ﰡ
أهوال القيامة
ما أصعب الإنسان وأقساه، وما أكثره غفلة وأبعده عن العظة والعبرة، وما أشده تورطا في المخاطر! يرى الخطر جاثما والضرر قائما، وتراه يقتحم المخاطر، ويتقحم الأهوال بعينه ولا يبتعد عنها، ألا وإن أخطر وأدهى شيء يجده الإنسان: هو أهوال القيامة، لذا سميت القيامة في القرآن العظيم بالقارعة: وهي القيامة نفسها، لأنها تقرع القلوب بهولها، وزادها القرآن تهويلا في سورة القارعة المكية بلا خلاف.
[سورة القارعة (١٠١) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤)وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [القارعة: ١٠١/ ١- ١١].
القارعة وهي القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها ومخاوفها وأفزاعها، وأي شيء هي، وما أعلمك ما شأن القارعة؟ وهذا تأكيد لشدة هولها، وتعظيم أمرها، وتهويل شأنها.
وأماراتها: يوم يخرج الناس من القبور، يسيرون على غير هدى في كل اتجاه، شأنهم في ذلك كالحشرة الطائرة المنتشرة المتفرقة، والناس في انتشارهم وتفرقهم، كأنهم فراش مبثوث، أي متفرق منتشر.
(٢) حيوان صغير يتهافت على النار.
(٣) المتفرق.
(٤) الصوف.
(٥) الذي نفش.
(٦) ما يأوي إليها.
(٧) هي نار جهنم. [.....]
(٨) ملتهبة مستعرة.
- وتصير الجبال كالصوف ذي الألوان المختلفة، المندوف الذي نفش بالندف، لأنها تتفتت وتتطاير، كما في قوله تعالى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) [التكوير: ٨١/ ٣].
وقوله سبحانه: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا (١٤) [المزّمّل: ٧٣/ ١٤].
وهاتان الأمارتان فيهما تخويف شديد للناس وتحذير خطير، ويلاحظ أن التشبيه للجبال بالصوف متلائم، فالصوف منه الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وكذلك الجبال جدد (طرق) بيض وحمر وصفر وسود. والنّفش: خلخلة الأجزاء وتفريقها عن تراصّها.
ثم ذكر الله الجزاء على الأعمال وتفرق الناس فرقتين.
فأما من ثقلت موازينه وهي التي في القيامة، بأن رجحت حسناته أو أعماله الصالحة على سيئاته، فهو في عيشة مرضية، يرضاها صاحبها في الجنة.
والعيشة: كلمة تجمع النعم التي في الجنة. والعيشة الراضية: معناه ذات رضا، على النّسب. قال جمهور العلماء والفقهاء والمحدثين عن الموازين: ميزان القيامة بعمود وكفّتين، ليبين الله تعالى أمر العباد، بما عهدوه وتيقّنوه. وجمعت الموازين للإنسان لما كانت له موزونات كثيرة متغايرة، وثقل هذا الميزان: هو بالإيمان والأعمال، وخفّته بعدمها وقلّتها، ولن يخفّ ميزان مؤمن، أي لا يخلّد في النار. وإني لمؤمن بالميزان كما ورد في القرآن، دون معرفة كيفية وزنه وتقديره.
وأما من رجحت سيئاته على حسناته، أو لم تكن له حسنات يعتد بها، فمسكنه أو مأواه جهنم، وسماها أمه: لأنه يأوي إليها، كما يأوي الطفل إلى أمه، وسميت جهنم
روى المبرد:
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا أمّ لك» فقال: يا رسول الله، تدعوني إلى الهدى وتقول: لا أم لك؟ فقال: إنما أريد، لا نار لك، قال الله تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ
وما أعلمك ما هذه النار؟ والاستفهام للتهويل والتخويف، لبيان أنها خارجة عن المعهود، بحيث لا يدرى كنهها، إنها النار الملتهبة الشديدة الحرارة والاستعار، القوية اللهب والارتفاع، وهذا دليل على قوتها التي تفوق جميع النيران. قال الزمخشري:
هِيَهْ ضمير الداهية التي دل عليها قوله: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أو ضمير هاوية، والهاء للسكت، وإذا وصل القارئ حذفها.
أخرج مالك والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «نار بني آدم التي توقدون: جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية؟ فقال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا».
وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم».
لقد ضمت سورة القارعة صنوي التهويل العظيمين وهما القيامة وأهوالها، والنار الشديدة الحرارة ومخاوفها. والناس أمام هذا المصير فريقان: فريق المحسنين الأبرار، الذين يتمتعون بجنان الخلد، والمعيشة ذات الرضا والاطمئنان، وفريق المسيئين الأشرار الذين يتلظون بنيران جهنم، ويحترقون فيها.
ومن علامات القيامة: تغير المألوف، وزوال المعروف من تكوين السماء والأرض، حيث تتصدع السماوات وتتساقط النجوم، وتتفتت الجبال، وتحترق البحار، وتدك الأرض دكا عنيفا، وتتغير معالم الكون، في هذا الجو الرهيب يقف الإنسان حائرا مضطربا في مواجهة الله تعالى والحساب العسير.