تفسير سورة السجدة

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة السّجدة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» كلمة سماعها ربيع الجميع، من العاصي والمطيع، والشريف والوضيع. من أصغى إليها بسمع الخضوع ترك طيّب الهجوع، ومن أصغى إليها بسمع المحابّ ترك لذيذ الطعام والشراب.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)
الإشارة من الألف إلى أنه ألف المحبون قربتى فلا يصبرون عنى، وألف العارفون تمجيدى فلا يستأنسون بغيري.
والإشارة في اللام إلى لقائى المدّخر لأحبّائى، فلا أبالى أقاموا على ولائى أم قصّروا فى وفائى.
والإشارة في الميم: أي ترك أوليائى مرادهم لمرادى.. فلذلك آثرتهم على جميع عبادى.
«تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» : إذا تعذّر لقاء الأحباب فأعزّ شىء على الأحباب كتاب الأحباب أنزلت على أحبابى كتابى، وحملت إليهم الرسالة خطابى، ولا عليهم إن قرع أسماعهم عتابى، فهم في أمان من عذابى.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٣]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)
الذي لكم منا حقيقة، وإن التبس على الأعداء فليس يضيركم، ولا عليكم، فإنّ
صحبة الجيب مع الحبيب ألذّها ما كان مقرونا بفقد الرقيب.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)
وتلك الأيام خلقها من خلق غير الأيام، فليس من شرط المخلوق ولا من ضرورته أن يخلقه في وقت إذ الوقت مخلوق في غير الوقت «١». وكما يستغنى في كونه مخلوقا عن الوقت استغنى الوقت عن الوقت.
«ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» ليس للعرش من هذا الحديث إلا هذا الخبر استوى على العرش ولكن القديم ليس له حدّ، استوى على العرش لكن لا يجوز عليه القرب بالذات ولا البعد، واستوى على العرش ولكنه أشدّ الأشياء تعطّشا إلى شظية من الوصال لو كان للعرش حياة؟، ولكنّ العرش جماد.. وأنّى يكون للجماد مراد؟! استوى على العرش لكنه صمد بلا ندّ، أحد بلا حدّ.
«ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ» : إذا لم يرد بكم خيرا فلا سماء عنه تظلّكم، ولا أرض بغير رضاه تقلّكم، ولا بالجواهر أحد يناصركم، ولا أحد- إذا لم يعن بشأنكم في الدنيا والآخرة- ينظر إليكم.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٥ الى ٦]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦)
خاطب الخلق- على مقدار أفهامهم ويجوز لهم- عن الحقائق التي اعتادوا في تخاطبهم.
«ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» «الْعَزِيزُ» مع المطيعين «الرَّحِيمُ» على العاصين.
«الْعَزِيزُ» للمطيعين ليكسر صولتهم «الرَّحِيمُ» للعاصين ليرفع زلّتهم.
(١) لأن الزمان سرمد لا يرتبط بالوقت ولا يقتطع به.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٧ الى ٨]
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨)
أحسن صورة كلّ أحد فالعرش ياقوتة حمراء، والملائكة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وجبريل طاووس الملائكة، والحور العين- كما في الخبر- فى جمالها وأشكالها، والجنان- كما في الأخبار ونص القرآن. فإذا انتهى إلى الإنسان قال: «خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» «١».. كل هذا ولكن:
وكم أبصرت من حسن ولكن عليك من الورى وقع اختياري
خلق الإنسان من طين ولكن «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» «٢»، وخلق الإنسان من طين ولكن: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» «٣»، وخلق الإنسان من طين ولكن «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ! قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ١٠]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠)
لو كانت لهم ذرّة من العرفان، وشمّة من الاشتياق، ونسمة من المحبة لما تعصّبوا كلّ هذا التعصب في إنكار جواز الرجوع إلى الله ولكن قال: «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ».
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ١١]
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)
لولا غفلة قلوبهم وإلا لما أحال قبض أرواحهم على ملك الموت فإنّ ملك الموت لا أثر منه في أحد، ولا له تصرفات في نفسه، وما يحصل من التوفّى فمن خصائص قدرة
(١) آية ٥٤ سورة المائدة.
(٢) آية ١٥٢ سورة البقرة.
(٣) آية ٨ سورة البينة.
الحق. ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربّ فخاطبهم على مقدار فهمهم، وعلّق بالأغيار قلوبهم، وكلّ يخاطب بما يحتمل على قدر قوّته وضعفه.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ١٢]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢)
ملكتهم الدهشة وغلبتهم الخجلة، فاعتذروا حين لا عذر، واعترفوا ولا حين اعتراف.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ١٣]
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣)
لو «١» شئنا لسهّلنا سبيل الاستدلال، وأدمنا التوفيق لكلّ أحد، ولكن تعلّقت المشيئة بإغواء قوم، كما تعلّقت بإدناء قوم، وأردنا أن يكون للنار قطّان، كما أردنا أن يكون للجنّة سكان، ولأنّا علمنا يوم خلقنا الجنّة أنه يسكنها قوم، ويوم خلقنا النار أنه ينزلها قوم، فمن المحال أن نريد ألا يقع معلومنا، ولو لم يحصل لم يكن علما، ولو لم يكن ذلك علما لم نكن إلها... ومن المحال أن نريد ألا نكون إلها.
ويقال: من لم يتسلّط عليه من يحبه لم يجر في ملكه ما يكرهه.
ويقال: يا مسكين أفنيت عمرك في الكدّ والعناء، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء، غيّرت صفتك، وأكثرت مجاهدتك.. فما تفعل في قضائى كيف تبدّله؟ وما تصنع في مشيئتى بأيّ وسع تردّها؟ وفي معناه أنشدوا:
شكا إليك ما وجد... من خانه فيك الجلد
حيران لو شئت اهتدى... ظمان لو شئت ورد
(١) هذه الإشارة المستوحاة من الآية تمثل أقصى درجات الجبرية في مذهب هذا الباحث الصوفي، ولكن القارئ لا يعزب عنه أن يجدها جبرية ممتزجة بالحب.. ويكفى أنها مرتبطة بمشيئة الخالق. [.....]
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ١٤]
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)
قاس من الهوان ما استوجبته بعصيانك، واخلد في دار الخزي لما أسلفته من كفرانك.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ١٥]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥)
التصديق والتكذيب ضدان- والضدان لا يجتمعان التكذيب هو جحود واستكبار، والتصديق هو سجود وتحقيق، فمن اتّصف بأحد القسمين امّحى عنه الثاني.
«خَرُّوا سُجَّداً» : سجدوا بظواهرهم في المحراب، وفي سرائرهم على تراب الخضوع وبساط الخشوع بنعت الذبول وحكم الخمود.
ويقال: كيف يستكبر من لا يجد كمال راحته ولا حقيقة أنسه إلا في تذلله بين يدى معبوده، ولا يؤثر آجل جحيمه على نعيمه، ولا شقاءه على شفائه؟! قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ١٦]
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦)
فى الظاهر: عن الفراش قياما بحقّ العبادة والجهد والتهجد، وفي الباطن: تتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال، ورؤية قدّر النفس، وتوّهم المقام- فإن ذلك بجملته حجاب عن الحقيقة، وهو للعبد سمّ قاتل- فلا يساكنون أعمالهم ولا يلاحظون أحوالهم. ويفارقون مالفهم، ويهجرون في الله معارفهم.
والليل زمان الأحباب، قال تعالى: «لِتَسْكُنُوا فِيهِ» : يعنى عن كلّ شغل وحديث سوى حديث محبوبكم. والنهار زمان أهل الدنيا، قال تعالى: «وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً»، أولئك قال لهم: «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ» :
إذا ناجيتمونا في ركعتين في الجمعة فعودوا إلى متجركم، واشتغلوا بحرفتكم.
وأما الأحباب فالليل لهم إمّا في طرب التلاقي وإما في حرب الفراق، فإن كانوا في أنس القربة فليلهم أقصر من لحظة، كما قالوا:
زارنى من هويت بعد بعاد... بوصال مجدّد ووداد
ليلة كاد يلتقى طرفاها... قصرا وهى ليلة الميعاد
وكما قالوا:
وليلة زين ليالى الدهر... قابلت فيها بدرها ببدر
لم تستبن عن شقق وفجر... حتى تولّت وهي بكر الدهر
وأمّا إن كان الوقت وقت مقاساة فرقة وانفراد بكربة فليلهم طويل، كما قالوا:
كم ليلة فيك لا صباح لها... أفنيتها قابضا على كبدى
قد غصّت العين بالدموع وقد... وضعت خدى على بنان يدى
قوله: «يدعون ربهم خوفا وطمعا» : قوم خوفا من العذاب وطمعا في الثواب، وآخرون خوفا من الفراق وطمعا في التلاقي، وآخرون خوفا من المكر وطمعا في الوصل.
«وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» : يأتون بالشاهد الذي خصصناهم به فإن طهّرنا أحوالهم عن الكدورات حضروا بأحوال مقدّسة، وإن دنّسّنا أوقاتهم بالآفات شهدوا بحالات مدنّسة، «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» فالعبد إنما يتجر في البضاعة التي يودعها لديه سيّده:
يفديك بالروح صبّ لو يكون له... أعزّ من روحه شىء فداك به
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ١٧]
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)
إنما تقرّ عينك برؤية من تحبه، أو ما تحبه فطالب قلبك وراع حالك: فيحصل اليوم سرورك، وكذلك غدا.. وعلى ذلك تحشر ففى الخبر:
«من كان بحالة لقى الله بها».
ثم إنّ وصف ما قال الله سبحانه إنه لا يعلمه أحد- محال، اللهم أن يقال: إنها حال عزيزة، وصفة جليلة.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ١٨]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨)
«١» أفمن كان في حال الوصال يجرّ أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسى وباله؟
أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعانى مشقة الكلفة؟
أفمن هو في روح إقبالنا عليه كمن هو في محنة إعراضنا عنه؟
أفمن بقي معنا كمن بقي عنّا؟
أفمن هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالى الكفران ووحشة العصيان؟
أفمن أيّد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن ربط بالخذلان ووسم بالحرمان؟ لا يستويان ولا يلتقيان! قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)
«الَّذِينَ آمَنُوا» : صدّقوا، «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : بما حققّوا- فلهم حسن الحال، وحميد المآل وجزيل المنال، وأما الذين كدّوا وجحدوا، وفي معاملاتهم أساءوا
(١) عن ابن عباس: أن الوليد بن عقبة قال لعل بن أبى طالب: أنا أحدّ منك سنانا، وأبسط منك لسانا، وأملأ للكتيبة منك، فقال عليّ:
اسكت فإنما أنت فاسق فنزلت الآية (الواحدي ص ٢٣٦).
وأفسدوا، فقصاراهم الخزي والهوان، وفنون من المحن وألوان كلما راموا من محنتهم خلاصا ازدادوا فيها انتكاسا، وكلما أمّلوا نجاة جرّعوا وزيدوا يأسا.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٢١]
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١)
قوم عذابهم الأدنى محن الدنيا، والعذاب الأكبر لهم عقوبة العنبي.
وقوم العذاب الأدنى لهم فترة تتداخلهم في عبادتهم، والعذاب الأكبر لهم قسوة في قلوبهم تصيبهم.
وقوم العذاب الأدنى لهم وقفة في سلوكهم تنيبهم، والعذاب الأكبر لهم حجبة عن مشاهدهم تنالهم، قال قائلهم:
أدّبتنى بانصراف قلبك عنّى فانظر إليّ فقد أحسنت تأديبى «١»
ويقال العذاب الأدنى الخذلان في الزلة، والأكبر الهجران في الوصلة.
ويقال العذاب الأدنى تكدّر مشاربهم بعد صفوها، كما قالوا:
لقد كان ما بينى زمانا وبينه كما بين ريح المسك والعنبر الورد
ويقال العذاب الأكبر لهم تطاول أيام الغياب من غير تبين آخر لها، كما قيل:
تطاول نأينا يا نور حتى كأن نسجت عليه العنكبوت
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٢٢]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)
إذا نبّه العبد بأنواع الزّجر، وحرّك- لتركه حدود الوقاق- بصنوف من التأديب
(١) الشطر الأول غير موزون، والشطر الثاني من البسيط.
ثم لم يرتدع عن فعله، واغترّ بطول سلامته، وأمن من هواجم مكره، وخفايا سرّه..
أخذه بغتة بحيث لا يجد خرجة من أخذته، قال تعالى: «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» «١» قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٢٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣)
فلا تكن في مرية من لقائه غدا لنا ورؤيته لنا «٢».
«وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» :
وهذا محمد ﷺ جعل رحمة للعالمين.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٢٤]
وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤)
لمّا صبروا على طلبنا سعدوا بوجودنا، وتعدّى مانالوا من أفضالنا إلى متبعيهم، وانبسط شعاع شموسهم على جميع أهلهم فهم للخلق هداة، وفي الدين عيون، وللمسترشدين نجوم.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٢٥]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥)
يحكم بينهم، وعند ذلك يتبين المردود من المقبول، والمهجور من الموصول، والرضى من
(١) آية ٦٥ سورة المؤمنون.
(٢) صرف القشيري الرؤية واللقاء إلى موسى عليه السلام، وأنه سيلقى ربه ويراه. بينما يرى قتادة أن المقصود:
فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه- أي محمد- فيها، كما لقيته ليلة الإسراء. وعن الحسن: فلا تكن- يا محمد- فى شك من أنك ستلقى ما لقيه من التكذيب والأذى، فالهاء عائدة على محذوف.
وقيل إن الكلام متصل بقوله تعالى:
الغوي، والعدو من الوليّ... فكم من بهجة دامت هنالك! وكم من مهجة ذابت عند ذلك! قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٢٦]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦)
أو لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا في حبرة فصاروا عبرة، كانوا في سرور فآلوا إلى ثبور فجميع ديارهم ومزارهم صارت لأغيارهم، وصنوف أموالهم عادت إلى أشكالهم، سكنوا فى ظلالهم ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم، وكما قيل:
نعمة كانت على قو... م زمانا تم بانت
هكذا النعمة والإح... سان مذ كان وكانت
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٢٧]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧)
«١» الإشارة فيه: تسقى حدائق وصلهم بعد جفاف عودها، وزوال المأنوس من معهودها، فيعود عودها مورقا بعد ذبوله، حاكيا بحاله حال حصوله.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩).
(١) يقول الزمخشري (الجرز) الأرض التي جزر نباتها أي قطع، إما لعدم الماء وإما لأنه رعى وأزيل، ولا يقال التي لا تنبت كالسباخ جرز، ويدل عليه قوله تعالى «فنخرج به زرعا».
وقال عكرمة: هى الأرض الظمأى.
ويحاول بعضهم أن يطلقها على مكان بعينه (ابن عباس: أرض باليمن) ومجاهد: (أرض النيل).
استبعدوا يوم التلاقي وجحدوه، فأخبرهم أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه.
قوله جل ذكره:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٣٠]
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)
أعرض عنهم باشتغالك بنا، وإقبالك علينا، وانقطاعك إلينا.
«وَانْتَظِرْ» زوائد وصلنا، وعوائد لطفنا.
«إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» هواجم مقتنا وخفايا مكرنا.. وعن قريب يجد كلّ منتظره محتضرا.
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
قل يتوفاكم ملك الموت» فلا تكن في مرية من لقائه، وجاءت «ولقد آتينا موسى» اعتراضا.