تفسير سورة الجاثية

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

غاية ما فيها إخبار الله تعالى نبيّه عما يحل بقومه الكافرين وما يناله عباده المؤمنين، ومن المعلوم أن الاخبار والوعيد والتهديد لا يدخلها النسخ، راجع بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة. هذا، ولا يوجد سورة مختومة في هذه اللفظة غير هذه.
وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
تفسير سورة الجاثية عدد ١٥- ٦٥- ٤٥
نزلت بمكة بعد سورة الدخان عدا الآية ١٤، فإنها مدنية، وهي سبع وثلاثون آية وأربعمائة وثمانون كلمة، وألفان ومئة وواحد وتسعون حرفا، وتسمى سورة الشريعة وسورة الدهر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «حم» ١ راجع ما قبله تجد معناه «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» القرآن عليك يا سيد الرسل «مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ٢ لتبشر به المؤمنين وتنذر به الكافرين الذين يطلبون منك نزول الآيات «إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القدير كافية «لِلْمُؤْمِنِينَ» ٣ بها فلا حاجة لإنزال غيرها، لأنهم إذا أجالوا النظر وأنعموا الفكر فيها تزيدهم هدى ونورا إذا أرادوا الإيمان، والذين لا يريدونه لا تنفعهم كثرة الآيات لأنهم لا يستدلون بها على موجدها، فلا تزيدهم إلا عمى وضلالا، لأن فيهما «وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ» فيهما «مِنْ دابَّةٍ» صغيرة أو كبيرة ناطقة أو عجماء «آياتٌ» أيضا لأن في هذه الدواب المختلفة الجنس والنوع والعقل والمعاش والفعل والتناسل دلائل كثيرة على الصانع المبدع «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ٤» أنه الإله الفعال لكل شيء، أما الذين لا يوقنون فلو ملأت لهم الأرض آيات لا يؤمنون لأنهم في غفلة عن ما يؤدي لفوزهم وخلاصهم «وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» وما يحصل من تعاقبهما من ظلمة ونور، وزيادة ونقص، وطول وقصر بصورة منتظمة لا تنخرم حتى يأذن الله بخراب هذا الكون، آيات أيضا عظيمات دالات علي حكمة الحكيم لمن كان له قلب حي «وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ» غيث
109
لأنه ينشأ عنه ومن هنا للتأكيد والتقوية راجع الآية ١٣ من سورة المؤمن المارة ويراد به هنا المطر للعلة نفسها هناك لأن أعظم الأرزاق هو الماء ومنه يتغذى ما يكون رزقا لجميع الخلق «فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ» التي هي معدن الأرزاق «بَعْدَ مَوْتِها» يبسها ويبس نباتها، وفيها الاستدلال على البعث بعد الموت، لأن الذي أحياها يحيي الموتى «وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ» يمينا وشمالا شرقا وغربا، وجعلها باردة وحارة ومعتدلة وشديدة كدرة وصافية لينة وعاصفة «آياتٌ» عظيمات أيضا دالات على وجود الإله المغير لها المعبود بالحق وعلى نفي الأوثان العاجزة عن كل شيء «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ٥ مراد الله في ذلك كله. اعلم أرشدك الله أن في ترتيب هذه الآيات آيات أيضا لمن تدبرها وتفكر فيها، لأنه إذا نظر هذين الهيكلين الجسيمين علم بالضرورة أنه لا يقدر على صنعها إلا الرب العظيم فآمن به، وإذا تفكر في خلق نفسه وكيفة تقلبها من حال إلى حال فنظر في أصل خلقه وخلق الحيوانات بالولادة والتولد ومصيره ومصيرها ازداد إيمانا، وإذا استحد فكرته وراجع فطنته في الحوادث المتجددة ليل نهار وما يقع صباح مساء أيقن بأن لا فاعل مختار لهذه الأشياء إلا الواحد القهار، وإذا تدبر تصاريف الرياح وتقلبات الدهر واستدل بإحياء الأرض بالمطر بعد اليبس الذي هو بمثابة الموت لها على حياة البشر بعد موته لأن السبب واحد فيهما استحكم إيمانه وكمل يقينه وعقل الحكمة التي أرادها ربه من إيجاد الكون وأخلص لله ففاز بخير الدنيا والآخرة، ولهذا ختم الله الآية الأولى بالمؤمنين، والثانية بالموقنين، والثالثة بالعاقلين، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث أفلح وفاز فاعقل هذا في الدنيا هداك الله لحكمته لتتوصل في الآخرة إلى فسبح جنته «تِلْكَ آياتُ اللَّهِ» الذي برأ كل شيء وأحسن خلقه وهداه لما فيه هداه، وقد أوجدها عبرة وعظة لأولي الألباب ليعقلوا معناها ويعرفوا مغزاها، «نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» الناصع بواسطة أميننا جبريل لتتلوها على قومك علهم يؤمنوا بها وإذا لم يفعلوا فقل لهم «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ» ٦ أي لا يؤمنون أبدا، إذ غلب على عقولهم الإفك، وحجب قلوبهم وسخ الإثم، وصم آذانهم رين التكذيب، وعمى أبصارهم
110
غلو الشرك. وهذه الآية التي عجب فيها الوليد فذكرها إلى قومه كما أشرنا إليه في الآية ٢٨ من سورة المدثر في ج ١ فراجعها. واعلم يا سيد الرسل أن من لم يؤمن بما نتلوه عليه من هذه الآيات المدللات له «وَيْلٌ» وهلاك كبيرِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ٧ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ»
فلا يلتفت إليها ولا يعتبر بها «ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً» يأنف عنها ويتجبر «كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» لشدة عتوه وعناده، وثم هنا للاستبعاد وعليه قول جعفر بن عليه:
لا يكشف النعماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
«فَبَشِّرْهُ» يا سيد الرسل «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ٨ توبيخا له وهذه البشارة على طريق التهكم والسخرية، لأن البشارة تكون في الأمر السّار، فإذا اقترنت بضدّه كان معناها الإنذار وأريد بها التقريع، قال تعالى «وَإِذا عَلِمَ» بالتخفيف والبناء للفاعل، وقرأه بعضهم بالتشديد والبناء للمفعول، أي إذا تيقن هذا المستكبر «مِنْ آياتِنا شَيْئاً» بسماعها منك «اتَّخَذَها هُزُواً» وصار يسخر بها ويقرؤها على أضرابه ليضحكوا منها، لأنهم لا يفقهون معناها بسبب كثافة صدأ قلوبهم، وقد صدهم الله عنه لخبث طوبتهم وسوء نيتهم «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» ٩ ثم بين نوع إهانته بقوله عزّ قوله «مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ» ومن أمامهم أيضا لأن الوراء الجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، ومن كانت جهنم وراءه فهي قدامه حتما لأنه إذا زج فيها صارت وراءه، لأنها كانت أمامه «وَلا يُغْنِي» يدفع ويمنع «عَنْهُمْ ما كَسَبُوا» شيئا في الدنيا من العمل لقبحه ولا من إخوانهم لأنهم أشرار مثلهم، ولا من المال لأنه من حرام، فلم يجمعه من حل، ولم ينفقه في سبيل الله، ولا من الأهل لأنهم كفرة، وعلى فرض إيمانهم فلا صلة بين المؤمن والكافر ولا تراحم البتة، وإذا كان لهم عمل طيب فقد كوفئوا به في الدنيا «وَلا» يغني عنهم أيضا «مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ» لأنها إن كانت أصناما فلا تضر ولا تنفع، وإن كانت الملائكة وعزير والمسيح فإنهم يتبرءون منهم، وهم لا يشفعون إلا لمن أذن الله بالشفاعة له ورضيها كما مرّ غير مرة، ولبحثها صلة في الآية ٢٨ من سورة
111
الأنبياء الآتية «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ١٠ نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث لأنه كان يشتري من أحاديث العجم ويتلوه على الناس ليشغلهم عن سماع القرآن ويحبذ لهم سماعها، والاستهزاء بالقرآن، قاتله الله الذي وهي عامة في كل من هذا شأنه ونزولها فيه لا يقيدها.
قال تعالى «هذا» الكتاب المنزل عليك يا سيد الرسل «هُدىً» لمن عقله يهتدي به ورشد لمن استرشد به «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» هو عليهم عمى وضلالة «لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ» هو أشد العذاب في الآخرة كما أن الموت أشد عذاب الدنيا ولذلك يطلق عليه لفظ الرجز «أَلِيمٌ» ١١ نعت للزجر على قراءة الجر، وللعذاب على قراءة الرفع، ثم عدد أفضاله على عبده بقوله عز قوله «اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ» التي تركبونها وتحملون أثقالكم عليها «فِيهِ» في البحر «بِأَمْرِهِ» جل أمره لأنها تجري بالرياح، وهي لا تهب إلا بأمر الله والتي تجري بالمحركات كذلك بأمره، إذ لو شاء لما تحركت والتي بقوة البشر أيضا بأمره إذ لو أراد لأعجزهم «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» من ربح التجارة وزيارة البلدان والاجتماع بالإخوان واستخراج اللآلئ «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ١٢ نعمه عند سيرها وبلوغكم مقاصدكم إذا كنتم لا تشكرونه دائما «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ» من الكواكب وغيرها «وَما فِي الْأَرْضِ» من حيوان ونبات ومعادن لتنتفعوا بها «جَمِيعاً مِنْهُ» وحده وأنى لغيره شيء من ذلك لعجزه عن جزء بعض ما هنالك «إِنَّ فِي ذلِكَ» التسخير من حيث لا حول لكم ولا قوة عليه «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ١٣ في آلائه ومكوناته فيتعظون ويعتبرون، وهذه الآية المدنية قال تعالى يا أكرم الرسل «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» ولا يتوقعون وقائعه بأعدائه ولا يخافون انتقامه مع استحقاقهم إياه فالرجاء مجاز عن التوقع كما أن الأيام مجاز عن الحوادث واستعمالها شائع في ذلك «لِيَجْزِيَ قَوْماً» أي المؤمنين وتنوينه للتعظيم ولفظ قوم يدل على المدح «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ١٤ من العمل الصالح الذي من جملته العفو والصفح عمن يعتدي عليهم. وسبب نزول هذه الآية على ما حكاه ابن عباس هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم نزل بأصحابه في غزوة بني المصطلق على بئر المريسيع،
112
فأرسل ابن أبي غلامة ليستسقي فأبطأ عليه، فلما أتاه قال له ما حبسك؟ قال غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستسقي حتى ملأ قرب النبي صلّى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر، فقال ابن أبي لعلامة ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل (سمّن كلبك يأكلك) قاتله الله ما أخبثه وكلامه، ولكن الدنّ ينضح بما فيه، ويكفي أنه رئيس المنافقين الذين ماتوا على نفاقهم. فبلغ ذلك عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله هذه الآية. وما قيل إنها نزلت في عمر رضي الله عنه حينما شتمه المشرك من غفار بمكة قبل الهجرة فهمّ أن يبطش به غير سديد، لأن الآية مدنية بالاتفاق كما علمت، ولأن المسلمين في مكة عاجزون عن البطش، والذي لا يقدر ينتصر لنفسه لا يؤمر بالعفو. وما قاله بعضهم إن هذه الآية منسوخة لا يصح، لأن المراد بها ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ» ثواب عمله «وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» وزر إساءته «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» ١٥ في الآخرة فيعاملكم بما كنتم تعملون في الدنيا، ونظير صدر هذه الآية الآية ٤٥ من فصلت المارة «وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ» بين الناس «وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» الحلال ولا طيّب إلا وهو حلال ولا حلال إلا وهو طيب «وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» ١٦ في زمانهم وعلى من قبلهم عدا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأنهم من أولي العزم للاجماع على تفضيلهم «وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ» يعرفون بها الحلال من الحرام والحق من الباطل والجد من الهزل «فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» الذي هو موجب للاتفاق لا الاختلاف، فكان اختلافهم بعد العلم «بَغْياً بَيْنَهُمْ» حاكوه بينهم حسدا للأنبياء وحبا ببقاء الرياسة، وهذا تعجب من حالهم لأن العلم يرفع الاختلاف لا يوقعه «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ١٧ بمحض العناد وإظهار التكبر وليس عن جهل ليعذروا به، لأن التوراة أنزلت على نبيهم موسى عليه السلام مفصل فيها كل شيء يحتاجونه من أمر الدين والدنيا، فاختلافهم في تأويلها وعدم قبولهم بعض أحكامها ما هو إلا بغي وتجبر وطغيان، قال تعالى «ثُمَّ جَعَلْناكَ» يا سيد الرسل «عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ
113
الْأَمْرِ»
العائد لدينك وآتيناك سنة مستوية ومنهاجا قويما وطريقة مستقيمة «فَاتَّبِعْها» أنت وقومك المؤمنين بك «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» ١٨ طريقتك
هذه وأخيرتها مما يدعونك إليه من طرق آبائهم المعوجة «إِنَّهُمْ» هؤلاء الكفرة الذين يريدونك على دينهم وسنة آبائهم الضالة لو أطعتهم على فرض المحال واتبعت أهواءهم «لَنْ يُغْنُوا» يمنعوا ويدفعوا «عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» أراد إيقاعه فيك «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» في الدنيا ولا وليّ لهم في الآخرة ولا يتبعهم إلا ظالم مثلهم «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ» ١٩ فيها وأنت خلاصتهم، فدم على ما أنت عليه من التوجه إلى الله والإعراض عن وأعدائه أعدائك، وهذا الخطاب الموجه إلى حضرة الرسول مراد به غيره من أصحابه الذين معه لأنه معصوم من اتباع الكفرة، راجع الآية ٦٣ فما بعدها من سورة الزمر المارة، قال تعالى «هذا» القرآن المنزل عليك يا حبيبي «بَصائِرُ لِلنَّاسِ»
في قلوبهم وكما هو نور لأبصارهم وحياة لأرواحهم، هو معالم لحدودهم وأحكامهم «وَهُدىً» من الضلال لمن اتبعه «وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» ٢٠ به ويصدقون بما فيه
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا»
اكتسبوا بجوارحهم اليد والرجل واللسان والفرج وغيرها ففعلوا فيها «السَّيِّئاتِ»
هي كل ما ساءك فعله فيك من الغير أو خالف أمر دينك أو أغضب غيرك صنعه «أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ»
كلا لا نفعل ولا ينبغي لنا أن نفعل ذلك، وإن كانوا هم يحكمون بالمساواة فقد «ساءَ ما يَحْكُمُونَ»
٢١ وبئس القضاء قضاؤهم ذلك، إذ لا يستوي الخبيث والطيب، كما لا تستوي الظلمات والنور، راجع الآية ١٠٤ من سورة المائدة ج ٣. قال بعض كفرة قريش لإن كان ما تقولونه في البعث حقا لنفضلنكم فيه كما فضلناكم في الدنيا بالمال والنشب والسعة والجاه، فأنزل الله هذه الآية يخبرهم فيها بأنه شتان ما بين المؤمن والكافر في الآخرة، لأن المؤمن مؤمن في حياته ومماته بالدنيا والآخرة، والكافر كافر في حياته ومماته فيهما، ومال الدنيا زائل لا محالة فلا قيمة له ولا عبرة بالتفاضل فيها، أما حال الآخرة الذي هو محل التفاضل والتنافس فهو باق للمؤمنين في نعيم الجنة، وباق للكافرين في جحيم
114
النار، والبون شاسع بين الحالتين فليس من أقعد على بساط الموافقة، كمن أجلس مع مقام المخالفة، ولا بد من الفرق وإعلاء المؤمنين وإخزاء الكافرين في يوم لا شفيع فيه ولا معين إلا من رحم الله، وأذن له بالشفاعة. قال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري، ولقد رأيته قام ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ويبكي (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ)
الآية، ولما بلغها الفضيل جعل يرددها ويبكي ويقول ليت شعري من أي الفريقين أنت يا فضيل؟. قال تعالى «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» ويعدل فيهما بين خلقه بالحق فينصف المظلوم من الظالم ويظهر التفاوت بين المسيء والمحسن، فإذا لم يكن كل ذلك في الحياة لأمور اقتضتها حكمته فلا بد من كينونها في الممات أي بعده حتما. وهذه الآية بمعرض الإنكار على حسبانهم تساوي الفريقين بدليل قوله «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» في دنياها «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ٢٢ في الآخرة فلا يزاد على جزاء الظالم ولا ينقص من مكافآت المحسن.
مطلب تفنيد مذهب القدرية وذم اتباع الهوى وأقوال حكيمة، والدهر:
قال تعالى «أَفَرَأَيْتَ» أيها الإنسان الكامل «مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» فصار تبعا لما تهواه نفسه «وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ» منه بعاقبة أمره «وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ» فلم يجعله يسمع الهدى «وَقَلْبِهِ» فلم يدعه يعقله «وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً» فلم يتركه يراه فمن هذا شأنه أخبروني «فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ» استفهام إنكاري، أي لا يهديه أحد البتة لأنه لا يجاب إلا بلا «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ٢٣ أيها الناس فنلاحظون وتقولون لا هادي إلا الله، ولا مضل لمن هداه، ولا هادي لمن أضله.
قال الواحدي: لم يبق للقدرية مع هذه الآية عذرا وحيلة لأن الله تعالى صرح بمنعه إياه عن الهوى حتى أخبر بأنه ختم على جوارحه كلها وعطلها عن النظر إلى طريق الهدى، وقيل في هذا المعنى:
115
لأن أصل الشر كله متابعة الهوى وكل الخير في مخالفته، وقيل:
إذا طلبتك النفس يوما بشهوة وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنمّا هواك عدو والخلاف صديق
نون الهوان من الهوى مسروقة فأسير كل هوى أسير هوان
وقال أبو عمرو موسى بن عمر الأشبيلي الزاهد:
فخالف هواعا واعصها إن من يطع هوى نفسه ينزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به في؟؟؟ أي مصرع
واعلم أن متابعة الهوى مذمومة قبل الإسلام، قال عنترة:
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد لا أتبع النفس اللجوج هواها
وقال الأبوصيري:
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خصما ولا حكما فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
وقال غيره:
هي النفس إن تمهل تلازم خساسة وإن تنبعث نحو الفضائل تبتهج
قال ابن عباس: ما ذكر الله هوى إلا ذمه. وقال وهب: إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك. وقال سهل التستري هواؤك داؤك، فإن خالفته فدواؤك، وجاء في الحديث والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وفي حديث آخر: ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. فيجب على النبيه النبيل أن يعرض عن هواه فإنه مفارقه، وإلا فهو نار ثانية عليه يذهب معه إلى جهنم، قال:
جمع الهواء مع الهوى في مهجتي فتكاملت في أضلعي ناران
فقصرت بالممدود عن نيل المنى ومددت بالمقصور في أكفاني
وهذه نزلت في الحارث بن قيس السهمي، إذ كان لا يهوى شيئا إلا ركبه.
وحكما عام في كل من اتبع هواه، وفيها إعلام عن ذم الهوى واتباع الشهوات ما فيها لمن اتبع ذلك، لأن جواهر الأرواح منها ما هو مشرق علوي نوراني، فلا يميل إلا لما يرضي خالقه مبدعه، ومنها ما هو رذيل سفلي ظلماني فلا يميل إلا لما يعجب نفسه، وإن الله تعالى يقابل كلا بما يليق بماهيته وجوهره. ونظير هذه الآية
116
الآيتان ٤٣- ٤٤ من سورة الفرقان، في ج ١ فراجعهما. قال تعالى «وَقالُوا» منكرو البعث بعد هذه الآيات البينات على إثباته «ما هِيَ» الحياة «إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» لا حياة بعدها أبدا «نَمُوتُ» أي يموت آباؤنا «وَنَحْيا» نحن بعدهم ونموت نحن ويحيا أبناؤنا بعدنا، وهكذا أرحام تدفع وأرض تبلع، أو نحيا نحن ونموت، لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، وعلى هذا قوله تعالى (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) أي رافعك إلى السماء الآن ومتوفيك بعد، راجع الآية ٥٥ من سورة آل عمران ج ٣ «وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» في كره ومره واختلاف جديديه. واعلم أن الدهر اسم لمدة العالم من مبدإه إلى منتهاه، ويعبر به عن كل مدة طويلة، بخلاف الزمن، فإنه يقع على القليل والكثير.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار.
وفي رواية يؤذيني ابن آدم، ويقول يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما. وفي رواية يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار. وأخرج مسلم لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر. وأخرج أبو داود والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم: يقول الله عز وجل استقرضت عبدي فلم يقرضني، وشتمني عبدي وهو لا يدري، يقول وا دهراه، وأنا الدهر. وأخرج البيهقي: لا تسبوا الدهر، قال الله عز وجل أنا الأيام والليالي أجودها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك. ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث، فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على الله تعالى عز وجل، ولهذا عدّ بعض العلماء سب الدهر من الكبائر، لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وتنزه وهو كفر، وما أدّى إليه فأدنى مراتبه أن يكون كبيرة، وقالت الشافعية مكروه لا غير. وعندنا نحن الحنفية تفصيل، فمن سب الدهر وأراد به الزمان كما هو المتعارف لدى العامة فلا كلام في الكراهة، وإذا أراد رب الزمن وهو الله عز وجل ولا أظن أحدا يريد ذلك فلا كلام في الكفر، راجع الآية ١٣٩ من سورة الأنعام المارة. ومن هذا القبيل إذا نسب فعل الأشياء إلى الكواكب
117
وغيرها، فإن أراد أنها بنفسها تؤثر يكون كفرا، وإذا قال المؤثر هو الله وإنما اقتضت قدرته أن يكون إذا كان كذا كان كذا فلا بأس، وإن أطلق في هاتين المسألتين فمحل تردد لاحتمال الأمرين، والأولى أن يحمل على ما هو الأحسن في مثل هذا. وكانوا قبل الإسلام يستدون الإهلاك إلى الدهر إنكارا منهم لقبض الأرواح من قبل ملك الموت بإذن الله، وكذلك يستدون كافة الحوادث إليه لجهلهم أنها بتقدير الله تعالى، وهؤلاء بخلاف الدهرية لأنهم مع اسنادهم الوقائع إلى الدهر لا يقولون بوجوده تعالى، بل يقولون إن الدهر مستقل بالتأثير، أما هؤلاء فيعترفون بوجود الله. قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ... )
الآية ٩ من سورة الزخرف المارة، وهي مكررة كثيرا في القرآن «وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» ٢٤ أي لا علم لهم ولا يقين فيما يقولونه، لأن مصدره الحسبان والميل إلى ما يشتهون من القول من غير موجب، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول من غير حجة أو بينة فاسد باطل، وإن متابعة الشك والوهم منكر. واعلم أن بعض العلماء أنكر قراءة أنا الدهر بضم الراء الوارد في حديث أبي داود المار ذكره بداعي لو كان صحيحا لكان من جملة أسمائه تعالى، ويرويه بفتح الراء ظرفا لأقلب، أي إني أقلب الليل والنهار الدهر، ولكن يردّه رواية مسلم (فإن الله هو الدهر) لذلك إن الجمهور على ضم الراء ولا يلزم أن يكون من أسمائه تعالى، لأنه جار على التجوز ولا مانع لأن الله تعالى له أسماء كثيرة لا يعلمها غيره وهذه التسعة والتسعون المشهورة هي أسماؤه الحسنى، راجع الآية ٨ من سورة طه في ج ١ تعلم أن أسماءه لا تحصى وأن لها مشتقات كثيرة، قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ» واضحات لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير لأنها ظاهرة «ما كانَ حُجَّتَهُمْ» بعدم قبولها والأخذ بها «إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا» الذي ماتوا قبلنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ٢٥ أنت وأصحابك يا محمد بأن ربكم الله يحيي بعد الموت، فيا سيد الرسل «قُلِ» لهؤلاء الجهلة «اللَّهُ يُحْيِيكُمْ» من العدم ابتداء من نطفة ضعيفة ميتة «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عند انقضاء آجالكم من الدنيا «ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ» أنتم ومن قبلكم ومن بعدكم
118
أحياء كما يقتضيه معنى الجمع «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» الذي مجيئه حق «لا رَيْبَ فِيهِ» لأنه لا بد واقع «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ٢٦ حقيقة قدرته تعالى وتصرفه في ذلك «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ» بدل من يوم في صدر الآية والعامل بهما «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» ٢٧ إذ يصيرون إلى النار. قال تعالى «وَتَرى» يا سيد الرسل في ذلك اليوم الرهيب «كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً» على ركبها بين يدي الله عز وجل تنتظر القضاء بالعدل من الحاكم العدل وإذ ذاك «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» الذي نمقته حفظتها بأعمالها وأقوالها ويقال لها «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٢٨ في الدنيا عن الخير خيرا منه وعن الشر بمثله. ثم يقول الله تعالى «هذا» الذي أحصاه حفظتنا هو «كِتابُنا» لأنا أمرناهم بتدوينه وهو منطبق على ما كان في علمنا قبلا وهو الآن «يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» الذي وقع منكم بلا زيادة ولا نقص لأنه موافق للحق الذي هو في لوحنا أزلا، واعلموا أيا الناس «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ» نأمر الملائكة بنسخ وكتابة «ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٢٩ في الدنيا مما هو مدون عندنا، لأن الاستنساخ لا يكون إلا عن أصل. وتدل هاتان الآيتان على أن استحقاق العقوبة لا يكون إلا بعد مجيء الشرع، على أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين إن بعض الواجبات تجب بالعقل. هذا ومما يؤيد التفسير الذي جرينا عليه ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله تعالى خلق النون وهي الدواة، وخلق القلم، فقال اكتب، قال ما أكتب؟ قال ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر، ورزق مقسوم حلال أو حرام، ثم ألزم كل شيء بيانه، وذلك دخوله في الدنيا متى، وخروجه منها كيف، ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف، ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزانا، فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم، فإذا فنى الرزق وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم، فيقول الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا، فترجع فيجدونه قد مات. ثم قال ابن عباس: ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) وهل يكون
119
الاستنساخ إلا من أصل؟ وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله عنه أنه سئل عن الآية، فذكر نحو ذلك، ثم قال هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب؟
وقد روى الاستنساخ من اللوح عنه جماعة «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ» و «ذلِكَ» الإدخال «هُوَ الْفَوْزُ» للمؤمنين والظفر العظيم «الْمُبِينُ» ٣٠ الظاهر لهم في الجنة جزاء عملهم
«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» فيقال لهم يوم الحساب وظهور الحجة عليهم «أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» في الدنيا من قبل رسلي وتحذركم من هول هذا الموقف «فَاسْتَكْبَرْتُمْ» عن الأخذ بها منهم «وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» ٣١ معتادين الإجرام حتى صارت ديدنا لكم لا يحتمل انفكاككم عنها «وَ» قد كنتم في الدنيا أيضا «إِذا قِيلَ» لكم «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ» بالبعث «حَقٌّ وَالسَّاعَةُ» هذه التي أنتم فيها الآن حق «لا رَيْبَ فِيها» أيضا «قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ» ولم تلتفتوا إلى أن الذين أخبروكم بها هم رسل الله وأنهم يتكلمون عن الله وبأمر الله وجاوبتموهم بقولكم «إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا» بما تقولونه فلا نعتقده إلا توهما ولا نقول به إلا حدسا كأن الذين يعظونكم بذلك ليسوا بشيء وقد أكدتم تكذيبهم بقولكم «وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» ٣٢ ما تقولونه وبقيتم شاكين بوجود هذه الحياة ومنكرين يوم الجمع هذا لأنه عندكم لا يعقل وإن ما لا يعقل لا يكون، ولم تعلموا أن أفعال الله لا تدرك، وأنها لا تقابل إلا بالخضوع لها، فانظروا الآن إلى ما كان منكم في الدنيا. قال تعالى «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا» في الدنيا وجزاؤه لأن العقوبة تسيء صاحبها وتقبح منه لذلك سميت سيئات ولما رأوها مجسمة أمامهم دهشوا «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ٣٣ من أنواع العقاب الذي كان أخبرهم به رسلهم، إذ كانوا ينكرون ولا يصدقون ويسخرون بهم عند ما يذكرون لهم ذلك ويخوفونهم به «وَقِيلَ» لهم بعد إدخالهم النار وإحاطة العذاب بهم «الْيَوْمَ نَنْساكُمْ» فنترككم في هذا الشقاء ونجعلكم كالمنسيين بالنسبة لكم وهذا من باب المقابلة أي المتروكين لأن الله تعالى لا ينسى شيئا وذلك «كَما نَسِيتُمْ» في الدنيا «لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» في الآخرة ولم تبالوا به ولم تصفوا
120
لنصح أنبيائكم وإرشادهم لكم بالعودة إليه «وَمَأْواكُمُ» الذي تأوون إليه للاستراحة وعند النوم هو «النَّارُ» لا راحة لكم ولا نوم فيها بل عذاب دائم مستمر «وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ٣٤ يخلصونكم منها أو يمنعون عذابها عنكم «ذلِكُمْ» الجزاء الشاق والعذاب الذي لا يطاق «بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بنعيمها الزائل وبهجتها المزخرفة وشغلكم حكامها عن الاعتراف بهذا اليوم. «فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها» أبدا وقرىء بضم ياء يخرجون وفتحها وهو أحسن «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» ٣٥ يسترضون فلا يطلب منهم إرضاء ربهم والإيمان به وبالبعث والنبوة لأنه لا يقبل عذر فيه ولا توبة. والالتفات من الخطاب إلى الغيبة إيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم، وأن الخطاب للخزنة الذين نقلوهم من مقام المخاطبة إلى غيابة النار، والالتفات من أنواع البديع المستحسنة في الكلام. قال تعالى «فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ٣٦ إخبار مراد منه الإنشاء أي احمدوا ربكم أيها الناس ومجدوه وعظموه لأنه ربكم ورب كل شيء «وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فكبروه وعزروه وحق للرب أن يعظم ويمجد ويكبر ويحمد «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب في الانتقام من أعدائه البليغ في النصرة لأوليائه «الْحَكِيمُ» ٣٧ في أحكامه وإحكامه. وقد ختمت هذه السورة بمثل ما بدئت به من الصفتين الجليلتين كما هو شأن كثير من السور، وتفيد هذه الصفات أن الكمال كله في القدرة والرحمة والحكمة ليس إلا لله وأن لا متّصف بكمال هذه الصفات غير الإله العظيم الكبير في سمواته وأرضه، المتصرف بما فيهما، ويوجد سورتان مختومتان بهذه اللفظة، الحشر والتغابن، روى مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: العزّ إزاره والكبرياء رداؤه، فمن ينازعه عذبه. وأخرج الرقاق وأبو مسعود عنهما: يقول الله عز وجل العزّ إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار. وهذا مخرج على ما تعتاده العرب في بديع استعارتهم، وذلك أنهم يكنون عن الصفة اللازمة بالثوب، فيقولون شعاره التقوى ولباسه الزهد، فضرب الله عز وجل بالإزار والرداء مثلا له جل شأنه في
121
Icon