تفسير سورة الطلاق

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

أحكام الطلاق والعدة وثمرة التقوى والتوكل
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣)
الإعراب:
إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ بالِغُ بغير تنوين: حذف التنوين للتخفيف، وجر ما بعده بالإضافة، وقرئ بالتنوين على الأصل، لأن اسم الفاعل هنا بمعنى الاستقبال، ونصب أَمْرِهِ به.
البلاغة:
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ إظهار في موضع الإضمار للترهيب لا تَدْرِي.. الأصل لا يدري ففيه التفات لمزيد الاهتمام، من الغائب إلى الخطاب.
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بينهما طباق.
263
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ خص النبي ﷺ بالنداء، وعمّ الخطاب بالحكم، فالمراد به أمته، لأنه إمام أمته، فنداؤه كندائهم. إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ أي إذا أردتم الطلاق، مثل قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل ١٦/ ٩٨] أي فإذا أردت قراءته.
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي مستقبلات عدتهن أي وقتها، وهو الطلاق في طهر لإجماع فيه.
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ اضبطوها واحفظوها وأكملوها ثلاثة قروء.
وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أطيعوه في أمره ونهيه، واحذروا تطويل العدة والإضرار بهن.
لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ أي من مساكنهن وقت الفراق حتى تنقضي عدتهن. وَلا يَخْرُجْنَ لا يباح لهن الخروج من المساكن أثناء العدة حتى تنقضي. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي بسبب ارتكاب فاحشة (وهي الزنى) واضحة توجب الحد، أو بالتطاول على الزوج أو أسرته، أو بالخروج قبل انقضاء العدة، فتخرج لإقامة الحد عليها، أو للتخلص من بذاءتها، أو لبيان كون خروجها فاحشة.
وَتِلْكَ المذكورات. حُدُودُ اللَّهِ أي أحكامه وشرائعه. ظَلَمَ نَفْسَهُ أضرّ بها إذ عرضها للعقاب. لا تَدْرِي النفس أو أيها النبي أو المطلّق. لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً يحدث بعد الطلاق أمرا جديدا، وهو الندم على الطلاق والرغبة في المطلّقة برجعة أو استئناف عقد.
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ قاربن انقضاء عدتهن. فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي راجعوهن بحسن عشرة. أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ اتركوهن مع إيفاء الحق واتقاء الضرار بالمراجعة، كأن يراجعها ثم يطلقها تطويلا لعدتها. وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ يندب الإشهاد على المراجعة أو الفرقة بعدا عن الرّيبة وقطعا للنزاع، مثل قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة ٢/ ٢٨٢]. وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أدّوا أيها الشهود عند الحاجة الشهادة خالصة لوجه الله بلا تحريف، لا للمشهود له أو عليه. ذلِكُمْ جميع ما في الآية، أو المراد الحث على الشهادة والإقامة (الأداء). يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ خصص المؤمن، لأنه المنتفع بالوعظ، والمراد تذكيره.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً طريقا للخروج من كرب الدنيا والآخرة، جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق، بوعد المحافظين على حدود الله وأحكامه. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي يفوض أموره لله. فَهُوَ حَسْبُهُ كافيه. إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ منفذ حكمه ومراده وقضاءه في خلقه، يفعل ما يشاء، ويبلغ ما يريد. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ من رخاء وشدة. قَدْراً تقديرا أو مقدارا أو أجلا وميقاتا.
264
سبب النزول:
نزول الآية (١) :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ..:
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن أنس قال: طلّق رسول الله ﷺ حفصة، فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ
فقيل له، راجعها فإنها صوّامة قوّامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والدار قطي عن ابن عمر: «أنه طلّق امرأته، وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ منه، ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، فتطهر، فإن بدا له أن يطلّقها فليطلّقها طاهرا قبل أن يمسّها، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل».
وفي لفظ مسلم: «فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء».
وفي لفظ الدارقطني: «ليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسّها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله».
سبب نزول الآية (٢) :
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ..:
أخرج الحاكم عن جابر قال: نزلت هذه الآية:
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً في رجل من أشجع كان فقيرا، خفيف ذات اليد، كثير العيال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال له: اتق الله، واصبر، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن له بغنم
، وكان العدو أصابوه، فأتى رسول الله ﷺ فأخبره خبرها، فقال: كلها، فنزلت. قال الذهبي: حديث منكر، له شاهد.
265
وأخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عباس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي، فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو، وجزعت أمه، فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثروا من: لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو، فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، فنزلت: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً».
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ، فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ: أي يا أيها الرسول والمؤمنون به إذا أردتم تطليق النساء وعزمتم عليه، فطلقوهن مستقبلات لعدتهن أو قبل وقت عدتهن. والمراد الأمر بالطلاق في طهر لم يقع فيه جماع، والنهي عن إيقاعه في الحيض، كما وردت السنة الصريحة بذلك في حديث ابن عمر المتقدم.
وإنما كان النداء خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب بالحكم عاما له ولأمته، تكريما له صلى الله عليه وسلم، وإظهارا لجلالة منصبه، كما يقال لرئيس القوم، أو قائد الجند: يا فلان، افعلوا كذا وكذا، إظهارا لمقامه فيهم، وكونه القائد المسؤول عن التوجيه.
والآية دليل على حرمة الطلاق في الحيض، وذكر الفقهاء أن الطلاق أنواع ثلاثة «١» : طلاق سني، وطلاق بدعي «٢»، وطلاق ليس بسني ولا بدعي، أما الطلاق السني: فهو الطلاق في طهر لإجماع فيه، أو أثناء حمل قد استبان. وأما
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٣٧٨
(٢) سمي طلاق السنة لاتفاقه مع تقدير القرآن والسنة، وسمي طلاق البدعة للزيادة على الأقراء الثلاثة، لأنها إذا طلقت وهي حائض لم تحسب حيضتها، بل تزيد على ثلاثة أقراء فتطول العدة عليها.
266
الطلاق البدعي: فهو الطلاق أثناء الحيض، أو في طهر قد تم فيه الوقاع، خشية الحمل، وهو حرام لإلحاقه الضرر بالزوجة، بتطويل المدة التي تنتظرها لانتهاء العدة، لأن بقية الحيض لا تحسب من العدة عند القائلين بأن الأقراء الأطهار، وكذلك الطهر الذي بعد الحيضة التي طلقت فيها عند القائلين بأن الأقراء الحيضات، ولا بد من حيضات ثلاث كاملة.
وألحق الفقهاء بذلك في الحرمة الطلاق في النفاس.
ونصت السنة على صورة الطلاق البدعي المحرم في طهر جامعها فيه، إذ ربما تحمل، ويندم الرجل على الطلاق.
لكن الخلع في الحيض بعوض من المرأة ليس محرما عند كثير من الفقهاء، لأن بذلها المال يشعر بحاجتها إلى الخلاص، وبرضاها بتطويل المدة، والله تعالى قال: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة ٢/ ٢٢٩] وأذن النبي ﷺ لثابت بن قيس في الخلع على مال، دون سؤال عن حال زوجته.
وأما الطلاق الذي ليس بسني ولا بدعي: فهو طلاق الصغيرة والآيسة من الحيض وغير المدخول بها.
والأفضل بالاتفاق كون الطلقة مرة واحدة، ويكره عند مالك الثلاث متفرقة أو مجموعة، وعند الحنفية: يكره الزيادة على الواحدة في طهر واحد، ويباح عند الشافعي الثلاث.
واستدل الشافعي بقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ على أن الأقراء:
الأطهار، لأن اللام لام الوقت، أي فطلقوهن وقت عدتهن، ويؤيده حديث ابن عمر المتقدم الذي بين فيه النبي ﷺ أن العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر الذي بعد الحيضة، ولو كان القرء هو الحيض، كان قد طلقها قبل العدة، لا في العدة، وكان ذلك تطويلا عليها.
267
وتأول الحنفية والحنابلة قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أن المعنى لاستقبال عدتهن، لا في عدتهن، إذ من المحال أن يكون الطلاق وهو سبب العدة واقعا في العدة، والذي يستقبل إنما هو الحيض لا الطهر.
لكن المعروف أن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التأقيت والاختصاص بذلك الوقت، فيكون المعنى: فطلقوهن للوقت الذي يشرعن فيه في العدة على الاتصال بالطلاق.
ثم أمر الله تعالى بضبط العدة وإحصاء وقتها، فقال:
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها، لتكون عدة كاملة، وهي ثلاثة قروء تامة، والخطاب للأزواج. وضبط العدة واجب لإجزاء أحكامها فيها من تحديد حق الرجعة للزوج والإشهاد عليها، ونفقة الزوجة وسكناها، وعدم خروجها من بيتها قبل انقضائها.
وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ فلا تعصوه فيما أمركم، ولا تضارّوهن بتطويل العدة على المرأة، فتمتنع من الأزواج.
لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ أي لا تخرجوا المطلقات من بيوتهن في مدة العدة، فلكل امرأة معتدة حق السكنى على الزوج، ما دامت معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضا الخروج، فليس للمعتدات الزوجات الخروج من تلك البيوت ما دمن في العدة إلا لأمر ضروري، رعاية لحق الزوج، فإذا خرجت المعتدة لغير ضرورة ليلا أو نهارا، كان الخروج حراما.
وفيه دليل على وجوب السكنى للزوجات المطلقات أو المعتدات ما دمن في العدة، وأضاف البيوت إليهن، وهي لأزواجهن لتأكيد النهي عن الإخراج والخروج، ببيان كمال استحقاقهن للسكنى، كأنها ملك لهن.
268
والصحيح عند الحنفية أن للشرع في ملازمة المعتدة بيت الزوجية حقا في ذلك، لا يملك الزوج إسقاطه، فيكون قوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ دالا على حرمة إخراجهن بمنطوقه، وعلى حرمة الإذن لهن في الخروج بإشارته، لأن الإذن في المحرم محرم.
ورأى الشافعية أن ملازمة المعتدة بيت الزوجية خالص حق الزوجين، فلو اتفقا على الانتقال جاز، لأن الحق لهما وحدهما. وهذا هو المطبق فعلا اليوم حال الطلاق، فلا نرى مطلقة تبقى في بيت الفراق.
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي لا تخرجوهن من بيوتهن إلا إذا ارتكبن فاحشة الزنى، أو إذا نشزن أو صدر منهن بذاءة في اللسان واستطالة على الساكن معهن في ذلك البيت من أهل الرجل، وآذتهم المرأة في الكلام والفعال، فحينئذ يحل إخراجهن في المساكن لبذاءتهن وسوء خلقهن.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي وهذه الأحكام السابقة التي بينها الله لعباده هي حدود الله التي حدها لهم، لا يحل لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها، ومن يتجاوز هذه الحدود المذكورة فقد أوقع نفسه في الظلم وأضرّ بها وأوردها مورد الهلاك.
ثم ذكر الله تعالى علة تحريم تعدي حدود الله، فقال:
لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي لا تدري أيها المطلّق، فإنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة، لعل الزوج يندم على طلاقها، ولعلها إذا بقيت في بيتها أن يؤلف الله بين قلوبهما، فيتراجعا، بأن يراجعها الزوج، فيكون ذلك أيسر وأسهل، فالمقصود بالآية الرجعة.
وهذا واقع غالب، فإن غالب الطلاق يحدث نتيجة ثورة غضب جامحة، أو مكايدة ظاهرية، ثم تزول عوامل القلق، وتهدأ الأعصاب، ويعود الرجل إلى
269
عقله ووعيه، ويحس بقسوة خلو البيت من المرأة أو التفكير بالزواج بامرأة أخرى، ويتذكر محاسن امرأته، ويغض النظر عن مساوئها، كما
قال ﷺ فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي خلقا»
وقد تكون المرأة حاملا. والحديث مؤيد للآية: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء ٤/ ١٩].
ثم بيّن الله تعالى الحكم عند الاقتراب من نهاية العدة، فقال:
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي إذا شارفن على انقضاء العدة، وقاربن ذلك، أي قاربت العدة على الانتهاء، ولكنها لم تنته تماما، فلكم أيها الأزواج اختيار أحد أمرين: إما الإمساك بالمعروف، وهو الرجعة إلى عصمة الزوج والاستمرار في الزوجية، مع الإحسان إليها في الصحبة، وإما المفارقة بالمعروف، أي تركهن إلى انقضاء عدتهن مع إيفاء حقهن واتقاء الضرار بهن، من غير توبيخ ولا تعنيف ولا مشاتمة، بل تطلق المرأة على وجه جميل وسبيل حسن. أما الإمساك للمضارة أو التسريح مع الأذى ومنع الحق، فإن ذلك لا يحل لأحد.
ثم أمر الله تعالى بالإشهاد على الرجعة أو الفراق، فقال:
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ، وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي وأشهدوا على الرجعة إن راجعتم، أو المفارقة إن فارقتم، قطعا للنزاع، وحسما لمادة الخصومة أو الإنكار، وأدوا الشهادة أيها الشهود وأتوا بها خالصة لوجه الله، وتقربا إليه لإظهار الحق، دون تحيز أو مجاملة لأحد الخصمين، المشهود له أو عليه.
وهذه الشهادة على الرجعة والفرقة مندوبة، والأمر للندب والاستحباب عند أئمة المذاهب الأربعة في الجديد عند الشافعي، كما في قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة ٢/ ٢٨٢] ودليل صرف الأمر عن الوجوب الإجماع على عدم
270
الوجوب عند الطلاق، فكذلك عند الإمساك.
وقوله: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ دليل على وجوب أداء الشهادة عند القضاة على الحقوق كلها، لأن الشهادة هنا اسم للجنس. وإنما حث تعالى على أداء الشهادة لإظهار الحق، وترك التكاسل والتهرب من بعض المتاعب أو المشاق في الذهاب إلى المحاكم وانتظار القضاة، خشية تعطيل العمل أو الوقت بالنسبة للشاهد.
ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي ذلكم المذكور الذي أمرناكم به من الإشهاد على الرجعة والفرقة وإقامة الشهادة خالصة لله، وإيقاع الطلاق على وجه السنة، وإحصاء العدة، والكف عن الإخراج والخروج، إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر ويخاف عقاب الله في الدار الآخرة. وخص المؤمن، لأنه المنتفع بذلك دون غيره.
ثم أكد الله تعالى بجملة معترضة وجوب احترام هذه الأحكام والتزام حدود الله بقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أي ومن يتق الله فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، ووقف عند حدوده التي حدها لعباده، يجعل له من أمره مخرجا أو مخلصا مما وقع فيه، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله، ولا يكون في حسابه.
وهذا دليل على أن التقوى سبيل النجاة من المآزق والهموم والغموم الدنيوية والأخروية وعند الموت، وهي أيضا سبب للرزق الطيب الحلال الواسع غير المتوقع.
روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: جعل رسول الله ﷺ يتلو عليّ هذه الآية: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ حتى فرغ من الآية، ثم قال: «يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم».
271
وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن أجمع آية في القرآن: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وإن أكبر آية في القرآن فرجا:
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً.
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي ومن يثق بالله فيما نابه وفوض إليه أمره بعد اتخاذ الأسباب ومنها السعي لكسب الرزق، كفاه ما أهمه، في جميع أموره، لأن الله هو القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، إن الله يبلغ ما يريده، ولا يفوته مراد، ولا يعجزه مطلوب، قد جعل للأشياء قدرا قبل وجودها، وقدّر لها أوقاتها، فجعل سبحانه للشدة أجلا تنتهي إليه، وللرخاء أجلا ينتهي إليه. وإذا كان الرزق وغيره من الأشياء لا يكون إلا بتقدير الله تعالى، ولا يقع إلا على وفق علمه، فليس للعاقل إلا التسليم للقدر كما قال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد ١٣/ ٨]. وهذا دليل على وجوب التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، مع بيان السبب والحكمة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
١- الطلاق جائز مشروع في الإسلام، على أن تلتزم فيه ضوابط الشرع وآدابه، فهو وإن كان جائزا مباحا وبيد الرجل، فيجب الامتناع عنه إلا عند الضرورة أو الحاجة وأن يكون متفرقا وألا يزيد عن طلقة واحدة، وفي حال الرضى، لما
روى أبو داود عن محارب بن دثار أن رسول الله ﷺ قال: «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق».
وروى الثعلبي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق
وروى أبو داود والترمذي عن ثوبان أن رسول الله ﷺ قال: «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، حرّم الله عليها رائحة الجنة»
.
272
٢- أن يستقبل بالطلاق العدة، لقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ولما روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السّكن الأنصارية أنها طلّقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للمطلقة عدّة، فأنزل الله سبحانه حين طلّقت أسماء بالعدة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق.
٣- من طلّق في طهر لم يجامعها فيه، نفذ طلاقه وأصاب السّنة، وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة، عملا بحديث ابن عمر المتقدم، وبقول ابن مسعود فيما رواه الدارقطني: طلاق السنة: أن يطلقها في كل طهر تطليقة، فإذا كان آخر ذلك، فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها.
قال علماء المالكية: طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهرا، لم يمسّها في ذلك الطهر، ولا تقدّمه طلاق في حيض. ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم.
وقال أبو حنيفة: طلاق السنة: أن يطلّقها في كل طهر طلقة. وقال الشافعي: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة، ولو طلقها ثلاثا في طهر، لم يكن بدعة، لظاهر الآية: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وهذا عام في كل طلاق كان، واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية، ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر، لأن النبي ﷺ علّمه الوقت، لا العدد. قال ابن العربي: وهذه غفلة عن
الحديث الصحيح، فإنه قال: «مره فليراجعها»
وهذا يدفع الثلاث.
وفي الحديث أنه قال: أرأيت لو طلقها ثلاثا؟ قال: حرمت عليك، وبانت منك بمعصية.
وقال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [البقرة ٢/ ٢٢٩] أي مرة بعد مرة.
273
والطلاق المخالف للسنة يقع، وهو إثم، لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يديه، فقال له: «أو تلعبون بكتاب الله، وأنا بين أظهركم».
والظاهر عند الشافعية كراهة تطليق المدخول بها واحدة بائنة.
٤- قال الجرجاني: اللام في قوله تعالى: لِعِدَّتِهِنَّ بمعنى (في)، كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر ٥٩/ ٢] أي في أول الحشر، فقوله: لِعِدَّتِهِنَّ أي في الزمان الذي يصلح لعدّتهن، والإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع، وفي الطهر مأذون فيه. وهذا دليل على أن القرء هو الطهر.
٥- قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ هذا في المدخول بها المعتدة بالأقراء، لقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، ولأن غير المدخول بها لا عدة عليها، للآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها.. [الأحزاب ٣٣/ ٤٩] وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة، ويكون بعدها كأحد الخطّاب، ولا تحلّ له في الثلاث إلا بعد زوج.
٦- قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ معناه احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق، حتى إذا انتهت الثلاثة قروء في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة ٢/ ٢٢٨] حلّت للأزواج. وهذا يدل على أن العدة هي الأطهار، وليست بالحيض، وهو مذهب المالكية والشافعية، ويؤكده ويفسره قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة ابن مسعود: فطلقوهن لقبل عدتهن وقبل الشيء: بعضه لغة وحقيقة، بخلاف استقباله، فإنه يكون غيره.
٧- الصحيح أن المخاطب بقوله: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ الأزواج، لأن الضمائر كلها من طَلَّقْتُمُ وأَحْصُوا ولا تُخْرِجُوهُنَّ على نظام واحد
274
يرجع إلى الأزواج. ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق بالزوج، وكذلك الحاكم يحتاج إلى الإحصاء للعدة للفتوى بها والحكم بموجبها.
٨- ليس للزوج إخراج المعتدة من مسكن الزواج ما دامت في العدة، ولا يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدّة. والرجعية والمبتوتة (المطلقة ثلاثا) في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل، منعا لاختلاط الأنساب.
وآراء العلماء في خروج المعتدة هي:
قال مالك وأحمد: إن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل، سواء كانت رجعية أو بائنة، لما
أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «طلّقت خالتي، فأرادت أن تجدّ «١» نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي ﷺ فقال: بلى فجدّي نخلك، عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفا».
وذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز للمعتدة مطلقا، رجعية أو مبتوتة أو متوفى عنها زوجها، الخروج من موضع العدة ليلا ولا نهارا إلا لعذر، عملا بالآية:
لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
ورأي أبو حنيفة أنه لا يجوز للمطلقة الخروج ليلا ونهارا، سواء كانت رجعية أو مبتوتة، للآية السابقة، ويجوز للمتوفى عنها زوجها الخروج نهارا في حوائجها، لاحتياجها إلى اكتساب النفقة، ولا تخرج ليلا، لعدم الحاجة.
٩- لا تخرج المعتدة من بيتها في العدة إلا لفاحشة مبينة، كإقامة الحد عليها بسبب الزنى، أو بذاءة لسانها واستطالتها على أهل الزوج، ونشوزها. قال ابن
(١) جداد النخل: صرامه وهو قطع ثمره.
275
عباس وغيره: الفاحشة: كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الأهل. وأجاز الشافعي كما تقدم التراضي على إسقاط الزوجة حقها في السكنى أثناء العدة.
١٠- هذه الأحكام المبينة هي أحكام الله على العباد، فيمنع التجاوز عنها، ومن تجاوزها فقد ظلم نفسه، وأوردها مورد الهلاك، إذ قد يستجد أمر في شأن المطلقة، فيندم الرجل، ويرغب في الرجعة، قال جميع المفسرين في قوله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة. ومعنى القول: التحريض على طلاق المطلقة الواحدة، والنهي عن الثلاث، فإنه إذا طلّق ثلاثا، أضرّ بنفسه عند الندم على الفراق، والرغبة في الارتجاع، فلا يجد عند الرجعة سبيلا.
١١- إذا قاربت المعتدة انقضاء العدة فعلى الرجل إما الإمساك بمعروف، أي المراجعة بالمعروف من غير قصد المضارّة في الرجعة، تطويلا لعدتها، أو المفارقة بالمعروف، أي الترك حتى تنقضي عدتها، فتملك نفسها. وقوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ دليل على أن القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا ادّعت ذلك.
١٢- الإشهاد على الطلاق وعلى الرجعة مندوب إليه في المذاهب الأربعة، منعا للتجاحد، وعدم الاتهام في الإمساك، وعدم التذرع بثبوت الزوجية للإرث بعد الموت. والرجعة عند الحنفية تحصل بالقول مثل: راجعتك، وبالفعل كالقبلة والمباشرة والملامسة بشهوة والنظر إلى الفرج. وعند الشافعي: تكون الرجعة بالكلام. وتحصل الرجعة عند المالكية بالقول أو الفعل أو النية، وتحصل الرجعة عند الحنابلة والأوزاعي بالقول الصريح وبالوطء، سواء نوى به الرجعة أم لم ينو به الرجعة، ولا تحصل الرجعة بالتقبيل أو اللمس بشهوة، أو النظر إلى الفرج أو الخلوة بالمرأة والحديث معها، لأن المذكور كله ليس في معنى الوطء، وهو الذي يدل على ارتجاعها دلالة ظاهرة.
١٣- من ادعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة، فإن صدقته
276
جاز، وإن أنكرت حلفت، فإن أقام بيّنة أنه ارتجعها في العدة، ولم تعلم بذلك، لم يضره جهلها بذلك، وكانت زوجته. وإن تزوجت ولم يدخل بها الزوج الثاني، ثم أقام الأول بيّنة على رجعتها، فلمالك في ذلك روايتان: إحداهما- أن الأوّل أحق بها، والأخرى- أن الثاني أحق بها. فإن دخل بها الثاني فلا سبيل للأول إليها.
١٤- الإشهاد يكون بالرجال المسلمين دون الإناث، إذ لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال. ويجب أن تكون الشهادة تقربا إلى الله في إقامتها وأدائها على وجهها إذا مسّت الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير.
١٥- إن المؤمن هو الذي يرضى بهذه الأحكام وينتفع بهذه المواعظ، أما غير المؤمن بالله واليوم الآخر، فلا ينتفع بها.
١٦- كل من يتقي الله في تطبيق أحكام الشريعة في الطلاق والعدة والإشهاد ونحوها، يجعل الله له مخرجا من كل شدة وضيق، ويرزقه الثواب الحسن ويبارك له فيما آتاه.
روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن ثوبان: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر».
١٧- كل من يتوكل على الله وفوض الأمر إليه، كفاه ما أهمه في الدنيا والآخرة، لأن الله بالغ أمره فيما أراد، وقاض أمره في كل الناس، سواء من توكل عليه ومن لم يتوكل عليه، وجعل لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه.
ولا يعني التوكل إهمال اتخاذ الأسباب أو الحفظ والصون،
لقوله ﷺ فيما رواه الترمذي عن أنس، وهو ضعيف: «اعقلها وتوكل».
وقال تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ، فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة ٦٢/ ١٠]. وقال سبحانه: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك ٦٧/ ١٥].
277
قال الربيع بن خيثم: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجّاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن ٦٤/ ١١]. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق ٦٥/ ٣]. إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن ٦٤/ ١٧]. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران ٣/ ١٠١]. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة ٢/ ١٨٦].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله» «١».
عدة اليائسة والصغيرة
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٤ الى ٥]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥)
الإعراب:
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فيه محذوف تقديره: واللائي يئسن من المحيض فعدتهن فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر. حذف خبر الثاني لدلالة خبر الأول عليه، مثل: زيد أبوه منطلق وعمرو، أي وعمرو وأبوه منطلق. وأُولاتُ الْأَحْمالِ مبتدأ، وواحد أُولاتُ: ذات، وأَجَلُهُنَّ مبتدأ ثان، وأَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول. ويجوز أن يكون أَجَلُهُنَّ بدلا من أُولاتُ بدل الاشتمال، وأَنْ يَضَعْنَ الخبر.
(١) تفسير الرازي الكبير: ٣٠/ ٣٤
278
البلاغة:
وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ إيجاز الحذف، حذف منه الخبر، أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا.
المفردات اللغوية:
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ أصابهن اليأس من الحيض لكبرهن. إِنِ ارْتَبْتُمْ شككتم في عدتهن أي جهلتم. وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي الصغيرات، فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا. وكلاهما في غير المتوفى عنهن أزواجهن، أما هن فعدتهن كما في آية أخرى [البقرة ٢/ ٢٣٤] أربعة أشهر وعشر.
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أي أجل انقضاء عدتهن، مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن.
أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وضع الحمل، وهو حكم يعم المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن. يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً يسهل عليه أمره ويوفقه للخير، وييسر أموره في الدنيا والآخرة. ذلِكَ المذكور من الأحكام، ومنها حكم العدة. أَمْرُ اللَّهِ حكمه. يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ فإن الحسنات يذهبن السيئات. وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً بمضاعفة الثواب.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير وإسحاق بن راهويه والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال: لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد من عدد النساء، قالوا: قد بقي عدد من النساء لم يذكرن: الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض، وأولات الأحمال، فأنزلت: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية.
وأخرج مقاتل في تفسيره: أنه لما ذكر قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قال خلّاد بن النعمان: يا رسول الله، فما عدّة التي لم تحض، وعدة التي انقطع حيضها، وعدة الحبلى؟ فنزلت: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ يعني قعدن عن المحيض. وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدّة الكبيرة التي يئست، فنزلت الآية.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بتطليق النساء لعدتهن وبيّن أمر الطلاق والرجعة في
279
التي تحيض، بيّن هنا مقدار العدة للآيسة والصغيرة اللتين لا تريان الدم، وأنها ثلاثة أشهر، وعدة الحامل وكونها بوضع الحمل، تتميما لما ذكر الله تعالى في سورة البقرة من عدة ذوات الأقراء، والمتوفى عنها زوجها.
التفسير والبيان:
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي إن عدة النساء الآيسات وهن اللاتي قد انقطع حيضهن لكبرهن ببلوغهن سن الخامسة والخمسين أو الستين هي ثلاثة أشهر، عوضا عن الثلاثة قروء في حق من تحيض كما دلت على ذلك آية البقرة [٢٢٨] إن شككتم وجهلتم كيف عدتهن، وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض عدتهن ثلاثة أشهر كعدة الآيسة.
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أي وعدة النساء الحوامل أي انتهاء عدتهن يتم بوضع الحمل، ولو كان بعد الطلاق أو الموت بساعة في قول جمهور العلماء، بدليل ما
روى أحمد وأصحاب الكتب الستة عن المسور بن مخرمة أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفي عنها زوجها: سعد بن خولة، وهي حامل، فلم تمكث إلا ليالي «١»، حتى وضعت، فلما تعلّت- شفيت- من نفاسها خطبت، فاستأذنت رسول الله ﷺ في النكاح، فأذن لها أن تنكح، فنكحت.
وفي لفظ: أنه دخل عليها أبو السنابل، فقال: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح، إنك والله ما أنت بناكح، حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر.
قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك، جمعت علي ثيابي، حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي.
(١) حددت في رواية بثلاثة وعشرين يوما.
280
وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود أنه قال: من شاء لاعنته أن الآية التي في النساء القصرى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ الآية، نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة [٢٣٤] بكذا وكذا شهرا.
وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: تعتد الحامل المتوفى عنها زوجها بأبعد الأجلين من وضع الحمل، والأشهر أي أربعة أشهر وعشر، عملا بهذه الآية والتي في سورة البقرة.
وهذا في الواقع جمع بين المدتين، وليس جمعا بين النصين ولا إعمالا لعموم كل منهما في مقتضاه، فإننا إذا حكمنا بعدم انتهاء العدة على من وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشر، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى:
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. وكذلك إذا حكمنا بعدم انتهاء العدة على من مضى عليها أربعة أشهر وعشر، ولم تضع حملها، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي ومن يخف الله ويرهب عقابه، فيأتمر بما أمر الله به، وينته عما نهى عنه، يسهّل عليه أمره كله في الدنيا والآخرة. وهذا تنويه بفضيلة التقوى في الدنيا والآخرة.
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أي جميع الأحكام المتقدمة في الطلاق والعدة والسكنى هو أمر الله الذي أمر به عباده، وأنزله إليهم في قرآنه، ومن يخف الله، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، يمح عنه ذنوبه من صحائف أعماله، ولا يؤاخذه بها، كما وعد بذلك في قوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود ١١/ ١١٤] ويضاعف له جزاء
281
حسناته، ويجزل له المثوبة على عمله. وقد كرر الأمر بالتقوى للتأكيد عليها، وكونها عماد النجاة والسعادة الدنيوية والأخروية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- عدة المرأة اليائس التي انقطع دمها بسبب الكبر وتقدم السن، وعدة الفتاة الصغيرة التي لم تر الدم هي ثلاثة أشهر، تقابل القروء الثلاثة عند من ترى الدم. وسن اليأس في تقدير الحنابلة: خمسون سنة، وفي تقدير الحنفية: خمس وخمسون، وعند الشافعية: اثنان وستون سنة، وعند المالكية: سبعون سنة.
ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع، فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة. وكذلك المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة، وتكون عدتها عند المالكية والحنابلة سنة بعد انقطاع الحيض، بأن تمكث تسعة أشهر، وهي مدة الحمل غالبا، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فيكمل لها سنة، ثم تحل. وحكمها عند الحنفية والشافعية أنها تبقى أبدا حتى تحيض أو تبلغ سن من لا تحيض، ثم تعتد بثلاثة أشهر.
ومن تأخر حيضها لمرض، فكذلك تعتد عند مالك تسعة أشهر ثم ثلاثة.
وأما من انقطع حيضها بسبب الرضاع فإن عدتها عند المالكية تنقضي بمضي سنة بعد انتهاء زمن الرضاع وهو سنتان، فإن رأت الحيض ولو في آخر يوم من السنة، انتظرت الحيضة الثالثة.
وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة أو ممتدة الدم فعدتها عند المالكية سنة كاملة، تمكث تسعة أشهر استبراء لزوال الريبة، لأنها مدة الحمل غالبا، وثلاثة أشهر عدة، وتحل للأزواج.
282
والمفتي به عند الحنفية: أنها تنقضي عدتها بسبعة أشهر، بأن يقدر طهرها بشهرين، فتكون أطهارها ستة أشهر، وتقدر ثلاث حيضات بشهر احتياطا.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن عدة المستحاضة الناسية لوقت الحيض، والمبتدأة كالآيسة: ثلاثة أشهر، لأن النبي ﷺ أمر حمنة بنت جحش أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة، فجعل لها حيضة من كل شهر.
٢- عدة الحامل تنتهي بوضع الحمل، سواء كانت مطلّقة أو متوفى عنها زوجها. وتحل عند المالكية إذا وضعت علقة أو مضغة. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تحلّ إلا بما يكون ولدا.
٣- من يتّق الله في اجتناب معاصيه، يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعات، وقال الضحاك: من يتق الله في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. ثم كرر الله تعالى الحث على التقوى، فذكر أن من يعمل بطاعة الله يكفّر عنه سيئاته من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة، ويعظم أجره في الآخرة.
٤- إن المذكور من الأحكام المتقدمة أمر الله أنزله للناس وبيّنه لهم.
السكنى والنفقة للمعتدة وأجر الرضاع
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٦ الى ٧]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)
283
الإعراب:
أَسْكِنُوهُنَّ جواب عن سؤال تقديره: كيف نتقي الله فيهن؟
مِنْ وُجْدِكُمْ عطف بيان لقوله: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أو بدل مما قبله، بإعادة الجار، وتقدير مضاف، أي أمكنة سعتكم، لا ما دونها.
المفردات اللغوية:
أَسْكِنُوهُنَّ أسكنوا المطلقات المعتدات. مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي بعض مساكنكم وفي مستوى سكناكم. مِنْ وُجْدِكُمْ مما تجدونه ويكون في وسعكم وطاقتكم. وَلا تُضآرُّوهُنَّ أي في النفقة والسكنى. لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لتضايقوهن في المساكن، فتلجئوهن إلى الخروج، ولا في النفقة فيفتدين منكم. حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فحينئذ يخرجن من العدة. فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أولادكم منهن بعد انتهاء رابطة الزواج. فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على الإرضاع. وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي ليأمر بعضكم بعضا بجميل وروح كريمة في الإرضاع والأجر، رعاية لمصلحة الأم والولد وحال الأب، فلا بخل من الأب، ولا معاسرة أو مضايقة وإرهاق لجانب الأب. وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ تضايقتم في الإرضاع، وضيق بعضكم على بعض في الأجر وأصابكم إعسار واختلاف، فامتنع الأب من الأجرة، والأم من الرضاع. فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى سترضع للأب امرأة أخرى، ولا تكره الأم على الرضاع، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة.
لِيُنْفِقْ على المطلقات والمرضعات. ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ لينفق الموسر بقدر يسره ووسعه. وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ضيق عليه أو قتر عليه في الرزق، وهو المعسر، فلينفق بقدر وسعه. فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ مما أعطاه الله على قدره. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها لا يكلف الله نفسا إلا بقدر ما أعطاها من الرزق قليلا أو كثيرا، وفيه تطييب لقلب المعسر، فوعده باليسر، فقال: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي يبدل بالعسر يسرا، عاجلا أو آجلا.
المناسبة:
بعد بيان عدة الآيسة والصغيرة والحامل الحبلى، ذكر الله تعالى ما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى بقدر الطاقة، سواء كانت مطلقة أو حاملا، ثم ذكر ما يجب للمطلقة من أجرة على رضاع ولدها إذا هي أرضعته، فالأم أولى بالإرضاع إذا رضيت بأجر المثل، فإن أبت أرضعت المولود امرأة أخرى.
284
التفسير والبيان:
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ، وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ أي أسكنوا المطلقات في مسكن مشابه لما تسكنون فيه بقدر أحوالكم، وقدر سعتكم وطاقتكم، ولو كان ذلك في حجرة من غرف الدار التي تسكنون فيها، ولا تلحقوا بهن ضررا في النفقة والسكنى، فتلجئوهن إلى الخروج من المسكن، أو التنازل عن النفقة، فالوجد: الغنى والمقدرة. وهذا بيان ما يجب للمطلقات من السكنى في المستوى الملائم لحال الرجل، لأن السكنى نوع من النفقة الواجبة على الزوج، فإذا طلق الرجل زوجته، وجب عليه أن يسكنها في منزل حتى تنقضي عدتها، دون مضارّة في السكنى أو النفقة.
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أي إن كانت المرأة المطلقة حاملا، وجب الإنفاق عليها حتى تضع حملها. ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة. وقد ذهب الحنفية إلى تعميم هذا الحكم، فقالوا: تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة، ولو مبتوتة، وإن لم تكن ذات حمل، لقوله تعالى: وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وترك النفقة من أكبر الأضرار، لما
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول في المبتوتة: «لها النفقة والسكنى»
لأن ذلك جزاء الاحتباس، وتستوي فيه الحامل وغيرها. لكن قال الإمام أحمد: لا يصح ذلك عن عمر.
ورأى مالك والشافعي: أن للمطلقة ثلاثا السكنى، ولا نفقة لها إلا إذا كانت حاملا، لأن آية وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ هي في البائن الحامل، بدليل أن الرجعية تجب نفقتها، سواء كانت حاملا أو حائلا (غير حامل) لذا قالوا:
الآية دليل على اختصاص النفقة بالحامل من المعتدات، والأحاديث تؤيده.
ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: ألا نفقة للمطلقة ثلاثا ولا سكنى، لما
285
رواه مسلم وأحمد من حديث فاطمة بنت قيس الذي طلّقها زوجها ثلاثا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نفقة لك ولا سكنى».
وذكر الدارقطني عن الأسود بن يزيد قال: قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس: لا نجيز في المسلمين قول امرأة. وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. لكن قال الدارقطني: السنة بيد فاطمة قطعا.
ثم أمر الله تعالى بدفع الأجرة على الرضاع، فقال:
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي فإن أرضعت الأمهات المطلقات أولادكم بعد ذلك، فأعطوهن أجور إرضاعهن إذا رضين بأجر المثل، وائتمروا وتآمروا وتشاوروا أيها الأزواج والزوجات الذين وقع بينهم الفراق بالطلاق بما هو جميل معروف، وحسن غير منكر، في شأن الولد بما يضمن أوضاعه الصحية والمعاشية، من غير إضرار ولا مضارة، كما قال تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة ٢/ ٢٣٣] وقال سبحانه: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة ٢/ ٢٣٣].
والآية دليل على أن أجرة الرضاع للأولاد على الأزواج، وحق الحضانة على الزوجات.
وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى أي وإن تضايقتم واختلفتم في شأن الإرضاع، فأبى الزوج أن يعطي الأم الأجر الذي تريده، وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر، فيستأجر الأب مرضعة أخرى ترضع ولده. وفي هذا عتاب للأم على التشدد في الطلب، وعدم التسامح مع الأب. وذلك إذا قبل الولد ثدي امرأة أخرى، وإلا وجب الإرضاع على الأم.
ثم أبان الله تعالى مقدار النفقة، فقال:
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب طاقته أو قدرته، ومن كان فقيرا
286
مقترا أو مضيّقا عليه في الرزق، فلينفق مما أعطاه الله من الرزق بقدر سعته، ليس عليه إلا ذلك، كما قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة ٢/ ٢٨٦].
وقال هنا:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي لا يكلف الله نفسا إلا ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير بأن ينفق على الزوجة والقريب الرحم ما ليس في وسعه، كنفقة الغني.
ثم وعد الله تعالى بالعطاء والفضل، فقال:
سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي سيجعل الله بعد ضيق وشدة سعة وغنى، وهذا وعد منه تعالى، ووعده حق لا يخلفه، وهو بشرى بالفرج بعد الكرب، كما قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الانشراح ٩٤/ ٥- ٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
١- السكنى بقدر الطاقة وفي المستوى اللائق بحال الزوج واجبة لكل مطلقة. وقد أجمع العلماء على أن للمرأة الرجعية (التي يحق مراجعتها بعد طلقة واحدة رجعية أو طلقتين) السكنى والنفقة، أما السكنى: فللآية:
أَسْكِنُوهُنَّ وآية لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ وأما النفقة ولو لم تكن حاملا فلأن الرجعية كالزوجة في بقاء حق الاحتباس وسلطة الزوج عليها، فيكون الإجماع مخصصا لمفهوم قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ.
287
واتفق العلماء أيضا على أن للبائن (التي طلقت طلاقا بائنا) الحامل السكنى والنفقة، لقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ وقوله سبحانه: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ.
وأما البائن غير الحامل أو المطلقة ثلاثا، فاختلف العلماء في سكناها ونفقتها على أقوال ثلاثة تقدم ذكرها، وموجزها كما يلي:
أحدها- وجوب السكنى والنفقة لها: وهو مذهب عمر وابن سعود وكثير من فقهاء الصحابة والتابعين، ومذهب الحنفية والثوري، لقوله تعالى:
أَسْكِنُوهُنَّ فهو أمر بالسكنى لكل مطلقة، ولأن النفقة جزاء الاحتباس لحق الزوج، سواء كانت حاملا أو حائلا. والمقصود بآية وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ دفع توهم ألا نفقة لها لطول مدة الحمل. وقد قال عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ لقول امرأة، لا ندري جهلت أم نسيت. يريد قول فاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها البتة: «لم يجعل لي رسول الله ﷺ سكنى ولا نفقة».
والثاني- ألا نفقة للمبتوتة ولا سكنى: وهو رأي ابن عباس وأصحابه وجابر بن عبد الله وفاطمة بنت قيس وبعض التابعين، وإسحاق وداود وأحمد، لحديث مسلم وغيره المتقدم عن فاطمة بنت قيس حينما طلقها عمرو بن حفص البتة، فلم يفرض لها رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى.
والثالث- للمطلقة البائن بينونة كبري السكنى دون النفقة: وهو مذهب مالك والشافعي، أما السكنى فلقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ وأما عدم النفقة فلمفهوم قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فإن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل مفهوم: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ على أن المطلقة البائن غير الحامل لا نفقة لها.
288
وردّ الجصاص على حديث فاطمة بنت قيس بقوله: وهذا حديث قد ظهر من السلف النكير على راويه، ومن شرط قبول أخبار الآحاد تعريها من نكير السلف، أنكره عمر بن الخطاب على فاطمة بنت قيس، فقال: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ «١».
ثم جمع بين هذا الحديث- على فرض صحته- وبين الآية، فقال:
وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على مذهبنا فيما روته من نفي السكنى والنفقة، وذلك لأنه قد روي أنها استطالت بلسانها على أحمائها، فأمرها بالانتقال، فلما كان سبب النقلة من جهتها، كانت بمنزلة الناشزة، فسقطت نفقتها وسكناها جميعا، فكانت العلة الموجبة لإسقاط النفقة هي الموجبة لإسقاط السكنى «٢».
٢- تحريم مضارة المرأة المطلقة في المسكن والنفقة، كما تحرم الرجعة والطلاق بقصد الضرار، وهو أن يطلقها، فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها.
٣- لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا، أو أقل منهن حتى تضع حملها.
أما الحامل المتوفى عنها زوجها: فقال جماعة من الصحابة كعلي وابن عمر وابن مسعود والتابعين كالنخعي والشعبي وحماد: ينفق عليها من جميع المال أي من التركة حتى تضع. وقال ابن عباس وابن الزبير ومالك والشافعي وأبو حنيفة: لا ينفق عليها إلا من نصيبها،
روى الدارقطني بإسناد صحيح
(١) أحكام القرآن ٣/ ٤٦١
(٢) المرجع السابق ٣/ ٤٦٢ [.....]
289
عنه ﷺ أنه قال: «ليس للحامل المتوفى عنها زوجها نفقة».
٤- إذا أرضعت المطلقات أولاد الزوج، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. ويجوز عند مالك والشافعي للرجل أن يستأجر امرأته للرضاع، كما يستأجر أجنبية. ولا يجوز عند أبي حنيفة الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبنّ أي يصبحن بائنات.
فإذا رضيت الأم أن ترضع ولدها بأجر المثل، فهي أحق به، لوفور شفقتها، فهي أولى بحضانته وإرضاعه من كل أحد، وليس للأب أن يسترضع غيرها في هذه الحالة. وتستحق الأجرة بالفراغ من العمل، لا بالعقد، لأن الله أوجبها بعد الرضاع بقوله: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
٥- دلّ قوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ.. أيضا على أن نفقة الولد الصغير على أبيه، لأنه إذا لزمه أجرة الرضاع، فكفايته ألزم. لذا أجمعوا على ذلك في طفل لا مال له، وألحق به بالغ عاجز عن نفقة نفسه، لخبر هند بنت عتبة فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
٦- على الأزواج والزوجات الائتمار بينهم أو قبول بعضهم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل في الإرضاع والأجر وغيرهما. والجميل من الأم المطلقة إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل من الأب توفير الأجرة للأم للإرضاع.
٧- إن حدث التعاسر أو تضييق بعض الأزواج على بعض في أجرة الرضاع، فأبى الزوج أن يدفع للأم أجرة المثل، أو أبت الأم الرضاع أو تغالت في الأجرة، فليس للزوج إكراهها، وليستأجر مرضعة أخرى غير أمه.
ودلت الآية وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ.. أيضا على أنه إذا طلبت الأم أكثر من أجر
290
المثل، فللأب أن يسترضع غيرها ممن يرضى بأجر المثل، إذا قبل الصبي ثدي المرأة الأخرى، ولم يحصل له ضرر بلبنها، وإلا أجبرت الأم على إرضاعه بأجرة المثل.
فإن اختلفا في الأجرة: فإن دعت الأم إلى أجر مثلها، وامتنع الأب إلا تبرعا، فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعا. وإن دعا الأب إلى أجر المثل، وامتنعت الأمّ لتطلب شططا، فالأب أولى به. فإن أعسر الأب بأجرتها، أخذت جبرا برضاع ولدها.
٨- على الزوج الإنفاق على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه وطاقته، فإن كان غنيا موسرا أنفق نفقة الأغنياء، وإن كان فقيرا أنفق نفقة الفقراء.
وتقدر النفقة بحسب حالة المنفق وحاجة المنفق عليه بالاجتهاد على وفق العرف والعادة، في رأي المالكية. وقال الإمام الشافعي: النفقة مقدّرة محدّدة، ولا اجتهاد لحاكم أو لمفت فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده يسرا وعسرا، ولا يعتبر بحالها وكفايتها، فإن كان الزوج موسرا لزمه مدّان، وإن كان متوسطا فمدّ ونصف، وإن كان معسرا فمدّ، لقوله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ الآية، وقوله سبحانه: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة ٢/ ٢٣٦]، فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها، ولأن مراعاة كفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره، فتقع الخصوصة، لأن الزوج يدّعي أنها تطلب فوق كفايتها، وهي تزعم أن ما تطلبه قدر كفايتها، فجعلت مقدرة قطعا للخصومة.
وأدلة المالكية على تقدير النفقة بحسب حال الزوجين معا عرفا وعادة قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة ٢/ ٢٣٣]،
وقوله ﷺ في الصحيحين لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
وفي صحيح مسلم أنه ﷺ قال في خطبة الوداع: «واتقوا الله في
291
النساء، فإنكم أخذتموهن بسنة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»
ففي الحديثين إحالة على الكفاية، ولم يقل عليه الصلاة والسلام للأم في حديث هند: لا اعتبار بكفايتك، وأن الواجب لك شيء مقدر.
٩- آية لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد، دون الأمّ، خلافا لمحمد بن الموّاز يقول: إنها على الأبوين على قدر الميراث.
وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «تقول لك المرأة: أنفق علي وإلا فطلّقني، ويقول لك العبد: أنفق علي واستعملني، ويقول لك ولدك: أنفق عليّ، إلى من تكلني».
١٠- قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها دليل على أنه لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني، وعلى أنه لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة، لأنه تضمن عدم التكليف بالإنفاق في حال العجز، فلا يجوز إجباره على الطلاق من أجل النفقة، لأن فيه إيجاب التفريق لشيء لم يجب عليه.
وكذلك قوله تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً يدل على أنه لا يفرق بين الزوجين من أجل عجزه عن النفقة، لأن العسر يرجى له اليسر، وسيجعل الله بعد الضيق غنى، وبعد الشدّة سعة، كما قال تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ، فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة ٢/ ٢٨٠]. وهذا مذهب الحنفية ورواية عن أحمد.
والقول بالفسخ للإعسار بالنفقة مذهب مالك وأظهر قولي الشافعي ورواية أخرى عن أحمد، بدليل خبر الدارقطني والبيهقي في الرجل لا يجد شيئا ينفق على امرأته: يفرّق بينهما. ولأنه شرع الفسخ بالعنّة لإزالة الضرر، والضرر الذي يلحق المرأة بعدم النفقة أشد من ضررها بالعنة، فكان الفسخ بالعجز عن النفقة أولى من الفسخ بالعنة.
292
ودلت الآية: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ.. أيضا على أنه ينبغي للإنسان مراعاة حال نفسه في النفقة والصدقة،
جاء في الحديث: «إن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا، إذا هو سبحانه وسّع عليه وسّع، وإذا هو عز وجل قتّر عليه قتّر» «١».
وعيد المخالفين ووعد الطائعين والتذكير بقدرة الله
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٨ الى ١٢]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)
الإعراب:
الَّذِينَ آمَنُوا نعت للمنادى أو بيان له.
قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَسُولًا رَسُولًا: منصوب بأحد خمسة أوجه: إما منصوب ب ذِكْراً على أنه مصدر، أي: أن اذكر رسولا، كانتصاب يَتِيماً في قوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً [البلد ٩٠/ ١٤- ١٥] أي أن أطعم يتيما، أو منصوب بفعل مقدر، أي وأرسل رسولا، أو بتقدير: أعني، أو أن يكون بدلا من ذِكْراً ويكون رَسُولًا بمعنى رسالة، وهو بدل الشيء من الشيء نفسه، أو منصوب على الإغراء، بتقدير:
اتبعوا رسولا.
(١) تفسير الألوسي: ٢٨/ ١٤٠
293
مُبَيِّناتٍ حال من اسم الله أو صفة رسولا. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ مبتدأ وخبر.
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ مِثْلَهُنَّ: إما منصوب بتقدير فعل أي: من الأرض خلق مثلهن، وليس منصوبا بفعل خَلَقَ المتقدم لئلا يقع الفصل بين واو العطف والمعطوف بالجار والمجرور. أو مرفوع بالظرف أو على الابتداء، أو الخبر مع خلاف فيه. لِتَعْلَمُوا اللام إما تتعلق ب يَتَنَزَّلُ أو تتعلق ب خَلَقَ.
البلاغة:
فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً، وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً، فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها تكرار الوعيد للترهيب.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ مجاز مرسل، أي أهل قرية، من إطلاق المحل وإرادة الحالّ.
لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ استعارة، استعار الظلمات للكفر والضلال، والنور للهدى والإيمان.
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً هذه الآيات فيما سبق من السورة سجع بديع غير متكلف.
المفردات اللغوية:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي وكثير من أهل قرية، وَكَأَيِّنْ: كاف الجرّ دخلت على «أي» بمعنى «كم». عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها عصت وأعرضت أو تجبرت وتكبرت، المراد عتى أهلها.
فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً بالاستقصاء والمناقشة، والحساب في الآخرة، وعبر عنها بالماضي وإن لم تجئ لتحقق وقوعها. عَذاباً نُكْراً عذابا منكرا عظيما وهو عذاب النار.
فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها عاقبة عتوها وكفرها ومعاصيها. وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي خسارة وهلاكا، وهي خسارة لا ربح فيها أصلا. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً تكرار الوعيد للتوكيد. أُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول. قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً أي قرآنا. رَسُولًا أي وأرسل محمدا ﷺ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الذين آمنوا بعد إنزال الذكر ومجيء الرسول صلى الله عليه وسلم. مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من الكفر والضلالة إلى الإيمان والهدى.
قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً هو رزق الجنة التي لا ينقطع نعيمها، وفيه تعجب وتعظيم لما رزقوا من الثواب. وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي وخلق مثلهن في العدد من الأرض، يعني سبع
294
أرضين. يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي يجري أمر الله وقضاؤه بينهن، وينفذ حكمه فيهن.
لِتَعْلَمُوا متعلق بمضمر يعم كلّا من الخلق والتنزيل فإن كلّا منهما يدل على كمال قدرته وعلمه، فهو علة للأمرين.
المناسبة:
بعد بيان أحكام الطلاق والعدة وما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى، والنهي عن تجاوز حدود الله، أنذر الله تعالى وتوعد كل من خالف أمره وكذب رسله عليهم السلام، بعقاب مماثل لعقاب الأمم الخالية التي كفرت وكذبت رسلها، ثم أردف ذلك بالتذكير بعظيم قدرته وإحاطة علمه، للحث على التزام الأوامر والعمل بالشريعة والأحكام، فكانت الآيات تحذيرا من مخالفة الأمر بعد بيان الأحكام.
التفسير والبيان:
توعد الله تعالى كل من خالف أمره وكذّب رسله، وسلك غير ما شرعه، وأخبر عما حلّ بالأمم السالفة بسبب ذلك، فقال:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ، فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي وكثير من أهل القرى عصوا أمر الله ورسله، وأعرضوا وتكبروا وتمردوا عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله، حاسبها الله بأعمالها التي عملتها في الدنيا، وعذب أهلها عذابا عظيما منكرا في الآخرة، وفي الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف.
وعبّر بقوله: فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها بالماضي عن المستقبل في الآخرة للدلالة على التحقق والوقوع لوعيد الله، مثل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل ١٦/ ١]، وقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الزمر ٣٩/ ٦٨]، وقوله:
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الأعراف ٧/ ٤٤]، ونحو ذلك.
295
ثم أخبر عن سبب العذاب، فقال:
فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها، وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي لقيت شدة أمرها وعقوبة كفرها، وكان مصيرها الخسران والهلاك والنكال في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فخسروا أنفسهم وأموالهم وأهلهم.
ثم أكّد الوعيد بقوله:
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً أي هيأ الله لهم عذابا شديد الوقع والألم لكفرهم وعتوهم وتمردهم، وهو عذاب النار.
ثم ذكر الله تعالى العبرة من الإنذار والوعيد وهي حث المؤمنين على التقوى، فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي فخافوا عقاب الله يا أصحاب العقول الراجحة، والأفهام المستقيمة، فلا تكونوا مثلهم، فيصيبكم مثلما أصابهم.
ثم أوضح لهم ما يذكّرهم بنحو دائم، فقال:
الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ، لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي فاتقوا الله يا أولي العقول من هذه الأمة الذين صدقوا بالله ورسله، وأسلموا الله، واتبعوا رسولهم محمدا صلى الله عليه وسلم، قد أنزل الله إليكم ذكرا دائما وهو القرآن العظيم، وأرسل إليكم رسولا بهذا القرآن، فهو الترجمان الصادق، وهو الذي يبلّغكم وحي الله، ويقرأ عليكم كلام الله وآياته في حال كونها بيّنة واضحة جلية، يبيّن فيها للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام، ليخرج الله بالآيات والرسول الذين آمنوا بالله ورسله، وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، ومن ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
ثم أكرمهم ورغّبهم ببيان جزاء الإيمان والعمل الصالح، فقال:
296
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً، يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً أي ومن يصدق بالله، ويعمل العمل الصالح، فيجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه، يدخله جنات، أي بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها أبدا على الدوام، وقد وسّع الله له رزقه في الجنة.
ثم نبّه عباده إلى عظيم قدرته وإحاطة علمه، فقال:
١- اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي إن الله هو الذي أبدع السموات السبع، والأرضين السبع، أي سبعا مثل السموات السبع، يتنزل أمر الله وقضاؤه وحكمه ووحيه من السموات السبع إلى الأرضين السبع، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [الملك ٦٧/ ٣].
وثبت في الصحيحين: «من ظلم قيد شبر من الأرض، طوّقه من سبع أرضين»
وفي صحيح البخاري: «خسف به إلى سبع أرضين»
وفي البخاري وغيره أيضا: «اللهم ربّ السموات السبع وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن».
وروى ابن مسعود أن النّبي ﷺ قال: «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي، إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة».
وقال قتادة: في كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه.
٢- لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً أي فعل ذلك، فخلق السموات والأرض وأنزل قضاءه وأمره فيهما، لأجل أن تعلموا كمال قدرته، وإحاطة علمه بجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه شيء
297
منها كائنا ما كان، فاحذروا المخالفة، واعتبروا بمصير الأمم السابقة، فإن الله عالم بأعمالكم كلها، وسيجازيكم عليها.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- حذر الله سبحانه من مخالفة أوامره، من طريق بيان عتو قوم وحلول العذاب بهم، فكثير من أهل القرى الظالمة التي عصت أمر الله ورسله، جازاهم بالعذاب في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف وسائر المصائب، وسيحاسبهم في الآخرة حسابا شديدا، ويعذبهم عذابا منكرا عظيما.
فذاقوا عاقبة كفرهم، وكان عاقبة أمرهم الهلاك والخسران في الدنيا بما ذكر، وفي الآخرة بجهنم.
وقد بيّن الله تعالى نوع الخسر وهو أنه عذاب جهنم في الآخرة.
٢- أمر الله بالتقوى عن الكفر به وبرسوله، وجعل الأمر خطابا لأهل العقول الراجحة، وللمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، والذين أنزل عليهم القرآن، وأرسل لهم الرسول محمدا ﷺ الذي يتلو عليهم الآيات البينات الواضحات التي تبين ما يحتاج إليه الناس من الأحكام والشرائع.
والتقوى: الخوف من الله والعمل بطاعته، والانتهاء عن معاصيه. والغاية السامية من التقوى والإيمان والعمل الصالح هي الخروج من الكفر والضلالة إلى الهدى والنور.
٣- الدليل على كمال قدرة الله تعالى، وأنه يقدر على البعث والحساب هو خلق السموات والأرض، والدليل على إحاطة علم الله تعالى بكل شيء: علمه بجميع أحوال أهل السماء وأهل الأرض، وتدبير الكون، وتنزيل الأمر فيهم،
298
وإنفاذ القضاء والحكم والوحي في شؤونهم، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته، وهو القادر على مجازاة جميع مخلوقاته، ولا يعلم أجرام السماء ولا تلك الأحكام ولا كيفية تنفيذها في المخلوقات إلا علام الغيوب.
ولا خلاف في أن السموات سبع، بعضها فوق بعض، كما دلّ حديث الإسراء وغيره، واختلفوا في الأرض، فقال الجمهور: إنها سبع أرضين طباقا، بعضها فوق بعض، ولعل ذلك طبقات الأرض، لقوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي سبعا من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق أو فرجة، وللأحاديث الصحيحة المتقدمة مثل
الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن عائشة وسعيد بن زيد: «من ظلم قيد شبر من الأرض، طوّقه من سبع أرضين».
وقيل: إنها أرض واحدة، وأن المماثلة ليست في العدد، وأن المماثلة في العدد، وإنما هي في الخلق والإبداع والإحكام. والرأي الأول أصح وأظهر، كما قال القرطبي وغيره من كبار المفسرين القدامى والمعاصرين، لأن الأخبار دالّة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما.
299

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة التحريم
مدنيّة، وهي اثنتا عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة «التحريم»، لتحريم النبي ﷺ شيئا على نفسه، وافتتاح السورة بعتابه على سبيل التلطف في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ...
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة:
١- افتتاح السورتين كلتيهما بخطاب النّبي صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ.
٢- اشتراك السورتين في الأحكام المخصوصة بالنساء، فالأولى سورة الطلاق في بيان أحكام الطلاق والعدة وحقوق المعتدة وحسن المعاشرة، وهذه السورة في موقف بعض نساء النّبي ﷺ وكيفية معاملة النّبي ﷺ لهنّ بالحسنى واللين والنصح.
٣- إن سورة الطلاق المتقدمة في تحريم ما أحل الله بالطلاق، وإنهاء خصومة بعض نساء الأمة، وهذه السورة في تحريم ما أحل الله من نوع آخر بالإيلاء، وإنهاء خصومة نساء النّبي صلى الله عليه وسلم، وإفرادها بأحكامهن تعظيما لهن، لذا ختمت بذكر زوجته في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران.
300
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المدنية تتضمن بعض أحكام التشريع الخاصة بأمهات المؤمنين لتكون نموذجا يحتذي لجميع الأمة.
ابتدأت السورة بعتاب لطيف للنّبي ﷺ على تحريمه على نفسه شيئا مباحا وهو العسل كما ثبت في الصحيح إرضاء لبعض أزواجه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ.. الآية.
ثم وجّهت العتاب لبعض أزواج النبي لإفشائهن السرّ حين أسرّ النبي ﷺ إلى زوجته حفصة، فأخبرت به عائشة، مما أغضب النّبي صلى الله عليه وسلم، وهمّ بتطليق أزواجه، وهدّدهن الله بإبداله أزواجا خيرا منهن: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ...
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ...
وناسب هذا التذكير باتقاء أهل بيت الإيمان النار والترهيب من الجزاء، وبالتوبة النصوح، وبجهاد الكفار والمنافقين من غير انشغال بأحوال البيت والأسرة من أزواج وأولاد.
وختمت السورة بضرب مثلين عظيمين: أحدهما للكافرين، والثاني للمؤمنين، والأول مثل الزوجة الكافرة: امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام، عند الرجل المؤمن الصالح، والثاني مثل الزوجة المؤمنة: امرأة فرعون، عند الرجل الكافر الفاجر، ومثل المرأة الحرة التقية البتول في غير عصمة أحد، تنبيها للناس على وجوب اعتماد الإنسان على نفسه، وأنه لا يغني في الآخرة أحد عن أحد، ولا ينفع حسب ولا نسب إذا ساء العمل.
301
Icon