تفسير سورة الأنعام

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة الأنعام

(٦) سورة الأنعام
مكية غير ست آيات أو ثلاث آيات من قوله:
قُلْ تَعالَوْا وهي مائة وخمس وستون آية
[سورة الأنعام (٦) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أخبر بأنه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد، ونبه على أنه المستحق له على هذه النعم الجسام حمد أو لم يحمد، ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون، وجمع السموات دون الأرض وهي مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات، وقدمها لشرفها وعلو مكانها وتقدم وجودها. وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أنشأهما، والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمن. ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيهاً على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، أو لأن المراد بالظلمة الضلال، وبالنور الهدى والهدى واحد والضلال متعدد، وتقديمها لتقدم الإِعدام على الملكات.
ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عطف على قوله الحمد لله على معنى أن الله سبحانه وتعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته، ويكون بربهم تنبيهاً على أنه خلق هذه الأشياء أسباباً لتكونهم وتعيشهم، فمن حقه أن يحمد عليها ولا يكفر، أو على قوله خلق على معنى أنه سبحانه وتعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. ومعنى ثم: استبعاد عدولهم بعد هذا البيان، والباء على الأول متعلقة بكفروا وصلة يعدلون محذوفة أي يعدلون عنه ليقع الإِنكار على نفس الفعل، وعلى الثاني متعلقة ب يَعْدِلُونَ والمعنى أن الكفار يعدلون بربهم الأوثان أي يسوونها به سبحانه وتعالى.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي ابتدأ خلقكم منه، فإنه المادة الأولى وأن آدم الذي هو أصل البشر خلق منه، أو خلق أباكم فحذف المضاف. ثُمَّ قَضى أَجَلًا أجل الموت. وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل القيامة. وقيل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث، فإن الأجل كما يطلق لآخر المدة يطلق لجملتها. وقيل الأول النوم والثاني الموت. وقيل الأول لمن مضى والثاني لمن بقي ولمن يأتي، وأجل نكرة خصصت بالصفة ولذلك استغني عن تقديم الخبر والاستئناف به لتعظيمه ولذلك نكر ووصف بأنه مسمى أي مثبت معين لا يقبل التغير، وأخبر عنه بأنه عند الله لا مدخل لغيره فيه يعلم ولا قدرة ولأنه المقصود بيانه.
ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنه خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم، فإن من
قدر على خلق المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانياً، فالآية الأولى دليل التوحيد والثانية دليل البعث، والامتراء الشك وأصله المري وهو استخراج اللبن من الضرع.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)
وَهُوَ اللَّهُ الضمير لله سبحانه وتعالى واللَّهُ خبره. فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ متعلق باسم اللَّهُ والمعنى هو المستحق للعبادة فيهما لا غير، كقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أو بقوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ والجملة خبر ثان، أو هي الخبر واللَّهُ بدل، ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد في الحرم إذا كنت خارجه والصيد فيه أو ظرف مستقر وقع خبراً، بمعنى أنه سبحانه وتعالى لكمال علمه بما فيهما كأنه فيهما، ويعلم سركم وجهركم بيان وتقرير له وليس متعلقاً بالمصدر لأن صفته لا تتقدم عليه. وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ من خير أو شر فيثيب عليه ويعاقب، ولعله أريد بالسر والجهر ما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤ الى ٥]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مِنْ الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض، أي: ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن. إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ تاركين للنظر فيه غير ملتفتين إليه.
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ يعني القرآن وهو كاللازم مما قبله كأنه قيل: إنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا به لما جاءهم، أو كالدليل عليه على معنى أنهم لما أعرضوا عن القرآن وكذبوا به وهو أعظم الآيات فكيف لا يعرضون عن غيره، ولذلك رتب عليه بالفاء. فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي سيظهر لهم ما كانوا به يستهزئون عند نزول العذاب بهم فِى الدنيا والآخرة، أَوْ عند ظهور الإِسلام وارتفاع أمره.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي من أهل زمان، والقرن مدة أغلب أعمار الناس وهي سبعون سنة. وقيل ثمانون. وقيل القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم. قلت المدة أو كثرت واشتقاقه من قرنت. مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ جعلنا لهم فيها مكاناً وقررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والآلات ما تمكنوا بها من أنواع التصرف فيها. مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ما لم نجعل لكم من السعة وطول المقام يا أهل مكة ما لم نعطكم من القوة والسعة في المال والاستظهار في العدد والأسباب. وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ أي المطر أو السحاب، أو المظلة فطن مبدأ المطر منها. مِدْراراً أي مغزاراً. وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي لم يغن ذلك عنهم شيئاً.
وَأَنْشَأْنا وأحدثنا. مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ بدلاً منهم، والمعنى أنه سبحانه وتعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود وينشئ مكانهم يعمر بهم بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧ الى ٨]

وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨)
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ مكتوباً في ورق. فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فمسوه، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا، ولأنه يتقدمه الإِبصار حيث لا مانع، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز فإنه قد يتجوز به للفحص كقوله: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تعنتاً وعناداً.
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ هلا أنزل معه ملك يكلمنا أنه نبي كقوله: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ جواب لقولهم وبيان هو المانع مما اقترحوه والخلل فيه، والمعنى أن الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحق إهلاكهم فإن سنة الله قد جرت بذلك فيمن قبلهم. ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ بعد نزوله طرفة عين.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩]
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ (٩)
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب، وإن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان، فإنهم تارة يقولون لولا أنزل عليه ملك، وتارة يقولون لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ ملائكة. والمعنى ولو جعلنا قريناً لك ملكاً يعاينونه أو الرسول ملكاً لمثلناه رجلاً كما مثل جبريل في صورة دحية الكلبي، فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته، وإنما رآهم كذلك الأفراد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوتهم القدسية، وللبسنا جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلاً للبسنا أي: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فيقولون مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مثلكم. وقرئ «لبسنا» بلام واحدة و «للبّسنا» بالتشديد للمبالغة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يرى من قومه. فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله، أو فنزل بهم وبال استهزائهم.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ كيف أهلكهم الله بعذاب الاستئصال كي تعتبروا، والفرق بينه وبين قوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا أن السير ثمة لأجل النظر ولا كذلك ها هنا، ولذلك قيل معناه إباحة السير للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢ الى ١٣]
قُلْ لِمَنْ مَّا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)
قُلْ لِمَنْ مَّا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقاً وملكاً، وهو سؤال تبكيت. قُلْ لِلَّهِ تقريراً لهم وتنبيهاً على أنه المتعين للجواب بالإِنفاق، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره. كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ التزمها تفضلاً وإحساناً والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده بنصب الأدلة، وإنزال الكتب والإِمهال على الكفر. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ استئناف وقسم للوعيد على إشراكهم وإغفالهم
النظر أي: ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة، فيجازيكم على شرككم. أو في يوم القيامة وإلى بمعنى في. وقيل بدل من الرحمة بدل البعض فإنه من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم. لاَ رَيْبَ فِيهِ في اليوم أو الجمع. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع رأس مالهم. وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم، وموضع الذين نصب على الذم أو رفع على الخبر أي: وأنتم الذين أو على الابتداء والخبر. فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم، فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الاصرار على الكفر والامتناع من الإِيمان وَلَهُ عطف على لله. مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من السكنى وتعديته بفي كما في قوله تعالى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ والمعنى ما اشتملا عليه، أو من السكون أي ما سكن فيهما وتحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر. وَهُوَ السَّمِيعُ لكل مسموع. الْعَلِيمُ بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء، ويجوز أن يكون وعيداً للمشركين على أقوالهم وأفعالهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا إنكار لاتخاذ غير الله ولياً لا لاتخاذ الولي. فلذلك قدم وأولى الهمزة والمراد بالولي المعبود لأنه رد لمن دعاه إلى الشرك. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعهما، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما، أنا فطرتها أي ابتدأتها. وجره على الصفة لله فإنه بمعنى الماضي ولذلك قرئ «فطر» وقرئ بالرفع والنصب على المدح.
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ يَرزق ولا يُرزق، وتخصيص الطعام لشدة الحاجة إليه. وقرئ «ولا يطعم» بفتح الياء وبعكس الأول على أن الضمير لغير الله، والمعنى كيف أشرك بمن هو فاطر السموات والأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانية، وببنائهما لفاعل على أن الثاني من أطعم بمعنى استطعم، أو على معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله: يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سابق أمته في الدين. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وقيل لي ولا تكونَنَّ، ويجوز عطفه على قل.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب، والشرط معترض بين الفعل والمفعول به وجوابه محذوف دل عليه الجملة.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي يصرف العذاب عنه. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم يُصْرَفْ عَلَى أن الضمير فيه لله سبحانه وتعالى. وقد قرئ بإظهاره والمفعول به محذوف، أو يومئذ بحذف المضاف. فَقَدْ رَحِمَهُ نجاه وأنعم عليه. وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي الصرف أو الرحمة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ببلية كمرض وفقر. فَلا كاشِفَ لَهُ فلا قادر على كشفه. إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ بنعمة كصحة وغنى. فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكان قادراً على حفظه وإدامته فلا يقدر غيره على دفعه كقوله تعالى: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ.
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقدرة. وَهُوَ الْحَكِيمُ في أمره وتدبيره.
الْخَبِيرُ بالعباد وخفايا أحوالهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٩]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً نزلت حين قالت قريش: يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله. والشيء يقع على كل موجود، وقد سبق القول فيه في سورة «البقرة». قُلِ اللَّهُ أي الله أكبر شهادة ثم ابتدأ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي هو شهيد بيني وبينكم، ويجوز أن يكون الله شهيد هو الجواب لأنه سبحانه وتعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شيء شهادة. وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ أي بالقرآن، واكتفى بذكر الإِنذار عن ذكر البشارة. وَمَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين، أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر، أو من الثقلين، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن بلغه إلى يوم القيامة، وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه. أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى تقرير لهم مع إنكار واستبعاد. قُلْ لاَّ أَشْهَدُ بما تشهدون. قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي بل أشهد أن لا إله إلا هو. وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ يعني الأصنام.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحليته المذكورة في التوراة والإِنجيل. كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين. فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ لتضييعهم ما به يكتسب الإِيمان.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كقولهم: الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كأن كذبوا بالقرآن والمعجزات وسموها سحراً. وإنما ذكر (أو) وهم وقد جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أن كلاً منهما وحده بالغ غاية الإِفراط في الظلم على النفس. إِنَّهُ الضمير للشأن. لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فضلاً عمن لا أحد أظلم منه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً منصوب بمضمر تهويلاً للأمر. ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، وقرأ يعقوب «يحشرهم» ويقول بالياء. الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ، ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها، ويحتمل أن يشاهدوهم ولكن لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم.
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا أي كفرهم، والمراد عاقبته وقيل معذرتهم التي يتوهمون أن يتخلصوا بها، من فتنت الذهب إذا خلصته. وقيل جوابهم وإنما سماه فتنة لأنه كذب، أو لأنهم قصدوا به الخلاص.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم لَمْ تكن بالتاء وفِتْنَتُهُمْ بالرفع على أنها الاسم، ونافع وأبو
عمرو وأبو بكر عنه بالتاء والنصب على أن الاسم أَنْ قالُوا، والتأنيث للخبر كقولهم من كانت أمك والباقون بالياء والنصب. وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفعهم من فرط الحيرة والدهشة، كما يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها. وقد أيقنوا بالخلود. وقيل معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا وهو لا يوافق قوله.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي بنفي الشرك عنها، وحمله على كذبهم في الدنيا تعسف يخل بالنظم ونظير ذلك قوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وقرأ حمزة والكسائي ربنا بالنصب على النداء أو المدح. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الشركاء.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تتلو القرآن، والمراد أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم، اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن فقالوا للنضر ما يقول، فقال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية، فقال أبو سفيان إني لأرى حقاً فقال أبو جهل كلا. وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية جمع كنان وهو ما يستر الشيء. أَنْ يَفْقَهُوهُ كراهة أن يفقهوه. وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً يمنع من استماعه، وقد مر تحقيق ذلك في أول «البقرة».
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِها لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم. حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم جاءوك يجادلونك، وحتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها، والجملة إذا وجوابه وهو يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فإن جعل أصدق الحديث خرافات الأولين غاية التكذيب، ويجادلونك حال لمجيئهم، ويجوز أن تكون الجارة وإذا جاءوك في موضع الجر ويجادلونك حال ويقول تفسير له، والأساطير الأباطيل جمع أسطورة أو اسطارة أو أسطار جمع سطر، وأصله السطر بمعنى الخط.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي ينهون الناس عن القرآن، أو الرسول صلّى الله عليه وسلّم والإِيمان به. وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ بأنفسهم أو ينهون عن التعرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينأون عنه فلا يؤمنون به كأبي طالب. وَإِنْ يُهْلِكُونَ وما يهلكون بذلك. إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ أن ضرره لا يتعداهم إلى غيرهم.
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ جوابه محذوف أي: لو تراهم حين يوقعون على النار حتى يعاينوها، أو يطلعون عليها، أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت أمرا شنيعا. وقرئ «وُقِفُواْ» على البناء للفاعل من وقف عليها وقوفاً. فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ تمنياً للرجوع إلى الدنيا. وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ استئناف كلام منهم على وجه الإِثبات كقولهم: دعني ولا أعود، أي وأنا لا أعود تركتني، أو لم تتركني أو عطف على نرد أو حال من الضمير فيه فيكون في حكم التمني، وقوله: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ راجع إلى ما تضمنه التمني من الوعد، ونصبهما حمزة ويعقوب وحفص على الجواب بإضمار أن بعد الواو إجراء لها مجرى الفاء. وقرأ ابن عامر برفع الأول على العطف ونصب الثاني على الجواب.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]

بَلْ بَدا لَهُمْ مَّا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)
بَلْ بَدا لَهُمْ مَّا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ الإِضراب عن إرادة الإِيمان المفهومة من التمني، والمعنى أنه ظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم، أو قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجراً لا عزماً على أنهم لو ردوا لآمنوا.
وَلَوْ رُدُّوا أي إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور. لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر والمعاصي. وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا به من أنفسهم.
وَقالُوا عطف على لعادوا، أو على إنهم لكاذبون أو على نهوا، أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا.
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا الضمير للحياة وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٣١)
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ مجاز عن الحبس للسؤال والتوبيخ، وقيل معناه وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، أو عرفوه حق التعريف. قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ كأنه جواب قائل قال: ماذا قال ربهم حينئذ؟
والهمزة للتقريع على التكذيب، والإِشارة إلى البعث وما يتبعه من الثواب والعقاب. قالُوا بَلى وَرَبِّنا إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء. قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم أو ببدله.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ إذ فاتهم النعيم واستوجبوا العذاب المقيم ولقاء الله البعث وما يتبعه.
حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ غاية لكذبوا لا لخسر، لأن خسرانهم لا غاية له. بَغْتَةً فجأة ونصبها على الحال، أو المصدر فإنها نوع من المجيء. قالُوا يَا حَسْرَتَنا أي تعالي فهذا أوانك. عَلى مَا فَرَّطْنا قصرنا فِيها في الحياة الدنيا أضمرت وإن لم يجر ذكرها للعلم بها، أو في الساعة يعني في شأنها والإِيمان بها.
وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تمثيل لاستحقاقهم آصار الآثام. أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ بئس شيئا يزرونه وزرهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٢]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي وما أعمالها إلا لعب ولهو يلهي الناس ويشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية. وهو جواب لقولهم إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها، وقوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة». أَفَلا يَعْقِلُونَ أي الأمرين خير. وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ويعقوب بالتاء على خطاب المخاطبين به، أو تغليب الحاضرين على الغائبين.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٣]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ معنى قد زيادة الفعل وكثرته كما في قوله:
وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ والهاء في أنه للشأن. وقرئ «لَيَحْزُنُكَ» من أحزن. فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ في الحقيقة. وقرأ نافع
والكسائي لاَ يُكَذِّبُونَكَ من أكذبه إذا وجده كاذباً، أو نسبه إلى الكذب. وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها، فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم، والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب.
روي أن أبا جهل كان يقول: ما نكذبك وإنك عندنا لصادق وإنما نكذب ما جئتنا به. فنزلت.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيه دليل على أن قوله: لاَ يُكَذِّبُونَكَ، ليس لنفي تكذيبه مطلقاً. فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا على تكذيبهم وإيذائهم فتأس بهم واصبر. حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا فيه إيماء بوعد النصر للصابرين. وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لمواعيده من قوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ الآيات. وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي بعض قصصهم وما كابدوا من قومهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٥]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ عظم وشق إِعْراضُهُمْ عنك وعن الإِيمان بما جئت به. فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ منفذاً تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية، أو مصعداً تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية، وفي الأرض صفة لنفقاً وفي السماء صفة لسلما، ويجوز أن يكونا متعلقين بتبتغي، أو حالين من المستكن وجواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل، والجملة جواب الأول والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أي ولو شاء الله جمعهم عَلَى الهدى لوفقهم للإِيمان حتى يؤمنوا ولكن لم تتعلق به مشيئته، فلا تتهالك عليه والمعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بالحرص على ما لا يكون، والجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٧)
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ إنما يجيب الذين يسمعون بفهم وتأمل لقوله: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وهؤلاء كالموتى الذين لا يسمعون. وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فيعلمهم حين لا ينفعهم الإِيمان. ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء.
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي آية بما اقترحوه، أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة لعدم اعتدادهم بها عناداً. قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مما اقترحوه، أو آية تضطرهم إلى الإِيمان كنتق الجبل، أو آية إن جحدوها هلكوا. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن الله قادر على إنزالها، وأن إنزالها يستجلب عليهم البلاء، وأن لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره. وقرأ ابن كثير يُنَزِّلَ بالتخفيف والمعنى واحد.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٨]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ تدب على وجهها. وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ في الهواء، وصفه به قطعاً لمجاز السرعة ونحوها. وقرئ «ولا طائر» بالرفع على المحل. إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ
محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها وآجالها، والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره، ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية. وجمع الأمم للحمل على المعنى. مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يعني اللوح المحفوظ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد. أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً أو مجملاً، ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا المفعول به، فإن فرط لا يتعدى بنفسه وقد عدي بفي إلى الكتاب. وقرئ «مَّا فَرَّطْنَا» بالتخفيف. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعني الأمم كلها فينصف بعضها من بعض كما
روي: أنه يأخذ للجماء من القرناء.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حشرها موتها.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظم قدرته سماعاً تتأثر به نفوسهم. وَبُكْمٌ لا ينطقون بالحق. فِي الظُّلُماتِ خبر ثالث أي خابطون في ظلمات الكفر، أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد، ويجوز أن يكون حالاً من المستكن في الخبر. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ من يشأ الله إضلاله يضلله، وهو دليل واضح لنا على المعتزلة. وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ استفهام تعجيب، والكاف حرف خطاب أكد به الضمير للتأكيد لا محل له من الإِعراب لأنك تقول: أرأيتك زيداً ما شأنه فلو جعلت الكاف مفعولاً كما قاله الكوفيون لعديت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل، وللزم في الآية أن يقال: أرأيتموكم بل الفعل معلق أو المفعول محذوف تقديره: أرأيتكم آلهتكم تنفعكم. إذ تدعونها. وقرأ نافع أرأيتكم وأ رأيت وأرأيتم وأ فرأيتم وأ فرأيت وشبهها إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة التي بعد الراء، والكسائي يحذفها أصلاً والباقون يحققونها وحمزة إذا وقف وافق نافعاً. إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ كما أتى من قبلكم. أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ وهو لها ويدل عليه. أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وهو تبكيت لهم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن الأصنام آلهة وجوابه محذوف أي فادعوه.
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ بل تخصونه بالدعاء كما حكي عنهم في مواضع، وتقديم المفعول لإِفادة التخصيص.
فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي ما تدعونه إلى كشفه. إِنْ شاءَ أي يتفضل عليكم ولا يشاء في الآخرة.
وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف الضر دون غيره، أو وتنسونه من شدة الأمر وهوله.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ أي قَبْلَكَ، وَمن زائدة. فَأَخَذْناهُمْ أي فكفروا وكذبوا المرسلين
فأخذناهم. بِالْبَأْساءِ بالشدة والفقر. وَالضَّرَّاءِ والضر والآفات وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما. لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يتذللون لنا ويتوبون عن ذنوبهم.
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه نفي تضرعهم في ذلك الوقت مع قيام ما يدعوهم أي لم يتضرعوا. وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ استدراك على المعنى وبيان للصارف لهم عن التضرع وأنه: لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ من البأساء والضراء ولم يتعظوا به. فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من أنواع النعم مراوحة عليهم بين نوبتي الضراء والسراء، وامتحاناً لهم بالشدة والرخاء إلزاماً للحجة وإزاحة للعلة، أو مكراً بهم لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «مكر بالقوم ورب الكعبة»
. وقرأ ابن عامر «فَتَحْنَا» بالتشديد في جميع القرآن ووافقه يعقوب فيما عدا هذا والذي في «الأعراف». حَتَّى إِذا فَرِحُوا أعجبوا بِما أُوتُوا من النعم ولم يزيدوا غير البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه سبحانه وتعالى. أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ متحسرون آيسون.
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي آخرهم بحيث لم يبق منهم أحد من دبره دبراً ودبوراً إذا تبعه.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم فإن هلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ أصمكم وأعماكم. وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بذلك، أو بما أخذ وختم عليه أو بأحد هذه المذكورات. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين. ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ يعرضون عنها، وثم لاستبعاد الإِعراض بعد تصريف الآيات وظهورها.
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً من غير مقدمة. أَوْ جَهْرَةً بتقدمة أمارة تؤذن بحلوله. وقيل ليلاً أو نهارا. وقرئ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً. هَلْ يُهْلَكُ أي ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب. إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ولذلك صح الاستثناء المفرغ منه، وقرئ «يهلك» بفتح الياء.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ المؤمنين بالجنة. وَمُنْذِرِينَ الكافرين بالنار، ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم. فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات الثواب.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ جعل العذاب ماساً لهم كأنه الطالب للوصول إليهم، واستغنى بتعريفه عن التوصيف. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
قُلْ لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)
قُلْ لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ مقدوراته أو خزائن رزقه. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ما لم يوح إلي ولم ينصب عليه دليل وهو من جملة المقول. وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ أي من جنس الملائكة، أو أقدر على ما يقدرون عليه. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ تبرأ عن دعوى الألوهية والملكية، وادعى النبوة التي هي من كمالات البشر رداً لاستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدعاه. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ مثل للضال والمهتدي، أو الجاهل والعالم، أو مدعي المستحيل كالألوهية والملكية ومدعي المستقيم كالنبوة.
أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فتهتدوا أو فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل، أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه.
وَأَنْذِرْ بِهِ الضمير لما يوحى إلي. الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ هم المؤمنون المفرطون في العمل، أو المجوزون للحشر مؤمناً كان أو كافراً مقراً به أو متردداً فيه، فإن الإنذار ينجع فيهم دون الفارغين الجازمين باستحالته. لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ في موضع الحال من يحشروا فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يتقوا.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٢]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ بعد ما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش.
روي أنهم قالوا: لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين كعمار وصهيب وخباب وسلمان. جلسنا إليك وحادثناك فقال: «ما أنا بطارد المؤمنين»، قالوا: فأقمهم عنا إذا جئناك قال «نعم».
وروي أن عمر رضي الله عنه قال له: لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه ليكتب فنزلت.
والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام، وقيل صلاتا الصبح والعصر.
وقرأ ابن عامر بالغدوة هنا وفي الكهف. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حال من يدعون، أي يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإِخلاص تنبيهاً على أنه ملاك الأمر. ورتب النهي عليه إشعاراً بأنه يقتضي إكرامهم وينافي إبعادهم. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي ليس عليك حساب إيمانهم فلعل إيمانهم عند الله أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعاً في إيمانهم لو آمنوا، أو ليس عليك اعتبار بواطنهم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعداهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم. وقيل ما عليك من حساب رزقهم أي من فقرهم. وقيل الضمير للمشركين والمعنى: لا تؤاخذ بحسابهم ولا هم بحسابك حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعاً فيه. فَتَطْرُدَهُمْ فتبعدهم وهو جواب النفي فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب النهي ويجوز عطفه على فتطردهم على وجه التسبب وفيه نظر.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٣]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ومثل ذلك الفتن، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا. فَتَنَّا أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإِيمان. لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أي أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا، ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء. وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم: لَوْ كانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونا إِلَيْهِ. واللام للعاقبة أو للتعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ بمن يقع منه الإِيمان والشكر فيوفقه وبمن لا يقع منه فيخذله.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٤]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الذين يؤمنون هم الذين يدعون ربهم وصفهم بالإِيمان بالقرآن واتباع الحجج بعد ما وصفهم بالمواظبة على العبادة، وأمره بأن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله بعد النهي عن طردهم، إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد، ويعز ولا يذل، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة.
وقيل إن قوماً جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فلم يرد عليهم شيئاً فانصرفوا فنزلت.
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً استئناف بتفسير الرحمة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالفتح على البدل منها. بِجَهالَةٍ في موضع الحال أي من عمل ذنباً جاهلاً بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد، كعمر فيما أشار إليه، أو ملتبساً بفعل الجهالة فإن ارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل السفه والجهل. ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ بعد العمل أو السوء. وَأَصْلَحَ بالتدارك والعزم على أن لا يعود إليه. فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فتحه من فتح الأول غير نافع على إضمار مبتدأ أو خبر أي فأمره أو فله غفرانه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٥]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)
وَكَذلِكَ ومثل ذلك التفصيل الواضح. نُفَصِّلُ الْآياتِ أي آيات القرآن في صفة المطيعين والمجرمين المصرين منهم والأوابين. وليستبين سَبِيلُ المجرمين قرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على معنى ولتستوضح يا محمد سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يحق له فصلنا هذا التفصيل، وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم برفعه على معنى ولنبين سبيلهم، والباقون بالياء والرفع على تذكير السبيل فإنه يذكر ويؤنث، ويجوز أن يعطف على علة مقدرة أي نفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٦]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ صرفت وزجرت بما نصب لي من الأدلة وأنزل علي من الآيات في أمر التوحيد. أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عن عبادة ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله، أو ما تدعونها آلهة أي تسمونها. قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ تأكيد لقطع أطماعهم وإشارة إلى الموجب للنهي وعلة الامتناع عن متابعتهم واستجهال لهم، وبيان لمبدأ ضلالهم وأن ما هم عليه هوى وليس بهدى، وتنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد. قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت. وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم، وفيه تعريض بأنهم كذلك.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]

قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ تنبيه على ما يجب اتباعه بعد ما بين ما لا يجوز اتباعه. والبينة الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل وقيل المراد بها القرآن والوحي، أو الحجج العقلية أو ما يعمها. مِنْ رَبِّي من معرفته وأنه لا معبود سواه، ويجوز أن يكون صفة لبينة. وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير لربي أي كذبتم به حيث أشركتم به غيره، أو للبينة باعتبار المعنى. مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم:
فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ في تعجيل العذاب وتأخيره.
يَقْضِي بِالْحَقِّ أي القضاء الحق، أو يصنع الحق ويدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعها، فيما يقضي من تعجيل وتأخير وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر، وأصل الحكم المنع فكأنه منع الباطل. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم يَقُصُّ من قص الأثر، أو من قص الخبر. وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ القاضين.
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي في قدرتي ومكنتي. مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب. لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي، وانقطع ما بيني وبينكم. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ في معنى الاستدراك كأنه قال: ولكن الأمر إلى الله سبحانه وتعالى وهو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن ينبغي أن يمهل منهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٩]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ خزائنه جمع مفتح بفتح الميم، وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتح الذي هو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح، ويؤيده أنه قرئ «مفاتيح» والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها. لاَ يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته، وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها. وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عطف للأخبار عن تعلق علمه تعالى بالمشاهدات على الإِخبار عن اختصاص العلم بالمغيبات به. وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات. وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ معطوفات على ورقة وقوله: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين علم الله سبحانه وتعالى، أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح وقرئت بالرفع للعطف على محل ورقة أو رفعاً على الابتداء والخبر إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٠]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ينيمكم فيه ويراقبكم، استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهم من المشاركة في زوال الإِحساس والتمييز فإن أصله قبض الشيء بتمامه. وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ كسبتم فيه خص الليل بالنوم والنهار بالكسب جرياً على المعتاد. ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ يوقظكم أطلق البعث ترشيحاً للتوفي فِيهِ في النهار. لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ بالموت. ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمجازاة عليه. وقيل الآية خطاب للكفرة، والمعنى أنكم ملقون كالجيف بالليل وكاسبون للآثام بالنهار، وأنه سبحانه وتعالى مطلع على أعمالكم يبعثكم من القبور في شأن
ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار، ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم، ثم إليه مرجعكم بالحساب، ثم ينبئكم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ بالجزاء.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ملائكة تحفظ أعملكم، وهم الكرام الكاتبون، والحكمة فيه أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان أزجر عن المعاصي، وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه. حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ملك الموت وأعوانه. وقرأ حمزة «توفاه» بالألف ممالة. وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ بالتواني والتأخير. وقرئ بالتخفيف، والمعنى: لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان.
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى حكمه وجزائه. مَوْلاهُمُ الذي يتولى أمرهم. الْحَقِّ العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وقرئ بالنصب على المدح. أَلا لَهُ الْحُكْمُ يومئذ لا حكم لغيره فيه. وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة لا يشغله حساب عن حساب.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ من شدائدهما، استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما في الهول وإبطال الإِبصار فقيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب، أو من الخسف في البر والغرق في البحر.
وقرأ يعقوب يُنَجِّيكُمْ بالتخفيف والمعنى واحد. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً معلنين ومسرين، أو إعلاناً وإسراراً وقرأ أبو بكر هنا وفي «الأعراف» وَخُفْيَةً بالكسر وقرئ «خِيفَةً». لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ على إرادة القول أي تقولون لئن أنجيتنا. وقرأ الكوفيون «لئن أنجانا» ليوافق قوله تَدْعُونَهُ وهذه إشارة إلى الظلمة.
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها شدده الكوفيون وهشام وخففه الباقون. وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ غم سواها. ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ تعودون إلى الشرك ولا توفون بالعهد، وإنما وضع تشركون موضع لا تشكرون تنبيهاً على أن من أشرك في عبادة الله سبحانه وتعالى فكأنه لم يعبده رأساً.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦)
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل. أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون، وخسف بقارون. وقيل من فوقكم أكابركم وحكامكم ومن تحت أرجلكم سفلتكم وعبيدكم. أَوْ يَلْبِسَكُمْ يخلطكم. شِيَعاً فرقا متحزبين على أهواء شتى، فينشب القتال بينكم قال:
وَكَتِيبَهٌ لَبسْتُهَا بِكَتِيبَة حَتَّى إِذَا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدَي
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ يقاتل بعضكم بعضاً. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ بالوعد والوعيد.
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ أي بالعذاب أو بالقرآن. وَهُوَ الْحَقُّ الواقع لا محالة أو الصدق. قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ وكل إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب، أو أجازيكم إنما أنا منذر والله الحفيظ.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)
لِكُلِّ نَبَإٍ خبر يريد به إما بالعذاب أو الإِيعاد به. مُسْتَقَرٌّ وقت استقرار ووقوع. وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عند وقوعه في الدنيا والآخرة.
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فلا تجالسهم وقم عنهم. حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي. وقرأ ابن عامر يُنْسِيَنَّكَ بالتشديد. فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى بعد أن تذكره. مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم، فوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٩]
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ وما يلزم المتقين من قبائح أعمالهم وأقوالهم الذين يجالسونهم. مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ شيء مما يحاسبون عليه. وَلكِنْ ذِكْرى ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها وهو يحتمل النصب على المصدر والرفع على ولكن عليهم ذكرى، ولا يجوز عطفه على محل من شيء لأن من حسابهم يأباه ولا على شيء لذلك ولأن من لا تزاد في الإِثبات.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يجتنبون ذلك حياء أو كراهة لمساءتهم، ويحتمل أن يكون الضمير للذين يتقون والمعنى:
لعلهم يثبتون على تقواهم ولا تنثلم بمجالستهم.
روي: أن المسلمين قالوا لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، ونطوف، فنزلت.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٠]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أي بنوا أمر دينهم على التشهي وتدينوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلاً وآجلاً، كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب، أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه لعباً ولهواً حيث سخروا به، أو جعلوا عيدهم الذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو ولعب. والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم، ويجوز أن يكون تهديداً لهم كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ومن جعله منسوخاً بآية السيف حمله على الأمر بالكف عنها وترك التعرض لهم وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا حتى أنكروا البعث.
وَذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن. أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ مخافة أن تسلم إلى الهلاك وترهن بسوء عملها. وأصل الأبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أي حرام. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ يدفع عنها العذاب. وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأنها تعادل المفدي وها هنا الفداء وكل نصب على المصدرية. لاَّ يُؤْخَذْ مِنْها الفعل مسند إلى منها لا إلى ضميره بخلاف قوله: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فإنه المفدى به. أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما
كَسَبُوا
أي سلموا إلى العذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة. لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ تأكيد وتفصيل لذلك، والمعنى هم بين ماء مغلي يتجرجر في بطونهم ونار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧١]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١)
قُلْ أَنَدْعُوا أنعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا ما لا يقدر على نفعنا وضرنا. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا ونرجع إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ فأنقذنا منه ورزقنا الإِسلام. كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة، استفعال من هوى يهوي هويًا إذا ذهب. وقرأ حمزة «استهواه» بألف ممالة ومحل الكاف النصب على الحال من فاعل نُرَدُّ أي: مشبهين الذي استهوته، أو على المصدر أي رداً مثل رد الذي استهوته. فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ متحيراً ضالاً عن الطريق. لَهُ أَصْحابٌ لهذا المستهوى رفقة.
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى إلى أن يهدوه الطريق المستقيم، أو إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر. ائْتِنا يقولون له ائتنا. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام. هُوَ الْهُدى وحده وما عداه ضلال. وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ من جملة المقول عطف على أن هدى الله، واللام لتعليل الأمر أي أمرنا بذلك لنسلم. وقيل هي بمعنى الباء وقيل هي زائدة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٢]
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ عطف على لنسلم أي للإسلام ولإقامة الصلاة، أو على موقعه كأنه قيل:
وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا الصلاة. روي: أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان، فنزلت.
وعلى هذا كان أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بهذا القول إجابة عن الصديق رضي الله تعالى عنه تعظيماً لشأنه وإظهاراً للاتحاد الذي كان بينهما. وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يوم القيامة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٣]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ قائماً بالحق والحكمة. وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ جملة اسمية قدم فيها الخبر أي قوله الحق يوم يقول، كقولك: القتال يوم الجمعة، والمعنى أنه الخالق للسموات والأرضين، وقوله الحق نافذ في الكائنات. وقيل يوم منصوب بالعطف على السموات أو الهاء في واتقوه، أو بمحذوف دل عليه بالحق. وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون، والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين تقوم القيامة فيكون التكوين حشر الأموات وإحياءها. وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ كقوله سبحانه وتعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي هو عالم الغيب. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ كالفذلكة للآية.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ هو عطف بيان لأبيه، وفي كتب التواريخ أن اسمه تارح فقيل هما علمان له كإسرائيل ويعقوب، وقيل العلم تارح وآزر وصف معناه الشيخ أو المعوج، ولعل منع صرفه لأنه أعجمي حمل على موازنه أو نعت مشتق من الآزر أو الوزر، والأقرب أنه علم أعجمي على فاعل كعابر وشالخ، وقيل اسم صنم يعبده فلقب به للزوم عبادته، أو أطلق عليه بحذف المضاف. وقيل المراد به الصنم ونصبه بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أتعبد آزر ثم قال: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً تفسيراً وتقريراً. ويدل عليه أنه قرئ «أزراً»، تتخذ أصناماً بفتح همزة آزر وكسرها وهو اسم صنم. وقرأ يعقوب بالضم على النداء وهو يدل على أنه علم. إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ عن الحق. مُبِينٍ ظاهر الضلالة.
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ومثل هذا التبصير نبصره، وهو حكاية حال ماضية. وقرئ: «ترى» بالتاء ورفع الملكوت ومعناه تبصره دلائل الربوبية. مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ربوبيتها وملكها. وقيل عجائبها وبدائعها والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة. وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي ليستدل وليكون، أو وفعلنا ذلك ليكون.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي تفصيل وبيان لذلك. وقيل عطف على قال إبراهيم وكذلك نري اعتراض فإن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال، وجن عليه الليل ستره بظلامه والكواكب كان الزهرة أو المشتري وقوله: هذا رَبِّي على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإِفساد، أو على وجه النظر والاستدلال، وإنما قاله زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه. فَلَمَّا أَفَلَ أي غاب. قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فضلاً عن عبادتهم فإن الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية.
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً مبتدئاً في الطلوع. قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ استعجز نفسه واستعان بربه في درك الحق، فإنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه إرشاداً لقومه وتنبيهاً لهم على أن القمر أيضاً لتغير حاله لا يصلح للألوهية، وأن من اتخذه إلهاً فهو ضال.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن شبهة التأنيث.
هذا أَكْبَرُ كبره استدلالاً أو إظهاراً لشبهة الخصم. فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها ومخصص يخصصها بما تختص به، ثم لما تبرأ منها توجه إلى موجدها ومبدعها الذي دلت هذه الممكنات عليه فقال:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وإنما احتج بالأفوال دون البزوغ مع أنه أيضاً انتقال لتعدد دلالته، ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١)
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ وخاصموه في التوحيد. قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ في وحدانيته سبحانه وتعالى. وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام بتخفيف النون. وَقَدْ هَدانِ إلى توحيده. وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ أي لا أخاف معبوداتكم في وقت لأنها لا تضر بنفسها ولا تنفع. إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً أن يصيبني بمكروه من جهتها، ولعله جواب لتخويفهم إياه من آلهتهم وتهديد لهم بعذاب الله. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً كأنه علة الاستثناء، أي أحاط به علماً فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز.
وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ولا يتعلق به ضر. وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وهو حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع بالصانع، وتسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضار النافع. مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ما لم ينزل بإشراكه كتاباً، أو لم ينصب عليه دليلاً. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي الموحدون أو المشركون، وإنما لم يقل أينا أنا أم أنتم احترازاً من تزكية نفسه. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما يحق أن يخاف منه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٢]
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ استئناف منه أو من الله بالجواب عما استفهم عنه، والمراد بالظلم ها هنا الشرك لما
روي أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا:
أينا لم يظلم نفسه فقال عليه الصلاة والسلام «ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان لابنه
يا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»
وليس الإِيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم ويخلط بهذا التصديق الإِشراك به.
وقيل المعصية.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٣]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
وَتِلْكَ إشارة إلى ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى قوله: وَهُمْ مُهْتَدُونَ أو من قوله: أَتُحاجُّونِّي إليه. حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها أو علمناه إياها. عَلى قَوْمِهِ متعلق ب حُجَّتُنا إن جعل خبر تلك وبمحذوف إن جعل بدله أي: آتيناها إبراهيم حجة على قومه.
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ في العلم والحكمة. وقرأ الكوفيون ويعقوب بالتنوين. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في رفعه وخفضه. عَلِيمٌ بحال من يرفعه واستعداده له.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥)
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا أي كلا منهما. وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ من قبل إبراهيم، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد يتعدى إلى الولد. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ الكلام فيه. وقيل لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأن يونس ولوطاً ليسا من ذرية إبراهيم، فلو كان لإبراهيم اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على
نوحا داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق. وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي ونجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثر أولاده والنبوة فيهم.
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى هو ابن مريم وفي ذكره دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت. وَإِلْياسَ قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان مخصوصاً بمن في الآية الأولى. وقيل هو من أسباط هارون أخي موسى. كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح وهو الإِتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧)
وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ هو اليسع بن أخطوب. وقرأ حمزة والكسائي والليسع وعلى القراءتين هو علم أعجمي أدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله:
رَأَيْتُ الوَلِيْدَ بن اليزيد مُبَارَكا شَدِيداً بِأَعْبَاءِ الخِلاَفَةِ كَاهِلُهُ
وَيُونُسَ هو يونس بن متى. وَلُوطاً هو ابن هاران أخي إبراهيم. وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ بالنبوة، وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق.
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ عطف على كُلًّا أو نُوحاً أي فضلنا كلاً منهم، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فإن منهم من لم يكن نبياً ولا مهدياً. وَاجْتَبَيْناهُمْ عطف على فَضَّلْنا أو هَدَيْنا وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تكرير لبيان ما هدوا إليه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩)
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ إشارة إلى ما دانوا به. يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ دليل على أنه متفضل عليهم بالهداية. وَلَوْ أَشْرَكُوا أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع فضلهم وعلو شأنهم. لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد به الجنس. وَالْحُكْمَ الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق. وَالنُّبُوَّةَ والرسالة. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بهذه الثلاثة. هؤُلاءِ يعني قريشاً. فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي بمراعاتها. قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون ومتابعوهم. وقيل هم الأنصار أو أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو كل من آمن به أو الفرس. وقيل الملائكة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٠]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يريد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المتقدم ذكرهم. فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فاختص طريقهم بالاقتداء والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها، فإنها ليست هدى مضافاً إلى الكل ولا يمكن التأسي بهم جميعاً. فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله، والهاء في اقْتَدِهْ للوقف ومن أثبتها في الدرج ساكنة كابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم أجرى الوصل مجرى الوقف، ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة والكسائي وأشبعها بالكسر ابن
عامر برواية ابن ذكوان على أنها كناية المصدر وكسرها بغير إشباع برواية هشام. قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ أو القرآن. أَجْراً جعلاً من جهتكم كما لم يسأل من قبلي من النبيين، وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه. إِنْ هُوَ أي التبليغ أو القرآن أو الغرض. إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ إلا تذكيراً وموعظة لهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩١]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وما عرفوه حق معرفته في الرحمة والإِنعام على العباد. إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ حين أنكروا الوحي وبعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وذلك من عظائم رحمته وجلائل نعمته أو في السخط على الكفار وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة، والقائلون هم اليهود قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن بدليل نقض كلامهم، وإلزامهم بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ وقراءة الجمهور تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً بالتاء وإنما قرأ بالياء ابن كثير وأبو عمرو حملاً على قالوا وما قدروا، وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة وذمهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرقة وإخفاء بعض لا يشتهونه.
وروي (أن مالك بن الصيف قاله لما أغضبه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين قال: نعم إن الله يبغض الحبر السمين، قال عليه الصلاة والسلام: فأنت الحبر السمين)
وقيل هم المشركون وإلزامهم بإنزال التوراة لأنه كان من المشهورات الذائعة عندهم ولذلك كانوا يقولون لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ وَعُلِّمْتُمْ على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم. مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ زيادة على ما في التوراة وبياناً لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم ونظيره إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وقيل الخطاب لمن آمن من قريش قُلِ اللَّهُ أي أنزله الله، أو الله أنزله. أمره بأن يجيب عنهم إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيهاً على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ في أباطيلهم فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة. يَلْعَبُونَ حال من هم الأول، والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال من مفعوله، أو فاعل يلعبون أو من هم الثاني والظرف متصل بالأول.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٢]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ كثير الفائدة والنفع. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني التوراة أو الكتب التي قبله. وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى عطف على ما دل عليه مبارك أي للبركات ولتنذر أو علة لمحذوف أي ولتنذر أهل أم القرى أنزلناه، وإنما سميت مكة بذلك لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأناً.
وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها، أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس. وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء أي ولينذر الكتاب. وَمَنْ حَوْلَها أهل الشرق والغرب. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبي والكتاب، والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعة وتخصيص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإِيمان.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٣]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم أنه بعثه نبياً كمسيلمة والأسود العنسي، أو اختلق عليه أحكاماً كعمرو بن لحي ومتابعيه. أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كعبد الله بن سعد بن أبي سرح (كان يكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ فلما بلغ قوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ
قال عبد الله (فتبارك الله أحسن الخالقين) تعجباً من تفصيل خلق الإِنسان فقال عليه الصلاة والسلام: اكتبها فكذلك نزلت، فشك عبد الله وقال لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال).
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كالذين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ حذف مفعوله لدلالة الظرف عليه أي ولو ترى الظالمين. فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ شَدَائده من غمره الماء إذا غشيه. وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ يقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ أو بالعذاب. أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أي يقولون لهم أخرجوها إلينا من أجسادكم تغليظاً وتعنيفاً عليهم، أو أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا. الْيَوْمَ يريدون وقت الإِماتة، أو الوقت الممتد من الإِماتة إلى ما لا نهاية له.
تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي الهوان يريدون العذاب المتضمن لشدة وإهانة، فإضافته إلى الهون لعراقته وتمكنه فيه. بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ كادعاء الولد والشريك له ودعوى النبوة والوحي كاذبا. وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٤]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا للحساب والجزاء. فُرادى منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا، أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم، وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى. وقرئ «فراد» كرخال و «فراد» كثلاث و «فردي» كسكرى. كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدل منه أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها، أو حال من الضمير في فُرادى أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلاً بهما، أو صفة مصدر جِئْتُمُونا أي مجيئنا كما خلقناكم. وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْناكُمْ ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة. وَراءَ ظُهُورِكُمْ ما قدمتم منه شيئاً ولم تحتملوا نقيراً.
وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي شركاء لله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم.
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أي تقطع وصلكم وتشتت جمعكم، والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل. وقيل هو الظرف أسند إليه الفعل اتساعاً والمعنى: وقع التقطع بينكم، ويشهد له قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه، أو أقيم مقام موصوفة وأصله لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به. وَضَلَّ عَنْكُمْ ضاع وبطل. مَّا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٥]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى بالنبات والشجر. وقيل المراد به الشقاق الذي في الحنطة والنواة. يُخْرِجُ الْحَيَّ يريد به ما ينمو من الحيوان والنبات ليطابق ما قبله. مِنَ الْمَيِّتِ
مما لا ينمو كالنطف والحب.
وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ومخرج ذلك من الحيوان والنبات، ذكره بلفظ الاسم حملاً على فالق الحب فإن
قوله: يخرج الحي واقع موقع البيان له. ذلِكُمُ اللَّهُ أي ذلكم المحيي المميت هو الذي يحق له العبادة.
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عنه إلى غيره.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٦]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)
فالِقُ الْإِصْباحِ شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل أو عن بياض النهار، أو شاق ظلمة الإِصباح وهو الغبش الذي يليه والإِصباح في الأصل مصدر أصبح إذا دخل في الصباح سمي به الصبح. وقرئ بفتح الهمزة على الجمع وقرئ «فَالِقُ الإصباح» بالنصب على المدح. وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئناساً به، أو يسكن فيه الخلق من قوله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ ونصبه بفعل دل عليه جاعل لا به، فإن في معنى الماضي. ويدل عليه قراءة الكوفيين وَجَعَلَ اللَّيْلَ حملاً على معنى المعطوف عليه، فإن فالق بمعنى فلق ولذلك قرئ به، أو به على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة وعلى هذا يجوز أن يكون وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عطفاً على محل الليل ويشهد له قراءتهما بالجر والأحسن نصبهما بجعل مقدرا. وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان. حُسْباناً أي على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات ويكونان علمي الحسبان، وهو مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب. وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان. ذلِكَ إشارة إلى جعلهما حسباناً أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم. تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص. الْعَلِيمِ بتدبيرهما والأنفع من التداوير الممكنة لهما.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ خلقها لكم. لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ في ظلمات الليل في البر والبحر، وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة، وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعد ما أجملها بقوله لكم. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ بيناها فصلاً فصلاً. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنهم المنتفعون به.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم عليه الصلاة والسلام. فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أي فلكم استقرار في الأصلاب، أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام، أو تحت الأرض أو موضع استقرار واستيداع، وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر القاف على أنه اسم فاعل، والمستودع اسم مفعول أي فمنكم قار ومنكم مستودع، لأن الاستقرار منا دون الاستيداع. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأن أمرها ظاهر، ومع ذكر تخليق بني آدم يفقهون لأن إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٩]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء من السحاب أو من جانب السماء. فَأَخْرَجْنا على تلوين الخطاب.
بِهِ بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ نبت كل صنف من النبات والمعنى: إظهار القدرة في إنبات الأنواع المختلفة المفننة بماء واحد كما في قوله سبحانه وتعالى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ.
فَأَخْرَجْنا مِنْهُ من النبات أو الماء. خَضِراً شيئاً أخضر يقال أخضر كأعور وعور، وهو الخارج من الحبة المتشعب. نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر. حَبًّا مُتَراكِباً وهو السنبل. وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ أي وأخرجنا من النخل نخلاً من طلعها قنوان، أو من النخل شيء من طلعها قنوان، ويجوز أن يكون من النخل خبر قنوان ومن طلعها بدل منه والمعنى: وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو الأعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو. وقرئ بضم القاف كذئب وذؤبان وبفتحها على أنه اسم جمع إذ ليس فعلان من أبنية الجمع. دانِيَةٌ قريبة من المتناول، أو ملتفة قريب بعضها من بعض، وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ عطف على نبات كل شيء. وقرأ نافع بالرفع على الإِبتداء أي ولكم أو ثم جنات أو من الكرم جنات، ولا يجوز عطفه على قِنْوانٌ إذ العنب لا يخرج من النخل. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ أيضاً عطف على نبات أو نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم. مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ حال من الرمان، أو من الجميع أي بعض ذلك متشابه وبعضه غير متشابه في الهيئة والقدر واللون والطعم. انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ أي ثمر كل واحد من ذلك. وقرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم، وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب، أو ثمار ككتاب وكتب. إِذا أَثْمَرَ إذا أخرج ثمره كيف يثمر ضئيلاً لا يكاد ينتفع به.
وَيَنْعِهِ وإلى حال نضجه أو إلى نضيجة كيف يعود ضخماً ذا نفع ولذة، وهو في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت. وقيل جمع يانع كتاجر وتجر. وقرئ بالضم وهو لغة فيه ويانعه. إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي لآيات دالة على وجود القادر الحكيم وتوحيده، فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها، ويرجح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه أو ضد يعانده، ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ أي الملائكة بأن عبدوهم وقالوا: الملائكة بنات الله. وسماهم جناً لاجتنانهم تحقيراً لشأنهم، أو الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى، أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم، أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع، والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي الثنوية.
ومفعولا جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ والجن بدل من شُرَكاءَ أو شُرَكاءَ الجن ولِلَّهِ متعلق ب شُرَكاءَ، أو حال منه وقرئ الْجِنَّ بالرفع كأنه قيل: من هم فقيل الجن، والْجِنَّ بالجر على الإِضافة للتبيين. وَخَلَقَهُمْ حال بتقدير قد، والمعنى وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن وليس من يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ. وقرئ وَخَلَقَهُمْ عطفاً على الْجِنَّ أي وما يخلقونه من الأصنام، أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم للإِفك حيث نسبوه إليه. وَخَرَقُوا لَهُ افتعلوا وافتروا له. وقرأ نافع بتشديد الراء للتكثير. وقرئ «وحرفوا» أي وزوروا. بَنِينَ وَبَناتٍ فقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقالت العرب الملائكة بنات الله. بِغَيْرِ عِلْمٍ من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ويروا عليه دليلاً، وهو في موضع الحال من الواو، أو المصدر أي خرقاً بغير علم. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ وهو أن له شريكاً أو ولدا.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠١]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، أو إلى الظرف كقولهم: ثبت الغدر بمعنى أنه عديم النظير فيهما، وقيل معناه المبدع وقد سبق الكلام فيه، ورفعه على الخبر والمبتدأ محذوف أو على الابتداء وخبره. أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ أي من أين أو كيف يكون له ولد. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يكون منها الولد. وقرئ بالياء للفصل أو لأن الاسم ضمير الله أو ضمير الشأن. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا تخفى عليه خافية، وإنما لم يقل به لتطرق التخصيص إلى الأول، وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه: (الأول) أنه من مبدعاته السموات والأرضون، وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها فهو أولى بأن يتعالى عنها، أو أن ولد الشيء نظيره ولا نظير له فلا ولد.
(والثاني) أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين والله سبحانه وتعالى منزه عن المجانسة.
(والثالث) أن الولد كفؤ الوالد ولا كفؤ له لوجهين: الأول أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه. والثاني أنه سبحانه وتعالى لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٣]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
ذلِكُمُ إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ. اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض بدلاً أو صفة والبعض خبراً. فَاعْبُدُوهُ حكم مسبب عن مضمونها فإن من استجمع هذه الصفات استحق العبادة. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي وهو مع تلك الصفات متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم ورقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها.
لاَّ تُدْرِكُهُ أي لا تحيط به. الْأَبْصارُ جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها واستدل به المعتزلة على امتناع الرؤية وهو ضعيف، إذ ليس الإِدراك مطلق الرؤية ولا النفي في الآية عاماً في الأوقات فلعله مخصوص ببعض الحالات ولا في الأشخاص، فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه مع أن النفي لا يوجب الامتناع. وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يحيط علمه بها. وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فيدرك ما لا تدركه الأبصار كالأبصار، ويجوز أن يكون من باب اللف أي لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير، فيكون اللطيف مستعاراً من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصائر جمع بصيرة وهي للنفس كالبصر للبدن، سميت بها الدلالة لأنها تجلي لها الحق وتبصرها به. فَمَنْ أَبْصَرَ أي أبصر الحق وآمن به. فَلِنَفْسِهِ أبصر لأن نفسه لها. وَمَنْ عَمِيَ عن الحق وضل. فَعَلَيْها وباله. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وإنما أنا منذر والله سبحانه وتعالى هو الحفيظ عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها، وهذا كلام ورد على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام.
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ومثل ذلك التصريف نصرف، وهو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف، وهو نقل الشيء من حال إلى حال. وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ أي وليقولوا درست صرفنا واللام لام العاقبة، والدرس القراءة والتعليم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم، وابن عامر ويعقوب درست من الدروس أي قدمت هذه الآيات وعفت كقولهم أساطير الأولين. وقرئ «دَرُسْتَ» بضم الراء مبالغة في درست ودرست على البناء للمفعول بمعنى قرئت، أو عفيت ودارست بمعنى درست أو دارست اليهود محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وجاز إضمارهم بلا ذكر لشهرتهم بالدراسة، ودرسن أي عفون ودرس
أي درس محمد صلّى الله عليه وسلّم ودراسات أي قديمات أو ذوات درس كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَلِنُبَيِّنَهُ اللام على أصله لأن التبيين مقصود التصريف والضمير للآيات باعتبار المعنى، أو للقرآن وإن لم يذكر لكونه معلوماً أو للمصدر. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنهم المنتفعون به.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بالتدين به. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض أكد به إيجاب الاتباع، أو حال مؤكدة من ربك بمعنى منفرداً في الألوهية. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ولا تحتفل بأقوالهم ولا تلتفت إلى آرائهم، ومن جعله منسوخاً بآية السيف حمل الإِعراض على ما يعم الكف عنهم.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ توحيدهم وعدم إشراكهم. مَا أَشْرَكُوا وهو دليل على أنه سبحانه وتعالى لا يريد إيمان الكافرين وأن مراده واجب الوقوع. وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيباً. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تقوم بأمورهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٨]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح.
فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً تجاوزاً عن الحق إلى الباطل. بِغَيْرِ عِلْمٍ على جهالة بالله سبحانه وتعالى وبما يجب أن يذكر به. وقرأ يعقوب عَدْواً يقال عدا فلان عدواًّ وعدواً وعداءَ وعدواناً.
روي: أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعن في آلهتهم فقالوا لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك، فنزلت.
وقيل كان المسلمون يسبونها فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله سبحانه وتعالى، وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر. كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقاً وتخذيلاً، ويجوز تخصيص العمل بالشر وكل أمة بالكفرة لأن الكلام فيهم، والمشبه به تزيين سب الله لهم. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بالمحاسبة والمجازات عليه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مصدر في موقع الحال، والداعي لهم إلى هذا القسم والتأكيد فيه التحكم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم في طلب الآيات واستحقار ما رأوا منها. لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم. لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء وليس شيء منها بقدرتي وإرادتي. وَما يُشْعِرُكُمْ وما يدريكم استفهام إنكار. أَنَّها أي أن الآية المقترحة. إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا تدرون أنهم لا يؤمنون، أنكر السبب مبالغة في نفي المسبب، وفيه تنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وقيل لا مزيدة وقيل أن بمعنى لعل إذ قرئ لعلها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب إنها بالكسر كأنه قال: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبركم بما علم منهم والخطاب للمؤمنين فإنهم يتمنون مجيء الآية طمعاً في إيمانهم، فنزلت. وقيل للمشركين إذ قرأ ابن عامر وحمزة «لا تؤمنون»
بالتاء وقرئ «وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم» فيكون إنكاراً لهم على حلفهم أي: وما يشعرهم أن قلوبهم حينئذٍ لم تكن مطبوعة كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات فيؤمنون بها.
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ عطف على لا يؤمنون أي: وما يشعركم أنا حينئذ نقلب أفئدتهم عن الحق فلا يفقهونه، وأبصارهم فلا يبصرونه فلا يؤمنون بها. كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بما أنزل من الآيات. أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وندعهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين. وقرئ. «وَيَقَلِّبُ» و «يذرهم» على الغيبة، و «تقلب» على البناء للمفعول والإِسناد إلى الأفئدة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١١]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا كما اقترحوا فقالوا: لولا أنزل علينا الملائكة فأتوا بآياتنا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا وقبلا جمع قبيل بمعنى كفيل أي: كفلاء بما بشروا به وأنذروا به، أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا وهو قراءة نافع وابن عامر، وهو على الوجوه حال من كل وإنما جاز ذلك لعمومه. وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لما سبق عليهم القضاء بالكفر. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء من أعم الأحوال أي: لا يؤمنون في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم، وقيل منقطع وهو حجة واضحة على المعتزلة. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعاً في إيمانهم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أي كما جعلنا لك عدواً جعلنا لكل نبي سبقك عدواً، وهو دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله سبحانه وتعالى وخلقه. شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مردة الفريقين، وهو بدل من عدواً، أو أول مفعولي جَعَلْنا وعَدُوًّا مفعوله الثاني، ولكل متعلق به أو حال منه. يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإِنس، أو بعض الجن إلى بعض، وبعض الإِنس إلى بعض. زُخْرُفَ الْقَوْلِ الأباطيل المموهة منه من زخرفة إذا زينه. غُرُوراً مفعول له أو مصدر في موقع الحال. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ إيمانهم. مَّا فَعَلُوهُ أي ما فعلوا ذلك يعني معاداة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وايحاء الزخارف، ويجوز أن يكون الضمير للايحاء أو الزخرف أو الغرور، وهو أيضاً دليل على المعتزلة. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ وكفرهم.
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عطف على غُرُوراً إن جعل علة، أو متعلق بمحذوف أي وليكون ذلك جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا. والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا: اللام لام العاقبة أو لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون أو لام الأمر وضعفه أظهر، والصغو: الميل والضمير لما له الضمير في فعلوه. وَلِيَرْضَوْهُ لأنفسهم. وَلِيَقْتَرِفُوا وليكتسبوا. مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ من الآثام.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٤]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً على إرادة القول أي: قل لهم يا محمد أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل، و «غير» مفعول أَبْتَغِي وحَكَماً حال منه ويحتمل عكسه، وحَكَماً أبلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العادل. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ القرآن المعجز.
مُفَصَّلًا مبيناً فيه الحق والباطل بحيث ينفي التخليط والالتباس. وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه وتقريره مغنٍ عن سائر الآيات. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ تأييد لدلالة الإِعجاز على أن القرآن حق منزل من عند الله سبحانه وتعالى، يعلم أهل الكتاب به لتصديقه ما عندهم مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يمارس كتبهم ولم يخالط علماءهم، وإنما وصف جميعهم بالعلم لأن أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن منه بأدنى تأمل. وقيل المراد مؤمنون أهل الكتاب. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم مُنَزَّلٌ بالتشديد. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في أنهم يعلمون ذلك، أو في أنه منزل لجحود أكثرهم وكفرهم به، فيكون من باب التهييج كقوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أو خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لخطاب الأمة. وقيل الخطاب لكل أحد على معنى أن الأَدلة لما تعاضدت على صحته فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٥]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده. صِدْقاً في الأخبار والمواعيد.
وَعَدْلًا في الأقضية والأحكام ونصبهما يحتمل التمييز والحال والمفعول له. لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل، أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً كما فعل بالتوراة على أن المراد بها القرآن، فيكون ضماناً لها من الله سبحانه وتعالى بالحفظ كقوله: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أو لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها. وقرأ الكوفيون ويعقوب كَلِمَةُ رَبِّكَ أي ما تكلم به أو القرآن. وَهُوَ السَّمِيعُ لما يقولون. الْعَلِيمُ بما يضمرون فلا يهملهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٦]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي أكثر الناس يريد الكفار، أو الجهال أو أتباع الهوى. وقيل الأرض أرض مكة. يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الطريق الموصل إليه، فإن الضال في غالب الأمر لا يأمر إلا بما فيه ضلال. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق، أو جهالاتهم وآراؤهم الفاسدة فإن الظن يطلق على ما يقابل العلم. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون على الله سبحانه وتعالى فيما ينسبون إليه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه، وتحليل الميتة وتحريم البحائر، أو يقدرون أنهم على شيء وحقيقته ما يقال عن ظن وتخمين.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٧]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي أعلم بالفريقين، ومَنْ موصولة أو موصوفة في محل النصب بفعل دل عليه أعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر في مثل ذلك، أو استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر «يُضِلَّ» والجملة معلق عنها الفعل المقدر. وقرئ «مَن يَضِلُّ» أي يضله الله، فتكون من منصوبة بالفعل المقدر أو مجرورة بإضافة أعلم إليه أي: أعلم المضلين من قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
أو من أضللته إذا وجدته ضالاً، والتفضيل في العلم بكثرته وإحاطته بالوجوه التي يمكن تعلق العلم بها ولزومه وكونه بالذات لا بالغير.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام، والمعنى كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره أو مات حتف أنفه. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فإن الإِيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله سبحانه وتعالى واجتناب ما حرمه.
وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وأي غرض لكم في أن تتحرجوا عن أكله وما يمنعكم عنه.
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مما لم يحرم بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر فَصَّلَ على البناء للمفعول، ونافع ويعقوب وحفص حَرَّمَ على البناء للفاعل. إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ مما حرم عليكم فإنه أيضاً حلال حال الضرورة. وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بتحليل الحرام وتحريم الحلال.
قرأ الكوفيون بضم الياء والباقون بالفتح. بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ بتشبيههم من غير تعلق بدليل يفيد العلم. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ بالمجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٠ الى ١٢١]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ما يعلن وما يسر، أو ما بالجوارح وما بالقلب. وقيل الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان. إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ يكتسبون.
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ظاهر في تحريم متروك التسمية عمداً أو نسياناً، وإليه ذهب داود وعن أحمد مثله، وقال مالك والشافعي بخلافه
لقوله عليه الصلاة والسلام «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه»
وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين العمد والنسيان وأوله بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه لقوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ فإن الفسق ما أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ، والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه ولا تأكلوا. وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ ليوسوسون. إِلى أَوْلِيائِهِمْ من الكفار. لِيُجادِلُوكُمْ بقولهم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله، وهو يؤيد التأويل بالميتة. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال ما حرم. إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ فإن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك، وإنما حسن حذف الفاء فيه لأن الشرط بلفظ الماضي.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٢]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ مثل به من هداه الله سبحانه وتعالى وأنقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء، فيميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل.
وقرأ نافع ويعقوب مَيْتاً على الأصل. كَمَنْ مَثَلُهُ صفته وهو مبتدأ خبره. فِي الظُّلُماتِ وقوله: لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها حال من المستكن في الظرف لا من الهاء في مثله للفصل، وهو مثل لمن بقي على الضلالة لا
يفارقها بحال. كَذلِكَ كما زين للمؤمنين إيمانهم. زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ والآية نزلت في حمزة وأبي جهل وقيل في عمر أو عمار وأبي جهل.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، وجَعَلْنا بمعنى صيرنا ومفعولاه أَكابِرَ مُجْرِمِيها على تقديم المفعول الثاني، أو في كل قرية أَكابِرَ ومُجْرِمِيها بدل ويجوز أن يكون مضافاً إليه إن فسر الجعل بالتمكين، وأفعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد والمطابقة ولذلك قرئ «أكبر مجرميها»، وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم. وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن وباله يحيق بهم. وَما يَشْعُرُونَ ذلك.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٤]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ يعني كفار قريش لما
روي: أن أبا جهل قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحي إليه، والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت
: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ استئناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالاته من علم أنه يصلح لها، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ذل وحقارة بعد كبرهم. عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة وقيل تقديره من عند الله. وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ بسبب مكرهم أو جزاء على مكرهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٥]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان. يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فيتسع له ويفسح فيه مجاله، وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيأة لحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه، وإليه أشار عليه أفضل الصلاة والسلام حين سئل عنه
فقال «نور يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح»
فقالوا: هل لذلك من أمارة يعرف بها فقال: نعم الإِنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله». وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإِيمان. وقرأ ابن كثير ضَيِّقاً بالتخفيف ونافع وأبو بكر عن عاصم حَرَجاً بالكسر أي شديد الضيق، والباقون بالفتح وصفاً بالمصدر. كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ شبهه مبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه، فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة، ونبه به على أن الإِيمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود.
وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبواً عن الحق وتباعداً في الهرب منه، وأصل يصعد يتصعد وقد قرئ به وقرأ ابن كثير يَصَّعَّدُ وأبو بكر عن عاصم يصاعد بمعنى يتصاعد. كَذلِكَ أي كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الحق. يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ يجعل العذاب أو الخذلان عليهم، فوضع الظاهر موضع المضمر للتعليل.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٧]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)
وَهذا إشارة إلى البيان الذي جاء به القرآن، أو إلى الإسلام أو إلى ما سبق من التوفيق والخذلان.
صِراطُ رَبِّكَ الطريق الذي ارتضاه أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته. مُسْتَقِيماً لا عوج فيه، أو عادلاً مطرداً وهو حال مؤكدة كقوله وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً، أو مقيدة والعامل فيها معنى الإِشارة. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فيعلمون أن القادر هو الله سبحانه وتعالى وأن كل ما يحدث من خير أو شر فهو بقضائه وخلقه، وأنه عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم.
لَهُمْ دارُ السَّلامِ دار الله أضاف الجنة إلى نفسه تعظيماً لها، أو دار السلامة من المكاره أو دار تحيتهم فيها سلام. عِنْدَ رَبِّهِمْ في ضمانه أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره. وَهُوَ وَلِيُّهُمْ مواليهم أو ناصرهم. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بسبب أعمالهم أو متوليهم بجزائها فيتولى إيصاله إليهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٨]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)
ويوم نحشرهم جَمِيعاً نصب بإضمار اذكر أو نقول، والضمير لمن يحشر من الثقلين. وقرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب يَحْشُرُهُمْ بالياء. يا مَعْشَرَ الْجِنِّ يعني الشياطين. قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي من إغوائهم وإضلالهم، أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كقولهم استكثر الأمير من الجنود. وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الذين أطاعوهم. رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي انتفع الإنس بالجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها، والجن بالإِنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم. وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز وعند المخاوف، واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم يقدرون على إجارتهم. وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي البعث وهو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث وتحسر على حالهم. قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ منزلكم أو ذات مثواكم. خالِدِينَ فِيها حال والعامل فيها مثواكم إن جعل مصدراً، ومعنى الإضافة إن جعل مكاناً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ إلا الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير وقيل إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ قبل الدخول كأنه قيل: النار مَثْوَاكُمْ أبداً إلا ما أمهلكم. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في أفعاله. عَلِيمٌ بأعمال الثقلين وأحوالهم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٩ الى ١٣٠]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً نكل بعضهم إلى بعض، أو نجعل بعضهم يتولى بعضا فيغويهم أو أولياء بعض وقرناءهم في العذاب كما كانوا في الدنيا. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
الرسل من الإِنس خاصة، لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك ونظيره يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ والمرجان يخرج من الملح دون العذب وتعلق بظاهره قوم وقالوا بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم. وقيل الرسل من الجن رسل الرسل إليهم لقوله تعالى: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يعني يوم القيامة.
لُوا
جوابا. هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
بالجرم والعصيان وهو اعتراف منهم بالكفر واستيجاب العذاب.
غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذير للسامعين من مثل حالهم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣١ الى ١٣٢]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)
ذلِكَ إشارة إلى إرسال الرسل، وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك. أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ تعليل للحكم وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة أي: الأمر ذلك لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلم فعلوه، أو ملتبسين يظلم أو ظالماً وهم غافلون لم ينبهوا برسول أو بدل من ذلك.
وَلِكُلٍّ من المكلفين. دَرَجاتٌ مراتب مِمَّا عَمِلُوا من أعمالهم أو من جزائها، أو من أجلها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب. وقرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٤]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَّا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن العباد والعبادة. ذُو الرَّحْمَةِ يترحم عليهم بالتكليف تكميلاً لهم ويمهلهم على المعاصي، وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتأسيس لما بعده وهو قوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي ما به إليكم حاجة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيها العصاة. وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَّا يَشاءُ من الخلق. كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي قرنا بعد قرن لكنه أبقاكم ترحما عليكم.
إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث وأحواله. لَآتٍ لكائن لا محالة. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ طالبكم به.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٥]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن، أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة. وقرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم بالجمع في كل القرآن وهو أمر تهديد، والمعنى: اثبتوا على كفركم وعداوتكم. إِنِّي عامِلٌ ما كنت عليه من المصابرة والثبات على الإسلام، والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعاً عليه فيحمله بالأمر على ما يفضي به، إليه، وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضي عنه. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إن جعل مَنْ استفهامية بمعنى أينا تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار، فمحلها الرفع وفعل العلم معلق عنه وإن جعلت خبرية فالنصب ب تَعْلَمُونَ أي فسوف تعرفون الذي تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار، وفيه مع الإِنذار إنصاف في المقال وحسن الأدب، وتنبيه على وثوق المنذر بأنه محق. وقرأ حمزة والكسائي يَكُونَ بالياء لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي. إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وضع الظالمين موضع الكافرين لأنه أعم وأكثر فائدة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٦]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦)
وَجَعَلُوا أي مشركو العرب. لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ خلق. مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ
روي: أنهم كانوا يعينون شيئا؟ من حرث ونتاج لله ويصرفونه إلى الضيفان والمساكين، وشيئاً منهما لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحونه عندها، ثم إن رأوا ما عينوا لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حباً لآلهتهم.
وفي قوله مِمَّا ذَرَأَ تنبيه على فرط جهالتهم فإنهم أشركوا الخالق في خلقه جماداً لا يقدر على شيء، ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له، وفي قوله بِزَعْمِهِمْ تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله به. وقرأ الكسائي بالضم في الموضعين وهو لغة فيه وقد جاء فيه الكسر أيضاً كالود والود. ساءَ مَا يَحْكُمُونَ حكمهم هذا.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٧]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)
وَكَذلِكَ ومثل ذلك التزيين في قسمة القربان. زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بالوأد ونحرهم لآلهتهم. شُرَكاؤُهُمْ من الجن أو من السدنة، وهو فاعل زَيَّنَ. وقرأ ابن عامر زَيَّنَ على البناء للمفعول الذي هو القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولاً بينهما بمفعوله وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورات الشعر كقوله:
فَزَجَجْتُهَا بِمَزَجَة زَجَّ القلوصِ أَبِي مُزَادَه
وقرئ بالبناء للمفعول وجر أولادهم ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه زَيَّنَ. لِيُرْدُوهُمْ ليهلكوهم بالإِغواء. وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين اسماعيل، أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين والعاقبة إن كان من السدنة. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ما فعل المشركون ما زين لهم، أو الشركاء التزيين أو الفريقان جميع ذلك. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ افتراءهم أو ما يفترونه من الإفك.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٨]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨)
وَقالُوا هذِهِ إشارة إلى ما جعل لآلهتهم. أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ حرام فعل بمعنى مفعول، كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى. وقرئ «حِجْرٍ» بالضم وحرج أي مضيق. لاَّ يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء. بِزَعْمِهِمْ من غير حجة. وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها يعني البحائر والسوائب والحوامي. وَأَنْعامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح وإنما يذكرون أسماء الأصنام عليها، وقيل لا يحجون على ظهورها. افْتِراءً عَلَيْهِ نصب على المصدر لأن ما قالوا تقول على الله سبحانه وتعالى، والجار متعلق ب قالُوا أو بمحذوف هو صفة له أو على الحال، أو على المفعول له والجار متعلق به أو بالمحذوف. سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ بسببه أو بدله.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٩]
وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)
وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنون أجنة البحائر والسوائب. خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا حلال للذكور خاصة دون الإِناث إن ولد حيًا لقوله: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ فالذكور والإِناث فيه سواء وتأنيث الخالصة للمعنى فإن ما في معنى الأجنة ولذلك وافق عاصم في رواية أبي بكر ابن عامر في تكن بالتاء، وخالفه هو وابن كثير في مَيْتَةً فنصب كغيرهم، أو التاء فيه للمبالغة كما في رواية الشعر أو هو مصدر كالعافية وقع موقع الخالص. وقرئ بالنصب على أنه مصدر مؤكد والخبر لِذُكُورِنا، أو حال من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في لذكورنا ولا من الذكور لأنها لا تتقدم على العامل المعنوي ولا على صاحبها المجرور. وقرئ «خالص» بالرفع والنصب وخالِصَةٌ بالرفع والإِضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأ ثان والمراد به ما كان حياً، والتذكير في فيه لأن المراد بالميتة ما يعم الذكر والأنثى فغلب الذكر. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي جزاء وصفهم الكذب على الله سبحانه وتعالى في التحريم والتحليل من قوله: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٠]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ يريد بهم العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي والفقر. وقرأ ابن كثير وابن عامر قَتَلُوا بالتشديد بمعنى التكثير. سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله سبحانه وتعالى رازق أولادهم لا هم، ويجوز نصبه على الحال أو المصدر. وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ من البحائر ونحوها. افْتِراءً عَلَى اللَّهِ يحتمل الوجوه المذكورة في مثله. قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى الحق والصواب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤١]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ من الكروم. مَعْرُوشاتٍ مرفوعات على ما يحملها. وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ملقيات على وجه الأرض. وقيل المعروشات ما غرسه الناس فعرشوه وغير معروشات ما نبت في البراري والجبال. وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ثمره الذي يؤكل في الهيئة والكيفية، والضمير للزرع والباقي مقيس عليه، أو للنخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفاً عليه، أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كل واحد منهما ومختلفاً حالاً مقدرة لأنه لم يكن ذلك عند الإِنشاء. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ يتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم ولا يتشابه بعضها. كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ من ثمر كل واحد من ذلك. إِذا أَثْمَرَ وإن لم يدرك ولم يينع بعد. وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى. وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يريد به ما كان يتصدق به يوم الحصاد لا الزكاة المقدرة لأنها فرضت بالمدينة والآية مكية.
وقيل الزكاة والآية مدنية والأمر بإيتائها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوب بالإِدراك لا بالتنقية. وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي حَصادِهِ بكسر الحاء وهو لغة فيه.
وَلا تُسْرِفُوا في التصدق كقوله تعالى: وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضي فعلهم.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]

وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣)
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً عطف على جنات أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح، أو ما يفرش المنسوج من شعره وصوفه ووبره. وقيل الكبار الصالحة للحمل والصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ كلوا مما أحل لكم منه. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ في التحليل والتحريم من عند أنفسكم. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهرة العداوة.
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حمولة وفرشاً، أو مفعول كلوا، ولا تتبعوا معترض بينهما أو فعل دل عليه أو حال من ما بمعنى مختلفة أو متعددة والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه وقد يقال لمجموعهما والمراد الأول. مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ زوجين اثنين الكبش والنعجة، وهو بدل من ثمانية وقرئ «اثنان» على الابتداء. والضَّأْنِ اسم جنس كالإِبل وجمعه ضئين أو جمع ضائن كتاجر وتجر. وقرئ بفتح الهمزة وهو لغة فيه.
وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ التيس والعنز، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالفتح وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس، وقرئ «المعزى». قُلْ آلذَّكَرَيْنِ ذكر الضأن وذكر المعز. حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أم أنثييهما ونصب الذكرين والانثيين بحرم أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أو ما حملت إناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ بأمرٍ معلوم يدل على أن الله تعالى حرم شيئاً من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التحريم عليه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٤]
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ كما سبق والمعنى إنكار أن الله حرم شيئاً من الأجناس الأربعة ذكراً كان أو أنثى أو ما تحمل إناثها رداً عليهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة أخرى وأولادها كيف كانت تارة زاعمين أن الله حرمها. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ بل أكنتم شاهدين حاضرين. إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا حين وصاكم بهذا التحريم إذ أنتم لا تؤمنون بنبي فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا المشاهدة والسماع. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرم، والمراد كبراؤهم المقررون لذلك، أو عمرو بن لحي بن قمعة المؤسس لذلك. لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٥]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ أي في القرآن، أو فيما أوحي إلَّي مطلقاً، وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى. مُحَرَّماً طعاماً محرماً. عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أن يكون الطعام ميتة، وقرأ ابن كثير وحمزة تكون بالتاء لتأنيث الخبر، وقرأ ابن عامر بالياء، ورفع مَيْتَةً على أن كان هي
التامة وقوله: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً عطف على أن مع ما في حيزه أي: إلا وجود ميتة أو دماً مسفوحاً، أي مصبوباً كالدم في العروق لا كالكبد والطحال. أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ فإن الخنزير أو لحمه قذر لتعوده أكل النجاسة أو خبيث مخبث أَوْ فِسْقاً عطف على لحم خنزير. وما بينهما اعتراض للتعليل. أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صفة له موضحة وإنما سمي ما ذبح على اسم الصنم فسقاً لتوغله في الفسق، ويجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له من أهل وهو عطف على يكون والمستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون. فَمَنِ اضْطُرَّ فمن دعته الضرورة. إلى تناول شيء من ذلك غَيْرَ باغٍ على مضطر مثله وَلا عادٍ قدر الضرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه، والآية محكمة لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحي إلى تلك الغاية محرماً غير هذه، وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ولا على حل الأشياء غيرها إلا مع الاستصحاب.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ كل ماله إصبع كالإبل والسباع والطيور. وقيل كل ذي مخلب وحافر وسمي الحافر ظفراً مجازاً ولعل المسبب عن الظلم تعميم التحريم. وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما الثروب وشحوم الكلى والإِضافة لزيادة الربط. إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما إلا ما علقت بظهورهما. أَوِ الْحَوايا أو ما اشتمل على الأمعاء جمع حاوية، أو حاوياء كقاصعاء وقواصع، أو حوية كسفينة وسفائن. وقيل هو عطف على شحومهما وأو بمعنى الواو. أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ هو شحم الإِلية لاتصالها بالعصعص. ذلِكَ التحريم أو الجزاء. جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ بسبب ظلمهم. وَإِنَّا لَصادِقُونَ في الإِخبار أو الوعد والوعيد.
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل. وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ حين ينزل، أو ذو رحمة واسعة على المطيعين وذو بأس شديد على المجرمين، فأقام مقامه ولا يرد بأسه لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة على أنه لازب بهم لا يمكن رده عنهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٨]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إخبار عن مستقبل ووقوع مخبره يدل على إعجازه. لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ أي لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاه كقوله: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ لما فعلنا نحن ولا آباؤنا، أرادوا بذلك أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله لا الاعتذار عن ارتكاب هذه القبائح بإرادة الله إياها منهم حتى ينهض ذمهم به دليلاً للمعتزلة ويؤيده ذلك قوله: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل هذا التكذيب لك في أن الله تعالى منع من الشرك ولم يحرم ما حرموه كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ الرسل، وعطف آباؤنا على الضمير في أشركنا من غير تأكيد للفصل بلا. حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ من أمر معلوم يصح الاحتجاج به. على ما زعمتم. فَتُخْرِجُوهُ لَنا
فتظهروه لنا. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ما تتبعون في ذلك إلا الظن. وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تكذبون على الله سبحانه وتعالى، وفيه دليل على المنع من اتباع الظن سيما في الأصول، ولعل ذلك حيث يعارضه قاطع إذ الآية فيه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٠]
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه وهي من الحج بمعنى القصد كأنها تقصد إثبات الحكم وتطلبه. فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين.
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ أحضروهم، وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز، وفعل يؤنث ويجمع عند بني تميم وأصله عند البصريين: ها لم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل، وعند الكوفيين هل أم فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام، وهو بعيد لأن هل لا تدخل الأمر ويكون متعدياً كما في الآية ولازماً كقوله هلم إلينا. الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا يعني قدوتهم فيه استحضرهم ليلزمهم الحجة ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم وأنه لا متمسك لهم كمن يقلدهم، ولذلك قيد الشهداء بالإِضافة ووصفهم بما يقتضي العهد بهم. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ فلا تصدقهم فيه وبين لهم فساده فإن تسلميه موافقة لهم في الشهادة الباطلة. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير، وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقاً بها. وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كعبدة الأوثان. وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يجعلون له عديلاً.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥١]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)
قُلْ تَعالَوْا أمر من التعالي وأصله أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل فاتسع فيه بالتعميم.
أَتْلُ أقرأ. مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ منصوب بأتل وما تحتمل الخبرية والمصدرية، ويجوز أن تكون استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول أَتْلُ لأنه بمعنى أقل، فكأنه قيل أتل أي شيء حرم ربكم عَلَيْكُمْ متعلق ب حَرَّمَ أو أَتْلُ. أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ أي لا تشركوا به ليصح عطف الأمر عليه، ولا يمنعه تعليق الفعل المفسر ب مَا حَرَّمَ، فإن التحريم باعتبار الأوامر يرجع إلى أضدادها ومن جعل أن ناصبة فمحلها النصب بعليكم على أنه للإِغراء، أو البدل من مَا أو من عائده المحذوف على أن لا زائدة والجر بتقدير اللام، أو الرفع على تقدير المتلو أن لا تشركوا أو المحرم أن تشركوا. شَيْئاً يحتمل المصدر والمفعول. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأحسنوا بهما إحساناً وضعه موضع النهي عن الإِساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإِساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ من أجل فقر ومن خشيته.
كقوله: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ منع لموجبية ما كانوا يفعلون لأجله واحتجاج عليه. وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ كبائر الذنوب أو الزنا. مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ بدل منه وهو مثل قوله ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن. ذلِكُمْ إشارة إلى
ما ذكر مفصلاً. وَصَّاكُمْ بِهِ بحفظه. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ترشدون فإن كمال العقل هو الرشد.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٢]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره.
حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
حتى يصير بالغاً، وهو جمع شدة كنعمة وأنعم أو شد كصر وأصر وقيل مفرد كأنك.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
بالعدل والتسوية. لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
إلا ما يسعها ولا يعسر عليها، وذكره عقيب الأمر معناه أن إيفاء الحق عسر عليكم فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفو عنكم.
وَإِذا قُلْتُمْ
في حكومة ونحوها. فَاعْدِلُوا
فيه. وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى
ولو كان المقول له أو عليه من ذوي قرابتكم. وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
يعني ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
تتعظون به، وقرأ حمزة وحفص والكسائي تَذَكَّرُونَ
بتخفيف الذال حيث وقع إذا كان بالتاء والباقون بتشديدها.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٣]
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً الإِشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة. وقرأ حمزة والكسائي إن بالكسر على الاستئناف، وابن عامر ويعقوب بالفتح والتخفيف.
وقرأ الباقون بها مشددة بتقدير اللام على أنه علة لقوله. فَاتَّبِعُوهُ وقرأ ابن عامر صِراطِي بفتح الياء، وقرئ «وهذا صراطي» «وهذا صراط ربكم» «وهذا صراط ربك». وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الأديان المختلفة أو الطرق التابعة للهوى، فإن مقتضى الحجة واحد ومقتضى الهوى متعدد لاختلاف الطبائع والعادات. فَتَفَرَّقَ بِكُمْ فتفرقكم وتزيلكم. عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان. ذلِكُمْ الاتباع. وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الضلال والتفرق عن الحق.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٤]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ عطف على وَصَّاكُمْ، وثم للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل: ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً ثم أعظم من ذلك أَنَّا آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ. تَماماً للكرامة والنعمة.
عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ على كل من أحسن القيام به، ويؤيده إن قرئ «على الذين أحسنوا» أو «على الذي أحسن تبليغه» وهو موسى عليه أفضل الصلاة والسلام، أو «تماماً على ما أحسنه» أي أجاده من العلم والتشريع أي زيادة على علمه إتماما له. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي «على الذي هو أحسن» أو على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب. وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج اليه في الدين، وهو عطف على تمام ونصبهما يحتمل العلة والحال والمصدر. وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ لعل بني إسرائيل. بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي بلقائه للجزاء.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٦]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦)
وَهذا كِتابٌ يعني القرآن. أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ كثير النفع. فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بواسطة اتباعه وهو العمل بما فيه.
أَنْ تَقُولُوا كراهة أن تقولوا علة لأنزلناه. إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اليهود والنصارى، ولعل الاختصاص في إِنَّما لأن الباقي المشهور حينئذ من الكتب السماوية لم يكن غير كتبهم.
وَإِنْ كُنَّا أن هي المخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبر كان أي وإنه كنا. عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم، لَغافِلِينَ لا ندري ما هي، أو لا نعرف مثلها.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٧]
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
أَوْ تَقُولُوا عطف على الأول. لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا ولذلك تلقفنا فنوناً من العلم كالقصص والأشعار والخطب على أنا أميون. فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ حجة واضحة تعرفونها. وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لمن تأمل فيه وعمل به. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ بعد أن عرف صحتها أو تمكن من معرفتها. وَصَدَفَ أعرض أو صد. عَنْها فضل أو أضل. سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ شدته. بِما كانُوا يَصْدِفُونَ بإعراضهم أو صدهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٨]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)
هَلْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظرون يعني أهل مكة، وهم ما كانوا منتظرين لذلك ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين. إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ملائكة الموت أو العذاب. وقرأ حمزة والكسائي بالياء هنا وفي «النحل». أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي أمره بالعذاب، أو كل آية يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني أشراط الساعة
وعن حذيفة بن اليمان والبراء بن عازب: (كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما تذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة، قال: «إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، ودابة الأرض، وخسفاً بالمشرق، وخسفاً بالمغرب، وخسفاً بجزيرة العرب، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وناراً تخرج من عدن).
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها كالمحتضر إذ صار الأمر عيانا والإيمان برهاني.
وقرئ «تنفع»
بالتاء لإِضافة الإِيمان إلى ضمير المؤنث. لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صفة نفساً. أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على آمَنَتْ والمعنى: أنه لا ينفع الإِيمان حينئذ نفساً غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة في إيمانها خيراً، وهو دليل لمن لم يعتبر الإِيمان المجرد عن العمل وللمعتبر تخصيص هذا الحكم بذلك اليوم، وحمل الترديد على اشتراط النفع بأحد الأمرين على معنى لا ينفع نفساً خلت عنها إيمانها، والعطف على لم تكن بمعنى لا ينفع نفساً إيمانها الذي أحدثته حينئذ وإن كسبت فيه خيراً. قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد لهم، أي: انتظروا إتيان أحد الثلاثة فإنا منتظرون له وحينئذ لنا الفوز وعليكم الويل.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بددوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، أو افترقوا فيه
قال عليه الصلاة والسلام: «إفترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة
، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة»
. وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» أي باينوا. وَكانُوا شِيَعاً فرقاً تشيع كل فرقة إماماً. لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي من السؤال عنهم وعن تفرقهم، أو من عقابهم، أو أنت بريء منهم. وقيل هو نهي عن التعرض لهم وهو منسوخ بآية السيف. إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يتولى جزاءهم. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ بالعقاب.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أي عشر حسنات أمثالها فضلاً من الله. وقرأ يعقوب «عشرة» بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف. وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغيرِ حساب ولذلك قيل: المراد بالعشر الكثرة دون العدد. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها قضية للعدل.
وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بنقص الثواب وزيادة العقاب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦١]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالوحي والإِرشاد إلى ما نصب من الحجج. دِيناً بدل من محل إلى صراط إذ المعنى، هداني صراطاً كقوله: وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أو مفعول فعل مضمر دل عليه الملفوظ. قِيَماً فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة والمستقيم باعتبار الصيغة. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي قِيَماً على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوماً كعوض فاعل لإِعلال فعله كالقيام. مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان لدينا. حَنِيفاً حال من إبراهيم. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف عليه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦٢ الى ١٦٣]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي عبادتي كلها، أو قرباني أو حجي. وَمَحْيايَ وَمَماتِي وما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإِيمان والطاعة، أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير، أو الحياة والممات أنفسهما. وقرأ نافع مَحْيايَ بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف. لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ خالصة له لا أشرك فيها غيراً. وَبِذلِكَ القول أو الإِخلاص. أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٤]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا فأشركه في عبادتي وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم. وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ حال في موضع العلة للإنكار والدليل له أي وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية. وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها فلا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه من ذلك. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى جواب عن قولهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يوم القيامة. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
بتبيين الرشد من الغي وتمييز المحق من المبطل.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٥]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ يخلف بعضكم بعضاً، أو خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها على أن الخطاب عام، أو خلفاء الأمم السالفة على أن الخطاب للمؤمنين. وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الشرف والغنى. لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الجاه والمال. إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لأن ما هو آت قريب أو لأنه يسرع إذا أراده. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وصف العقاب ولم يضفه إلى نفسه، ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة، وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة تنبيهاً على أنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض كثير الرحمة مبالغ فيها كثير العقوبة مسامح فيها.
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنزلت عليَّ سورة الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوماً وليلة».
تم بحمد الله وحسن توفيقه طبع الجزء الثاني من تفسير البيضاوي في مطابع دار إحياء التراث العربي بيروت الزاهرة، أدامها الله لطبع المزيد من الكتب النافعة، ويليه الجزء الثالث وأوله سورة الأعراف، وآخر دعوانا أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين
192
محتوى الجزء الثاني من تفسير البيضاوي
سورة آل عمران ٥
بيان إثبات علمه تعالى بالجزئيّات على وجه جزئيّ حتى على مذهب الفلاسفة ٦
بيان معنى المحكم والمتشابه ٦
بيان الرّدّ على تشبّث النّصارى بانتقال اقنوم العلم إلى المسيح ٦
بيان صدق وعد الله نبيه بقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ بما حصل ببدر وخيبر ٧
بيان معنى كون رضوان الله أكبر وما هو المراد بالرّضوان ٨
بيان معنى شهادة الله بأنه لا إله إلا هو ٩
بيان الفرق بين التوحيد والإيمان والإسلام ٩
بيان أن أول راية ترفع يوم القيامة راية اليهود ثم يفضحون ١١
بيان ما ظهر للنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق من الآيات ١٢
بيان نسب موسى ومريم عليهما السلام ١٣
بيان معنى مسّ الشيطان للمولود حين وضعه ١٤
بيان تكليم الملائكة لمريم وأنه لم تنبأ امرأة ١٦
بيان المسيح وأصل معناه ١٧
بيان معنى النسخ وأنّ شريعة المسيح فيها نسخ لما في التوراة ١٨
بيان معنى قوله تعالى لعيسى عليه السلام إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وما ذهبت إليه النصارى في ذلك ١٩
بيان المجادلة التي حصلت بين النبي وأساقف نجران ومعنى المباهلة ٢٠
بيان تنازع اليهود والنصارى في إبراهيم عليه السلام ٢١
بيان كون إبراهيم عليه السلام للمسلمين اختصاص باتباعه ٢٢
بيان أنّ اليهود كانت تزعم أنّ أموال المسلمين كانت مباحة لهم في كتابهم ٢٣
بيان أن الإسلام هو دين الفطرة وأنّ الطالب لغيره واقع في الخسران ٢٦
بيان إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للناس المسجد الحرام ومن بناه ٢٩
بيان أن الأمر بالمعروف فرض كفاية وذكر شروطه ٣١
بيان كون هذه الأمة خير الأمم والاستدلال على كون الإجماع حجة ٣٣
بيان ما حصل قبل غزوة أحد من استشارة النبيّ لأصحابه ٣٦
بيان ما حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة أحد من جرحه وكسر رباعيته وغير ذلك ٤١
بيان ما حصل للمسلمين من النّصر بأحد وأسباب انهزامهم بعد ذلك ٤٣
بيان الأمر بالمشاورة ٤٥
193
بيان أن الإنسان غير الهيكل المحسوس وأنه جوهر مدرك بذاته ٤٨
بيان أن الإِيمان يزيد وينقص ٤٩
بيان أن الأنبياء لا يطلعون على الغيب إلّا بإعلام الله لهم ٥١
بيان أن المعجزات جميعها توجب الإيمان وأن اليهود كذبوا في دعواهم التخصيص ٥٢
بيان أن الاستدلال على وجود الباري طريقة تغير العالم ٥٤
تفسير سورة النساء ٥٨
بيان ما قيل في القراءات السبع من أن كلّ حرف منها منقول بالتواتر أم لا؟ ٥٨
بيان ما قيل في قوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ الآية وتحقيق ذلك من جهة العربية ٥٩
بيان أن الشخص لا ينبغي له أن يعطي ما في يديه من المال لأهله يقعد ناظرا لما أعطاهم ٦٠
بيان أن الإنسان الوصي يلزمه أن يحب لمن تحت رعايته ما يحبّه لبنيه ٦١
بيان معنى الكلالة ٦٣
بيان أن التوبة تقبل قبل الموت ٦٥
بيان محرمات النكاح وأن الربيبة لا تحرم إلّا بالدخول بأمها ٦٧
بيان عدم جواز نكاح الأمة إلّا بشروط وبيانها ٦٩
بيان أن ثمان آيات في النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس ٧٠
بيان الكبائر والاختلاف فيها ٧١
بيان الميراث بالمخالفة ونسخه ٧٢
بيان الحكم الذي يكون من أهل الرجل والمرأة في الشقاق ووظيفته ٧٣
بيان أن الإسراف مذموم كالبخل ٧٤
بيان أن الإنسان إن دعي لأمر لا ضرر فيه ينبغي له الإجابة ٧٤
بيان الاحتجاج على المعتزلة والخوارج في منعهم جواز غفران الذنوب ٧٨
بيان أن البخل والحسد شرّ الرذائل وأن بينهما تلازما وتجاذبا ٧٩
بيان أن الناس مأمورون بطاعة الأمراء إذا حكموا بالعدل ٨٠
بيان أن المرضي عليهم من الناس أربعة، وبيان ما تميز به كل فريق ٨٢
بيان أن كل ما أصاب من بليّة فمن ذنب ٨٦
بيان معنى سلامة القرآن من الاختلاف ٨٦
بيان المواضع التي لا يستحسن فيها السلام ٨٨
بيان القتل الخطأ وديته ٩٠
بيان الدليل على صحة إيمان المكره وأنّ المجتهد يخطئ وأن خطأه مغتفر ٩١
بيان قصر الصلاة ولو في سفر فيه أمن ٩٣
بيان صلاة الخوف ٩٣
بيان حكم من فعل العبادة لغرض شرعيّ ودنيويّ ٩٦
194
بيان الخلة وكيف اتّخذ الله إبراهيم خليلا ٩٩
بيان ما كانت العرب تفعله مع النساء وصغار الولدان من أكل حقوقهن ١٠٠
بيان ما يجب على الشاهد من إقامة الحق ١٠٢
بيان السبب في تغليظ عذاب المنافق وبيان النفاق الموجب للكفر ١٠٥
بيان ما فعلته اليهود مع المسيح وكيف رفعه الله ١٠٧
بيان نزول المسيح آخر الدنيا وإيمان كل العالم به ١٠٧
بيان أن بعثة الأنبياء من ضروريات مصالح الخلق ١٠٩
بيان أن النظريات ضروريات للملائكة ١١٠
تفسير سورة المائدة ١١٣
بيان ما كانت تفعله الجاهلية من الاستقسام بالأزلام ١١٤
بيان الطيبات التي أحلّ أكلها ١١٥
بيان أن المائدة من آخر القرآن نزولا وأنه لا نسخ فيها ١١٦
بيان أنّ العدل ولو مع الكفار
مقتضى التقوى وأن الجور مقتضى الهوى ١١٨
بيان ما ذهب إليه بعض فرق النّصارى من قولهم المسيح هو الله ١٢٠
بيان المدّة والأنبياء بين موسى وعيسى وبين عيسى ومحمد عليهم السلام ١٢١
بيان إن موسى عليه السلام مات بالتيه أو بعده ١٢٢
في بيان حدود قطّاع الطريق من المسلمين ١٢٥
في بيان تحريف اليهود ١٢٧
في بيان كفر من لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله ١٢٨
في بيان النهي عن موالاة الكفّار ١٣٠
بيان الفرق التي ارتدت من العرب في أواخر حياة رسول الله ١٣١
بيان أن من الأسرار الإِلهية ما يحرم إفشاؤه ١٣٥
بيان المائدة التي نزلت من السماء وكلام بعض الصوفية فيها ١٥٠
تفسير سورة الأنعام ١٥٣
بيان من طلبت قريش إبعادهم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليجالسوه ونهي الله له عن ذلك ١٦٣
بيان الخلاف في أبي سيدنا إبراهيم ١٦٩
بيان ما يعتقده المشركون في الجن من الشركة ١٧٥
بيان الأمر بالتسمية عند الذّبح ١٨٠
بيان ما كانت تفعله الجاهلية من القسمة لشركائهم في الزرع والأنعام ١٨٤
بيان ما حرّم على بني إسرائيل من الشحوم وغيرها ١٨٧
بيان التفرق في الدين وأنه سنّة قديمة ١٩١
195
Icon