ﰡ
قوله تعالى :﴿ وَعَدَ اللَّهُ ﴾، مصدر مؤكّد لنفسه، لأن قوله قبله :﴿ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾ إلى قوله :﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾ [ الروم : ٣-٥ ]، هو نفس الوعد كما لا يخفى، أي : وعد اللَّه ذلك وعدًا.
وقد ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أمور :
الأول : أنه لا يخلف وعده.
والثاني : أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون.
والثالث : أنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا.
والرابع : أنهم غافلون عن الآخرة. وهذه الأمور الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أمّا الأول منها : وهو كونه لا يخلف وعده، فقد جاء في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [ الرعد : ٣١ ]. وقد بيَّن تعالى أن وعيده للكفار لا يخلف أيضًا في آيات من كتابه ؛ كقوله تعالى :﴿ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ ﴾ [ ق : ٢٨-٢٩ ] الآية.
والتحقيق : أن القول الذي لا يبدّل لديه في هذه الآية الكريمة، هو وعيده للكفار.
وكقوله تعالى :﴿ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ [ ق : ١٤ ] الآية، وقوله :﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ [ ص : ١٤ ]، فقوله :﴿ حَقّ ﴾ في هاتين الآيتين، أي : وجب وثبت، فلا يمكن تخلفه بحال.
وأما الثاني منها : وهو أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة، فقد بيَّن تعالى في آيات أن أكثر الناس هم الكافرون ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ ﴾[ الصافات : ٧١ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٨-٦٧-١٠٣-١٣٩-١٥٨-١٧٤-١٩٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن في الأرْضِ يُضِلُّوكَ ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾[ يوسف : ١٠٣ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بيَّن جلَّ وعلا أيضًا في آيات من كتابه أن الكفار لا يعلمون ؛ كقوله تعالى :﴿ أَوْ لَّوْ كَانَ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧٠ ] وقوله تعالى :﴿ أَوْ لَّوْ كَانَ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [ المائدة : ١٠٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧١ ]، وقوله تعالى :﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٤٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يسمعونَ بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ الملك : ١٠ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأمّا الثالث منها : وهو كونهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، فقد جاء أيضًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ ﴾، أي : في الدنيا، وقوله تعالى :﴿ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ ﴾ [ النجم : ٢٩-٣٠ ] الآية.
وأما الرابع منها : وهو كونهم غافلين عن الآخرة، فقد جاء في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى عنهم :﴿ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ* إِنْ هي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ﴾ [ المؤمنون : ٣٦-٣٧ ] الآية.
وقوله تعالى عنهم :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٥ ]، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٩ ]و[ المؤمنون : ٣٧ ]، ﴿ مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ]، والآيات في ذلك كثيرة معلومة.
تنبيه
اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان أن يتدبّر آية «الروم » هذه تدبّرًا كثيرًا، ويبيّن ما دلّت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس.
وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى اللَّه بها ضعاف العقول من المسلمين، شدّة إتقان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا، ومهارتهم فيها على كثرتها، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق، وأن من عجز عنها متخلّف وليس على الحق، وهذا جهل فاحش، وغلط فادح. وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة، وتخفيف لشأنها أنزله اللَّه في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه، وما أعظمه، وما أحسن تعليمه.
فقد أوضح جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن ﴿ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيوية دخولاً أوليًّا، فقد ن فى عنهم جلَّ وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، لأنهم لا يعلمون شيئًا عمّن خلقهم، فأبرزهم من العدم إلى الوجود، ورزقهم، وسوف يميتهم، ثم يحييهم، ثم يجازيهم على أعمالهم، ولم يعلموا شيئًا عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبديّة في عذاب فظيع دائم، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودًا من جنس من يعلم ؛ كما دلّت عليه الآيات القرآنيّة المذكورة، ثم لما نفى عنهم جلَّ وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، أثبت لهم نوعًا من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره.
وعاب ذلك النوع المذكور من العلم، بعيبين عظيمين :
أحدهما : قلّته وضيق مجاله، لأنه لا يجاوز ﴿ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدُّنْيَا ﴾، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة، وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماوات والأرض جلَّ وعلا، والعلم بأوامره ونواهيه، وبما يقرب عبده منه، وما يبعده عنه، وما يخلد في النعيم الأبدي والعذاب الأبدي، من أعمال الخير والشر.
والثاني منهما : هو دناءة هدف ذلك العلم، وعدم نبل غايته، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا، وهي سريعة الانقطاع والزوال، ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود أوجه الإعراب في قوله :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً ﴾، أنه بدل من قوله قبله ﴿ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾، فهذا العلم كلا علم لحقارته.
قال الزمخشري في «الكشاف » : وقوله :﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ بدل من قوله :﴿ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه، ويسد مسدّه ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
وقوله :﴿ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدُّنْيَا ﴾ يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعّم بملاذها، وباطنها وحقيتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزوّد منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة، وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرًا واحدًا من ظواهرها. و﴿ هُمْ ﴾ الثانية يجوز أن يكون مبتدأ، و﴿ غَافِلُونَ ﴾ خبره، والجملة خبر ﴿ هُمْ ﴾ الأولى، وأن يكون تكريرًا للأولى، و﴿ غَافِلُونَ ﴾ خبر الأول، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة، ومقرّها، ومحلّها وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع، انتهى كلام صاحب «الكشاف ».
وقال غيره : وفي تنكير قوله :﴿ ظَاهِراً ﴾ تقليل لمعلومهم، وتقليله يقربه من النفي، حتى يطابق المبدل منه، اه، ووجهه ظاهر.
واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلّم هذه العلوم الدنيوية، كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة «مريم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً ﴾ [ مريم : ٧٨ ]، وهذه العلوم الدنيوية التي بيّنا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار، إذا تعلّمها المسلمون، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقًا لما أمر اللَّه به على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، كانت من أشرف العلوم وأنفعها ؛ لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة اللَّه ومرضاته جلَّ وعلا، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيب فيها إذن ؛ كما قال تعالى :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ]، فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالاً لأمر اللَّه تعالى وسعيًا في مرضاته، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة كما ترى، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند اللَّه تعالى.
لما بيَّن جلَّ وعلا أن أكثر الناس وهم الكفّار لا يعلمون، ثم ذكر أنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم غافلون، أنكر عليهم غفلتهم عن الآخرة، مع شدّة وضوح أدلّتها بقوله :﴿ أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ ﴾ الآية، والتفكر : التأمّل والنظر العقلي، وأصله إعمال الفكر، والمتأخرون يقولون : الفكر في الاصطلاح حركة النفس في المعقولات، وأمّا حركتها في المحسوسات فهو في الاصطلاح تخييل.
وقال الزمخشري في «الكشاف » :﴿ في أَنفُسِهِمْ ﴾، يحتمل أن يكون ظرفًا كأنه قيل : أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أي : في قلوبهم الفارغة من الفكر، والفكر لا يكون إلاّ في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ؛ كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك وأن يكون صلة للتفكر كقولك : تفكّر في الأمر أجال فيه فكره، و﴿ مَا خَلَقَ ﴾ متعلّق بالقول المحذوف، معناه : أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل معناه : فيعلموا، لأن في الكلام دليلاً عليه ﴿ إِلاَّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى ﴾، أي : ما خلقها باطلاً وعبثًا بغير غرض صحيح، وحكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بدّ لها أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة، ووقت الحساب، والثواب، والعقاب.
ألا ترى إلى قوله :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ ]، كيف سمّى تركهم غير راجعين إليه عبثًا، والباء في قوله :﴿ إِلاَّ بِالْحَقّ ﴾ مثلها في قولك : دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد : اشتراه وهو متلبس بالسرج واللجام غير منفك عنهما، وكذلك المعنى : ما خلقها إلا وهي متلبسة بالحق مقترنة به.
فإن قلت : إذا جعلت في أنفسهم صلة للتفكر فما معناه ؟
قلت : معناه أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فتدبّروا ما أودعها اللَّه ظاهرًا وباطنًا، من غرائب الحكم الدالَّة على التدبير دون الإهمال، وأنه لا بدّ لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبّر أمرها على الإحسان إحسانًا، وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير، وأنّه لا بدّ لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت، والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمّى، انتهى كلام صاحب «الكشاف »، في تفسير هذه الآية.
وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من أن خلقه تعالى للسماوات والأرض، وما بينهما لا يصحّ أن يكون باطلاً ولا عبثًا، بل ما خلقهما إلاّ بالحق ؛ لأنه لو كان خلقهما عبثًا لكان ذلك العبث باطلاً ولعبًا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، بل ما خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما بينهما إلاّ بالحق، وذلك أنه يخلق فيهما الخلائق، ويكلّفهم فيأمرهم، وينهاهم، ويعدهم ويوعدهم، حتى إذا انتهى الأجل المسمّى لذلك بعث الخلائق، وجازاهم فيظهر في المؤمنين صفات رحمته ولطفه وجوده وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، وتظهر في الكافرين صفات عظمته، وشدّة بطشه، وعظم نكاله، وشدّة عدله وإنصافه، دلّت عليه آيات كثيرة من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٨-٤٠ ]، فقوله تعالى :﴿ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ ﴾ الآية، بعد قوله :﴿ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ﴾، يبيّن ما ذكرنا. وقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ ﴾ [ الحجر : ٨٥ ] الآية.
فقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ ﴾، بعد قوله :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ﴾ يوضح ذلك، وقد أوضحه تعالى في قوله :﴿ وَللَّهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ﴾ [ النجم : ٣١ ].
وقد بيَّن جلَّ وعلا أن الذين يظنون أنه خلقهما باطلاً لا لحكمه الكفار، وهددهم على ذلك الظنّ الكاذب بالويل من النار ؛ وذلك في قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ﴾ [ ص : ٢٧ ]، وبيَّن جلَّ وعلا أنه لو لم يبعث الخلائق ويجازهم، لكان خلقه لهم أوّلاً عبثًا، ونزّه نفسه عن ذلك العبث سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوًّا كبيرًا ؛ وذلك في قوله تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥-١١٦ ].
فهذه الآيات القرآنية تدلّ على أنه تعالى ما خلق الخلق إلا بالحق، وأنه لا بدّ باعثهم، ومجازيهم على أعمالهم، وإن كان أكثر الناس لا يعلمون هذا، فكانوا غافلين عن الآخرة، كافرين بلقاء ربّهم.
وقوله تعالى في الآيات المذكورة :﴿ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾، أي : ما بين السماوات والأرض، يدخل فيه السحاب المسخّر بين السماء والأرض، والطير صافّات، ويقبض بين السماء والأرض والهواء الذي لا غنى للحيوان عن استنشاقه.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الحجر »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٧٦ ]. وفي «المائدة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسرائيل ﴾ [ المائدة : ٣٢ ] الآية. وفي «هود »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ رَبّكَ وَمَا هي مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [ هود : ٨٣ ]. وفي «الإسراء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ [ الإسراء : ١٧ ] الآية، وفي غير ذلك.
وقوله تعالى في آية «الروم » هذه :﴿ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ﴾، جاء موضحًا في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً في الأرْضِ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبونَ ﴾ [ غافر : ٨٢ ]، ونحو ذلك من الآيات.
قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو :﴿ كَانَ عَاقِبَةَ ﴾، بضم التاء اسم كان، وخبرها ﴿ السُّوْأَى ﴾. وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي :﴿ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ ﴾، بفتح التاء خبر ﴿ كَانَ ﴾ قدم على اسمها على حدّ قوله في «الخلاصة » :
وفي جميعها توسط الخبر *** أجز...
وعلى هذه القراءة ف ﴿ السُّوأَى ﴾ اسم ﴿ كَانَ ﴾، وإنما جرد الفعل من التاء مع أن ﴿ السُّوأَى ﴾ مؤنثة لأمرين :
الأول : أن تأنيثها غير حقيقي.
والثاني : الفصل بينها وبين الفعل، كما هو معلوم. وأمّا على قراءة ضمّ التاء فوجه تجريد الفعل من التاء هو كون تأنيث العاقبة غير حقيقي فقط.
وأظهر الأقوال في معنى الآية عندي، أن المعنى على قراءة ضمّ التاء، كانت عاقبة المسيئين السوأى، وهي تأنيث الأسوإ، بمعنى : الذي هو أكثر سوءًا، أي : كانت عاقبتهم العقوبة، التي هي أسوأ العقوبات، أي : أكثرها سوءًا وهي النار أعاذنا اللَّه وإخواننا المسلمين منها.
وأمّا على قراءة فتح التاء، فالمعنى : كانت السوأى عاقبة الذين أساءوا، ومعناه واضح مما تقدم، وأن معنى قوله :﴿ أَن كَذَّبُواْ ﴾، أي : كانت عاقبتهم أسوأ العقوبات لأجل أن كذبوا.
وهذا المعنى تدلّ عليه آيات كثيرة توضح أن الكفر والتكذيب، قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه، وسوء عاقبته، والعياذ باللَّه ؛ كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [ الصف : ٥ ]، وقوله :﴿ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [ البقرة : ١٠ ]، وقوله :﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ النساء : ١٥٥ ].
وقد أوضحنا الآيات الدالَّة على هذا في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ [ الإسراء : ٤٦ ]. وفي «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ ﴾ [ الأعراف : ١٠١ ]، وفي غير ذلك.
وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال : إن ﴿ الْسُّوأَى ﴾ منصوب ب ﴿ أَسَاءواْ ﴾، أي : اقترفوا الجريمة السوأى خلاف الصواب، وكذلك قول من قال : إن ﴿ أنٍ ﴾ في قوله :﴿ أَن كَذَّبُواْ ﴾ تفسيرية، فهو خلاف الصواب أيضًا، والعلم عند اللَّه تعالى.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في «البقرة »، و «النحل »، و «الحج »، وغير ذلك.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ [ البقرة : ٤٨ ] الآية، وفي غير ذلك.
قوله تعالى :﴿ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ ١٣ ].
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «مريم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ]، وفي غير ذلك.
قد قدّمنا في سورة «النساء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾ [ النساء : ١٠٣ ]، أن قوله هنا :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ﴾، الآيتين من الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلوات الخمس، وأوضحنا وجه ذلك مع إيضاح جميع الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلوات الخمس.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في ذكرنا براهين البعث في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢ ]. وفي سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ ﴾ [ النحل : ١١ ] الآية، وفي غير ذلك.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «طه »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ﴾ [ طه : ٥٥ ]، وفي غير ذلك.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾ [ النحل : ٧٢ ] الآية.
قوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ﴾، قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ] الآية. وقوله :﴿ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ﴾، قد أوضح تعالى في غير هذا الموضع أن اختلاف ألوان الآدميين واختلاف ألوان الجبال، والثمار، والدواب، والأنعام، كل ذلك من آياته الدالَّة على كمال قدرته، واستحقاقه للعبادة وحده، قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانهَا وغرابيب سود ﴾ ﴿ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألواه كذلك ﴾ [ فاطر : ٢٧-٢٨ ]، واختلاف الألوان المذكورة من غرائب صنعه تعالى وعجائبه، ومن البراهين القاطعة على أنه هو المؤثر جلَّ وعلا، وأن إسناد التأثير للطبيعة من أعظم الكفر والضلال.
وقد أوضح تعالى إبطال تأثير الطبيعة غاية الإيضاح في سورة «الرعد » :﴿ وَفِى الأرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ ﴾، إلى قوله :﴿ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ الرعد : ٤ ]. وقرأ هذا الحرف حفص وحده عن عاصم :﴿ إِنَّ في ذالِكَ لآيَاتٍ لّلْعَالَمِينَ ﴾ بكسر اللام، جمع عالم الذي هو ضدّ الجاهل. وقرأه الباقون :﴿ لّلْعَالَمِينَ ﴾ بفتح اللام ؛ كقوله :﴿ رَبّ الْعَالَمِينَ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] الآية، وفي سورة «الفرقان »، وغير ذلك.
قد قدّمنا ما يوضحه من الآيات مع تفسير قوله :﴿ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ في سورة «الرعد »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ [ الرعد : ١٢ ] الآية، وسنحذف هنا بعض الإحالاث لكثرتها.
قد قدّمنا إيضاجه القرءآن في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الْرّزْقِ ﴾ [ النحل : ٧١ ] الآية.
أي : يتفرّقون فريقين، أحدهما : في الجنة، والثاني : في النار.
وقد دلَّت على هذا آيات من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ في الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ [ الروم : ١٤-١٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ ﴾ [ الشورى : ٧ ]، ويدلّ لهذا قوله بعده :﴿ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِىَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [ الروم : ٤٤-٤٥ ]، وقد أشار تعالى أيضًا للتفرّق المذكور هنا في قوله تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ الزلزلة : ٦ ].
قد قدّمنا الآيات الموضحة في له سورة «النمل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ الآية.
قد بيَّن تعالى الضعف الأول الذي خلقهم منه في آيات من كتابه، وبيَّن الضعف الأخير في آيات أُخر ؛ قال في الأَوّل :﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ ﴾ [ المرسلات : ٢٠ ]، وقال :﴿ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ [ النحل : ٤ ]، وقال تعالى :﴿ أَوَ لَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ [ يس : ٧٧ ] الآية، وقال :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ﴾ [ الطارق : ٥-٦ ]، وقال :﴿ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ [ المعارج : ٣٩ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في الضعف الثاني :﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾ [ النحل : ٧٠ ]و[ الحج : ٥ ]، وقال :﴿ وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ في الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [ يس : ٦٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات. وأشار إلى القوة بين الضعفين في آيات من كتابه ؛ كقوله :﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ [ النحل : ٤ ]، وإطلاقه نفس الضعف، على ما خلق الإنسان منه، قد أوضحنا وجهه في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ [ الأنبياء : ٣٧ ] الآية. وقرأ عاصم وحمزة :﴿ مّن ضَعْفٍ ﴾ في المواضع الثلاثة المخفوضين، والمنصوب بفتح الضاد في جميعها، وقرأ الباقون بالضمّ.
واختار حفص القراءة بالضم وفاقًا للجمهور ؛ للحديث الوارد عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، من طريق عطية العوفي أنه أعني ابن عمر قرأ عليه صلى الله عليه وسلم :﴿ مّن ضَعْفٍ ﴾ بفتح الضاد، فردّ عليه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقرأها بضم الضاد، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسّنه، ورواه غيرهما، والعلم عند اللَّه تعالى.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «يونس »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النَّهَارِ ﴾، وفي غير ذلك.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا بعثوا يوم القيامة، وأقسموا أنهم ما لبثوا غير ساعة يقول لهم الذين أُوتوا العلم والإيمان، ويدخل فيهم الملائكة، والرسل، والأنبياء، والصالحون : واللَّه لقد لبثتم في كتاب اللَّه إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث، ولكنكم كنتم لا تعلمون.
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في سورة «يس » على أصحّ التفسيرين، وذلك في قوله تعالى :﴿ قَالُواْ يا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ﴾ [ يس : ٢٥ ].
والتحقيق أن هذا قول الكفار عن البعث، والآية تدلّ دلالة لا لبس فيها، على أنهم ينامون نومة قبل البعث، كما قاله غير واحد، وعند بعثهم أحياء من تلك النومة التي هي نومة موت يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان :﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾، أي : هذا البعث بعد الموت، الذي وعدكم الرحمان على ألسنة رسله، وصدق المرسلون في ذلك، كما شاهدتموه عيانًا، فقوله في «يس » :﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمانُ ﴾ [ يس : ٥٢ ]، قول الذين أوتوا العلم والإيمان، على التحقيق، وقد اختاره ابن جرير، وهو مطابق لمعنى قوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ﴾الآية.
والتحقيق أن قوله هذا إشارة إلى ما وعد الرحمان وأنها من كلام المؤمنين، وليست إشارة إلى المرقد في قول الكفار :﴿ مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا ﴾ [ يس : ٥٢ ]، وقوله :﴿ في كِتَابِ اللَّهِ ﴾، أي : فيما كتبه وقدره وقضاه. وقال بعض العلماء : أن قوله :﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ ﴾ [ يس : ٥٢ ] الآية، من قول الكفار، ويدلّ له قوله في «الصافّات » :﴿ وَقَالُواْ يا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ ﴾ [ الصافات : ٢٠-٢١ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾.
قد قدّمنا ما فيه من اللغات، والشواهد العربية في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ [ النحل : ٨٤ ].
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً في قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الأنعام : ٧ ]، وفي سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا ﴾ [ الإسراء : ٩٠ ]، وفي سورة «يونس »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ٩٦ ] الآية، وفي غير ذلك.
قد قدمنا في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ﴾ [ الإسراء : ٢٢ ]، أن اللَّه تعالى قد بيَّن في بعض الآيات القرآنية أنه يخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم بخطاب لا يريد به نفس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإنما يريد به التشريع.
وبيَّنا أن من أصرح الآيات في ذلك قوله تعالى مخاطبًا له صلى الله عليه وسلم :﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] الآية، ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل نزول :﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ﴾، بزمن طويل، فلا وجه البتّة لاشتراط بلوغهما، أو بلوغ أحدهما الكبر عنده، بل المراد تشريع برّ الوالدين لأُمّته، بخطابه صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن قول من يقول : إن الخطاب في قوله :﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ﴾، لمن يصح خطابه من المكلّفين، وأنه كقول طرفة بن العبد :
*ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلاً*
خلاف الصواب.
والدليل على ذلك قوله بعد ذكر المعطوفات، على قوله :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ﴾، ﴿ ذالِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ﴾ [ الإسراء : ٣٩ ] الآية، ومعلوم أن قوله :﴿ ذالِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ ﴾ خطاب له صلى الله عليه وسلم، كما ترى. وذكرنا بعض الشواهد العربية على خطاب الإنسان، مع أن المراد بالخطاب في الحقيقة غيره.
وبهذا تعلم أن مثل قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ﴾، وقوله :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ]، وقوله :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٤ ]، وقوله :﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾ [ الإسراء : ٢٢ ]، يراد به التشريع لأُمّته ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك الكفر الذي نهى عنه.
فائدة
روي من غير وجه : أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه ناداه رجل من الخوارج في صلاة الفجر، فقال :﴿ وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ]، فأجابه عليّ رضي اللَّه عنه وهو في الصّلاة :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ﴾ [ الروم : ٦٠ ].
تم بحمد الله تفسير سورة الروم