تفسير سورة التغابن

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله (فاللام زائدة) أي أو للتعليل كما تقدم. قوله: ﴿ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ ﴾ قدم الجار والمجرور فيهما، لافادة حصر الملك والحمد فيه سبحانه وتعالى حقيقة، وأما نسبة الملك والحمد لغيره تعالى فبطريق المجاز. قوله: ﴿ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ كالدليل لما قبله.
قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ أي تعلقت إرادته بخلقكم أزلاً، وقوله: ﴿ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ أي بحسب تعلق قدرته وإرادته، فما قدر أزلاً من كفر وإيمان، لا بد وأن يموت الشخص عليه، لما في الحديث:" إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ". واعلم أن القسمة رباعية: شخص كتب سعيداً في الأزل، ويظهر مؤمناً ويموت عليه. وشخص كتب شقياً في الأزل، فيعيش كافراً ويموت كذلك، وشخص كتب سعيداً في الأزل، فيعيش كافراً ويختم له بالإيمان، وهذا الثلاثة كثيرة الوقوع. وشخص يعيش مؤمناً، ويختم له بالكفر، وذلك أندر من الكبريت الأحمر. بالجملة فالخاتمة تظهر السابقة، لأن ماقدر في الأزل، لا يغير ولا يبدل. قوله: (ثم يميتهم ويعيدهم) فيه التفات من الخطاب للغيبة، وإلا فمقتضى الظاهر أن يقول: ثم يميتكم ويعيدكم. قوله: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي الحكمة والبالغة لا عبثاً. قوله: (إذ جعل شكل الآدمي أحسن الأشكال) أي فجعل رأسه لأعلى، ورجليه لأسفل، وذراعيه في جنبيه، وجعله منتصب القامة. إن قلت: قد يوجد كثير من الناس مشوه الخلق. أجيب: بأن التشويه بالنسبة لأبناء جنسه، لا بالنسبة لصور البهائم مثلاً، إذ لو قابلت بين الصورة المشوهة، وبين صورة الغزال، لرأت صورة البشر المشوهة أحسن.
قوله: ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الخ، الحكمة في عدم تكرير الموصول هنا، وقد كرره في قوله:﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾[التغابن: ١] وفي قوله: ﴿ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ أن تسبيح ما في السماوات مغاير لتسبيح ما في الأرض، وكذا ما يسرونه مغاير لما يعلنونه لأن المقصود منه تخويف المكلفين، لا ثبوت إحاطة العلم فكرر الموصول لذلك، ولما كان المقصود من قوله: ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ ثبوت إحاطة العلم بذلك، لم يكرر الموصول. قوله: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ ﴾ استفهام توبيخ أو تقرير. قوله: ﴿ فَذَاقُواْ ﴾ عطف على ﴿ كَفَرُواْ ﴾ عطف مسبب على سبب. قوله: (أي عذاب الدنيا) أي والآخرة، فاسم الاشارة عائد على ما ذكر. قوله: ﴿ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ ﴾ عطف على ﴿ كَانَت ﴾ والمعنى: قال كل فريق من المذكوري، في حق رسولهم الذي أتاهم: أبشر يهدينا؟ وبهذا المعنى صح الجمع في قوله: ﴿ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ وإلا فمقتضى الظاهر أن يقول يهدينا. قوله: ﴿ فَكَفَرُواْ ﴾ الفاء سببية، والمعنى كفروا بسبب هذا القول. قوله: ﴿ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ ﴾ أي ظهر غناه عن إيمانهم لأنه لا ينفعه، كما أن كفرهم لا يضره، فكل من الكفر والإيمان واقع بإرادة الله تعالى، وهو المستغنى عن كل ما سواه، فلا يسأل عما يفعل. قوله: ﴿ زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾ الخ، الزعم ادعاء العلم كذباً، وهو يتعدى إلى مفعولين، فجملة ﴿ أَن لَّن يُبْعَثُواْ ﴾ سادة مسدهما، والمراد بهم أهل مكة. قوله: (مخففة) أي لا ناصبة، لئلا يتوالى ناصبان. قوله: ﴿ قُلْ بَلَىٰ ﴾ أي تبعثون، لأن ﴿ بَلَىٰ ﴾ يجاب بها النفي فيصير إثباتاً، فهي متضمنة للجواب، وإنما أعاده توصلاً لتوكيده بالقسم، وعطف ما بعده عليه. قوله: ﴿ وَذَلِكَ ﴾ أي المذكور من البعث والحساب.
قوله: ﴿ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ خطاب لكفار مكة، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر، أي إذا كان الأمر كذلك فآمنوا الخ. قوله: (القرآن) أي لأنه ظاهر في نفسه مظهر لغيره. قوله: ﴿ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ﴾ سمي بذلك لأن الله يجمع فيه بين الأولين والآخرين، من الإنس والجن وجميع أهل السماء والأرض. قوله: (يغبن المؤمنون) الخ، أشار بذلك إلى أن التفاعل ليس على بابه، فإن الكفار إذا أخذوا منازل المؤمنين في النار، لو ماتوا كفاراً، ليس بغبن للمؤمنين، بل هو سرور لهم، وما قاله المفسر مأخوذ من حديث:" ما من عبد يدخل الجنة إلا رأى مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلى رأى مقعده من الجنة لو أحسن، ليزداد حسرة ". قوله: (لو آمنوا) بيان للإضافة في قوله: (منازلهم وأهليهم). قوله: ﴿ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ ﴾ الخ، بيان لوجه التغابن وتفصيل له، لأن في ذلك ذكر منازل السعداء والأشقياء. قوله: (بالنون في الفعلين) أي نكفر وندخل، وعلى هذه القراءة فيه التفات من الغيبة للتكلم. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي المذكور من تكفير السيئات وإدخاله الجنات. قوله: ﴿ مَآ أَصَابَ ﴾ مفعول محذوف أي أحداً، و ﴿ مِن مُّصِيبَةٍ ﴾ فاعل بزيادة ﴿ مِن ﴾.
قوله: ﴿ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ ﴾ أي إيماناً خاصاً، وهو التصديق بأن كل شيء بقضاء وقدر. قوله: (في قوله) أي في قول القائل: إن المصيبة بقضاء الله، والمعنى يكن قلبه مطمئناً مصدقاً بهذا القول، لا مجرد قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون باللسان، فلا يعطى به فضيلة الصبر على المصيبة. قوله: ﴿ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ أي للثبات والاسترجاع عند نزولها. قوله: ﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي في جميع الأوقات، ولا تشغلكم المصائب عن الطاعة. قوله: ﴿ فَإِن تَولَّيْتُمْ ﴾ شرط حذف جوابه تقديره فلا ضرر ولا بأس على رسولنا، وقوله: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ﴾ الخ، تعليل لذلك المحذوف. قوله: ﴿ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ مبتدأ وخبر، وقوله: ﴿ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ تحريض وحث للنبي على التوكل على الله والالتجاء اليه، وفيه تعليم للأمة ذلك.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ﴾ الخ، أي بعضهم، والمراد بالأزواج ما يشمل الذكور، فكما أن الرجل تكون زوجته عدواً له، كذلك المرأة يكون زوجها عدواً لها. قوله: ﴿ عَدُوّاً لَّكُمْ ﴾ أي يشغلكم عن طاعة الله. قوله: (أن تطيعوهم) أشار بذلك إلى تقدير مضاف، أي فاحذروا طاعتهم قوله: (فإن سبب نزول الآية) الخ، علة لقوله: (كالجهاد والهجرة) أي فسبب نزول الآية، أن رجالاً أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يهاجروا إلى النبي، فمنعهم أزواجهم وأولادهم وقالوا: صبرنا على إسلامكم، فلا صبر لنا على فراقكم، فأطاعوهم وتركوا الهجرة، وقيل نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، فأراد أن يغزو، فبكوا اليه ووقفوه وقالوا له: إلى من تدعنا؟ فرق عليهم وأقام عن الغزو، وهذامعنى قول المفسر، كالجهاد والهجرة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيدخل في ذلك جميع أنواع الطاعات، فلا يطبع الأزواج ولا الأولاد في التكاسل عن أي طاعة كانت، بل حقوق الله مقدمة على كل حق. قوله: ﴿ وَإِن تَعْفُواْ ﴾ الخ، أي تتركوا عقابهم بترك الإنفاق عليهم، وذلك أنه من تخلف عن الهجرة والجهاد، بسبب منع أهله وأولاده قد تنبه بعد ذلك، فرأى غيره من الصحابة قد سبقه للخير، فندم وعزم على عقاب أهله وأولاده بترك الإنفاق عليهم، فأنزل ﴿ وَإِن تَعْفُواْ ﴾ الخ. قوله: (في تثبيطهم) أي شغلهم إياكم وتكسيلهم لكم. قوله: ﴿ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ أي ابتلاء واختبار من الله لكم، وهو أعلم بما في نفوسكم منكم، لكن ليظهر في عالم الشهادة من يشغله ذلك عن الحق، فيكون عليه نقمة ممن لا يشغله، فيكون عليه نعمة، وقدم المال لأن فتنته أشد، ويكفي في فتنته قصة ثعلبة بن حاطب النازل فيه قوله تعالى:﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ ﴾[التوبة: ٧٥] الآية، قال الحسن: أدخل ﴿ مِنْ ﴾ التي للتبعيض في قوله: ﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ﴾ الخ، لأنهم كلهم ليسوا بأعداء بل البعض منهم، ولم يدخلها في قوله: ﴿ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ ﴾ الخ لأنهما لا يخلون من الفتنة واشتغال القلب بهما، فمن رجع إلى الله تعالى، ولم يلتفت إلى ما له وولده وجاهد نفسه فقد فاز، ومن تتبع الشغل بالمال والولد وافتتن بهما فقد هلك. قوله: ﴿ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ وهو الجنة. قوله: (ناسخة لقوله اتقوا الله حق تقاته) أي ومعناها: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، ولذلك لما نزلت الآية قالت الصحابة: ومن يعرف قدر الله فيتقيه حق تقاته، وضايق بعضهم نفسه في العبادة، حتى تورمت قدماه من طول القيام، فخفف الله عنهم فنزلت ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ ﴾ وما قاله المفسر أحد قولين، وقيل إنها ليست ناسخة بل مبنية لها، فآية﴿ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾[آل عمران: ١٠٢] مجملة، وآية ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ ﴾ مفصلة لها، غير أن الاستطاعة مختلفة باختلاف الأشخاص، فكل يبذل وسعه وطاقته في طاعة ربه، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فليست الاستطاعة في الناس سواء، وبالجملة فالتكليف بهذه الآية لا بآية﴿ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾[آل عمران: ١٠٢] سواء قلنا إنها منسوخة أو محكمة. قوله: (خبر يكن) أو مفعول لفعل محذوف تقديره يؤتكم خيراً وهو الأولى، لأن حذف كان واسمها مع بقاء الخبر، إنما يكثر بعد أن ولو. قوله: (جواب الأمر) أي وهو قوله: ﴿ وَأَنْفِقُواْ ﴾.
قوله: ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ﴾ الشح كراهة فعل الخير والمعروف، وينشأ عن البخل وهو الإمساك.
قوله: ﴿ إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾ سماه قرضاً ترغيباً في الصدقة، حيث جعلها قرضاً لله، مع أن العبد إنما يقرض نفسه لأن النفع عائد عليه، وفيه تنزيل من الله تعالى لعباده، حيث أعطاهم المال، وأمرهم بالإنفاق منه، وسمى إنفاقهم قرضاً له، فمن احسانه عليك خلق ونسب اليك، وهذا الخطاب يعم الأغنياء والفقراء، فالأغنياء مخاطبون بالإقراض في بذل أموالهم وأنفسهم، والفقراء مخاطبون بالإقراض في بذل أنفسهم، فهو تعليم لهم الاخلاص في أعمالهم. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله: (مجاز على الطاعة) أي بالكثير على القليل. قوله: ﴿ حَلِيمٌ ﴾ (في العقاب على المعصية) أي فلا يعجل بالعقوبة على من عصاه. قوله: (السر) أي ما في القلوب، وقوله: (والعلانية) أي ما أظهره الانسان. قوله: ﴿ ٱلْعَزِيزُ ﴾ أي الغالب على أمره. قوله: ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ أي الذي يضع الشيء في محله.
Icon