الحج يأتوك راجلين سائرين على أقدامهم، و (رِجَالًا) جمع راجل كصاحب وصحاب، وتاجر وتجار، والراجل هو الماشي على رجله، في مقابل الراكب، وهنا أمران بيانيان:
والأمر الثاني - أن (يَأتُوكَ)، جواب الأمر، وهو يدل على قوة الإجابة، إذ يجمع الناس على الحق والهداية والتعاون وهو بيان لما ينبغي ويجب، ولا يمنع ذلك أن يكون في الناس عصاة لَا يهتدون ولا يجيبون داعي اللَّه تعالى.
(وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، الضامر: البعير الهزول الذي ضمر من شدة التعب، وأجهده السفر، وهذه الحال تكون عند وصوله مكة وما حولها، ويكون هذا الوصف دليلا على أن الذين جاءوا إلى البيت، وقد صرحت الآية بذلك في وصف الابتداء الذي ابتدأت به للاتجاه إلى بيت اللَّه تعالى، فقال تعالى: (مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الفج يطلق على الطريق بين جبلين ويطلق على الطريق الواسع، والعميق معناه البعيد، وأطلق على البعيد بعدا رأسيا كالآبار ونحوها، ثم أطلق على البعيد مطلقا، و (يَأتِين) يعود الضمير إلى الإبل تكريما لها في حمل الحجيج إلى بيت اللَّه الحرام.
وإن هذه الدعوة التي قام بها إبراهيم خليل اللَّه ومنشئ أول بيت وضع للناس في مكة وسط العالم والتي يصلي حولها العباد المسلمون وقد أخذت الآيات الكريمة تشير إلى مناسك الحج من غير بيان تفصيلي.
" اللام " هنا لام العاقبة، أي لتكون عاقبة ذلك السفر الطويل أن يشهدوا منافع لهم، ويذكروا اللَّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، والشهود هو الحضور، أي يحضروا منافع لهم، ويعاينوها، ولكن ما هي هذه المنافع التي تسبق ذكر اللَّه بالعبادة والذبح، قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع
أما المنافع المعنوية، فدراسة التعاون الإسلامي من كل النواحي الاجتماعية والحربية والتعاونية والتعليمية ويعمل كل إقليم على التعرف ببقية الأقاليم الإسلامية والتعريف بحاجاته من العلم والحرب، وغيرهما وكذلك يشعر كل إقليم بأنه يعيش في مدن الأقاليم الإسلامية، ولا يشعر بنفرة الانفراد.
أما المنافع الدينية، فهي قضاء النسك الإسلامي في أماكن النسك، وإن المنافع السابقة لَا تخلو من أنها دينية، وأنها تكون عبادة إذا قصد بها وجه اللَّه ورفعة الإسلام، وإيجاد الوحدة الإسلامية وتوثيقها، فالمسلمون جميعا أمة واحدة، وبذلك ينتفع الحاج إلى بيت اللَّه الحرام، وهو مزود بالتقوى والمعرفة والأخوة في اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (اللَّه) ذكر الله تسبيحه وامتلاء القلب بالإيمان به، والخضوع له، والخشوع،
ونلاحظ أنه ذكر سبحانه أن ذِكْر اسمه تعالى في أيام معلومات، وأن الذكر يكون على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فالذكر يكون على بهيمة الأنعام، والإضافة بيانية، أي بهيمة هي الأنعام جمع نَعَم، وهي الإبل والبقر والغنم، وسميت نعما؛ لأنها نعمة الله تعالى، وهي التي تكون هديا في الحج، لمن يجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد، أو في إحرامين بينهما تحلل في أشهر الحج. وذكر اسم الله يكون في أيام معلومات، وهذا يقتضي أن يكون ذبح الهدْي في هذه الأيام المعلومات، ولكن ما هي الأيام المعلومات التي يكون فيها الذبح، وذكر اسم الله تعالى فيها، بالتسبيح والتكبير، وامتلاء النفس والمشاعر المؤمنة به، ما هي هذه الأيام المعلومات، روي أنها الليالي العشر التي تبتدئ بيوم عرفات، وينتهي بها الحج، والتي جاء فيها النص القرآني بقوله تعالى: (... فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١).
وقد وردت الآثار الصحيحة عن النبي - ﷺ - بفضل ذكر الله ودعائه في هذه الأيام العشر التي تبتدئ من اليوم التاسع، فقد روى ابن عمر عن النبي - ﷺ - أنه قال: " ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد " (١).
________
(١) رواه بهذا اللفظ أحمد: مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (٥١٨٩).
قال تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، " الفاء " هنا للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا ذبحتموها اذكروا اسم اللَّه تعالى فكلوا منها، فالأكل من الهدْي مندوب، وليس فرضا، ولا ممنوعا، والبائس هو الذي يكون في شدة وبؤس شديد من مرض، أو شدة، أو إجهاد في سفر، والفقير المحتاج، وقد قال العلماء في الهدْي: إن المندوب أن يأكل ما لَا يزيد على الثلث، ويهدي ما لا يزيد على الثلث، ويطعم الفقير المحتاج، وقد يكون ثمة فقر شديد، وحاجة ملحة فيزيد في إطعام البائس الفقير.
وقال تعالى:
التفث: الأوساخ والأدران التي تكونت بسبب المنع من الاستحمام، وحلق الشعر، والعانة والإبط، مما يوجبه الإحرام، ويستمر به الشخص محرما، لَا يتناول شيئا مما حرمه اللَّه تعالى، وذلك ليعيش عيشة الفقراء، فيحس بآلام الفقراء، وبؤس المحرومين من زينة الدنيا، وليكون الناس على سواء أمام اللَّه تعالى، وليجيئوا إلى ضيافة الرحمن، كما ولدتهم أمهاتهم، ويخرجوا من الحج، كما ولدتهم أمهاتهم، وقضاء التفث يرمز إليه بحلق الرأس، أو التقصير والاكتفاء بقدر من قص الشعر، وتقليم الأظفار الذي كان ممنوعا بالتحريم.
والتعبير بـ (ثُمَّ) هنا لإفادة التفاوت بين حال المنع بالإحرام، وحال التحلل منه مثوبا مكرما، وحين ذلك يكون نحر الهدْي لمن وجب عليه الهدْي.
* * *
تعظيم مناسك الحج
قال اللَّه تعالى:
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)
________
(١) سبق تخريجه.
* * *
(ذَلِكَ)، الإشارة هنا إلى الحج الذي أذن به خليل الله إبراهيم، وتكون (ذَلِكَ) خبرا لمبتدأ محذوف تقديره الحج هو ذلك، لأن الآيات السابقة أشارت إلى أركانه وواجباته، إذ أشارت إلى الوقوف بعرفة أول الأيام العشرة، وأشارت إلى الطواف بالبيت، وأشارت إلى محرمات الإحرام، والتحلل، وحدَّت كل شعيرة من شعائره، ووقت لها في ميقاتها المعلوم، ثم حثت الآية الكريمة على المحافظة على حرمات الحج، فلا يتحلل قبل ميقاته لمن أحرم بالحج على حسب ما نوى من حج وعمرة أو أحدهما، ووقت تحلله من إحرامه، فقال: (وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ)، " الواو " عاطفة على جملة (ذَلِكَ) الدالة على التعريف الموجز للحج، والإشارة إلى أركانه، ومحرماته، وأوقاته، و (يُعَظِّمْ) معناها يعطيها
(فَهُوَ خَيْرٌ لهُ عِندَ رَبِّهِ)، هذا جواب الشرط (وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) و " الفاء " واقعة في جواب الشرط، وهو قوله: (فَهُوَ خَيْر لَّهُ عِندَ رَبِّهِ)، فيها تأكيد الخيرية أولا: بذكر ضمير الفصل " هو " - وثانيا: بتخصيص الخيرية " له "؛ لأنه قام بمناسك الحج، أدى موجباتها وبعد عن موانعها، وقام بحق ضيافة اللَّه تعالى حق قيامه، وتعاون مع المسلمين وتعرف بهم، وذلك خير له ولكل المؤمنين. وثالثا: بأن أضاف الخيرية بأنها (عِندَ رَبِّهِ) الكالئ له والحامي.
وقد ذكر الحرمات مضافة إلى ذي العزة والجلال حضا على صيانتها وتكريمها ومراعاتها حق رعايتها، وأحل ما أحل وحرم ما حرم، وإن الحج لا يكون خيرا إلا إذا طهرت النفوس من الآثام واتجهت إلى الديان وحده لَا شريك له؛ ولذا قال تعالى عاطفا على ما قبله (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ) الإضافة هنا بيانية، أي البهيمة التي هي الأنعام، أي أنها من النعم التي أنعم اللَّه بها عليكم، فتحريمها بغير تحريم اللَّه تعالى كفر بنعمته، واستباحتها بغير إباحة اللَّه تعالى كفر بنعمته أيضا؛ ولذا قال تعالى: (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) وما تلي هو ما جاء في سورة البقرة والأنعام والمائدة، وآخرها ما جاء في المائدة، فقد قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
________
(١) زيد بن أسلم، العدوي القرشي، وكنيته أبو أسامة، من الطبقة الوسطى من التابعين، وهو ثقة يرسل، أقام بالمدينة وتوفى بها ١٣٦ هـ. راجع الطبقات الكبرى لابن سعد - الطبقة الوسطى - زيد بن أسلم.
هذا ما أُحل وهذا ما استُثني من الحلال، وذكرت بهائم الأنعام وإحلالها في هذا المقام لمناسبة الهدْي ووجوبه والأكل منه، وإن المشركين كما أشرنا أحلوا ما حرم اللَّه فأكلوا ما أهلّ به لغير اللَّه من أوثانهم، وحرموا ما أحل اللَّه تعالى في تحريم السائبة والوصيلة والحام، ونسبوا التحريم إلى اللَّه تعالى، وذلك زور في القول، والإهلال لغير اللَّه والذبح على النصب والاستقسام بالأزلام، كل ذلك من الوثنية أو الكذب على اللَّه تعالى؛ ولذلك جاء من بعد النهي عن الوثنية وقول الزور، فقال عز من قائل: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
(الرِّجْسَ) هو الشيء القذر، والقذارة هنا معنوية وليست حسية؛ لأن النفس والعقل يقذران بتقديس الأحجار وعبادتها؛ لأنها تنزيل للفكر، وضلال في العقل، وافتئات على اللَّه جل جلاله، والأوثان جمع وثن، وهو ما يعبد من تماثيل، وأصله من وثن الشيء أي أقامه في مقامه، فسمي الوثن كذلك؛ لأنه يركز في مقامه، وهو بطبعه جماد لَا يتحرك إلا بمحرك، و (مِنَ) في قوله تعالى: (مِنَ الأَوْثَانِ) بيانية، أي اجتنبوا الرجس، وهو الأوثان، ففي الكلام بيان بعد إبهام وهو يمكن المعنى في النفس، واجتنبوا معناها ابتعدوا كل الابتعاد، وهو أبلغ في النهي، وكان النهي عن الأوثان في هذا المقام؛ لأن اللَّه أحل بهيمة الأنعام، إلا الميتة وما يشبهها، وما أهل لغير اللَّه به، وقد استباحوا ما أهل به للأصنام وما ذبح على النصب، واستقسموا بالأزلام، فلا حج لمن كان كذلك، ولا خير له في حجه.
وقد وصف اللَّه تعالى الذي يكون تعظيم حرمات اللَّه خيرا له عند ربه بقوله تعالى:
هذه الآية جزء متمم للآية السابقة متصلة بألفاظها؛ ولذا كانت كلمة (حُنَفَاءَ) حال من " الواو " في (فَاجْتَنِبُوا)، أي اجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور حال كونكم خالصين للَّه تعالى مستقيمين سائرين في سبيله، و (حُنَفَاءَ) جمع حنيف، وهو المائل من الانحراف إلى الاستقامة، فهؤلاء يخلصون من رجس الأوثان، ومن قول الزور الاستقامة والإخلاص للَّه تعالى أي يكونون كلهم للَّه تعالى لَا يبغونها عوجا فليس فيهم ضلال قط، ولا إشراك قط، بل خلصوا أنفسهم للَّه وحده، لَا يشركون في قلوبهم غيره، ولذا قال تعالى مؤكدا معنى إخلاصهم للَّه تعالى: (غَيْرَ مُشرِكِينَ بِهِ)، حال بعد حال، أي غير مشركين به أحدا أو شيئا في عبادته، وضرب بعد ذلك مثلا للمشركين يصور كيف ينحدر من سماء العقل والفكر، إلى منهوى الأرض، فقال تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) شبه اللَّه تعالى من يشرك باللَّه تعالى قد أضله الشيطان وأغواه بتشبيهين مبينين المنهوى الذي انهوى إليه عقله ومداركه، فشبهه في الأول بمن خر من السماء هابطا، ففي هبوطه تخطفه الطير، فتقطعه بمناقيرها، والتهمته أجزاء، وذلك لأن من أشرك قد هوى من سماء الإدراك السليم، والفكر المستقيم إلى مهاوٍ توزعته الأهواء، حتى صار ليس له فكر جامع، بل صار موزعا بين ضلال شتت نفسه، وصار موزعا بين أوهام فاسدة لَا راشدَ يرشده، ولا عقل يهديه.
والسَّحق التفتيت، والمكان السحيق، أي البعيد يلقى إليه مع بعده فتاتا مقطع الفكر موزع الأهواء، ولا فكر يسير ولا عقل يرشد، وقد قبسنا الكلام في هذين التشبيهين مع التوضيح والتوجيه من كلام الزمخشري، فقد قال: " ويجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركَّب والمفرق فإن كان تشبيها مركبا قال من أشرك باللَّه فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته الطير فصيرته مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك باللَّه بالساقط من السماء، وشبه الأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به المهاوي المتلفة " اهـ.
ونرى أنه جعله تشبيها واحدا مركبا ومفرقا، ونرى أنه تشبيهان مفرقين أو مركبين، وإن هذا التصوير كما ذكرنا، وكما ذكر الزمخشري هو على ذلك في الدنيا، لبيان هلاك المشرك، وتخطف الأهواء لمداركه ويبين فساد عقله وضلاله، وإنه لَا يكون بالنسبة للدين إلا في حيرة تسيره الأوهام ولا سلطان له على نفسه، وقد قال بعض المفسرين: إن تحقق هذه الحال المبينة بالتشبيه، إنما هي في الآخرة لا في الدنيا. وإننا نرى أن الجميع ممكن بأن تكون هذه حاله في الدنيا والآخرة، وإنه في الدنيا يتردى إلى ضلال الأوهام والأهواء من سماء الإيمان، وفي الآخرة يتردى إلى العذاب الأليم الذي يكون فيه خالدا.
الإشارة إلى الحج، والفاصل كان متعلقا بالحج، فقد كان فيه الأمر باجتناب رجس الأوثان، والكذب على اللَّه بقول الزور والأمر بأن تكون الذبيحة للَّه، وأن
(فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، الضمير في (فَإِنَّهَا) يعود إلى الشعائر، و " الفاء "
واقعة في جواب الشرط، وهو قوله تعالى: (وَمَن يعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) وكانت الشعائر من تقوى القلوب لأن تخصيصها لفقراء الحرم، والاتجاه بها في العبادة مظهر حسِّي يدل على تقوى القلوب، وهي بمقصدها وغايتها نابعة من التقوى، وهي استشعار خشية اللَّه تعالى والشعور بضيافته، ويلتقي بالناس متساويا معهم فقيرا وغنيا، ومعينا لفقيرهم، ومكرما لضيوف الرحمن من الحجيج، وأضيفت التقوى إلى القلوب، لأن القلب هو مكان التقوى، وقد قال - ﷺ -: " التقوى هاهنا "، وأشار إلى قلبه الكريم (١).
________
(١) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
رواه مسلم (٦٤٩٣). وقد سبق تخريجه.
الضمير في (فِيهَا) يعود على الشعائر على أساس أن البُدن وغيرها من هدايا البيت هي الشعائر، على أساس ما يرمز إليه من تكريم البيت، والمعاونة في ضيافته، (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ) بدرها وعملها، وصوفها ووبرها ما دامت في حوزتكم (إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى)، وهو مدة بقائها في أيديكم إلى أن يحين وقت نحرها في يوم النحر، وفي هذه الحال يكون نسلها لكم، وكل ما يكون لها من نفع، (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، (ثُمَّ) للترتيب والتراخي، والتراخي هنا التراخي الزمني، إن كان ثمة تراخ في الزمن، وهو زمن السير في ميقات الحج إلى محلها العتيق، والتراخي المعنوي، وهو أنها تنتقل من دابة لمنافع دنيوية إلى مرتبة دينية تشعر وتكون من شعائر الرحمن، وتحبس للفقراء في البيت، و (ثُمَّ) مع دلالتها على التراخي تدل على انتهاء الأجل المسمى والغاية التي تنتهي إليها هذه الشعيرة، وهي المكان الذي تذبح فيه (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، أي محل ذبحها ينتهي إلى البيت العتيق، وهو أقدم بيت وأكرمه، وهو المعتق المعصوم من تحكم الملوك وسيطرتهم، فلم يسيطر عليه ملك قط، وما كان من هدم الحجاج الطاغية له مع أنه كان طغيان من لَا يهتم لمناسك اللَّه - لم يكن تسلطا من سلطان ملك، وقد بناه من بعد عبد الملك بن مروان الذي كان الحجاج يعمل له.
" المنسك " اسم مكان من " نَسَك " وهو مكان العبادة، والعبادة يطلق عليها النسك، وقد اختار اللَّه لأمة محمد البيت الحرام مكانا لنسكها وأداء العبادة في حج البيت الحرام، والإقامة فيما حوله، وأن يكون الذبح، وإطعام الفقراء، (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)، أي يذكروا اسم اللَّه تعالى عند ذبحها، شاكرين له نعمته وإذا كان اللَّه تعالى شارع الشرائع قد جعل لكل أمة منسكا هم ناسكوه؛ فذلك لأنه إلهكم أنتم وغيركم إلها واحدًا، فكان للماضين من الأمم
و" الفاء " في قوله تعالى: (فَإلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) هي فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، إذ المعنى إذا كان لكل أمة منسك فاللَّه الذي شرع المناسك واحد، وكلها لعبادته والتقرب إليه سبحانه وتعالى، كذلك كان منسككم، وكان للماضين مناسك شرعها (فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)، " الفاء " عاطفة، (أَسْلِمُوا)، أي أذعنوا، وأطيعوا متطامنين غير متمردين، ولا متطاولين ولا مستطيلين على أحد، ولذا قال تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) بالثواب الجزيل والنعيم المقيم، ورضوان اللَّه تعالى، وهو أكبر الجزاء، فرضا الخالق بديع السماوات والأرض غاية أهل الإيمان العليا التي هي فوق كل مبتغى.
والمخبت هو المتطامن المتواضع الذي لَا يتعالى، ولا يستطيل على أحد، وقد قال الراغب الأصفهاني في مادة خبت: " الخَبْتُ المطمئن من الأرض، وأخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل وأنجد، ثم استعمل الإخبات استعمال اللين والتواضع، (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)، أي: المتواضعين، فالتواضع سمة المؤمنين، والغطرسة سمة الكافرين، والذين لم يشرب قلوبهم حب الإيمان، وهم ليسوا أذلاء، بل هم الأعزاء، ولقد قال محمد - ﷺ -: " مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ منْ مَال، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزا. وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ " (١).
وقد وصف اللَّه تعالى المخبتين الذين بشرهم سبحانه وتعالى بقوله:
________
(١) رواه مسلم (٦٥٤٤)، وقد سبق تخريجه.
(الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)
الخلة الأولى - (إِذَا ذُكرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، (الوجل) الخوف والخشية من اللَّه، لَا لأنهم كثيرو الذنوب، إنما هو لاستصغار حسناتهم، واستكثار سيئاتهم وتصورها، فهم من اللَّه تعالى القوي القهار في وجل، ومن خاف اللَّه حذر مخالفته، وحاول طاعته، وسعى في مرضاته، والوجل صفة أهل الإيمان كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)، وقال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...).
هذه حال الذين يعرفون اللَّه ويتقونه حق تقاته.
الخلة الثانية - فيها الصبر؛ ولذا قال تعالى: (وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ)، والصبر ضبط النفس، وسيطرة العقل، فإذا أصابهم أمر من أمور الدنيا المزعجة لا يهلعون ولا يفزعون، ويضبطون أنفسهم، فلا يكون عليهم شهوة جامحة، فلا يكون الهوى سيدا مطاعا، بل تكون الشهوة أمة لَا سيطرة لها، وإن كل شيء من مصائب الدنيا يهون أمام الصابر.
والخلة الثالثة: إقامة الصلاة، أي أداؤها مقومة كاملة في ظاهرها وباطنها، فتكون النفس خاشعة خاضعة قانتة تحس النفس بروعتها، وأنها في حضرة ذي الجلال والإكرام وتمتلئ النفس بهيبته، وتخشع لعظمته؛ ولذا قال تعالى: (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) عبر باسم الفاعل لبيان أن الصلاة صارت شأنا من شئونه لا يتخلف عنها، والصلاة والصبر فيهما عون للمؤمن على الطاعة، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).
وقد تقدم قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) على الفعل؛ لبيان أن الإنفاق مما رزقهم اللَّه وحده فليس من جهودهم ولا أعمالهم ولكن من توفيق اللَّه تعالى، ومن رزقه الذي رزقه إياهم.
وإن الإنفاق بكل أنواعه التي أشرنا إليها هو تعاون اجتماعي في السلم والحرب؛ ولذا سماه اللَّه تعالى الماعون فقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)، وهي الزكاة؛ لأنها يكون بها التعاون الدائم المستمر.
* * *
أعلى أنواع الهدى
قال اللَّه تعالى:
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا
________
(١) سبق تخريجه.
* * *
(فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ)، وفي قراءة صوافن، وصواف جمع صافة، والصافة هي من رفعت إحدى يديها بالفعل لئلا تضطرب، والمعنى اذكر اسم اللَّه تعالى عند إعدادها للذبح، وصافنة كصافة في المعنى.
والذي أراه أن تُصَفّ النوق صفوفا عند ذبحها، بحيث تكون مقدمة للذبح في صفوف متتالية بعضها وراء بعض، وذلك فيه روعة في المظهر، وظهور للمشعر، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) أي مصطفة، وصففت كذا: جعلته على صف واحد، قال تعالى:
(... عَلَى سررٍ مصْفوفَة...).
(فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ)، (وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)، أي سقطت ذبيحة بعد ذكر اسم اللَّه تعالى، (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
وإن هذا كله لخير العباد، ولإعلان المناسك، ولا يعود على ذات اللَّه تعالى العلية منها شيء.
نفَى اللَّه تعالى نفيا مؤكدا، أن يصل إلى اللَّه تعالى منها شيء؛ لأنه واجد الوجود غير محتاج حتى يحتاج إلى لحم البُدن ودماؤها، فإنما يحتاج إلى ذلك من يكون فقيرا إليها، ولا أن تكون مرضاته في لحومها، ولا في دمائها، فإذا كان قد أوجب عليكم نحرها، والتقرب بذبحها، فليس ذلك لأجل رضائه باللحم والدماء، (وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكمْ)، أي يبلغ مبلغ رضاه وقبوله التقوى منكم، فاللَّه سبحانه لَا يرضى بلحم يؤكل ولا تكون مرضاته في دم يهراق، وان كان ذلك، وإنما يبلغ مرضاته وقبوله التقوى، وهذه إشارة إلى أمرين:
الأمر الأول - أن الدم المهراق مطلوب في الحج تذكيرا بفداء إسماعيل.
(كذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكمْ)، أي كهذا التسخير من ذبح وأكل وتصدق (سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّروا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكمْ)، واللام للعاقبة، أي سخرها لتكون العاقبة أن تكبروا اللَّه في الحج على هدايتكم إليه سبحانه وتعالى، ولتقيموا شعائره، ولتحسنوا أداء التكليفات التي كلفتموها، (وَبَشِرِ الْمُحْسِنِينَ)، أي أن الْمُحْسِنِينَ ينالون الخير العميم، والفضل العظيم، والهداية، فبشرهم بالبشرى الطيبة، والجزاء الحسن، وإن اللَّه لَا يضيع أجر من أحسن عملا.
* * *
الإذن بالجهاد
قال اللَّه تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
* * *
لقد دافع اللَّه عن الذين آمنوا فحفظهم في مكة، وإذا كانوا قد تعرضوا للأذى، فقد حماهم اللَّه بالصبر، والهجرة فارين بدينهم إلى الحبشة مرتين، ثم إلى المدينة، وأفرغ عليهم الصبر، واحتموا بحمايته، وهو عدة المؤمنين، ولما هاجروا إلى المدينة خف عنهم الإيذاء وزال، ولكن كتب عليهم الجهاد، وأذن لهم في القتال، فكانت حماية اللَّه تعالى أوضح، ونجد هنا أنه سبحانه عبر بالمضارع والمستقبل، أي أن اللَّه من شأنه أن يدافع عن الذين آمنوا؛ لأنهم أولياؤه، وأحباؤه، ومن نصبهم للدفاع عن الحق ودين الحق، وقد أكد اللَّه دفاعه عن الحق بـ " إن، وذكر لفظ الجلالة اللَّه جل جلاله القوي المنتقم، ومن ينصره اللَّه فلا غالب له، وقد أكد سبحانه دفاعه بأنه سبحانه لَا يحب أعداءهم، لأنهم أعداء الحق المتألبون عليه؛ ولأنهم خائبون وأشد الناس كفرا، فقال عز من قائل: (إِن اللَّهَ لا يُحِبُّ كل خَوَّان كفُورٍ) فهذه الجملة السامية في مقام التعليل لمدافعته سبحانه عن المؤمنين؛ إذ هو سبحانه لَا يحب مقاتليهم، قد ذكر وصفين من أوصافهما هما سبب أن اللَّه تعالى لَا يحبهم:
الوصف الأول - الخيانة التي بالغوا في الاتصاف بها.
والوصف الثاني - الكفر الذي أوغلوا فيه وأمعنوا؛ ولذا عبر بـ (خَوَّانٍ كَفُورٍ)، والخيانة تتضمن مخالفة الفطرة، وتتضمن عدم طاعة أوامره ونواهيه،
وتتضمن عبادتهم أحجارا، وإشراكهم مع اللَّه، وتتضمن خيانة المؤمنين، ونكث العهود كما كان يفعل اليهود الذين حاربوا النبي - ﷺ -ومالأوا أعداءه وعاونوهم،
و" الكَفُور " هو الذي أشرك وسيطرت عليه الأوهام، وكفر بنعمة اللَّه تعالى وافترى على اللَّه تعالى، فادعى أن اللَّه حرم وما حرم، وأحل وما أحل.
وقد ذكر سبحانه الكُلِّية فقال: (كلَّ خَوَّانٍ كفُورٍ) لعمومهم في الخيانة آحادًا وجماعات، فليس منهم إلا خَوَّان كفُور.
وقال تعالى: (يُدَافِعُ) بصيغة المفاعلة للدلالة على المغالبة بين الحق والباطل، وأن اللَّه معهم في هذه المغالبة.
لم يجئ محمد - ﷺ - للقتال، ولكن جاء للحق والدعوة إليه، ولنصرة الفضيلة، وفضيلته إيجابية وليست سلبية، ودينه إيجابي، وليس بسلبي، وما كان ليستخذي أمام الباطل، بل يقاومه، وإلا عمَّ الفساد، ولذا قال تعالى: (... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)، ولقد كان المؤمنون في مكة يؤذَوْن فيصبرون، حتى إذا كانوا في المدينة وكانت لهم قوة حامية أذن لهم في القتال دفاعا عن كيانهم ودينهم، فقال تعالى:
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ) وعبر سبحانه وتعالى بالبناء للمجهول.. و (يُقَاتَلُونَ)، إشارة إلى أن المؤمنين لم يبتدئوا بالقتال، بل ابتدأ غيرهم عندما كانوا يؤذون المؤمنين، وهموا بقتل النبي - ﷺ -، وأحاطوا بداره ليقتلوه، ولكن اللَّه نجَّاه منهم، كما قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠).
وقد علل اللَّه تعالى الإذن بالقتال: بقوله: (بِأنَّهمْ ظُلِمُوا)، أي بسبب أنهم ظلموا. وانتصار الأمة المظلومة من الظالمين لها أمر يسوغه قانون العدل وقانون الرحمة، فمن الرحمة بالإنسان وقف ظلمه، ورد بغيه عليه، وأن يدافع عن المؤمنين المظلومين كما وعد، ولذا قال سبحانه: (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)،
وقد ذكر سبحانه كيف ظُلِم المؤمنون، فقال عز من قائل:
(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ)، بيان لظلمهم، إذ إن الخروج من الديار والبعد عن الأوطان في ذاته ظلم، وإذا كان بغيرِ سبب مسوغ أو حق مبرر يكون الظلم، ولذا ذكر هذا الأشَر (١) فقال: (بِغَيْرِ حَقٍّ)، أي بغير مبرر إلا أن يكون (ظلما)، لأنه إذا لم يكن يسوغ أو يبرر فهو ظلم لَا محالة وقد أكد ذلك الظلم، وإنه بغير حق، بل لأمر غير الحق (إِلَّا أَن يقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) وهذا من بديع القول ففيه تأكيد المدح بما يشبه الذم، وذلك كقول النابغة الذبياني:
ولا عيبَ فيهم غير أن سيوفَهم | بهنَّ فلُولٌ من قِراع الكتائبِ |
________
(١) الأشَر: البَطَر. الصحاح.
والنص الكريم يفيد أن دفع الباطل إذا لم يكن لم يستطع أهل دين أن يقيموا عباداتهم، فتهدم صوامع الرهبان، وبيع النصارى، وصلوات اليهود وكانت تهدم هذه البيوت، ولا تقام شعائر أهل دين من الأديان السماوية قبل انتساخها، وساد الشرك وتحكم، وهذا النص السامي يفيد أمرين:
الأمر الأول - تمكين أهل كل دين من عبادتهم ببقاء أماكن العبادة لَا تهدم ولا تمس.
والأمر الثاني - منع هدم معابد أهل الذمة على ألا يحدثوا جديدا.
(وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)، (مَسَاجِدُ) معطوف على (صَوَامِعُ)، أي لهدمت مساجد يهدمها المشركون إذا استطاعوا، ولكن يدفع اللَّه الناس بعضهم ببعض، فلا يمكنون، ووصف اللَّه تعالى المساجد بأنها (يُذْكَر فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كثِيرا)، كما قال في آية أخرى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧).
وأخيرا نقرر حكم اللَّه تعالى، وهو أن حكم اللَّه تعالى أنه إن لم يدفع الشر يتحكم، وتهدم بيوت العبادة كلها، وتهدم المساجد على العباد، واللَّه سبحانه يتولى عباده.
وإن أولئك الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إن مكنوا في الأرض أقاموا
العبادة الحق، وأصلحوا، ولا يفسدون؛ ولذا قال تعالى:
إن الظلم وقع على الذين أخرجوا من ديارهم بحق إلا أن يقولوا ربنا الله، وإن هؤلاء خير البرية ولهم فضل أنهم لَا يشركون بالله، وإنهم ليقولون ربنا الله فيحكمون بوحدة الربوبية ووحدة الخلق ووحدة التكوين، وهم إن تمكنوا من الأرض عمروها، وسادتها العبادة الحق والتعاون في المال والفضيلة.
قال تعالى: (الَّذِينَ)، هذا وصف ثان للذين أخرجوا من ديارهم، وقد صورهم سبحانه مظلومين أُذن لهم بالدفاع عن الحق الذي حملوه، وردع الباطل الذي ظلموا منه، ويصورهم الآن أنهم إن مكنوا في الأرض عمروها، ونشروا فيها الخير والفضيلة، و (إِن مَّكَّنَّاهُمْ)، أي جعلنا لهم مكانا متميزا في الأرض، ودولة قائمة في الأرض يظلها العدل والخير والفضيلة، وقد ذكر الله تعالى أعمالا يقومون بها إن وجدت في جماعة كانت الأمة الفاضلة في الأرض.
ثاني هذه الأعمال: إيتاء الزكاة، (وَآتَوُا الزَّكَاةَ)، وهي حق السائل والمحروم، وهي رمز للتعاون الاجتماعي بين القادر والعاجز والغني والفقير، ومن ابتلاه اللَّه تعالى بالمال، ومن ابتلاه اللَّه تعالى بالحرمان.
وثالث هذه الأعمال: التعاون على الخير، ودفع الآثام، وذلك يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكوين رأي عام فاضل يحث على الفضيلة، ويمنع الرذيلة، وهو قوله تعالى: (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) وبها يتكون رأي عام فاضل يشجع الفضلاء، ويقمع الأرذلين.
وقال تعالى في ختام الآية الكريمة: (وَلِلَّهِ عَاقِبَة الأُمُورِ)، وهو يشير إلى أنهم يؤمنون بلقاء اللَّه تعالى وأنهم لم يخلقوا سدى، فيكون الخير لأهله يوم القيامة جنات النعيم، ولأهل الشر عذاب الحميم.
* * *
تكذيب الرسل قبل محمد - ﷺ -
قال اللَّه تعالى:
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣)
________
(١) ورد بلفظ: أن يحب المرء لَا يحبه إلا لله، وهو جزء من حديث صحيح. وقد سبق تخريجه.
* * *
هذه إشارات إلى قصص بعض النبيين الذين طغت أقوامهم في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وكيف كانت عاقبة أمرهم من هلاك لم ينتظروه، وشر لم يتوقعوه، وذلك تسلية للنبي - ﷺ - في عناد قومه له، فهو تسرية عن النبي - ﷺ - وإنذار للمشركين الذين جحدوا بآيات اللَّه.
ذكر اللَّه تعالى ما يشير إلى قوم نوح، وقد عاندوه وجادلوه، وتحدوه أن ينزل بهم ما هددهم به، وقد أغرقهم اللَّه ولم ينج معه في السفينة إلا من آمن وأهله إلا امرأته وابنه إلى آخر ما بينه سبحانه وتعالى في قصصه الحكيم وآياته البينات.
وأشار سبحانه إلى قصة عاد قوم نبي اللَّه تعالى هود - عليه السلام - أن عاندوه وكفروا به فجاءتهم ريح صرصر عاتية، وإلى قوم ثمود قوم صالح - عليه السلام -، الذين عقروا الناقة، فدمدم عليهم ربك عذابا ريحا صرصرا عاتية.
وأشار سبحانه إلى قوم إبراهيم - عليه السلام - الذين أرادوا إحراقه عندما حطم لهم الأوثان، وإلى قوم لوط الذين كانوا يأتون الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، وكيف دمر عليهم ديارهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
وأشار سبحانه إلى تكذيب فرعون لموسي ولأصحاب مدين الذين بعث فيهم شعيب بالتوحيد، وبالإصلاح الاقتصادي فقالوا له: (... ولَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ...).
وبعد أن أشار سبحانه إلى هؤلاء الأنبياء وأقوامهم الذين عاندوا وكفروا وأفسدوا قال سبحانه وتعالى: (فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ).
" الفاء " هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، " أمليت لهم " أعطيتهم ملاوة من الزمان وأمهلتهم، ثم أخذتهم أخذا شديدا، فانظر كيف [كان] " نكير " ياء المتكلم محذوفة، فانظر كيف كان نكيري عليهم، فكيف كان قوم نوح كما [أشركوا] أغرقوا، وقوم لوط أهلكوا، وفرعون والملأ معه قد انطبق عليهم البحر، فكانوا من المغرقين.
وعمم سبحانه مآل الجماعات الظالمة، فقال تعالت آياته:
" الفاء " عاطفة على قوله تعالى: (فَأَمْلَيْتُ)، و " كَأَيِّنْ " بمعنى " كم " الخبرية الدالة على الكثرة، والمعنى فكثير من القرى، وهي المدن العظيمة بمعنى القبيلة المجتمعة في المدائن، أو الإقليم، والمعنى كثير من القرى أهلكها اللَّه تعالى بمعنى أهلك أهلها، وأضيف الهلاك إلى المكان؛ لأنه تخرب وتهدم، وسقطت عروشه على جدرانه وخوى، فكأن الهلاك أصابها في المظهر، وإن كان لَا يقع إلا على السكان، وقد ذكر اللَّه سبحانه أن ذلك كان والحال أنها ظالمة، فنسب إليها الظلم، وإن كان من أهلها، وذلك لعموم الظلم في كل ربوعها، وكل كيانها، فأكل أموال الناس بالباطل، وإشراك باللَّه، واعتداء على الضعفاء، وعدم إقامة لأي نوع من
(وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ)، معطوفة على (قَرْيَة)، وتعطيل البئر كناية عن فناء الذين كانوا يردون إليها يستسقون منها، ومعهم نعمهم، وغيرها، ومعنى هذا أنه لم يكن أحد من أهلها يأخذ الماء ليحيى به هو ودوابه، بل ذهب كل ذلك، فتعطلت الحياة والأمواه.
(وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) مرتفع ومجصص بالجص مزين، أي أنه تعطل كما تعطلت البئر، وأصبح خاويا لَا ساكن فيه، وقد بناه للزينة والراحة، فذهب وبقي القصر، أو تهدم كالقرية أو في ضمنها، وقد أراده للبقاء.
* * *
في الأرض في الماضين عبرة
قال اللَّه تعالى:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
* * *
هذه الآيات الكريمة موضحة لما تضمنته الآيات السابقة، وهي شواهد حسية، لما أخبر به العليم الحكيم:
و" الفاء " في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي تنبههم إلى السير، وهي مؤخرة عن تقديم لأن الاستفهام له الصدارة، وتقدير الكلام: فألم يسيروا في الأرض... ، وهذا حث لهم على السير للاعتبار بمن سبقوا والاتعاظ بما نزل، (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)، " الفاء " عاطفة ما بعدها على ما قبلها، والاستفهام حث على السير في الأرض للاتعاظ والاعتبار بمن مضوا، وهذا حث لهم على التعقل، والتدبر، فيترتب على السير أن يتدبروا بعقولهم، ويعملوها للوصول إلى الحق وألا يشركوا به شيئا، ويروا رسوم الديار التي عَفَت وأهلكها اللَّه بظلم أهلها، (أَوْ آذَانٌ يَسْمَعونَ بِهَا)، وهذا حث لهم على تعرف أخبار الديار ومن كانوا فيها، وما جرى منهم من ظلم، وما جرى عليهم من هلاك، وخراب أرضهم وديارهم.
هذا النص فيه إشارة إلى أنهم وإن كانوا ذوي أبصار تنظر وترى ولكنها عمت عن الحق، ولم تنظره نظرة اعتبار واستبصار، فهم عمت قلوبهم عن الإدراك وكانت غير مبصرة للحق، ولا نافذة إلى لبه ومعناه، وفي الكلام مجاز بالاستعارة إذ شبه عدم إدراك عقولهم للحق وعدم إذعان قلوبهم بالعمى - بجامع عدم الإدراك في كلٍّ، وقوله: (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ترشيح للاستعارة وإبعاد للأبصار عن أن يكون عماها هو المراد؛ لأنها في الوجوه دون القلوب، والضمير في (فَإِنَّهَا) ضمير الحال والشأن أي الحال والشأن لَا تعمى الأبصار وإن المشركين مع أن الرسوم والآثار تعلن ما نزل بالغابرين، يتحدونك فيستعجلون العذاب، فقال تعالى عنهم:
السين والتاء للطلب، والمعنى يطلبون العجلة بالعذاب متحدين زاعمين أن ذلك الإنذار لَا يقع كما قالوا: (... فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، وإن هذا التحدي منشؤه غفلة في نفوسهم وعقولهم، إذ حسبوا أنه لن يجيء، على حسب زعمهم، فأكده اللَّه تعالى بقوله: (ولَن يُخْلِفَ اللَّهُ وعْدَهُ)، فهو جاءٍ لَا محالة. وكل ما يأتي واقع وقريب مهما يكن تمادي الزمان، وإن الزمان قريب أو بطيء، هو بالنسبة للعباد، أما عند اللَّه فإنه لَا تحكمه الأزمان والأماكن، (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)؛ لأن أزمان أهل الدنيا، أعراض لأحوالهم، أما الزمن عند الله فهو غير مقدور ولا معدود؛ ولذا قال تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فلا تستطيعوا أن تقدروا زمنا لما يعدكم به، فلا يقال لكم هو مائة أو مائتان، ولكن هو محكوم بإرادته وتقديره سبحانه، وهذا
في الآية السابقة استعجلوا العذاب وتحدوا النبي - ﷺ - أن يأتيهم به قريبا بعد أن ذكر لهم اللَّه القرى التي أهلكت وهي ظالمة، وفي هذه الآية ضرب لهم الأمثال بمن أملى لهم، وأمهلهم من القرى، وأن ذلك الإمهال قد غرهم أو اغتروا به ولم يفلتوا فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ)، فـ (كَأَيِّنْ) هنا كأختها السابقة بمعنى (كم) الخبرية الدالة على الكثرة، أي كم من قرية أهلكناها (وَهِيَ ظَالِمَةٌ)، والجملة حالية، أي وهي في حال ظلم قد أحاطوا بأعمالها من شرك وعتو، وكبر وفساد في الأرض فأمهلها سبحانه مع بقاء هذه الحال، ثم جاءها العذاب من حيث لَا يتوقعون بياتا أو هم قائلون، أو ضحى وهم يلعبون.
ولذا قال تعالى: (ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)، (ثُمَّ) للتراخي ليتناسب التراخي مع الإمهال الذي أملى اللَّه تعالى به لهم، وإضافة الأخذ إليه سبحانه فيه تهديد شديد لأن الآخذ لهم القوي الجبار الذي لَا يفلت عن قدرته شيء، ثم قوله تعالى: (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)، أي أنهم يصيرون إليه سبحانه، وهو الذي أنذر وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وهو شديد المحال، يجزيهم بما اكتسبوا من سوء وإيذاء وإضلال.
الخطاب للنبي - ﷺ -، وهو أمر له - ﷺ -، (قُلْ) يا رسول اللَّه تعالى حاسما لهم: (يَا أَيُّهَا النَّاس) الحظاب للناس كافة، وللمشركين من أهل مكة خاصة، (إنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مبِينٌ)، (إِنَّمَا) للقصر، والقصر هنا لأنهم طلبوا استعجال العذاب ولضلالهم البعيد، ولاستمكان الغفلة عن الحق في قلوبهم، يقولون للنبي (... فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، فيقول لهم النبي - ﷺ - بأمر ربه: إن عملي فيكم، ورسالتي إليكم، أني نذير موضح مبين لكم الحق والشريعة، والعذاب أمره إلى اللَّه تعالى وحده، وكذلك الثواب والعقاب إليه وحده، وكل امرئٍ بما كسب رهين، ولذا قال سبحانه:
" الفاء " تفصح عن شرط مقدر يتبين من الآية السابقة، ومعناه إذا علمتم أني لكم نذير مبين فقط، فإما أن تطيعوا فتكونوا مؤمنين، وإما أن تعصوا فتكفروا بآيات اللَّه تعالى ونعمه، والجزاء يذكر للمؤمنين إيمانا صادقا ويعملون عملا صالحا، والعمل الصالح ذكرناه في موضع أنه الطاعات من أوامر ونواه، والقيام بكل ما هو نافع للناس مرضاة للَّه تعالى، فلا يقصد بنفعهم إرضاءهم، إنما يقصد إرضاء ربهم، فمن يقصد إرضاء الناس فقط قد يرتكب إثما في سبيل إرضائهم.
وسياق الكلام يتجه إلى أن الكلام كلام النبي بأمر ربه يحكيه اللَّه تعالى عنه، وذكر جزاء المتقين بقوله: (لَهُم مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ)، المغفرة تنبئ عن رضا اللَّه تعالى عليهم، وهي ذاتها جزاء؛ لأن المؤمن مهما يكن تقيًّا له هفوات وهنات يحس بها في ذات نفسه، وكلما أرهف إحساسه الديني، وكلما هُذِّبت نفسه بالتقوى أحسَّ بهفواته واستكثرها، واستصغر حسناته، ولقد قال اللَّه تعالى لنبيه:
والرزق الكريم بعد المغفرة هو دخول الجنة، فهي ذاتها رزق كريم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس، وأنهار جارية من تحت أشجارها، وعسل مصفى، وأنهار من خمر لذة للشاربين وحور عين، وغير ذلك، وكل رزق من اللَّه كريم رزق المتقين إياه، وهو رزق سخي طيب، جزاء ما فعلوا من خير، وكفوا أنفسهم عن الأهواء والشهوات، وهو رزق واسع دائم، ونعيم مقيم.
هذا
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ)، أي اجتهدوا في آياتنا لَا لإدراكها ومعرفة ما فيها من حجة وبرهان، بل ليغالبونا فيها ويعاجزونا، أي ليبادلونا المناقشة في إعجازها، ودلالاتها على رسالة محمد - ﷺ - وعلى وحدانية اللَّه تعالى جل وعلا، وقد قال الزمخشري في هذه الآية: " وسعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه، وعاجزه: سابقه؛ لأن كل واحد منهما في طلب عجز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجَّزه، والمعنى سعوا في معناها بالإفساد من طعن، حيث سموها سحرا وأساطير الأولين، ومن تثبيط الناس عنها سابقين، أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم، طامعين في أن كيدهم للإسلام يتم لهم ".
والمرمى في هذا الكلام أن هؤلاء المشركين يجتهدون في آيات اللَّه تعالى متعرفين غايتها ودلالتها لَا بصدق وأمانة وإدراك سليم، بل لغاية، وهي معاجزة المؤمنين، وتحويل الأمر إلى جدل عقيم، يحاولون إعجاز المؤمنين في حجتهم، والمؤمنون يتحدونهم أن يأتوا، وبتحول الأمر إلى مجادلة ضاعت الحقيقة، وتبعثرت في وسط لجاجتهم في القول.
* * *
الرسول - ﷺ - بشر صانه الله وعصمه
قال اللَّه تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥)
* * *
" التمني " قال فيه الراغب الأصفهاني في مفرداته: " والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن تخمين وظن، ويكون عن روية، وبناء
و" الرسول " هو الذي يوحى إليه بشرع يكون شريعة للناس، و " النبي " لا يكون له شريعة مستقلة، ولكن يشرح بوحي من اللَّه شريعة رسول كالأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى، ولقد ورد في الأثر: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ".
وإن هذه الآية الكريمة تصور كيف يدخل الشيطان في قلب الإنسان، إنه يجيئه من ناحية ما يتمناه، وما يجيء نتيجة لهذا التمني وهي الأمنية، فإذا تمنى ألقى الشيطان بزيفه وتضليله في نفس المتمني، ولو كان رسولا مرسلا أو نبيا يوحى إليه، لكن ما يلقيه الشيطان في نفس النبي أو الرسول ينسخه اللَّه تعالى أي يزيله، ولا يبقي له في نفسه أثرًا، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، وليست إرادة تكف كإرادة الأنبياء.
وهذا قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، أي إلا إذا قدر لنفسه شيئا يريده ويحبه ويتمناه إلا وجد الشيطان لنفسه الذريعة التي ينفذ منها بوسوسته، فيلقي ما يوسوس في أمنيته ما يتمناه، ولكن النبي له إرادة حاكمة، وفي قلبه نور وهدى، وبهذه الإرادة والنورانية التي قذفها اللَّه في قلبه يزيل بها الله تعالى ما وسوس به الشيطان، ثم يحكم اللَّه آياته، أي ينزلها محكمة لَا ريب فيها، وهدى للعالمين، واللَّه سبحانه وتعالى عليم حكيم، يعلم كل شيء ويدبره.
ويذكر بعض علماء الأثر قصة الغرانيق العلا الذي ادُّعيَ فيها أن النبي - ﷺ - سُحِر، وقال عن اللات والعزى: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى، فهي قصة باطلة كاذبة مهما يكن راويها، ومنزلته في الرواية، فتصديقها يؤدي إلى الطعن في الرسالة المحمدية، وتكذيب راوٍ في قصة مهلهلة خير من تكذيب الرسالة والرسول، ومن يقبلها فهو في غفلة لَا يلتفت إليه، ويجب أن ننبه هنا إلى أمرين:
الأمر الثاني - أننا لَا نقدم ما يرويه الراوي مهما يكن ثقة على نص قطعي غير قابل للتخصيص، فكيف نقدم رواية تؤدي إلى الطعن في صدق الرسالة المحمدية كلها ككون النبي - ﷺ - سُحِر، وقال عن اللات والعزى: تلك الغرانيق العلا، فهذا كذب لَا يمترِي في تكذيبه مؤمن.
وننبه أيضا إلى أن الشيطان يأتي قلوب الناس يوسوس فيها من ناحية أمانيهم، وقد أزال تعالى ذلك عن أنبيائه بالنص القرآني القاطع، وادعاء سحره يناقض ذلك النص القاطع، أما غيرهم فإنه يغويهم لأنهم ليسوا عباد اللَّه المخلصين، والأنبياء بلا ريب من عباده المخلصين، وقال تعالى:
إن اللَّه تعالى عصم الأنبياء؛ لأنهم حملة رسالته إلى خلقه، ويعرفوها نيرة سائغة، أما غير الأنبياء فإنهم أقسام؛ قسم أخلص للَّه، واستقامت قلوبهم، وهم من عباده المخلصين، وهم الصديقون والشهداء والذين يتبعون النبيين. وقسم آخر في قلوبهم مرض وضعف إيمان، بما قلدوا واتبعوا أهل الشر، وسلموا أنفسهم لهم، ولم يسلموها للَّه تعالى. وقسم قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة بما مردوا عليه من نفاق، وقد غلفوا قلوبهم، فلا يدخلها نور الحق، وهم المنافقون واليهود شر البرية وهذان الفريقان هم الذين قال تعالى فيهم هذه الآية.
وقوله تعالى: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ)، " اللام " هي التي تسمى لام العاقبة، أي لتكون نتيجة ترك الشيطان مسلطا على الناس يأتيهم من قبل أمانيهم، أي يجعل سبحانه ما يلقيه الشيطان من
وقد رأينا المشركين آمنوا بعد شرك، أما اليهود، فلم يؤمنوا، وعاشوا للدس والخيانة ونقض العهود والمواثيق، وختم اللَّه تعالى الآية الكريمة بذكر أولياء الشيطان فقال: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)، والظلم وصف يعم ظلم العبادة فيشمل الشرك، وإن الشرك لظلم عظيم، كما قال لقمان الحكيم لابنه، ويشمل ظلم العباد بعضهم لبعض، ويشمل الخيانة والنميمة فعل اليهود. (وَإن الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ)، أي كل فريق منهم في شق يفارق الآخر، فالمشركون في شق، واليهود في شق، والمنافقون في شق، والنفاق ضروب مختلفة، وكل شق بينه وبين الآخر مسافة بعيدة، ولذا وصف الشقاق كله بأنه (بَعِيد)، مختلف في أجزائه.
" الواو " عاطفة، و " اللام " هنا كـ " اللام " هناك، أي لتكون نتيجة إلقاء الشيطان بوسوسته، للاختبار لمرضى القلوب والقساة الغلاظ، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من أتباع النبيين الحق، أي أنهم أوتوا علم النبوة من الأنبياء فنفوا عن
وقوله: (أَنَّهُ الْحَقُّ)، فيه قصر، لتعريف الطرفين أي أن القرآن الكريم هو الحق، فليس حديثا يفترى ولا أساطير الأولين، (فَيُؤْمِنُوا بِهِ)، ولذلك يؤمنون به و " الفاء " للسببية، أي بسبب علمهم يؤمنون به (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)، الإخبات قال فيه الراغب في مفرداته: الخبت المطمئن من الأرض، وأخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل وأنجد، ثم استعمل الإخبات استعمال اللين والتواضع، والمعنى تواضعت قلوب المؤمنين، ولم تمار في الحق قلوبهم، بل أخبتت وسكنت إلى الحق.
و" الفاء " في قوله تعالى: (فَيُؤْمِنُوا) فاء السببية أو عاطفة على العلمِ الذي أوتوا، وكذلك " الفاء " في قوله تعالى: (فَتُخْبِتَ)، ثم قال تعالى: (وإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ)، أي أن اللَّه من شأنه جل جلاله أن يهدي الذين آمنوا بأن سلكوا إلى الطريق الأقوم أو شرعوا فيأخذ اللَّه بأيديهم، والصراط هو الطريق المستقيم، وهو صراط اللَّه تعالى، كما قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ...).
وقد أكد سبحانه هداية الله تعالى المؤمنين إلى الصراط المستقيم بـ (إن) المؤكدة وبـ " اللام " وبـ " الجملة الاسمية ".
(وَلا يَزَالُ) معناها استمر، وكأنه كان يتوقع بتوالي الأدلة، وتضافر الإثبات أن يزول ريبهم، ولكنه لم يزل بل استمر، والمرية: الشك، والضمير في
هذا، وإن الكافرين يستمرون في مريتهم، والشك حيرة واضطراب، حتى تأتيهم الساعة أو يأتيهم يوم يقاتلون فيه، ولا خير فيه يعود عليهم، بل شرٌّ مستطير، فهو يوم عقيم، واللَّه يهدي من يشاء بإذنه.
* * *
الملك لله يوم القيامة
قال اللَّه تعالى:
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥٧)
* * *
(الْمُلْكُ) في يوم القيامة للَّه وحده، فليس لأحد في ذلك سلطان ولو صوريا كسلطان أهل الدنيا، ولا حكم، ولو تحكميا، كحال الملوك المستبدين، ولا رقابة لأحد غير اللَّه تعالى، كل الملك للَّه وحده فلا طاغوت ولا طغيان، ولا حكم لغير الله، والتنوين في (يَوْمَئِذٍ) ينبئ عن مضاف إليه يناسب المقام، وهو يوم القيامة والجزاء والحساب، والمعنى على ذلك يكون الملك المطلق يوم تقوم القيامة، وينصب الميزان، ويكون الحساب ومن بعد الثواب والعقاب، وذلك فيه إنذار شديد بأن المؤمنين ومخالفيهم يلاقون ربهم، ويواجهون أعمالهم، ويفصل بينهم سبحانه بالحق والقسطاس المستقيم.
(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، " الفاء " للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إذا كان اللَّه تعالى هو الحكم وحده (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، من عبادات، وطاعات للأوامر والنواهي، وعمل صالح نافع للناس لا يقصدون به إلا وجه اللَّه، (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، الإضافة هنا بيانية، أي في جنات النعيم الدائم الخالد المقيم.
هذا جزاء المؤمنين عندما يلاقون ربهم أما الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب، وكذبوا بآياتنا، وعبر بالموصول في الكفر والتكذيب بآيات الله؛ للإشارة
وأضاف سبحانه وتعالى الآيات لذاته العلية لبيان عظيم افترائهم، وأنهم فعلوا ذلك استعلاء واستكبارًا، ولذلك وصف اللَّه سبحانه وتعالى العذاب النازل بهم بأنه عذاب مهين مذل ملقٍ بهم في الهوان؛ لاستعلائهم على الحق وآيات اللَّه.
هذه الآية فيها حث على تجميع المؤمنين في لواء واحد، وكل مؤمن مدعو للهجرة إلى تجمع المؤمنين، حتى لَا يكون المؤمنون مبعثرين في الأرض، فالمستضعف في أرض عليه أن يهاجر إلى موضع تجمع المؤمنين، فليس لمؤمن أن يعيش ذليلا للاستضعاف في أرض عدو لَا يستطيع أن يقيم شعائره الإسلامية فيها، فقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (٩٩) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٠).
فالهجرة ليصل إلى جماعة المؤمنين أو ليقاتل ويجاهد [والجهاد] ما زال بابه مفتوحا وفيه ثواب الجهاد والهجرة، وحديث " لا هجرة بعد الفتح " (١)، يراد به الهجرة من
________
(١) رواه البخاري: لَا هجرة بعد الفتح (٣٨١٢) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، كما رواه مسلم (٤٧٨٧)، ولفظه عَنْ عَائشةَ، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْهِجْرَةِ؛ فَقَالَ: " لاً هِجْرَةَ بَعدَ الْفَتْح، وَلَكِنْ جِهَاد وَنِيَّةٌ، وَإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ".
وإذا كانت الهجرة مطلوبة من أرض فيها ضعف إلى حيث العزة الإسلامية والجهاد، فالذين هاجروا في سبيل اللَّه تعالى ليجتمعوا مع المؤمنين ويجاهدوا معهم لهم جزاء؛ ولذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، أي كانت هجرتهم في سبيل اللَّه، أي إن ذات الهجرة للجماعة الإسلامية جهاد في ذاته، وقال تعالى: (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا)، العطف بـ (ثُمَّ) الدالة على التراخي في موضعه؛ لأن قتلهم ليس عقب الهجرة، ولا موتهم، بل إنهم يعيشون مقيمين مع المؤمنين ما شاء اللَّه أن يقيموا مجاهدين حتى يستشهدوا في قتال أو يموتوا حتف أنوفهم، وقد بين اللَّه تعالى جزِاءين أحدهما في الدنيا، وقد بينه سبحانه وتعالى بقوله: (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
أقسم اللَّه سبحانه بأنه يرزقهم رزقا حسنا، أي طيبا سخيا، يغدق اللَّه تعالى فيه عليهم من خيره، من الفيء وغنائم الحرب، فإن اللَّه تعالى جعل رزق المجاهدين في ظلال سيوفهم، وشكاة سلاحهم، وفي سنابك خيلهم، (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، واللَّه أكرم الرازقين. وأفعل التفضيل ليس على بابه، بل إن اللَّه تعالى رزقه في أعلى درجات الرزق، هذا هو جزاء الدنيا، فإن الهجرة من أرض الذل إلى أرض العزة في سبيل الله يكون فيه الرزق.
أما الجزاء الأخروي فقد ذكره سبحانه بقوله عز من قائل:
أقسم سبحانه وتعالت قدرته، فقال: (لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ)، أي ليدخلنهم اللَّه، وكأنهم ضيوفه يوم القيامة، وأكد ذلك بـ " القسم " و " لامه " و " نون " التوكيد، (مُّدْخَلًا)، اسم مكان، وصفه بأنهم (يَرْضوْنَهُ)، يستطيبون نعيمه، ويفكهون في خيره، وهو الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)، بأحوال خلقه يعلم مؤمنهم وكافرهم، وهو حليم يغفر السيئات
، والخلق جميعا قبضته يوم القيامة.
* * *
نصر الله تعالى وقدرته العليا، وعلمه
قال الله تعالى:
(ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)
* * *
(ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ) الآية، الإشارة إلى البعيد، من قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا...) إلى آخر ما جاء بعد ذلك من جزاء أهل الحق في الدنيا والآخرة، وجزاء أهل الباطل في الدنيا والآخرة ذكر اللَّه سبحانه وتعالى أن من يرد الاعتداء بمثله، (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْه)، أي إذا بُغي عليه بعد ذلك (لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ).
(لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ) الضمير يعود إلى من بُغي عليه، وقد أكد اللَّه تعالى نصره للمعاقب المقتص، بالقسم و " لام " القسم، وبـ " نون " التوكيد الثقيلة كما يعبر النحويون.
وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّه لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) العَفُوُّ " فعول " من العفو، أي أنه سبحانه وتعالى كثير العفو، وهو صفة من صفاته جل وعلا، أو اسم من أسمائه، فهو يعفو عن كل تقصير، وكل مخالفة ليست ذنبا، وهو غفور يغفرها إذا كانت مما لم يأثم بالنفس، ويكسبها إعتاما وإظلاما، بل يكون بجواره حسنات تكشف ظلمتها، وتكون مع ذلك توبة نصوح تَجُبّ السيئات.
وقد قيل: لماذا ختمت الآية بالعَفُوّ الغفور، مع أن النصرة لدفع الظلم، وذلك يقتضي اسم القدرة والقهر؟ ومعاذ اللَّه أن يكون المفسرون قد يتطاولون على عبارات القرآن الكريم، ونقول: المناسب هو العفو الغفور، بالنسبة للباغي، والمعاقب، ذلك أن الحرب في عصر النبي - ﷺ -، وما قام به الصحابة والتابعون من بعده ما كانت حرب دماء وغلب، بل كانت حرب هداية وإرشاد، وتعليم، ورفع للظلم، ورحمة للعالمين؛ ولذلك دعا اللَّه تعالى إلى العفو فيها فقال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)، وقال تعالى في هذا المقام أيضا: (وَلَمَن صبرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمورِ)، وقال: (... فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلَى اللًّهِ)،
وقد صور اللَّه تعالى دفع الباطل بالحق، وكون النصر والقتال له يكون دولة بإيلاج الليل في النهار، فقال تعالى:
الإشارة إلى نصر اللَّه لمن يبغى عليه بعد أن دافع عن نفسه، والولوج الدخول في مضيق كما جاء في قوله تعالى: (... حتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ...)، وجاء في المفردات قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) تنبيه على ما ركب اللَّه عز وجل العالم من زيادة الليل في النهار، وزيادة النهار في الليل، وذلك بحسب مطالع الشمس ومغاربها.
والمعنى أن هذا تنبيه لاختلاف مدار الأرض حول الشمس، وقربها أو بعدها بجعلها قريبة نسبيا بقدر ضئيل، فيطول النهار، وبعيدة نسبيا بمثله فيطول الليل، وكل شيء عند ربك بمقدار، وهو الكبير المتعال المالك لكل شيء، والمسير للكون بإحكام، وبنواميس لَا تتخلف، كما اختار العزبز الحكيم العالم بكل شيء (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) " أن " معطوفة على (بِأَنَّ اللَّهَ يولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ) إلى آخره،
ويسأل سائل هنا: لماذا ذكر سبحانه وتعالى ذلك في هذا الموضع من نصره سبحانه وتعالى لمن بُغي عليه؟، وأنه سبحانه وتعالى يعفو عمن يترك ما يؤذيه إليه سبحانه، ويغفر له؟ والجواب عن ذلك أن اللَّه تعالى ذكر أمرين أو أشار إليهما: الأمر الأول - أن اللَّه سبحانه ينصر من بُغي عليه وأكد سبحانه وتعالى نصره، بالتوكيدات التي ذكرناها في موضعها.
والأمر الثاني - أن اللَّه تعالى يندب إلى العفو والتسامح عند القصاص، وفي هذا النص السامي الكوني يشير سبحانه إلى أنه يجعل النصر والهزيمة دولة بين الناس، والقوة والضعف دولة بين الناس كما يجعل الليل يدخل في النهار، والنهار يدخل في الليل، فيزاد هذا تارة وينقص أخرى، فعلى الدولة المنتصرة أن تذكر أنها قد تنهزم، فلا تغالي في القصاص، بل تفتح زاوية للمعروف من العفو والتسامح.
وبذلك يدعو الإسلام إلى أن لَا تكون الحروب الإنسانية قاطعة مانعة لكل سلام، بل يجب أن يشع نور السلام في وقت الحروب العادلة، إلا أن يكون العدو شرسا كاليهود أعداء الإنسانية.
الإشارة إلى معنى الآية السابقة من نصره سبحانه لمن بُغي عليه مع دعوته إلى العفو إذا كان له موضع، ويفتح باب السلام ولا يغلقه، ما لم يكن مطمعا للباطل في الحق، أي كان ذلك بإجازة القصاص مع فتح الباب بالعفو، (بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)، أي بسبب أن اللَّه هو الحق، واللَّه تعالى هو الحق لأنه منشئ الكون، وناصر الحق والداعي إليه، وهو المعبود الحق الذي لَا إله غيره؛ ولذا وصف بأنه
(وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ)، أي ما يعبدون من آلهة غيره باطلة؛ لأنها لا تضر ولا تنفع، وليس لها من وجود في ذاتها، إذ هي جماد، لَا يتحرك إلا إن تحرك.
(وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ) الذي لَا يساميه موجود، ولا يناهده أحد، إذ الجميع خلقه، وهو القاهر فوق العباد، وهو (الْكَبِيرُ)، فهو واجب الوجود المطلق، وكل شيء يستمد منه وجوده فهو وحده الكبير، والنص السامي يدل على انحصار العلا والكبر بذاته وصفاته فيه وحده، ودل على اختصاصه بذلك التعبير بقوله (هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) تعريف الطرفين فإنه يدل على القصر، فكان العلاء والكبرياء مقصورين عليه وحده، إذ كل مخلوق سواه مستمد وجوده منه، ووجوده غير باق، فهو سبحانه الباقي وحده، وهو وحده واجب الوجود.
وبين سبحانه نعمه على خلقه، فقال عز من قائل:
(أَلَمْ تَرَ)، الاستفهام هنا للتنبيه، وقد جاء على صيغة الاستفهام الإنكاري الدال على نفي الوقوع، وهو داخل على " لم " النافية ونفي النفي إثبات، والمعنى لقد رأيت بنظرك وعلمك (أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، والسماء هنا ما علاك، فليست أجرام السماء من شمس وقمر وكواكب في أبراجها، وتماسكها، إنما المطر ينزل من سحاب قريبة دانية أو بعيدة قاصية، وذلك بينه قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ
فهذا النص الكريم يوضح نزول المطر من السحاب المتكاثف بقدرة اللَّه تعالى وما كانت لتدرّه إلا بأمر اللَّه، وإنه ينزل المطر إلى الأرض لتعمل أيدي الزراع فتبذر البذور وترجو الثمار من الرب، وتخضر الأرض، ولذا قال تعالى: (فتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً)، " الفاء " عاطفة، وهي للتعقيب، وبظاهر اللفظ يكون الاخضرار عقب نزول المطر بلا تراخ في الزمن، وكيف يكون وثمة تراخ بإنبات البذر وظهور عيدانه، وصيرورة الأرض مخضرة؟ والجواب عن ذلك أن التراخي في أعمال العباد، وليس من اللَّه، بل إن إرادة الله لَا تراخي فيها، إنما هي أن يقول كن فيكون؛ ولأن التعبير بـ " الفاء " التي تفيد الفورية فيه تنجيه إلى عجائب الله في الخلق والتكوين، إذ يكون من التلاقح بين الماء والأرض اليابسة نبات مخضر تزدان به الأرض، وتكون ذات منظر بهيج، وقد وصف سبحانه الأرض بأنها مخضرة إذ اختفت طينتها، ولم تبد إلا خضرة زرعها، والاخضرار للزرع لَا لها؛ ولكن لأنه فيها سنح أن توصف هي بالاخضرار باعتبار ما فيها، ولأنه صار لها كسوة باهرة زاهرة.
وختم اللَّه تعالى الآية بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، أي لطيف بعباده عليم علما دقيقا علم خبرة بما ينفعهم ويقوم به عيشهم، فيوفقهم له.
وجملة (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، في مقام التعليل لإنعامه بهذه النعم الكثيرة المتوالية نعمة تلو أخرى.
هذه الجملة في مقام التعليل للآية السابقة، أي أن اللَّه ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض اليابسة مخضرة تكون بهجة للناظرين؛ لأن اللَّه تعالى (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، وله ما فيها، وهو سبحانه وتعالى غني عن عباده، فهو
وقد تأكد غناه سبحانه جل جلاله، بـ " إن " الدالة على التوكيد، وبـ " اللام " في قوله: (لَهُوَ)، وبضمير الفصل، وبتعريف الطرفين كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الناسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، وكل الوجود يحتاج إليه سبحانه، وهو لَا يحتاج لشيء في الوجود.
* * *
فضل الله على خلقه
قال اللَّه تعالى:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ
* * *
الاستفهام هنا للإنكار بمعنى نفي الوقوع، وهو داخل على " لم " النافية، ونفي النفي إثبات، فهو بيان لأن اللَّه سخر ما في الأرض، والمعنى قد سخر اللَّه لكم ما في الأرض، وكأن الاستفهام هنا مع النفي تنبيه؛ لأن اللَّه تعالى ذلل ما في الأرض لكم، وقدم (لَكُم) على المفعول وهو (مَا فِي الأَرْضِ)، لبيان أن التسخير من اللَّه تعالى لكم، ليذلل كل ما فيها لإرادتكم ورغباتكم، ومعاشكم، فكل ما فيها ظاهرا فوق أرضها من زروع وثمار، وغابات، وجبال ووهاد، وما في باطنها من معادن وكنوز، وفي بحارها من لآلئ، ولحم طري، كل هذا سخره اللَّه تعالى وذلَّلَهُ لكم، فهي نعم تنادي من أُنعم عليه بها بشكرها، وذكر أمرا في الأرض، وخصَّه بالذكر، لوضوح نعمته تعالى فيه، (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)، فهذه الفلك تجري في البحر بإذن اللَّه وأمره وتسييره لها سبحانه وتعالى أنها (بِأمْرِهِ) مع أن كل شيء بأمره، وذلك لأنها في مرأى تسير في البحر ماخرات عبابه، لَا يسيّرها شيء إلا الهواء، فإن التعبير (بِأَمرِهِ) في هذا مسايرة لمرأى العين ومجرى الريح، وهي آية من آيات اللَّه تعالى، ولذا قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)، وهي تجري في البحر ناقلة ما تحمل من خيرات الأرض إلى أقاليم أخرى، ولذا قال في آية أخرى: (... وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ...)، فهي تصل الناس بعضهم ببعض بالمتاجر، والرحلات والتعارف والاتصال الدائم بينهم.
وإن هذا التوازن الكوني بين السماء والأرض ليعيش الناس في أمن واطمئنان من حوادث الكون، ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) الرءوف من " رؤف "، والرحيم صفة مشبهة للرحمة، والرأفة أصلها رقَّة القلب، والشفقة بالناس، والرحمة من الناس تشمل معنى الإنعام الذي يناسب الناس، أما الرأفة بالنسبة للَّه تعالى فهي ما يقتضيه اتصافه بالكمال، وتنزيهه سبحانه عن المشابهة بالحوادث، وهو أنه سبحانه يقدم ما يكون إنعاما عليهم في مشاعرهم وأحاسيسهم، والرحمة الإنعام والإحسان في عامة أمورهم.
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ)، أي يعاملهم معاملة من يرأف بهم ويشفق عليهم، ومعاملة من ينعم عليهم ويرحمهم في عامة أمورهم، وإن هذه الجملة السامية في مقام التعليل لما سبق من تصرفه في الكون، وقد أكد سبحانه رأفته ورحمته بهم، بعدة مؤكدات، أولها، (إِنَّ)، وثانيها تقديم (بِالنَّاسِ)، وثالثها بـ " اللام "، ورابعها بالتعبير بالصفة المشبهة، وذكر سبحانه بيان قدرته فيهم فقال عز من قائل:
الضمير يعود على اللَّه جل جلاله، وهي معطوفة على قوله تعالى: (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ)، وقد ذكر سبحانه فضله تعالى، وهو المنشئ المنعم في ثلاثة أدوار:
الدور الثاني - الموت، بعد أجل مسمى من ابتداء الحياة، وهذا محسوس مرئي يحدث كل يوم، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وقد عبر بالمضارع؛ لأنه مستمر متجدد يُرى كل يوم، ولا يرتاب فيه مرتاب، لأنه مرئي بالعيان.
الدور الثالث - الحياة بعد الموت، وهو البعث والنشور، وقد عبر سبحانه وتعالى عن ذلك الدور بقوله: (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) وعبر بالمضارع؛ لأنه واقع في المستقبل يؤمن به من يؤمن بالغيب، ومن يعلم أن الإنسان لم يخلق عبثا، ولكن لأن هذا الدور ليس مشاهد الآن بالعيان أنكره الكافرون، لأنهم قالوا: أئذا متنا وكنا ترابا (... أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا)، ولكن اللَّه الذي خلق الإنسان من تراب، وأمده بكل عناصر الحياة والبقاء أخبر بأنه هو القادر الذي خلقهم وأحياهم، وأنه يعيدهم كما بدأهم (... كمَا بَدَأَكمْ تَعُودُونَ)، ولكنْ المشركون وهم كثيرون لم يؤمنوا بالبعث وكفروا به، ولذا قال تعالى عقب ذلك: (إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ)، أي يجحد الدور الأخير؛ لأنه لَا يؤمن إلا بالأمر المحسوس، وإنما ذلك أمر مغيب، والفرق بين الكافر والمؤمن أن المؤمن يؤمن بالغيب، والكافر لَا يؤمن إلا بالحس، وقد أكد سبحانه كفر الكافر بالغيب، أولا بـ (إِنَّ)، وثانيا بـ " اللام "، وثالثا بالصفة المشبهة " كفور ".
و (الإِنسَانَ) هنا هو الذي لَا يؤمن بالغيب، ويلاحظ في التعبير بـ (ثُمَّ) أنها للتراخي، ففترة ما بين الحياة والموت ليست قصيرة يعمل فيها ما يحاسب عليه بالعقاب أو الثواب، وكذلك الفترة بين الموت والحياة الثانية.
إن أهل الديانات التي تنتمي لأصل سماوي يعترضون على الإسلام بما اشتمل عليه من أحكام ليست عندهم، فرد اللَّه تعالى كلامهم بقوله تعالى:
المنسك مكان النسك وهو العبادة، أو مصدر ميمي، والمراد العبادة أيضا، ويقرر أكثر المفسرين أن النسك هو شرائع النبيين، كقوله تعالى: (... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا...)، فاللَّه تعالى جعل لكل أمة شريعة جاء بها نبيها، وجاءت شريعة مهيمنة على كل الشرائع، وخاتمة لها، وناسخة لما يخالفها، ولو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا اتباع محمد - ﷺ -؛ لأن شريعته هي خاتمة الشرائع الإلهية، وقوله تعالى: (هُمْ نَاسِكُوهُ)، أي العابدون اللَّه تعالى على منهاجه، والضمير يعود على النسك، وناسكوه كما أشرنا: سالكون طريق العبادة الذي سن فيه.
(فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ)، " الفاء " للإفصاح، أي إذا كان لكل أمة دين، فلا ينازعنك في الأمر، و " لا " ناهية، والنهي لمن يحتمل أن يكون للنبي - ﷺ - ومعناه النهي عن تمكينهم من منازعته، وردهم في هذه المنازعة والمجادلة، وربما يؤيد هذا قوله تعالى من بعد في الآية التالية: (وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ)، فمضمون النهي عن عدم الالتفات إليهم، والسير على منهاجه، ولذا قال سبحانه بعد ذلك: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ)، أي امض في طريقك داعيا إلى ربك العليم بكل عمل، وبكل قول حقا أو افتراء، وهذا النهي كقوله تعالى: (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ...)، ثم أكد سبحانه مضيه وعدم التفاته إليهم بقوله: (إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيم)، أي وإنك في نسكك وشريعته لمستمكن من الهداية المستقيمة تمكين من يعلو على الهداية، فالتعبير بقوله تعالى: (لَعَلَى هُدًى) أنك متمكن من هدايتك تمكن من كان فوق الهداية مستمكنا منها كالقائم عليها والجالس عليها ووصف سبحانه الهدى الذي استمكن منه - ﷺ - واقتعده بالاستقامة، والاستقامة وصف للحق، ولكل هداية.
وقد ذكر المفسرون احتمالا آخر، ورجحه كثيرون، وهو أن يكون النهي للمخالفين المعترضين، ونراه بعيدا، وإذا كان اللَّه ينهاه عن المنازعة؛ لأنه لا موضوع لها إذ لكل دين نسكه وشريعته، وإن شريعة محمد - ﷺ - عامة ناسخة ما يخالفها، فقد نهاه أيضا عن الجدل معهم، فقال عز من قائل:
الجدل إحكام فتل الحبل، وإحكام البناء، والجدال في مسائل الحق والباطل إحكام كل مجادل قوله ليستطيع أن يزيف الحق أو أن يزيف كلام خصمه، وإنه شاع في قول الباطل، والمجادلة في الحق، وهذا النوع من الجدال من شأنه أن يبعثر الحق، ويشكك فيه، وقد كان الإمام مالك - رضي الله عنه - ينهى عن الجدل في الحقائق، وكان يقول: كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد - ﷺ -، وقد أمر اللَّه تعالى ألا يجادل المشركين واليهود، وأن يفوض أمورهم بعد أن تبين لهم الحق الذي يجب اتباعه، ودلائله من آيات اللَّه المتلوة والكونية، وأمره أن يقول لهم: (فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وهذا فيه تهديد لهم على عملهم، ومؤداه لا تحاولوا تبرئتكم في أعمالكم بالملاحاة والمجادلة، فاللَّه أعلم بعملكم.
وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه، فلا مفاضلة في علم اللَّه تعالى، إنما المعنى أن اللَّه يعلم بما تعملون علما ليس فوقه علم وإن علم اللَّه بأعمالكم سيبينه يوم القيامة، فقال عز من قائل:
إذا كان اللَّه تعالى هو الذي يعلم عملهم علما ليس فوقه علم، فهو الذي يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وخاطبهم اللَّه تعالى بقوله: (اللَّهُ
* * *
الله خالق الكل والعليم بما خلق
اللَّه تعالى:
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)
* * *
(أَلَمْ تَعْلَمْ) معناها: قد علمت، وبينا كيف استخلص ذلك المعنى السامي، الاستفهام الإنكاري الداخل على فعل منفي، وسياق القول: قد علمت يا محمد علما مؤكدا يقينيا (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) من عقلاء وأناس مكلفين، وما مكَّن لهم فيهما، وماذا فعلوا فيما سخر لهم، فإذا كان هو اللَّه الذي يحكم بينهم فحكمه هو الفصل، وهو خير الفاصلين، وإنه مع علمه سبحانه المحيط، قد سجل ذلك في كتاب وهو اللوح المحفوظ، وهو الكتاب الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وقد بين اللَّه تعالى الحكم والإحصاء في كتاب سهل يسير على اللَّه تعالى، فقال تعالت كلماته: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير)، أي سهل لَا يحتاج إلى معاناة من اللَّه العلي الكبير، بل إنه سهل عليه سبحانه، وإن الحكم الفاصل يقع منه في ساعات أو لحظات.
هذا هو الحق، وإنه سيلاقيهم يوم يعلم كل إنسان ما قدمت يداه، ولكن المشركين في عماء عن الحق؛ ولذا قال تعالت كلماته:
الضمير في (وَيَعْبُدُونَ) يعود إلى الكافرين الذين سيطرت عليهم الأوهام والأهواء والتقليد، فيعبدون ما لم تنزل به حجة ترشدهم إلى عبادته، والسلطان في قوله: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا)، أي حجة نقلية نزلت من عند اللَّه تعالى، وسميت سلطانًا؛ لأنها تكون قوة تجعل لمن نزلت له قوة تجعل ما عنده قويا
إذا لم يكن عندهم دليل من عند اللَّه أنزله فكان لهم سلطان، ولا علم عقلي فإن ذلك يكون ظلما؛ ولذا ختم اللَّه سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)، وإذا كانوا يعبدون ما لَا دليل عليه من نقل أو عقل، ويشركون مع خالقهم في العبادة، وهو الواحد الأحد، فإن ذلك لأنفسهم ولقولهم ضلال وفساد، وقد نفى اللَّه تعالى أن يكون لهم نصير أيَّ نصير؛ إذ لَا يمكن أن يكون نصيرا أمام قوة اللَّه.
ومن لاستغراق النفي أي ليس نصير أيَّ نصير من ملك أو إنسان.
ونشير هنا إشارة بيانية في قوله تعالى: (وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ) فيه أن كلمة (لَهُم) قدمت على (عِلْمٌ)، وهي المبتدأ؛ للدلالة على أنهم تهجموا من غير علم فقدَّم عقابه في الاهتمام، وللدلالة على ضلالهم، وقدم (بِهِ) على (عِلْمٌ) للدلالة على إمعانهم في الضلال وظلمهم للحق، والله وليُّ المؤمنين.
وإن هؤلاء الذين سيطرت عليهم الأوهام، وتحكمت فيهم الأهواء والتقليد الأعمى لَا يلقون آيات اللَّه تعالى بما يستحق من عناية، بل يقابلون بالاستنكار والسخرية، فلا يهتدون ولا يفتحون قلوبهم لدخول الهداية، ولذا قال تعالى عنهم:
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
وقد أمر اللَّه تعالى نبيه الكريم أن يقول لهم: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، الإنباء الإخبار بأخبار خطيرة لا
تسرهم بل تضرهم، والتنبيء كالإنباء بيد أن اللفظ ينبئ عن خطر ما تضمنه، و " الفاء " في (أَفَأُنَبِّئُكُم) فاء الإفصاح عن شرط، تقديره مثلا أئذا كنتم تتجهمون من التلاوة أفأنبئكم بشر من هذه التلاوة، وهذا نوع من التهكم بهم وإنذارهم بالإنذار الشديد، والعقاب العتيد، وبيان لمقابلة التهجم من القرآن والإعراض عنه بأنه يستقبلهم بما يوجب الغيظ والتجهم، والبسور أشد وأفظع، وهو النار أنذر اللَّه تعالى بها الذين كفروا، وعبر بالموصول للإشارة إلى أن الصلة وهي الكفر، والإعراض عن الآيات البينات (هى سبب الحكم)، وإنها نار لَا نهاية لعذابها، بل
البؤس، فالنار مصير هو بؤس.
وقد بين اللَّه سبحانه ضلالهم في اعتقادهم الباطل الذي لم يُبن على علم نقلي أو عقلي بمثل عظيم، فقال:
الخطاب عام للناس وقالوا: إنه إذا كان النداء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) كان يعم الناس عامة والمشركين خاصة، وإن موضوع القول، وهو عبادة الأوثان يجعل الخطاب للمشركين أَمَسّ وأقرب، و (ضُرِبَ) معناها: بُيِّن، والمثل الحال والشأن، ففيه تقريب حال بحال، فحال ضعفهم الشديد صورها سبحانه بأنهم لعجزهم (لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) فحالهم حال عجز عن خلق أي حي، ولو اجتمعت الأوثان كلها، وكيف تُعبد، وهي لَا تستطيع خلق الذباب، ولو اجتمعت له كل هذه الآلهة التي يعبدونها من دون اللَّه تعالى، و (لَن) هي لتأكيد النفي، وذكر ضمير الأوثان ضمير عقلاء على زعمهم وتفكيرهم، وليسوا أحياء فضلا عن أن يكونوا عاجزين، وعبر سبحانه عن حال عجزهم بالمثل، كأنه مثل مضروب سائر، وبيّن ذلك الزمخشري فقال: " قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملقاة بالاستحسان والاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة ". وإن هذا التصوير السامي الذي سماه جل جلاله مثلا، هو برهان على عدم صلاحيتهم للألوهية؛ لأنها عاجزة محتاجة، والمعبود قادر غير عاجز.
(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) هذا النص السامي دل على أن هذه الآلهة أعجز من الذباب؛ لأنه يعدو عليها؛ لأنه لو أخذ منها شيئا على سبيل
ونقف هنا وقفة قصيرة، فنسأل الذين ينكرون وجود اللَّه، وهم ملاحدة هذا الزمان الذين يحسبون إلحادهم يقوم على فلسفة عقلية: لقد اختبرتم الكون وعلمتم علمه، وعرفتم النواميس التي خلقها اللَّه، وإن كنتم تحسسبونه ظواهر للأشياء، وعلوتم إلى داخل الفضاء حتى وصلتم إلى القمر وإلى المشترى، وعلمتم تكوين الأشياء وأجزاءها وعناصرها، فهل استطعتم أن تخلقوا ذبابة، إن للَّه في كل شيء آية، فآمنوا به ولا تنكروه.
لم تستطع آلهتهم أن تستنقذ ما يسلبه الذباب، ولو بذلت أقصى الجهد إن كان لها جهد، ولذا قال تعالى: (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)، (الطَّالِبُ) هو الأوثان فإنها لَا حياة فيها ولا قوة لها، (وَالْمَطْلُوبُ) وهو الذباب فهو حيوان ضعيف يستحقر في أعين الناس ولكنه مخلوق للَّه يضرب به المثل، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا...)، فسر بعض السلف الطالب بالعابد والمطلوب بالصنم، فضعيف الفكر والعقل والإدراك يدعو ضعيفا في ذاته لأنه جماد، وكلا الرأيين معقول.
هذه الآية نتيجة للآيات السابقة؛ ولذلك كان الفصل بدل الوصل، فبينهما ما يشبه علاقة العلة في الحكم بالعلول، أو المقدمة والنتيجة.
إن هؤلاء الذين خضعوا لأوهامهم فعبدوا حجارة لَا تنفع ولا تضر، وبالأولى لَا تخلق ذبابًا، ولو اجتمعت أصنام كل أمة وثنية ما عرفوا الله حق المعرفة، ولا أدركوا كماله وجلاله حق الإدراك، ولا عرفوا معنى الألوهية حق
وأكد سبحانه قوته بـ (إِنَّ) الدالة على توكيد الحكم، وبـ " اللام " في قوله تعالى: (لَقَوِيٌّ) وبـ " الجملة الاسمية "، سبحانه إنه القاهر فوق عباده.
* * *
الرسل مصطفون، والرسالات الإلهية متصلة
قال اللَّه تعالى:
(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
* * *
(اللَّهُ) ذو الجلال والإكرام، (يَصْطَفِي)، أي يختار من صفوة خلقه (مِنَ الْمَلائِكَة رُسُلًا) كجبريل الأمين روح القدس، اختاره ليكون رسولا لأنبيائه ورسله الذين اختارهم أيضا من صفوة عباده، فاختار سبحانه من الملائكة من يبلغون عن اللَّه تعالى مصطفين من الناس ليتلقوا رسالة الله إلى الناس، فالذين اختارهم من صفوة الملائكة ما اختارهم تعالى إلا ليبلغوا خلقه، وكل ذلك بأمر اللَّه وباختياره، وإن هؤلاء المختارين من الملائكة يبلغون إما بِالوحي وإما برسل يرسلون، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا...).
وإن الله تعالى لَا يختار لهذا المنصب الأقدس منصب التبليغ عن اللَّه تعالى إلا من كانوا في أعلى القداسة والنزاهة النقية (... اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...)، ولذا قال تعالى مبينا أن اللَّه تعالى لَا يصطفي إلا عن علم من لَا يخفى عليه شيء، فقال: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)، أي أن اللَّه عليم علما يقينيا هو علم من يسمع، فهو السميع، وعلم من يبصر فهو البصير.
ولقد أكد سبحانه إحاطة علمه فقال تعالى:
(مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) وهو الحاضر المهيأ، وسمي بين أيديهم، لأنه أمامهم، فشبه علم حاضر بما يكون مهيأ معدا، (وَمَاخَلْفَهُمْ) الخلف يطلق على ما هو خلف الإنسان وهو ضد القُدَّام، فهو يطلق على الماضي والقابل، وهو الذي يخلفه من بعده، ولعله من الخلافة، وقد فسر بالقابل الذي لم يقع، ويكون المعنى يعلمِ حاضرهم، وقابلهم الذي يخلف ذلك الحاضر والضمير في قوله تعالى: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، قيل: يعود إلى الرسل، والظاهر أنه يعود إلى الذين يبلغهم الرسل فالضمير يعود إلى كل الناس، ولذا عقب الآية بقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
بعد ذلك خاطب اللَّه تعالى الذين آمنوا برسالة محمد - ﷺ -، فقال:
واضح كل الوضوح أن النداء للرسول وأتباعه، وليس لكل الناس، فالناس يدخلون في النداء إذا آمنوا ومن يؤمن بالرسالة المحمدية فهذا تكليفها، وهو الصلاة، واختصت بالابتداء لأنها عمود كل دين، ولا دين من غير صلاة وإن اختلفت أشكالها في الديانات السماوية وكل طريق إلى اللَّه واتجاه إليه سبحانه، ولأن الصلاة هي العبادة التي تنصرف فيها النفس والجوارح إلى اللَّه وحده، ولأنها امتلاء النفس بذكر اللَّه تعالى؛ ولأنها إذا أديت على وجهها من قيام وخشوع كامل، وضراعة صادقة، واستحضار النفس لكل معانيها، لَا تقع من الإنسان المنهيات، كما قال تعالى فى خاصتها: (... إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ...)، وخص الركوع والسجود بالطلب مع أن الصلاة لها أركان قراءة وتكبير، وركوع وسجود، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكمْ)؛ وذلك لأن الركوع والسجود هما الظهر الحسي للخضوع للَّه تعالى خضوعا كاملا، ولأنهما لَا يسقطان عن المكلف قط، فالقراءة قد تسقط عن المكلف إذا كان يصلي مؤتما بإمام قارئ، وتسقط عند العجز عن القراءة، أما الركوع والسجود فلا يسقطان فإن لم يستطع الصلاة قائما، صلى قاعدا، وإذا لم يستطع الصلاة بحركات صلى بالإيماء، وإلا فهو في عفو اللَّه، وروي أن بعض الشافعية أجاز الصلاة بالإيماء بالعينين، ولأنهما لَا يسقطان فكانا رمزا للصلاة كلها.
وقد أمر سبحانه وتعالى بفعل الخير أمرا مطلقا غير مقيد ولا محدود فقال عز من قائل: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ)، الخير كل عمل يكون فيه نفع للناس، ويتفاوت الخير فيه بتقارب مقدار النفع، فالنفع الكثير يكون الخير بقدره، ونفع أكبر عدد يكون الخير كله، مع القيام بالعبادات على شتى فروعها وكل أنواعها.
وقال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، أي رجاء أن تفلحوا وتفوزوا في الدارين في الدنيا فتكونوا خير الناس، لأن النبي - ﷺ - يقول: " خير الناس أنفعهم للناس " والرجاء من العباد لَا من اللَّه؛ لأن اللَّه تعالى لَا يرجو بل يعلم وينفذ. إنه عليم حكيم.
ونرى أن الآية ابتدأت بالأمر بتطهير النفوس بتوجهها إلى اللَّه تعالى في الصلاة والعبادة، ثم اتجهت الأوامر إلى نفع الجماعة وأن يكون كل واحد عنصر نفع إنساني فيها.
ثم اتجهت من بعد إلى ما فيه حماية الأمة الإسلامية ونشر دعوتها، فقال تعالى:
________
(١) سبق قريبا.
هذا تكميل ما جاء في الآية السابقة، ففي الآية السابقة كان التدرج من الأمر بتطهير النفس، وملئها باللَّه تعالى في الصلاة والعبادة، ثم فعل الخير لأكبر عدد ممكن في الأمة، وفي هذه الآية المطالبة بالنفع الإنساني بتبليغ الرسالة المحمدية رسالة الإنسانية للناس جميعا، وذلك بالدعوة إلى الإسلام، وهو جهاد، وتذليل العقبات في سبيل هذه الدعوة، وإزالة كل المحاجزات التي تحاجز دونها، ولو كان ذلك بالحرب، ولذا قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكمْ).
الجهاد مفاعلة ببذل الجهد، فالمؤمن يبذل جهده في الدعوة إلى اللَّه، والمقاوم من الكفار يبذل جهده في الصد عن سبيل اللَّه، ومقاومة الحق.
وقوله تعالى: (فِي اللَّهِ)، ، أي الجهاد لأجل ذات اللَّه وابضغاء مرضاته فـ (فِي) هنا تفيد السببية، كما في الحديث الشريف: " دخلت امرأة النار في هرة " (١)، والإتيان بـ (فِي) بدل " الباء " أو " من " فيه معنى إحاطة اللَّه تعالى بالجهاد بأن يكون كله للَّه تعالى، وقوله تعالى: (وحَقَّ) الإضافة فيه بيانية، أي الجهاد الحق الذي يكون من غير إرادة الفخر، أو ابتغاء دنيا يصيبها، وحق الجهاد أن يخلص النفس من أدران الهوى، وإرادة إراقة الدماء، وأن يجاهد المقاتل نفسه أولا، فيقيها عن شهواتها، ويبعد عنها نزغات الشيطان، وأن يجاهد للحق ورفعته، ويكون الجهاد أحيانا أمام الحكام الغاشمين، ولقد قال النبي محمد - ﷺ -: " أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " (٢)، وإذا قتله يكون خير الشهداء.
________
(١) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ» قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ: «لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلاَ سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا، فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ». رواه البخاري: (٣٢٤٨)، ومسلم (٦٩٣١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) سبق تخريجه.
ويقول سبحانه مشيرا إلى الحقائق الإسلامية، ومبينا أن الأمة الإسلامية هي المختارة لهذه الدعوة فقال تعالى: (هُوَ اجتَبَاكمْ)، أي اختاركم من سائر الناس، أي اختاركم واصطفاكم، ونقول هنا: هذا خطاب لكل المسلمين على أنهم الأمة المختارة للتوحيد والدعوة إليه، والجهاد في سبيله، أم أن المخاطب هم العرب على أساس أن البعثة المحمدية كانت فيهم، وأن اللَّه اختار نبيه منهم، وأنهم الذين حملوا الدعوة، وقد بينا لماذا كان الاجتباء في كتاب خاتم النبيين.
ومعنى (اجْتَبَاكمْ)، من الجَبْي بمعنى الجمع، يقال: جبى الخراج، بمعنى جمعه، واجتباه، افتعال من جبى، فهو سبحانه وتعالى جمع الناس جمعا كاملا، وخص بعض هذه الجموع بالخير، فكان المجتبي، وإن اللَّه تعالى اجتبى العرب أو المسلمين بعامة، ليكونوا حاملي الدعوة، والمجاهدين ابتداء في سبيلها، ومنع المحاجزات التي تعترض طريقها بكل طرق الجهاد، وقد قال - ﷺ -: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم، وألسنتكم " (١).
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أعذار الجهاد، فقال عز من قائل: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ) ومع أن هذا النص يشير إلى أن الجهاد مفروض على كل القادرين يشير إلى أصحاب المعاذير كالذين في قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ
________
(١) سبق تخريجه.
فقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فيه إشارة إلى أن فرضية الجهاد مرفوعة عن أصحاب المعاذير وقت عذرهم، وهي في الوقت ذاته قاعدة عامة في معاني الشريعة الإسلامية، والحرج أصله الضيق بين الأشياء المجتمعة فهو الضيق في صدور الناس وفي تكليفاتهم.
والشريعة الإسلامية جاءت لنفع الناس وجلب الخير لهم، " وخير الدين أيسره " (١)، كما روي عنه - ﷺ -، وقد روت أم المؤمنين عائشة عن أعمال النبي - ﷺ -، فقالت: ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، ذلك أن الشاق يصعِّب على المؤمن المداومة، والمداومة تربي في النفس عادة الطاعة، وتكون لها في النفس مجار تنير الخير، ولذلك روى في الصحيح عن النبي - ﷺ - أنه قال: " أحب الأعمال أدومها وإن قلَّ "، وروي عنه أنه قال: " إن الله يحب الديمة من الأفعال "، ونهى عن التشدد في الدين، وقال: " لَا تشددوا، ولكن سددوا وقاربوا "، وقد وصل الله تعالى شيريعة محمد - ﷺ - بشريعة إبراهيم أبي العرب لتقريبها إليهم، فقال:
(مِّلَّةَ أَبِيكمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا)، (مِّلَّةَ) منصوب على الاختصاص، أي أعني ملة أبيكم إبراهيم - عليه السلام -، وسمي أبًا للعرب، وإن كان أبا لبعضهم؛ وذلك لأن العرب جميعا كانوا يتفاخرون بالانتساب إليه، ولأنه باني البيت الحرام الذي كان مناط عزة العرب أجمعين، ولأنه أب بالفعل لقريش الذين ابتدأت الدعوة المحمدية فيهم، وكان ذكر هذه الدعوة الكريمة تقريبا وتأليفا، وإدناء من الإسلام، (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسلِمِينَ مِن قَبْلُ)، الإشارة إلى القرآن، وسماهم المسلمين من قبل في مثل ما حكاه اللَّه تعالى من دعاء إبراهيم - عليه السلام -: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
________
(١) رواه الطبراني في الكبير، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، ورجاله رجال الصحيح، ولفظه: " خَيْرُ دِينِكُمْ أيْسَرَه ". مجمع الزوائد (٧٣٨٥).
قوله تعالى: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) " اللام " وما بعدها متعلق بقوله تعالى، (وَجَاهِدُوا)، والمعنى جاهدوا لأجل أن يكون الرسول شهيدا عليكم بأنكم بلغتم وأديتم الأمانة التي أودعها اللَّه ونبيه إياكم، فيشهد الرسول بأنكم أديتموها حق أدائها، ورعيتموها حق رعايتها، وإن رسالة نبيكم والقرآن فيهما شهادة للأنبياء أجمعين ومعجزاتهم، ومن أطاعوا ومن كفروا، وأنتم بهذا تكونون شهداء بأن بلغتم لهم رسالات اللَّه مؤيدة بمعجزاتها، وأن منهم من آمن ومنهم من كفر.
ولان لهم هذه المنزلة، ومقامهم من رسالة محمد - ﷺ - والرسائل السابقة أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال تعالت كلماته: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ)، " الفاء " للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذا كانت لكم هذه المكانة، فادرعوا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والاعتصام باللَّه فأمرهم بإقامة الصلاة وقال: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ائتوا بها مقومة خالصة لوجه اللَّه تعالى بأركانها من ركوع وسجود وقعود خاشعين للَّه مستحضرين لذاته العلية، إذا ذكرتموه وإذ كبرتم، (وَآتُوا الزَّكآةَ)، وقد جمع سبحانه بذلك بين التهذيب الروحي بالصلاة، والتعاون الاجتماعي بالزكاة، ثم أمر بالاتفاق على طاعة اللَّه تعالى فقال:
(وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ) الاعضصام الاستمساك، فمعنى الاعتصام باللَّه الاستمساك به، بأن يكونوا مستمسكين بأوامره ونواهيه، ومستمسكين بذاته العلية لَا يفكرون إلا فيه، ولا يبتغون غيره، ويلتفون حول شريعته غير منفصلين عنه، وهو نعم المولى ونعم النصير، ولذا ختم السورة بقوله: (فَنِعْمَ الْمَوْلَى) الذي تكون له ولاية المؤمن لَا يوالي غيره ولا يواد من يحادّ اللَّه ورسوله، (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) الناصر، فلا ناصر في الشدائد، ولا منجي سواه.
* * *
تمهيد:
هي سورة مكية نزلت قبل الهجرة، وعدد آياتها ١١٨ (ثماني عشرة ومائة آية)، قيل أنها نزلت بعد سورة الأنبياء، وقد ابتدأت بأوصاف المؤمنين الذين كتب اللَّه تعالى لهم الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧)، ثم بين سبحانه أن رعاية الأمانة والعهد من أوصاف أهل الإيمان، وأشار إلى أن الذين وصفوا بهذه الأوصاف هم (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وبين سبحانه أصل خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله سبحانه نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة، ثم خلق من العلقة مضغة، فخلق من المضغة عظاما، فكسا العظام لحما، ثم أنشأه خلقا آخر (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)، ثم إنكم يوم القيامة مبعوثون.
ولقد بين بعد ذلك خلق الكون، فأنشأ فوق الأرض سبع طرائق، (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨)، ثم بين سبحانه نعمه تعالى فيما أنشأ به الماء من جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه ومنها
وذكر سبحانه وتعالى خبر قوم نوح وكفرهم وما آل إليه أمرهم بعد أن صنع الفلك ونجا هو وأهله ومن اتبعه، ثم بين سبحانه أنه بعد أن أغرق قوم نوح أنشأ من بعدهم قرنا آخرين، وأرسل فيهم رسولا وكذبوه، وكان ما سوغوه لأنفسهم من كفر أنه بشر مثلهم، وأنه ينذرهم بالبعث، فقالوا: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧).
ورموا رسولهم بالكذب وقالوا: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨)، فاتجه رسولهم إلى ربه يستنصر به، قال: (قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٣٩) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (٤٠).
ثم بين بعد ذلك ما نزل بهم من عذاب ساحق (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١).
بعد ذلك أشار الله تعالى إلى قصة موسى وهارون وإرسالهما (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ)، استغربوا أن يؤمنوا لموسى وهارون، وقومهما مستعبدون لهم، فكذبوهما، وكانوا من المهلكين، (وَلَقَدْ آتَيْنَا موسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)، وجاء من بعد موسى عيسى ابن مريم، (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٥٠).
وبعد ذلك وجه اللَّه تعالى خطابه للرسل عامة فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)
ولنبين بذلك وحدة الرسالة الإلهية، ولكن الناس تقطعوا أمرهم وكل حزب بما لديهم فرحون، واغتر الأكثرون بما أوتوا من مال وبنين، (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦).
ويبين سبحانه بعد ذلك ظلم الظالمين، وأنهم في غمرة من هذا القرآن، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، وأن الترف هو الذي أفسد نفوسهم (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤).
وإن الرحمة تطغيهم، وكشف الضر يعميهم، (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)، وإنهم يتحيرون إذا أنزل اللَّه تعالى عليهم عذابا.
ومن بعد ذلك يبين سبحانه فضل الإنشاء، وقدرته في الإحياء والإماتة، واختلاف الليل والنهار: (أَفَلا تَتَّقُونَ)، بل قالوا مثل ما قال الأولون: (قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣).
يوجه سبحانه وتعالى أنظارهم إلى خلق السماوات والأرض وما فيهما، وَمَن رب السماوات السبع والأرض ورب العرش، ومن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢).
وقد أمر اللَّه تعالى بأن يدعوهم هو ومن تبعه (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥)، ويأمرهم سبحانه بالدعوة إلى الحق (بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ) ولا يحاربهم في حمقهم (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠).
ثم يذكر بعد ذلك يوم القيامة، وكيف يبتدئ بالنفخ في الصور (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ وَلا يَتَسَاءَلُونَ)، وإن الميزان بعد ذلك يقام (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤)، ويبين لهم كيف كذبوا بآيات الله ويجيبون مدعين، (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦)،
ويتجهون إلى ربهم طالبين أن يخرجهم، وأنهم لَا يعودون، فيجابون: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨).
ويبين سبحانه وتعالى فريق الصالحين، وأنهم يعاملون بما قدموا، (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١).
وقد بين اللَّه تعالى حكمة البعث فقال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥).
وختم سبحانه وتعالى السورة ببيان واسع سلطانه، وكفر من يشرك به فقال عز من قائل:
(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨).
* * *
المؤمنوق حقا.
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١)* * *