تفسير سورة التوبة

نيل المرام تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام المعروف بـنيل المرام تفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة براءة [آيها مائة وثلاثون أو سبع وعشرون آية]
ولها أسماء منها: سورة التوبة لأن فيها التوبة على المؤمنين.
وتسمى: الفاضحة لأنه ما زال ينزل فيها: ومنهم، ومنهم، حتى كادت أن لا تدع أحدا.
وتسمى: البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين إلى غير ذلك. وهي مدنيّة.
قال القرطبي «١» : باتفاق.
أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: نزلت (براءة) بعد فتح مكة بالمدينة «٢».
[الآيات: الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥).
(١) انظر في «تفسيره» (٨/ ٦١).
(٢) انظر: زاد المسير (٣/ ٣٩٣)، وابن كثير (٢/ ٣٣٢).
320
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: أي هذه براءة، يقال: برئت من الشيء أبرأ براءة وأنا منه بريء، إذا أزلته عن نفسك، وقطعت سبب ما بينك وبينه «١».
إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) العهد: العقد الموثق باليمين، والخطاب للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي مكة وغيرهم بإذن من الله والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
والمعنى الإخبار للمسلمين بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدة، بسبب ما وقع من الكفار من النقض، فصار النبذ إليهم بعهدهم واجبا على المعاهدين من المسلمين. ومعنى براءة الله سبحانه، وقوع الإذن منه- سبحانه- بالنبذ من المسلمين لعهد المشركين بعد وقوع النقض منهم وفي ذلك من التفخيم بشأن البراءة والتهويل لها، والتسجيل على المشركين بالذل والهوان ما لا يخفى.
فَسِيحُوا: أيها المشركون «٢».
فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ: هذا أمر منه سبحانه بالسياحة بعد الإخبار بتلك البراءة.
والسياحة: السير، يقال: ساح فلان في الأرض، يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا.
ومعنى الآية أن الله سبحانه بعد أن أذن بالنبذ إلى المشركين بعهدهم، أباح للمشركين الضرب في الأرض والذهاب إلى حيث يريدون، والاستعداد للحرب هذه الأربعة الأشهر.
وليس المراد من الأمر بالسياحة تكليفهم بها، قال محمد بن إسحاق وغيره: إن المشركين صنفان:
صنف كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر، فأمهل تمام الأربعة الأشهر.
(١) قال ابن الجوزي أي: قطع الموالاة والعصمة والأمان. (تذكرة الأريب ١/ ٢٠٩).
(٢) قال ابن الجوزي: أي انطلقوا آمنين من مكروه يقع بكم، وهذا الأمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد.
قال مجاهد: أول هذه الأشهر يوم النّحر، وآخرها العاشر من ربيع الآخر. (تذكرة الأريب ١/ ٢٠٩).
321
والآخر كانت أكثر من ذلك، فقصر على أربعة أشهر، ليرتاد لنفسه وهو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث يوجد. وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر.
فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم: وذلك خمسون يوما:
عشرون من ذي الحجة وشهر محرم.
وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عهد دون أربعة أشهر، ومن كان عهده أكثر من ذلك فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده، بقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ.
ورجح هذا ابن جرير وغيره إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً أي لم يقع منهم أي نقص، وإن كان يسيرا، وفيه دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ومنهم من ثبت عليه، فأذن الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلّم بنقض عهد من نقض، وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدته «١».
وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ المظاهرة: المعاونة، أي لم يعاونوا أحدا من أعدائكم.
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ: أي أدوا إليهم عهدهم تاما غير ناقص إلى مدتهم التي عاهدتموهم إليها، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، ولا تعاملوهم معاملة الناكثين من القتال بعد مضي المدة المذكورة سابقا، وهي أربعة أشهر، أو خمسون يوما على الخلاف السابق «٢». إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤).
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ: انسلاخ الشهر تكامله جزءا فجزءا إلى أن ينقضي، كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه.
وقد اختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هنا؟ فقيل: هي الأشهر الحرم المعروفة، التي هي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، ثلاثة سرد، وواحد فرد «٣».
(١) انظر: الطبري (١٠/ ٥٠)، زاد المسير (٣/ ٣٩٧)، القرطبي (٨/ ٧١).
(٢) انظر: معاني الأخفش (٢/ ٣٢٦)، الزجاج (٢/ ٤٧٦)، التبيان (٢/ ١١)، زاد المسير (٣/ ٣٩٨).
(٣) دلّ على ذلك ما رواه البخاري (٦/ ٢٩٣)، ومسلم (١١/ ١٦٧، ١٧٠)، عن أبي بكرة مرفوعا
322
ومعنى الآية- على هذا- وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم، وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة خمسين يوما تنقضي بانقضاء شهر المحرم، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون من حل أو حرم، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك. وروي عن ابن عباس واختاره ابن جرير «١».
وقيل: المراد بها شهور العهد المشار إليه بقوله: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ، وسميت حرما لأن الله سبحانه حرم على المسلمين فيها دماء المشركين والتعرض لهم.
وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم: مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب.
وقيل: هي الأشهر المذكورة في قوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة، ورجّحه ابن كثير، وحكاه عن مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم «٢».
ومعنى وَخُذُوهُمْ: الأسر فإن الأخيذ هو الأسير.
ومعنى وَاحْصُرُوهُمْ منعهم من التصرف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم.
وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ: هو الموضع الذي يرقب فيه العدو.
وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم لكل مشرك، لا يخرج عنها إلا من خصته السنة، كالمرأة والصبي والعاجز الذي لا يقاتل وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين يعطون الجزية على فرض تناول المشركين لهم.
وهذه الآية نسخت كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم.
وقال الضحاك وعطاء والسدي: هي منسوخة بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: ٤]، وأن الأسير لا يقتل صبرا، بل يمن عليه أو يفادى.
وله صلّى الله عليه وآله وسلّم في خطبة حجّة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر..».
(١) انظر: زاد المسير (٣/ ٣٩٨).
(٢) انظر: الطبري (١٠/ ٥٦)، وزاد المسير (٣/ ٣٩٩)، القرطبي (٨/ ٧٧)، والدر (٣/ ٢١٣).
323
وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخة لقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً، وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل.
وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان.
قال القرطبي: وهو الصحيح، لأن المنّ والقتل والفداء لم تزل من حكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم من أول يوم حاربهم وهو يوم بدر «١».
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ: أي تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل، وحققوا التوبة بفعل ما هو أعظم أركان الإسلام، وهو إقامة الصلاة، وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان من العبادات، لكونه رأسها. واكتفى بالركن الآخر المالي وهو إيتاء الزكاة عن كل ما يتعلق بالأموال والعبادات، لأنها أعظمها.
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ: أي اتركوهم وشأنهم، فلا تأسروهم، ولا تحصروهم، ولا تقتلوهم.
[الآية السادسة] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦).
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ: يقال: استجرت فلانا، أي طلبت أن يكون جارا لي، أي محاميا ومحافظا لي من أن يظلمني ظالم، أو يتعرض لي معترض.
والمعنى: وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، فَأَجِرْهُ: أي كن جارا له مؤمنا محاميا.
حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ: منك ويتدبره حق تدبيره، ويقف على حقيقة ما تدعو إليه.
(١) قال القاضي ابن العربي: «ومن الغريب ما روي عن الحسن أنه قال إن قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ منسوخ بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: ٤] وقال: لا يحل قتل أسير صبرا، ومن شروط النسخ معرفة التاريخ، ومن له بأن آية سورة محمد نزلت بعد براءة، وقد ثبت أن براءة من آخر ما نزل، ومع الاحتمال يسقط المقال، وأغرب منه ما روى بعضهم عن ابن حبيب أنها منسوخة بقوله فَإِنْ تابُوا وهذا فاسد وتعجبنا لخفاء هذا عليه مع علمه رحمه الله (الناسخ والمنسوخ ٢/ ٢٤٦). [.....]
324
ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ: أي إلى الدار التي يأمن فيها بعد أن يسمع كلام الله إن لم يسلم ثم بعد أن تبلغه مأمنه، قاتله فقد خرج من جوارك، ورجع إلى ما كان عليه من إباحة دمه، ووجوب قتله حيث يوجد «١».
[الآية السابعة] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧).
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ: والاستفهام هنا للتعجب المتضمن للإنكار.
إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: ولم ينقضوا، ولم ينكثوا فلا تقاتلوهم.
فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ: على العهد الذي بينكم وبينهم.
فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ: قيل: هم بنو بكر. وقيل: بنو كنانة وبنو ضمرة.
[الآية الثامنة]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١).
فَإِنْ تابُوا: عن الشرك والتزموا أحكام الإسلام.
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ: أي دين الإسلام، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم.
وعن ابن عباس قال: حرمت هذه الآية قتال أهل الصلاة ودماءهم «٢».
(١) انظر: معاني الزجاج (٢/ ٤٧٨)، الطبري (١٠/ ٥٩)، النكت (٢/ ١٢١)، زاد المسير (٣/ ٤٠١)، القرطبي (٨/ ٧٩)، ابن كثير (٢/ ٣٨).
(٢) انظر: الطبري (١٠/ ٥٠)، وزاد المسير (٣/ ٣٩٧)، القرطبي (٨/ ٧١).

[الآيتان: التاسعة والعاشرة]

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨).
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ: المراد بالعمارة: إما المعنى الحقيقي الظاهر، أو المعنى المجازي، وهو ملازمته والتعبد فيه؟ وكلاهما ليس للمشركين.
أما الأول فلأنه يستلزم المنّة على المسلمين بعمارة مساجدهم.
وأما الثاني: فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام.
فالمعنى: ما كان للمشركين وما صح لهم وما استقام، أن يفعلوا ذلك حال كونهم شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ: أي بإظهار ما هو كفر، من نصب الأوثان، والعبادة لها، وجعلها آلهة، فإن هذا شهادة منهم على أنفسهم بالكفر، وإن أبوا ذلك بألسنتهم! فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين: عمارة المساجد التي هي من شأن المؤمنين، والشهادة على أنفسهم بالكفر، التي ليست من شأن من يتقرب إلى الله بعمارة مساجده؟
وقيل: المراد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم: لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك «١».
وقيل: شهادتهم على أنفسهم بالكفر، أن اليهودي يقول: هو يهودي، والنصراني يقول: هو نصراني، والصابىء يقول: صابىء، والمشرك يقول: هو مشرك.
أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ: التي يفتخرون بها ويظنون أنها من أعمال الخير، أي بطلت، ولم يبق لها أثر.
وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) : في هذه الجملة الاسمية، مع تقدم الظرف المتعلق بالخبر، تأكيدا لمضمونها.
(١) انظر: الطبري (١٠/ ٦٦)، وزاد المسير (٣/ ٤٠٨)، والنكت والعيون (٢/ ١٢٤)، وتفسير القرطبي (٨/ ٨٩)، وابن كثير (٢/ ٣٤٠).
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: وفعل ما هو من لوازم الإيمان.
وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فمن كان جامعا بين هذه الأوصاف، فهو الحقيق بعمارة المساجد، لا من كان خاليا منها أو من بعضها، واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيها بما هو من أعظم أمور الدين، على ما عداه مما افترض الله على عباده، لأن كل ذلك من لوازم الإيمان.
[الآية الحادية عشرة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨).
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ: هو مصدر لا يثنى ولا يجمع «١».
وقد استدل بالآية من قال بأن المشرك نجس الذات كما ذهب إليه بعض الظاهرية. وروي عن الحسن البصري- وهو محكي عن ابن عباس.
وذهب الجمهور من السّلف والخلف- ومنهم أهل المذاهب الأربعة- إلى أن الكافر ليس نجس الذات، لأن الله سبحانه أحل طعامهم.
وثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك من فعله وقوله ما يفيد عدم نجاسة ذواتهم فأكل في آنيتهم، وشرب فيها، وتوضأ منها، وأنزلهم في مسجده «٢».
فَلا يَقْرَبُوا: الفاء للتفريع، فعدم قربانهم الْمَسْجِدَ الْحَرامَ متفرع عن نجاستهم.
والمراد بالمسجد الحرام- على ما يروى عن عطاء- جميع الحرم.
(١) قال ابن عزيز السجستاني: نَجَسٌ قذر ونجس: قذر، وإذا قيل رجس نجس: أسكن على الاتباع (ص ٣٣٨) ط. دار طلاس- دمشق.
(٢) حديث صحيح: ما رواه البخاري (٩/ ٦٢٢)، ومسلم (١٣/ ٧٩، ٨٠) عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا ما يفيد جواز الأكل والشرب في آنيتهم.
327
وذهب غيره من أهل العلم إلى أن المراد المسجد الحرام نفسه، فلا يمنع المشركون من دخول سائر الحرم.
وقد اختلف أهل العلم في دخول المشرك غيره من المساجد؟ فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد.
وقال الشافعي: الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام. فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد.
قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر، لأن قوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة! ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه صلّى الله عليه وآله وسلّم لثمامة بن أثال في مسجده «١»، وإنزال وفد ثقيف فيه «٢».
وروي عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي، وزاد أنه يجوز دخول الذمي سائر المساجد من غير حاجة، وقيده الشافعي بالحاجة. وقال قتادة: إنه يجوز ذلك للذمي دون المشرك. وروي عن أبي حنيفة أيضا أنه يجوز لهم دخول الحرم. ثم هو نهي للمسلمين عن أن يمكنوهم من ذلك، فهو من باب قولهم: لا أرينّك هنا.
بَعْدَ عامِهِمْ هذا فيه قولان:
أحدهما: أنه سنة تسع، وهي التي حج فيها أبو بكر على الموسم.
الثاني: أنه سنة عشر، قاله قتادة.
قال ابن العربي: وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ. وإن من العجب أن يقال: إنه سنة تسع، وهو العام الذي وقع فيه الأذان. ولو دخل غلام رجل داره يوما
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (١/ ٥٥٥، ٥٦٠)، (٥/ ٧٥)، (٨/ ٨٧) عن أبي هريرة مرفوعا، وفيه جواز إنزالهم في المسجد.
(٢) حديث إسناده ضعيف: علته عنعنة الحسن البصري وهو مدلس، وكذلك روي معضلا عن ابن إسحاق.
ورواه أبو داود (٣٠٢٦) : وأحمد في «المسند» (٤/ ٢١٨)، عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص.
ورواه ابن هشام في «السيرة» (٢/ ٢٢٥، ٢٢٦)، عن ابن إسحاق معضلا.
328
فقال له مولاه: لا تدخل هذا الدار بعد يومك، لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه.
انتهى.
ويجاب عنه بأن الذي يعطيه اللفظ هو خلاف ما زعمه فإن الإشارة بقوله: بَعْدَ عامِهِمْ هذا إلى العام المذكور قبل اسم الإشارة وهو عام النداء، وهكذا في المقال الذي ذكره، المراد النهي عن دخولها بعد يوم الدخول الذي وقع فيه الخطاب، والأمر ظاهر لا يخفى. ولعله أراد تفسير (بعد) المضاف إلى عامهم. ولا شك أنه عام عشر.
وأما تفسير العام المشار إليه بهذا، فلا شك ولا ريب أنه عام تسع، وعلى هذا يحمل قول قتادة.
وقد استدل من قال: بأنه يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد بهذا القيد أعني قوله: عامهم هذا، قائلا: إن النهي مختص بوقت الحج والعمرة، فهم ممنوعون عن الحج والعمرة فقط، لا عن مطلق الدخول.
ويجاب عنه بأن ظاهر النهي عن القربان بعد هذا العام، يفيد المنع من القربان في كل وقت من الأوقات الكائنة بعده، وتخصيص بعضها بالجواز يحتاج إلى مخصص.
[الآية الثانية عشرة] قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩).
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: فيه الأمر بقتال من جمع بين هذه الأوصاف.
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) الجزية وزنها فعلة من جزى يجزي.
وهي في الشرع: ما يعطيه المعاهد على عهده «١».
(١) قال الإمام تقي الدّين الحصني: «الجزية هي المال المأخوذ بالتراضي لإسكاننا إياهم في ديارنا أو لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم أو لكفنا عن قتالهم، واختار القاضي حسين الأخير وضعّف الأول بالمرأة فإنها تسكن دارنا ولا جزية عليها، وضعّف الثاني بأنها تتكرر أي الجزية بتكرر السنين وبدل
329
وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأبو ثور إلى أن الجزية لا تقبل إلا من أهل الكتاب.
وقال الأوزاعي ومالك: إن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الكفرة كائنا من كان «١».
ويدخل في أهل الكتاب على القول الأول المجوس.
قال ابن المنذر: لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم «٢».
واختلف أهل العلم في مقدار الجزية: فقال عطاء: لا مقدار لها وإنما تؤخذ على ما صولحوا عليه، به قال يحيى بن آدم وأبو عبيد وابن جرير إلا أنه قال: أقلها دينار وأكثرها لا حد له.
وقال الشافعي: دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء، وبه قال أبو ثور.
قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإذا زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم.
وقال مالك: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق الغني والفقير سواء، ولو كان مجوسيا، لا يزيد ولا ينقص.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل: إثنا عشر، وأربعة وعشرون، وثمانية وأربعون. والكلام في ذلك مقرر في مواطنه «٣».
الحقن لا يتكرر، وقال إمام الحرمين: الوجه أن بجمع مقاصدهم، ويقول هي: أي مقاصدهم تقابل الجزية. (كفاية الأخيار ص ٥٠٨).
(١) قال ابن الحاجب: «ويجوز أخذ الجزية من أهل الكتاب إجماعا، وفي غيرهم- مشهورها تؤخذ وثالثها: تؤخذ إلا من مجوس العرب، ورابعها: إلا من قريش. (جامع الأمهات ص ٢١٥) بتحقيقنا- بيروت. وانظر: الموطأ (٦١٧).
(٢) قال ابن حزم في «مراتب الإجماع»
(ص ١٤٠) :«واختلفوا هل تقبل جزية من غير اليهود والنصارى الذين ذكرنا قبل، ومن كتابييّ العرب، أو لا يقبل منهم غير الإسلام أو السيف، وكذلك النساء منهم اه.
(٣) قال الحصني: والأولى أن تقسّم الجزية على الطبقات فيجعل على الفقير الكسوب دينار، وعلى المتوسط ديناران، وعلى الغني أربعة دنانير اقتداء بعمر رضي الله عنه لما بعث عثمان بن حنيف إلى
330
قال الشوكاني: والحق من هذه الأقوال ما قررنا في «شرحنا للمنتقى» «١» وغيره من مؤلفاتنا. انتهى.
وقد سبقه إلى ذلك السيد العلامة محمد الأمير برسالة مفردة في هذه المسألة وأحكامها سماها «إفادة الأمة بأحكام أهل الذمة» وأجاد فيها وأفاد، وتكلمنا على ذلك في «شرحنا على بلوغ المرام» فليرجع إليها.
[الآية الثالثة عشرة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤).
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ: قيل: هم المتقدم ذكرهم من الأحبار والرهبان، وأنهم كانوا يصنعون هذا الصنع.
وقيل: هم من يفعل ذلك من المسلمين. والأولى حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك.
وأصل الكنز في اللغة: الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة.
قال ابن جرير «٢» : الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها. انتهى.
الكوفة، أمره أن يجعل على الغني ثمانية وأربعين درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير اثنى عشر درهما والاعتبار في الغني والفقير بوقت الأخذ لا بوقت العقد، ومن ادّعى منهم أنه فقير أو متوسط قبل قبوله إلا أن تقوم بينه بخلاف؟ نعم أقل الجزية دينار لكل سنة، نصّ عليه الشافعي وهو الوجوه في كتب الأصحاب، وحجة ذلك: «أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما وجّه معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، أو عدله من المغافر» وهي ثياب تكون باليمن والله أعلم (كفاية الأخيار ص ٥١٠).
وقال المصنف ما يشابه كلامه هنا بزيادة فائدة في «الروضة النّدية ص ٢٥٣).
(١) انظر: نيل الأوطار (٨/ ٢١٢، ٢٢٢)، والسّيل الجرار (٤/ ٥٦٩ فما بعدها). [.....]
(٢) انظر: الطبري (١٠/ ١٢١)، وزاد المسير (٣/ ٤٢٩)، وابن كثير (٢/ ٣٥٠)، القرطبي (٨/ ١٢٣)، الدر المنثور (٣/ ٢٣٢).
واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أم لا؟ فقال قوم:
هو كنز، وقال آخرون: ليس بكنز. ومن القائلين بالقول الثاني عمر بن الخطاب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وهو الحق للأدلة «١» المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز، وإنما خصّ الذهب والفضة دون سائر الأموال بالذكر لأنها أثمان الأشياء وغالب ما يكنز، وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز.
وَلا يُنْفِقُونَها: كناية عن عدم أداء الزكاة ونحوها.
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤).
[الآية الرابعة عشرة]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦).
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً: أي في حكمه وقضائه وحكمته، وذلك أن الله سبحانه لما حكم في كل وقت بحكم خاص، غيّر الكفار تلك الأوقات بالنسيء والكبيسة «٢»، فأخبرنا بما هو حكمه.
فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: في هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور، وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف، يوم خلق الله السموات والأرض، وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء، ونزلت به الكتب، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط من الشهور التي يصطلحون عليها، ويجعلون بعضها ثلاثين يوما، وبعضها أكثر، وبعضها أقل.
مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: هي ذو العقدة وذو الحجة ومحرم، ورجب، ثلاثة
(١) الصحيح منها: ما رواه البخاري (٢/ ١١١)، ومسلم (٧/ ٦٤، ٦٦)، عن أبي هريرة وابن عمر مرفوعا.
(٢) يقال السنة كبيسة: أي يسترق منها يوم، وهذا إنما يكون كل أربع سنوات [اللسان: كبس].
332
متواليات وواحد فرد، كما ورد بيان ذلك في السنة المطهرة «١».
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ: أي كون هذه الشهور كذلك، ومنها أربعة حرم، هو الدين المستقيم، والحساب الصحيح، والعدد المستوفى.
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي في هذه الأشهر الحرم، بإيقاع القتال فيها، وانتهاك حرمتها.
وقيل: إن الضمير يرجع إلى الشهور كلها، الحرم وغيرها، وأن الله نهى عن الظلم فيها، والأول أولى.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ بهذه الآية ولقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ [المائدة: ٢] ولقوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٥].
ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيدة بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الحرم، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه.
وأما ما استدلوا به من أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم حاصر أهل الطائف في شهر حرام- وهو ذو القعدة كما ثبت في «الصحيحين» وغيرهما «٢» - فقد أجيب عنه أنه لم يبتد محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم، لا إتمامه، وبهذا يحصل الجمع.
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً: أي جميعا وهو مصدر في موضع الحال.
قال الزجاج: مثل هذا من المصادر كعامة وخاصة، لا تثنّى ولا تجمع.
كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وفيه دليل على وجوب قتال المشركين، وأنه فرض على الأعيان، إن لم يقم به البعض.
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (٦/ ٢٩٣)، ومسلم (١١/ ١٦٧، ١٧٠) عن أبي بكرة مرفوعا.
(٢) انظر: البخاري (٨/ ٤٣)، ومسلم (١٢/ ١٢٢، ١٢٣)، وانظر: الناسخ والمنسوخ للقاضي أبي بكر (٢/ ٢٦٠، ٢٦١)، ومعاني الفرّاء (١/ ٤٣٦)، والطبري (١٠/ ٩٢)، وزاد المسير (٣/ ٤٣٥) وابن كثير (٢/ ٣٥٦)، والقرطبي (٨/ ١٣٦)، والدر المنثور (٣/ ٢٣٦)، والأحكام لابن العربي (٢/ ٩٢٤، ٩٢٨).
333

[الآية الخامسة عشرة]

انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١).
انْفِرُوا حال كونكم خِفافاً وَثِقالًا.
وقيل: المراد منفردين أو مجتمعين وقيل: نشاطا وغير نشاط، وقيل: فقراء وأغنياء، وقيل: مقلين من السلاح ومكثرين منه، وقيل: أصحاء ومرضى، وقيل: شبابا وشيوخا، وقيل: رجالا وفرسانا، وقيل: من لا عيال له ومن له عيال، وقيل: من سبق إلى الحرب كالطلائع ومن يتأخر كالجيش، وقيل: غير ذلك. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني لأن معنى الآية: انفروا خفّت عليكم الحركة أو ثقلت.
قيل: وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: ٩١]، وقيل: الناسخ لها قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: ١٢٢] الآية.
وقيل: هي محكمة وليست بمنسوخة «١».
ويكون إخراج الأعمى والأعرج بقوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ [النور: ٦١]، وإخراج المريض والضعيف بقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: ٩١]، من باب التخصيص لا من باب النسخ على فرض دخول هؤلاء تحت قوله: خِفافاً وَثِقالًا، والظاهر عدم دخولهم تحت العموم.
وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الأمر بالجهاد بالأموال والأنفس، وإيجابه على العباد: فالفقراء يجاهدون بأنفسهم، والأغنياء بأموالهم وأنفسهم، والجهاد من آكد الفرائض وأعظمها، وهو فرض كفاية مهما كان البعض يقوم بجهاد العدو
(١) قال القاضي ابن العربي: «قال بعضهم: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نسخها قوله تعالى وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً وهذا في قوله إِلَّا تَنْفِرُوا لا يحسن نسخه، لأنه خبر عن الوعيد، والمعنى: إذا احتيج إليهم نفروا كلهم، فهي محكمة. (الناسخ والمنسوخ ٢/ ٢٤٨، ٢٤٩).
فائدة: في قوله خِفافاً وَثِقالًا ذكر له أهل التفسير أكثر من عشرة أقوال وانظر: الفراء (١/ ٤٣٩)، وابن قتيبة (١٨٧)، والطبري (١٠/ ٩٧)، والنكت (٢/ ١٣٩)، والزاد (٣/ ٤٤٢).
ويدفعه، فإن كان لا يقوم بالعدو إلا جميع المسلمين- في قطر من الأرض أو أقطار-، وجب عليهم ذلك وجوب عين.
[الآيتان: السادسة والسابعة عشرة]
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥).
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) : معناه- على ما يقتضي ظاهر اللفظ- أنه لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد بل دأبهم أن يبادروا إليه من غير توقف، ولا ارتقاب منهم لوقوع الإذن منك، فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف.
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ: في القعود عن الجهاد، والتخلف عنه:
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: وهم المنافقون، وذكر الإيمان بالله أولا، ثم باليوم الآخر ثانيا في الموضعين لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله.
[الآية: الثامنة عشرة]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠).
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ: إنما من صيغ القصر، وتعريف الصدقات للجنس، أي جنس هذه الصدقات مقصورة على الأصناف الآتية لا تتجاوزها، بل هي لهم لا لغيرهم.
وقد اختلف أهل العلم: هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية، أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يرى الإمام أو صاحب الصدقة؟
فذهب إلى الأول الشافعي وجماعة من أهل العلم «١».
(١) قال الحصني الشافعي: «اعلم أنه يجب استيعاب الأصناف الثمانية عند القدرة عليهم فإن فرق
335
وذهب إلى الثاني مالك «١» وأبو حنيفة، وبه قال عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران «٢».
قال ابن جرير «٣» : وهو قول أكثر أهل العلم.
احتج الأولون بما في الآية من القصر وبحديث زياد بن الحارث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فبايعته فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة؟
فقال له إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك»
«٤».
وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو لبيان الصرف والمصرف لا لوجوب استيعاب الأصناف وبأن في إسناد الحديث عبد الرحمن بن زياد بن [أنعم] «٥» الأفريقي وهو ضعيف.
ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: ٢٧١].
بنفسه أو فرّق الإمام وليس هناك عامل، فرّق على سبعة، وأقل ما يجزىء أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف لأن الله تعالى ذكرهم بلفظ الجمع إلا العامل فإنه يجوز أن يكون واحدا يعني إذا حصلت به الكفاية، فلو صرف إلى اثنين مع القدرة على الثالث غرم للثالث، ولو لم يجد إلا دون الثلاثة من كل صنف أعطى من وجد، وهل يصرف باقي السهم إليه إن كان مستحقا أم ينقله إلى بلد آخر! قال في زيادة الرّوضة: الأصح أنه يصرف إليه، وممن صححه الشيخ نصر المقدسي، ونقله هو وغيره عن الشافعي، ودليله ظاهر، والله أعلم (كفاية الأخيار ص ١٩٤). ط- دار الخير- دمشق.
(١) قال ابن الحاجب: «ومصرف الزّكاة الثمانية في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ولو أعطيت لصنف أجزأ.
ثم قال: وفي إعطاء آل الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الصدقة ثالثها: يعطون من التطوع دون الواجب ورابعها:
عكسه، وبنو هاشم آل، وما فوق غالب غير آل، وفيما بينهما: قولان، وفي مواليهم: قولان، ولا تصرف في كفن ميت، ولا بناء مسجد ولا لعبد ولا لكافر. (الأمهات ص ١٦٥، ١٦٦) ط- اليمامة- دمشق.
(٢) انظر: تحدث المفسرين عن هذه الآية وذكر هذه الأقوال في «الطبري»
١/ ١٠٩، زاد المسير (٣/ ٤٥٥)، والقرطبي (٨/ ١٦٧)، وابن كثير (٢/ ٣٦٤)، والنكت (٢/ ١٤٦).
(٣) انظر: الطبري (١٠/ ١١).
(٤) إسناده ضعيف: رواه أبو داود (١٦٣٠)، والطبراني في «الكبير» (٥/ ٢٦٢)، (٥٢٨٥)، والدارقطني في «سننه» (٢/ ١٣٧)، والطحاوي في «معاني الآثار» (٣٠١١)، والبيهقي في «الكبرى» (٤/ ١٧٣، ١٧٤).
وعلته: عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، ضعّفوه.
(٥) ما بين [] صحّف إلى (أكغم) وهو خطأ واضح والتصويب من مصادر التخريج.
336
والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة.
وصحّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها في فقرائكم» «١».
وقد ادّعى مالك الإجماع على القول الآخر.
قال ابن عبد البر: بإجماع الصحابة، فإنه لا يعلم مخالفا منهم.
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ: قدّمهم لأنهم أحوج من البقية على المشهور، لشدة فاقتهم وحاجتهم.
وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال:
فقال يعقوب بن السّكيت والقتيبي ويونس بن حبيب: إن الفقير أحسن حالا من المسكين قالوا: لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شيء له. وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة.
وقال آخرون بالعكس فجعلوا المسكين أحسن حالا من الفقير «٢» واحتجوا بقوله
(١) صحيح: رواه البخاري (٣/ ٢٦١، ٣٢٢، ٣٥٧)، ومسلم (١/ ١٩٥، ١٩٧) عن ابن عباس أن معاذا قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ في فقرائهم... » الحديث. [.....]
(٢) قال المصنف في «الروضة الندية» (١/ ٢٠٤) :«الفقير عند الشافعي هو من لا مال له ولا حرفة يقع منه موقعا، وعند أبي حنيفة من لا شيء له فيحتاج إلى المسألة لقوته، أو ما يواري بدنه، والعامل له مثل عمله سواء كان فقيرا أو غنيّا، وعليه أهل العلم.
وقال ابن الحاجب المالكي: «المشهور: أن الفقراء والمساكين صنفان، وعليه فيما اختلفا به مشهورها شدّة الحاجة، فالمشهور في المسكين، وقيل: سؤال الفقير، وقيل العلم به.. (الجامع ١٦٤).
وقال الحصني: «الفقير الذي لا مال له ولا كسب أو له مال أو كسب ولكن لا يقع موقعا من حاجته كمن يحتاج إلى عشرة مثلا ولا يملك إلا درهمين، وهذا لا يسلبه اسم الفقر، وكذا ملك الدّار التي يسكنها، والثوب الذي يتجمل به لا يسلبه اسم الفقر، وكذا العبد الذي يخدمه. قال ابن كج: ولو كان له مال على المسافة، مسافة القصر يجوز له الأخذ إلى أن يصل إلى ماله، ولو كان له دين مؤجل فله أخذ كفايته إلى حلول الدّين، ولو قدر على الكسب فلا يعطى لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا حظ فيها لغني ولا لذي مرّة سويّ وهي القوة»
وفي رواية: «ولا لذي قوة مكتسب» ولو قدر على
.
337
تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف: ٧٩]، فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر، وربما ساوت جملة من المال، ويؤيده تعوذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من الفقر «١» مع قوله: «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا» «٢».
وإلى هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين، وهو أحد قولي الشافعي، وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.
وقال قوم: الفقير: المحتاج للتعفف والمسكين: السائل. قاله الأزهري واختاره ابن شعبان، وهو مروي عن ابن عباس. وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة يعتد بها.
والأولى في بيان ماهيّة المسكين ما ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عند البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ليس المسكين بهذه الطّواف، الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا» «٣».
الكسب إلا أنه مشتغل بالعلوم الشرعية، ولو أقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل حلّت له الزكاة على الصحيح المعروف، وقيل: لا يعطى مطلقا ويكتسب، وقيل: إن كان نجيبا يرجى تفقهه ونفعه استحق وإلا فلا، وكثيرا ما يسكن المدارس من لا يتأتى منه التحصيل، بل هو معطل نفسه! فهذا لا يعطى بلا خلاف ولو كان مقبلا على العبادة، لكن الكسب يمنعه عنها، وعن أوراده التي استغرق بها الوقت، فهذا لا تحل له الزكاة لأن الاستغناء عن الناس أولى.
واعلم أن الفقير المكفي بنفقته ممن تلزمه نفقته، وكذا الزوجة المكفية بنفقة زوجها لا يعطيان... وانظر: (الكفاية للحصني ص ١٩٠، ١٩١).
(١) حديث صحيح: رواه البخاري (١١/ ٧٦)، ومسلم (١٧/ ٢٨، ٢٩)، عن عائشة مرفوعا. وما رواه أبو داود (١٥٤٤)، والنسائي (٨/ ٢٦١)، وأحمد في «المسند» (٢/ ٣٠٥، ٣٢٥، ٣٥٤)، والبخاري في «الأدب المفرد» (٦٧٨)، عن أبي هريرة مرفوعا.
قلت: وكلا الحديثين فيهما تعوّذه صلّى الله عليه وآله وسلّم من الفقر. أعاذنا الله منه.
(٢) حديث حسن: رواه ابن ماجة (٤١٢٦)، وعبد بن حميد في «المنتخب» (١٠٠٢) عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.
وفيه يزيد بن سنان، ضعفوه.
وله شاهد من حديث أنس وعبادة كما رواهما البيهقي في «الكبرى» (٧/ ١٢).
(٣) حديث صحيح: رواه البخاري (٣/ ٣٤٠)، ومسلم (٧/ ١٢٩)، واللفظ له، وأبو داود (١٦٣١)،
338
وَالْعامِلِينَ عَلَيْها: أي السّعاة الذين ينفقهم الإمام لتحصيل الزكاة فإنهم يستحقون منها قسطا.
واختلف في القدر الذي يأخذونه منها؟
فقيل: الثّمن، روي ذلك عن مجاهد والشافعي.
وقيل: على قدر أعمالهم من الأجرة، روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه.
وقيل: يعطون من بيت المال قدر أجرتهم، روي ذلك عن مالك. ولا وجه لهذا، فإن الله تعالى قد أخبر بأن لهم نصيبا من الصدقة، فكيف يمنعون منها ويعطون من غيرها؟! واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل هاشميا أم لا؟ فمنعه قوم وأجازه آخرون.
قالوا: ويعطى من غير الصدقة.
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ: قوم كانوا في صدر الإسلام.
فقيل: هم الكفار الذين كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتألفهم ليسلموا، وكانوا لا يدخلون في الإسلام بالقهر والسيف بل بالعطاء.
وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسلامهم، فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتألفهم بالعطاء.
وقيل: هم من أسلم من اليهود والنصارى، وقيل: هم قوم من عظماء المشركين، ولهم أتباع، فأعطاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليتألفوا أتباعهم على الإسلام، وأعطى النبي عليه السلام جماعة ممن أسلم ظاهرا، كأبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى: أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل يؤلفهم بذلك، وأعطى آخرين دونهم «١».
وأحمد في «المسند» (٢/ ٢٦٠، ٤٦٩)، والنسائي (٥/ ٨٤، ٨٥)، والدارمي (١/ ٣٧٩).
(١) حديث صحيح: «رواه مسلم (٧/ ١٥٥)، عن رافع بن خديج مرفوعا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصين، والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك... » الحديث.
«رواه البخاري (٥/ ٢٥١)، (٨/ ٥٥) ومسلم (٧/ ١٥٧)، عن ابن مسعود مرفوعا أنه أعطى يوم حنين الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وعيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة... » الحديث.
339
وقد اختلف العلماء: هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور الإسلام أم لا؟
فقال عمر والحسن والشعبي: قد انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره. وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي. وقد ادعى بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك.
وقال جماعة من العلماء: سهمهم باق لأن الإمام ربما احتاج أن يتألف على الإسلام، وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين، وبه أفتى الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية» «١»، قال يونس: سألت الزهري عنهم؟ فقال: لا أعلم نسخ ذلك.
وعلى القول الأول يرجع سهمهم لسائر الأصناف.
وَفِي الرِّقابِ: أي في فكها بأن يشتري رقابا ثم يعتقها، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وبه قال مالك وابن حنبل وإسحاق وأبو عبيد.
وقال الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد: إنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة، وهو قول الشافعي «٢» وأصحاب الرأي «٣» ورواية عن مالك «٤». والأولى حمل ما في الآية على القولين جميعا، لصدق الرقاب على شراء العبد وإعتاقه، وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة.
وَالْغارِمِينَ: هم الذين ركبتهم الديون ولا وفاء عندهم بها، ولا خلاف في ذلك إلا من لزمه دين في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب. وقد أعان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها «٥».
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ: هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم، وإن كانوا أغنياء. وهذا قول أكثر العلماء. قال ابن عمر: هم
(١) انظره في: (ص ١٥٧)، ورحمة الأمة (ص ٨٥).
(٢) انظر: كفاية الأخيار (ص ١٩٢)، تهذيب الأحكام الشرعية في فقه الشافعية لشيخنا كمال العناني (٣٠٣).
(٣) انظر: الروضة الندية (١/ ٢٠٤)، ورحمة الأمة (ص ٨٥).
(٤) انظر: جامع ابن الحاجب (ص ١٦٥).
(٥) انظر: شرح العبادات للكلوذاني (ص ١٩٧)، وجامع ابن الحاجب (ص ١٦٥)، وكفاية الأخيار (ص ١٩٣)، الروضة الندية (١/ ٢٠٤).
340
الحجاج والعمار «١».
وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله «٢».
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به.
وَابْنِ السَّبِيلِ: هو المسافر «٣».
والسبيل: الطريق ونسب إليها المسافر لملازمته إياها.
والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره، فإنه يعطى منها وإن كان غنيا في بلده، وإن وجد من يسلفه.
وقال مالك: إذا وجد من يسلفه فلا يعطى «٤».
قوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ: يعني كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف هو حكم لازم فرضا لله على عباده نهاهم عن مجاوزته «٥».
[الآية التاسعة عشرة]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣).
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ: الأمر بهذا الجهاد أمر لأمته من بعده وجهاد الكفار يكون بمقاتلهم حتى يسلموا، وجهاد المنافقين يكون بإقامة الحجة عليهم حتى يخرجوا عنه ويؤمنوا بالله «٦».
(١) انظر: جامع ابن الحاجب (ص ١٦٥)، وشرح عبادات الكلوذاني لليعقوبي (ص ١٩٨)، وكفاية الأخيار (١٩٤).
(٢) قال الجراعي: وعنه الحجج ليس من السبيل والعكس المذهب (غاية المطلب ص ١٠٥) وقال اليعقوبي: هم الغزاة (شرح العبادات للكلوذاني (ص ١٩٨). [.....]
(٣) انظر: غاية المطلب (ص ١٠٥)، الروض المربع (ص ١٢٠) ط- السّفلية.
(٤) مذهب المالكية إن وجد مسلفا وهو مليء ببلده، فقولان (ابن الحاجب في الجامع ص ١٦٦).
(٥) وقال اليعقوبي: «فالمستحب أن يجمع بين الأصناف المذكورة في العطية، فإن دفعها إلى صنف واحد أجزأه وكان تاركا للاستحباب» (ص ١٩٨).
وقد ذكرنا قول أهل العلم في هذه المسألة عند أول الكلام على آيات الصدقات.
(٦) انظر: الرّوضة الندية للمصنف (ص ٣٣١).
وقال الحسن: إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم. واختاره قتادة «١».
قيل في توجيهه: إن المنافقين كانوا أكثر من يفعل موجبات الحدود.
وقال ابن العربي: إن هذه دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق بما لا تتلبس به الجوارح ظاهرا، وأخبار المحدودين تشهد بسياقها أنهم لم يكونوا منافقين.
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الغلظ: نقيض الرأفة، وهو شدة القلب، وخشونة الجانب.
قيل: وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصبر والصفح، وفي «التحريم» «٢» مثلها.
[الآية العشرون]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣).
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ: الرجع: متعد كالرد، والرجوع: لازم، والفاء لتفريغ ما بعدها على ما قبلها وإنما قال: إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ: لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين، بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين لهم أعذار صحيحة، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له، ثم عفا عنهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتاب الله عليهم كالثلاثة الذين خلفوا «٣».
وقيل: إنما قال إلى طائفة لأن منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف.
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك في غزوة أخرى بعد غزوتك هذه.
(١) انظر: الطبري (١٠/ ١٢٦)، والنكت (٢/ ١٥٢)، وزاد المسير (٣/ ٤٦٩)، والقرطبي (٨/ ٢٠٤)، وابن كثير (٢/ ٣٧١)، الدر المنثور (٣/ ٢٥٨).
(٢) آية رقم (٩).
(٣) هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، وتخلفهم كان عن غزوة تبوك من غير عذر.
وانظر: البخاري (٨/ ١١٣، ١١٦، ٣٤٣، ٣٤٤)، ومسلم (١٧/ ٨٧، ٩٩)، عن كعب بن مالك.
342
فَقُلْ لهم: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا: أي قل لهم ذلك عقوبة لهم، ولما في استصحابهم من المفاسد.
إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ: للتعليل أي لن تخرجوا معي، ولن تقاتلوا لأنكم رضيتم بالقعود والتخلف أول مرة، وهي غزوة تبوك.
فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) : جمع خالف، والمراد بهم من تخلف عن الخروج.
وقيل: المعنى فاقعدوا مع الفاسدين، من قولهم: (فلان خالف أهل بيته) إذا كان فاسدا فيهم.
[الآية الحادية والعشرون] وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤).
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ: صفة لأحد.
وأَبَداً ظرف لتأييد النفي.
قال الزجاج: معنى قوله: وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له «١»، فمنع هاهنا منه.
وقيل: معناه لا تقم بمهمات إصلاح قبره.
وجملة: إِنَّهُمْ كَفَرُوا إلخ. تعليل للنهي عن صلاة الجنازة، والقيام على قبور هؤلاء المنافقين «٢».
(١) حديث صحيح: رواه أبو داود (٣٢٢١)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ٣٧٠) وصححه ووافقه الذّهبي.
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (٣/ ١٣٨)، ومسلم (١٥/ ١٦٧)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
343

[الآيات: الثانية والثالثة والرابعة والعشرون]

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣).
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ: وهم أرباب الزمانة والهرم والعرج ونحو ذلك «١»، ثم ذكر العذر العارض فقال:
وَلا عَلَى الْمَرْضى: والمراد بالمرض: كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعا.
وقيل: إنه يدخل في المرضى الأعمى والأعرج ونحوهما، ثم ذكر العذر الراجع إلى المال لا إلى البدن قائلا:
وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ: أي ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهيز للجهاد، فنفى سبحانه عنهم أن يكون عليهم حَرَجٌ: وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم، غير واجب عليهم مقيدا بقوله:
إِذا نَصَحُوا: أصل النصح إخلاص العمل، ونصح له القول: أي أخلصه له.
والنصح لِلَّهِ الإيمان به، والعمل بشريعته، وترك ما يخالفها كائنا ما كان، ويدخل تحته دخولا أوليا نصح عباده، ومحبة المجاهدين في سبيله، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد، وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه.
ونصيحة رَسُولِهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم التصديق بنبوّته وبما جاء به، وطاعته في كل ما يأمر به أو ينهى عنه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، ومحبته، وتعظيم سنته، وإحياءها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «الدين النصيحة» ثلاثا، قالوا:
لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» «٢».
(١) انظر: النكت (٢/ ١٥٨)، زاد المسير (٣/ ٤٨٥).
(٢) حديث صحيح: رواه مسلم (٥٥).
344
وجملة: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ: مقررة لمضمون سبق أي ليس على المعذورين الناصحين طريق عقاب ومؤاخذة.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦]، وقوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور: ٦١]، وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذرهم الله عنه مع رغبتهم إليه لولا أن حبسهم العذر عنه.
ومنه حديث أنس عن أبي داود وأحمد- وأصله في «الصحيحين» - أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم: قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال:
حبسهم العذر»
«١».
وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر «٢».
ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله:
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ: على ما يركبون عليه في الغزو.
قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ: أي حال كونهم باكين.
حَزَناً: منصوب على المصدرية أو على الحالية.
أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) لا عند أنفسهم ولا عندك.
إِنَّمَا السَّبِيلُ: أي طريق العقوبة والمؤاخذة.
عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ: في التخلف عن الغزو، والحال أن وَهُمْ أَغْنِياءُ: أي يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به.
(١) حديث صحيح: رواه أبو داود (٢٥٠٨)، وأحمد في «المسند» (٣/ ١٦٠، ٢١٤) عن أنس مرفوعا. والبخاري معلقا (٦/ ٤٧) عن أنس.
وأصله في «الصحيحين» عند البخاري (٦/ ٤٦، ٤٧) (٨/ ١٢٦)، عن أنس، ومسلم (١٣/ ٥٦، ٥٧) عن جابر مرفوعا.
(٢) حديث صحيح: رواه مسلم (١٣/ ٥٦، ٥٧)، وابن ماجة (٢٧٦٥)، وأحمد في «المسند» (٣/ ٣٣٠) (٣٤) عن جابر مرفوعا.
345
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ: أي أن سبب الاستئذان مع الغنى أمران:
أحدهما: الرضا بالصفقة الخاسرة وهي أن يكونوا مع الخوالف.
والثاني: الطبع من الله على قلوبهم.
فَهُمْ: بسبب هذا الطبع.
لا يَعْلَمُونَ (٩٣) : ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسر.
[الآية الخامسة والعشرون]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣).
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً: قد اختلف أهل العلم في هذه الصدقة المأمور بها؟
فقيل: هي صدقة الفرض.
وقيل: هي مخصوصة لهذه الطائفة المعترفين بذنوبهم لأنهم بعد التوبة عليهم عرضوا أموالهم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت هذه الآية. و (من) للتبعيض على التفسيرين.
قال السيوطي: فأخذ ثلث أموالهم فتصدق بذلك للكفارة فإن كل من أتى ذنبا يسن له أن يتصدق، والآية مطلقة مبينة بالسنة المطهرة، والصدقة مأخوذة من الصدق، إذ هي دليل على صدق مخرجها في إيمانه.
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها: الضمير في الفعلين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وقيل: للصدقة: أي تطهرهم هذه الصدقة المأخوذة منهم، والأول أولى.
ومعنى التطهير: إذهاب ما يتعلق بهم من أثر الذنوب، ومعنى التزكية: المبالغة في التطهير «١».
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ: أي ادع لهم بعد أخذك لتلك الصدقة من أموالهم.
(١) انظر: الطبري (١١/ ١٣)، النكت (٢/ ١٦٣)، زاد المسير (٣/ ٤٩٥)، القرطبي (٨/ ٢٤٤)، وابن كثير (٢/ ٣٨٥). [.....]
قال النحاس: وحكى أهل اللغة جميعا- فيما علمنا- أن الصلاة في كلام العرب:
الدعاء.
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي ما تسكن إليه النفس، وتطمئن به.
[الآية السادسة والعشرون]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣).
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى: ذكر أهل التفسير أن (ما كان) في القرآن يأتي على وجهين:
الأول: على النفي نحو: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: ١٤٥].
والآخر: على معنى النهي نحو: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: ٥٣]، وما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية، فإن القرابة في مثل هذا الحكم لا تأثير لها، وهذه الآية متضمنة لقطع الموالاة للكفار، وتحريم الاستغفار لهم والدعاء بما لا يجوز لمن كان كافرا «١».
ولا ينافي هذا ما ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم في الصحيح أنه قال يوم أحد حين كسر المشركون رباعيته وشجوا وجهه: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» «٢»، لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار للمشركين.
وعلى فرض أنه كان قد بلغه- كما يفيده سبب النزول «٣» - فإنه قبل يوم أحد بمدة طويلة، فصدور هذا الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدم من الأنبياء، كما في «صحيح مسلم» عن عبد الله قال: «كأني أنظر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يحكي نبيا
(١) انظر: الفتح الرّباني (١٨/ ١٦٤)، الطبري (١١/ ٣٠)، النكت (٢/ ١٧٠)، زاد المسير (٣/ ٥٠٧)، القرطبي (٣/ ٥٠٩)، ابن كثير (٢/ ٣٩٣)، اللباب (١٢٦)، الدر المنثور (٣/ ١٨٢).
(٢) انظر تخريجه فيما بعده.
(٣) حديث صحيح: رواه البخاري (٨/ ٣٤١)، ومسلم (٢٤)، وابن أبي حاتم (٤/ ١٠٢)، والأسماء والصفات (ص ٩٧، ٩٨)، والطبري (١١/ ٤١) عن سعيد بن المسيّب عن أبيه فذكر الحديث.
من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» «١».
وفي البخاري: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر نبيا قبله شجه قومه، فجعل يخبر عنه بأنه قال:
«اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» «٢».
مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) : هذه الجملة تتضمن التعليل للنهي عن الاستغفار.
والمعنى أن هذا التبين موجب لقطع الموالاة لمن كان هكذا وعدم الاعتداد بالقرابة، لأنهم ماتوا على الشرك، وقد قال سبحانه إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨] فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده.
[الآية السابعة والعشرون]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢).
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً: اختلف المفسرون في معناها؟ فذهب جماعة إلى أنه من بقية أحكام الجهاد، لأنه سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد والانتداب إلى الغزو كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سرية إلى الكفار، ينفرون جميعا ويتركون المدينة خالية، فأخبرهم سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك، أي ما صح لهم ولا استقام أن ينفروا جميعا.
فَلَوْلا: بمعنى هلا، فهي تحضيضية على معنى الطلب.
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ: ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة، ويكون الضمير في قوله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ: عائدا إلى الفرقة الباقية «٣».
والمعنى أن طائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو، ومن بقي من الفرقة يقفون
(١) صحيح: رواه مسلم (١٢/ ١٤٩، ١٥٠).
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (٦/ ٥١٤).
(٣) انظر: الطبري (١١/ ٥٥)، الزجاج (٢/ ٥٢٩).
348
لطلب العلم ويعلمون الغزاة إذا رجعوا إليهم من الغزو، أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يجدون فيه من يتعلمون منه ليأخذوا عنه الفقه في الدين «١».
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ: عطف علة، ففيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم الاستقامة وتبليغ الشريعة، لا الترفع على العباد والتبسط في البلاد.
وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، بل هي حكم مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم والتفقه في الدين، جعله الله سبحانه متصلا بما دل على إيجاب الخروج إلى الجهاد، فيكون السفر نوعين:
الأول: سفر الجهاد.
والثاني: السفر لطلب العلم.
ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر.
والفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية، وبما يتوصل به إلى العلم بها، من لغة ونحو وصرف وبيان وأصول. وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين، وإنذار من لم يتفقه، فجمع بين المقصدين الصالحين، والمطلبين الصحيحين، وهما:
تعلّم العلم وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض ديني «٢».
[الآية الثامنة والعشرون] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً: أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار في الدار والبلاد والنسب، وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة والشدة.
والجهاد واجب لكل الكفار، وإن كان الابتداء بمن يلي المجاهدين منهم أهم وأقدم، ثم الأقرب فالأقرب.
(١) انظر: زاد المسير (٣/ ٥٢٠)، القرطبي (٨/ ٢٩٩).
(٢) انظر: الفقيه والمتفقه للخطيب (ص ١١) ط- دار الوطن.
349
Icon