تفسير سورة الإسراء

المحرر في أسباب نزول القرآن
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة المعروف بـالمحرر في أسباب نزول القرآن .
لمؤلفه خالد بن سليمان المزيني .

سورة الإسراء
١١٠ - قال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (٥٦) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (٥٧)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مسلم والبخاري والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم الجنيُّون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون فنزلت: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة، وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي قال الطبري: (وأولى الأقوال بتأويل الآية قول عبد اللَّه بن مسعود
659
الذي رويناه عن أبي معمر عنه، وذلك أن اللَّه تعالى ذكره أخبر عن الذين يدعوهم المشركون آلهةً أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعلوم أن عزيراً لم يكن موجوداً على عهد نبينا - عليه الصلاة والسلام -، فيبتغي إلى ربه الوسيلة، وأن عيسى قد كان رفع وإِنَّمَا يبتغي إلى ربه الوسيلة من كان موجوداً حياً يعمل بطاعة الله، ويتقرب إليه بالصالح من الأعمال) اهـ.
وقال ابن عاشور: (لم أرَ لهذه الآية تفسيراً ينثلج له الصدر، والحيرة بادية على أقوال المفسرين في معناها وانتظام موقعها مع سابقها) اهـ.
قال ابن حجر: (أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة، إلى أن قال: وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية) اهـ.
وعندي - واللَّه أعلم - أن حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس سبباً لنزول الآية الكريمة وبيان ذلك من وجوه:
الأول أن البخاري قد روى الحديث ومع ذلك فقد خلا لفظه من التصريح بنزول الآية، وفعله هذا يوجب التردد بالقول في السببية لا سيما إذا انضم إلى ذلك غيره.
الثاني: أنه لا يوجد حدث وقع بعينه، أو سؤال عن شيءٍ ما لتنزل الآية بسببه.
الثالث: أن الحديث وسياق الآيات ليس بينهما ائتلاف وموافقة يوجب أن يكون الحديث سبباً لنزول الآية.
فإن قال قائل: ما تقول في قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نزلت في نفر من العرب؟
فالجواب: أن قول ابن مسعود لا يدل ضرورة على السببية، وإنما المراد أن الآية نزلت متحدثة عن أمر مذموم كان موجوداً بين العرب والجن كما تحدث القرآن كثيراً عن أحوال العرب في الجاهلية، ومن ذلك ما حكاه اللَّه في
660
سورة الأنعام وسورة الجن وغيرهما من الأحوال الجاهلية التي كانت بين الإنس والجن.
وأما القول: بأن الآية نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه أو عزيراً أو الملائكة فليس في ذلك حديث يعتمد عليه ويحتج به.
* النتيجة:
أن الآية لم تنزل على السبب المذكور، بل حديثها منصب على حال المشركين في عبادتهم غير اللَّه، إذ بلغ من جهلهم في كفرهم، أنهم يعبدون من يعبد اللَّه، والذي دعاني لقول هذا، عدم دلالة الحديث على السببية، مع عدم ارتباطه بسياق الآيات. واللَّه أعلم.
* * * * *
661
١١١ - قال اللَّه تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (٥٩)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أحمد والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سأل أهل مكة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يُنحِّي الجبال عنهم، فيزرعوا فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أُهلكوا كما أهلكتُ من قبلهمِ. قال: لا، بل أستأني بهم، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث ومثله معه عند ذكر نزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
662
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: وما منعنا يا محمد أن نرسل بالآيات التي سألها قومك إلا أن كان قبلهم من الأمم المكذبة، سألوا ذلك مثل سؤالهم، فلما أتاهم ما سألوا منه كذبوا رسلهم، فلم يصدقوا مع مجيء الآيات فعوجلوا، فلم نرسل إلى قومك بالآيات لأنا لو أرسلنا بها إليهم فكذبوا بها سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلهم وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) اهـ ثم ساق الحديث.
وقال ابن عطية: (وسبب هذه الآية أن قريشاً اقترحوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل لهم الصفا ذهباً، واقترح بعضهم أن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا الأرض فأوحى اللَّه إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن شئت أن أفعل ذلك لهم فإن تأخروا عن الإيمان عاجلتهم العقوبة، وإن شئت استأنيت بهم، عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل تستأني بهم يا رب) اهـ.
وقال القرطبي: (إنهم طلبوا أن يحوّل اللَّه لهم الصفا ذهباً، وتتنحى الجبال عنهم فنزل جبريل وقال: إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا، وإن شئت استأنيت بهم فقال: لا بل استأن بهم) اهـ.
وقال السعدي: (يذكر تعالى رحمته، بعدم إنزاله الآيات التي اقترحها المكذبون وأنه ما منعه أن يرسلها إلا خوفًا من تكذيبهم لها، فإذا كذبوا بها عاجلهم العقاب، وحل بهم من غير تأخير كما فعل بالأولين الذين كذبوا بها) اهـ.
وبهذا يتبين أن سبب نزول الآية سؤال قريش لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتيهم بما شاؤوا من الآيات، فلم يجابوا إلى طلبهم لأنهم لو أُجيبوا ولم يؤمنوا نزل بهم العذاب كما نزل بمن قبلهم من الأمم، وذكّرهم اللَّه بمثال قريب وهم ثمود قوم صالح، حيث كفروا بعد مجيء الآيات فأُهلكوا.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج المفسرين به وتصريحه بالنزول. واللَّه أعلم.
663
١١٢ - قال الله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (٨٠)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي وأحمد عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة ثم أُمر بالهجرة فنزلت عليه: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة، وقد أورد بعض المفسرين هذا الحديث، وذكروا معه غيره من الأقوال كالطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير.
قال الطبري بعد سياق الأقوال: (وأشبه هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: معنى ذلك: وأدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية؛ لأن ذلك عقيب قوله: (وَإِنْ كَادُوا
664
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا)، وقد دللنا فيما مضى على أنه عنى بذلك أهل مكة) اهـ.
وقال البغوي: (المراد من المدخل والمخرج الإدخال والإخراج، واختلف أهل التفسير فيه فقال ابن عبَّاسٍ والحسن وقتادة: أدخلني مدخل صدق المدينة، وأخرجني مخرج صدق من مكة نزلت حين أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهجرة) اهـ ثم ذكر بقية الأقوال.
وقال القرطبي: (وقيل: علّمه ما يدعو به في صلاته وغيرها من إخراجه من بين المشركين وإدخاله موضع الأمن فأخرجه من مكة وصيره إلى المدينة) اهـ ثم ساق الحديث.
وقال ابن كثير عن هذا القول: (هو أشهر الأقوال، وقال عنه: والأول أصح وهو اختيار ابن جرير) اهـ.
وقال ابن عطية: (ظاهر هذه الآية والأحسن فيها أن يكون دعاء في أن يحسن اللَّه حالته في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصريف المقادير في الموت والحياة، فهي على أتم عموم، معناه رب أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري وذهب المفسرون إلى أنها في غرض مخصوص ثم اختلفوا في تعيينه) اهـ ثم ساق الأقوال.
فهذه أقوال المفسرين في معنى الآية وليس فيها ذكرٌ لسبب النزول، وإنما هي من باب التفسير وكشف المعنى.
* والخلاصة:
أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة من وجوه:
أولاً: أن الحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به على السببية.
ثانياً: أن سبب النزول ليس له ذكر عند العلماء، فأقوالهم منصبة على تفسير الآية.
ثالثاً: أنه لا يوجد حدث مخصوص حتى يقال نزلت الآية في شأنه.
665
فإن قال قائل: قول ابن عبَّاسٍ: ثم أمر بالهجرة فنزلت. ما تقول فيه؟
فالجواب: على فرض صحة الحديث فلا يدل على النزول، غاية ما فيه أن الله أراد تهيئته للهجرة فأمره بهذا الدعاء، وأما سبب النزول فلا بد من واقعة أو سؤال تنزل الآية معالجةً لها أو مجيبةً عليه.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سبب نزولها لضعف سنده، وعدم دلالته على النزول وإعراض العلماء عن القول بالسببية، واللَّه أعلم.
* * * * *
666
١١٣ - قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرث بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يُوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي، ثم قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي.. ).
٢ - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قالت قريش لليهود، أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) قالوا: أُوتينا علماً كثيراً أُوتينا التوراة، ومن أُوتي التوراة فقد أُوتي خيراً كثيراً قال: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ).
667
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد أكثر المفسرين حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ويسألك الكفار باللَّه من أهل الكتاب عن الروح ما هي؟ قل لهم: الروح من أمر ربي، وما أُوتيتم أنتم وجميع الناس من العلم إلا قليلاً، وذُكر أن الذين سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الروح، فنزلت هذه الآية بمسألتهم إياه عنها كانوا قوماً من اليهود) اهـ.
وقال ابن عطية: (الضمير في يسألونك قيل هو لليهود وأن الآية مدنية... ثم ساق الحديث وقيل: الآية مكية والضمير لقريش) اهـ.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الآية مكية:
قال ابن كثير لما ساق حديث ابن مسعود: (وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية، وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه
668
يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه وهي هذه الآية (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد حدثنا... ) اهـ.
وقال ابن عاشور: (وقع هذه الآية بين الآي التي معها يقتضي نظمه أن مرجع ضمير (يَسْأَلُونَكَ) هو مرجع الضمائر المتقدمة فالسائلون عن الروح هم قريش.. ثم ذكر الحديث.
ثم قال: والجمهور على أن الجميع نزل بمكة.
وأما ما روي في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: ثم ساق الحديث... فالجمع بينه وبين حديث ابن عبَّاسٍ المتقدم: أن اليهود لما سألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ظن النبي أنهم أقرب من قريش إلى فهم معنى الروح فانتظر أن ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به أبين مما أجاب به قريشاً، فكرر اللَّه تعالى إنزال الآية التي نزلت بمكة، أو أمره أن يتلوها عليهم ليعلم أنهم وقريشاً سواء في العجز عن إدراك هذه الحقيقة أو أن الجواب لا يتغير). اهـ بتصرف.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح حديث ابن مسعود: (وهذا يدل على أن نزول الآية وقع بالمدينة لكن روى الترمذي... ثم ساق حديث ابن عبَّاسٍ...
ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح) اهـ.
وخلاصة ما احتج به القائلون بأن سبب نزولها حديث ابن عبَّاسٍ ما يلي:
١ - أن السورة كلها مكية، يعني أنها نزلت قبل سؤال اليهود.
٢ - أن سياق الضمائر في الآيات كانت في قريش، وهذا منها في قوله: (يَسْأَلُونَكَ).
وأجابوا عن حديث ابن مسعود بما يلي:
١ - أن الآية نزلت عليه في المدينة مرة ثانية.
٢ - أو نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه.
669
وسأجيب مستعيناً باللَّه عما أوردوه من حجج فأقول:
قولهم: إن السورة كلها مكية قول لا يملكون لإثباته دليلاً صحيحاً صريحاً ألبتة ومن الخطأ عند بعض العلماء - رحمهم اللَّه - أنه يدع أحاديث صحيحة صريحة قطعية الثبوت إلى أقوال ظنية لبعض العلماء منشأها ومردها الاستنباط المحض والاجتهاد الخاص الخالي من الدليل مما قادهم وقاد من تابعهم على أقوالهم إلى اختلاف كثير في علوم القرآن عموماً وفي أسباب النزول، والمكي والمدني خصوصًا.
وما نحن فيه هو من هذا الباب، فترى بعضهم يقول: إن هذه الآية مدنية، وآخر يقول: والجمهور على أن الجميع نزل بمكة.
وإذا أردت أن تعرف اختلافهم في تحديد ذلك فارجع لمقدمة ابن عاشور عند بداية سورة الإسراء لترى المزيد.
والمزعج في الموضوع أن هذه الاختلافات المجردة عن الدليل عادت بالإبطال والرد على الأحاديث الصحيحة، فأصبح دفعها ممكناً ولأدنى سبب حتى من بعض المحققين الثقات.
إذا تبين لك هذا فاعلم أنه لا يستطيع أحد مهما جلَّ قدره وعلا في العلم شأنه أن يقيم دليلاً على أن آيات السورة كلها مدنية أو مكية، نعم القول في بعضها ممكن لوجود القرائن والدلائل عليه، أما الجميع فلا.
وحينئذٍ فقد تم الانفكاك من حجتهم الأولى.
أما الثانية: وهي قوله: إن مرجع ضمير (يَسْأَلُونَكَ) هو مرجع الضمائر المتقدمة أي أنها في قريش.
فالجواب أن يقال: إن أقرب ضمير يعود على قريش قبل هذه الآية بينه وبينها ثمانِ آيات وهو قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ).
ثم لو سلمنا بهذا: ألا يمكن أن يتنوع عود الضمائر بسبب تنوع القرائن كما هو كثير معروف عند العلماء حتى في الآية الواحدة فما بالك بآيات منفصلات؟
670
بل لو قال قائل: إن الناظر المتأمل في الآية يجد أنه لا صلة لها بالسابق واللاحق لم يكن قوله بعيداً من الصواب.
وسأذكر بعض الأحاديث عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم أقوم بالمقارنة بين حديثي ابن عبَّاسٍ وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
قال عبد الرحمن بن يزيد سمعت عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العِتَاقِ الأُول، وهنّ من تِلادي.
وقال شقيق بن سلمة: خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: واللَّه لقد أخذت من في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضعاً وسبعين سورة، واللَّه لقد علم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني من أعلمهم بكتاب اللَّه، وما أنا بخيرهم.
قال شقيق: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعتُ رادّا يقول غير ذلك.
وقال مسروق: قال عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: واللَّه الذي لا إله غيره، ما أُنزلت سورة من كتاب اللَّه، إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب اللَّه، إلا أنا أعلم فيما أُنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلمَ مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبتُ إليه.
وقد دلت هذه الأحاديث على أمور:
١ - أن سورة الإسراء من أوائل ما حفظ ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعادة المرء
671
إتقان ما حفظ قديماً إتقاناً يفوق الحديث، أفكان يخفى على ابن مسعود بعد هذا قوله تعالى:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) أنها نزلت بسبب سؤال قريش.
مع أن ابن عبَّاسٍ في ذلك الوقت لم يولد بعد لأن عمره حين وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ثلاثة عشر عاماً.
٢ - أن ابن مسعود تلقف من الفم الشريف بضعاً وسبعين سورة أي ما يجاوز ثلثي سور القرآن.
إذا أضفت هذا إلى قوله: ولقد علم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني من أعلمهم بكتاب الله. فاجتمع العلم والحفظ والتميز والصحبة في حقه - رضي الله عنه - أفيمكن أن يقدم قول غيره على قوله مع كل هذا؟
٣ - أنه يقسم وهو صادق بارٌّ بدون قسم أنه ما أُنزلت سورة من كتاب اللَّه إلا وهو يعلم أين نزلت؟ أي هل هي في مكة أو في المدينة؟ هل هي قبل الهجرة أم بعد الهجرة؟
ويقسم أنه يعلم فيما أُنزلت؟ في جواب المشركين أو اليهود أو النصارى؟
ويؤكد هذا كله بأنه لو يعلم أحداً أعلم بكتاب اللَّه منه تبلغه الإبل لركب إليه.
فهذه العبارات القوية، والجمل الصادقة الواثقة منه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تنادي أهل التفسير خصوصًا والمشتغلين بالقرآن عموماً أن لكم مراجع علميةً فلا تتجاوزوها وحدوداً فلا تعتدوها.
وإذا أردنا المقارنة بين الحديثين تبين ما يلي:
١ - أن حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صحيح الإسناد لا مطعن فيه بوجه من الوجوه قد روي في أصح كتابين بعد كتاب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -، وليس الأمر كذلك في حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فكيف إذا كان حديث ابن عبَّاسٍ قد اختلف في وصله وإرساله.
٢ - أن ابن مسعود كان بصحبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن القصة، وليس الأمر كذلك بالنسبة لابن عبَّاسٍ، وقد قيل: ليس الشاهد كالغائب.
٣ - أن حديث ابن مسعود تضمن تفصيلاً خلا منه حديث ابن عبَّاسٍ وفيه: فقام ساعة ينظر فعرفت أنه يُوحى إليه فتأخرت عنه حتى صعد الوحى، والتفصيل دليل على الضبط والإتقان، والعلم التام بما حدث.
672
٤ - أن الآية لو نزلت بسبب حديث ابن عبَّاسٍ، فلماذا يعيد اليهود السؤال عن ذلك بالمدينة مرة ثانية، لا سيما أن اليهود قد علموا جواب اللَّه للمشركين في مكة حسبما يدل عليه حديث ابن عبَّاسٍ ولهذا قالوا بعد نزول الآية: أُوتينا علماً كثيراً، أُوتينا التوراة.
وبهذا يظهر ويتبين أن سبب نزول الآية الكريمة هو حديث ابن مسعود لما تقدم.
بقي أن أجيب عن أدلتهم في الجمع بين السببين وخلاصتها:
أن الآية نزلت عليه في المدينة مرة ثانية، وهذا غريب، إذ ما الفائدة؟
وما هي الحكمة أن تنزل عليه الآية مرة ثانية، وهي محفوظة في صدره، ؟ مع أنه لا يوجد دليل يدل على تكرر النزول، والأصل عدمه.
ولو كانت الآية قد نزلت قبل ذلك لأجابهم بها حين سألوه عن الروح، ولم ينزل الوحي لذلك.
الثانية: أنه نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وأضاف ابن عاشور: (أن النبي ظن أنهم أقرب من قريش إلى فهم معنى الروح) وهذا أغرب من سابقه والأمر لا يخلو من حالين:
الأولى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم أن قريشاً أخذوا السؤال من اليهود كما دلّ عليه حديث ابن عبَّاسٍ وحينئذٍ فالجواب للفريقين، وعلى هذا ينتفي تعليل ابن عاشور.
الثانية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يعلم أن قريشًا أخذوا السؤال من اليهود وهذا بعيد لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرف ما عند قومه من العلم، وما عند غيرهم من أهل الكتاب، ويعلم الصلات بين الطرفين حق العلم، وإذا كان كذلك فلماذا لم يتلو الآية على اليهود حين سألوه، واضطر لانتظار الوحي؟
وإذا كنا نقول بأن سبب النزول حديث ابن مسعود فإنه ينتفي الاحتمال ويرتفع الإشكال ويندفع الحالان.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة حديث ابن مسعود لصحة سنده، وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج أكثر المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
673
١١٤ - قال اللَّه تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١١٠)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) قال: نزلت ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مختفٍ بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أي بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) بِهَا عن أصحابك فلا تسمعهم (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).
٢ - أخرِج البخاري ومالك ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها -: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا). أُنزلت في الدعاء.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين
674
هذين الحديثين عند ذكرهم لسبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
قال الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ما ذكرنا عن ابن عباس... ثم ذكر كلامًا حتى قال: فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قل ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه، وذكرك فيها، فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقًا إلى أن تسمع أصحابك، ولا يسمعه المشركون فيؤذونك) اهـ.
وقال السعدي: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أي قراءتك (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) فإن في كل من الأمرين محذورًا، أما الجهر فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه وسبوا من جاء به.
وأما المخافتة فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ) أي اتخذ بين الجهر والإخفات (سَبِيلًا) أي تتوسط فيما بينهما) اهـ.
وقال النووي بعد ذكر الحديثين: الكن المختار الأظهر ما قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) اهـ.
وقال ابن حجر: (يحتمل الجمع بينهما بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن الصحيح في سبب نزولها حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذلك لموافقته سياق القرآن وبيان ذلك:
675
أن اللَّه تعالى نهى عن الجهر والمخافتة، ولو كان المراد بالصلاة الدعاء لما نهى عن المخافتة به لأن هذا هو المشروع فيه لقوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥).
قال السعدي: (وَخُفْيَةً) أي: لا جهر أو علانية، يخاف منه الرياء، بل خفية وإخلاصاً للَّه تعالى.
ثم ذكر كلامًا حتى قال: أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه) اهـ.
فهذه دلالة السياق على أن الدعاء ليس مراداً هنا.
ويقال أيضاً: إن إطلاق الصلاة على الدعاء إطلاق لغوي، بينما إطلاق الصلاة على العبادة المعروفة إطلاق شرعي، والمتكلم بالقرآن هو المشرّع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإذا دار كلام الشارع بين أن يحمل على الاصطلاح الشرعي، أو الاصطلاح اللغوي وجب حمله على الشرعي لأن المتكلم به هو الشارع الحكيم.
فإن قال قائل: ما تقول في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣).
أليس المراد بالصلاة هنا الدعاء بنص القرآن؟
فالجواب: بلى، لكن لوجود القرينة، وهي أنه لا يمكن أن يراد بالصلاة هنا الصلاة المعهودة.
فلم يبق إلا الدعاء. ولهذا كان من هدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدعاء لصاحب الصدقة، لما روي الشيخان عن عبد اللَّه بن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: (اللهم صلِّ على آلِ فلان) فأتاه أبي بصدقته فقال: (اللهم صلِّ على آلِ أبي أوفى).
فإن قال قائل: هل تطلق الصلاة ويراد بها القراءة؟
676
فالجواب: نعم فقد روى مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال اللَّه تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد للَّه رب العالمين. قال اللَّه تعالى حمدني عبدي... الحديث.
قال ابن العربي: (عبر اللَّه هاهنا بالصلاة عن القراءة، كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (٧٨)؛ لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر، الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود، فهي من جملة أجزائها فيعبر بالجزء عن الجملة، وبالجملة عن الجزء) اهـ.
فإن قيل: بماذا تجيب عن قول عائشة - رضي الله عنها - أنزلت في الدعاء؟
فالجواب: أني لا أدري ما وجه هذا القول إلا إن كانت تعني بقولها قولَ الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) فهذا بيِّن أنه في الدعاء.
أما قول ابن حجر: (الجمع بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة).
فالجواب عن ذلك من وجهين:
أولاً: أن مقتضى هذا إلغاء دلالة حديث ابن عبَّاسٍ على أن السبب هو القراءة فلم يتحقق الجمع.
ثانياً: أن رفع الصوت بالدعاء داخل الصلاة لم يكن معروفاً ولا معهودًا ولا دليل عليه.
* النتيجة:
أن حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هو سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج المفسرين به. واللَّه أعلم.
* * * * *
677
سورة الكهف
679
Icon