تفسير سورة لقمان

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
سورة لقمان مكية
وآياتها أربع وثلاثون
كلماتها ٥٤٨- حروفها ٢١١٠.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الم١ ﴾
قد تكون من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، )والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب( ١ وقد تكون من المحكم الذي يتوصل إلى إدراك معناه، فيقال فيها ما قيل في مثيلاتها من أوائل السور التي تكون حروفا، إما أن تفهم على أنها بدء أسماء وفواتح سور، أو مما أقسم المولى سبحانه به، أو هي من إعجاز القرآن، إذ الألف واللام والميم حروف ينطق بها كل عربي، ومنها يتكون كلم القرآن العظيم، فمع تكونه من حروف كالتي ينطقون بها عجز فصحاؤهم وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله وسيظلون عاجزين، فثبت أن القرآن المجيد كلام رب العالمين.
١ سورة آل عمران. من الآية ٧..
﴿ الحكيم ﴾ ذي الحكمة، والمحكم الذي لا خلل فيه ولا تناقض.
﴿ تلك آيات الكتاب الحكيم ٢ هدى ورحمة للمحسنين٣ ﴾
تلك الآيات التي جاءت في القرآن آيات كتاب لا تفوته الحكمة تباركت وتبارك هذا الذكر المجيد، كلها تامة صادقة عادلة ليس فيها اختلاف ولا تبديل، أو هي عالية القدر والشرف، والكتاب حاكم على كل الكتب، وكل المكلفين، [ و﴿ تلك ﴾ في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هذه تلك... و﴿ الكتاب ﴾ : القرآن ]١ والآيات تعقب هداية يشرح الله بها صدور المؤمنين، فتستنير وتنفسح، كما جاء في قول مولانا العزيز العليم :).. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه.. ( ٢، ويدركون بتقديسها، والعمل بها، والثبات على منهاجها، ورحمة واسعة من ربنا، وبرا في العاجل والآجل﴿ للمحسنين ﴾ للعاملين الحسنات، أو الذين يعبدون الله تعالى كأنهم يرونه، أو للمحسنين دينا- فالإسلام أحسن الأديان، أو للمحسنين كل فعل وقول وعمل، يجيدونه ويتقنونه، كما أورد الألوسي : ويجوز أن يكون﴿ الحكيم ﴾ من صفاته عز وجل، ووصف الكتاب به من باب الإسناد المجازي، فإنه منه سبحانه بدأ، وقد يوصف الشيء بصفة مبدئه... وأن يكون الأصل، الحكيم منزله أو قائله، فحذف المضاف إلى الضمير المجرور، وأقيم المضاف إليه مقامه، فانقلب مرفوعا، ثم استكن في الصفة المشبهة...
١ مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن..
٢ سورة المائدة. من الآية ١٦..
﴿ للمحسنين ﴾ للعاملين الحسنات، الذين يعبدون الله تعالى كأنهم يرونه، أو للمحسنين دينا- فالإسلام أحسن الأديان- أو للمحسنين كل فعل وقول وعمل يجيدون ويتقنون.
﴿ هدى ورحمة ﴾ بالنصب على الحالية من﴿ آيات ﴾. اه [ وحيث زاد ههنا- أي عن أوائل سورة البقرة حيث ذكر هناك﴿ هدي ﴾ فحسب ﴿ ورحمة ﴾ قال :﴿ للمحسنين ﴾ فإن الإحسان مرتبة فوق التقوى، لقول الله تعالى :)إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون( ١ ولقوله صلى الله عليه وسلم :" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.. " ]٢.
١ سورة النحل. الآية ١٢٨..
٢ ما بين العلامتين[ ] من روح المعاني..
﴿ يقيمون ﴾ يؤدون أداء تاما متقنا.
﴿ ويؤتون ﴾ يعطون.
﴿ الزكاة ﴾ حق في المال وكل ما يقوم بمال جعله الله تعالى للفقراء والمساكين والمستحقين.
﴿ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ٤ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ٥ ﴾.
من أدوا الصلاة وأتموها، وداوموا عليها في أوقاتها وأتقنوها، وخشعوا فيها وتدبروها، وأعطوا حق الله تعالى في أموالهم للفقراء والمساكين، وذوي القربى وسائر المستحقين، وهم مع ذلك يصدقون بأحوال الآخرة من ذهاب الحياة على هذا الكون، وتبديل الأرض غير الأرض والسماء غير السماء، ثم بعث الناس بعد موتهم أحياء، ثم سوقهم وحشرهم للسؤال والحساب والفصل والجزاء، واستيقنوا بذلك دون شك أو ارتياب.
﴿ أولئك على هدى من ربهم ﴾ مكنهم الله تعالى من هدايتهم إليه، ومكن الهداية من صدورهم، وكتب في قلوبهم الإيمان.
﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ وأصحاب هذه الأقدار الرفيعة، والحظ العظيم، هم أصحاب الشرف العالي، والنجح والفوز والظفر بما رجوا في أولاهم وعقباهم، فإن قيل : السورة مكية، وقد وصفت أهل الفوز بأنهم من يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهما مما فرض بالمدينة ؟ قلنا : الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء قبل الهجرة، والزكاة كانت بمكة حقا للقريب واليتيم والمسكين، لكن الذي شرع بعد الهجرة هو نصابها، وتحديد مقاديرها.
﴿ لهو الحديث ﴾ ما شغل من القول ونحوه وألهى، وتغافل به سامعه عن غيره.
﴿ ليضل عن سبيل الله ﴾ ليوقع في الضلال والحيرة، يصد عن الطريق الموصلة إلى مرضاة الله.
﴿ هزوا ﴾ استهزاء وسخرية
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ٦ وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم٧ ﴾
لما تبين لنا من فواتح السورة وأوائلها أنوار آيات الكتاب الحكيم وثمراتها وبركاتها، بينت هاتان الآيتان أن من الناس من سفه نفسه، وأطاع شيطانه وهواه، وكره أن يسمع أو يسمع من عداه ما جاء من هدي الله، فراح يوفر لنفسه ولمن يستطيع ما يلهي ويشغل، ويغفل به عن غيره من غناء أو نحوه، يريد أن يركن الناس إلى الباطل والجهالة، ويسخروا من الحق والدين وطريق الاستقامة، فما أبعد ضلال هؤلاء، وما أشد ما أعد لهم من عذاب يخزيهم، وإذا قرئت على أحد أئمة الضلال آيات من آيات ربنا الكبير المتعال أعرض ومضى متعاظما لا يخشع لذكر الله وما أنزل من الحق، كأنه مصاب بالصمم الذي أفقده السمع، ﴿ فبشره بعذاب أليم ﴾ أمر من الله تعالى لنبيه أن يخبر هذا أو من على شاكلته من الصادين عن الرشد، العاكفين على اللهو، بعذاب يوجعهم أشد الوجع[ واشتهر أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، ففي رواية جويبر عن ابن عباس أنه اشترى قينة١ فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول لها : أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد –صلى الله تعالى عليه وسلم-.. فنزلت ]٢.

﴿ تتلى ﴾ تقرأ.
﴿ ولى ﴾ أعرض وفر.
﴿ وقرا ﴾ أصله الحمل الثقيل، لكن يراد به ثقل السمع والصمم- المرض الذي يفقد من أصابه حاسة السمع-
﴿ فبشره ﴾ أخبره خبرا يظهر أثره على بشرة وجلدة وجهه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ٦ وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم٧ ﴾
لما تبين لنا من فواتح السورة وأوائلها أنوار آيات الكتاب الحكيم وثمراتها وبركاتها، بينت هاتان الآيتان أن من الناس من سفه نفسه، وأطاع شيطانه وهواه، وكره أن يسمع أو يسمع من عداه ما جاء من هدي الله، فراح يوفر لنفسه ولمن يستطيع ما يلهي ويشغل، ويغفل به عن غيره من غناء أو نحوه، يريد أن يركن الناس إلى الباطل والجهالة، ويسخروا من الحق والدين وطريق الاستقامة، فما أبعد ضلال هؤلاء، وما أشد ما أعد لهم من عذاب يخزيهم، وإذا قرئت على أحد أئمة الضلال آيات من آيات ربنا الكبير المتعال أعرض ومضى متعاظما لا يخشع لذكر الله وما أنزل من الحق، كأنه مصاب بالصمم الذي أفقده السمع، ﴿ فبشره بعذاب أليم ﴾ أمر من الله تعالى لنبيه أن يخبر هذا أو من على شاكلته من الصادين عن الرشد، العاكفين على اللهو، بعذاب يوجعهم أشد الوجع[ واشتهر أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، ففي رواية جويبر عن ابن عباس أنه اشترى قينة١ فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول لها : أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد –صلى الله تعالى عليه وسلم-.. فنزلت ]٢.

﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ٨ خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم٩ ﴾
لما تحدثت الآيتان السابقتان عن حال ومآل أعداء الحق، جاء في هاتين الآيتين عاقبة أهل الصلاح والصدق، فحق اليقين أن المؤمنين الصالحين، المستيقنين بآيات الكتاب المبين، المستقيمين على منهاج الدين، يورثهم ربنا جنات ذات درجات متفاوتات، ينعم من دخلها فلا يبأس، يشب فلا يهرم، ويصح فلا يسقم، ويحيا فلا يموت، وله فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين :)لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين( ١ )لا يذوقون فيها الموت.. ( ٢.
١ سورة الحجر. من الآية ٤٨..
٢ سورة الدخان. من الآية ٥٦..
﴿ خالدين فيها وعد الله حقا ﴾ ما كثين في هذه الجنة أبدا، لا يتحولون عنها ولا يفارقونها، وعدا حقا من الله تعالى الحق، وربنا لا يخلف الميعاد.
﴿ وهو العزيز ﴾ الذي لا يغلبه شيء على مراده، وتحقيق موعوده، ﴿ الحكيم ﴾ الذي لا تفوته الحكمة، بل يقضي كل أمر موافقا للعدل والصدق والصواب.
﴿ عمد ﴾ جمع عماد، ما يعتمد عليه السقف والحائط ويدعمه ويسنده.
﴿ وألقى في الأرض رواسي ﴾ جعل على الأرض جبالا ثوابت عاليات شامخات.
﴿ أن تميد بكم ﴾ لكيلا تضطرب وتميل بعمارها وساكنيها.
﴿ وبث فيها من كل دابة ﴾ أنشأ وفرق في جنبات الأرض ما يدب عليها ويسير من الأناسي والجن والبهائم والوحش وغير ذلك.
﴿ وأنزلنا من السماء ماء ﴾ وأنزلنا من السحاب الذي يكون جهة السماء مطرا.
﴿ من كل زوج كريم ﴾ من كل صنف ما هو حسن ونافع.
﴿ خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم١٠ هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين١١ ﴾
ربكم العزيز الحكيم هو الذي أبدع السماوات وبدأ نشأتها، وأقامها مرفوعة بلا عمد، كما قال عز من قائل :).. ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه.. ( ١، وجعل على الأرض جبالا ثوابت عاليات شامخات لكيلا تضطرب وتميل بعمارها وساكنيها، فكانت سبب استقرارها إلى أجل قضاه الله، وأنشأ المولى الخلاق العليم وفرق في جنبات الأرض ما يدب عليها ويسير من الأناسي والجن والبهائم والوحش وغير ذلك، وأنزل برحمته وعظمته من السحاب الذي يكون- بتكوين الله- جهة السماء، ينزل الرزاق الوهاب منه حين يشاء مطرا بقدر ما يشاء، ).. فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء.. ( ٢، فينبت سبحانه- وهو الزارع على الحقيقة- بسبب هذا المطر المبارك أصنافا شتى مما هو حسن ونافع.
١ سورة الحج. من الآية ٦٥..
٢ سورة النور. من الآية ٤٣..
﴿ ضلال مبين ﴾ حيرة واضحة لا خفاء بها، وعمى عن الحق.
﴿ هذا خلق الله ﴾ وكل عاقل يقر بأن كل ما أشارت إليه الآية الكريمة كغيره من المخلوقات إنما هو من صنع المعبود بحق- تبارك اسمه- فإذا كان كذلك فأروني ما الذي خلقته الأصنام والشركاء التي عبدها المشركون من دونه- جل علاه- والأمر للتعجيز، كما جاء في آية مباركة :)قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات.. ( ١ وكما في آية كريمة :)الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون( ٢، ثم أضرب الله تعالى عن مخاطبتهم، وبل للإضراب عن مخاطبتهم، ثم ختمت الآية ببيان حال الكافرين المشركين الجاحدين، وأن صدودهم عن الإيمان والرشد إنما هو للحيرة، وعمي البصيرة والسفه البين الواضح الذي سيعترفون به حين تحق عليهم كلمة العذاب :)وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير( ٣ والأفعال هنا للمستقبل : أي سيقولون، فيعترفون بذنوبهم، وإنما عبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه حتى كأنه وقع فعلا.
١ سورة الأحقاف. من الآية ٣..
٢ سورة الروم. الآية ٤٠..
٣ سورة الملك. الآيتان ١٠، ١١..
﴿ الحكمة ﴾ موافقة الصواب.
﴿ حميد ﴾ محمود تحمده الخلائق، وهو المستحق للحمد على الحقيقة.
﴿ ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر- فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ١٢ وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ١٣ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ١٤ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ١٥ ﴾
ولقد أعطينا لقمان١ علما يهدي إلى الصواب، ونورا إلى نهج الرشد والخير، وعهدنا إليه أن يشكر لله تعالى أنعمه، فيقر بعطائه وجوده ويستيقن بفضله، وتستقيم جوارحه على ما يرضي الكريم والوهاب، فهو تصديق بالعقل والوجدان والقلب، وإقرار باللسان الذاكر المسبح الحامد الشاكر، وعمل بالجوارح يبتغي به مرضاة الرزاق المتين، البر الرحيم.
﴿ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ﴾ من أقر لمولاه بالفضل، وشكره على العطاء الجزل، وأطاعه خشية ورجاء فإنما يعود ثواب شكره إلى عاجله متاعا ورزقا مباركا وذكرا طيبا في الأرض وفي السماء، وإلى آجله جنة وحريرا، ونعيما وملكا كبيرا.
﴿ ومن كفر فإن الله غني حميد ﴾ ومن جحد المنعم أو كذب بآياته ورغب عن الدين الخالص فلن يضر إلا نفسه والله غني عن طاعة المطيعين، محمود من خلقه في السماوات وفي الأرضين :).. فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار... ( ٢ )ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء( ٣ )ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض.. ( ٤.
[ ﴿ أن اشكر الله ﴾ أي : أي اشكر، على أن ﴿ أن ﴾ تفسيرية، وما بعدها تفسير لإيتاء الحكمة، وفيه القول دون حروفه، سواء كان بإلهام أو وحي أو تعليم ]٥.
١ عبد صالح، أوتي عقلا وفهما، وعلما أورثه عملا، لكن لم يؤت نبوة- على القول الراجح..
٢ سورة فصلت. من الآية ٣٨..
٣ سورة الحج. الآية ١٨..
٤ سورة النور. من الآية ٤١..
٥ ما بين العارضتين [ ] مما أورد الألوسي..
﴿ يعظه ﴾ يذكره بأمر ليس مما يجهل أصله، أو يزجره ويخوفه الغي.
﴿ وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله ﴾ واذكر إذ تولى ابنه يزجره ويخوفه الغي، قائلا : يا ابني- مصغرا تصغير إشفاق ومحبة، ليكون أبلغ في استمالة قلبه، وأقرب إلى تحقق السماع والاتباع-﴿ لاتشرك بالله ﴾ أي اثبت على تقديس المعبود بحق وعبادته وطاعته دون ما زعم المشركون من أنداد أو أضداد لربنا الكبير المتعال، ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾- قال البخاري : حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة بن عبد الله قال : لما نزلت :)الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.. ( ١ شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنه ليس بذلك ألا تسمع إلى قول لقمان :﴿ يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ﴾ " ؟.
١ سورة الأنعام. من الآية ٨٢..
﴿ وهنا ﴾ ضعفا.
﴿ وفصاله ﴾ وفطامه بعد تمام رضاعه.
﴿ المصير ﴾ المرجع.
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ﴾ لكأن هذه الآية والتي بعدها وصية من الله تعالى لكل الأناسي جاءت بين قول لقمان لابنه ووعظه إياه، وصى ربنا سبحانه كل فرد من بني الإنسان ببر أبيه وأمه١ والإحسان إليهما، وذكر بما تلاقيه الأم من أجل وليدها، فهي بحكم تكوينها ضعيفة يزيدها الحمل ضعفا على ضعفها، أو ﴿ حملته ﴾ فألحق بها إبان حمله ضعفا، تزايد خطره وتفاقم أمره يوما بعد يوم إلى أن بلغ المدى حين الولادة والنفاس﴿ وهنا على وهن ﴾ ثم رعايته ورضاعه إلى أن يتم فطامه بإكمال سنتين، وأمرنا للإنسان برعاية أبويه يكون بإكرامهما وطاعتهما، وعرفان حقهما، والوفاء لهما، وذلك من شكر الله المنعم علينا وعلى والدينا وعلى الخلق كافة، ثم نرد إلى ربنا فيجزي الشاكرين ويسعد مصيرهم.
١ يقول بعض اللغويين: ولعل إطلاق[الوالدين] على الأب والأم مع أن الأم هي التي ولدت دون الأب، وإنما يعني تغليبا، وترقيقا، وتذكيرا بما لقيا في سبيل ولدهما..
﴿ جاهداك ﴾ بذلا جهدهما قبلك.
﴿ سبيل من أناب إلي ﴾ طريق من تاب من زلته، ورجع إلى طاعتي.
﴿ فأنبئكم ﴾ فأخبركم خبرا تجازون بمقتضاه- خيرا أو شرا-.
﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ وإن بذل أبوك وأمك الجهد وحرصا على حملك على أن تدعي لله تعالى شريكا فلا تجبهما إلى ما دعواك إليه من الإشراك، ولا تطعهما في ذلك١، ولكن اصنع معهما ما تعارف عليه العقلاء مما هو حق وبر، ﴿ واتبع سبيل من أناب إلي ﴾ والزم طريق المنيبين إلى ربهم، المستقيمين على هداه وما يبلغ رضاه، ﴿ ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ﴾ ثم بعد الحياة يكون رجوعكم إلي ووقوفكم للعرض والحساب بين يدي، فأخبر كل عامل بما كان يعمل، وأثيبه بما قدم، فليقدم كل منكم ما يجب أن يقدم عليه، [ لما خص – تعالى- الأم بدرجة ذكر الحمل وبدرجة ذكر الرضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب، وللأب واحدة، وأشبه ذلك قوله حين قال له رجل : من أبر ؟ قال : " أمك " قال : ثم من ؟ قال :" أمك " قال : ثم من ؟ قال :" أمك " قال : ثم من ؟ قال :" أبوك " فجعل له الربع من المبرة.. ﴿ وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾ نعت لمصدر محذوف، أي مصاحبا معروفا... والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول، والدعاء إلى الإسلام برفق، وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي عليه الصلاة والسلام- وقد قدمت عليها خالتها، وقيل أمها من الرضاعة- فقالت : يا رسول الله ! إن أمي قدمت علي وهي راغبة، أفأصلها ؟ قال :" نعم " وراغبة : قيل معناه : عن الإسلام، قال ابن عطية : والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها.. ]٢
١ روى الطبراني بسنده- وروى نحوه ابن جرير الطبري بسنده- أن سعد بن مالك قال: أنزلت في هذه الآية:﴿وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما﴾ الآية قال: كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟! لتد عن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمه! فقلت: لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثت يوما وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما آخر وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما وليلة أخرى لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت يا أمه! تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي فأكلت. هكذا نقل ابن كثير، لكن الألوسي نقل عن الطبراني وغيره أن القائل سعد بن أبي وقاص..
٢ ما بين العلامتين[ ] مما أورد القرطبي..
﴿ يابني ﴾ نداء[ ابن ] مع تصغير ترقيق وإشفاق.
﴿ تك ﴾ مضارع من كان التامة، وأصلها : تكن، فحذفت النون للجزم، أي توجد.
﴿ يأت بها ﴾ يحضرها.
﴿ لطيف ﴾ يصل علمه إلى دقيق الأمور وخفيها.
﴿ يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير١٦ يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور١٧ ولا تصغر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور١٨ واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ١٩ ﴾
يقص علينا الكتاب العظيم كيف تابع لقمان الحكيم عظة ولده، أو وعظ كل سامع عاقل في شخص ابنه، فيذكر بأنها- أي القصة أو الحقيقة، أو الفعلة حسنة أو سيئة إن توجد أو تقع أو تستكن في جوف صخرة، أو في آفاق وأرجاء السماء، أو في جنبات وأقطار الأرض فإن الله تعالى يحضرها للحساب عليها والجزاء بمقتضاها :)فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره( ١ ).. وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين( ٢، ومع أنها في ثقل حبة الخردل، وهما غابت عن أعين المخلوقين، فإنها لا تخفى على الملك المتين، إنه الخبير البصير.
١ سورة الزلزلة. الآيتان ٧، ٨..
٢ سورة الأنبياء. من الآية ٤٧..
﴿ عزم الأمور ﴾ واجباتها.
﴿ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ﴾ فإذا تم لك الإيمان، واجتنب الرجس من الأوثان، ولم تشرك بالواحد الديان، وهيبته وعظمت جلاله واستيقنت برقابته فأقم وجهك للدين، وحافظ على صلاتك تكن من العابدين، وادع إلى الرشد والهدي، وحذر من الغي والفحش، وازجر عن الردى، وكن صابرا في البأساء والضراء وحين البأس وعلى كل حال﴿ إن ذلك من عزم الأمور ﴾ مما أوجبه الله تعالى، وعزمه، أي من الأمور المعزومة- والعزم بهذا المعنى مما ينسب إلى الله تعالى، ومنه ما ورد : من عزمات الله عز وجل-١.
١ ما بين العارضتين مما أورد الألوسي، ونقل عن جريج وصوبه علماء الأحكام..
﴿ ولا تصعر خدك ﴾ ولا تمل بوجهك استصغارا لمن يواجهك.
﴿ مرحا ﴾ مبالغا في الفرح، بطرا.
﴿ مختال ﴾ متبختر في مشيته، كبرا.
﴿ فخور ﴾ متباه بما أوتي.
﴿ ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا ﴾ لا تمل وجهك للناس حين يلقونك أو تلقاهم استصغار لشأنهم، وأصل[ الصعر ] داء يصيب الإبل فيلوي من أعناقها، ويميل بها عن رؤوسها، ولا تسر سير البطر المستكبر، فإن قارون حين خرج على قومه في زينته لم يلبث إلا يسيرا حتى خسف الله به وبداره الأرض ).. فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين( ١، ﴿ إن الله لا يحب كل مختال فخور ﴾ فمن ملأه العجب ومشى مشية البطر، وعاش مزهوا بما أوتي، مفتخرا يحسب أن ما هو فيه يدل على فضله، أو يختال بما هو حسي، ويفتخر بما هو من قبيل التفوق العرقي والنسبي والطبقي.
١ سورة القصص. من الآية ٨١..
﴿ واقصد في مشيك ﴾ توسط فيه بين التماوت وشدة الإسراع.
﴿ واغضض من صوتك ﴾ انقص منه، وخفض، واقصر.
﴿ صوت الحمير ﴾ النهاق الذي أوله زفير وآخره شهيق.
﴿ واقصد في مشيك ﴾ بعد التخلية عن النقائص – تصعير الخد، ومشي المرح، الذي نهى الله تعالى عنه كذلك في سورة الإسراء فقال عز من قائل :)ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا( ١- جاءت الآية الكريمة تدل على التحلية، وتهدي إلى الطريقة المرضية، ومنها المشي القصد الذي هو وسط بين التماوت وشدة الإسراع، ﴿ واغضض من صوتك ﴾ وانقص من صوتك وخفض منه واقصر، فإن ذلك أرفق بك وبالناس، ﴿ إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ﴾ أشد الأصوات قبحا ونكرا صوت منفر، من حيوان محقر، ).. ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون( ٢، هذا وقصص الكتاب العزيز عبرة " والقرآن حجة لك أو عليك " - كما جاء في الحديث الصحيح- فهل نقتدي بهدي الذين آتاهم ربنا الحكمة ؟ وهل يعظ الآباء الأبناء بمثل هذا الرشد والضياء ؟ ! )يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا.. ( ٣ فإنه " ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن " إن خسار الناس وهلاكهم وبوارهم واقع ما لم يتدارسوا منهاجهم، ويلزموا ملتهم ودينهم :)والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر( ٤ فالإيمان واليقين بالله الواحد نور القلوب وحياتها، والصلاة رأس العبادة وعمودها، والدعوة إلى الهدي طريق الأمة الخاتمة ومنهاجها :)قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني.. ( ٥، وحسن العشرة، وأدب الصحبة، تدرك بهما المودة والألفة ) والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.. ( ٦ )إنما المؤمنون إخوة... ( ٧ ولقد وصف الحق سبحانه الذين يحبهم ويحبونه بأنهم أذلة على المؤمنين٨، يقول ربنا الرحمان الرحيم :).. فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله.. ( ٩.
١ سورة الإسراء، الآية ٣٧..
٢ سورة إبراهيم. من الآية ٢٥..
٣ سورة التحريم. من الآية ٦..
٤ سورة(والعصر(..
٥ سورة يوسف. من الآية ١٠٨..
٦ سورة التوبة. من الآية ٧١..
٧ سورة الحجرات. من الآية ١٠..
٨ أورد ابن كثير بحثا مستفيضا قد تزيد كلماته على ألفي كلمة، أورد فيه بابا فيما جاء في الشهرة، وفصلا في الخمول والتواضع، وفصلا في ذم الكبر وفصلا في الاختيال وساق أحاديث كثيرة لكن أكثرها لم يبلغ درجة الصحة..
٩ سورة المائدة. من الآية ٥٤..
﴿ ألم تروا ﴾ استفهام تقريري، والرؤية بصرية وبصيرية.
﴿ سخر ﴾ ذلل وقهر.
﴿ وأسبغ ﴾ وأوسع، وأتم.
﴿ يجادل ﴾ ينازع.
﴿ ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ٢٠ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير٢١ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور٢٢ ﴾
ينكر القرآن الكريم على الغافلين عن سلطان الله، والمرتابين في آياته ورسالاته وملاقاته، مع أنهم يرون بأبصارهم وبصائرهم وفكرهم أن العزيز العليم ذلل وقهر لنا ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم وكواكب ومنازل فهي منقادة له سبحانه جعلها في منافع العباد في عاجلهم وآجلهم، وملائكتها عليهم السلام كذلك، وسخر لنا ما في الأرض من يابسة وماء ونبات وحيوان وهواء، وما بين ذلك من سحاب ورياح، وأوسع علينا نعمه- جمع نعمة- وأتمها : ظاهرة كالمحسوسات، وباطنة كالمعقولات.
﴿ ومن الناس من يجادل في الله ﴾ يخاصم وينازع ويغالب في وحدانية المعبود بحق وقدسيته من غير أن تكون لديه حجة أو برهان على ما يدعيه، فانعدم السلطان والدليل من جهة العقل، ﴿ ولا كتاب منير ﴾ لم يأته من وحي، ولا جاءه من السماء كتاب يوضح ما زعمه وينير ظلمات افترائه، كما تحدى الكتاب المبين ضلال هؤلاء المفترين فقال :).. أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شر في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين( ١ وأبطل الحق سبحانه إفك الملحدين والمنكرين الجاحدين لجلال رب العالمين فقال تبارك اسمه :)أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون( ٢ ثم جاء بعدها :)أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين( ٣.
١ سورة الأحقاف. من الآية ٤..
٢ سورة الطور. الآية ٣٥..
٣ سورة الطور. الآية ٣٨..
﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ لما أزهقت حجة الله تعالى باطل المشركين والمنكرين، وسقط إفكهم، ونودوا ليؤمنوا بما جاءنا من الحق من ربنا، أعرضوا وعاندوا ولم يستجيبوا )بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون( ١، ومن قبل آتى الله تعالى خليله إبراهيم حجته على قومه، فجادلهم بما جاء في القرآن الحكيم :)قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعوكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون( ٢، ولقد عجب القرآن من ضلال هؤلاء وأولئك ومن على شاكلتهم فقال :).. أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون( ٣، فكأنما تواصى الطاغون بهذا الزور والبهتان، فهم في كل عصر يعكفون على الشرك أو الجحود والنكران، ويقلدون في ذلك أبالستهم وأسلافهم ممن ضلوا وحق عليهم الخسران، ولهذا ختمت الآية الكريمة من هذه السورة المباركة بقول الله الحكيم :﴿ أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ﴾ فكأن المعنى : أيصرون على متابعة الأقدمين من أولياء الشياطين، والشيطان إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، والشرر المستطير، وعذاب النار والخزي والتحسير
١ سورة الزخرف. الآية ٢٢..
٢ سورة الشعراء. الآيات ٧٢، ٧٣، ٧٤..
٣ سورة البقرة. من الآية١٧٠..
﴿ وجهه ﴾ ذاته.
﴿ بالعروة الوثقى ﴾ كالذي تمسك بعقدة من حبل قوي مأمون انقطاعه.
﴿ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾ بينت الآيتان السابقتان على هذه باطل الضالين، وخسار الكافرين، وسفه عقولهم، واقتدائهم في الهلاك بشياطينهم وآبائهم – وبشرت هذه الآية المباركة بما يدرك المؤمن بالحق، المستقيم على الرشد من سلامة وحسن مآل، فمن أسلم ذاته ووجهته إلى شرعة الله ومنهاجه، فصفا ورسخ يقينه، ووفى بعهد ربه وميثاقه، فعبد المولى الرقيب الحسيب كأنه يراه، فحقيق أن يكون هذا من الناجين من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، المفلحين في الأولى والعقبى، كما جاءت البشرى بذلك في قوله تعالى :).. فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم( ١.
[ ﴿ وهو محسن ﴾ لأن العبادة من غير إحسان ولا معرفة قلب لا تنفع.. فإن قلت : ماله عدي ب﴿ إلى ﴾، وقد عدي باللام في قوله عز وجل :)بلى من أسلم وجهه لله.. ( ٢ ؟ قلت : معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله- أي خالصا له-، ومعناه مع ﴿ إلى ﴾ راجع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه، والمراد التوكل عليه، والتفويض إليه، ﴿ وإلى الله عاقبة الأمور ﴾ أي مصيرها. ]٣ يقول ابن كثير :﴿ فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾ أي فقد أخذ موثقا من الله متينا أنه لا يعذبه. اه- والنعم الظاهرة : كل ما يوجد إلى الحس الظاهر إليه سبيل، ومن جملتها الحواس أنفسها، والباطنة : ما لا يدرك إلا بالحس الباطن، أو بالعقل، أو لا يعلم أصلا-٤.
١ سورة البقرة. من الآية ٢٥٦..
٢ سورة البقرة. من الآية ١١٢..
٣ ما بين العلامتين[ ] أورده القرطبي..
٤ ما بين العارضتين مما جاء في تفسير غرائب القرآن..
﴿ ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور ٢٣ نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ٢٤ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ٢٥ لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد٢٦ ﴾.
تسلية من الله تعالى لنبيه، ووعيد لمن خالفه وكذب بالحق لما جاءه، فإن من عمي عن الهدى يعود هلاكه على نفسه، وإليه يرجع وبال كفره، ولن تسأل أيها البشير النذير عن أصحاب الجحيم، فلا تأس ولا تحزن وتأسف على ما هم فيه من إصرار على الحنث العظيم، فهم راجعون إلينا، وموقوفون بين يدينا، نخبرهم بما كانوا قد أجرموا وعملوا، وما أسروا به، أو عنه غفلوا، فإنا نعلم سرهم ونجواهم، وما يمكرون ويبيتون، ومهما حلمنا عليهم وأمهلناهم، فإنا نعمرهم ما يتذكر فيه من تذكر، ونمتعهم استدراجا ثم نسوقهم إلى العذاب الشديد الأكبر، كما تهددهم القوي العزيز بقوله المجيد :).. قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار( ١(.. والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم( ٢ ).. قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار( ٣.
١ سورة الزمر. من الآية ٨..
٢ سورة محمد- عليه السلام- من الآية ١٢..
٣ سورة إبراهيم. من الآية ٣٠..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٣:﴿ ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور ٢٣ نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ٢٤ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ٢٥ لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد٢٦ ﴾.
تسلية من الله تعالى لنبيه، ووعيد لمن خالفه وكذب بالحق لما جاءه، فإن من عمي عن الهدى يعود هلاكه على نفسه، وإليه يرجع وبال كفره، ولن تسأل أيها البشير النذير عن أصحاب الجحيم، فلا تأس ولا تحزن وتأسف على ما هم فيه من إصرار على الحنث العظيم، فهم راجعون إلينا، وموقوفون بين يدينا، نخبرهم بما كانوا قد أجرموا وعملوا، وما أسروا به، أو عنه غفلوا، فإنا نعلم سرهم ونجواهم، وما يمكرون ويبيتون، ومهما حلمنا عليهم وأمهلناهم، فإنا نعمرهم ما يتذكر فيه من تذكر، ونمتعهم استدراجا ثم نسوقهم إلى العذاب الشديد الأكبر، كما تهددهم القوي العزيز بقوله المجيد :).. قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار( ١(.. والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم( ٢ ).. قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار( ٣.
١ سورة الزمر. من الآية ٨..
٢ سورة محمد- عليه السلام- من الآية ١٢..
٣ سورة إبراهيم. من الآية ٣٠..

﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾ كيف يعبدون مع الله تعالى غيره وهم يقرون بأن خالق السموات والأرض هو الله دون سواه ؟ ! ويشهدون أنه لا يدانيه في عزه عز، ولا يماثله في علمه أحد :)ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم )١ فكيف يشركون معه ما لا يخلق شيئا، ولا يهدي إلى حق ؟ ! ﴿ قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ فأثن على المولى المعبود بحق العزيز العليم، واحمد الله الخالق الرزاق الكريم، واشكروه أن هداكم وعلمكم، وأنقذكم من جهالة المفتونين الغافلين.
١ سورة الزخرف. الآية ٩..
﴿ لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ﴾ ولربكم دون سواه تلك السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، وهو وحده مدبر أمر الكون كله، )والذين يدعون من دون الله لايخلقون شيئا وهم يخلقون( ١( ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون. وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون( ٢، وربنا هو الذي لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا يضره كفر الكافرين، وهو محمود في السماوات والأرضين )ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين( ٣.
١ سورة النحل. الآية ٢٠..
٢ سورة الأعراف. الآيتان: ١٩٢، ١٩٣..
٣ سورة الذاريات. الآيتان ٥٧، ٥٨..
﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ٢٧ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير٢٨ ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ٢٩ ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير٣٠ ﴾
لما بينت السورة المباركة أن ربنا الذي خلق السماء بغير عمد، وخلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وبث فيها من كل دابة، وأنبت بالمطر صنوف النبات، فأحيا به الجماد والحيوان والإنسان، وأن مولانا الذي وسع علمه كل شيء وإن دق- خردلة أو ذرة أو أصغر من ذلك أو أكبر- ونعمه الظاهرة والباطنة لا نحصيها، وهو الخالق والمدبر والمالك لكل ذلك ولما وراء ذلك- هذا الولي الكريم صاحب الفضل العظيم لا نحصي أفضاله، ولو كانت أغصان أشجار الأرض أقلاما١، وبحار الأرض مدادا، وكتب بهذه الأقلام آلاء الملك العلام لجفت البحار ونفد ماؤها ولم تنفد كلمات الله، ولو جيء بمثل الأبحر ومثلها كما جاء في آية كريمة أخرى :)قل لو كان البحر مدادا كلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا )٢[ وإنما الغرض الإعلام بكثرة معاني كلمات الله، وهي في نفسها غير متناهية، وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة، لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور ]٣، ﴿ إن الله عزيز ﴾ له العزة الغالبة على الكل﴿ حكيم ﴾ لا يفوته صواب، ولا يخفى عليه شيء، - أي عزيز قد عز كل شيء وقهره وغلبه، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه.
﴿ حكيم ﴾ في خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه، وجميع شئونه-٤.
١ أورد صاحب﴿روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني] بحثا في أعاريب النحاة للقول الحكيم:{ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر﴾ وأطال في ذكر اختلاف أعاريبهم، حتى زاد البحث على ألف وخمسمائة كلمة. جـ ٢١. ص ٩٧، ٩٨. ٩٩..
٢ سورة الكهف. الآية ١٠٩..
٣ ما بين العلامتين[ ] مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن، وأسند هذا ونحوه إلى القفال، والقشيري، وأبي علي، وأبي جعفر النحاس، ونقل عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن اليهود قالت: يا محمد! كيف عنينا بهذا القول:) وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه، وعندك أنها تبيان كل شيء؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" التوراة قليل من كثير" ونزلت هذه الآية، والآية مدنية اهـ..
٤ ما بين العارضتين مما أورد ابن كثير..
﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾ ما خلقكم معاشر الخلق جميعا ولا بعثكم إلا كخلق نفس واحدة أو كبعث نفس واحدة، وصدق الله العظيم :)وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر( ١ )وإنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون( ٢ فالبدء والإعادة للكافة هين على ربنا الذي لا يعجزه شيء ولا يشغله شيء عن شيء- ولا توقف لذلك على آلة ومباشرة تقتضي التعاقب ليختلف عنده تعالى الواحد والكثير كما يختلف ذلك عند العباد-٣﴿ إن الله سميع بصير ﴾ بالغ سمع ربي كل شيء )سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار( ٤، ونافذ بصره إلى كل مبصر.
١ سورة القمر. الآية ٥٠..
٢ سورة النحل. الآية ٤٠..
٣ ما بين العارضتين أورده الألوسي..
٤ سورة الرعد. الآية ١٠..
﴿ ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ﴾ ألم تر رؤيا بصيرية علمية ؟ ! والخطاب لكل من يتأتى منه الإدراك- ألم تعلم أن الله المدبر المهيمن يدخل الليل في النهار ).. يغشي الليل النهار.. ( ١ أو ينقص من هذا فيزيد في ذاك، ويدخل النهار في الليل ؟ ! يزيد من نقصان ساعات الليل في ساعات النهار.. ، يزيد ما نقص من ساعات النهار في ساعات الليل-٢ وهذا الإيلاج إنما هو في هذا العالم ليس عند ربك صباح ولا مساء، وقدم الشمس على القمر في قوله تعالى :﴿ وسخر الشمس والقمر ﴾ مع تقديم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لأنها كالمبدإ للقمر ولأن تسخيرها لغاية أعظم من تسخير القمر، وأيضا آثار ذلك التسخير أعظم من آثار تسخيره ]، وتسخيرهما : تذليلهما وإلزامهما السنن المراد منفعة للعباد، ﴿ كل يجري إلى أجل مسمى ﴾ كل ذلك يجري إلى وقت علمه الله تعالى، حين ينقضي أمد حياة هذا الكون، ﴿ وأن الله بما تعملون بصير ﴾ واستيقنوا أن أعمالكم يراها الله، فأروا الخبير البصير من أنفسكم خيرا، واحذروا أن يراكم حيث نهاكم، فإنه مجازيكم بما كنتم تعملون، يقول صاحب جامع البيان : وخرج هذا الكلام خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى به المشركون، وذلك أنه تعالى ذكره نبه بقوله أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل على موضع حجته من جهل عظمته، وأشرك في عبادته معه غيره، يدل على ذلك قوله :﴿ ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل ﴾
١ سورة الأعراف. من الآية ٥٤..
٢ ما بين العارضتين أورده الطبري..
﴿ ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل ﴾. اه هذا الذي أوحى إليك يا محمد من آثار قدرتي وحكمتي في إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، وتسخير الشمس والقمر إنما يفعله الإله الذي يستحق العبادة، أما ما يعبدون من دون الله فهم أموات غير أحياء )ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها.. ( ١.
﴿ وأن الله هو العلي الكبير ﴾ والله المعبود بحق علا على كل شيء فقهره، فهو الذي بيده ملكوت كل شيء وهو الذي ذلل وسخر، وهل بعد تسخير السماوات والأرض تسخير :( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( ٢﴿ الكبير ﴾ الذي كل شيء دونه فله متصاغر.
١ سورة الأعراف. من الآية ١٩٥..
٢ سورة فصلت. الآية ١١..
﴿ لآيات ﴾ جمع آية، أي علامة ودليل، وحجة وبرهان.
﴿ صبار ﴾ مبالغ في الصبر، وقد تكون أبلغ من [ صبور ].
﴿ شكور ﴾ كثير الشكر.
﴿ ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور٣١ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور٣٢ ﴾
ألم تعلم يا من يتأى منه العلم أن جنس السفن والجوار المنشآت تجري على سطح الماء في البحر بتسخير الله تعالى لها، وتذليله وما يمخر فيه لمنافع العباد من جلب أقوات، ونقل تجارة، وتيسير عمارة، وطلب علم، وصلة رحم، وقهر عدو، ومشاهدة واعتبار، وتبارك المنعم الوهاب الذي عمت آلاؤه ).. وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون. لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين( ١ لتروا من علامات قدرته وتسخيره ما يزيد الذين اهتدوا هدى، ﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾ إن في كل ما ذكرتم به من آثار الملك والخلق، والتدبير والرزق، لعلامات لأهل اليقين والصدق، والصبر على الوفاء بعهد الله وميثاقه، والشكر على ما أعطى ووهب، وما صرف من بلايا وكرب، وفي الآية التاسعة والعشرين تذكير بتسخيره سبحانه لكواكب السماء، وفي هذه الآية تذكير بتسخيره جل علاه لصفحة الماء، فهي على رقتها ولطافتها تحمل المنشآت في البحر كالأعلام، وتجري تمخر وتشق اللجج بقدرة الملك العلام- إن قال قائل : وكيف خص هذه الدلالة بأنها دلالة للصبار الشكور دون سائر الخلق ؟ قيل : لأن الصبر والشكر من أفعال ذوي الحجة والعقول، فأخبر أن في ذلك لآيات لكل ذي عقل، لأن الآيات جعلها الله عبرا لذوي العقول والتمييز٢. مما قال أهل المعاني : والعلامة لا تستبين في صدر كل مؤمن، إنما تستبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء. اه ومما جاء في روح المعاني :﴿ صبار شكور ﴾ كناية عن المؤمن.. لأن هاتين الصفتين عمدتا الإيمان... وقيل المراد بالصبار كثير الصبر على التعب في كسب الأدلة من الأنفس والآفاق... وإنما اختير زيادة المبالغة في الصبر إيماء إلى أن قليله- لشدة مرارته وزيادة ثقله على النفس- كثير. اه.
١ سورة الزخرف. من الآية ١٢، والآية ١٣..
٢ ما بين العارضتين من جامع البيان.. للطبري..
﴿ غشيهم ﴾ غطاهم.
﴿ كالظلل ﴾ جمع ظلة، وهو ما يظل ويستر.
﴿ مقتصد ﴾ سالك القصد، وهو الطريق المستقيم، وأصله : استقامة الطريق.
﴿ ختار ﴾ غدار أشد الغدر.
﴿ كفور ﴾ ممعن في الكفر.
﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ فإذا ركبوا البحر وجرت بهم السفينة هادئة فرحوا، فإذا فاجأتهم الريح العاصف وجاءهم الموج من كل مكان وغطاهم كأنه سحاب، وظنوا أنهم أحيط بهم ).. دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين( ١ ).. تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين( ٢، ﴿ فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ﴾ فلما كشف الله تعالى ضرهم، وأمن خوفهم، فرج كربهم، فمنهم سالك القصد، والطريق المستقيم، موف بعهد الله العلي العظيم، ، ومنهم من ينقض وينكث، ويغدر بعهد عاهد عليه ربه حين مسه الضر، بدليل قول الله سبحانه :﴿ وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ﴾ هم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، فهم أشد الناس غدرا، وأقبحهم فجورا وكفورا، إذ بالغ في كفران نعم الله.
١ سورة يونس. من الآية ٢٢..
٢ سورة الأنعام. من الآية ٦٣..
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ٣٣ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ٣٤ ﴾
أعذر الله تعالى إلى الناس فحذرهم نفسه وغضبه ونقمته، وأنذرهم لقاءه وحسابه وجزاءه، وأن يوم الفصل يعظم فيه الهول، ولا يغني أحد عن أحد، كما قال جل علاه :)لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم.. ( ١ وقال تبارك اسمه :)ولا يسأل حميم حميما. يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه. وصاحبته وأخيه. وفصيلته التي تؤويه. ومن في الأرض جميعا.. ( ٢ )يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه. لكل امرئ منهم يومئد شأن يغنيه( ٣، ﴿ إن وعد الله حق ﴾ إن الساعة لآتية لا ريب فيها، فلا تشغلنكم زخارف الحياة الدنيا، ولا يلهينكم لعبها وتكاثرها وتفاخرها، ولا يحسبن أحد مهما جمع أن ماله سيخلده، أو أن سلطانه في الدنيا سينجده، كلا ! سيعرف عجزه وانقطاعه يومئذ ويندم حين لا ينفعه الندم ).. فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. ياليتها كانت القاضية. ما أغنى عني ماليه. هلك عني سلطانيه( ٤، ﴿ ولا يغرنكم بالله الغرور ﴾ ولا يخدعنكم الشيطان، فإنه لكم عدو فاتخذوه عدوا، وإنه لم يوالي حزبه إلا إلى حين يستحوذ عليهم ويغويهم، ثم يتبرأ منهم ويعاديهم )كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين. فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها.. ( ٥ )وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل.. ( ٦ وإنما، سمي غرورا لأنه يمني الخلق ويلهيهم عن الآخرة كما وصفه الله تعالى وكشف كيده :)يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا( ٧، نقل عن سعيد بن جبير : هو أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة. اه وعن الراغب : الغرور هو كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان. اه والظاهر أن﴿ بالله ﴾ صلة﴿ يغرنكم ﴾ أي لا يخدعنكم بذكر شيء من شئونه تعالى يجسركم على معاصيه سبحانه٨.
١ سورة الممتحنة. من الآية ٣..
٢ سورة الحاقة: الآيات: من ١٠ إلى ١٣، ومن الآية ١٤..
٣ سورة عبس. الآيات: ٣٤، ٣٥، ٣٦، ٣٧..
٤ سورة الحاقة من الآية ٢٥، والآيات ٢٦، ٢٧، ٢٨، ٢٩..
٥ سورة الحشر. الآية ١٦، ومن الآية ١٧..
٦ سورة إبراهيم. من الآية ٢٢..
٧ سورة النساء. الآية ١٢٠..
٨ ما بين العارضتين مما أورد الألوسي..
﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ﴾ استيقنوا أن الله المعبود بحق يعلم ما لا تعلمون، فلا يعلم متى تنتهي الدنيا وتجيء الآخرة إلا الله عز وجل، وهو الذي ينزل المطر فيغيث به العباد والبلاد، ويسوقه سبحانه إلى حيث يشاء بقدر ما يشاء ويصرفه عمن يشاء، وهو تعالى شأنه يصورنا في الأرحام كيف يشاء، ويعطي كل جنين خلقه، وييسره لما خلق له، ﴿ وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ﴾ ومع أن الآدمي منساق بغريزته إلى الكسب والجمع والتملك، ومهما أوتي من حيلة، وأخذ بكل أسباب الوصول، فإن العاقبة تبقى بيد الفعال لما يريد :)ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده.. ( ١، فما في مقدور إنسان أن يقرر ماذا هو فاعل غدا ؟ وماذا هو مدرك مما يطلب ؟ وماذا ينال من سراء أو ضراء، من نعمة أو بلاء، وليس في مقدور بشر أن يكون على دراية تامة بمصرعه أين يكون، ، هل توافيه المنية حالا أم مرتحلا ؟ هل يفارق الحياة في الدار أم في العمل ؟ هل في مضجعه أم في مركبه أم في مستشفاه ؟ ! إن الله أحاط بكل شيء علما، وهو ذو الخبرة بما كان وما سيكون وما هو كائن، تعالى شأنه، - هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب :).. لا يجليها لوقتها إلا هو.. ( ٢ وكذلك إنزال الغيث.. وهذه شبيهة بقوله تعالى :)وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو.. ( ٣ الآية، وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب-٤ في صحيح البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما بارزا للناس إذ أتاه ٥ رجل يمشي فقال : يا رسول الله ! ما الإيمان ؟ قال :" الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته٦ ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر " قال : يا رسول الله ! ما الإسلام ؟ قال :" الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان " قال : يا رسول الله ! ما الإحسان ؟ قال " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " قال : يا رسول الله ! متى الساعة ؟ قال :" ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها إذا ولدت المرأة٧ ربتها فذاك من أشراطها وإذا كان الحفاة العراة رءوس الناس فذاك من أشراطها في خمس٨ لا يعلمهن إلا الله﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ﴾ ثم انصرف الرجل فقال " ردوه علي " فأخذوا ليردوا فلم يردوا شيئا فقال : " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم "، وروايته عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" مفاتيح الغيب خمس ثم قرأ :﴿ إن الله عنده علم الساعة ﴾ " " نقل صاحب تفسير غرائب القرآن عن التفسير الكبير : ليس مقصود الآية أنه تعالى مختص بمعرفة هذه الأمور فقط... وإنما المراد أنه وقد حذر الناس من يوم القيامة، كان لقائل أن يقول : متى الساعة ؟ فذكر أن هذا العلم لا يحصل لغيره، ولكن هو كائن لدليلين ذكرهما مرارا، وهو إنزال الغيث المستلزم لإحياء الأرض، وخلق الأجنة في الأرحام، فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة بالأولى، ثم إنه كأنه قال : أيها السائل إن لك شيئا أهم منها لا تعلمه، فإنك لا تعلم معاشك ومعادك، فلا تعلم﴿ ماذا تكسب غدا ﴾ مع أنه فعلك وزمانك، ولا تعلم أين تموت، مع أنه شغلك ومكانك، فكيف تعلم قيام الساعة ؟ !... قال جار الله : جعل العلم لله والدراية للعبد لما في معنى الدراية من معنى الختل والحيلة، كأنه قال : إنها لا تعرف وإن أعملت حيلها. اه مما جاء في الجامع لأحكام القرآن : والمراد إبطال كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء٩ وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك.. وقد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم له تعالى وحده. اه.
١ سورة فاطر. من الآية ٢..
٢ سورة الأعراف. من الآية ١٨٧..
٣ سورة الأنعام. من الآية ٥٩..
٤ ما بين العارضتين أورده ابن كثير، وقد أورد في تفسيرها أحاديث تزيد كلماته على ألف وخمسمائة كلمة..
٥ في رواية:" جاءه"..
٦ في رواية:" وكتبه"..
٧ في رواية(الأمة (..
٨ في رواية:" وخمس"..
٩ وهي النجوم والمنازل للكواكب، وربما يكون هنا سقط، نحو: يعلمون شيئا، لكن هذا أورده القرطبي..
Icon