تفسير سورة الجاثية

فتح القدير
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير المعروف بـفتح القدير .
لمؤلفه الشوكاني . المتوفي سنة 1250 هـ
سورة الجاثية
هي سبع وثلاثون آية وقيل ست وثلاثون وهي مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة، وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : إلا آية منها، وهي قوله :﴿ للذين آمنوا ﴾ إلى ﴿ أيام الله ﴾ فإنها نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب كما سيأتي.

الجزء الخامس
سورة الجاثية
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَجَابِرٍ وَعِكْرِمَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: إِلَّا آيَةً مِنْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ آمَنُوا إِلَى أَيَّامَ اللَّهِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كما سيأتي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١ الى ١٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩)
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)
قَوْلُهُ: حم قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْفَاتِحَةِ وَفِي إِعْرَابِهَا فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ غَافِرٍ وَمَا بَعْدَهَا، فَإِنْ جُعِلَ اسْمًا لِلسُّورَةِ فَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ مُبْتَدَأٌ، وَإِنْ جُعِلَ حُرُوفًا مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ فَلَا مَحَلَّ لَهُ، وَقَوْلُهُ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ خَبَرٌ ثَانٍ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ فَقَالَ: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: فِيهَا نَفْسِهَا فَإِنَّهَا مِنْ فُنُونِ الْآيَاتِ، أَوْ فِي خَلْقِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَوْلُهُ: وَفِي خَلْقِكُمْ أَيْ:
فِي خَلْقِكُمْ أَنْفُسِكُمْ عَلَى أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ إِلَى أَنْ يَصِيرَ إِنْسَانًا وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ أَيْ: وَفِي خَلْقٍ مَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ، وَارْتِفَاعُ آيَاتٍ عَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ قَبْلَهُ، وَبِالرَّفْعِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «آيَاتٍ» بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: وَفِي
5
خَلْقِكُمْ
كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنَّ فِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا تَأْكِيدٌ لِآيَاتٍ الْأُولَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِنَصْبِهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْجَرِّ فِي «اخْتِلَافِ»، أَمَّا جَرُّ «اخْتِلَافِ» فهو على تقرير حرف الجرّ، أي: وفي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ آيَاتٌ، فَمَنْ رَفَعَ «آيَاتٌ» فَعَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا: «فِي اخْتِلَافِ»، وَأَمَّا النَّصْبُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ إِنَّ، تَقُولُ الْعَرَبُ: إِنَّ لِي عَلَيْكَ مَالًا وَعَلَى أَخِيكَ مَالٌ، يَنْصِبُونَ الثَّانِي وَيَرْفَعُونَهُ وَلِلنُّحَاةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَلَامٌ طَوِيلٌ. وَالْبَحْثُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَحُجَجُ الْمُجَوِّزِينَ لَهُ وَجَوَابَاتُ الْمَانِعِينَ لَهُ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، مَبْسُوطٌ فِي مُطَوَّلَاتِهِ. وَمَعْنَى ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ مَا يُفَرِّقُهُ وَيَنْشُرُهُ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تعاقبهما أو تفارقهما فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَقَوْلُهُ: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ مَعْطُوفٌ عَلَى اخْتِلَافِ، وَالرِّزْقُ: الْمَطَرُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِكُلِّ مَا يَرْزُقُ اللَّهُ الْعِبَادَ بِهِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ: إِخْرَاجُ نَبَاتِهَا، ومَوْتِها خلوّها عن النبات ومعنى تَصْرِيفِ الرِّياحِ أَنَّهَا تَهُبُّ تَارَةً مِنْ جِهَةٍ، وَتَارَةً مِنْ أُخْرَى، وَتَارَةً تَكُونُ حَارَّةً، وَتَارَةً تَكُونُ بَارِدَةً، وَتَارَةً نَافِعَةً، وَتَارَةً ضَارَّةً تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ أَيْ: هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَرَاهِينُهُ، وَمَحَلُّ: نَتْلُوهَا عليك بالنصب عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَآيَاتُ اللَّهِ بَيَانٌ لَهُ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ نَتْلُو، أَوْ مِنْ مفعوله، أي: محقّين، أو متلبسة بِالْحَقِّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَتَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْفِعْلِ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي: بعد حديث الله وبعد الْآيَاتِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بَعْدَ حَدِيثِ اللَّهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ، وَالْعَطْفُ لِمُجَرَّدِ التَّغَايُرِ الْعُنْوَانِيِّ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُؤْمِنُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: يُؤْمِنُونَ بِأَيِّ حَدِيثٍ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أَيْ: لِكُلِّ كَذَّابٍ كَثِيرِ الْإِثْمِ مُرْتَكِبٍ لِمَا يُوجِبُهُ، وَالْوَيْلُ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْأَفَّاكَ بِصِفَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ وَقِيلَ:
إِنَّ يَسْمَعُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: اسْتِئْنَافٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ: تُتْلى عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ ثُمَّ يُصِرُّ عَلَى كُفْرِهِ وَيُقِيمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَكْبِراً أَيْ: يَتَمَادَى عَلَى كُفْرِهِ مُتَعَظِّمًا فِي نَفْسِهِ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ، وَالْإِصْرَارُ مَأْخُوذٌ مِنْ إِصْرَارِ الْحِمَارِ عَلَى الْعَانَةِ «١»، وَهُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ عَلَيْهَا صَارًّا أُذُنَيْهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا سَمِعَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا، وَجُمْلَةُ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ هَذَا مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ أَيْ: فَبَشِّرْهُ عَلَى إِصْرَارِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ وَعَدَمِ اسْتِمَاعِهِ إِلَى الْآيَاتِ بِعَذَابٍ شَدِيدِ الْأَلَمِ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «عَلِمَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ مُخَفَّفَةً عَلَى الْبِنَاءِ للفاعل. وقرأ قتادة
(١). «العانة» : الأتان (الحمارة).
6
وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ شَيْءٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ اتَّخَذَها أَيِ:
الْآيَاتِ هُزُواً وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي «اتَّخَذَهَا» عَائِدٌ إِلَى «شَيْئًا» لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْآيَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى كُلِّ أَفَّاكٍ مُتَّصِفٍ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ بِسَبَبِ مَا فَعَلُوا مِنَ الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَنْ سَمَاعِ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّخَاذِهَا هُزُوًا، وَالْعَذَابُ الْمُهِينُ هُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْإِذْلَالِ وَالْفَضِيحَةِ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أَيْ: مِنْ وَرَاءِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّعَزُّزِ بِالدُّنْيَا وَالتَّكَبُّرِ عَنِ الْحَقِّ جَهَنَّمُ، فَإِنَّهَا مِنْ قُدَّامِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُتَوَجِّهُونَ إِلَيْهَا، وَعَبَّرَ بِالْوَرَاءِ عَنِ الْقُدَّامِ، كَقَوْلِهِ: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ «١» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي «٢»......................
وَقِيلَ: جَعَلَهَا بِاعْتِبَارِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا كَأَنَّهَا خَلْفَهُمْ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً أَيْ: لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ النَّفْعِ وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ مَعْطُوفٌ عَلَى «مَا كَسَبُوا»، أَيْ: وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَ «مَا» فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَزِيَادَةُ لَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّأْكِيدِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فِي جَهَنَّمَ الَّتِي هِيَ مِنْ وَرَائِهِمْ هَذَا هُدىً جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، يَعْنِي هَذَا الْقُرْآنُ هُدًى لِلْمُهْتَدِينَ بِهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ الْقُرْآنِيَّةِ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ الرِّجْزُ: أَشَدُّ الْعَذَابِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَلِيمٍ» بِالْجَرِّ صِفَةً لِلرِّجْزِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالرَّفْعِ صِفَةً لِعَذَابٍ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ أَيْ: جَعَلَهُ عَلَى صِفَةٍ تَتَمَكَّنُونَ بِهَا مِنَ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ أَيْ: بِإِذْنِهِ وَإِقْدَارِهِ لَكُمْ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بِالتِّجَارَةِ تَارَةً، وَالْغَوْصِ لِلدُّرِّ، وَالْمُعَالَجَةِ لِلصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ: لِكَيْ تَشْكُرُوا النِّعَمَ الَّتِي تَحْصُلُ لَكُمْ بِسَبَبِ هَذَا التَّسْخِيرِ لِلْبَحْرِ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ أي: سخّر لعباده جميع مَا خَلَقَهُ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُهُمْ وَتَقُومُ بِهِ مَعَايِشُهُمْ، وَمِمَّا سَخَّرَهُ لهم من مخلوقات السموات الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ النَّيِّرَاتُ وَالْمَطَرُ وَالسَّحَابُ وَالرِّيَاحُ، وَانْتِصَابُ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَوْ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَقَوْلُهُ «مِنْهُ» يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صفة لجميعا، أي: كائنة منه، ويجوز أن يتعلّق بسخر، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ مَا فِي السماوات، أو خبر المبتدأ مَحْذُوفٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ التَّسْخِيرِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَخَصَّ الْمُتَفَكِّرِينَ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مَنْ تَفَكَّرَ فِيهَا، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنَ التَّفَكُّرِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى التَّوْحِيدِ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا أَيْ: قُلْ لَهُمُ: اغْفِرُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ اللَّامِ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ لِيَغْفِرُوا. وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ:
يَتَجَاوَزُوا عَنِ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ وَقَائِعَ اللَّهِ بِأَعْدَائِهِ، أَيْ: لَا يَتَوَقَّعُونَهَا، وَمَعْنَى الرَّجَاءِ هُنَا الْخَوْفُ، أي: هُوَ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ. وَالْمَعْنَى: لَا يَرْجُونَ ثَوَابَهُ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي وَقَّتَهَا اللَّهُ لِثَوَابِ المؤمنين، والأوّل أولى. والأيام
(١). إبراهيم: ١٦.
(٢). وعجزه: أدبّ مع الولدان أزحف كالنّسر.
7
يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْوَقَائِعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تفسير قوله: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ «١» قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَخْشَوْنَ مِثْلَ عَذَابِ اللَّهِ لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فَلَا يَخَافُونَ عِقَابَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا يَأْمُلُونَ نَصْرَ اللَّهِ لِأَوْلِيَائِهِ وَإِيقَاعَهُ بِأَعْدَائِهِ، وَقِيلَ: لَا يَخَافُونَ الْبَعْثَ. قِيلَ: وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «لِنَجْزِيَ» بِالنُّونِ أَيْ: لِنَجْزِيَ نَحْنُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَعَاصِمٌ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مَعَ نَصْبِ قَوْمًا، فَقِيلَ:
النَّائِبُ عَنِ الْفَاعِلِ مَصْدَرُ الْفِعْلِ، أَيْ: لِيُجْزَى الْجَزَاءُ قَوْمًا، وَقِيلَ: إِنَّ النَّائِبَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ «٢» :
وَلَوْ وَلَدَتْ قفيرة «٣» جَرْوَ كَلْبٍ لَسُبَّ بِذَلِكَ الْجَرْوِ الْكِلَابَا
وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَالْكُوفِيُّونَ، وَمَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَالْجُمْلَةُ لِتَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْمُؤْمِنُونَ، أُمِرُوا بِالْمَغْفِرَةِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا كَسَبُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الصَّبْرُ عَلَى أَذِيَّةِ الْكُفَّارِ وَالْإِغْضَاءُ عَنْهُمْ بِكَظْمِ الْغَيْظِ وَاحْتِمَالُ الْمَكْرُوهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لِيَجْزِيَ الْكُفَّارَ بِمَا عَمِلُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُكَافِئُوهُمْ أَنْتُمْ لِنُكَافِئَهُمْ نَحْنُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْمَالَهُمْ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَعْمَالَهُمْ فَقَالَ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَمَلَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ إِحْسَانٍ أَوْ إِسَاءَةٍ لِعَامِلِهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ وَفِيهِ تَرْغِيبٌ وَتَهْدِيدٌ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ إِنْ كَانَ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَشَرٌّ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: جَمِيعاً مِنْهُ قَالَ: مِنْهُ النُّورُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ هُوَ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ طَاوُسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَسَأَلَهُ: مِمَّ خُلِقَ الْخَلْقُ؟
قَالَ: مِنَ الْمَاءِ وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ، قَالَ: فَمِمَّ خُلِقَ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ أَتَى الرجل عبد الله ابن الزُّبَيْرِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ: مِمَّ خُلِقَ الْخَلْقُ؟ فَقَالَ: مِنَ الْمَاءِ وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالرِّيحِ وَالتُّرَابِ، قَالَ: فَمِمَّ خُلِقَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا كَانَ لِيَأْتِيَ بِهَذَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أهل بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا الْآيَةَ قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا آذَوْهُ، وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُقَاتِلَ المشركين كافة، فكان هذا من المنسوخ.
(١). إبراهيم: ٥.
(٢). هو جرير.
(٣). «قفيرة» : أم الفرزدق.
8
وقوله :﴿ تَنزِيلُ الكتاب ﴾ على الوجه الأوّل خبر ثان، وعلى الوجه الثاني خبر المبتدأ، وعلى الوجه الثالث خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره ﴿ مِنَ الله العزيز الحكيم ﴾.
ثم أخبر سبحانه بما يدل على قدرته الباهرة، فقال :﴿ إِنَّ فِي السموات والأرض لآيات لّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي فيها نفسها، فإنها من فنون الآيات، أو في خلقها. قال الزجاج : ويدلّ على أن المعنى في خلق السموات والأرض.
قوله :﴿ وَفِى خَلْقِكُمْ ﴾ أي في خلقكم أنفسكم على أطوار مختلفة. قال مقاتل : من تراب، ثم من نطفة إلى أن يصير إنساناً، ﴿ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءَاياتٌ ﴾ أي وفي خلق ما يبثّ من دابة، وارتفاع آيات على أنها مبتدأ مؤخر وخبره الظرف قبله، وبالرفع قرأ الجمهور، وقرأ حمزة، والكسائي ﴿ آيات ﴾ بالنصب عطفاً على اسم إن، والخبر قوله :﴿ وَفِى خَلْقِكُمْ ﴾ كأنه قيل : وإن في خلقكم وما يبثّ من دابة آيات، أو على أنها تأكيد لآيات الأولى.
وقرأ الجمهور أيضاً ﴿ آياتٌ لقوم يعقلون ﴾ بالرّفع وقرأ حمزة والكسائي بنصبها مع اتفاقهم على الجرّ في اختلاف، أما جرّ اختلاف، فهو على تقدير حرف الجرّ : أي ﴿ و ﴾ في ﴿ اختلاف الليل والنهار ﴾ آيات، فمن رفع آيات، فعلى أنها مبتدأ، وخبرها : في اختلاف، وأما النصب فهو من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين. قال الفراء : الرفع على الاستئناف بعد إنّ، تقول العرب : إنّ لي عليك مالاً وعلى أخيك مال، ينصبون الثاني ويرفعونه وللنحاة في هذا الموضع كلام طويل. والبحث في مسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين وحجج المجوّزين له وجوابات المانعين له مقرّر في علم النحو مبسوط في مطوّلاته. ومعنى ﴿ مَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ﴾ ما يفرقه وينشره ﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ تعاقبهما أو تفاوتهما في الطول والقصر، وقوله :﴿ وَمَا أَنَزَلَ الله مِنَ السماء مَّن رِزْقٍ ﴾ معطوف على اختلاف، والرزق المطر، لأنه سبب لكل ما يرزق الله العباد به، وإحياء الأرض : إخراج نباتها، و ﴿ مَوْتِهَا ﴾ خلّوها عن النبات ﴿ وَ ﴾ معنى ﴿ تَصْرِيفِ الرياح ﴾ أنها تهب تارة من جهة، وتارة من أخرى، وتارة تكون حارّة وتارة تكون باردة، وتارة نافعة، وتارة ضارّة.
﴿ تِلْكَ آيات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ ﴾ أي هذه الآيات المذكورة هي حجج الله وبراهينه، ومحل ﴿ نتلوها عليك ﴾ النصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر اسم الإشارة، وآيات الله بيان له أو بدل منه، وقوله :﴿ بالحق ﴾ حال من فاعل نتلو، أو من مفعوله : أي محقين، أو ملتبسة بالحقّ، ويجوز أن تكون الباء للسببية، فتتعلق بنفس الفعل ﴿ فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ﴾ أي بعد حديث الله وبعد آياته، وقيل إن المقصود : فبأي حديث بعد آيات الله، وذكر الاسم الشريف ليس إلاّ لقصد تعظيم الآيات، فيكون من باب : أعجبني زيد، وكرمه. وقيل المراد بعد حديث الله، وهو القرآن كما في قوله :﴿ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث ﴾ [ الزمر : ٢٣ ]، وهو المراد بالآيات، والعطف لمجرّد التغاير العنواني. قرأ الجمهور :( تؤمنون ) بالفوقية، وقرأ حمزة والكسائي بالتحتية. والمعنى : يؤمنون بأيّ حديث، وإنما قدّم عليه ؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام.
﴿ وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ أي لكل كذاب كثير الإثم مرتكب لما يوجبه، والويل واد في جهنم.
ثم وصف هذا الأفاك بصفة أخرى، فقال :﴿ يَسْمَعُ آيات الله تتلى عَلَيْهِ ﴾ وقيل : إن " يسمع " في محل نصب على الحال، وقيل : استئناف، والأول أولى، وقوله :﴿ تتلى عَلَيْهِ ﴾ في محل نصب على الحال ﴿ ثُمَّ يُصِرُّ ﴾ على كفره، ويقيم على ما كان عليه حال كونه ﴿ مُسْتَكْبِراً ﴾ أي يتمادى على كفره متعظماً في نفسه عن الانقياد للحقّ، والإصرار مأخوذ من إصرار الحمار على العانة، وهو أن ينحني عليها صارًّا أذنيه. قال مقاتل : إذا سمع من آيات القرآن شيئًا اتخذها هزواً، وجملة ﴿ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ﴾ في محل نصب على الحال، أو مستأنفة، وأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف ﴿ فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ هذا من باب التهكم أي فبشّره على إصراره واستكباره، وعدم استماعه إلى الآيات بعذاب شديد الألم.
﴿ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آياتنا شَيْئاً ﴾ قرأ الجمهور :﴿ عَلِمَ ﴾ بفتح العين، وكسر اللام مخففة على البناء للفاعل. وقرأ قتادة، ومطر الورّاق على البناء للمفعول. والمعنى : أنه إذا وصل إليه علم شيء من آيات الله ﴿ اتخذها ﴾ أي الآيات ﴿ هُزُواً ﴾ وقيل : الضمير في اتخذها عائد إلى ﴿ شيئًا ﴾، لأنه عبارة عن الآيات، والأوّل أولى. والإشارة بقوله :﴿ أولئك ﴾ إلى كلّ أفّاك متصف بتلك الصفات ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ بسبب ما فعلوا من الإصرار، والاستكبار عن سماع آيات الله، واتخاذها هزواً، والعذاب المهين هو المشتمل على الإذلال والفضيحة.
﴿ مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ﴾ أي من وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا والتكبر عن الحقّ جهنّم، فإنها من قدّامهم لأنهم متوجهون إليها، وعبر بالوراء عن القدّام، كقوله :﴿ مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ﴾ [ إبراهيم : ١٦ ] وقول الشاعر :
أليس ورائي إن تراخت منيتي ***. . .
وقيل : جعلها باعتبار إعراضهم عنها، كأنها خلفهم ﴿ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً ﴾ أي لا يدفع عنهم ما كسبوا من أموالهم، وأولادهم شيئًا من عذاب الله، ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع ﴿ وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء ﴾ معطوف على ﴿ ما كسبوا ﴾ أي ولا يغني عنهم ما اتخذوا من دون الله أولياء من الأصنام، و «ما » في الموضعين إما مصدرية، أو موصولة، وزيادة «لا » في الجملة الثانية للتأكيد ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾ في جهنم التي هي من ورائهم.
﴿ هذا هُدًى ﴾ جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر، يعني : هذا القرآن هدى للمهتدين به ﴿ والذين كَفَرُواْ بآيات رَبّهِمْ ﴾ القرآنية ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ الرجز أشدّ العذاب. قرأ الجمهور :( أليم ) بالجرّ صفة للرّجز. وقرأ ابن كثير وحفص وابن محيصن بالرفع صفة لعذاب.
﴿ الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر ﴾ أي جعله على صفة تتمكنون بها من الركوب عليه ﴿ لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ ﴾ أي بإذنه وإقداره لكم ﴿ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ بالتجارة تارة، والغوص للدرّ، والمعالجة للصيد وغير ذلك ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي لكي تشكروا النعم التي تحصل لكم بسبب هذا التسخير للبحر.
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ ﴾ أي سخّر لعباده جميع ما خلقه في سماواته وأرضه مما تتعلق به مصالحهم، وتقوم به معايشهم، ومما سخّره لهم من مخلوقات السموات : الشمس والقمر، والنجوم النيرات، والمطر والسحاب والرّياح، وانتصاب ﴿ جميعاً ﴾ على الحال من ﴿ ما في السموات وما في الأرض ﴾، أو تأكيد له، وقوله :﴿ منه ﴾ يجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة ل ﴿ جميعاً ﴾ أي كائنة منه، ويجوز أن يتعلق بسخر، ويجوز أن يكون حالاً من ما في السموات، أو خبراً لمبتدأ محذوف. والمعنى : أن كل ذلك رحمة منه لعباده ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ المذكور من التسخير ﴿ لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ وخصّ المتفكرين ؛ لأنه لا ينتفع بها إلاّ من تفكر فيها، فإنه ينتقل من التفكر إلى الاستدلال بها على التوحيد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة من طريق عكرمة، عن ابن عباس في قوله :﴿ جَمِيعاً مّنْهُ ﴾ قال : منه النور والشمس والقمر. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : كل شيء هو من الله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله ممّ خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة، والهواء والتراب، قال : فمم خلق هؤلاء ؟ قال : لا أدري. ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير، فسأله، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس، فسأله ممّ خلق الخلق ؟ فقال : من الماء، والنور والظلمة، والريح والتراب، قال : فممّ خلق هؤلاء ؟ فقرأ ابن عباس ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ ﴾ فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا إلاّ رجل من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ قُل لّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ ﴾ الآية قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزئون به ويكذبونه، فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة، فكان هذا من المنسوخ.
﴿ قُل لّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ ﴾ أي قل لهم اغفروا يغفروا ﴿ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله ﴾ وقيل : هو على حذف اللام، والتقدير : قل لهم ليغفروا. والمعنى : قل لهم يتجاوزوا عن الذين لا يرجون وقائع الله بأعدائه، أي لا يتوقعونها، ومعنى الرجاء هنا : الخوف، وقيل : هو على معناه الحقيقي. والمعنى : لا يرجون ثوابه في الأوقات التي وقّتها الله لثواب المؤمنين، والأوّل أولى. والأيام يعبر بها عن الوقائع كما تقدّم في تفسير قوله :﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ﴾ [ إبراهيم : ٥ ] قال مقاتل : لا يخشون مثل عذاب الله للأمم الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون به فلا يخافون عقابه. وقيل المعنى : لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه، وقيل : لا يخافون البعث. قيل والآية منسوخة بآية السيف ﴿ لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي :( لنجزي ) بالنون : أي لنجزى نحن. وقرأ باقي السبعة بالتحتية مبنياً للفاعل : أي ليجزي الله. وقرأ أبو جعفر، وشيبة وعاصم بالتحتية مبنياً للمفعول مع نصب قوماً، فقيل : النائب عن الفاعل مصدر الفعل، أي ليجزى الجزاء قوماً، وقيل إن النائب الجارّ والمجرور، كما في قول الشاعر :
ولو ولدت فقيرة جرو كلب لسبّ بذلك الجرو الكلابا
وقد أجاز ذلك الأخفش والكوفيون، ومنعه البصريون، والجملة لتعليل الأمر بالمغفرة، والمراد بالقوم المؤمنون، أمروا بالمغفرة ليجزيهم الله يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار، والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه. وقيل المعنى : ليجزي الكفار بما عملوا من السيئات كأنّه قال : لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن، والأوّل أولى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة من طريق عكرمة، عن ابن عباس في قوله :﴿ جَمِيعاً مّنْهُ ﴾ قال : منه النور والشمس والقمر. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : كل شيء هو من الله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله ممّ خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة، والهواء والتراب، قال : فمم خلق هؤلاء ؟ قال : لا أدري. ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير، فسأله، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس، فسأله ممّ خلق الخلق ؟ فقال : من الماء، والنور والظلمة، والريح والتراب، قال : فممّ خلق هؤلاء ؟ فقرأ ابن عباس ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ ﴾ فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا إلاّ رجل من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ قُل لّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ ﴾ الآية قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزئون به ويكذبونه، فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة، فكان هذا من المنسوخ.
ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم، والمشركين وأعمالهم، فقال :﴿ مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾ والمعنى : أن عمل كل طائفة من إحسان أو إساءة لعامله لا يتجاوزه إلى غيره، وفيه ترغيب وتهديد ﴿ ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ فيجازي كلاً بعمله إن كان خيراً فخير، وإن كان شرًّا فشرّ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة من طريق عكرمة، عن ابن عباس في قوله :﴿ جَمِيعاً مّنْهُ ﴾ قال : منه النور والشمس والقمر. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : كل شيء هو من الله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله ممّ خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة، والهواء والتراب، قال : فمم خلق هؤلاء ؟ قال : لا أدري. ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير، فسأله، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس، فسأله ممّ خلق الخلق ؟ فقال : من الماء، والنور والظلمة، والريح والتراب، قال : فممّ خلق هؤلاء ؟ فقرأ ابن عباس ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ ﴾ فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا إلاّ رجل من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ قُل لّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ ﴾ الآية قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزئون به ويكذبونه، فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة، فكان هذا من المنسوخ.

[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٦ الى ٢٦]

وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥)
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦)
قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَبِالْحُكْمِ الْفَهْمُ وَالْفِقْهُ الَّذِي يَكُونُ بِهِمَا الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ وَفَصْلُ خُصُومَاتِهِمْ، وَبِالنُّبُوَّةِ مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَيِ: الْمُسْتَلَذَّاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ حَيْثُ آتَيْنَاهُمْ مَا لَمْ نُؤْتِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ فَلْقِ الْبَحْرِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ الدُّخَانِ وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أَيْ: شَرَائِعَ وَاضِحَاتٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَوْ مُعْجِزَاتٍ ظَاهِرَاتٍ، وَقِيلَ:
الْعِلْمَ بِمَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَشَوَاهِدَ نُبُوَّتِهِ، وَتَعْيِينَ مُهَاجَرِهِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ أَيْ:
فَمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ إِلَّا بَعْدَ مَجِيءِ الْعِلْمِ إِلَيْهِمْ بِبَيَانِهِ وَإِيضَاحِ مَعْنَاهُ، فَجَعَلُوا مَا يُوجِبُ زَوَالَ الْخِلَافِ مُوجِبًا لِثُبُوتِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَإِنَّهُ آمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ بَعْضُهُمْ، وَقِيلَ: نبوّة محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهَا حَسَدًا وَبَغْيًا، وَقِيلَ: بَغْياً مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِطَلَبِ الرِّئَاسَةِ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَذْهَبُ، وَالْمِلَّةُ، وَالْمِنْهَاجُ، وَيُقَالُ: لِمَشْرَعَةِ الْمَاءِ، وَهِيَ مَوْرِدُ شَارِبِيهِ، شَرِيعَةٌ، وَمِنْهُ الشَّارِعُ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى الْمَقْصِدِ، فَالْمُرَادُ بِالشَّرِيعَةِ هُنَا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ من الدين، والجمع شرائع، وقيل: جَعَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاضِحٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ يُوصِلُكَ إِلَى الْحَقِّ فَاتَّبِعْها فَاعْمَلْ بِأَحْكَامِهَا فِي أُمَّتِكَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَشَرَائِعَهُ لِعِبَادِهِ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: لَا يَدْفَعُونَ عَنْكَ شَيْئًا مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ بِكَ إِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ: أَنْصَارٌ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ
9
ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ أَوْلِيَاءُ الْيَهُودِ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أَيْ: نَاصِرُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ بَصائِرُ لِلنَّاسِ أَيْ: بَرَاهِينُ وَدَلَائِلُ لَهُمْ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ، جَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَصَائِرِ فِي الْقُلُوبِ، وَقُرِئَ هَذِهِ بَصَائِرُ أَيْ: هَذِهِ الْآيَاتُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بِمَعْنَاهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
........ سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ «١» لِأَنَّ الصَّوْتَ بِمَعْنَى الصَّيْحَةِ. وَهُدىً أَيْ: رُشْدٌ، وَطَرِيقٌ يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ وَرَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَيْ: مِنْ شَأْنِهِمُ الْإِيقَانُ وَعَدَمُ الشَّكِّ وَالتَّزَلْزُلِ بِالشُّبَهِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
«أَمْ» هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى بَلْ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الْبَيَانِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، وَالْهَمْزَةُ لِإِنْكَارِ الْحُسْبَانِ، وَالِاجْتِرَاحُ: الِاكْتِسَابِ، وَمِنْهُ الْجَوَارِحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَبَايُنِ حَالَيِ الْمُسِيئِينَ وَالْمُحْسِنِينَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
أَيْ: نُسَوِّي بَيْنَهُمْ، مَعَ اجْتِرَاحِهُمُ السَّيِّئَاتِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَسَنَاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
فِي دَارِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، كَلَّا لَا يَسْتَوُونَ، فَإِنَّ حَالَ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِيهِمَا غَيْرُ حَالِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ إِنْكَارُ أو يَسْتَوُوا فِي الْمَمَاتِ كَمَا اسْتَوَوْا فِي الْحَيَاةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «سَوَاءٌ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالْمُبْتَدَأُ:
مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ، وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ حُسْبَانِهِمْ أَنَّ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ سَوَاءٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ «سَوَاءً» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: كَالَّذِينَ آمَنُوا
أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لحسب، وَاخْتَارَ قِرَاءَةَ النَّصْبِ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ مَعْنَاهُ: نَجْعَلُهُمْ سَوَاءً، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ «مَمَاتَهُمْ» بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى: سَوَاءً فِي مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ، فَلَمَّا سَقَطَ الْخَافِضُ انْتَصَبَ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَفْعُولِ نَجْعَلُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
أَيْ: سَاءَ حُكْمُهُمْ هَذَا الَّذِي حَكَمُوا بِهِ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْحَقِّ الْمُقْتَضِي لِلْعَدْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَمَحَلُّ بِالْحَقِّ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبٌ، فَعَطَفَ السَّبَبَ عَلَى السَّبَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ليدلّ بهما على قدرته: «ولتجزى» يجوز أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيِ: النُّفُوسُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِكُلِّ نَفْسٍ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ ثَوَابٍ أَوْ زِيَادَةِ عِقَابٍ. ثُمَّ عَجِبَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: ذَلِكَ الْكَافِرُ اتَّخَذَ دِينَهُ مَا يَهْوَاهُ فَلَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْبُدُ مَا يَهْوَاهُ أَوْ يَسْتَحْسِنُهُ، فَإِذَا اسْتَحْسَنَ شَيْئًا وهويه اتخذه إلها. قال
(١). وصدره: يا أيّها الراكب المزجي مطيّته.
والبيت لرويشد بن كثير الطائي. (شرح المعلقات السبع للزوزني ص ٢٥٠) طبع دار ابن كثير.
10
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا رَأَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ رَمَى بِهِ وَعَبَدَ الْآخَرَ. وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أَيْ: عَلَى عِلْمٍ قَدْ عَلِمَهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَضَلَّهُ عَنِ الثَّوَابِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ أَنَّهُ ضَالٌّ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّنَمَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى سُوءٍ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ ضَالٌّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، ومحل «على علم» النصب على الحال من الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ أَيْ: طَبَعَ عَلَى سَمْعِهِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ الْوَعْظَ، وَطَبَعَ عَلَى قَلْبِهِ حَتَّى لَا يَفْقَهَ الْهُدَى وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أَيْ: غِطَاءً حَتَّى لَا يُبْصِرَ الرُّشْدَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «غِشَاوَةً» بِالْأَلْفِ مَعَ كَسْرِ الْغَيْنِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «غَشْوَةً» بِغَيْرِ أَلْفٍ مَعَ فَتْحِ الْغَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَئِنْ كُنْتِ أَلْبَسْتِنِي غَشْوَةً لَقَدْ كنت أصفيتك الْوُدَّ حِينًا
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مَعَ فَتْحِ الْغَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ رَبِيعَةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ بِضَمِّهَا، وَهِيَ لُغَةُ عُكْلٍ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ لَهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ تَذَكُّرَ اعْتِبَارٍ حَتَّى تَعْلَمُوا حَقِيقَةَ الْحَالِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ جَهَالَاتِهِمْ وَضَلَالَاتِهِمْ فَقَالَ: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أَيْ: مَا الْحَيَاةُ إلا الحياة الدنيا الَّتِي نَحْنُ فِيهَا نَمُوتُ وَنَحْيا أَيْ: يُصِيبُنَا الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ فِيهَا، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ حَيَاةٌ، وَقِيلَ: نَمُوتُ نَحْنُ وَيَحْيَا فِيهَا أَوْلَادُنَا، وَقِيلَ: نَكُونُ نُطَفًا مَيِّتَةً ثُمَّ نَصِيرُ أَحْيَاءً، وَقِيلَ:
فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: نَحْيَا وَنَمُوتُ، وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَمُرَادُهُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ إِنْكَارُ الْبَعْثِ وَتَكْذِيبُ الْآخِرَةِ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أَيْ: إِلَّا مُرُورُ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السِّنِينَ وَالْأَيَّامَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا الْعُمْرُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْمَعْنَى وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الْمَوْتُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا اللَّهُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أَيْ: مَا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِلَّا شَاكِّينَ غَيْرَ عَالِمِينَ بِالْحَقِيقَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ كَوْنَ ذَلِكَ صَادِرًا مِنْهُمْ لَا عَنْ عِلْمٍ، فَقَالَ: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أَيْ: مَا هُمْ إِلَّا قَوْمٌ غَايَةُ مَا عِنْدَهُمُ الظَّنُّ، فَمَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِهِ، وَلَا يَسْتَنِدُونَ إِلَّا إِلَيْهِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أَيْ: إِذَا تُلِيَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَالَ كَوْنِهَا بَيِّنَاتٍ وَاضِحَاتٍ ظَاهِرَةَ الْمَعْنَى وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْبَعْثِ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَنَّا نُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَيْ: مَا كَانَ لَهُمْ حُجَّةٌ وَلَا مُتَمَسَّكٌ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ الْبَاطِلَ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الْحُجَّةِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ حُجَّةً تَهَكُّمًا بِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ حُجَّتَهُمْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهَا إِلَّا أَنْ قالُوا وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وعمرو بن عبيد وعبيد بن عمرو بِرَفْعِ حُجَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ:
فِي جَمْعِكُمْ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ قَدَرَ عَلَى إِعَادَتِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ، فَلِهَذَا حَصَلَ مَعَهُمُ الشَّكُّ فِي الْبَعْثِ، وَجَاءُوا فِي دَفْعِهِ بِمَا هُوَ أَوْهَنُ مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَلَوْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ لَحَصَلُوا عَلَى الْعِلْمِ الْيَقِينِ، وَانْدَفَعَ عَنْهُمُ الرَّيْبُ، وَأَرَاحُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ وَرْطَةِ الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ.
11
﴿ وآتيناهم بينات مّنَ الأمر ﴾ أي شرائع واضحات في الحلال والحرام، أو معجزات ظاهرات، وقيل : العلم بمبعث النبي، وشواهد نبوّته، وتعيين مهاجره :﴿ فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم ﴾ أي فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر إلاّ بعد مجيء العلم إليهم ببيانه، وإيضاح معناه، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً لثبوته، وقيل : المراد بالعلم يوشع بن نون، فإنه آمن به بعضهم وكفر بعضهم، وقيل : نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا فيها حسداً وبغياً، وقيل :﴿ بَغِيّاً ﴾ من بعضهم على بعض بطلب الرئاسة ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ من أمر الدين، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
﴿ ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر ﴾ الشريعة في اللغة : المذهب. والملة، والمنهاج، ويقال : لمشرعة الماء وهي مورد شاربيه شريعة، ومنه الشارع ؛ لأنه طريق إلى المقصد، فالمراد بالشريعة هنا : ما شرعه الله لعباده من الدين، والجمع شرائع، أي جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر الدين يوصلك إلى الحق ﴿ فاتبعها ﴾ : فاعمل بأحكامها في أمتك ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ توحيد الله وشرائعه لعباده، وهم كفار قريش ومن وافقهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر ﴾ يقول : على هدًى من أمر دينه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله :﴿ سَوَاء محياهم ومماتهم ﴾ قال : المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾ قال : ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدًى من الله، ولا برهان ﴿ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ ﴾ يقول : أضله في سابق علمه. وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه قال : كان الرّجل من العرب يعبد الحجر، فإذا وجد أحسن منه أخذه وألقى الآخر، فأنزل الله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار، فقال الله في كتابه :﴿ وَقَالُواْ مَا هِي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر ﴾ قال الله : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله يقول :«قال الله عزّ وجلّ : يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار».
﴿ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً ﴾ أي لا يدفعون عنك شيئًا مما أراده الله بك إن اتبعت أهواءهم ﴿ وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ أي أنصار ينصر بعضهم بعضاً. قال ابن زيد : إن المنافقين أولياء اليهود ﴿ والله وَلِىُّ المتقين ﴾ أي ناصرهم، والمراد بالمتقين : الذين اتقوا الشرك والمعاصي.
والإشارة بقوله :﴿ هذا ﴾ إلى القرآن، أو إلى اتباع الشريعة، وهو مبتدأ وخبره ﴿ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ ﴾ أي براهين ودلائل لهم فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين، جعل ذلك بمنزلة البصائر في القلوب، وقرأ :( هذه بصائر ) : أي هذه الآيات ؛ لأن القرآن بمعناها كما قال الشاعر :
سائل بني أسد ما هذه الصوت ***. . .
لأن الصوت بمعنى الصيحة ﴿ وهدى ﴾ أي رشد، وطريق يؤدي إلى الجنة لمن عمل به ﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ من الله في الآخرة ﴿ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ أي من شأنهم الإيقان وعدم الشك، والتزلزل بالشُّبه.
﴿ أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات ﴾ أم هي المنقطعة المقدرة ببل، والهمزة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان، والاجتراح الاكتساب ومنه الجوارح، وقد تقدّم في المائدة، والجملة مستأنفة ؛ لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين، وهو معنى قوله :﴿ أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ أي نسوّي بينهم مع اجتراحهم السيئات، وبين أهل الحسنات ﴿ سَوَاء محياهم ومماتهم ﴾ في دار الدنيا وفي الآخرة، كلا لا يستوون، فإن حال أهل السعادة فيهما غير حال أهل الشقاوة.
وقيل المراد إنكار أن يستووا في الممات، كما استووا في الحياة. قرأ الجمهور :﴿ سَوَاءٌ ﴾ بالرفع على أنه خبر مقدّم، والمبتدأ محياهم ومماتهم والمعنى : إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم، سواء. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص ﴿ سَوَاءً ﴾ بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله :﴿ كالذين آمَنُواْ ﴾ أو على أنه مفعول ثان لحسب، واختار قراءة النصب أبو عبيد، وقال معناه : نجعلهم سواء، وقرأ الأعمش، وعيسى بن عمر ( مماتهم ) بالنصب على معنى سواء في محياهم ومماتهم، فلما سقط الخافض انتصب، أو على البدل من مفعول نجعلهم بدل اشتمال ﴿ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ أي ساء حكمهم هذا الذي حكموا به.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر ﴾ يقول : على هدًى من أمر دينه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله :﴿ سَوَاء محياهم ومماتهم ﴾ قال : المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾ قال : ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدًى من الله، ولا برهان ﴿ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ ﴾ يقول : أضله في سابق علمه. وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه قال : كان الرّجل من العرب يعبد الحجر، فإذا وجد أحسن منه أخذه وألقى الآخر، فأنزل الله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار، فقال الله في كتابه :﴿ وَقَالُواْ مَا هِي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر ﴾ قال الله : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله يقول :«قال الله عزّ وجلّ : يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار».
﴿ وَخَلَقَ الله السموات والأرض بالحق ﴾ أي بالحقّ المقتضي للعدل بين العباد، ومحل بالحقّ النصب على الحال من الفاعل، أو من المفعول، أو الباء للسببية، وقوله :﴿ ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ يجوز أن يكون على الحقّ ؛ لأن كلا منهما سبب، فعطف السبب على السبب، ويجوز أن يكون معطوفاً على محذوف، والتقدير : خلق الله السموات والأرض ليدلّ بهما على قدرته ولتجزى، ويجوز أن تكون اللام للصيرورة ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ أي النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يظلمون بنقص ثواب، أو زيادة عقاب.
ثم عجب سبحانه من حال الكفار، فقال :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾ قال الحسن وقتادة : ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئًا إلاّ ركبه، وقال عكرمة : يعبد ما يهواه أو يستحسنه، فإذا استحسن شيئًا وهواه اتخذه إلها. قال سعيد بن جبير : كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر ﴿ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ ﴾ أي «على علم » قد علمه، وقيل المعنى : أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه، وقال مقاتل : على علم منه أنه ضالّ لأنه يعلم أن الصنم لا ينفع ولا يضرّ. قال الزجاج : على سوء في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه، ومحل ﴿ على علم ﴾ النصب على الحال من الفاعل، أو المفعول ﴿ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ﴾ أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ، وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى ﴿ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة ﴾ أي غطاء حتى لا يبصر الرشد.
قرأ الجمهور ﴿ غِشَاوًَة ﴾ بالألف مع كسر الغين، وقرأ حمزة، والكسائي ( غَشْوَةً ) بغير ألف مع فتح الغين، ومنه قول الشاعر :
لئن كنت ألبستني غشوة لقد كنت أصفيتك الودّ حينا
وقرأ ابن مسعود، والأعمش كقراءة الجمهور مع فتح الغين وهي لغة ربيعة، وقرأ الحسن، وعكرمة بضمها وهي لغة عكل ﴿ فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله ﴾ أي من بعد إضلال الله له ﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ تذكر اعتبار حتى تعلموا حقيقة الحال.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر ﴾ يقول : على هدًى من أمر دينه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله :﴿ سَوَاء محياهم ومماتهم ﴾ قال : المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾ قال : ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدًى من الله، ولا برهان ﴿ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ ﴾ يقول : أضله في سابق علمه. وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه قال : كان الرّجل من العرب يعبد الحجر، فإذا وجد أحسن منه أخذه وألقى الآخر، فأنزل الله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار، فقال الله في كتابه :﴿ وَقَالُواْ مَا هِي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر ﴾ قال الله : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله يقول :«قال الله عزّ وجلّ : يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار».
ثم بيّن سبحانه بعض جهالاتهم وضلالاتهم فقال :﴿ وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا ﴾ أي ما الحياة إلاّ الحياة التي نحن فيها ﴿ نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾ أي يصيبنا الموت والحياة فيها، وليس وراء ذلك حياة، وقيل : نموت نحن، ويحيا فيها أولادنا، وقيل : نكون نطفاً ميتة، ثم نصير أحياء. وقيل : في الآية تقديم وتأخير، أي نحيا ونموت، وكذا قرأ ابن مسعود، وعلى كل تقدير، فمرادهم بهذه المقالة إنكار البعث وتكذيب الآخرة ﴿ وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر ﴾ أي إلاّ مرور الأيام والليالي، قال مجاهد : يعني : السنين والأيام. وقال قتادة : إلاّ العمر، والمعنى واحد. وقال قطرب : المعنى وما يهلكنا إلاَّ الموت. وقال عكرمة : وما يهلكنا إلاّ الله ﴿ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ أي ما قالوا هذه المقالة إلاّ شاكين غير عالمين بالحقيقة، ثم بيّن كون ذلك صادراً منهم لا عن علم فقال :﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ أي ما هم إلاّ قوم غاية ما عندهم الظنّ، فما يتكلمون إلاّ به، ولا يستندون إلاّ إليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر ﴾ يقول : على هدًى من أمر دينه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله :﴿ سَوَاء محياهم ومماتهم ﴾ قال : المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾ قال : ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدًى من الله، ولا برهان ﴿ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ ﴾ يقول : أضله في سابق علمه. وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه قال : كان الرّجل من العرب يعبد الحجر، فإذا وجد أحسن منه أخذه وألقى الآخر، فأنزل الله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار، فقال الله في كتابه :﴿ وَقَالُواْ مَا هِي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر ﴾ قال الله : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله يقول :«قال الله عزّ وجلّ : يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار».
﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آياتنا بَيّنَاتٍ ﴾ أي إذا تليت آيات القرآن على المشركين حال كونها بينات واضحات ظاهرة المعنى، والدلالة على البعث ﴿ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صادقين ﴾ أنا نبعث بعد الموت ! أي ما كان لهم حجة، ولا متمسك إلاّ هذا القول الباطل الذي ليس من الحجة في شيء، وإنما سماه حجة تهكماً بهم. قرأ الجمهور بنصب ﴿ حجتهم ﴾ على أنه خبر كان، واسمها ﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ ﴾ وقرأ زيد بن عليّ، وعمرو بن عبيد، وعبيد بن عمرو برفع ﴿ حجتهم ﴾ على أنها اسم كان.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم، فقال :﴿ قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ﴾ أي في الدنيا ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ عند انقضاء آجالكم ﴿ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة ﴾ بالبعث والنشور ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي في جمعكم ؛ لأن من قدر على ابتداء الخلق قدر على إعادته ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ بذلك، فلهذا حصل معهم الشكّ في البعث، وجاءوا في دفعه بما هو أوهن من بيت العنكبوت، ولو نظروا حقّ النظر لحصلوا على العلم اليقين، واندفع عنهم الرّيب وأراحوا أنفسهم من ورطة الشكّ والحيرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر ﴾ يقول : على هدًى من أمر دينه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله :﴿ سَوَاء محياهم ومماتهم ﴾ قال : المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾ قال : ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدًى من الله، ولا برهان ﴿ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ ﴾ يقول : أضله في سابق علمه. وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه قال : كان الرّجل من العرب يعبد الحجر، فإذا وجد أحسن منه أخذه وألقى الآخر، فأنزل الله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار، فقال الله في كتابه :﴿ وَقَالُواْ مَا هِي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر ﴾ قال الله : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله يقول :«قال الله عزّ وجلّ : يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار».
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ يَقُولُ: عَلَى هُدًى مِنْ أَمْرِ دِينِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
قَالَ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُؤْمِنٌ، وَالْكَافِرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَافِرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قَالَ: ذَاكَ الْكَافِرُ اتَّخَذَ دِينَهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ وَلَا بُرْهَانٍ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ يَقُولُ: أَضَلَّهُ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَرَبِ يَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدَ أَحْسَنَ مِنْهُ أَخَذَهُ وَأَلْقَى الْآخَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مردويه عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّمَا يُهْلِكُنَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَقَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ قَالَ اللَّهُ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ومسلم وغير هما مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأمر أقلّب اللّيل والنّهار».
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢٧ الى ٣٧]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١)
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦)
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَمَا أَجَابَ بِهِ عَلَيْهِمْ ذَكَرَ اخْتِصَاصَهُ بِالْمُلْكِ، فَقَالَ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا وَحْدَهُ، لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِهِ. ثُمَّ تَوَعَّدَ أَهْلَ الْبَاطِلِ فَقَالَ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ أَيِ: الْمُكَذِّبُونَ الْكَافِرُونَ الْمُتَعَلِّقُونَ بِالْأَبَاطِيلِ، يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خُسْرَانُهُمْ لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ، وَالْعَامِلُ فِي «يَوْمَ» هُوَ «يَخْسَرُ»، وَ «يَوْمَئِذٍ» بَدَلٌ مِنْهُ، وَالتَّنْوِينُ لِلْعِوَضِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ الْمُبْدَلُ مِنْهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَيَكُونُ بَدَلًا تَوْكِيدِيًّا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي يَوْمٍ هُوَ مُلْكُ، أَيْ: وَلِلَّهِ مُلْكُ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَيَكُونُ «يومئذ» معمولا ليخسر: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ،
12
أو للنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأُمَّةُ: الْمِلَّةُ، وَمَعْنَى جَاثِيَةً: مُسْتَوْفِزَةً، وَالْمُسْتَوْفِزُ: الَّذِي لَا يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْهُ إِلَّا رُكْبَتَاهُ وَأَطْرَافُ أَنَامِلِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحِسَابِ. وَقِيلَ: مَعْنَى جَاثِيَةً: مُجْتَمِعَةً، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى وَتَرَى أَهْلَ كُلِّ ذِي دِينٍ مُجْتَمِعِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: مَعْنَاهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ: خَاضِعَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ:
بَارِكَةً عَلَى الرُّكَبِ. وَالْجَثْوُ: الْجُلُوسُ عَلَى الرُّكَبِ، تَقُولُ. جَثَا يَجْثُو وَيُجْثِي جَثْوًا وَجِثِيًّا إِذَا جَلَسَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَلَا يُنَافِيهِ وُرُودُ هَذَا اللَّفْظِ لِمَعْنًى آخَرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقَدْ وَرَدَ إِطْلَاقُ الْجَثْوَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ يَصِفُ قَبْرَيْنِ:
تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا صَفَائِحُ صُمٍّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ «١»
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَكُونُ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: هُوَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا وَلِقَوْلِهِ فِيمَا سَيَأْتِي: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَمَعْنَى «إِلى كِتابِهَا» : إِلَى الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: إِلَى صَحِيفَةِ أَعْمَالِهَا، وَقِيلَ: إِلَى حِسَابِهَا، وَقِيلَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «كُلُّ أُمَّةٍ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: تُدْعَى. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ.
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ: يُقَالُ لَهُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ هَذَا مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لَهُمْ، وَالْقَائِلُ بِهَذَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَيْ: يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ، يُقَالُ: نَطَقَ الْكِتَابُ بِكَذَا، أَيْ: بَيَّنَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَقْرَءُونَهُ فَيَذْكُرُونَ مَا عَمِلُوا، فَكَأَنَّهُ يَنْطِقُ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ الَّذِي لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نقصان، ومحل «ينطق» بالنصب عَلَى الْحَالِ، أَوِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ آخَرُ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْلِيلٌ لِلنُّطْقِ بِالْحَقِّ، أَيْ: نَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِنَسْخِ أَعْمَالِكُمْ، أَيْ: بِكَتْبِهَا وَتَثْبِيتِهَا عَلَيْكُمْ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِنْسَاخَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ مِنْهُ كُلَّ عَامٍ مَا يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ، فَيَجِدُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمَا يَعْمَلُونَهُ. قَالُوا: لِأَنَّ الِاسْتِنْسَاخَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَصْلٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: نَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِنَسْخِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ كُلَّ يَوْمٍ مَا يَعْمَلُهُ الْعَبْدُ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَكَانِهِمْ نَسَخُوا مِنْهُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَرَكُوا الْمُبَاحَاتِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا رَفَعَتْ أَعْمَالَ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُثْبَتَ عِنْدَهُ مِنْهَا مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ، وَيُسْقَطَ مِنْهَا مَا لَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي: الجنة، وهذا تفصيل لحال الفريقين، فالمؤمنون يدخلهم الله برحمته الجنة ذلِكَ أي: الإدخال في رحمته هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أَيِ: الظَّاهِرُ الْوَاضِحُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أَيْ: فَيُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ، لِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَتَتْهُمْ وَتَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ، فَكَذَّبُوهَا وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أَيْ: تَكَبَّرْتُمْ عَنْ قَبُولِهَا وَعَنِ الإيمان بها،
(١). «الصم» : الصلب. «المنضد» : الذي جعل بعضه على بعض. [.....]
13
وَكُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِجْرَامِ، وَهِيَ الْآثَامُ، وَالِاجْتِرَامُ: الِاكْتِسَابُ، يُقَالُ: فُلَانٌ جَرِيمَةُ أَهْلِهِ إِذَا كَانَ كَاسِبَهُمْ، فَالْمُجْرِمُ: مَنْ كَسَبَ الْآثَامَ بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ: وَعْدَهُ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، أَوْ بِجَمِيعِ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَالسَّاعَةُ أَيِ: الْقِيَامَةُ لَا رَيْبَ فِيها أَيْ:
في وقوعها. وقرأ الْجُمْهُورُ «وَالسَّاعَةُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَوِ الْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ إِنَّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هِيَ؟ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أي: نحدس حدسا، نتوهم تَوَهُّمًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: تَقْدِيرُهُ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا نَظُنُّ ظَنًّا، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا أَنَّكُمْ تَظُنُّونَ ظَنًّا، وَقِيلَ: إِنْ نَظُنُّ مُضَمَّنٌ مَعْنَى نَعْتَقِدُ، أَيْ: مَا نَعْتَقِدُ إِلَّا ظَنًّا لَا عِلْمًا، وَقِيلَ: إِنَّ «ظَنًّا» لَهُ صِفَةٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ: إِلَّا ظَنًّا بَيِّنًا، وَقِيلَ: إِنَّ الظَّنَّ يَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالشَّكِّ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا لَنَا اعْتِقَادٌ إِلَّا الشَّكُّ وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا يَقِينٌ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَنَا إِلَّا مُجَرَّدُ الظَّنِّ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا أَيْ: ظَهَرَ لَهُمْ سَيِّئَاتُ أَعْمَالِهِمْ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ، وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ جَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ بِدُخُولِهِمُ النَّارَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أَيْ: نَتْرُكُكُمْ فِي النَّارِ كَمَا تَرَكْتُمُ الْعَمَلَ لِهَذَا الْيَوْمِ، وَأَضَافَ اللِّقَاءَ إِلَى الْيَوْمِ تَوَسُّعًا، لِأَنَّهُ أَضَافَ إِلَى الشَّيْءِ مَا هُوَ وَاقِعٌ فِيهِ وَمَأْواكُمُ النَّارُ أَيْ: مسكنكم ومستقرّكم الَّذِي تَأْوُونَ إِلَيْهِ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يَنْصُرُونَكُمْ فَيَمْنَعُونَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً أَيْ: ذَلِكُمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ أَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمُ الْقُرْآنَ هَزُوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أَيْ: خَدَعَتْكُمْ بِزَخَارِفِهَا وَأَبَاطِيلِهَا، فَظَنَنْتُمْ أَنَّهُ لَا دَارَ غَيْرُهَا وَلَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها أَيْ: مِنَ النَّارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يُخْرَجُونَ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا للمفعول، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضمّ الرّاء مبنيا للفاعل، والالتفات من الخطاب إِلَى الْغَيْبَةِ لِتَحْقِيرِهِمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أَيْ: لَا يُسْتَرْضَوْنَ وَيُطْلَبُ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ إِلَى طَاعَةِ الله لأنه يَوْمَ لَا تُقْبَلُ فِيهِ تَوْبَةٌ وَلَا تَنْفَعُ فِيهِ مَعْذِرَةٌ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ سِوَاهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «رَبِّ» فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ لِلِاسْمِ الشَّرِيفِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالرَّفْعِ فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ إِلَخْ وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيِ: الْجَلَالُ وَالْعَظَمَةُ وَالسُّلْطَانُ، وَخَصَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِظُهُورِ ذَلِكَ فِيهِمَا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: الْعَزِيزُ فِي سُلْطَانِهِ. فَلَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ، الْحَكِيمُ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَجَمِيعِ أَقْضِيَتِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنِّي أَرَاكُمْ بِالْكَوْمِ دُونَ جَهَنَّمَ جَاثِينَ، ثُمَّ قَرَأَ سُفْيَانُ وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً». وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً قَالَ:
كُلُّ أُمَّةٍ مَعَ نَبِيِّهَا حَتَّى يَجِيءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَوْمٍ، قَدْ عَلَا الْخَلَائِقَ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ قَالَ: هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ، فِيهِ أَعْمَالُ بني
14
آدَمَ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قَالَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَنْسِخُونَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ بمعناه مطوّلا، فقام الرجل فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا كُنَّا نَرَى هَذَا تَكْتُبُهُ الْمَلَائِكَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّكُمْ لَسْتُمْ قَوْمًا عَرَبًا إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَلْ يُسْتَنْسَخُ الشَّيْءُ إِلَّا مِنْ كِتَابٍ؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عن عليّ أبي طالب: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَنْزِلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِشَيْءٍ يَكْتُبُونَ فِيهِ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسْتَنْسِخُ الْحَفَظَةُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ مَا يَعْمَلُ بَنُو آدَمَ، فَإِنَّمَا يَعْمَلُ الْإِنْسَانُ مَا اسْتَنْسَخَ الْمَلِكُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ وَصَحَّحَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ مَلَائِكَتَهُ يَنْسَخُونَ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ حَدَثٍ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ، فَيَتَعَارَضُونَ بِهِ حَفَظَةَ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ عَشِيَّةَ كُلِّ خَمِيسٍ، فَيَجِدُونَ مَا رَفَعَ الْحَفَظَةُ مُوَافِقًا لِمَا فِي كِتَابِهِمْ ذَلِكَ، لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالَ: نَتْرُكُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظْمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ في النار».
15
﴿ وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾ الخطاب لكل من يصلح له، أو للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والأمة : الملة، ومعنى جاثية : مستوفزة، والمستوفز ؛ الذي لا يصيب الأرض منه إلاّ ركبتاه وأطراف أنامله، وذلك عند الحساب. وقيل معنى جاثية : مجتمعة قال الفراء : المعنى وترى أهل كلّ ذي دين مجتمعين. وقال عكرمة : متميزة عن غيرها. وقال مؤرج : معناه بلغة قريش : خاضعة. وقال الحسن : باركة على الركب والجثو الجلوس على الركب، تقول : جثا يجثو ويجثي جثواً وجثياً : إذا جلس على ركبتيه، والأوّل أولى. ولا ينافيه ورود هذا اللفظ لمعنى آخر في لسان العرب. وقد ورد إطلاق الجثوة على الجماعة من كل شيء في لغة العرب، ومنه قول طرفة يصف قبرين :
ترى جثوتين من تراب عليهما صفائح صمّ من صفائح منضد
وظاهر الآية أن هذه الصفة تكون لكل أمة من الأمم من غير فرق بين أهل الأديان المتبعين للرسل، وغيرهم من أهل الشرك. وقال يحيى بن سلام : هو خاصّ بالكفار، والأوّل أولى. ويؤيده قوله :﴿ كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها ﴾، ولقوله فيما سيأتي :﴿ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ ﴾، ومعنى ﴿ إلى كتابها ﴾ : إلى الكتاب المنزّل عليها، وقيل : إلى صحيفة أعمالها، وقيل إلى حسابها، وقيل اللوح المحفوظ، والأوّل أولى. قرأ الجمهور ﴿ كل أمة ﴾ بالرفع على الابتداء، وخبره :﴿ تدعى ﴾، وقرأ يعقوب الحضرمي بالنصب على البدل من ﴿ كل أمة ﴾، ﴿ اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي يقال لهم : اليوم تجزون ما كنتم تعملون من خير وشرّ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن عبد الله بن باباه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين» ثم قرأ سفيان ( ويرى كل أمة جاثية ) وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله :﴿ وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾ قال : كل أمة مع نبيها حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم على كوم قد علا الخلائق، فذلك المقام المحمود. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق ﴾ قال : هو أمّ الكتاب فيه أعمال بني آدم ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ قال : هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه بمعناه مطوّلاً، فقام رجل فقال :«يا ابن عباس، ما كنا نرى هذا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال ابن عباس : إنكم لستم قوماً عرباً ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ هل يستنسخ الشيء إلاّ من كتاب ؟» وأخرج ابن جرير عنه نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال :«إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم». وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر نحو ما روي، عن ابن عباس. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : يستنسخ الحفظة من أمّ الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان ما استنسخ الملك من أمّ الكتاب، وأخرج نحوه الحاكم عنه وصححه.
وأخرج الطبراني عنه أيضاً في الآية قال :«إن الله وكل ملائكته ينسخون من ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة، فيتعارضون به حفظة الله على العباد عشية كل خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا ﴾ قال : نترككم. وأخرج ابن أبي شيبة، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يقول الله تبارك وتعالى : الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار».

﴿ هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق ﴾ هذا من تمام ما يقال لهم، والقائل بهذا : هم الملائكة وقيل : هو من قول الله سبحانه، أي يشهد عليكم، وهو استعارة، يقال : نطق الكتاب بكذا، أي بيّن، وقيل : إنهم يقرءونه فيذكرون ما عملوا، فكأنه ينطق عليهم بالحق الذي لا زيادة فيه، ولا نقصان، ومحل ﴿ ينطق ﴾ النصب على الحال، أو الرفع على أنه خبر آخر لاسم الإشارة، وجملة ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ تعليل للنطق بالحقّ، أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي بكتبها، وتثبيتها عليكم.
قال الواحدي : وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب منه كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقاً لما يعملونه، قالوا : لأن الاستنساخ لا يكون إلاّ من أصل. وقيل المعنى : نأمر الملائكة بنسخ ما كنتم تعملون. وقيل : إن الملائكة تكتب كل يوم ما يعمله العبد، فإذا رجعوا إلى مكانهم نسخوا منه الحسنات والسيئات، وتركوا المباحات. وقيل : إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله سبحانه أمر عزّ وجلّ أن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب، ويسقط منها ما لا ثواب فيه ولا عقاب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن عبد الله بن باباه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين» ثم قرأ سفيان ( ويرى كل أمة جاثية ) وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله :﴿ وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾ قال : كل أمة مع نبيها حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم على كوم قد علا الخلائق، فذلك المقام المحمود. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق ﴾ قال : هو أمّ الكتاب فيه أعمال بني آدم ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ قال : هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه بمعناه مطوّلاً، فقام رجل فقال :«يا ابن عباس، ما كنا نرى هذا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال ابن عباس : إنكم لستم قوماً عرباً ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ هل يستنسخ الشيء إلاّ من كتاب ؟» وأخرج ابن جرير عنه نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال :«إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم». وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر نحو ما روي، عن ابن عباس. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : يستنسخ الحفظة من أمّ الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان ما استنسخ الملك من أمّ الكتاب، وأخرج نحوه الحاكم عنه وصححه.
وأخرج الطبراني عنه أيضاً في الآية قال :«إن الله وكل ملائكته ينسخون من ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة، فيتعارضون به حفظة الله على العباد عشية كل خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا ﴾ قال : نترككم. وأخرج ابن أبي شيبة، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يقول الله تبارك وتعالى : الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار».

﴿ فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ أي الجنة، وهذا تفصيل لحال الفريقين، فالمؤمنون يدخلهم الله برحمته الجنة ﴿ ذلك ﴾ أي الإدخال في رحمته ﴿ هُوَ الفوز المبين ﴾ أي الظاهر الواضح.
﴿ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آياتي تتلى عَلَيْكُمْ ﴾ أي فيقال لهم ذلك، وهو استفهام توبيخ ؛ لأن الرسل قد أتتهم وتلت عليهم آيات الله، فكذبوها ولم يعملوا بها ﴿ فاستكبرتم وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ﴾ أي تكبرتم عن قبولها وعن الإيمان بها، وكنتم من أهل الإجرام، وهي الآثام، والاجترام الاكتساب، يقال فلان جريمة أهله : إذا كان كاسبهم، فالمجرم من كسب الآثام بفعل المعاصي.
﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ ﴾ أي وعده بالبعث والحساب، أو بجميع ما وعد به من الأمور المستقبلة واقع لا محالة ﴿ والساعة ﴾ أي القيامة ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهَا ﴾ أي في وقوعها. قرأ الجمهور ﴿ والساعة ﴾ بالرفع على الابتداء، أو العطف على موضع اسم إن، وقرأ حمزة بالنصب عطفاً على اسم إن ﴿ قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا الساعة ﴾ أي أيّ شيء هي ؟ ﴿ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً ﴾ أي نحدس حدساً ونتوهم توهماً. قال المبرد : تقديره : إن نحن إلاّ نظن ظناً، وقيل التقدير : إن نظنّ إلاّ أنكم تظنون ظناً، وقيل : إن نظنّ مضمن معنى نعتقد، أي ما نعتقد إلاّ ظناً لا علماً، وقيل : إن ظناً له صفة مقدّرة، أي إلاّ ظناً بيناً، وقيل : إن الظنّ يكون بمعنى العلم والشكّ، فكأنهم قالوا : ما لنا اعتقاد إلاّ الشك ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ أي لم يكن لنا يقين بذلك، ولم يكن معنا إلاّ مجرّد الظنّ أن الساعة آتية.
﴿ وَبَدَا لَهُمْ سيئات مَا عَمِلُواْ ﴾ أي ظهر لهم سيئات أعمالهم على الصورة التي هي عليها ﴿ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ ﴾ أي أحاط بهم، ونزل عليهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار.
﴿ وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا ﴾ أي نترككم في النار كما تركتم العمل لهذا اليوم، وأضاف اللقاء إلى اليوم توسعاً، لأنه أضاف إلى الشيء ما هو واقع فيه ﴿ وَمَأْوَاكُمُ النار ﴾ أي مسكنكم ومستقرّكم الذين تأوون إليه ﴿ وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين ﴾ ينصرونكم فيمنعون عنكم العذاب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن عبد الله بن باباه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين» ثم قرأ سفيان ( ويرى كل أمة جاثية ) وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله :﴿ وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾ قال : كل أمة مع نبيها حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم على كوم قد علا الخلائق، فذلك المقام المحمود. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق ﴾ قال : هو أمّ الكتاب فيه أعمال بني آدم ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ قال : هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه بمعناه مطوّلاً، فقام رجل فقال :«يا ابن عباس، ما كنا نرى هذا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال ابن عباس : إنكم لستم قوماً عرباً ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ هل يستنسخ الشيء إلاّ من كتاب ؟» وأخرج ابن جرير عنه نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال :«إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم». وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر نحو ما روي، عن ابن عباس. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : يستنسخ الحفظة من أمّ الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان ما استنسخ الملك من أمّ الكتاب، وأخرج نحوه الحاكم عنه وصححه.
وأخرج الطبراني عنه أيضاً في الآية قال :«إن الله وكل ملائكته ينسخون من ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة، فيتعارضون به حفظة الله على العباد عشية كل خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا ﴾ قال : نترككم. وأخرج ابن أبي شيبة، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يقول الله تبارك وتعالى : الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار».

﴿ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم ءايات الله هُزُواً ﴾ أي ذلكم العذاب بسبب أنكم اتخذتم القرآن هزواً ولعباً ﴿ وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا ﴾ أي خدعتكم بزخارفها وأباطيلها، فظننتم أنه لا دار غيرها، ولا بعث ولا نشور ﴿ فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا ﴾ أي من النار.
قرأ الجمهور :﴿ يخرجون ﴾ بضم الياء. وفتح الراء مبنياً للمفعول، وقرأ حمزة، والكسائي بفتح الياء وضمّ الراء مبنياً للفاعل، والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لتحقيرهم ﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ أي لا يسترضون، ويطلب منهم الرجوع إلى طاعة الله ؛ لأنه يوم لا تقبل فيه توبة، ولا تنفع فيه معذرة.
﴿ فَلِلَّهِ الحمد رَبّ السموات وَرَبّ الأرض رَبّ العالمين ﴾ لا يستحقّ الحمد سواه. قرأ الجمهور ﴿ ربّ ﴾ في المواضع الثلاثة بالجرّ على الصفة للاسم الشريف. وقرأ مجاهد، وحميد، وابن محيصن بالرفع في الثلاثة على تقدير مبتدأ : أي هو ربّ السموات الخ.
﴿ وَلَهُ الكبرياء فِي السموات والأرض ﴾ أي الجلال والعظمة والسلطان، وخصّ السموات والأرض لظهور ذلك فيهما ﴿ وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾ أي العزيز في سلطانه، فلا يغالبه مغالب، الحكيم في كل أفعاله وأقواله وجميع أقضيته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن عبد الله بن باباه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين» ثم قرأ سفيان ( ويرى كل أمة جاثية ) وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله :﴿ وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾ قال : كل أمة مع نبيها حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم على كوم قد علا الخلائق، فذلك المقام المحمود. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق ﴾ قال : هو أمّ الكتاب فيه أعمال بني آدم ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ قال : هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه بمعناه مطوّلاً، فقام رجل فقال :«يا ابن عباس، ما كنا نرى هذا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال ابن عباس : إنكم لستم قوماً عرباً ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ هل يستنسخ الشيء إلاّ من كتاب ؟» وأخرج ابن جرير عنه نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال :«إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم». وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر نحو ما روي، عن ابن عباس. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : يستنسخ الحفظة من أمّ الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان ما استنسخ الملك من أمّ الكتاب، وأخرج نحوه الحاكم عنه وصححه.
وأخرج الطبراني عنه أيضاً في الآية قال :«إن الله وكل ملائكته ينسخون من ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة، فيتعارضون به حفظة الله على العباد عشية كل خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله :﴿ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا ﴾ قال : نترككم. وأخرج ابن أبي شيبة، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يقول الله تبارك وتعالى : الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار».

Icon