تفسير سورة الصف

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الصف من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿سَبَّحَ﴾ التسبيح تمجيد الله وتنزيهه عما لا يليق به من صفات النقص ﴿العزيز﴾ الغالب الذي لا يُغلب ﴿الحكيم﴾ الذي يضع الأشياء في مواضعها ويفعل ما تقتضيه الحكمة ﴿مَقْتاً﴾ بغضاً قال الزمخشري: المقتُ: أشدُّ البغض وأبلغه وأفحشه ﴿مَّرْصُوصٌ﴾ المتماسك المتلاصق بعضه ببعض قال الفراء: رصصتُ البناء إِذا لائمتُ بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة ﴿زاغوا﴾ مالوا عن الهدى والحق ﴿البينات﴾ المعجزات الواضحات.
سَبَبُ النّزول: روي أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحبَّ الأعمال إِلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا!! فلما فرض الله الجهاد كرهه بضعهم فأنزل الله ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾.
التفسير: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي نزَّه اللهَ وقدَّسه ومجَّده جميعٌ ما في السمواتِ والأرض من مَلَك، وإنسان، ونبات، وجماد ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإِسراء: ٤٤] قال الإِمام الفخر: أي شهد له بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السموات والأرض ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ أي وهو الغالب في ملكه، الحكيم في
349
صنعه، الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ أي يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله لم تقولون بألسنتكم شيئاً ولا تفعلونه؟ ولأي شيءٍ تقولون نفعل ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟ وهو استفهام على جهة الإِنكار والتوبيخ قال ابن كثير: هذا إنكارٌ لعى من يَعِد وعداً، أو يقول قولاً لا يفي به، وفي الصحيحين «آية المنافق ثلاثٌ: إِذا وعد أخلف، وإِذا حدَّث كذب، وإِذا ائتمن خان» ثم أكَّد الإِنكار عليهم بقوله ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله﴾ أي عظُم فعلكم هذا بغضاً عند ربكم ﴿أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ أي أن تقولوا شيئاً ثم لا تفعلونه، وأن تَعشدوا بشيء ثم لا تفون بهن قال ابن عباس: كان ناسٌ من المؤمنين قبل أن يُفرض الجهاد يقولون: لوددنا أنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ َّ دلنا على أحبِّ الأعمال إِليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإِيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناسٌ من المؤمنين وشقَّ عليهم أمره فنزلت الآية وقيل: هو أن يأمر الإِنسان أخاه بالمعروف ولا يأتمر به، وينهاه عن المنكر ولا ينتهي عنه كقوله تعالى ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤] ؟ ثم أخبرهم تعالى بفضيلة الجهاد في سبيل الله فقال ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً﴾ أي يحب المجاهدين الذين يصفُّون أنفسهم عند القتال صفاً، ويثبتون في أماكنهم عند لقاء العدو ﴿كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ أي كأنهم في تراصِّهم وثبوتهم في المعركة، بناءٌ قد رُصَّ بعضه ببعض، وأُلصق وأُحكم حتى صار شيئاً واحداً قال القرطبي: ومعنى الآية أنه تعالى يحب منيثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء، وهذا تعليمٌ من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم.
. ولما ذكر تعالى أمر الجهاد، بيَّن أنَّ موسى وعيسى أمرا بالتوحيد، وجاهدوا في سبيل الله وأوذيا بسبب ذلك فقال ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ ؟ أي واذكر يا محمد لقومك قصة عبده وكليمه «موسى بن عمران» حين قال لقومه بين إِسرائيل: لمَ تفعلون ما يؤذيني؟ ﴿وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ﴾ أي والحال أنكم تعلمون علماً قطعياً بما شاهدتموه من المعجزات الباهرة أني رسولُ اللهِ إلِيكم، وتعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟ وفي هذا تسليةٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما أصابه من كفار مكة ﴿فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ أي فلما مالوا عن الحقِّ، أمال الله قلوبهم عن الهدى ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ أي واللهُ لا يوفق للخير والهدى من كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الله قال الرازي: وفي هذا تنبيهٌ على عظم إِيذاء الرسل، حتى إِنه يؤدي إِل الكفر وزيغ القلوب عن الهدى.. ثم ذكر تعالى قصة عيسى عليه السلام فقال {وَإِذْ
350
قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم} أي واذكر يا محمد لقومك هذه القصة أيضاً حين قال عيسى لبني إِسرائيل إِني رسول اللهِ أرسلت إِليكم بالوصف المذكور في التوراة قال القرطبي: ولم يقل «يا قوم» كما قال موسى، لأنه لا نسب له فيهم فيكونون قومه فإِنه لم يكن له فيهم أب ﴿مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة﴾ أي حال كوني مصدِّقاً ومعترفاً بأحكام التوراة، وكُتب الله وأنبيائه جميعاً، ولم آتكم بشيء يخالف التوراة حتى تنفروا عني ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ﴾ أي وجئت لأبشركم ببعثة رسولٍ يأتي بعدي يسمى «أحمد» قال الألوسي: وهذا الاسم الكريم علمٌ لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال حسان:
صلَّى الإِلهُ ومن يحفُّ بعرشه والطّيبون على المبارك «أحمد»
وفي الحديث «لي خمسة أسماءٍ: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناسُ على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب» ومعنى العاقب الذي لا نبيَّ بعده، وروي أن الصحابة قالوا يا رسول الله أخبرنا عن نفسك! فقال: دعوةُ أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أُمي حين حملت بي كأنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام ﴿فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات﴾ أي فلما جاءهم عيسى بالمعجزات الواضحات، ومن إِحياء الموتى، وإِبراء الأكمه والأبرص، ونحو ذلك من المعجزات الدالة على صدقه في دعوى الرسالة ﴿قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي قالوا عن عيسى: هذا ساحرٌ جاءنا بهذا السحر الواضح، والإِشارة بقولهم «سحر» إِلى المعجزات التي ظهرت على يديه عليه السلام، قال المفسرون: بشَّر كلُّ نبي قومه بنبيِّنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإِنما أفرد تعالى ذكر عيسى بالبشارة في هذا الموضع لأن آخر نبيٍ قبل نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فبيَّن تعالى أن البشارة به عمَّت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إِلى عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إِسرائيل ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام﴾ استفهامٌ بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن يدعوه ربه إِلى الإِسلام على لسان نبيه، فيجعل مكان إجابته إفترءا الكذب على الله بتسمية نبيه ساحراً، وتسمية آيات الله المنزلة سحراً ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي لا يوفق ولا يرشد إِلى الفلاح والهدى من كان فاجراً ظالماً ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ أي يريد المشركومن بأن يطفئوا دين الله وشرعه المنير بأفواههم قال الفخر الرازي: وإِطفاء نور الله تعالى تهكمٌ بهم في إرادتهم إِبطال الإِسلام بقولهم في القرآن إِنه ساحر، شبُهت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، وفيه تهكم وسخريةٌ بهم ﴿والله مُتِمُّ نُورِهِ﴾ أي واللهُ مظهرٌ لدينه، بنشره في الآفاق، وإِعلائه على الأديان، كما جاء في الحديث
«إنَّ
الله
روى
351
لي الأرض، فرأيت مشارقها مغاربها، وإِن مُلك أُمتي سيبلغ ما زُوي لي منها..» الحديث والمراد أنَّ هذا الدين سينتشر في مشارق الدنيا ومغاربها ﴿وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ أي ولو كره ذلك الكافرون المجرمون، فإِنَّ الله سيعز شأن هذا الدين رغم أنف الكافرين قال في حاشية البيضاوي: كان كفار مكة يكرهون هذا الدين الحق، من أجل توغلهم في الشرك والضلال، فكان المناسب إِذلالهم وإِرغامهم بإِظهار ما يكرهونه من الحق، وليس المراد من إِظهاره ألا يبقى في العالم من يكفر بهذا الدين، بل المرادُ أن يكون أهلهُ عالين غالبين على سائر أهل الأديان بالحجة والبرهان، والسيف واللسان، إِلى آخر الزمان ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق﴾ أي هو جلَّ وعلا بقدرته وحكمته بعث رسوله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن الواضح، والدين الساطع ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ أي ليعليه على سائر الأديان المخالفة له، من يهودية ونصرانية وغيرهما ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾ أي ولو كره ذلك أعداءُ الله، المشركون بالله غيره قال أبو السعود: ولقد أنجز الله وعده بإِعزاز دين الإِسلام، حيث جعله بحث لم يبق دينٌ من الأديان، إِلا وهو مغلوب مقهور بدين الإِسلام.
352
المنَاسَبَة: لما بيَّن تعالى أن المشركين يريدون إِطفاء نور الله، أمر المؤمنين بمجاهدة أعداء الدين، ودعاهم إِلى التضحية بالمال والنفس والجهاد في سبيل الله، وبيَّن لهم أنها التجارة الرابحة لمن أراد سعادة الدارين.
اللغَة: ﴿تُنجِيكُم﴾ تخلّصكم وتنقذكم ﴿الحواريون﴾ الأصفياء والخواص من أتباع عيسى، وهم الذين ناصروا المسيح عليه السلام ﴿أَيَّدْنَا﴾ قوَّينا وساندنا ﴿ظَاهِرِينَ﴾ غالبين بالحجة والبرهان.
سَبَبُ النّزول: روي أن بعض الصحابة قالوا يا نبيِّ الله: لوددنا أن نعلم أيَّ التجارات أحبَّ إِلى الله فنتجر فيها!! فنزلت ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ؟
352
التفسِير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ﴾ أي يا من صدقتم الله ورسوله وآمنتم بربكم حقَّ الإِيمان، هل أدلكم على تجارة رابحة جليلة الشأن؟ والاستفهام للتشويق ﴿تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي تخلِّصكم وتنقذكم من عذاب شديد مؤلمن.. ثم بيَّن تلك التجارة ووضحها فقال ﴿تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ﴾ إيماناً صادقاً، لا يشوبه شكٌ ولا نفاق ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ أي وتجاهدون أعداء الدين بالمال والنفس، لإِعلاء كلمة الله قال المفسرون: جعل الإِيمان والجهاد في سبيله «تجارة» تشبيهاً لهما بالتجارة، فإِنها عبارة عن مبادلة شيء بشيء، طمعاً في الربح، ومن آمن وجاهد بماله ونفسه فقد بذل ما عنده وما في وسعه، لنيل ما عند ربه من جزيل ثوابه، والنجاة من أليم عقابه، فشبَّه هذا الثواب والنجاة من العذاب بالتجارة لقوله تعالى ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ [التوبة: ١١١] قال الإِمام الفخر: ولاجهاد ثلاثةُ أنواع: ١ جهادٌ فيما بينه وبين نفسه، وهو قهرُ النفس ومنعُها عن اللذات والشهوات. ٢ وجهادٌ فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع منهم ويشفق عليهم ويرحمهم ٣ وجهادُ أعداء اله بالنفس والمال نصرةً لدين الله ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي ما أمرتكم به من الإِيمان والجهاد في سبيل الله، خيرٌ لكم من كل شيء في هذه الحياة، إن كان عندكم فهمٌ وعلم ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ هذا جواب الجملة الخبرية ﴿تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ﴾ لأن معناها معنى الأمر أي آمنوا بالله وجاهدوا في سبيله فإِذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم اي يسترها عليكم، ويمحها بفضله عنكم ﴿وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي ويدخلكم حدائق وبساتين، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ أي ويسكنكم في قصور رفعية في جنات الإِقامة ﴿ذَلِكَ الفوز العظيم﴾ أي ذلك الجزاء المذكور هو الفوز العظيم الذي لا فوز وراءه، والسعادة الدائمة الكبيرة التي لا سعادة بعدها ﴿وأخرى تُحِبُّونَهَا﴾ أي ويمنُّ عليكم بخصلةٍ أُخرى تحبونها وهي ﴿نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ أي أن ينصركم على أعدائكم، ويفتح لكم مكة وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ أي وبشِّر يا محمد المؤمنين، بهذا الفضل المبين قال في البحر: لما ذكر تعالى ما يمنحهم من الثواب في الآخرة، ذكر لهم ما يسرُّهم في العاجلة، وهي ما يفتح الله عليهم من البلاد، فهذه هي خير الدنيا موصولٌ بنعيم الآخرة ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله﴾ أي انصروا دين الله وأعلما منارة ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ﴾ أي كما نصر الحواريون دين الله حين قال لهم عيسى بن مريم ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ أي من ينصرني ويكون عوني لتبليغ دعنة الله، ونصرة دينه؟ ﴿قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله﴾ أي قال أتباع عيسى وهم المؤمنون الخُلُّص من خاصته المستجيبون لدعوته نحن أنصار دين الله قال البيضاوي: والحواريون أصفاؤه وهم أول من آمن به، مشتقٌ من الحور وهو البياض، وكانوا اثني عشر رجلاً وقال الرازي: والتشبيه في الآية محمول على المعنى أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله {فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني
353
إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} أي فانقسم بنو إِسرائيل إِلى جماعتين: جماعةٌ آمنت به وصدَّقته، وجماعةٌ كفرت وكذبت برسالة عيسى ﴿فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ﴾ أي فقوينا المؤنين على أعدائهم الكافرين ﴿فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ﴾ أي حتى صاروا غالبين عليهم بالحجة والبرهان قال ابن كثير: لما بلَّغ عيسى بن مريم رسالة ربه، اهتدت طائفة من بني إِسرائيل بما جاءهم به، وضلَّت طائفة فجحدوا نبوته، ورموه وأُمه بالعظائم، وهم اليهود عليهم لغة الله، وغلت فيه طائفةٌ من أتباعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فيه فرقاً وشيعاً، فمنهم من زعم أن ابنُ الله، ومنهم من قال إِنه ثالث ثلاثة «الأب والابن وروح القدس» ومنهم من قال: إِنه اللهُ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فنصر الله المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يأتي:
١ - أسلوب التوبيخ ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢] ؟ وهي «ما» الاستفهامية حذفت ألفها تخفيفاًن والغرض من الاستفهام التوبيخ.
٢ - الإِطناب بتكرار ذكر اللفظ لبيان غاية قبح ما فعلوه ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٣] وبين ﴿تَقُولُواْ.. وتفعلوا﴾ طباقٌ.
٣ - التشبيه المرسل المفصَّل ﴿كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف: ٤] أي في المتانة والتراص.
٤ - الاستعارة اللطيفة ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله﴾ [الصف: ٨] استعار نور الله لدينه وشرعه المنير، وشبَّه من أراد إِبطال الدين بمن أراد إِطفاء الشمس بفمه الحقير، على طريق الاستعارة التمثيلية، وهذا من لطيف الاستعارات.
٥ - الاستفهام للترغيب والتشويق ﴿هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ﴾ ؟.
٦ - الطباق ﴿فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ.. وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ﴾.
٧ - السجع المرصَّع كأنه حبات در منظومة في سلك واحد مثل ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ [الصف: ٥] ﴿قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [الصف: ٦] ﴿قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: إِنما قرنت قصة موسى وعيسى في هذه السورة لأنهما من أنبياء بني إِسرائيل، وهما من أعظم أنبيائهم ومن أولي العزم الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز بالثناء والتبجيل.
354
Icon