تفسير سورة الضحى

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الضحى من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ قال ابنُ عبَّاس وقتادةُ :" لَمَّا سَأَلَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ ذِي الْقَرْنَينِ، وَأصْحَاب الْكَهْفِ، قَالَ لَهُمْ :" سَأُخْبرُكُمْ غَداً " وَلَمْ يَقُلْ : إنْ شَاءَ اللهُ، فَاحْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنْهُ وَأبْطَأَ عَنْهُ جِبْرِيلُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لِتَرْكِهِ الاسْتِثْنَاءَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ : إنَّ مُحَمَّداً وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلاَهُ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ تَكْذِيباً لَهُمْ، وَأقْسَمَ ببَيَاضِ النَّهَار وَسَوَادِ اللَّيْلِ أنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُوَدِّعْهُ وَلَمْ يُقِلْهُ ".
وفيه إضمارٌ تقديرهُ : ورب الضُّحى وهو النهار كلُّه، وقال بعضُهم : ساعةُ ارتفاعِ الشَّمس على ما هو المعهودُ من الكلامِ. وقولهُ تعالى ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ أي إذا أظلمَ، واشتدَّ ظلامهُ حتى يسترَ الأشياءَ كلَّها بالظلامِ، ومنه قولُهم : فلانٌ يُسْجَى بثوبهِ ؛ أي مُغطَّى، ومنه قولُهم : سَجَى قبرَ المرأةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : إذا سكَنت الأشياءُ فيه، ومن ذلك : بحرٌ سَاجٍ ؛ أي ساكنٌ، ويقالُ : بلدٌ ساجِية إذا كان أهلُها في سكونٍ، وكذلك طريقٌ ساجٍ ؛ أي آمنٌ، قال الشاعرُ : أنَا ابْنُ عَمِّ اللَّيْلِ وَابْنُ خالِِهِ إذا سَجَى دَخَلْتُ فِي سِرْبَالِهِقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ أي ما تركَكَ منذُ اختارَكَ، ولا بغَضَكَ منذ أحبَّكَ، وهذا جوابُ القسَمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى ﴾ ؛ أي لثوابُ الآخرةِ مما أعدَّهُ اللهُ لكَ فيها من الكرامةِ والمقامِ المحمود خيرٌ من الدُّنيا التي هي مشوبةٌ بالأحزانِ والزَّوالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ ؛ معناهُ : سيُعطيكَ خالقُكَ في الآخرةِ من الشَّفاعة، وثواب الطاعةِ حتى ترضَى. ويجوزُ أن يكون هذا وعْداً له مِن الله بالنُّصرة والتمكينِ وكثرةِ المؤمنين.
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ :((رضَى مُحَمَّدٌ أنْ لاَ يَدْخُلَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ النَّارَ)). وَقِيْلَ : الشفاعةُ في جميعِ المؤمنين، وعن عليٍّ رضي الله عنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" أشْفَعُ لأُمَّتِي حَتَّى يُنَادِي رَبي عَزَّ وَجَلَّ : أرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَأَقُولُ : رَضِيتُ ".
وعن جعفرَ بن مُحَمَّدٍ قال :" دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى فَاطِمَةَ وَهِيَ تَطْحَنُ بيَدِهَا وَتُرْضِعُ وَلَدَهَا، فَلَمَّا أبْصَرَهَا كَذلِكَ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ :" يَا بنْتَاهُ تَعَجَّلِي فَتَجَرَّعِي مَرَارَةَ الدُّنْيَا بحَلاَوَةِ الآخِرَةِ، فَقَدْ أنْزَلَ اللهُ عَلَيَّ ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ " وعن ابنِ عبَّاس : قالَ :((يُعْطِيهِ اللهُ فِي الْجَنَّةِ ألْفَ قَصْرٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ تُرَابُهُ الْمِسْكُ، فِي كُلِّ قَصْرٍ مِنْ كُلِّ مَا يُشْتَهَى عَلَى أحْسَنِ الصِّفَاتِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾ ؛ عدَّدَ عليه نِعَمَهُ الموصولةُ إليه من صِغَرهِ إلى كِبَره، والمعنى : ألَمْ يَجِدْكَ يَتيماً عن أبيكَ فضمَّكَ إلى أبي طالبٍ، وربَّاكَ في حِجرهِ، وفضَّلَكَ على أولادهِ، وقد كان أبوهُ ماتَ وهو في بطنِ أُمِّه، وماتت أمُّه وهو ابنُ سَنتين، وماتَ جدُّه وهو ابنُ ثَماني سنين.
وقولهُ تعالى :﴿ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى ﴾ ؛ أي ضَالاً عن علمِ النبوَّة، وأحكامِ الشَّريعة غافلاً عنها، فهداكَ إليها، دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾[يوسف : ٣]، وقولهُ تعالى :﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ﴾[الشورى : ٥٢]. ولا يجوزُ أن يقالَ في معناهُ : إنه عليه السلام كانَ على دينِ قَومهِ، فهداهُ الله ؛ لأنه تعالى لا يختارُ للرِّسالةِ مَن كفرَ.
وَقِيْلَ : معناهُ : أنَّ النبي ﷺ كان ضَلَّ في صِغَره عن قومهِ في شِعاب مكَّة، فوجدَهُ أبو لَهب فردَّهُ على جدِّهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وجدَكَ ضَائعاً بين قومٍ ضوَالٍّ لا يعرِفون حُرمَتك، فهدَاهُم اللهُ تعالى إلى معرفةِ قَدركَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى ﴾ أي ووجدَكَ فَقيراً فأغناكَ بمالِ خديجةَ والغنائمِ، وذلك أنَّها كانت تبذلُ مالَها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. والعَيْلَةُ في اللغة : الفقرُ، يقالُ : عالَ الرجلُ إذا كثُرَ عيالهُ وافتقرَ، قال الشاعرُ : وَمَا يَدْري الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ وَمَا يَدْري الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُوحذفَ الكاف من قولهِ تعالى (فآوَى، فَأَغْنَى، فَهَدَى) لمشاكَلة رؤوسِ الآيِ ؛ ولأن المعنى معروفٌ، قال مقاتلُ :" وَكُلُّ فَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الْفُصُولِ قِرَاءَةُ جِبرِيلَ عليه السلام عَلَى النَّبيِّ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ :" بَلَى يَا رَب " ثُمَّ قَالَ :" يَمُنُّ عَلَيَّ رَبي وَهُوَ أهْلُ الْمَنِّ، يَمُنُّ عَلَيَّ رَبي وَهُوَ أهْلُ الْمَنِّ " ".
وعنه ﷺ قَالَ :" سَأَلْتُ رَبي مَسْأَلَةً وَدَدْتُ أنِّي لَمْ أسْأَلْهَا قَطُّ، قُلْتُ : يَا رَب اتَّخَذْتَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيماً، وَسَخَّرْتَ لِدَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبحْنَ، وَأعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ كَذا وَكَذا.
فَقَالَ اللهُ تَعَالَى : ألَمْ أجِدْكَ يَتِيماً فآوَيْتُكَ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَب، قَالَ : ألَمْ أجِدْكَ ضَالاً فَهَدَيْتُكَ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَب، قَالَ : ألَمْ أجِدْكَ عَائِلاً فَأَغْنَيْتُكَ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَب، قَالَ : ألَمْ أشْرَحَ لَكَ صَدْرَكَ ؟ قُلْتُ بَلَى يَا رَب، قَالَ : ألَمْ أرْفَعَ لَكَ ذِكْرَكَ فلاَ أُذْكَرُ إلاَّ وَتُذْكَرُ مَعِي ؟ قُلْتُ بَلَى يَا رَب، قَالَ : ألَمْ أُؤْتِكَ مَا لَمْ أُوْتِ نَبيّاً قَبْلَكَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَب، قَالَ : ألَمْ اتَّخِذْكَ حَبيباً كَمَا اتَّخَذْتُ إبْرَاهِيمَ خَليلاً ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَب ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ ﴾ ؛ وهذا حثٌّ للنبيِّ ﷺ على محاسنِ الأخلاقِ ليقتَدي به الناسُ، ويجِدُّوا في سُلوكِ طريقتهِ. ومعنى قهرِ اليتيم : أنْ يقهرَهُ على مالهِ، وأن يظلمَهُ بقولٍ أو فعلٍ. وفي قراءةِ ابن مسعودٍ (فَلاَ تَكْهَرْ) بالكافِ، ومعناه : الزجرُ والاتعاظُ. وتخصيصُ اليتيمِ لأنه لا ناصرَ له غيرُ اللهِ. وفي الحديث :" اتَّقُوا ظُلْمَ مَنْ لاَ نَاصِرَ لَهُ غَيْرُ اللهِ ".
وعن النبيِّ ﷺ أنه قالَ :" مَنْ ضَمَّ يَتِيماً فَكَانَ فِي مُؤْنَتِهِ وَنَفَقَتِهِ كَانَ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّار يَوْمَ الْقِيَِامَةِ، وَمَنْ مَسَحَ برَأسِ يَتِيمٍ كَانَ لَهُ بكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ " وقال ﷺ :" إنَّ اليَتِيمَ إذا بَكَى اهْتَزَّ لِبُكَائِهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، فَيَقُولُ اللهُ : يَا مَلاَئِكَتِي مَنْ أبْكَى هَذا الْيَتِيمَ الَّذِي غَيَّبْتُ أبَاهُ فِي التُّرَاب ؟ فَتَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ : رَبُّنَا أعْلَمُ، فَيَقُولُ : يَا مَلاَئِكَتِي أُشْهِدُكُمْ أنَّ كُلَّ مَنْ أسْكَتَهُ وَأرْضَاهُ أنْ أُرْضِيَهُ يَوْم الْقِيَامَةِ " قَالَ :((فَكَانَ عُمَرُ إذا رَأى يَتِيماً مَسَحَ عَلَى رَأسِهِ وَأعْطَاهُ شَيئاً)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ﴾ ؛ وهو الزجرُ بالصيِّاح في الوجهِ، وعن رسولِ الله ﷺ قالَ :" إذا سَأَلَ السَّائِلُ فَلاَ تَقْطَعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ حَتَّى يَفْرَغَ مِنَْهَا، ثُمَّ رُدُّوا عَلَيْهِ بوَقَارٍ وَلِينٍ أوْ ببَذْلٍ يَسِيرٍ أوْ برَدٍّ جَمِيلٍ، فَإنَّهُ قَدْ يَأْتِيكُمْ مَنْ لَيْسَ بإنْسٍ وَلاَ جَانٍّ، يَنْظُرُونَ كَيْفَ صُنْعُكُمْ فِيمَا خَوَّلَكُمُ اللهُ " و " سُئل رسولُ الله ﷺ متى يُباح أن يُردَّ الفقيرُ ؟ فقالَ :" إذا رَدَدْتَهُ ثَلاَثاً تَلَطُّفاً فَلاَ يَذْهَبْ، فَلاَ بَأْسَ أنْ تَزْبُرَهُ " ".
وكان الحسنُ يقول :((أرَادَ بالسَّائِلِ فِي هَذِهِ الآيَةِ سَائِلَ الْعِلْمِ لاَ تَرُدُّهُ خَائِباً). وقال يحيىَ بنُ آدم في هذه الآيةِ قال :((إذا جَاءَكَ طَالِبُ الْعِلْمِ فَلاَ تَنْهَرْهُ)). وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" لاَ يَمْنَعَنَّ أحَدُكُمُ السَّائِلَ أنْ يُعْطِيَهُ إذا سَأَلَ، وَإنْ رَأى فِي يَدَيْهِ قُلْبَيْنِ مِنْ ذهَبٍ " وعن إبراهيمَ بن أدهمٍ قالَ :((نِعْمَ الْقَوْمُ السُّؤَّالُ، يَحْمِلُونَ زَادَنَا إلَى الآخِرَةِ، يَجِيءُ السَّائِلُ إلَى بَاب أحَدِكُمْ فَيَقُولُ : هَلْ تُوَجِّهُونَ إلَى أهْلِيكُمْ شَيْئاً)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ ؛ أي حدِّثِ الناسَ بما أنعمَ اللهُ عليك من النبوَّة والإسلامِ، وذلك أنَّ مِن شُكرِ النِّعَمِ التحدُّث تَعظيماً للمنعمِ. ويقال : إن الشُّكرَ على مراتب، فالمرتبةُ الأُولى : أن تعلمَ أنَّ النعمةَ من اللهِ، والثانية : أن تؤدِّي عليها حقوقَ اللهِ، والثالثةُ : أن تعترفَ بذلك وتُخبرَ الناسَ بها، والرابعة : الاستظهارُ بها على معصيةِ الله.
وفي الحديثِ :" إذا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ أحَبَّ أنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ "، وقال ﷺ :" مَنْ أُعْطِيَ خَيْراً فَلَمْ يُرَ عَلَيْهِ، سُمِّيَ بَغِيضَ اللهِ مُعَادِياً لِنِعْمَةِ اللهِ " قالَ ﷺ :" مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يُشْكِرِ الْكَثِيرَ، ومَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ، وَالتَّحَدُّثُ بالنِّعْمَةِ شُكْرٌ ".
Icon