ﰡ
- ١ - حم
- ٢ - تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
- ٣ - إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ
- ٤ - وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
- ٥ - وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
يُرْشِدُ تَعَالَى خَلْقَهُ إلى التفكير في آلائه ونعمه، وقد رته العظيمة التي خلق بها السماوات والأرض، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ، وَالطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ، وَمَا فِي الْبَحْرِ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي تَعَاقُبِهِمَا دَائِبَيْنِ لَا يَفْتُرَانِ، هَذَا بِظَلَامِهِ، وَهَذَا بِضِيَائِهِ، وَمَا أنزل الله تبارك وتعالى مِنَ السَّحَابِ، مِنَ الْمَطَرِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَسَمَّاهُ رِزْقًا لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الرِّزْقُ ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أَيْ بَعْدَ مَا كَانَتْ هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شيء، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾ أي جنوباً وشمالاً برية وبحرية، ليلة وَنَهَارِيَّةً، وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلْمَطَرِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلِّقَاحِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غِذَاءٌ لِلْأَرْوَاحِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَقِيمٌ لَا يَنْتِجُ، وَقَالَ سبحانه أَوَّلًا ﴿لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ ثُمَّ ﴿يُوقِنُونَ﴾ ثُمَّ ﴿يَعْقِلُونَ﴾ وَهُوَ تَرَقٍّ مِنْ حَالٍ شَرِيفٍ إِلَى مَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَأَعْلَى، وَهَذِهِ الْآيَاتُ شَبِيهَةٌ بآية البقرة وهي قوله تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
- ٧ - وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
- ٨ - يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
- ٩ - وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
- ١٠ - مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ
- ١١ - هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
يقول تعالى ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ مُتَضَمِّنَةً الْحَقَّ مِنَ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانُوا لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَلَا يَنْقَادُونَ لَهَا ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾؟ ثم قال تعالى ﴿ويل لكل أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ أفاك في قوله أي كذاب ﴿أَثِيمٍ﴾ في فعله وقلبه كَافِرٍ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ﴾ أَيْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ ﴿ثُمَّ يُصِرُّ﴾ أَيْ عَلَى كُفْرِهِ وَجُحُودِهِ، اسْتِكْبَارًا وَعِنَادًا ﴿كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا﴾ كَأَنَّهُ مَا سَمِعَهَا ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أَيْ فأخبره أن له عند الله تعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابًا أَلِيمًا مُوجِعًا، ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً﴾ أَيْ إِذَا حَفِظَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ كَفَرَ بِهِ، وَاتَّخَذَهُ سُخْرِيًّا وَهُزُوًا ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَهَانَ بِالْقُرْآنِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، ولهذا «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أن يناله العدو» (رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما)، ثُمَّ فَسَّرَ الْعَذَابَ الْحَاصِلَ لَهُ يَوْمَ مَعَادِهِ فَقَالَ ﴿مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ أَيْ كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ سَيَصِيرُونَ إِلَى
جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً﴾ أَيْ لَا تَنْفَعُهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، ﴿وَلاَ مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أَيْ وَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى: ﴿هَذَا هُدًى﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾ وَهُوَ المؤلم الموجع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
- ١٣ - وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
- ١٤ - قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
- ١٥ - مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
يَذْكُرُ تَعَالَى نعهم عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ ﴿لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ﴾ وَهِيَ السُّفُنُ فِيهِ بِأَمْرِهِ تَعَالَى فإنه هو الذي أمر البحر بحملها ﴿وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ أَيْ فِي الْمَتَاجِرِ وَالْمَكَاسِبِ، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أَيْ عَلَى حُصُولِ الْمَنَافِعِ الْمَجْلُوبَةِ إِلَيْكُمْ، مِنَ الْأَقَالِيمِ النَّائِيَةِ وَالْآفَاقِ الْقَاصِيَةِ، ثُمَّ قال عزَّ وجلَّ ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أَيِ من الكواكب والجبال والبحار والأنهار، الْجَمِيعُ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ﴿جَمِيعاً مِّنْهُ﴾ أَيْ مِنْ عِنْدِهِ وَحْدَهُ لَا شريك له، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿قُلْ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله﴾، أي ليصفحوا عنهم، ويتحملوا الآذى منهم، وكان هذا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، أُمِرُوا أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك
- ١٧ - وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
- ١٨ - ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ - ١٩ - إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ
- ٢٠ - هَذَا بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ الْمُلْكَ فِيهِمْ، وَلِهَذَا قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بني لإسرائيل الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ أَيْ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ فِي زَمَانِهِمْ ﴿وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ﴾ أَيْ حججاً وبراهين وأدلة قاطعات، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْدَ قِيَامِ الحجة، وإنما كان ذلك بغياً منهم ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أَيْ سَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ، وَهَذَا فِيهِ تَحْذِيرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ تَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ، وَأَنْ تَقْصِدَ مَنْهَجَهُمْ، ولهذا قال جلَّ وعلا: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ أَيِ اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين، وقال جلَّ جلاله ههنا: ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ أَيْ وَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ وِلَايَتُهُمْ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا؟ فَإِنَّهُمْ لَا يَزِيدُونَهُمْ إِلَّا خَسَارًا وَدَمَارًا وَهَلَاكًا، ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ وَهُوَ تَعَالَى يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿هذا بَصَائِرُ لِّلنَّاسِ﴾ يعني القرآن ﴿هدى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
- ٢٢ - وَخَلَقَ الله السماوات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
- ٢٣ - أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ أَيْ فَلَا يَسْمَعُ مَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَعِي شَيْئًا يَهْتَدِي بِهِ، وَلَا يَرَى حُجَّةً يَسْتَضِيءُ بها، ولهذا قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾؟ كقوله تَعَالَى: ﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
- ٢٥ - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- ٢٦ - قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَعْلَمُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي إِنْكَارِ الْمَعَادِ ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ أَيْ مَا ثَمَّ إِلَّا هَذِهِ الدَّارُ، يَمُوتُ قَوْمٌ وَيَعِيشُ آخَرُونَ، وَمَا ثَمَّ مَعَادٌ وَلَا قِيَامَةٌ، وَهَذَا يَقُولُهُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ الْمُنْكِرُونَ المعاد، وتقوله الفلاسفة الدهرية الْمُنْكِرُونَ لِلصَّانِعِ، الْمُعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَعُودُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا قَدْ تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا العقول وَكَذَّبُوا الْمَنْقُولَ، وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ﴾ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ أَيْ يتوهمون ويتخيلون، فأما الحديث الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ»، وَفِي رواية: «لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر» (أخرجاه في الصحيحين، ورواه أبو داود والنسائي) فقد قال الشافعي وأبو عبيدة في تفسير الحديث: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا إِذَا أَصَابَهُمْ شِدَّةٌ أَوْ بَلَاءٌ أَوْ نَكْبَةٌ، قَالُوا: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَيُسْنِدُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ إِلَى الدَّهْرِ، وَيَسُبُّونَهُ، وإنما فاعلها هو الله تعالى، فَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَبُّوا اللَّهَ
- ٢٨ - وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
- ٢٩ - هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مالك السماوات والأرض، والحاكم فيهما في الدنيا والآخرة، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿يَخْسَرُ المبطلون﴾ وهم الكافرون بالله والجاحدون بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ، مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ والدلائل الواضحات، ثم قال تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ أَيْ عَلَى رُكَبِهَا من الشدة والعظمة، ويقال: إن هذا إِذَا جِيءَ بِجَهَنَّمَ، فَإِنَّهَا تَزْفِرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ الخليل عليه الصلاة والسلام، وَيَقُولُ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إلاّ نفسي، وحتى إن عيسى عليه الصلاة والسلام لَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، لَا أسألك مريم التي ولدتني، قال مجاهد: ﴿كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ أَيْ عَلَى الرُّكَبِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ﴿جَاثِيَةً﴾ مُتَمَيِّزَةً
عَلَى نَاحِيَتِهَا، وَلَيْسَ عَلَى الركب، والأول أولى لما روي عن عبد الله بن أباه أن رسول الله ﷺ قَالَ: «كَأَنِّي أَرَاكُمْ جَاثِينَ بِالْكَوَمِ دُونَ جَهَنَّمَ» (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا في حديث الصور: فَيَتَمَيَّزُ النَّاسُ، وَتَجْثُو الْأُمَمُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ وَهَذَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَلَا مُنَافَاةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: ﴿كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ يَعْنِي كِتَابَ أعمالها كقوله جلَّ جلاله: ﴿وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهداء﴾، ولهذا قال سُبْحَانَهُ وتعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ تُجَازَوْنَ بأعمالكم خيرها وشرها، كقوله عزَّ وجلَّ: ﴿يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾، ولهذا قال جلَّت عظمته: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ﴾ أَيْ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، كقوله جلَّ جلاله: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أحداً﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ
- ٣١ - وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ
- ٣٢ - وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ
- ٣٣ - وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- ٣٤ - وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
- ٣٥ - ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
- ٣٦ - فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السماوات وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
- ٣٧ - وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السماوات وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أَيْ آمَنَتْ قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة، وَهِيَ الْخَالِصَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلشَّرْعِ ﴿فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ﴾ وَهِيَ الْجَنَّةُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ (هذا جزء من حديث أخرجه الشيخان وأوله: "تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أورثت بالمتكبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلاّ سقط الناس وضعفاؤهم؟ فأوحى الله للجنة أنت رحمتي"... الخ) ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ أَيِ البيِّن الْوَاضِحُ، ثم قال تعالى ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾؟ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وتوبيخاً، أما قرئت عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله تعالى، فاستكبرتم عن اتباعها وأعرضتم عن سماعها، وكنتم قوماً مجرمين فِي أَفْعَالِكُمْ، مَعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ؟ ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ أَيْ إِذَا قَالَ لَكُمُ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ ﴿قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ﴾ أَيْ لَا نَعْرِفُهَا ﴿إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً﴾ أَيْ إِنْ نَتَوَهَّمُ وُقُوعَهَا إِلَّا تَوَهُّمًا أَيْ مَرْجُوحًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا نَحْنُ مستيقنين﴾ أَيْ بِمُتَحَقِّقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ﴾ أَيْ وَظَهَرَ لَهُمْ عُقُوبَةُ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ ﴿وَحَاقَ بِهِم﴾ أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أَيْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ﴾ أَيْ نُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ النَّاسِي لَكُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ﴿كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ أَيْ فَلَمْ تَعْمَلُوا لَهُ لأنكم لم تصدقوا به ﴿وَمَأْوَاكُمُ النار ومالكم مِّن نَّاصِرِينَ﴾، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِبَعْضِ الْعَبِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "أَلَمْ أُزَوِّجْكَ؟ أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟