وآياتها ثمان وعشرون
كلماتها : ٢٨٥ ؛ حروفها : ٧٥٩
ﰡ
﴿ قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن ﴾
يأمر الله تعالى نبيه أن يبلغ الناس أن ربه يسر لجماعة من الجن أن يستمعوا إلى شيء مما يقرؤه النبي من القرآن، بدليل قول الله تعالى في سورة الأحقاف :﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن.. ﴾١ والجن خلق من خلق الله- سبحانه- أقدرهم سبحانه على التشكل بأشكال مختلفة.
﴿ فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ( ١ ) ﴾.
فحين استمع الجن للقرآن عظموه وقدسوه وقالوا إنا سمعنا قرآنا عجيبا في فصاحة كلامه، ولا يوجد مثله.
يهدي إلى الحق ومراشد الأمور ؛ و﴿ يهدي ﴾ في موضع الصفة أي هاديا.
﴿ فآمنا به ﴾
فاهتدينا به وصدقنا أنه من عند الله، والفاء للترتيب باتصال، أي بمجرد السماع آمنا دون تأخر، والباء للسببية.
﴿ ولن نشرك بربنا أحدا ( ٢ ) ﴾
حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد ؛ أو لن نرجع إلى إبليس ولن نطيعه، ولن نتخذ مع الله إلها آخر.
فتحت همزة ﴿ وأنه ﴾ للعطف على محل الجار والمجرور في ﴿ آمنا به ﴾ كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا.
والجد في اللغة : العظمة والجلال، أو الذكر والجاه ؛ أي : تعالت عظمة الله ربنا وجلاله، وعظم مقامه.
﴿ ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ( ٣ ) ﴾.
تنزه الله وتقدس عن اتخاذ الزوجة والأولاد.
هو إبليس- عند الجمهور- وقيل مردة الجن- الشياطين- والإضافة للجنس، والمراد سفهاؤنا ؛ وفتحت همزة ﴿ وأنه ﴾ للعطف على محل الجار والمجرور في ﴿ آمنا به ﴾ كما أسلفنا في تفسير الآية السابقة.
﴿ على الله شططا ( ٤ ) ﴾
أي باطلا وزورا، وقولا ذا شطط أي بعد عن القصد، ومجاوزة للحد.
اعتذار منهم عن تقليدهم لسفيههم، أي كنا نظن أن لن يكذب على الله أحد فينسب إليه سبحانه الصاحبة والولد ؛ و﴿ كذبا ﴾ مصدر مؤكد ل ﴿ تقول ﴾ لأنه نوع من القول.
فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك.
كان بعض الناس إذا نزل واديا قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه.
﴿ فزادوهم رهقا ( ٦ ) ﴾
زاد الجن الإنس رهقا أي خطيئة وإثما حيث كان تجبر الجن سببا في تعوذ الناس بهم ؛ أو حين رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم ازدادوا عتوا وتكبرا وزادوهم خوفا ورعبا وإرهاقا.
﴿ وأنهم ﴾ أي الجن حسبوا كما حسبتم أيها الناس أنه ليس بعد الموت من حياة، أو ظنوا كظنكم أن الله لن يرسل رسولا في تلك المدة ؛ وتكون هذه الآية معطوفة قوله على سبحانه :﴿ قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن ﴾.
هذا من قول الجن، أي طلبنا بلوغها لسماع كلام أهلها فصادفناها وقد أحاط بها حرس كثير من الملائكة.
و﴿ حرسا ﴾ اسم جمع- كخدم- كما رصدت الشهب تلاحق كل من يتسمع إلى الملأ الأعلى، كما قال المولى تبارك اسمه :﴿ وحفظا من كل شيطان مارد. لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب ﴾١.
والشهب جمع شهاب كما يجمع كتاب على كتب.
كنا قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم نسترق السمع ونخطف بعض ما تتحدث به الملائكة في السماء وكنا نرمي بالشهب أحيانا، أما بعد إرسال هذا الرسول فمن يحاول الاقتراب للتسمع يُقذف ويُطرد أو يهلك ؛ يقول المفسرون بالمأثور : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
و﴿ رصدا ﴾ أي حفاظا من الملائكة وحراسا، تقذف من يتسلل نحوها من الشياطين ﴿ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب. وحفظا من كل شيطان مارد ﴾١.
هل أراد الله بهذا التشديد في حفظ السماء وصونها عن أن يقترب منها شيطان- هل أراد بذلك الشر لسكان الأرض ؟ ! أو أنه مقدمة لعذاب ينزله عليهم ؟
﴿ أم أراد بهم ربهم رشدا ( ١٠ ) ﴾
أم : أن الله قضى لهم الخير فبعث إليهم رسولا.
أو : لا ندري أشر أريد بأهل الأرض بإرسال محمد إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا ؟ !
قال بعض الجن لبعض : كنا قبل استماع القرآن منا أهل صلاح ومنا دون الصالحين، كان فينا من يصلح شأنه وعمله ويميل إلى الخير بطبعه، وفينا من هو أقل من ذلك.
﴿ كنا طرائق قدادا ( ١١ ) ﴾
كنا فرقا شتى، وأهواء متباينة.
و﴿ قدادا ﴾ جمع قدة، وأصلها من قد السيور.
الظن هنا بمعنى العلم واليقين ؛ ومثل هذا جاء في قول الله تبارك اسمه :﴿ إني ظننت أني ملاق حسابية ﴾١ فهو مما يقول أهل السعادة حين يؤتون كتبهم بأيمانهم، وحاشا أن ينجو من العذاب من لم يوقن بالبعث، وبهذا شهد القرآن الكريم على بعض أصحاب الجحيم :﴿ وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين. وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا.. ﴾٢ فكأن المعنى : علمنا بالتفكر في آيات الله أنا في قبضته وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره.
و﴿ هربا ﴾ مصدر في موضع الحال، أي هاربين.
مهما أمعنا في الهرب فإنه قادر علينا لا يعجزه أحد منا فأي أقطار الأرض نأوي إليه فإنه في قبضته، والسماوات مطويات بيمينه.
٢ - سورة الجاثية. الآيتان: ٣٢، ٣٣ ومن الآية ٣٤..
يشهدون الله أنهم حين سمعوا القرآن آمنوا به وصدقوا بكلماته واستيقنوا.
و﴿ هدى ﴾ من أسماء القرآن الكريم، يقول المولى العليم الحكيم :﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ﴾ ويقول سبحانه :﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء.. ﴾. ١
﴿ فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ( ١٣ ) ﴾
من يستيقن بالله تعالى وكلماته ورسالاته فلا يخاف أن ينتقص من جزائه ولا أن يؤاخذ بما لم يفعل ﴿ .. ولا يظلم ربك أحدا ﴾٢ ولن تغشاه ذلة، كما شهد الكتاب العزيز :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة.. ﴾٣.
٢ - سورة الكهف. من الآية ٤٩..
٣ - سورة يونس. من الآية ٢٦..
من فعل القرآن الكريم في نفوس الجن بعد سماعه أن افترقوا فمنهم من أسلم وأذعن للحق واستقام، ومنهم من زاد عوجا وجار عن قصد السبيل، وهكذا يفعل :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾١.
﴿ فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ( ١٤ ) ﴾
فالذين أسلموا قصدوا طريق السداد والتزموا منهاج السلامة والرشاد في الدنيا ويوم المعاد ؛ واسم الإشارة :﴿ فأولئك ﴾ للجماعة أشير به إلى الموصول قبله ﴿ فمن ﴾ وإنما جمع لأن المعنى : فأما المسلمون.
الجائرون عن الحق والعدل قاسطون مائلون عن الإيمان فجزاؤهم في الآخرة حريق النار، وهم وقودها.
هذا ومعنى [ قسط ] على العكس من معنى [ أقسط ] فبينما القاسطون يجعلهم الله وقود جهنم تسعر بهم، فإن المقسطين المنصفين يستأهلون النعيم، يقول الله سبحانه ﴿ .. وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ﴾١ فالقاسط عادل عن الحق، والمقسط عادل إلى الحق، إذ قسط بمعنى جار، وأقسط بمعنى عدل.
هذا من قول الله تبارك اسمه، ووعد منه لا يخلف وكأنه معطوف على ما بعد ﴿ أوحى ﴾ فكأن التقدير : أوحى إلى أنه استمع نفر.. وأوحى إلى أن لو استقام الكفار الجائرون لوسعنا عليهم وبسطنا لهم في معايشهم، والغدق : الواسع الكثير- وكانوا قد منعوا المطر سبع سنين- وإذا سقاهم الله تعالى ماء السماء شربوا وحييت أنعامهم وأينعت زروعهم، ومثله بشرى القرآن الكريم :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض.. ﴾١.
لنختبرهم فيما وسعنا به عليهم هل سيشكرون الله المنعم ؟ لنعاملهم معاملة المختبر ؛ والذين يعرضون عن شكر الله وعبادته يدخلهم عذابا شاقا شديدا.
معطوف على قوله سبحانه :﴿ قل أوحي إلى أنه... ﴾ وأوحى إلي أن المساجد لله بنيت لذكر ربنا العظيم وعبادته- والأرض كلها في الإسلام صالحة للصلاة، فأينما كنا صلينا، وأينما صلينا فهو مسجد- وفي الحديث الصحيح :(.. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا.. ) فلا تشركوا فيها صنما ولا غيره مما يعبد من دون الله.
وفي هذا توبيخ للمشركين في نصب الأصنام ودعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام ؛ واليهود والنصارى الذي يدخلون بيعهم وكنائسهم فيشركون فيها بالله.
معطوف على الآية الكريمة الأولى :﴿ قل أوحي إلي أنه.. ﴾ أي : لما قام محمد يقرأ كتاب الله تزاحمت الجن وتجمعت حوله صلى الله عليه وسلم وكادوا وأوشكوا أن يسقطوا فوق بعضهم حرصا على سماع القرآن. و﴿ لبدا ﴾ جماعات.
وروي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير : تلبّدت- تجمّعت- الإنس والجن على هذا الأمر – الإسلام- ليطفئوه فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر كل من يتذكر أنه ليس إلا عبدا لله القوي، يفرده وحده بالعبادة، لا يبتغي بها إلا وجهه ورضاه، وهذا هو لب دين الله ؛ فربنا تبارك اسمه هو المعبود وهو الولي ونعم الوكيل.
هذا بلاغ لكل من يعقل أن النبي الكريم عليه الصلوات والتسليم لا يملك للخلق ضرا ولا نفعا، ولا غيا ولا رشدا، ولا شقاء ولا نعيما، إنما الأمر كله لله.
أخبر كل من تبلغه الدعوة أنك إن عصيت فلن ينقذك أحد مني ولن يحول بينك وبيني، ولن تجد لك نصيرا ولا ملجأ، ولا وليا ولا موئلا، ولا حرزا ولا مسلكا، ولا منحرفا أو معدلا.
لكن إن بلغت أمانات ربي وكلماته ورسالاته أجارني ورحمني ؛ ولن أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع ؛ ومن يعص الله ورسوله في الأمر بالتوحيد فإنه سيخلد في عذاب النار ؛ و﴿ خالدين ﴾ حال، وجمعها مع أن صاحب الحال ﴿ من ﴾ مفرد اللفظ لأن معناها الجمع، فكأن التقدير : والذين يعصون الله ورسوله لهم نار جهنم خالدين فيها. و﴿ أبدا ﴾ أي : بلا نهاية. ﴿ .. وما هم منها بمخرجين ﴾١.
كان الكفار يستضعفون النبي صلى الله عليه وسلم ويستقلون عدد من اتبعه و﴿ حتى ﴾ ابتدائية، و﴿ إذا ﴾ شرطية، فكأن المعنى : حين يرون ما وعدهم الله من العذاب يتبين لهم أن المستضعف من هو ؟. أهم أم المؤمنون ؟. بل المشركون لا ناصر لهم، والشيطان وليهم يخذلهم كما أخبر الله العليم :﴿ .. ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي.. ﴾١ لا أملك غوثكم، ولا تستطيعون غياثي وهم أقل عددا من جند الله العزيز :﴿ .. ولله جنود السماوات والأرض.. ﴾٢.
٢ - سورة الفتح. من الآية ٤..
﴿ إن ﴾ نافية بمعنى ما، والذي وعدوه : العذاب عاجلا في الدنيا أو آجلا في الآخرة، و﴿ أمدا ﴾ أي غاية وأجلا، وزمانا بعيدا ؛ وفيه تأكيد أن وعد الله آت لا ريب فيه، لكن وقت حلوله ومجيئه لم يوح إلي به.
أل في ﴿ الغيب ﴾ للاستغراق، فكأن المعنى : الله جل علاه يعلم كل ما غاب ولا يطلع أحدا على مكنون تلك الغيوب، والمراد بالإظهار المنفي : الاطلاع الكامل الذي تنكشف به جلية الحال على أتم وجه كما يرشد إليه حرف الاستعلاء ﴿ على ﴾.
لكن الرسول المرتضى يظهره جل وعلا على بعض الغيوب المتصلة برسالته بما يأتيه من وحي الله تبارك اسمه، وعند إطلاعه على شيء من الغيب يحوطه سبحانه بحرس من ملائكته الكرام عليهم السلام يحرسونه من تعرض الشياطين لما أريد إطلاعه عليه.
يحفظ الله تعالى رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي ليعلم – أي ليظهر أثر علمه- أن قد أبلغوا رسالات ربهم، وأحاط بما عندهم وأحصاهم فردا فردا، وعد كل شيء عددا.