تفسير سورة التحريم

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن الفرس . المتوفي سنة 595 هـ
وهي مدنية. وفيها موضعان.

– قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك…. ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ :
اختلف في سبب ١ هذه الآية. فروي عن عكرمة وابن عباس أنها نزلت بسبب أم شريك التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم. وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها نزلت بسبب العسل الذي شربه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش فتمالأت عائشة وحفصة وسودة على أن تقول له من دنا منها : أكلت مغافير. والمغافير : صمغ العرفط، وهو حلو ثقيل الرائحة، ففعلن ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ولكني شربت عسلا ". فقلت له : جرست نخله العرفط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أشربه أبدا ". وكان يكره أن يوجد منه رائحة ثقيلة. وروي أنه حلف، وروي أيضا أنه حرم العسل، والآية تدل على ذلك. فدخل بعد ذلك على زينب فقالت : ألا نسقيك من ذلك العسل ؟ قال : " لا حاجة لي به ". قالت عائشة : فقالت سودة حين بلغها امتناعه : ولقد حرمناه. قلت لها : أسكتي ٢. وروي عن زيد بن أسلم وغيره في سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أهدى إليه المقوقس مارية القبطية اتخذها سرية. فلما كان في بعض الأيام – وهو يوم حفصة بنت عمر، وقيل بل كان يوم عائشة – جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت حفصة فوجدها قد مرت لزيارة أبيها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاريته، فقال معها، فجاءت حفصة فوجدتها، فأقامت خارج البيت حتى أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية وذهبت. فدخلت حفصة غيرى متغيرة فقالت يا رسول الله : أما كان في نسائك أهون عليك مني ؟ أفي بيتي وعلى فراشي ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم متراضيا : " أيرضيك أن أحرمها ؟ " قالت : نعم. فقال إني قد حرمتها ٣ قال بعضهم ولم يقل مع ذلك : والله لما أطأها وذلك مذكور عن أبي بكر وعمر وابن عباس. وقال ابن عباس : بل قال مع ذلك : " والله لا أطأها أبدا ". ثم قال لها لا تخبري بهذا أحدا. فمن قال إن ذلك كان في يوم عائشة قال : استكتمها خوفا من غضب عائشة وحسن عشرته لها. ومن قال بل كان في يوم حفصة قال : استكتمها لنفس الأمر. ثم إن حفصة رضي الله تعالى عنها قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة وأخبرتها لتسرها بالأمر ولم تر في إفشائه إليه حرجا. فأوحى الله تعالى إلى نبيه ونزلت الآية. وهذا القول أصح الأقوال في سبب الآية. وقيل إن هذا كان سبب تظاهر حفصة وعائشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن لا يدخل على نسائه شهرا حين طلبن منه النفقة ٤. وقد اختلف العلماء فيمن حرم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمته أو أم ولده أو شيئا أحله الله تعالى له ما عدا الزوجة. فقالت طائفة لا يحرم عليه ذلك وعليه كفارة يمين، قاله أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي. وقال مالك والشافعي : لا يحرم عليه وليس عليه كفارة وأن التحريم في ذلك ليس بشيء. والحجة لهذا القول حديث عائشة أن الآية نزلت في شرب العسل ولم يذكر في ذلك كفارة. وحجة من أوجب الكفارة حديث زيد بن أسلم في تحريم الجارية. قال بعض رواته : كفر النبي صلى الله عليه وسلم من أجل التحريم وأصاب جاريته. قال جماعة فمن ذهب إلى هذا ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لا أطأها ". قال إسماعيل بن إسحاق : الحكم في ذلك واحد لأن الأمة لا يكون فيها طلاق فتطلق بالتحريم فكان تحريمها كتحريم ما يؤكل ويشرب. ولعل القصتين قد كانتا جميعا في وقتين مختلفين غير أن أمر الجارية في هذه أشبه لقوله تعالى :﴿ تبتغي مرضات أزواجك ﴾ ولقوله تعالى :﴿ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا ﴾ فكان ذلك في الأمة أشبه لأن الرجل يغشي أمته في ستر ولا يشرب العسل في ستر ولأن تحريم الأمة فيه مرضاة لهن. وقد اختلف في تكفير النبي صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم : حرم فأمر بالكفارة. وقال بعضهم : حرم وحلف فلذلك أمر بالكفارة، وقد يمكن أن يكون حرمها وحلف ٥ وقد زعم بعض من رأى في تحريم الأمة كفارة يمين أن الزوجة مثل الأمة في ذلك وأن من حرم زوجته فعليه كفارة ٦ وزعم أيضا بعض من لا يرى في الأمة كفارة أنه لا كفارة أيضا في تحريم الزوجة ولا يلزم فيه شيء كما لا يلزم في الأمة ولا غيرها. قالوا إنما عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في التحريم للأمة. واختلف فيمن حرم زوجته اختلافا كثيرا حتى قالت طائفة إنه ليس بشيء. قالوا وإنما عاتب الله تعالى نبيه وذلك على تحلة اليمين المبينة في المائدة لقوله : " قد حرمتها والله لا أطأها أبدا ". وقال مسروق : ما أبالي أحرمتها يعني الزوجة أو قصعة من ثريد. كذلك قال الشعبي : ليس التحريم بشيء قال تعالى :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ﴾ [ النحل : ١١٦ ] وقال :﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ ٧ [ المائدة : ٨٧ ] ومحرم زوجته مسمى حراما ما جعله الله تعالى حلالا. ومحرم ما أحل الله تعالى له. وقد مر الكلام على هذه المسألة وتحصيل الخلاف فيها مستوعبا فلا معنى لإعادته. وظاهر الآية يقتضي أن صيام الدهر مكروه لأن فاعل ذلك محرم على نفسه ما أحل الله تعالى له من أكل النهار وغيره من المباحات المفسدة للصوم. وقد اختلف فيمن حلف بصيام الدهر، فقال مالك يصوم ما عاش. وقال ابن القاسم يصوم سنة. وقال أشهب يصوم ستة أشهر. وقال ابن حنبل يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. وقال الأوزاعي : لا شيء عليه لأن الله جل ثناؤه هو الدهر. وقال الشافعي وغيره من أهل العلم عليه كفارة يمين وكانوا يأخذون بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها : كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة يمين ما لم يكن فيه عتق أو طلاق ٨ وكان مالك رحمه الله تعالى رأى أن الصوم وإن كان مكروها لظاهر الآية فإنه من ألزم نفسه شيئا لزمه لقوله تعالى :﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ٩ [ المائدة : ١ ].
١ "سبب " كلمة ساقطة في (ب)، (ح)، (د)، (هـ)..
٢ وقد ذكر هذا السبب القرطبي في تفسيره نقلا عن صحيح مسلم فراجعه ١٨/ ١٧٨. وقال فيه ابن عاشور: هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآيات. راجع التحرير والتنوير ٢٨/ ٣٤٤..
٣ ذكره ابن عاشور في التحرير والتنوير نقلا عن ابن القاسم في المدونة ٢٨/ ٣٤٤. وذكره أيضا الواحدي في أسباب النزول ص ٣٢٥، والسيوطي في لباب النقول ص ٧٨٤، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٧٩..
٤ راجع أسباب نزول هذه الآية في التفسير الكبير ٣٠/ ٤١ وفي أسباب النزول للواحدي ص ٣٢٥، وفي أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٨٣٢، ١٨٣٣، وفي أحكام القرآن للجصاص ٥/ ٣٦٢، وفي الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٧٧- ١٧٩..
٥ قال ابن عباس: فك النبي صلى الله عليه وسلم يمينه وضمها إلى نفسه. راجع تنوير المقباس ص ٤٧٧..
٦ "زعم بعض... إلى: كفارة" كلام ساقط في (ح)..
٧ وأضاف القرطبي ربيعة وأبا سلمة وأصبغ. راجع الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٨٠..
٨ الحديث ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة نقلا عن شرح الرسالة للفاكهاني ص ٢٧٣..
٩ راجع هذه المسائل في أحكام القرآن لابن العربي ٤/١٨٣٣- ١٨٣٩..
– وقوله تعالى :﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ :
اختلف في تأويله. فقال قوم هذه إشارة إلى تكفير اليمين المقترنة بالتحريم : والله لا أطأها أبدا. وقال آخرون هي إشارة إلى حلفه عليه الصلاة والسلام أن لا يدخل على نسائه شهرا فأمره الله تعالى بكفارة الإيلاء وأحال بقوله تعالى في هذه الآية :﴿ تحلة أيمانكم ﴾ على الآية التي في كفارة اليمين لله تعالى ١.
١ راجع التفسير الكبير ٣٠/ ٤٣، والجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٨٥، ١٨٦..
– قوله تعالى :﴿ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا ﴾ :
اختلف في معناه. فقال الجمهور : هو إشارة إلى أمر مارية. وقال آخرون بل إلى قوله إنما شربت عسلا. وقال ميمون بن مهران ١ الحديث الذي أسره ٢ إلى حفصة أنه قال : " أبشري فإن أبا بكر وعمر يملكان أمر أمتي من بعد خلافتي " ٣.
وقوله تعالى :﴿ عرف بعضه ﴾ :
من قرأ بالتخفيف فمعناه جازى بالعتب واللوم كما تقول لمن يؤذيك : قد عرفت لك هذا ولا أعرفن لك هذا. أي لا أجازينك عليه، ونحوه في المعنى قوله تعالى :﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم ﴾ [ النساء : ٦٣ ] فعلم الله كفيل مجازاتهم. ومن قرأه بالتشديد فمعناه أعلم به وابن عليه.
قوله تعالى :﴿ وأعرض عن بعض ﴾ :
أعرض تكرما وحياء وحسن عشرة. وقال الحسن ما استقصى كريم قط. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حينئذ حفصة ثم إن الله تعالى أمره بمراجعتها. وروي أنه عاتبها ولم يطلقها ٤.
١ ميمون بن مهران: هو أبو أيوب ميمون بن وهران. فقيه. انظر تذكرة الحفاظ ١/ ٩٣..
٢ "الذي أسره" كلام ساقط في (ح)، (ز)..
٣ قال القرطبي: وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي. راجع الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٨٦..
٤ قال القرطبي: فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك. راجع الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٨٧..
– قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ﴾ :
في هذه الآية التأكيد في أمر الجهاد. والمعنى : دم على جهاد الكفار بالسيف والمنافقين بزجرهم وإقامة الحدود عليهم في كل ما اجترموه. وقال قوم : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أذن له في قتال المنافقين وقتلهم وذلك حين كثر المسلمون. وقد تقدم كثير من نحو هذه الآية وتكلمنا عليه.
Icon