هي السورة التاسعة
وآياتها ١٢٩ عند الكوفيين و١٣٠ عند الجمهور
هي مدنية بالاتفاق، قيل إلا قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ﴾ [ الأنفال : ١١٣ ] الآية لما روي في الحديث المتفق عليه من نزولها في النهي عن استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب كما سيأتي تفصيله في تفسيرها. ويجاب عنه بجواز أن يكون نزولها تأخر عن ذلك، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول الآية مرتين : مرة منفردة ومرة في أثناء السورة.
واستثنى ابن الفرس قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول ﴾ إلى آخر الآيتين في آخرها فزعم أنهما مكيتان، ويرده ما رواه الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن، وقول الكثيرين إنها نزلت تامة. وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات يجاب عنه بأن أكثر ما روي في أسباب النزول كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا، أعني أن الرواة كانوا يذكرونها كثيرا في مقام الاستدلال، وهذا لا يدل على نزولها وحدها، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة.
ولم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة في أولها ؛ لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور. هذا هو المعتمد المختار في تعليله، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة، والمشهور أنه لنزولها بالسيف ونبذ العهود، وقيل غير ذلك مما في جعله سببا وعلة نظر، وقد يقال : إنه حكمة لا علة، ومما قاله بعض العلماء في هذه الحكمة : إنها تدل على أن البسملة آية من كل سورة أي ؛ لأن الاستثناء بالفعل كالاستثناء بالقول معيار العموم.
وقد ورد لها أسماء كثيرة هي صفات لأهم ما اشتملت عليه : فمنها سورة الفاضحة لما فضحته من سرائر المنافقين وإنبائهم بما في قلوبهم من الكفر وسوء النيات، وهذا الاسم روي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ومنها المنفرة والمعبرة والمبعثرة والمثيرة والبحوث ( كصبور ) لتنفيرها وتعبيرها عما في القلوب وبحث ذلك وإثارته وبعثرته، وكذا المدمدمة والمخزية والمنكلة والمشردة، ومعاني هذه الألقاب ظاهرة في معنى فضيحتها للمنافق، وما يترتب عليها من الدمدمة عليهم والخزي والنكال والتشريد بهم، ومنها المقشقشة، قال الزمخشري : وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه. وأشهرها الثابت التوبة وبراءة، وسائر الأسماء ألقاب لبيان معانيها. وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وفي حال الاستعداد لها في زمن العسرة والخروج إليها في القيظ، وفي أثنائها ظهر من آيات نفاق المنافقين ما كان خفيا من قبل.
وقد صرحوا بأن أولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبي صلوات الله وسلامه عليه عليا عليه السلام ليقرأها على المشركين في الموسم كما يذكر مفصلا في محله.
وفي صحيح البخاري وغيره عن البراء قال : آخر آية نزلت ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ وآخر سورة نزلت براءة١. وهو رأي له، لا رواية مرفوعة، ويحمل قوله في الآية على أنها آخر ما نزل في الكلالة، فهي بعد آيات المواريث وفي السورة على بعضها أو معظمها. وأرجح ما ورد في آخر آية نزلت أنه قوله تعالى :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ]، أو ما قبلها من آيات الربا من دونها، والأرجح أن يقال معها. وتقدم تفصيل المسألة في آخر سورة البقرة ( ج ٣ )، وأما آخر سورة نزلت تامة فالأرجح أنه سورة النصر، وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعدها أياما قليلة.
وأما التناسب بينها وبين ما قبلها فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع بعض، فهي كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيهما من أصول الدين وفروعه والسنن الإلهية والتشريع وجله في أحكام القتال وما يتعلق به من الاستعداد له وأسباب النصر فيه وغير ذلك من الأمور الروحية والمالية وأحكام المعاهدات والمواثيق- من حفظها ونبذها عند وجود المقتضي له - وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض والكافرين بعضهم مع بعض، وكذا أحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى والقلوب، فما بدئ به في الأول أتم في الثانية. ولولا أن أمر القرآن في سوره ومقاديرها موقوف على النص لكان هذا الذي ذكرناه مؤيدا من جهة المعاني لمن قال : إنهما سورة واحدة، كما يؤيده من ناحية ترتيب السور بحسب طولها وقصرها، وتوالي السبع الطول منها، ويليها المئون، والأنفال دونها.
مثال ذلك :
١ إن العهود ذكرت في سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها، ولا سيما نبذها الذي قيد في الأول بخوف خيانة الأعداء.
٢ تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب في كل منهما.
٣ ذكر في الأولى صد المشركين عن المسجد الحرام، وأنهم ليسوا بأوليائه ﴿ إن أولياؤه إلا المتقون ﴾ [ الأنفال : ٣٤ ] أي من المؤمنين، وجاء في الثانية ﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ [ الأنفال : ١٧ ] الخ الآيات.
٤ ذكر في أول الأولى صفات المؤمنين الكاملين، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين، ثم ذكر في آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين كما تقدم، وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضا.
٥ ذكر في الأولى الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وجاء مثل هذا الترغيب بأبلغ من ذلك وأوسع في الثانية، وذكرت في الأولى مصارف الغنائم من هذه الأموال، وفي الثانية مصارف الصدقات.
٦ ورد ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض في الأولى في آية واحدة، وفصل في الثانية أوسع تفصيل حتى كانت أجدر بأن تسمى سورة المنافقين من سورة ﴿ إذا جاءك المنافقون ﴾ لو كانت تسمية السور بالرأي.
﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين( ١ ) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ( ٢ ) وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ( ٣ ) إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ( ٤ ) ﴾
من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه أن الله تعالى بعث محمدا رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة ذكرنا كلياتها في تفسير( ٢ : ٢٣ ج ١ )، وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة، ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة كما بيناه في تفسير ( ٢ : ٢٥٦ج ٣ )، فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه صلى الله عليه وسلم عن تبليغه للناس بالقوة، ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب، إلا بتأمين حلف أو قريب. فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول صلى الله عليه وسلم حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علنا في دار الندوة، ورجحوا في آخر الأمر قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة، كما تقدم في تفسير ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] ج ٩، فهاجر صلى الله عليه وسلم، وصار يتبعه من قدر على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجرهم بالمدينة المنورة أنصارا لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم، وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع، ومقتضى العرف العام في ذلك العصر، وعاهد صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون فخانوا وغدروا، ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه، كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة الأنفال من هذا الجزء.
وقد عاهد صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها منتهى التساهل عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة، ودخلت خزاعة في عهده صلى الله عليه وسلم كما دخلت بنو بكر في عهد قريش، ثم عدا هؤلاء على أولئك وإعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم، فكان ذلك سبب عودة حال الحرب العامة معهم، وفتحه صلى الله عليه وسلم لمكة، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله، ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا، وثبت بالتجربة لهم - في حالي قوتهم وضعفهم- أنهم لا عهود لهم، ولا يؤمن نقضهم وانتقاضهم، كما يأتي في قوله تعالى :﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾ إلى قوله في آخر آية ١٢ ﴿ فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ﴾ أي لا عهود لهم يرعونها ويفون بها. والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يدان به، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه، كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب.
هذا هو الأصل الشرعي الذي بني عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام منهم عليها، وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة، وجعلها خالصة للمسلمين، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ [ البقرة : ١٩ ] وقوله :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ [ الأنفال : ٦١ ] بقدر الإمكان، وإن قال الجمهور بنسخ هذا بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك، وسيأتي تفصيله في تفسيرها.
قوله تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾ البراءة مصدر برىء ( كتعب ) من الدَّين إذا أسقط عنه، ومن الذنب ونحوه إذا تركه وتنزه عنه، أي هذه براءة وأصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، كما تقول هذا كتاب من فلان إلى فلان. قال الراغب : أصل البرء والبراء والتبري التفصي مما يكره مجاورته أي أو ملابسته. أسند التبري إلى الله ورسوله لأنه تشريع جديد شرعه الله تعالى، وأمر رسوله بتبليغه وتنفيذه، وأسند معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين، وإن كان الرسول هو الذي عقده، فإنه إنما عقده بصفة كونه الإمام والقائد العام لهم، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعمهم بموجبه، كما يسند تعالى إلى الجماعة أكثر الأحكام العامة حتى ما كان الخطاب في أول آياته له صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ﴾ [ الطلاق : ١ ] الخ، فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، ولقوادهم من أهل الحل والعقد وأمراء السرايا الاجتهاد فيما لا نص فيه منها، ومن أحكام الحرب والصلح وغيرها، ولا ينسب ذلك في تفصيله إلى الله ورسوله، إذ لا يمكن إحاطة النصوص بفروعه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم القواد إذا نزلوا حصنا فطلب أهله منهم النزول على حكم الله ورسوله أن لا ينزلوهم على حكمهما وذمتهما، وأمر بأن ينزلوهم على حكمهم وذمتهم، كما رواه مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه.
والمعاهدة عقد العهد بين الفريقين على شروط يلتزمونها، وكان اللذان يتوليانها منهما يضع أحدهم يمينه في يمين الآخر، وكانوا يؤكدونها ويوثقونها بالأيمان، ولذلك سميت أيمانا كما قال تعالى في المشركين ﴿ إنهم لا أيمان لهم ﴾ [ التوبة : ١٢ ].
قال ناصر السنة البغوي في تفسير الآية : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم، وذلك قوله عز وجل :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ﴾ [ الأنفال : ٥٨ ]، يعني أنه صلى الله عليه وسلم إنما عمل في نبذ عهودهم بآية الأنفال التي تقدمت، وليس تشريعا جديدا لنبذ عهود المشركين مطلقا.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيرها : اختلف المفسرون ههنا اختلافا كثيرا، فقال قائلون : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، أو من له عهد دون أربعة أشهر، فيكمل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان، لقوله تعالى :﴿ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ [ التوبة : ٤ ]، ولما سيأتي في الحديث ( ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته )١، وهذا أحسن الأقوال وأقواها، وقد اختاره ابن جرير رحمه الله، وروي عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي وغير واحد. اه.
أما الشيخان فقد أخرجا في هذا الباب حديث أبي هريرة الذي رواه عنه حميد بن عبد الرحمن بن عوف في كتاب الحج، وكرره البخاري في كتب الطهارة والحج والجزية والمغازي والتفسير، فنذكر لفظه في تفسير ﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ الآية : عن حميد أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد : ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة. قال أبو هريرة : فأذن معنا علي يوم النحر في أهل منى ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان١ اهـ.
قال الحافظ في الفتح عند قوله :" قال أبو هريرة فأذن معنا علي " ما نصه :
هو موصول بالإسناد المذكور، وكان حميد بن عبد الرحمن حمل قصة توجه علي من المدينة إلى أن لحق بأبي بكر عن غير أبي هريرة، وحمل بقية القصة عن أبي هريرة. وقوله : فأذن معنا علي في منى يوم النحر الخ قال الكرماني : فيه إشكال ؛ لأن عليا كان مأمورا بأن يؤذن ببراءة، فكيف يؤذن بأن لا يحج بعد العام مشرك ؟ ثم أجاب بأنه أذن ببراءة، ومن جملة ما اشتملت عليه أن لا يحج بعد العام مشرك من قوله تعالى :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾[ التوبة : ٢٨ ]
ويحتمل أن يكون أمر أن يؤذن ببراءة وبما أمر أبو بكر أن يؤذن به أيضا، قلت : وفي قوله : يؤذن ببراءة تجوز ؛ لأنه أمر أن يؤذن ببضع وثلاثين آية منتهاها عند قوله :﴿ ولو كره المشركون ﴾ [ التوبة : ٣٣ ]، فروى الطبري من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب وغيره قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع، وبعث عليا بثلاثين أو أربعين آية من براءة. وروى الطبري من طريق أبي الصهباء قال : سألت عليا عن يوم الحج الأكبر، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر يقيم للناس الحج، وبعثني بعده بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب ثم التفت إلي فقال : يا علي قم فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت فقرأت أربعين آية من براءة، ثم صدرنا حتى رميت الجمرة، فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم ؛ لأن الجميع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة.
ثم قال الحافظ : وأما ما وقع في حديث جابر فيما أخرجه الطبري وإسحاق في مسنده والنسائي والدارمي كلاهما عنه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج : حدثني عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه، حتى إذا كنا بالعرج ثوَّب بالصبح، فسمعنا رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا علي عليها، فقال له : أمير أو رسول ؟ فقال : بل أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس، فقدمنا مكة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس بمناسكهم، حتى إذا فرغ منها قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر كذلك، ثم يوم النفر كذلك، فيجمع بأن عليا قرأها كلها في المواطن الثلاثة، وأما في سائر الأوقات فكان يؤذن بالأمور المذكورة : أن لا يحج بعد العام مشرك الخ، وكان يستعين بأبي هريرة وغيره في الأذان بذلك.
« وقد وقع في حديث مقسم عن ابن عباس عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر. الحديث، وفيه فقام علي أيام التشريق فنادى : ذمة الله وذمة رسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل مؤمن. فكان علي ينادي بها، فإذا بح قام أبو هريرة فنادى بها ٢».
وأخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال « لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي »، فبعث بها مع علي. قال الترمذي : حسن غريب. ووقع في حديث يعلى عند أحمد عن علي : لما نزلت عشر آيات من براءة بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال :( أدرك أبا بكر، فحيثما لقيته فخذ منه الكتاب. فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شيء فقال « لا» إلا أنه لن يؤدي عني ـ أو لكن جبريل قال : لا يؤدي عنك- إلا أنت أو رجل منك )، قال العماد ابن كثير : ليس المراد أن أبا بكر رجع من فوره ؛ بل المراد رجع من حجته. ( قلت ) : ولا مانع من حمله على ظاهره لقرب المسافة. وأما قوله : عشر آيات، فالمراد أولها ﴿ إنما المشركون نجس ﴾ اهـ.
هذا ما لخصه الحافظ من الروايات، وأقول إن ابن كثير قال في حديث علي في نزول عشر آيات المذكور أخيرا، وقد ذكر إسناده عن عبد الله بن أحمد : هذا إسناد فيه ضعف.
وأزيد عليه انتقاد متنه ؛ إذ لا يصح أن يكون نزل منها عشر آيات وأنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ثم عليا بها، فهذا مخالف لسائر الروايات المتضافرة المتفقة التي أطلق في بعضها أول سورة براءة ـ وفي بعضها عدد ثلاثين أو أربعين آية منها ـ أي بالتقريب، وفي بعضها سورة براءة، وهي لا تنافي بينها، فقد نزلت سورة براءة كلها أو أكثرها عقب غزوة تبوك، وقد كانت في رجب سنة تسع من الهجرة. وقد قال ابن إسحاق : إن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعد أن رجع من تبوك رمضان وشوال وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، وذكر أن أبا بكر خرج في ذي القعدة. فإن أمكن حمل ما رواه ابن سعد عن مجاهد من أن حج أبي بكر كان في ذي القعدة على هذا كان صحيحا وإلا فلا.
وأما ضعف إسناده الذي ذكره ابن كثير فمن حنش بن المعتمر الكناني الكوفي. قال ابن حبان : كان كثير الوهم في الأخبار، ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات، حتى صار ممن لا يحتج بحديثه، وقال البزار : حدث عنه سماك بحديث منكر، وقال ابن حزم في المحلى : ساقط مطرح، ولأئمة الجرح في تضعيفه أقوال أخرى. ولعل الحديث المنكر الذي رواه عنه سماك هو هذا، على أن سماك بن حرب هذا لم يسلم من جرح، وإن روى عنه مسلم، ومما قيل عنه : إنه خرف في آخر عمره. والعجب من الحافظ ابن حجر كيف سكت عن ضعف إسناد هذا الحديث مع تذكر عبارة ابن كثير فيه.
وأما اختلافهم في تعيين يوم الحج الأكبر ففيه ما رواه البخاري في تفسير ﴿ إلا الذين عاهدتم من المشركين ﴾ من رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره عن أبي هريرة أنه أخبر أن أبا بكر رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع يؤذن في الناس أن لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، فكان حميد يقول : يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة. وتقدم الحديث في كتاب الجزية عن شعيب عن الزهري بلفظ : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج في حجة الوداع التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم مشرك اهـ.
قال الحافظ في الكلام على رواية صالح من الفتح بعد أن ذكر رواية شعيب ما نصه : وقوله : ويوم الحج الأكبر يوم النحرـ وهو قول حميد بن عبد الرحمن- استنبطه من قوله تعالى :﴿ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ﴾ ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي بكر يوم النحر. وسياق رواية شعيب يوهم أن ذلك مما نادى به أبو بكر وليس كذلك، فقد تضافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان ينادي به هو ومن معه من قبل أبي بكر شيئان : منع حج المشركين، ومنع طواف العريان. وأن عليا أيضا كان ينادي بهما، وكان يزيد : من كان له عهد فعهده إلى مدته، وأن لا يدخل الجنة إلا مسلم. وكان هذه الأخيرة كالتوطئة لأن لا يحج البيت مشرك. وأما التي قبلها فهي التي اختص علي بتبليغها، ولهذا قال العلماء : إن الحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :( لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي ).
وروى أحمد والنسائي من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة، فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك. فكنت أنادي حتى صحل صوتي.
ثم قال الحافظ : وقوله : وإنما قيل الأكبر الخ في حديث ابن عمر عند أبي داود وأصله في هذا الصحيح رفعه : أي يوم هذا ؟ قالوا : هذا يوم النحر، قال « هذا يوم الحج الأكبر».
واختلف في المراد بالحج الأصغر، فالجمهور على أنه العمرة، وصل ذلك عبد الرازق من طريق عبد الله بن شداد -أحد كبار التابعين-، ووصله الطبري عن جماعة منهم عطاء والشعبي، وعن مجاهد : الحج الأكبر القران، والأصغر الإفراد. وقيل : يوم الحج الأصغر يوم عرفة، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ؛ لأن فيه تتكمل بقية المناسك، وعن الثوري : أيام الحج تسمى يوم الحج الأكبر، كما يقال يوم الفتح، وأيده السهيلي بأن عليا أمر بذلك في الأيام كلها، وقيل : لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون بعرفة، وكانت قريش تقف بالمزدلفة، فإذا كان صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة، فقيل له الأكبر لاجتماع الكل فيه.
وعن الحسن سمي بذلك لاتفاق حج جميع الملل فيه، وروى الطبري من طريق أبي جحيفة وغيره أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، ومن طريق سعيد بن جبير أنه يوم النحر، واحتج بأن يوم التاسع وهو يوم عرفة إذا انسلخ قبل الوقوف لم يفت الحج بخلاف العاشر، فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات، وفي رواية الترمذي من حديث علي مرفوعا وموقوفا :( يوم الحج الأكبر يوم النحر )٣ ورجح الموقوف. وقوله : فنبذ أبو بكر الخ هو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن، والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك، وقيل إنما لم يقتصر النبي صلى الله عليه و
من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه أن الله تعالى بعث محمدا رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة ذكرنا كلياتها في تفسير( ٢ : ٢٣ ج ١ )، وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة، ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة كما بيناه في تفسير ( ٢ : ٢٥٦ج ٣ )، فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه صلى الله عليه وسلم عن تبليغه للناس بالقوة، ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب، إلا بتأمين حلف أو قريب. فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول صلى الله عليه وسلم حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علنا في دار الندوة، ورجحوا في آخر الأمر قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة، كما تقدم في تفسير ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] ج ٩، فهاجر صلى الله عليه وسلم، وصار يتبعه من قدر على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجرهم بالمدينة المنورة أنصارا لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم، وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع، ومقتضى العرف العام في ذلك العصر، وعاهد صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون فخانوا وغدروا، ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه، كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة الأنفال من هذا الجزء.
وقد عاهد صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها منتهى التساهل عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة، ودخلت خزاعة في عهده صلى الله عليه وسلم كما دخلت بنو بكر في عهد قريش، ثم عدا هؤلاء على أولئك وإعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم، فكان ذلك سبب عودة حال الحرب العامة معهم، وفتحه صلى الله عليه وسلم لمكة، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله، ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا، وثبت بالتجربة لهم - في حالي قوتهم وضعفهم- أنهم لا عهود لهم، ولا يؤمن نقضهم وانتقاضهم، كما يأتي في قوله تعالى :﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾ إلى قوله في آخر آية ١٢ ﴿ فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ﴾ أي لا عهود لهم يرعونها ويفون بها. والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يدان به، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه، كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب.
هذا هو الأصل الشرعي الذي بني عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام منهم عليها، وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة، وجعلها خالصة للمسلمين، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ [ البقرة : ١٩ ] وقوله :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ [ الأنفال : ٦١ ] بقدر الإمكان، وإن قال الجمهور بنسخ هذا بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك، وسيأتي تفصيله في تفسيرها.
﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ خطاب للمؤمنين مرتب على البراءة مبين لما يجب أن يقولوه للمشركين الذين برىء الله ورسوله من عهودهم، ويجوز أن يكون خطابا للمشركين أنفسهم بطريق الالتفات. والسياحة في الأرض الانتقال والتجوال الواسع فيها، ورجل سائح وسياح، وهو مجاز من ساح الماء سيحا، وسيح الناس نهرا. والمراد من الأمر بالسياحة حرية السير والانتقال مع الأمان مدة أربعة أشهر، لا يعرض المسلمون لهم فيها بقتال، فلهم فيها سعة من الوقت للنظر في أمرهم والتفكر في عاقبتهم، والتخير بين الإسلام وبين الاستعداد للمقاومة والصدام، إذا هم أصروا على شركهم وعدوانهم. وهذا من غرائب رحمة هذا الدين، وإعذاره إلى أعدى أعدائه المحاربين، ولولاه لأمكن أن يقال إنه أخذهم على غرة، ودانهم بما كانوا يدينونه عند القدر، فإن كان هذا من العدل فأين ما امتاز به من الفضل ؟
وهذه الأربعة الأشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة من سنة تسع - وهو عيد النحر الذي بلغوا فيه هذه الدعوة كما يأتي- وتنتهي في عاشر ربيع الآخر من سنة عشر. وقال الزهري : إنها الأشهر الحرم ؛ لأن البراءة نزلت في أول شوال سنة تسع وتنتهي بانتهاء المحرم أول السنة العاشرة، وهو غلط يقتضي أن تكون مدة الأربعة الأشهر بعد التبليغ شهرين لما سيأتي من كون تبليغهم البراءة كان يوم النحر في منى، ولا يعقل أن يحاسبوا بالمدة قبل العلم بها.
﴿ واعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾ أي وكونوا على علم قطعي بأنكم لا تعجزون الله تعالى بسياحتكم في الأرض، ولا تجدون لكم مهربا من رسوله وعباده المؤمنين إذا أصررتم على شرككم وعدوانكم لله ولرسوله، بل هو يسلطهم عليكم، ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم، كما نصرهم في كل قتال لكم معهم بدءا أو انتهاء، والعاقبة للمتقين.
﴿ وأن الله مخزي الكافرين ﴾ أي واعلموا كذلك أن الله تعالى هو المخزي لجميع الكافرين منكم ومن غيركم في معاداتهم وقتالهم لرسله وعباده المؤمنين، يخزيهم في الدنيا بذل الخيبة والفضيحة، ثم يخزيهم في الآخرة أيضا، فتلك سنته تعالى فيهم كما قال في مشركي مكة ومن اقتدى بهم :﴿ كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ﴾ [ الزمر : ٢٥، ٢٦ ] وقال في عاد قوم هود ﴿ فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ﴾ [ فصلت : ١٥ ] والظاهر أن المراد بالخزي هنا ما يكون لهم في الدنيا للتصريح بعذاب الآخرة في آخر قوله :﴿ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ( ٣ ) ﴾.
أما الشيخان فقد أخرجا في هذا الباب حديث أبي هريرة الذي رواه عنه حميد بن عبد الرحمن بن عوف في كتاب الحج، وكرره البخاري في كتب الطهارة والحج والجزية والمغازي والتفسير، فنذكر لفظه في تفسير ﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ الآية : عن حميد أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد : ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة. قال أبو هريرة : فأذن معنا علي يوم النحر في أهل منى ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان١ اهـ.
قال الحافظ في الفتح عند قوله :" قال أبو هريرة فأذن معنا علي " ما نصه :
هو موصول بالإسناد المذكور، وكان حميد بن عبد الرحمن حمل قصة توجه علي من المدينة إلى أن لحق بأبي بكر عن غير أبي هريرة، وحمل بقية القصة عن أبي هريرة. وقوله : فأذن معنا علي في منى يوم النحر الخ قال الكرماني : فيه إشكال ؛ لأن عليا كان مأمورا بأن يؤذن ببراءة، فكيف يؤذن بأن لا يحج بعد العام مشرك ؟ ثم أجاب بأنه أذن ببراءة، ومن جملة ما اشتملت عليه أن لا يحج بعد العام مشرك من قوله تعالى :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾[ التوبة : ٢٨ ]
ويحتمل أن يكون أمر أن يؤذن ببراءة وبما أمر أبو بكر أن يؤذن به أيضا، قلت : وفي قوله : يؤذن ببراءة تجوز ؛ لأنه أمر أن يؤذن ببضع وثلاثين آية منتهاها عند قوله :﴿ ولو كره المشركون ﴾ [ التوبة : ٣٣ ]، فروى الطبري من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب وغيره قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع، وبعث عليا بثلاثين أو أربعين آية من براءة. وروى الطبري من طريق أبي الصهباء قال : سألت عليا عن يوم الحج الأكبر، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر يقيم للناس الحج، وبعثني بعده بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب ثم التفت إلي فقال : يا علي قم فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت فقرأت أربعين آية من براءة، ثم صدرنا حتى رميت الجمرة، فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم ؛ لأن الجميع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة.
ثم قال الحافظ : وأما ما وقع في حديث جابر فيما أخرجه الطبري وإسحاق في مسنده والنسائي والدارمي كلاهما عنه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج : حدثني عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه، حتى إذا كنا بالعرج ثوَّب بالصبح، فسمعنا رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا علي عليها، فقال له : أمير أو رسول ؟ فقال : بل أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس، فقدمنا مكة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس بمناسكهم، حتى إذا فرغ منها قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر كذلك، ثم يوم النفر كذلك، فيجمع بأن عليا قرأها كلها في المواطن الثلاثة، وأما في سائر الأوقات فكان يؤذن بالأمور المذكورة : أن لا يحج بعد العام مشرك الخ، وكان يستعين بأبي هريرة وغيره في الأذان بذلك.
« وقد وقع في حديث مقسم عن ابن عباس عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر. الحديث، وفيه فقام علي أيام التشريق فنادى : ذمة الله وذمة رسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل مؤمن. فكان علي ينادي بها، فإذا بح قام أبو هريرة فنادى بها ٢».
وأخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال « لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي »، فبعث بها مع علي. قال الترمذي : حسن غريب. ووقع في حديث يعلى عند أحمد عن علي : لما نزلت عشر آيات من براءة بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال :( أدرك أبا بكر، فحيثما لقيته فخذ منه الكتاب. فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شيء فقال « لا» إلا أنه لن يؤدي عني ـ أو لكن جبريل قال : لا يؤدي عنك- إلا أنت أو رجل منك )، قال العماد ابن كثير : ليس المراد أن أبا بكر رجع من فوره ؛ بل المراد رجع من حجته. ( قلت ) : ولا مانع من حمله على ظاهره لقرب المسافة. وأما قوله : عشر آيات، فالمراد أولها ﴿ إنما المشركون نجس ﴾ اهـ.
هذا ما لخصه الحافظ من الروايات، وأقول إن ابن كثير قال في حديث علي في نزول عشر آيات المذكور أخيرا، وقد ذكر إسناده عن عبد الله بن أحمد : هذا إسناد فيه ضعف.
وأزيد عليه انتقاد متنه ؛ إذ لا يصح أن يكون نزل منها عشر آيات وأنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ثم عليا بها، فهذا مخالف لسائر الروايات المتضافرة المتفقة التي أطلق في بعضها أول سورة براءة ـ وفي بعضها عدد ثلاثين أو أربعين آية منها ـ أي بالتقريب، وفي بعضها سورة براءة، وهي لا تنافي بينها، فقد نزلت سورة براءة كلها أو أكثرها عقب غزوة تبوك، وقد كانت في رجب سنة تسع من الهجرة. وقد قال ابن إسحاق : إن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعد أن رجع من تبوك رمضان وشوال وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، وذكر أن أبا بكر خرج في ذي القعدة. فإن أمكن حمل ما رواه ابن سعد عن مجاهد من أن حج أبي بكر كان في ذي القعدة على هذا كان صحيحا وإلا فلا.
وأما ضعف إسناده الذي ذكره ابن كثير فمن حنش بن المعتمر الكناني الكوفي. قال ابن حبان : كان كثير الوهم في الأخبار، ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات، حتى صار ممن لا يحتج بحديثه، وقال البزار : حدث عنه سماك بحديث منكر، وقال ابن حزم في المحلى : ساقط مطرح، ولأئمة الجرح في تضعيفه أقوال أخرى. ولعل الحديث المنكر الذي رواه عنه سماك هو هذا، على أن سماك بن حرب هذا لم يسلم من جرح، وإن روى عنه مسلم، ومما قيل عنه : إنه خرف في آخر عمره. والعجب من الحافظ ابن حجر كيف سكت عن ضعف إسناد هذا الحديث مع تذكر عبارة ابن كثير فيه.
وأما اختلافهم في تعيين يوم الحج الأكبر ففيه ما رواه البخاري في تفسير ﴿ إلا الذين عاهدتم من المشركين ﴾ من رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره عن أبي هريرة أنه أخبر أن أبا بكر رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع يؤذن في الناس أن لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، فكان حميد يقول : يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة. وتقدم الحديث في كتاب الجزية عن شعيب عن الزهري بلفظ : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج في حجة الوداع التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم مشرك اهـ.
قال الحافظ في الكلام على رواية صالح من الفتح بعد أن ذكر رواية شعيب ما نصه : وقوله : ويوم الحج الأكبر يوم النحرـ وهو قول حميد بن عبد الرحمن- استنبطه من قوله تعالى :﴿ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ﴾ ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي بكر يوم النحر. وسياق رواية شعيب يوهم أن ذلك مما نادى به أبو بكر وليس كذلك، فقد تضافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان ينادي به هو ومن معه من قبل أبي بكر شيئان : منع حج المشركين، ومنع طواف العريان. وأن عليا أيضا كان ينادي بهما، وكان يزيد : من كان له عهد فعهده إلى مدته، وأن لا يدخل الجنة إلا مسلم. وكان هذه الأخيرة كالتوطئة لأن لا يحج البيت مشرك. وأما التي قبلها فهي التي اختص علي بتبليغها، ولهذا قال العلماء : إن الحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :( لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي ).
وروى أحمد والنسائي من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة، فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك. فكنت أنادي حتى صحل صوتي.
ثم قال الحافظ : وقوله : وإنما قيل الأكبر الخ في حديث ابن عمر عند أبي داود وأصله في هذا الصحيح رفعه : أي يوم هذا ؟ قالوا : هذا يوم النحر، قال « هذا يوم الحج الأكبر».
واختلف في المراد بالحج الأصغر، فالجمهور على أنه العمرة، وصل ذلك عبد الرازق من طريق عبد الله بن شداد -أحد كبار التابعين-، ووصله الطبري عن جماعة منهم عطاء والشعبي، وعن مجاهد : الحج الأكبر القران، والأصغر الإفراد. وقيل : يوم الحج الأصغر يوم عرفة، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ؛ لأن فيه تتكمل بقية المناسك، وعن الثوري : أيام الحج تسمى يوم الحج الأكبر، كما يقال يوم الفتح، وأيده السهيلي بأن عليا أمر بذلك في الأيام كلها، وقيل : لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون بعرفة، وكانت قريش تقف بالمزدلفة، فإذا كان صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة، فقيل له الأكبر لاجتماع الكل فيه.
وعن الحسن سمي بذلك لاتفاق حج جميع الملل فيه، وروى الطبري من طريق أبي جحيفة وغيره أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، ومن طريق سعيد بن جبير أنه يوم النحر، واحتج بأن يوم التاسع وهو يوم عرفة إذا انسلخ قبل الوقوف لم يفت الحج بخلاف العاشر، فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات، وفي رواية الترمذي من حديث علي مرفوعا وموقوفا :( يوم الحج الأكبر يوم النحر )٣ ورجح الموقوف. وقوله : فنبذ أبو بكر الخ هو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن، والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك، وقيل إنما لم يقتصر النبي صلى الله عليه و
من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه أن الله تعالى بعث محمدا رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة ذكرنا كلياتها في تفسير( ٢ : ٢٣ ج ١ )، وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة، ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة كما بيناه في تفسير ( ٢ : ٢٥٦ج ٣ )، فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه صلى الله عليه وسلم عن تبليغه للناس بالقوة، ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب، إلا بتأمين حلف أو قريب. فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول صلى الله عليه وسلم حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علنا في دار الندوة، ورجحوا في آخر الأمر قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة، كما تقدم في تفسير ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] ج ٩، فهاجر صلى الله عليه وسلم، وصار يتبعه من قدر على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجرهم بالمدينة المنورة أنصارا لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم، وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع، ومقتضى العرف العام في ذلك العصر، وعاهد صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون فخانوا وغدروا، ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه، كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة الأنفال من هذا الجزء.
وقد عاهد صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها منتهى التساهل عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة، ودخلت خزاعة في عهده صلى الله عليه وسلم كما دخلت بنو بكر في عهد قريش، ثم عدا هؤلاء على أولئك وإعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم، فكان ذلك سبب عودة حال الحرب العامة معهم، وفتحه صلى الله عليه وسلم لمكة، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله، ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا، وثبت بالتجربة لهم - في حالي قوتهم وضعفهم- أنهم لا عهود لهم، ولا يؤمن نقضهم وانتقاضهم، كما يأتي في قوله تعالى :﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾ إلى قوله في آخر آية ١٢ ﴿ فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ﴾ أي لا عهود لهم يرعونها ويفون بها. والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يدان به، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه، كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب.
هذا هو الأصل الشرعي الذي بني عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام منهم عليها، وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة، وجعلها خالصة للمسلمين، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ [ البقرة : ١٩ ] وقوله :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ [ الأنفال : ٦١ ] بقدر الإمكان، وإن قال الجمهور بنسخ هذا بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك، وسيأتي تفصيله في تفسيرها.
﴿ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ﴾ هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، مصرحة بالتبليغ الصريح الجهري العام للبراءة من المشركين، أي من عهودهم وسائر خرافات شركهم وضلالاته، ومبينة لوقته الذي لا يسهل تعميمه إلا فيه، وهو يوم الحج الأكبر، وفي تعيينه خلاف سيذكر مع ترجيح أنه عيد النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج وأركانه، ويجتمع الحاج فيه لإتمام واجبات المناسك وسننها في منى. والأذان النداء الذي يطرق الآذان، بالإعلام بما ينبغي أن يعلمه الخاص والعام، وهو اسم من التأذين، قال تعالى :﴿ فأذن مؤذن بينهم أيتها العير إنكم لسارقون ﴾ [ يوسف : ٧٠ ]، ومنه الأذان للصلاة. وأذن بها أعلم، وآذنه بالشيء إيذانا أعلمه به. وأذن بالشيء ( كعلم ) علمه، وأذن له ( كتعب ) استمع. وأعاد التصريح في هذا الأذان بكونه من الله باسم الذات، ومن رسوله بصفة التبليغ الذي تقتضيه الرسالة، كما صرح بهما في البراءة، وصرح في الموضعين بذكر المشركين بعنوان الشرك ووصفه، وذلك لتأكيد هذا الحكم، وتأكيد تبليغه من جميع وجوهه.
ثم أكد ما يجب أن يبلغوه من ذلك بما أوجب أن يخاطبوا به من غير تأخير بقوله :﴿ فإن تبتم ﴾ أي قولوا لهم : فإن تبتم بالرجوع عن شرككم وما زينه لكم من الخيانة والغدر بنقض العهود، وقبلتم هداية الإسلام.
﴿ فهو خير لكم ﴾ في الدنيا والآخرة ؛ لأن هداية الإسلام هي السبب لسعادتهما.
﴿ وإن توليتم ﴾ أي أعرضتم عن إجابة هذه الدعوة إلى التوبة.
﴿ فاعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾ أي غير فائتيه بأن تفلتوا من حكم سننه ووعده لرسله والمؤمنين بالنصر كما تقدم آنفا.
﴿ وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ﴾ وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه نبأ عن الغيب الذي لا يمكن علمه إلا بوحي الله عز وجل، وقد تقدم في هذا التفسير أن البشارة ما يؤثر في البشرة من الأنباء، إما بالتهلل وإشراق الوجه وهو السرور الذي تنبسط به أسارير الجبهة وتتمدد، وإما بالعبوس والبسور وتقطيب الوجه من الكدر أو الحزن أو الخوف. وغلب في الأول حتى ذهب الأكثرون إلى كونه حقيقة فيه، وأن استعماله فيما يسوء ويكدر إنما يقال من باب التهكم.
أما الشيخان فقد أخرجا في هذا الباب حديث أبي هريرة الذي رواه عنه حميد بن عبد الرحمن بن عوف في كتاب الحج، وكرره البخاري في كتب الطهارة والحج والجزية والمغازي والتفسير، فنذكر لفظه في تفسير ﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ الآية : عن حميد أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد : ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة. قال أبو هريرة : فأذن معنا علي يوم النحر في أهل منى ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان١ اهـ.
قال الحافظ في الفتح عند قوله :" قال أبو هريرة فأذن معنا علي " ما نصه :
هو موصول بالإسناد المذكور، وكان حميد بن عبد الرحمن حمل قصة توجه علي من المدينة إلى أن لحق بأبي بكر عن غير أبي هريرة، وحمل بقية القصة عن أبي هريرة. وقوله : فأذن معنا علي في منى يوم النحر الخ قال الكرماني : فيه إشكال ؛ لأن عليا كان مأمورا بأن يؤذن ببراءة، فكيف يؤذن بأن لا يحج بعد العام مشرك ؟ ثم أجاب بأنه أذن ببراءة، ومن جملة ما اشتملت عليه أن لا يحج بعد العام مشرك من قوله تعالى :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾[ التوبة : ٢٨ ]
ويحتمل أن يكون أمر أن يؤذن ببراءة وبما أمر أبو بكر أن يؤذن به أيضا، قلت : وفي قوله : يؤذن ببراءة تجوز ؛ لأنه أمر أن يؤذن ببضع وثلاثين آية منتهاها عند قوله :﴿ ولو كره المشركون ﴾ [ التوبة : ٣٣ ]، فروى الطبري من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب وغيره قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع، وبعث عليا بثلاثين أو أربعين آية من براءة. وروى الطبري من طريق أبي الصهباء قال : سألت عليا عن يوم الحج الأكبر، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر يقيم للناس الحج، وبعثني بعده بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب ثم التفت إلي فقال : يا علي قم فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت فقرأت أربعين آية من براءة، ثم صدرنا حتى رميت الجمرة، فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم ؛ لأن الجميع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة.
ثم قال الحافظ : وأما ما وقع في حديث جابر فيما أخرجه الطبري وإسحاق في مسنده والنسائي والدارمي كلاهما عنه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج : حدثني عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه، حتى إذا كنا بالعرج ثوَّب بالصبح، فسمعنا رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا علي عليها، فقال له : أمير أو رسول ؟ فقال : بل أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس، فقدمنا مكة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس بمناسكهم، حتى إذا فرغ منها قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر كذلك، ثم يوم النفر كذلك، فيجمع بأن عليا قرأها كلها في المواطن الثلاثة، وأما في سائر الأوقات فكان يؤذن بالأمور المذكورة : أن لا يحج بعد العام مشرك الخ، وكان يستعين بأبي هريرة وغيره في الأذان بذلك.
« وقد وقع في حديث مقسم عن ابن عباس عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر. الحديث، وفيه فقام علي أيام التشريق فنادى : ذمة الله وذمة رسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل مؤمن. فكان علي ينادي بها، فإذا بح قام أبو هريرة فنادى بها ٢».
وأخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال « لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي »، فبعث بها مع علي. قال الترمذي : حسن غريب. ووقع في حديث يعلى عند أحمد عن علي : لما نزلت عشر آيات من براءة بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال :( أدرك أبا بكر، فحيثما لقيته فخذ منه الكتاب. فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شيء فقال « لا» إلا أنه لن يؤدي عني ـ أو لكن جبريل قال : لا يؤدي عنك- إلا أنت أو رجل منك )، قال العماد ابن كثير : ليس المراد أن أبا بكر رجع من فوره ؛ بل المراد رجع من حجته. ( قلت ) : ولا مانع من حمله على ظاهره لقرب المسافة. وأما قوله : عشر آيات، فالمراد أولها ﴿ إنما المشركون نجس ﴾ اهـ.
هذا ما لخصه الحافظ من الروايات، وأقول إن ابن كثير قال في حديث علي في نزول عشر آيات المذكور أخيرا، وقد ذكر إسناده عن عبد الله بن أحمد : هذا إسناد فيه ضعف.
وأزيد عليه انتقاد متنه ؛ إذ لا يصح أن يكون نزل منها عشر آيات وأنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ثم عليا بها، فهذا مخالف لسائر الروايات المتضافرة المتفقة التي أطلق في بعضها أول سورة براءة ـ وفي بعضها عدد ثلاثين أو أربعين آية منها ـ أي بالتقريب، وفي بعضها سورة براءة، وهي لا تنافي بينها، فقد نزلت سورة براءة كلها أو أكثرها عقب غزوة تبوك، وقد كانت في رجب سنة تسع من الهجرة. وقد قال ابن إسحاق : إن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعد أن رجع من تبوك رمضان وشوال وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، وذكر أن أبا بكر خرج في ذي القعدة. فإن أمكن حمل ما رواه ابن سعد عن مجاهد من أن حج أبي بكر كان في ذي القعدة على هذا كان صحيحا وإلا فلا.
وأما ضعف إسناده الذي ذكره ابن كثير فمن حنش بن المعتمر الكناني الكوفي. قال ابن حبان : كان كثير الوهم في الأخبار، ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات، حتى صار ممن لا يحتج بحديثه، وقال البزار : حدث عنه سماك بحديث منكر، وقال ابن حزم في المحلى : ساقط مطرح، ولأئمة الجرح في تضعيفه أقوال أخرى. ولعل الحديث المنكر الذي رواه عنه سماك هو هذا، على أن سماك بن حرب هذا لم يسلم من جرح، وإن روى عنه مسلم، ومما قيل عنه : إنه خرف في آخر عمره. والعجب من الحافظ ابن حجر كيف سكت عن ضعف إسناد هذا الحديث مع تذكر عبارة ابن كثير فيه.
وأما اختلافهم في تعيين يوم الحج الأكبر ففيه ما رواه البخاري في تفسير ﴿ إلا الذين عاهدتم من المشركين ﴾ من رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره عن أبي هريرة أنه أخبر أن أبا بكر رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع يؤذن في الناس أن لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، فكان حميد يقول : يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة. وتقدم الحديث في كتاب الجزية عن شعيب عن الزهري بلفظ : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج في حجة الوداع التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم مشرك اهـ.
قال الحافظ في الكلام على رواية صالح من الفتح بعد أن ذكر رواية شعيب ما نصه : وقوله : ويوم الحج الأكبر يوم النحرـ وهو قول حميد بن عبد الرحمن- استنبطه من قوله تعالى :﴿ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ﴾ ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي بكر يوم النحر. وسياق رواية شعيب يوهم أن ذلك مما نادى به أبو بكر وليس كذلك، فقد تضافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان ينادي به هو ومن معه من قبل أبي بكر شيئان : منع حج المشركين، ومنع طواف العريان. وأن عليا أيضا كان ينادي بهما، وكان يزيد : من كان له عهد فعهده إلى مدته، وأن لا يدخل الجنة إلا مسلم. وكان هذه الأخيرة كالتوطئة لأن لا يحج البيت مشرك. وأما التي قبلها فهي التي اختص علي بتبليغها، ولهذا قال العلماء : إن الحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :( لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي ).
وروى أحمد والنسائي من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة، فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك. فكنت أنادي حتى صحل صوتي.
ثم قال الحافظ : وقوله : وإنما قيل الأكبر الخ في حديث ابن عمر عند أبي داود وأصله في هذا الصحيح رفعه : أي يوم هذا ؟ قالوا : هذا يوم النحر، قال « هذا يوم الحج الأكبر».
واختلف في المراد بالحج الأصغر، فالجمهور على أنه العمرة، وصل ذلك عبد الرازق من طريق عبد الله بن شداد -أحد كبار التابعين-، ووصله الطبري عن جماعة منهم عطاء والشعبي، وعن مجاهد : الحج الأكبر القران، والأصغر الإفراد. وقيل : يوم الحج الأصغر يوم عرفة، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ؛ لأن فيه تتكمل بقية المناسك، وعن الثوري : أيام الحج تسمى يوم الحج الأكبر، كما يقال يوم الفتح، وأيده السهيلي بأن عليا أمر بذلك في الأيام كلها، وقيل : لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون بعرفة، وكانت قريش تقف بالمزدلفة، فإذا كان صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة، فقيل له الأكبر لاجتماع الكل فيه.
وعن الحسن سمي بذلك لاتفاق حج جميع الملل فيه، وروى الطبري من طريق أبي جحيفة وغيره أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، ومن طريق سعيد بن جبير أنه يوم النحر، واحتج بأن يوم التاسع وهو يوم عرفة إذا انسلخ قبل الوقوف لم يفت الحج بخلاف العاشر، فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات، وفي رواية الترمذي من حديث علي مرفوعا وموقوفا :( يوم الحج الأكبر يوم النحر )٣ ورجح الموقوف. وقوله : فنبذ أبو بكر الخ هو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن، والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك، وقيل إنما لم يقتصر النبي صلى الله عليه و
من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه أن الله تعالى بعث محمدا رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة ذكرنا كلياتها في تفسير( ٢ : ٢٣ ج ١ )، وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة، ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة كما بيناه في تفسير ( ٢ : ٢٥٦ج ٣ )، فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه صلى الله عليه وسلم عن تبليغه للناس بالقوة، ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب، إلا بتأمين حلف أو قريب. فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول صلى الله عليه وسلم حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علنا في دار الندوة، ورجحوا في آخر الأمر قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة، كما تقدم في تفسير ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] ج ٩، فهاجر صلى الله عليه وسلم، وصار يتبعه من قدر على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجرهم بالمدينة المنورة أنصارا لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم، وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع، ومقتضى العرف العام في ذلك العصر، وعاهد صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون فخانوا وغدروا، ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه، كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة الأنفال من هذا الجزء.
وقد عاهد صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها منتهى التساهل عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة، ودخلت خزاعة في عهده صلى الله عليه وسلم كما دخلت بنو بكر في عهد قريش، ثم عدا هؤلاء على أولئك وإعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم، فكان ذلك سبب عودة حال الحرب العامة معهم، وفتحه صلى الله عليه وسلم لمكة، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله، ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا، وثبت بالتجربة لهم - في حالي قوتهم وضعفهم- أنهم لا عهود لهم، ولا يؤمن نقضهم وانتقاضهم، كما يأتي في قوله تعالى :﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾ إلى قوله في آخر آية ١٢ ﴿ فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ﴾ أي لا عهود لهم يرعونها ويفون بها. والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يدان به، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه، كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب.
هذا هو الأصل الشرعي الذي بني عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام منهم عليها، وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة، وجعلها خالصة للمسلمين، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ [ البقرة : ١٩ ] وقوله :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ [ الأنفال : ٦١ ] بقدر الإمكان، وإن قال الجمهور بنسخ هذا بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك، وسيأتي تفصيله في تفسيرها.
ثم استثنى من هؤلاء الذين تبرأ من عهودهم، وأمر بوعيدهم وتهديدهم، وضرب لهم موعد الأربعة الأشهر، من حافظوا على عهدهم بالدقة التامة والإخلاص فقال :﴿ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ قال الحافظ ابن كثير : هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت، فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء، إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها، وقد تقدمت الأحاديث : ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته المضروبة. وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده، ولم يظاهر على المسلمين، أي يمالئ عليهم من سواهم. فهذا الذي يوفى له بذمته، وعهده إلى مدته اه.
وقال البغوي : المراد بهؤلاء الذين استثناهم الله تعالى بنو ضمرة وحي من كنانة. وقال السدي : هؤلاء بنو ضمرة وبنو مدلج حيان من بني كنانة، كانوا حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العسرة من بني تبيع. وقال مجاهد : كان لبني مدلج وخزاعة عهد فهو الذي قال الله :﴿ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾. وقال محمد بن عباد بن جعفر : هم بنو خزيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة. ولكن قال ابن عباس رضي الله عنه : هم مشركو قريش الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، وكان قد بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم هذا إلى مدتهم. ذكر هذه الأقوال في الدر المنثور. والصواب أن هذا اللفظ عام، وتعيين المراد منه بأسماء القبائل لا يتعلق به عمل بعد ذلك الزمان.
والآية تدل على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهد معقودا، وعلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته، وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيره، من نص القول وفحواه ولحنه، والمعبر عنهما في هذا العصر بروحه. فإن نقص شيئا ما من شروط العهد وأخلّ بغرض ما من أغراضه عد ناقضا له، إذ قال :﴿ ثم لم ينقصوكم شيئا ﴾ ولفظ شيء أعم الألفاظ وهو نكرة في سياق النفي، فيصدق بأدنى إخلال بالعهد. وقرئ في الشواذ ( ينقضوكم ) بالضاد المعجمة والمهملة أبلغ، ومن الضروري أن من شروطه - التي ينتقض بالإخلال بها- عدم مظاهرة أحد من أعدائنا وخصومنا علينا، وقد صرح بهذا للاهتمام به، وإلا فهو يدخل في عموم ما قبله، وذلك أن الغرض الأول من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر وحرية التعامل بينهما، فمظاهرة أحدهما لعدو الآخر- أي معاونته ومساعدته على قتاله وما يتعلق به- كمباشرته للقتال وغيره بنفسه، يقال ظاهره إذا عاونه ﴿ وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ﴾[ الأحزاب : ٢٦ ]، وظاهره عليه إذا ساعده عليه. وتظاهروا عليهم تعاونوا. وكله من الظهر الذي يعبر به عن القوة، ومنه بعير ظهير، ويحتمل أن يكون من الظهور.
﴿ إن الله يحب المتقين ﴾ أي لنقض العهود وإخفار الذمم، ولسائر المفاسد المخلة بالنظام، والعدل العام.
أما الشيخان فقد أخرجا في هذا الباب حديث أبي هريرة الذي رواه عنه حميد بن عبد الرحمن بن عوف في كتاب الحج، وكرره البخاري في كتب الطهارة والحج والجزية والمغازي والتفسير، فنذكر لفظه في تفسير ﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ الآية : عن حميد أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد : ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة. قال أبو هريرة : فأذن معنا علي يوم النحر في أهل منى ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان١ اهـ.
قال الحافظ في الفتح عند قوله :" قال أبو هريرة فأذن معنا علي " ما نصه :
هو موصول بالإسناد المذكور، وكان حميد بن عبد الرحمن حمل قصة توجه علي من المدينة إلى أن لحق بأبي بكر عن غير أبي هريرة، وحمل بقية القصة عن أبي هريرة. وقوله : فأذن معنا علي في منى يوم النحر الخ قال الكرماني : فيه إشكال ؛ لأن عليا كان مأمورا بأن يؤذن ببراءة، فكيف يؤذن بأن لا يحج بعد العام مشرك ؟ ثم أجاب بأنه أذن ببراءة، ومن جملة ما اشتملت عليه أن لا يحج بعد العام مشرك من قوله تعالى :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾[ التوبة : ٢٨ ]
ويحتمل أن يكون أمر أن يؤذن ببراءة وبما أمر أبو بكر أن يؤذن به أيضا، قلت : وفي قوله : يؤذن ببراءة تجوز ؛ لأنه أمر أن يؤذن ببضع وثلاثين آية منتهاها عند قوله :﴿ ولو كره المشركون ﴾ [ التوبة : ٣٣ ]، فروى الطبري من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب وغيره قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع، وبعث عليا بثلاثين أو أربعين آية من براءة. وروى الطبري من طريق أبي الصهباء قال : سألت عليا عن يوم الحج الأكبر، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر يقيم للناس الحج، وبعثني بعده بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب ثم التفت إلي فقال : يا علي قم فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت فقرأت أربعين آية من براءة، ثم صدرنا حتى رميت الجمرة، فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم ؛ لأن الجميع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة.
ثم قال الحافظ : وأما ما وقع في حديث جابر فيما أخرجه الطبري وإسحاق في مسنده والنسائي والدارمي كلاهما عنه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج : حدثني عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه، حتى إذا كنا بالعرج ثوَّب بالصبح، فسمعنا رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا علي عليها، فقال له : أمير أو رسول ؟ فقال : بل أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس، فقدمنا مكة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس بمناسكهم، حتى إذا فرغ منها قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر كذلك، ثم يوم النفر كذلك، فيجمع بأن عليا قرأها كلها في المواطن الثلاثة، وأما في سائر الأوقات فكان يؤذن بالأمور المذكورة : أن لا يحج بعد العام مشرك الخ، وكان يستعين بأبي هريرة وغيره في الأذان بذلك.
« وقد وقع في حديث مقسم عن ابن عباس عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر. الحديث، وفيه فقام علي أيام التشريق فنادى : ذمة الله وذمة رسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل مؤمن. فكان علي ينادي بها، فإذا بح قام أبو هريرة فنادى بها ٢».
وأخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال « لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي »، فبعث بها مع علي. قال الترمذي : حسن غريب. ووقع في حديث يعلى عند أحمد عن علي : لما نزلت عشر آيات من براءة بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال :( أدرك أبا بكر، فحيثما لقيته فخذ منه الكتاب. فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شيء فقال « لا» إلا أنه لن يؤدي عني ـ أو لكن جبريل قال : لا يؤدي عنك- إلا أنت أو رجل منك )، قال العماد ابن كثير : ليس المراد أن أبا بكر رجع من فوره ؛ بل المراد رجع من حجته. ( قلت ) : ولا مانع من حمله على ظاهره لقرب المسافة. وأما قوله : عشر آيات، فالمراد أولها ﴿ إنما المشركون نجس ﴾ اهـ.
هذا ما لخصه الحافظ من الروايات، وأقول إن ابن كثير قال في حديث علي في نزول عشر آيات المذكور أخيرا، وقد ذكر إسناده عن عبد الله بن أحمد : هذا إسناد فيه ضعف.
وأزيد عليه انتقاد متنه ؛ إذ لا يصح أن يكون نزل منها عشر آيات وأنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ثم عليا بها، فهذا مخالف لسائر الروايات المتضافرة المتفقة التي أطلق في بعضها أول سورة براءة ـ وفي بعضها عدد ثلاثين أو أربعين آية منها ـ أي بالتقريب، وفي بعضها سورة براءة، وهي لا تنافي بينها، فقد نزلت سورة براءة كلها أو أكثرها عقب غزوة تبوك، وقد كانت في رجب سنة تسع من الهجرة. وقد قال ابن إسحاق : إن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعد أن رجع من تبوك رمضان وشوال وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، وذكر أن أبا بكر خرج في ذي القعدة. فإن أمكن حمل ما رواه ابن سعد عن مجاهد من أن حج أبي بكر كان في ذي القعدة على هذا كان صحيحا وإلا فلا.
وأما ضعف إسناده الذي ذكره ابن كثير فمن حنش بن المعتمر الكناني الكوفي. قال ابن حبان : كان كثير الوهم في الأخبار، ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات، حتى صار ممن لا يحتج بحديثه، وقال البزار : حدث عنه سماك بحديث منكر، وقال ابن حزم في المحلى : ساقط مطرح، ولأئمة الجرح في تضعيفه أقوال أخرى. ولعل الحديث المنكر الذي رواه عنه سماك هو هذا، على أن سماك بن حرب هذا لم يسلم من جرح، وإن روى عنه مسلم، ومما قيل عنه : إنه خرف في آخر عمره. والعجب من الحافظ ابن حجر كيف سكت عن ضعف إسناد هذا الحديث مع تذكر عبارة ابن كثير فيه.
وأما اختلافهم في تعيين يوم الحج الأكبر ففيه ما رواه البخاري في تفسير ﴿ إلا الذين عاهدتم من المشركين ﴾ من رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره عن أبي هريرة أنه أخبر أن أبا بكر رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع يؤذن في الناس أن لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، فكان حميد يقول : يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة. وتقدم الحديث في كتاب الجزية عن شعيب عن الزهري بلفظ : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج في حجة الوداع التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم مشرك اهـ.
قال الحافظ في الكلام على رواية صالح من الفتح بعد أن ذكر رواية شعيب ما نصه : وقوله : ويوم الحج الأكبر يوم النحرـ وهو قول حميد بن عبد الرحمن- استنبطه من قوله تعالى :﴿ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ﴾ ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي بكر يوم النحر. وسياق رواية شعيب يوهم أن ذلك مما نادى به أبو بكر وليس كذلك، فقد تضافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان ينادي به هو ومن معه من قبل أبي بكر شيئان : منع حج المشركين، ومنع طواف العريان. وأن عليا أيضا كان ينادي بهما، وكان يزيد : من كان له عهد فعهده إلى مدته، وأن لا يدخل الجنة إلا مسلم. وكان هذه الأخيرة كالتوطئة لأن لا يحج البيت مشرك. وأما التي قبلها فهي التي اختص علي بتبليغها، ولهذا قال العلماء : إن الحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :( لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي ).
وروى أحمد والنسائي من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة، فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك. فكنت أنادي حتى صحل صوتي.
ثم قال الحافظ : وقوله : وإنما قيل الأكبر الخ في حديث ابن عمر عند أبي داود وأصله في هذا الصحيح رفعه : أي يوم هذا ؟ قالوا : هذا يوم النحر، قال « هذا يوم الحج الأكبر».
واختلف في المراد بالحج الأصغر، فالجمهور على أنه العمرة، وصل ذلك عبد الرازق من طريق عبد الله بن شداد -أحد كبار التابعين-، ووصله الطبري عن جماعة منهم عطاء والشعبي، وعن مجاهد : الحج الأكبر القران، والأصغر الإفراد. وقيل : يوم الحج الأصغر يوم عرفة، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ؛ لأن فيه تتكمل بقية المناسك، وعن الثوري : أيام الحج تسمى يوم الحج الأكبر، كما يقال يوم الفتح، وأيده السهيلي بأن عليا أمر بذلك في الأيام كلها، وقيل : لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون بعرفة، وكانت قريش تقف بالمزدلفة، فإذا كان صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة، فقيل له الأكبر لاجتماع الكل فيه.
وعن الحسن سمي بذلك لاتفاق حج جميع الملل فيه، وروى الطبري من طريق أبي جحيفة وغيره أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، ومن طريق سعيد بن جبير أنه يوم النحر، واحتج بأن يوم التاسع وهو يوم عرفة إذا انسلخ قبل الوقوف لم يفت الحج بخلاف العاشر، فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات، وفي رواية الترمذي من حديث علي مرفوعا وموقوفا :( يوم الحج الأكبر يوم النحر )٣ ورجح الموقوف. وقوله : فنبذ أبو بكر الخ هو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن، والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك، وقيل إنما لم يقتصر النبي صلى الله عليه و
هذا شروع في بيان ما يترتب على الأذان بنبذ عهود المشركين على الوجه الذي سبق تفصيله في الموقت منها وغير الموقت، وهو مفصل لكل حال يكونون عليها بعد هذا الأذان العام من إيمان وكفر، ووفاء وغدر، ينتهي بالآية الخامسة عشرة. وانسلاخ الأشهر انقضاؤها والخروج منها، وهو مجاز مستعار من انسلاخ الحية، وهو خروجها من جلدها، ويسمى بعد خروجها منه المسلاخ، يقولون سلخ فلان الشهر وانسلخ منه ﴿ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ﴾ [ يس : ٣٧ ] وقال الشاعر :
إذا ما سلخت الشهر أهلكت مثله***كفى قاتلاً سلخي الشهور وإهلالي١
والحرم بضمتين جمع الحرام ( كسحاب وسحب ) وهي الأشهر التي حرم الله فيها قتالهم في الأذان والتبليغ الذي بينت الآية ما يترتب عليه من الأحكام بقوله :﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ أي آمنين لا يعرض لكم أحد بقتال فيها، فالتعريف فيها للعهد، ولولا هذا السياق لوجب تفسير الأشهر الحرم بالأربعة التي كانوا يحرمون فيها القتال من قبل، إذا لم يستحلوا شيئا منها بالنسيء، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب كما سيأتي بيانه في تفسير الآيتين ٣٦ و٣٧، على أن بعض المفسرين قال : إنها هي المرادة هنا أو الثلاثة المتوالية منها، وتقدم أن بعضهم قال : إن الأربعة الأشهر التي ضربت لهم لحرية السياحة في الأرض هي من شوال إلى المحرم. والتحقيق ما قلناه هنا وهناك، وقد رواه ابن جرير عن السدي ومجاهد وعمرو بن شعيب وابن زيد وابن إسحاق ؛ ولكنه اعتمد قبله أن المراد بها ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
قال تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ أي فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرم عليكم قتال المشركين فيها فاقتلوهم في أي مكان وجدتموهم فيه من حل وحرم ؛ لأن الحالة بينكم وبينهم عادت حالة حرب كما كانت، وإنما كان تأمينهم مدة أربعة أشهر منحة منكم، ومن قال إن الآية مخصوصة بما عدا أرض الحرم فهو غالط.
﴿ وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ﴾ أي وافعلوا بهم كل ما ترونه موافقا للمصلحة من تدابير القتال وشؤون الحرب المعهودة، وأهمها وأشهرها هذه الثلاثة :
وأولها أخذهم أسارى، فكانوا يعبرون عن الأسر بالأخذ، ويسمون الأسير ( أخيذا )، والأخذ أعم من الأسر، فإن معنى الثاني الشد بالأسار كما تقدم في سورة الأنفال، فالأسير في أصل اللغة هو الأخيذ الذي يشد. وقد أبيح هنا الأسر الذي حظر بقوله تعالى في سورة الأنفال ﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ] لحصول شرطه وهو الإثخان الذي هو عبارة عن الغلب والقوة والسيادة، فمن يسمي مثل هذا نسخا فله أن يقول به هنا، والصواب أنه من المقيد بالشرط أو الوقت أو الأذن.
والثاني الحصر، وهو حبس العدو حيث يعتصمون من معقل وحصن بأن يحاط بهم ويمنعوا من الخروج والانقلاب، إذا كان في مهاجمتهم فيه خسارة كبيرة فاحصروهم إلى أن يسلموا وينزلوا على حكمكم بشرط ترضونه، أو بغير شرط.
والثالث قعود المراصد، أي الرصد العام، وهو مراقبة العدو بالقعود لهم في كل مكان يمكن الإشراف عليهم، ورؤية تجوالهم وتقلبهم في البلاد منه. فالمرصد اسم مكان، وخصه بعضهم بطرق مكة والفجاج التي تنتهي إليها لئلا يعودوا إليها لإخراج المسلمين منها، أو للشرك في البيت والطواف فيه عراة. والصواب أنه عام وهذا أهم أفراده. ولعل القائل بهذا التخصيص لم يذكر المدينة- وهي العاصمة- لأنه لا خوف عليها يومئذ من المشركين بعد أن عجزوا عنها في عهد قوتهم وكثرتهم.
وهذه الآية هي التي يسمونها آية السيف، واعتمد بعضهم أن آية السيف هي قوله الآتي ﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ]، وقال بعضهم إنها تطلق على كل منهما أو على كلتيهما. ويكثر في كلام الذين كثروا الآيات المنسوخة أن آية كذا وآية كذا من آيات العفو والصفح والإعراض عن المشركين والجاهلين والمسالمة وحسن المعاملة منسوخة بآية السيف. والصواب أن ما ذكروه من هذا القبيل ليس من النسخ الأصولي في شيء، قال السيوطي في أقسام النسخ من الاتقان ما نصه :
الثالث : ما أمر به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والصفح ثم نسخ بإيجاب القتال، وهذا في الحقيقة ليس نسخا ؛ بل هو من قسم المنسأ كما قال تعالى :﴿ أو ننسأها ﴾، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبهذا يضعف ما لهج به كثيرون من أن الآية في ذلك منسوخة بآية السيف، وليس كذلك ؛ بل هي من المنسأ بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم ؛ بل ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله، وقال مكي : ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مشعرا بالتوقيت والغاية مثل قوله في البقرة ﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ [ البقرة : ١٠٩ ] محكم غير منسوخ ؛ لأنه مؤجل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه اه.
وقال بعضهم وعزاه الألوسي إلى الجمهور : إن الآية تدل بعمومها على جواز قتال الترك والحبشة، كأنه قيل فاقتلوا الكفار مطلقا. يعنون أنها ناسخة أو مخصصة لحديث ( اتركوا الترك ما تركوكم، فإن أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء ) رواه الطبراني من حديث ابن مسعود كما في الجامع الصغير. وفي فتح الباري أنه رواه من حديث معاوية، قال الحافظ وكان هذا الحديث مشهورا بين الصحابة.
وقتال المسلمين للترك ثابت في الصحيحين. وروى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا ( اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة )٢، وقال العلماء : إن هذا يكون قبيل قيام الساعة إذ يبطل أمن الحرم.
وروى أبو داود والنسائي عن رجل كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم )٣.
قال الخطابي إن الجمع بين قوله تعالى :﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ وبين هذا الحديث أن الآية مطلقة والحديث مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، ويجعل الحديث مخصصا لعموم الآية كما خص ذلك في حق المجوس فإنهم كفرة، ومع ذلك أخذ منهم الجزية لقوله صلى الله عليه وسلم :( سنوا بهم سنة أهل الكتاب )٤، قال الطيبي : ويحتمل أن تكون الآية ناسخة للحديث لضعف الإسلام.
وأقول : قد غفل هؤلاء الذين حاولوا الجمع بين الحديث والآية عن كون الآية في مشركي العرب الذي لا عهد لهم، والذين نبذت عهودهم، وضرب لهم موعد الأربعة الأشهر، والحبشة نصارى من أهل الكتاب، وفيهم نزل قوله تعالى :﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ﴾ [ المائدة : ٨٢ ] الآيات، ومن المجمع عليه التفرقة بين المشركين وأهل الكتاب، والترك كانوا وثنيين عند نزول هذه الآيات كمشركي العرب، ولكنهم لا يدخلون في عموم الآية، ثم إن الأمر بترك قتال الترك والحبشة جاء تحذيرا من بدئهم بالقتال لما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن خطرا على العرب وبلادهم سيقع منهم، والأمن بقتال مشركي العرب في هذه الآيات مبني على كونهم هم الذين بدؤوا المسلمين ونكثوا عهودهم كما سيأتي قريبا في قوله :﴿ ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤكم أول مرة ﴾ [ التوبة : ١٣ ]، وعلى كون قتالهم كافة جزاء بالمثل كما قال :﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] فكيف يدخل وثنيو الترك ونصارى الحبشة في عموم هؤلاء المشركين الموصوفين بما ذكر حتى يحتاج إلى الجمع بين الآية والأحاديث المذكورة ؟ ولا تأتي هنا قاعدة كون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو ظاهر ؛ لأن المراد بها أن اللفظ العام يتناول كل ما وضع له، سواء وجد ما كان سببا لوروده أو لم يوجد، ولفظ المشركين في هذه الآيات لم يوضع لأهل الكتاب المعروفين بالقطع، ولا لأمثالهم كالمجوس مثلا، وقد بينا تحقيق هذه المسألة في مواضع أبسطها تفسير﴿ ولا تنكحوا المشركات ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ] الآية ( ج ٢ )، ثم تفسير ﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ﴾ [ المائدة : ٥ ] الآية ( ج٦ )، ويليه مباحث في موضوع الآية. ولولا أن هؤلاء المفسرين وشراح الأحاديث ينظرون في كتاب الله وحديث رسوله من وراء حجب المذاهب الفقهية لما وقعوا في أمثال هذه الأغلاط الواضحة، ولكننا في غنى عن الإطالة في التفسير لبيانها.
﴿ فإن تابوا ﴾ أي فإن تابوا عن الشرك وهو الذي يحملهم على عداوتكم وقتالكم، بأن دخلوا في الإسلام وعنوانه العام النطق بالشهادتين، وكان يكتفي منهم بإحداهما ﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ المفروضة معكم كما يقيمونها في أوقاتها الخمسة، وهي مظهر الإيمان، وأكبر أركانه المطلوبة في كل يوم من الأيام، ويتساوى في طلبها وجماعتها الغني والفقير، والمأمور والأمير، وهي حق العبودية لله تعالى على عباده، وأفضل مزك لأنفسهم يؤهلهم للقائه، وأفعل مهذب لأخلاقهم يعدها للقيام بحقوق عباده، ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ].
﴿ وآتوا الزكاة ﴾ المفروضة في أموال الأغنياء للفقراء وللمصالح العامة، وهي الركن المالي الاجتماعي من أركان الإسلام، التي يقوم بها نظامه العام.
﴿ فخلُّوا سبيلهم ﴾ فاتركوا لهم طريق حريتهم بالكف عن قتالهم إذا كانوا مقاتلين، وعن حصرهم إن كانوا محصورين، وعن رصد مسالكهم إلى البيت الحرام وغيره حيث يكونون مراقبين.
﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ يغفر لهم ما سبق من الشرك وأعماله، ويرحمهم فيمن يرحم من عباده المؤمنين ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.
والآية تفيد دلالة إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الإسلام، وتوجب لمن يؤديهما حقوق المسلمين من حفظ دمه وماله إلا بما يوجبه عليه شرعه من جناية تقتضي حدا معلوما، أو جريمة توجب تعزيرا أو تغريما.
واستدل بها بعض أئمة الفقه على كفر من يترك الصلاة ويمتنع عن أداء الزكاة، وذلك أنها اشترطت في صحة إسلام المشركين وعصمة دمائهم مجموع الثلاثة الأشياء : ترك الشرك وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فإذا فقد شرط منها لم يتحقق الإسلام الذي يعصم دم المشرك المقاتل، ومفهوم الشرط من ضروريات اللغة، ومراء بعض الجدليين من الأصوليين فيه مردود لا قيمة له، وقال بعضهم : بل يكفر تارك الصلاة دون مانع الزكاة لإمكان أخذها منه بالقهر، ووجوب قتال مانعيها كما فعل أبو بكر.
وقد عززوا هذا الاستدلال بالأحاديث الصحيحة في معناها كحديث عبد الله بن عمر مرفوعا :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله )٥ رواه الشيخان، وحديث أنس عند البخاري وأصحاب السنن الثلاثة :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها
٢ ـ أخرجه أبو داود في الملاحم باب ١١..
٣ ـ أخرجه أبو داود في الملاحم باب ٨..
٤ ـ أخرجه مالك في الزكاة حديث ٤٢..
٥ ـ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الإيمان باب ١٧، والاعتصام باب ٢٨، ومسلم في الإيمان حديث ٣٤ ـ ٣٦، والترمذي في الإيمان باب ١، وتفسير سورة ٨٨، والنسائي في الجهاد باب١، والتحريم باب ١، وابن ماجه في الفتن باب ١، وأحمد في المسند ١/ ١١، ١٩، ٣٦، ٤٨، ٢/ ٣١٤، ٣٧٧، ٤٢٣، ٤٣٩، ٤٧٥، ٤٨٢، ٥٠٢، ٥٢٨، ٣/ ٢٩٥، ٣٠٠، ٣٣٢، ٣٩٤، ٥/ ٢٤٦..
وأما اختلاف العقيدة وحده فلم يكن يقتضي عندهم كل ذلك، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ودوا لو تدهن فيدهنون ﴾ [ القلم : ٩ ] وإذا كان تبليغ الدعوة هو الواجب الأول الأهم المقصود من الرسالة وإنما كان وجوب القتال لحمايتها والحرية في تبليغها والعمل بما تتضمنه، ومنع أهلها وصيانهم من الفتنة والاضطهاد لأجلها وجب التبليغ قبله وكف القتال عمن يظهر الرغبة في سماع كلام الله تعالى للعلم بمضمونها، والوقوف على ما نهى وأمر، وبشر وأنذر، وتأمينه في مجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ثم العودة إلى دار قومه حيث يأمن على نفسه ويكون حرا فيما يختار لها، وبهذا يكون المشركون الذين بلغوا نبذ عهودهم أو انتهاء مدتها ثلاثة أقسام : ١ مصر على الشرك وعداوة المسلمين، و٢ مسترشد طالب للعلم وسماع القرآن، و٣ تائب يدخل في الإسلام.
الاستجارة طلب الجوار، وهو الحماية والأمان، فقد كان من أخلاق العرب حماية الجار والدفاع عنه، حتى صاروا يسمون النصير جارا، ومنه ﴿ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ﴾ [ الأنفال : ٤٨ ].
ومعنى الجملة : وإن استأمنك أيها الرسول أحد من المشركين لكي يسمع كلام الله ويعلم منه حقيقة ما تدعو إليه، أو ليلقاك مطلقا وإن لم يذكر سببا، فيجب أن تجيره وتؤمنه لكي يسمع -أو إلى أن يسمع- كلام الله، فإن هذه فرصة للتبليغ والاستماع، فإذا اهتدى به وآمن عن علم واقتناع فذاك، وإلا فالواجب أو تبلغه المكان الذي يأمن به على نفسه، ويكون حرا في عقيدته، حيث لا يكون للمسلمين عليه سلطان قهر، ولا إكراه على أمر ؟ وتعود حالة الحرب إلى ما كانت من غير غدر.
وسماع «كلام الله » يحصل بالقليل والكثير منه، ولكن المراد الذي يقتضيه المقام أن يسمع منه تعالى ما يراه هو ونراه نحن كافيا للعلم بدعوة الإسلام، أو القدر الذي تقوم به الحجة منه وهو ما يتبين به بطلان الشرك وحقيقة التوحيد والبعث وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه عن الله عزَّ وجلَّ، وكان العربي منهم يفهم القرآن ويشعر من نفسه بأنه معجز للبشر، ويفهم حججه العقلية والعلمية على التوحيد والرسالة، والبعث، فإذا ألقى إليه السمع، وهو شهيد، لا يلبث أن يظهر له الحق في هذه الأصول، فإن لم تصده العصبية والتزام العداوة للداعي لا يلبث أن يؤمن، فإن لم يفعل كان له شأنه وحريته، ولكنه يمنع من مساكنة المسلمين في دار الإسلام والحال والدار ما علمنا. وقيل : إن المراد بالقرآن آيات التوحيد منه، وقيل : سورة التوبة خاصة أو ما بلغوه منها في الموسم ؛ إذ لم يكن كل مشرك سمعه، والظاهر ما قلناه.
وقد قال بعضهم : إن هذا منسوخ بقوله تعالى في الآية الآتية :﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ [ التوبة : ٣٦ ]، وقال بعضهم : بل محكم، وهو الحق، قال الحسن : هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة، واعتمده ابن جرير وعليه الجمهور، والقول الأول مما لا يصح أن يحكى إلا لرده وإبطاله، لأنه يتضمن عدم وجوب تبليغ الدعوة حتى لطالبها، بل منع طالبها من سماعها والعلم بها.
وقد ذكر الرازي وأبو السعود وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : إن رجلا من المشركين قال لعلي : إذا أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة قتل ؟ قال : لا، لأن الله تعالى يقول :﴿ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ﴾. فإن صحت هذه الرواية كانت دليلا على أن طلب المشرك للأمان والجوار يقبل وإن لم يكن لأجل سماع كلام الله تعالى، وإن قال بعض المفسرين : إن الحاجة في الرواية لا تعدو غرض الدين ؛ لأن لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا لذلك، أي فلا يجاب طلبه إن علم أنه لحاجة دنيوية، وهذا القول غير مسلم، فقد كانوا يطلبون لقاءه صلى الله عليه وسلم لأجل الكلام في الصلح وغيره من مصالح دنياهم، والمتبادر من قوله تعالى :﴿ حتى يسمع كلام الله ﴾ أنه غاية أو تعليل للإجارة لاتصاله بها وحدها، وأن الاستجارة على إطلاقها.
وقول أبي السعود : إن تعلق الإجارة بسماع كلام الله بأحد المعنيين يستلزم تعلق الاستجارة أيضا بذلك أو بما في معناه من أمور الدين غير مسلم، ولكنه محتمل إذا جاز أن تتعلق «حتى » بفعلي الاستجارة والإجارة معا، والذي عليه النحاة في باب تنازع العاملين أن العمل يكون لأحدهما، والمختار عند البصريين الثاني وعند الكوفيين الأول.
ويترتب على جعل «حتى » للتعليل أنه لا يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن مشركا إلا لأجل سماع كلام الله وتبليغه الدعوة به، وغيره من أئمة المسلمين وقواد جيوشهم أولى وأجدر أن لا يجب عليهم ذلك، وحاصل معناها أن المستجير يجار ويؤمن مهما يكن غرضه من الاستجارة، ويمتد جواره إلى أن يسمع كلام الله وتقوم عليه الحجة به فيكون وجوده في دار الإسلام فرصة لتبليغه دعوته على أكمل وجه، ولا يأبى هذا المعنى الأمر بإبلاغه مأمنه بعد ذلك كما ادعى بعضهم، ولا يظهر جعل الأمر بالإجارة والأمان للوجوب إلا بهذا القصد، وفيما عداه يكون جائزا يعمل فيه الإمام بالمصلحة. ويجوز الجمع بين الغاية ومعنى التعليل على القول بجواز الجمع بين معنيي المشترك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمن الرسل التي ترد من قبل الأعداء وهذا مجمع عليه. وكان يجير من أجاره أي مسلم أو مسلمة، وذكر من مزايا المؤمنين أنهم «تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم »١ كما ثبت في الصحيح، ولا يبعد أن يقال : إن حكم المشركين في تقييد إجارة مستجيرهم في ذلك العهد خاص بهم، والأمر في معاملة غيرهم من الكفار بعد ذلك أوسع، وهو كما يذكر في كتاب الأمان من الفقه.
قال العماد ابن كثير في تفسير الآية : والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أمانا، أعطي أمانا، ما دام مترددا في دار الإسلام وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه. لكن قال العلماء : لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكن من الإقامة أربعة أشهر، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى اه.
وأقول : إن ما ذكره هو المعروف عن أصحابه الشافعية. وفي الترغيب من كتب الحنابلة : ويشترط لصحة الأمان عدم الضرر علينا، وأن لا تزيد مدته على عشر سنين، وفي جواز إقامتهم بدارنا هذه المدة بلا جزية وجهان اه من كتاب الفروع. والتحقيق أن مثل هذه الأحكام التي لا نص فيها من الشارع تناط بالمصلحة وتفوض إلى أولي الأمر من الأئمة والسلاطين وقواد الجيوش.
قال تعالى :﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ﴾ أي ذلك الأمر بإجارة المستجير من المشركين ليسمع كلام الله أو إلى أن يسمع كلام الله بسبب أنهم قوم جاهلون لا يدرون ما الكتاب وما الإيمان، فأعرضوا عن دعوة الإسلام بجهل وعصبية وكانوا مغترين بقوتهم، مصرين على جفوتهم، فإذا كان شعورهم بضعفهم لصدق وعد الله بنصر المؤمنين عليهم قد أعدهم للعلم بما كانوا يجهلون وطلبوا الأمان لأجل ذلك، أو لغرض آخر يترتب عليه إمكان تبليغهم الدعوة وإسماعهم كلامه عزَّ وجلَّ وهو الحجة البالغة والشفاء لما في الصدور لمن سمعه باستقلال فكر أجيبوا إليه ؛ لأنه هو الطريقة المثلى لتعليمهم وهدايتهم، وإنما بعثت أيها الرسول مبشرا ونذيرا، ورؤوفا رحيما.
وتدل الآية على أن الاعتقاد بأصل الدين يجب أن يكون علما يقينيا لا شك فيه ولا احتمال وإن لم يكن منطقيا. ولا يكتفى فيه بالظن الراجح كالفروع العلمية ولا بالتقليد لأنه ليس بعلم، والآيات المفرقة بين العلم والظن متعددة كقوله تعالى :﴿ إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ [ النجم : ٢٨ ] ﴿ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ [ يونس : ٣٦ ] ﴿ وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ﴾ [ الجاثية : ٢٤ ].
وقال الفخر الرازي في تفسير الآية : اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا لوجب أن لا يمهل هذا الكافر بل يقال له : إما أن تؤمن وإما أن نقتلك، فلما لم يقل له ذلك، بل أمهلناه وأزلنا الخوف عنه ووجب علينا أن نبلغه مأمنه، علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف ؛ بل لا بد من الحجة والدليل، فأمهلناه وأخرناه ليحصل له مهلة النظر والاستدلال، إذا ثبت هذا فنقول ليس في الآية ما يدل على مقدار هذه المهلة كم يكون، ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك، ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه والله أعلم اه.
برىء الله ورسوله من المشركين الذين عاهدهم المسلمون على ترك القتال وأمهلهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض أحرارا آمنين، وأمر تعالى بالأذان العام إلى الناس في يوم عيد النحر من الموسم العام ببراءة الله ورسوله من المشركين، ودعوتهم إلى التوبة من الشرك وعداوة الإسلام، وإنذارهم سوء عاقبة الإعراض، واستثنى من المعاهدين الذين نبذت إليهم عهودهم من وفوا بعهدهم ولم ينقصوا منه شيئا ولم يظاهروا على المؤمنين أحدا من أعدائهم، فأمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم، ثم أمر بما يترتب على النبذ والتوقيت فيه وعود حالة الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وقتت بها العهود وهو مناجزة المشركين بكل نوع من أنواع القتال المعروفة في ذلك العصر من قتل وأسر وحصر وقطع طرق المواصلات، واستثنى منهم من يستجير الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بإجارته حتى يسمع كلام الله.
ومن المعلوم من قواعد الإسلام العملية تعظيم شأن العهود على اختلاف أنواعها، وعد الوفاء بها من أصول البر ومقتضى الإيمان، كما قال تعالى في آية البر وأهله من سورة البقرة بعد ذكر الإيمان والصلاة والزكاة ﴿ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ﴾[ البقرة : ١٧٧ ]، وكما قال في الوصايا الأساسية لهذا الدين من سورة الإسراء﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا ﴾ [ الإسراء : ٣٤ ] إلى آيات أخرى ذكرنا قارئ تفسيرنا بها في مواضع منه بمناسبة ذكر العهد، والمناسب منها لما هنا ما ورد في سورة الأنفال من وجوب الوفاء بالعهد وتحريم الخيانة كالآية ٥٦ و٥٨، وفي معناها أحاديث كثيرة حسبك منها حديث ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر )١ متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا.
ولما كان للوفاء بالعهد كل هذا الشأن في الإسلام كان نبذ عهود المشركين مما قد يظن بادي الرأي أنه مخل به، أو مما قد يظن قليل العلم بالقرآن والجمع بين نصوصه بالفهم الصحيح أن هذا النبذ ناسخ لوجوبه كما زعم بعضهم، أو أن ذلك التعظيم للوفاء بالعهد وتأكيده كان مقيدا بحال ضعف المسلمين كما قال آخرون مثل هذا في آيات العفو والصفح عن المشركين ؛ بل لما كان هذا النبذ مما يفتح باب الدس أو الطعن للمنافقين والتأويل للمرجفين في عصر التنزيل -وقد يعظم على بعض المسلمين ويخفى عليهم الجمع بينه وبين تلك الآيات الكثيرة التي هي نصوص في أن الوفاء بالعهد من فضائل الدين الأساسية ـ لما كان كل ما ذكر كما ذكر، بين الله تعالى لنا في هاتين الآيتين وما بعدهما كون هذا النبذ وما يترتب عليه لا ينافي ولا يجافي شيئا من تلك النصوص المحكمة، وإنما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنين أو بدونه.
فقال :
﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾ هذا الاستفهام للإنكار المشرب لمعنى التعجب، والخطاب للمؤمنين الذين رسخ خلق الوفاء في قلوبهم، وكان بعضهم عرضة لقبول كلام المنافقين في إنكار النبذ، والمعنى : بأية صفة وأية كيفية يثبت للمشركين عهد من العهود عند الله يقره لهم في كتابه وعند رسوله صلى الله عليه وسلم يفي لهم له وتفون به اتباعا له وحالهم الذي بينته الآية التالية تأبى ثبوت ذلك لهم ؟
﴿ إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ﴾ استثنى تعالى هؤلاء قبل أن يبين وجه انتفاء ثبوت العهد لغيرهم بأية صفة تثبت بها العهود بين الناس، وهم الذين استثناهم في الآية الرابعة، وقد تقدم ذكر الخلاف فيهم في تفسيرها، وزاد هنا﴿ عند المسجد الحرام ﴾ أي بجواره في الحديبية، وهو مما يقتضي تأكيد الوفاء بذلك بشروطه المبينة هناك وهنا.
وقد ذكر أبو جعفر بن جرير الروايات المختلفة في تفسير هذه الآية، ومنها قول ابن إسحاق ﴿ كيف يكون للمشركين ﴾ الذين كانوا وأنتم على العهد العام، بأن لا تمنعوهم ولا يمنعوكم من الحرم ولا في الشهر الحرام.
﴿ عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ﴾ وهي قبائل بني بكر الذين كانوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نقضها إلا هذا الحي من قريش وبنو الديل من بكر، فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته.
ثم قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال : هم بعض بني بكر من كنانة ممن كان أقام على عهده، ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش. وإنما قلت : إن هذا القول أولى الأقوال بالصواب ؛ لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام ما استقاموا على عهدهم. وقد بينا أن هذه الآيات إنما نادى بها علي في سنة تسع من الهجرة وذلك بعد فتح مكة بسنة، فلم يكن بمكة من قريش ولا من خزاعة كافر يومئذ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده ؛ لأن من كان منهم من ساكني مكة كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول هذه الآيات اه وهو رد للرواية التي تقدمت عن ابن عباس.
﴿ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ﴾ أي فمهما يستقم لكم هؤلاء فاستقيموا لهم، أو فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، إذ لا يجوز أن يكون الغدر ونقض العهد من قبلكم.
﴿ إن الله يحب المتقين ﴾ الذين يجتنبون قطع ما أمر الله به أن يوصل وغير ذلك من محارمه ومن أعظمها الغدر ونقض العهود كما تقدم في تفسير الآية الرابعة، فالظاهر الذي جرى عليه المفسرون أن هؤلاء المعاهدين المذكورين هم المذكورون هنالك، وإنما أعيد ذكر استثنائهم لتأكيده بشرطه المتضمن لبيان السبب الموجب للوفاء بالعهد وهو أن تكون الاستقامة عليه مرعية من كل واحد من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية مدته، وهذا زائد على ما هنالك من وصفهم بأنهم لم ينقصوا من شروط العهد شيئا، ولم يظاهروا على المسلمين أحدا، وتمهيد لبيان استباحة نبذ عهود الذين لا يستقيمون للمعاهد لهم إلا عند العجز عن الغدر، حتى إذا ما قدروا عليه نقضوا عهدهم أو نقصوا منه كما فعلت قريش في نقض عهد الحديبية بمظاهرتهم لحلفائهم من بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى :﴿ إلا الذين عاهدتم ﴾ إلى آخر الآية اعتراض بين قوله تعالى :﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾ وقوله المفسر له :﴿ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ( ٨ ) ﴾
برىء الله ورسوله من المشركين الذين عاهدهم المسلمون على ترك القتال وأمهلهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض أحرارا آمنين، وأمر تعالى بالأذان العام إلى الناس في يوم عيد النحر من الموسم العام ببراءة الله ورسوله من المشركين، ودعوتهم إلى التوبة من الشرك وعداوة الإسلام، وإنذارهم سوء عاقبة الإعراض، واستثنى من المعاهدين الذين نبذت إليهم عهودهم من وفوا بعهدهم ولم ينقصوا منه شيئا ولم يظاهروا على المؤمنين أحدا من أعدائهم، فأمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم، ثم أمر بما يترتب على النبذ والتوقيت فيه وعود حالة الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وقتت بها العهود وهو مناجزة المشركين بكل نوع من أنواع القتال المعروفة في ذلك العصر من قتل وأسر وحصر وقطع طرق المواصلات، واستثنى منهم من يستجير الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بإجارته حتى يسمع كلام الله.
ومن المعلوم من قواعد الإسلام العملية تعظيم شأن العهود على اختلاف أنواعها، وعد الوفاء بها من أصول البر ومقتضى الإيمان، كما قال تعالى في آية البر وأهله من سورة البقرة بعد ذكر الإيمان والصلاة والزكاة ﴿ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ﴾[ البقرة : ١٧٧ ]، وكما قال في الوصايا الأساسية لهذا الدين من سورة الإسراء﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا ﴾ [ الإسراء : ٣٤ ] إلى آيات أخرى ذكرنا قارئ تفسيرنا بها في مواضع منه بمناسبة ذكر العهد، والمناسب منها لما هنا ما ورد في سورة الأنفال من وجوب الوفاء بالعهد وتحريم الخيانة كالآية ٥٦ و٥٨، وفي معناها أحاديث كثيرة حسبك منها حديث ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر )١ متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا.
ولما كان للوفاء بالعهد كل هذا الشأن في الإسلام كان نبذ عهود المشركين مما قد يظن بادي الرأي أنه مخل به، أو مما قد يظن قليل العلم بالقرآن والجمع بين نصوصه بالفهم الصحيح أن هذا النبذ ناسخ لوجوبه كما زعم بعضهم، أو أن ذلك التعظيم للوفاء بالعهد وتأكيده كان مقيدا بحال ضعف المسلمين كما قال آخرون مثل هذا في آيات العفو والصفح عن المشركين ؛ بل لما كان هذا النبذ مما يفتح باب الدس أو الطعن للمنافقين والتأويل للمرجفين في عصر التنزيل -وقد يعظم على بعض المسلمين ويخفى عليهم الجمع بينه وبين تلك الآيات الكثيرة التي هي نصوص في أن الوفاء بالعهد من فضائل الدين الأساسية ـ لما كان كل ما ذكر كما ذكر، بين الله تعالى لنا في هاتين الآيتين وما بعدهما كون هذا النبذ وما يترتب عليه لا ينافي ولا يجافي شيئا من تلك النصوص المحكمة، وإنما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنين أو بدونه.
﴿ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ﴾ والمعنى كيف يكون للمشركين غير هؤلاء الذين جربتم وفاءهم عهد مشروع عند الله مرعي بالوفاء عند رسوله والحال المعهود منهم المعروف من أخلاقهم وأعمالهم أنهم إن يظهروا عليكم في القوة والغلب لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ؟ فالاستفهام واحد ووجه إنكار العهد ونفيه فيه مقيد بهذه الحال، وإنما أعيدت أداة الاستفهام للفصل المذكور.
يقال : ظهر عليه غلبه وظفر به، وأصله علاه، وأظهره عليه أعلاه عليه وجعله فوقه، ومنه ﴿ ليظهره على الدين كله ﴾ [ التوبة : ٣٣ ] وكذا أعلمه به. ورقب الشيء رعاه وحاذره وانتظره، قال في الأساس : ورقبه وراقبه حاذره ؛ لأن الخائف يرقب العقاب ويتوقعه، ومنه : فلان لا يراقب الله في أموره لا ينظر إلى عقابه فيركب رأسه في المعصية. وبات يرقب النجوم ويراقبها كقولك يرعاها ويراعيها اه. والإل القرابة. والذمة والذمام العهد الذي يلزم من ضيعه الذم كما في الأساس، وكان خفر الذمام ونقض العهد عندهم من العار، هذا أشهر الأقوال المأثورة في تفسيرهما هنا، وهو مروي عن ابن عباس من عدة طرق عند ابن جرير وغيره. وروي عن مجاهد أن الإل اسم الله عز وجل، والمعنى أنهم لا يرقبون الله في نقض عهدهم، وقد ورد لفظ إل وإيل من أسماء الله تعالى في العربية وشقيقتيها السريانية والعبرانية، وهو اسم إله من آلهة الكلدانيين كما بيناه بالتفصيل في فصل المسائل المتممة للآيات التي وردت في محاجة إبراهيم لقومه في أربابهم وشركهم ( ج٧ تفسير )، وروي عن قتادة تفسير الإل بالحلف والعقد والعهد وهي متقاربة المعنى.
وقد ذكر أبو جعفر بن جرير الروايات في هذه المعاني ثم قال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين - الذين أمر نبيه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وحصرهم، والقعود لهم على كل مرصد أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم إلا، والإل اسم يشتمل على معان ثلاثة : وهي العهد والعقد والحلف والقرابة وهو أيضا بمعنى الله، فإذا كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى فالصواب أن يعم ذلك كما عم بها جل ثناؤه معانيها الثلاثة فقال : لا يرقبون في مؤمن الله ولا قرابة ولا عهدا ولا ميثاقا. ومن الدلالة على أن يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل :
أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإل وأعراق الرحم
بمعنى قطعوا القرابة، وقول حسان بن ثابت :
لعمرك إن إلك من قريش كإل السقب من رأل النعامِ١
وأما معناه إذا كان بمعنى العهد فقول القائل :
وجدناهم كاذبا إلهم وذو الإل والعهد لا يكذب
وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من البصريين أن الإل والعهد والميثاق واليمين واحد، وأن الذمة في هذا الموضع التذمم ممن لا عهد له والجمع ذمم. وكان ابن إسحاق يقول : عنى بهذه الثلاثة أهل العهد العام اه.
وأقول : إن ألفاظ الإل والعهد والميثاق واليمين يختلف مفهومها اللغوي، وقد تتوارد مع هذا على حقيقة واحدة بضروب من التخصيص، فالعهد ما يتفق رجلان أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقا وهو مشتق من الوثاق بالفتح وهو الحبل والقيد، وإن أكداه باليمين خاصة سمي يمينا، وقد يسمى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده، واليمين في الأصل اليد المقابلة للشمال والخلف. والظاهر أن من استعمل الإل بمعنى العهد أراد به المطلق منه، ومن هذه الألفاظ الحلف بالكسر وهو المحالفة، أصله من مادة الحلف أي اليمين. وقول ابن إسحاق : إن الكلام هنا في أهل العهد العام أراد بهم غير من استثناهم الله تعالى في الآية السابقة والآية الرابعة، والصواب أنه يشمل أهل العهد الذين غدروا، ويشمل من لا عهد لهم من المشركين بالأولى ؛ لأنهم لشدة عداوتهم للمؤمنين لم يريدوا في وقت من الأوقات أن يقيدوا أنفسهم معهم بعهد سلم مطلق ولا موقت، فإن لم يشملهم بالنص شملهم بالحكم.
﴿ يرضونكم بأفواههم ﴾ أي يخادعونكم في حال الضعف بما ينبذون به من الكلام العذب الذي يرون أنه يرضيكم، سواء كان عهدا أو وعدا أو يمينا مؤكدة لهما.
﴿ وتأبى قلوبهم ﴾ المملوءة بالحقد والضغن أن تصدق أفواههم :﴿ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ﴾ [ الفتح : ١١ ]، فهم إن ظهروا عليكم نكثوا العهود، وحنثوا بالأيمان، وفتكوا بكم جهد طاقتهم.
﴿ وأكثرهم فاسقون ﴾ أي خارجون من قيود العهود والمواثيق، متجاوزون لحدود الصدق والوفاء، فالفسق على معناه في أصل اللغة وهو الخروج والانفصال، يقولون فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، ويفسر في كل مقام بها يناسبه، وإنما وصف أكثرهم بالفسوق لأنهم الناكثون الناقضون لعهودهم، وأقلهم الموفون، وهم الذين استثناهم الله تعالى، وأمر المؤمنين بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم.
هذا بيان مستأنف لمن عساه يستغرب غلبة الفسق والخروج من دائرة الفضائل الفطرية والتقليدية على أكثرهم حتى مراعاة القرابة والوفاء بالعهد الممدوحين عندهم، ويسأل عن سببه، وجوابه :﴿ اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ﴾ أي إنهم استبدلوا بآيات الله الدالة على وجوب توحيده بالعبادة، وعلى بعثه للناس وجزائهم على أعمالهم وعلى الوحي والرسالة وما فيها من الهداية، ثمنا قليلا من متاع الدنيا، وهو ما هم فيه من أسباب المعيشة، وكثيره عند كبرائهم قليل بالنسبة إلى ما عند غيرهم من أمم الحضارة، وما عند أغنى هؤلاء قليل بالإضافة إلى ما وعد الله تعالى المؤمنين في الدنيا، وأن ما وعدهم به في الآخرة لهو خير وأبقى.
وقيل : إن المراد بآيات الله تعالى العهود والأيمان أو ما دل على وجوب الوفاء بها من كتابه، وروي أن أبا سفيان لما أراد حمل قريش وحلفائها على نقض عهد الحديبية صنع لهم طعاما استمالهم به فأجابوه إليه، فهو المراد بالثمن القليل، وعن ابن عباس أن أهل الطائف أمدوهم بالمال لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول هو الظاهر، وهو المناسب لما بعده المعطوف عليه بفاء السببية من قوله تعالى :﴿ فصدوا عن سبيله ﴾ الخ، وصد يستعمل لازما فيقال صد فلان عن الشيء صدودا بمعنى أعرض عنه وانصرف فلم يلو عليه، ومتعديا فيقال : صده عنه إذا صرفه ولفته عنه وزهده فيه أو منعه منه بالقوة، ويصح إرادة المعنيين هنا أي فصدوا بسبب هذا الشراء الخسيس، وأعرضوا عن سبيل الله وهو الإسلام وما يقتضيه من الوفاء بالعهود، وصدوا غيرهم وصرفوهم عنه أيضا.
﴿ إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾ أي إنهم ساء عملهم الذي كانوا يعملونه من اشتراء الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى، والصدود والصد عن دين الله وما جاء به رسوله من البينات والحق.
﴿ وأولئك هم المعتدون ﴾ لحدود العهود من دونكم والبادئون لكم بالقتال كما فعلوا فيما مضى، وكذلك يفعلون فيما يأتي، والعلة في اعتدائهم وتجاوزهم هو رسوخهم في الشرك، وكراهتهم للإيمان وأهله لا لكم وحدكم، فلا علاج لهم إذا إلا الرجوع عن كفرهم والاعتصام معكم بعروة التوحيد والإيمان، وما تقتضيه من الأعمال الصالحة وفضائل الأخلاق.
هذا بيان لما سيكون من أمر هؤلاء المشركين بعد تلك العداوة للإسلام وأهله، وهو لا يعدو أمرين فصلهما تعالى وبين حكم كل منهما في هاتين الآيتين.
قال :﴿ فإن تابوا ﴾ عن شركهم وصدهم عن سبيل الله من آمن به بالفعل ومن يريد الإيمان أو يتوقع منه، وما يلزم ذلك من نقض العهود وخفر الذمم.
﴿ وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ بدخولهم في جماعة المسلمين الذي لا يتحقق بعد الشهادتين إلا بإقامة هذين الركنين من أركان الإسلام، كما تقدم تفصيله في تفسير الآية الخامسة.
﴿ فإخوانكم في الدين ﴾ لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، وبهذه الأخوة يهدم كل ما كان بينكم وبينهم من عداوة. وهو نص في أن أخوة الدين تثبت بهذين الركنين ولا تثبت بغيرهما من دونهما، والثاني مقيد بشرطه وهو ملك النصاب مدة الحول، والكلام في جملة المشركين وفيهم الغني والفقير، وهل يتعارف الأخوان في الدين إلا بإقامة الصلوات في المساجد وسائر المعاهد، وبأداء الصدقات للمساواة بينهم ولإقامة غيرها من المصالح ؟ وهذه الأخوة أول مزية دنيوية للإسلام، فإن المشركين كانوا محرومين من هذه الأخوة العظيمة، بعضهم حرب لبعض في كل وقت إلا ما يكون من عهد أو جوار قلما يفي به القوي للضعيف دائما.
﴿ ونفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ أي ونبين الآيات المفصلة للدلائل، الفاصلة بين الإيمان والكفر وبين الحق والباطل، والمفرقة بين الفضائل والرذائل، لقوم يعلمون وجوه الحجج والبراهين، فهم الذين يعقلونها دون الجاهلين من متبعي الظنون والمقلدين.
روى ابن جرير في تفسير الآية عن ابن عباس قال : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة. وروي عن ابن زيد قال : افترضت الصلاة والزكاة جميعا لم يفرق بينهما وقرأ ﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ﴾ وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال : رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه. وروى عن عبد الله أي ابن مسعود قال : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له. اه وروى غيره عنه أنه قال كما قال ابن زيد بعده : رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه. يعني بهذا قوله : والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما.
وفي تفسير هذه الآية مباحث :
الأول : أن الشرط فيها كالشرط في الآية الخامسة، وإنما اختلف الجواب لمناسبة السياق : وردت تلك الآية تالية تلو الأمر بقتل المشركين، فناسب أن يكون جواب الشرط فيها الأمر بتركه وهو قوله تعالى :﴿ فخلوا سبيلهم ﴾، ووردت هذه الآية تلو إثبات رسوخ المشركين في كفرهم وضلالهم وصدهم عن سبيل الله وكونه هو الباعث لهم على قتال المؤمنين ابتداء ثم على نقض عهودهم، فناسب أن يذكر في جواب شرطها ﴿ فإخوانكم في الدين ﴾ وهذه أجلب لقلوبهم وأشد استمالة لهم إلى الإسلام كما قال بعض المفسرين.
المبحث الثاني : استدل بعضهم بها على كفر كل من تارك الصلاة ومانع الزكاة، ذلك بأنه تعالى اشترط فيها لتحقق أخوة الإيمان والدخول في جماعته ثلاثة أشياء : التوبة من الكفر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فانتفاء أحد هذه الثلاثة يقتضي انتفاء ما جعلت شرطا له وهو الإسلام، وتفصي بعضهم من هذا بادعاء أن العبارة إنما تدل على حصول الإسلام بحصول هذه الثلاثة فقط دون انتفائه بانتفائها فهذا يحتاج إلى دليل خارجي، وأرجع ذلك إلى ما زعمه من أن التعليق بكلمة «إن » إنما يدل على استلزام المعلق للمعلق عليه حصولا لا انتفاء، فهو لا يقتضي انعدامه بانعدامه لجواز أن يكون المعلق لازما أعم فيتحقق بدون ما جعل ملزوما له.
وهذا من الجدليات اللفظية الباطلة فليس في المقام إلا مسألة الاحتجاج بمفهوم الشرط، وهو من ضروريات اللغة، كما بيناه في هذه المسألة نفسها من تفسير الآية الخامسة، وما أوردوا على أطراده من بعض النصوص التي لا يظهر فيها القول بالمفهوم فمنه ما سببه ضعف الفهم، ومنه ما له سبب خارج عن مدلول اللغة، فمن ذلك قوله تعالى :﴿ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ﴾ [ النور : ٣٣ ] بناء على أن مفهومه عدم النهي عن إكراههن إن لم يردن التحصن، وهو غفلة ظاهرة عن كون الإكراه إنما يتحقق عند إرادة التحصن، ولا يعقل عند عدمها، وهو بذل العرض وبيع البضع، ومنه قوله تعالى :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ﴾ [ النساء : ٣١ ] استشكل الأشاعرة القول بمفهومه على مذهبهم، وما هو بمشكل إلا من حيث يكون حجة لخصومهم المعتزلة على عدم مغفرة الكبائر، وما زال المتعصبون للمذاهب يجنون على اللغة وعلى نصوص التنزيل لإبطال حجج خصومهم، على أن المعلق على اجتناب الكبائر هنا أخص من المغفرة، وهو أمران : تكفير السيئات والمدخل الكريم. وأين هذا وذاك مما نحن فيه من اشتراط شروط للانتقال من أمر إلى ضده المساوي لنقيضه أي من الكفر إلى الإيمان ؟ هل يعقل أن يقال إن الإيمان يحصل بحصول شروطه وإقامة أعظم أركانه ولا ينفى بانتفائها ؟ إلا أنه لا يعقل في حال النظر إلى الحقيقة نفسها وهي ظاهرة لا حجاب عليها، ولكنه وقع بالفعل ممن صرف بصره عنها، وأراد معرفتها بالاصطلاحات الجدلية، والتعصب للمذاهب الكلامية أو الفقهية.
والحق في أصل المسألة ما حققناه في شرط الآية الخامسة، وإنما ذكرنا هذا هنا لأن الذي أورد التفصي المذكور بهذه القاعدة هو إمام الجدليين فخر الدين الرازي، أورده مختصرا، ونقله الآلوسي عازيا إياه إلى «بعض جلة الأفاضل »، وفصله بأوسع مما قاله الرازي، فأردنا أن لا يغتر به من يغترون عادة بكل مباحث هؤلاء الأفاضل، والذي دعا الرازي وغيره إلى التفصي من دلالة الآية على انتفاء أخوة الإسلام بانتفاء أداء الزكاة استشكالهم إياه بالفقير الذي لا يجب عليه ولا تقع منه، وبالغني قبل وجوبها عليه بمرور الحول، وأجابوا عنه في حال تسليم تلك القاعدة بأن من لم يكن أهلا لوجوب الزكاة عليه بالفعل تجب عليه ويكتفى منه بأن يقر بحكمها ويلتزمه عند وجوبه.
وقد بينا من قبل أن الكلام في هذا المقام إنما هو فيما يشترط على جماعة المشركين في خروجهم منها ودخولهم في جماعة المسلمين، وهو الإذعان لشرائع الإسلام بالإجمال ولفريضتي الصلاة والزكاة بالتعيين والتفصيل، وأما أفراد المشركين فإنما يطالبون بكل من فريضتي الصلاة والزكاة بالفعل عند تحقق فرضيتها على كل منهم، ومنهم من لا تفرض عليه الزكاة مطلقا، ومنهم من تفرض عليه بعد حول أو أكثر، ومثله من أسلم بعد طلوع الشمس لا تجب عليه الصلاة إلا بدخول وقت الظهر، ويكفي في أخوة الإسلام من كل من الفريقين قبل افتراض الصلاة والزكاة عليهما التوبة من الكفر والإقرار بالشهادتين مع الإذعان لما يقتضيانه من عمل بدني ونفسي بالإجمال كما فصلناه في تفسير الآية الخامسة أيضا وما هو بعيد.
المبحث الثالث : وهو لغوي محض، إن لفظ أخ أصله أخو ومثناه أَخَوان وفي لغة أخان. ويجمع على إخوة وإخوان بكسر الهمزة فيهما، وكل منهما يستعمل في أخوَّة النسب القريب -أي الأخوَّة من أحد الأبوين أو كليهما- والنسب البعيد -كالجنس والقبيلة- وفي أخوة الرضاع وأخوة الدين وأخوة الصداقة، وقد نطقت هذه الآية باستعمال لفظ الإخوان في أخوة الدين، ومثلها في الموالي ﴿ فإخوانكم في الدين ﴾ [ التوبة : ١١ ] وجاء في أخوة الكفر ﴿ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ [ الحشر : ١١ ] الخ وأما استعمال جمع إخوة في أخوة الدين ففيه قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ [ الحجرات : ١٠ ] وسائر استعماله في أخوة النسب.
المبحث الرابع : هذه الأخوة الدينية مما يحسدنا عليها جميع أهل الملل، فهي لا تزال أقوى فينا منها فيهم ترادفا وتعاونا، وعاصمة لنا من فوضى الشيوعية وأثرة المادية وغيرها، على ما منيت به شعوبنا من الضعف واختلال النظام، واختلاف الجنسيات والأحكام، ولقد كانت في عصر السلف الصالح اشتراكية اختيارية أوسط أحوالها مساواة المسلم أخاه بنفسه، وأعلاها إيثاره على نفسه وأهله وولده، قال تعالى في أنصار رسوله صلى الله عليه وسلم ومعاملتهم للمهاجرين من أصحابه ﴿ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ [ الحشر : ٩ ] وأما المواساة بما دون المساواة فقد كانت عامة في خير القرون، ثم صارت تضعف قرنا بعد قرن، ولا يزال لها بقية صالحة بين أصحاب الأخلاق المحمودة ولله الحمد.
هذا بيان لما سيكون من أمر هؤلاء المشركين بعد تلك العداوة للإسلام وأهله، وهو لا يعدو أمرين فصلهما تعالى وبين حكم كل منهما في هاتين الآيتين.
﴿ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ﴾ هذا بيان للأمر الثاني من أحوال المشركين. نكث الغزل أو الحبل ضد إبرامه، وهو نقض فتله وحل الخيوط التي تألف منها وإرجاعها إلى أصلها، ومنه ﴿ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ﴾ [ النحل : ٩٢ ] والأيمان العهود، يضع كل من العاقدين للعهد يمينه في يمين الآخر، أو ما يوثق منها بالقسم كما تقدم. ونكث الأيمان هنا يقابل فيما قبله استقامتهم عليها، والطعن في ديننا في الجملة التالية يقابل فيما قبله توبتهم من الكفر به بدخولهم في جماعته، والمعنى : وإن نكث هؤلاء المشركون ما أبرمته أيمانهم أو ما أقسموا عليه أيمانهم من الوفاء بعد عهدهم الذي عقدوه معكم.
﴿ وطعنوا في دينكم ﴾ أي عابوه وثلبوه بالاستهزاء به وصد الناس عنه وهو الذي عابه عليهم في الآيات المقابلة لهذه، ومنه الطعن في القرآن وفي النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل شعراؤهم الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم، فهذا العطف بيان للواقع وإيذان بأن الطعن في الإسلام ضرب من ضروب نكث الأيمان، ونقض السلم والولاء، كالقتال ومظاهرة الأعداء، فهو من عطف الخاص على العام، وليس المراد به تقييد حل قتالهم بالجمع بين الأمرين، بل هو كقوله :﴿ ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا ﴾[ التوبة : ٤ ].
﴿ فقاتلوا أئمة الكفر ﴾ أي قادة أهله وحملة لوائه، فوضع الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع ضميرهم، وقيل : إن المراد بأئمة الكفر رؤساء المشركين وصناديدهم الذين كانوا يغرونهم بعداوة النبي صلى الله عليه وسلم ويقوونهم لقتاله، وذكر بعض من قال هذا منهم أبا سفيان وأبا جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف ممن كان قتل في بدر أو بعدها، وذلك من الغفلة بمكان لأن السورة نزلت بعد غزوة تبوك وبعد فتح مكة وفي أثنائه أسلم أبو سفيان، وهذه الأحكام إنما تثبت بعد أربعة أشهر من تاريخ تبليغها في يوم النحر من سنة تسع كما تقدم. وحملها بعضهم على الخوارج، وبعضهم على فارس والروم، وبعضهم على المرتدين بجعل الضمائر فيها راجعة إلى الذين تابوا وأقاموا الصلاة الخ، واختاره الزمخشري إذ قال في تفسير ﴿ فقاتلوا أئمة الكفر ﴾ : فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم إشعارا بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمردا وطغيانا وطرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدم فيه، لا يشق كافر غبارهم، وقالوا : إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله ؛ لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة اه.
ولا أدري ما الذي حمل هؤلاء المفسرين على إخراج الآية عن ظاهرها حتى إنهم رووا عن علي وحذيفة رضي الله عنهما أنهما قالا : ما قوتل أهل هذه الآية بعد، يعنون أنها نزلت في قوم يأتون بعد، وزعم بعضهم أنهم الدجال وقومه من اليهود، والحق أنها صريحة في مشركي العرب أصحاب العهود مع المؤمنين من بقي منهم، ويدخل في حكمها كل من كانت حاله مع المؤمنين كحالهم. فكل من يجمع بين عداوتهم بنكث عهودهم والطعن في دينهم فيجب عده من أئمة الكفر ولهم حكمهم، ومن لم يرهم أهلا لعقد العهد معه على قاعدة المساواة فهو أعدى وأظلم ممن ينكثون الأيمان، وذلك ما نشاهده من الجامعين بين الاعتداء على شعوبنا وبلادنا وبث الدعاة فيها للطعن في ديننا لصدنا عنه واستبدال دينهم به، أو جعلنا معطلين لا دين لهم.
وقد علل تعالى الأمر بقتالهم بقوله :﴿ إنهم لا أيمان لهم ﴾ أي إن عهودهم كلا عهود، لأنها مخادعة لسانية لم يقصدوا الوفاء بها ﴿ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ﴾ [ الفتح : ١١ ] فهم ينقضونها في أول وهلة يستطيعون فيها ذلك بالظهور أو المظاهرة عليكم.
وقرأ ابن عامر إيمان بكسر الهمزة على أنها مصدر آمنه إيمانا بمعنى إعطاء الأمان. وقرأ هو وعاصم وحمزة والكسائي وروح عن يعقوب أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل والباقون بتليين الثانية، وأما قلبها ياء فليس قراءة ولا لغة ؛ بل هو لحن لا يجوز كما قالوا.
﴿ لعلهم ينتهون ﴾ أي قاتلوهم راجين بقتالكم إياهم أن ينتهوا عن كفرهم وشركهم وما يحملهم عليه من نكث أيمانهم ونقض عهودهم والضراوة بقتالكم كلما قدروا عليه، وهو يتضمن النهي عن القتال اتباعا لهوى النفس أو إرادة منافع الدنيا من سلب وكسب وانتقام محض بالأولى، وتقدم نظيره في تفسير﴿ فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ﴾ [ الأنفال : ٥٧ ] وهذا مما امتاز به الإسلام على جميع شرائع الأمم وقوانينها من جعل الحرب ضرورة مقيدة بإرادة منع الباطل، وتقرير الحق والفضائل.
واستدل الحنفية بالآية على أن يمين الكافر لا تنعقد، ولو كان كذلك لما وجب علينا الوفاء لمن وفى بها منهم واستقام على وفائه، والآيات صريحة في الوجوب، وإنما نفاها عن الناكثين، وأعلمنا أنهم كانوا عازمين على النكث من أول وهلة وهو علام الغيوب، ولو لم يكن لهم أيمان على الإطلاق لما كان لهم نكث، وقد أثبتتهما لهم الآية التالية.
لعل الله علم أن في نفس جماعة من المؤمنين كرها لقتال من بقي من المشركين بعد فتح مكة وظهور الإسلام لأمنهم من ظهورهم عليهم ورجائهم في إيمانهم، وعلم أنهم يعتذرون لأنفسهم في سرائرهم بما ليس بحق ولا مصلحة للإسلام، وعلم الله أنه يوجد فيهم من المنافقين ومرضى القلوب من يزين ذلك لهم، والله يريد بهذه الأحكام تطهير جزيرة العرب من الشرك وخرافاته وتمحيص المؤمنين من النفاق ودناءاته ؛ لهذا أعاد الكرة إلى إقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين المعتدين منهم بهذه الآيات الجامعة.
فقال عز وجل :
﴿ ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة ﴾ هذا تحريض على قتالهم بأوجه وجوه الأدلة وأقواها، وأوضح أساليب البيان وأسماها، وهو أن الاستفهام للإنكار الذي يحيل النفي إثباتا كما يحول الإثبات إلى النفي، وقد دخل هنا على نفي القتال فكان دليلا على إثباته ووجوبه، وأقام على هذا الوجوب ثلاث حجج.
أحدها : نكثهم لأيمانهم التي حلفوها لتأكيد عهدهم الذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية أو لعهدهم الذي عقدته أيمانهم على ترك القتال عشر سنين يأمن بها الناس من الفريقين على أنفسهم ويكونون أحرارا في دينهم، فلم يلبثوا أن نكثوا بمظاهرة حلفائهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وكان ذلك ليلا بالقرب من مكة على ماء يسمى الهجير، فكان نكثهم هذا من أفظع ما عهد من الغدر كما يدل عليه الشعر الذي أنشده عمرو بن سالم الخزاعي وهو واقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان جاءه لينبئه بذلك وهو قوله :
لا همّ إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا١
كنت لنا أبا وكنا ولدا ثُمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصرهداك الله نصرا أيدا وادعُ عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا في فيلق كالبحر يجري مزبدا
أبيض مثل الشمس يسمو صعدا إن سيم خسفاً وجهه تربّدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيتونا بالهجير هجَّدا وقتلونا ركعا وسجدا
وزعموا أن لست ترعى أحدا وهم أذل وأقل عددا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم( لا نصرت إن لم أنصركم )، وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة. هكذا رواه ابن إسحاق ونقله عنه البغوي وغيره.
ثانيها : همهم بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من وطنه أو حبسه حيث لا يرى أحدا ولا يراه أحد حتى لا يبلغ دعوة ربه، أو قتله بأيدي عصبة مؤلفة من شبان بطون قريش كلها ليتفرق دمه في القبائل فتتعذر المطالبة به. ائتمروا فيما بينهم بذلك في دار ندوتهم، فكان هو الحامل له على الخروج إلى دار الهجرة، ولذلك اقتصر هنا على ذكر همهم بإخراجه دون همهم بحبسه وهمهم بقتله الذي كان هو الراجح عندهم كما مر تفصيله في تفسير قوله تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] بل أسند إليهم إخراجه وإخراج من هاجر من المؤمنين في أول سورة الممتحنة ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ﴾ [ الممتحنة : ١ ].
ثالثها : كونهم كانوا هم البادئين بقتال المؤمنين في بدر ؛ إذ قالوا بعد العلم بنجاة العير التي كانوا خرجوا لإنقاذها : لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه، ونقيم في بدر أياما نشرب الخمر وتعزف على رؤوسنا القيان، وكذا في أحد والخندق وغيرها، ثم بغدرهم بعد صلح الحديبية كما تقدم، ( والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين )٢ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في جوامع كلمه متفق عليه من حديث أبي هريرة، ومن المقرر في قواعد العدل العامة أن الجزاء واحدة بواحدة، البادئ أظلم.
ثم قال بعد بيان هذه الحجج ﴿ أتخشونهم ﴾ أي أتتركون قتالهم خشية لهم وجبنا منكم ؟ إن كانت الخشية هي المانعة لكم من قتالهم ﴿ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ﴾ فإن المؤمن حق الإيمان لا يخاف ولا يخشى إلا الله تعالى لعلمه بأنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء، فإن خشي غيره بمقتضى سننه تعالى في أسباب الضر والنفع فلا يرجح خشيته على خشية الله تعالى بأن تحمله على عصيانه ومخالفة أمره، بل يرجح خشيته تعالى على خشية غيره، بل لا يخشى غيره حق الخشية.
قيل : إن هذا الاستفهام للإنكار والتوبيخ للمؤمنين، وهذا لا يصح إلا إذا كان تعالى قد علم منهم أنهم يريدون الامتناع عن قتال المشركين خوفا منهم على أنفسهم، وهذا غير معقول، ولا سيما في الحال التي أنزلت فيها هذه الآيات بعد فتح مكة وهدم دولة الشرك، وقد كانوا يقاتلونهم بغير جبن ولا إحجام وهم قليل مستضعفون، والمشركون في عنفوان قوتهم دولة وكثرة وثروة. وإنما هذا احتجاج آخر على جماعة المسلمين الذين لا يخلون من المنافقين ومرضى القلوب والسماعين لهم من المؤمنين الذين كانوا يعظمون ما عظم الله ورسوله من أمر الوفاء بالعهد، ويكرهون القتال لذاته إذا لم توجبه الضرورة كما قال تعالى :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ] الآية، أو لرجاء انتشار الإسلام بدونه بعد فتح مكة والطائف وهدم دولة الشرك، فهذا الذي اقتضى كل هذه الحجج والبينات على كون نبذ عهود جمهور المشركين دون من وفى منهم بعهده حقا وعدلا، لا يتضمن خيانة ولا غدرا، وأن بقاءهم على حريتهم -وهذه حالهم- خطر لا تؤمن عاقبته.
فهو تعالى يقول للمؤمنين بعد سوق تلك الحجج الثلاث التي تكفي كل واحدة منها لإيجاب قتالهم : إنه لم يبق بعد قيام هذه البينات من سبب يمنع من قتالهم إلا أن يكون الخشية لهم والخوف من قوتهم، وخشية الله أحق وأولى من خشيتهم، فإن كنتم موقنين في إيمانكم فاخشوه وحده عز وجل، وقد رأيتم كيف نصركم عليهم في تلك المواطن الكثيرة ؛ إذ كنتم ضعفاء وكانوا أقوياء. وفيه دليل على أن المؤمن حق الإيمان يكون أشجع الناس وأعلاهم همة ؛ لأنه لا يخشى إلا الله عز وجل.
ثم إنه بعد إقامة هذه الحجج البينة على وجوب قتالهم ودحض شبهة المانع منه صرح بالأمر القطعي به مع الوعد القطعي بإظهار المؤمنين عليهم أكمل الظهور وأتمه، وهذا الوعد من أخبار الغيب التفصيلية في حال معينة، فهو ليس كالوعد العام المجمل في نصر الله لرسله وللمؤمنين الذي يراد به أن العاقبة تكون لهم، ولا يمنع أن تكون الحرب قبلها سجالا لتربية المؤمنين، وقد صدق وعده تعالى مجملا ومفصلا.
ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تدعو أحدا
وهـــم أذل وأقــل عــددا هـــم بيوتنــا بالوتـيــر هجَّـدا.
٢ ـ أخرجه البخاري في الأدب باب ٨٣، ومسلم في الزهد حديث ٦٣، وأبو داود في الأدب باب ٢٩، وابن ماجه في الفتن باب ١٣، والدارمي في الرقاق باب ٦٥، وأحمد في المسند ٢/ ١١٥، ٣٧٩..
لعل الله علم أن في نفس جماعة من المؤمنين كرها لقتال من بقي من المشركين بعد فتح مكة وظهور الإسلام لأمنهم من ظهورهم عليهم ورجائهم في إيمانهم، وعلم أنهم يعتذرون لأنفسهم في سرائرهم بما ليس بحق ولا مصلحة للإسلام، وعلم الله أنه يوجد فيهم من المنافقين ومرضى القلوب من يزين ذلك لهم، والله يريد بهذه الأحكام تطهير جزيرة العرب من الشرك وخرافاته وتمحيص المؤمنين من النفاق ودناءاته ؛ لهذا أعاد الكرة إلى إقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين المعتدين منهم بهذه الآيات الجامعة.
فقوله :﴿ قاتلوهم ﴾ معناه باشروا قتالهم كما أمرتم، فإنكم إن تقاتلوهم ﴿ يعذبهم الله يأيديكم ﴾ بتمكينها من رقابهم قتلا، ومن صدورهم ونحورهم طعنا، يعقبهم في قلوبهم يأسا، لا يدع في أنفسهم بأسا، فالظاهر أنه تعالى أسند التعذيب إلى اسمه ؛ لأنه أمر زائد على أسبابه من الطعن والضرب، وما يفضيان إليه من القتل والجرح، وكل قوم يقاتلون فإنهم يصابون بالطعن والضرب، ويقتل بعضهم ويجرح بعض، ولا يسمون معذبين بذلك وحده فإن الغالب والمغلوب فيه سواء، وإنما يدل هذا الإسناد على أنه تعالى سيحدث في أنفس المشركين في هذا القتال ألما نفسيا لعل أظهر أسبابه اليأس، ولذلك قال :﴿ ويخزهم ﴾ بذل الأسر والقهر والفقر لمن لم يقتل منهم.
﴿ وينصركم عليهم ﴾ أكمل النصر وأتمه، بحيث لا يعود لهم بعد هذه المرة قوة ولا سلطان يعودون به إلى قتالكم، كما كان شأنهم بعد نصركم عليهم في بدر وغيرها.
﴿ ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾ كان هؤلاء المشركون قد نالوا منهم ما نالوا في سلطانهم، فكان في صدورهم من موجدة القهر والذل ما لا شفاء له إلا بهذا النصر عليهم، وهؤلاء المؤمنون هم الذين غدر بهم المشركون كخزاعة، والذين كانوا في دار الشرك عاجزين عن الهجرة.
لعل الله علم أن في نفس جماعة من المؤمنين كرها لقتال من بقي من المشركين بعد فتح مكة وظهور الإسلام لأمنهم من ظهورهم عليهم ورجائهم في إيمانهم، وعلم أنهم يعتذرون لأنفسهم في سرائرهم بما ليس بحق ولا مصلحة للإسلام، وعلم الله أنه يوجد فيهم من المنافقين ومرضى القلوب من يزين ذلك لهم، والله يريد بهذه الأحكام تطهير جزيرة العرب من الشرك وخرافاته وتمحيص المؤمنين من النفاق ودناءاته ؛ لهذا أعاد الكرة إلى إقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين المعتدين منهم بهذه الآيات الجامعة.
﴿ ويذهب غيظ قلوبهم ﴾ الذي كان وقر فيها إلى هذا العهد من غدر المشركين، ومن ظلمهم لمن لم يكن له مجير من المسلمين، فشفاء الصدور بعز الإسلام بالنصر العام الشامل لهؤلاء ولغيرهم هو غير ذهاب ما في قلوبهم من الغيظ والحقد على من غدرهم وظلمهم.
ولما كان من أسباب كراهة المؤمنين لقتالهم حرصهم بعد ظهور الإسلام بفتح مكة على إيمانهم بالإقناع كما تقدم قريبا أخبرهم الله تعالى بأن هذا التعذيب والخزي الذي سينزله بهم لا يعمهم، وإنما هو خاص بمن استحوذ عليهم الكفر وأحاط بهم حتى لم يبق فيهم استعداد للإيمان، وأن غيرهم سيتوب من شركه ويقبل، فقال :﴿ ويتوب الله على من يشاء ﴾ منهم، فيوفقه للإيمان ويقبله منه.
﴿ والله عليم حكيم ﴾ يعلم ما لا تعلمون من استعدادهم في حالهم ومستقبل أمرهم، ويشرع لكم من الأحكام فيهم ما تقتضيه حكمته في إقامة دينه وإظهاره على الدين كله، فمشيئته في التائبين والمصرين تجري بمقتضى علمه المحيط بشؤون خلقه وحكمته البالغة في السنن التي وضعها لسير الاجتماع البشري وفي الأحكام التي شرعها لهداية الناس.
ومن سنته تفاوت البشر في العقائد والأخلاق والأعمال، وقابلية التحول من حال إلى حال، كدرجات تأثير الشرك في أنفس الأفراد من قوة يترتب عليها الإصرار إلى الممات، وضعف قابل للزوال في بعض الأوقات، بما يطرأ على أصحابها من الأسباب والمؤثرات، وليست مشيئته تعالى في التوبة على من يتوب عليه منهم إكراها على الإيمان كما تزعمه الجبرية، ولا من الخلق الأُنُف الذي تزعمه القدرية. بل هو بحسب المقادير الإلهية الثابتة بآيات التنزيل ونظام الاجتماع، فلو كان بالجبر والإكراه لما كان لهم فيه اختيار، يستحقون به دخول الجنة والنجاة من النار، ولو كان بالخلق المستأنف لكان من قبيل المحاباة في التفضيل الإلهي المحض لبعضهم على بعض، وذلك ينافي العدل والحكمة. وحاش لله من ذلك، ما كان لله أن يحابي أعدى أعداء رسوله وأبغضهم إليه صلى الله عليه وسلم كوحشي قاتل حمزة أخيه في الرضاع وعمه، وأبي سفيان المحرض الأكبر للعرب على قتاله، وعكرمة بن أبي جهل فرعون هذه الأمة، فيخلق لهم الإيمان ويجبرهم عليه، من حيث يحرم منه أبا طالب عمه وناصره بعصبة النسب وهو أحبهم إليه.
وقد استدلت المجبرة -ومنهم جمهور الأشعرية- بهذه الآية على الجبر ونفي الاختيار فيما هو أظهر مما ذكر، وهو إخباره تعالى بأنه هو الذي يعذب المشركين، فيقتل بعضهم ويجرح آخرين بأيدي المؤمنين، فهذا يدل بزعمهم على أن أيديهم كسيوفهم ورماحهم ليست إلا آلات لا تأثير لها ألبتة، وأن الكسب الذي هو مناط التكليف اسم لا مسمى له، ودلالة هذه الجملة عندهم أقوى في المسألة من دلالة قوله تعالى :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾ [ الأنفال : ١٧ ]، فإن في هذا إثباتا لإسناد الرمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة مباشرته لأخذ التراب من الأرض، وإلقائه على المشركين، أو في جهتهم مع نفيه عنه ثم إسناده إلى الله تعالى من جهة أثر، ه وهو وصول التراب إلى وجوههم، وأما ههنا فقد أسند التعذيب إلى الله وحده وأنه يفعله بأيدي المؤمنين. وقد بينا آنفا أن لهذا التعذيب معنى وراء القتل والجرح الذي هو كسب المؤمنين وعملهم هو فعل الله وحده، على أن الحق فوق المذهبين وإن أريد بالتعذيب القتل والجرح، كما تعلم من قول كبيري نظارهم، وما نقفي به عليه تأييده للمأثور عن السلف :
أجاب الجبائي إمام المعتزلة عن الآية محتجا على المجبرة بأنه لو جاز أن يقال : إنه تعالى يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين، لجاز أن يقال : إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين، ولجاز أن يقال : إنه يكذب أنبياءه على ألسنة الكفار، ويلعن المؤمنين على ألسنتهم، لأنه تعالى خالق لذلك، فلما لم يجز ذلك عند المجبرة علم أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد، وإنما نسب ما ذكر إلى نفسه على سبيل التوسع، من حيث إنه حصل بأمره وألطافه، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير اه.
حكى عنه هذا الجواب الرازي مدره١ الأشاعرة في تفسير للآية، وقال : إن أصحابه يجيبون عنه بما خلاصته أنهم يلتزمون كل ما ألزمهم إياه اعتقادا، وإن كانوا لا ينطقون به أدبا مع الله تعالى، والرازي جبري قح، ولا يلتزم كل الأشاعرة ما يلتزمه ويسنده إليهم، فهذا البيضاوي من فحولهم يفسر تعذيب المشركين بأيدي المؤمنين بتمكينهم منهم، وقد سبق لنا في مواضع من هذا التفسير تفنيد المذهبين، وبيان أن خلقه تعالى لكل شيء لا ينافي خلقه الإرادة والاختيار للعباد فيما أقدرهم عليه من الأفعال. وإنما أعدناه هنا لأن شبهة المجبرة في جملة ﴿ يعذبهم الله بأيديكم ﴾ أقوى منها في كل ما سبق من الآيات التي يستدلون بها على الجبر، وسيأتي مثلها في قوله تعالى :﴿ أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ﴾ [ الواقعة : ٦٣، ٦٤ ]، وفهم القرآن لا يكون صحيحا إلا بالجمع بين الآيات المتقابلة في الموضوع الواحد الذي يختلف التعبير فيه باختلاف الوجوه والاعتبارات التي ضلت الفرق بنظر كل منها إلى إحداها دون الأخرى مطلقا أو جعلها ما وافق مذهبها أصلا يرد غيره إليه بالتأويل قريبا كان أو بعيدا، ومثل الجبرية مع القدرية هنا كمثل المرجئة مع الوعيدية من الخوارج وغيرهم في آيات الوعد والوعيد، فهؤلاء كلهم من ﴿ الذين جعلوا القرآن عضين ﴾ [ الحجر : ٩١ ] وضربوا بعضه ببعض.
والذي حققناه في مسألة أفعال العباد مرارا أنه قد ثبت بالحس والوجدان، وبالمئات من آيات القرآن، أن للناس أفعالا يأتونها بإرادتهم وقدرتهم واختيارهم تسند إليهم ويشتق منها صفات لهم، ويستحقون الجزاء عليها في الدنيا والآخرة، وأن الله تعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى هو الذي أعطاهم القدرة والإرادة والاختيار، كما أعطاهم الأعضاء والحواس، وهو الذي سخر لهم ما تتعلق به أعمالهم في معايشهم ومنافعهم، وهو يسند إليهم هذه الأعمال ويصفهم بها في مواضع كثيرة في المقامات التي تقتضي هذا الإسناد أو الوصف، ويسند بعضها إلى ذاته وإلى مشيئته ويصف نفسه بما يليق به وصفه منها في المقامات التي تقتضي ذلك، فكما قال :﴿ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ﴾ [ الواقعة : ٦٤ ] قال :﴿ يعجب الزراع ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] ولكل مقام مقال. ووصف الزارع لم يرد في أسماء الله الحسنى، ولا في صفاته مستقلا، كما أنه لا يوصف تعالى بأمثاله من صفات أفعال العباد، ولا تسند إليه كالأكل والشرب والقيام والقعود، وأخص أفعال الضعف والنقص كالنوم والتعب والألم، وإنما يسند إليه تعالى بعض أعمالهم التي لا نقص فيها بأسلوب إقامة الحجة وتقرير بعض المسائل، كقوله في الاستدلال بخلقهم على قدرته على بعثهم ﴿ أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ؟ ﴾ [ الواقعة : ٥٨. ٥٩ ] الخ الآيات، فاستدل أولا بخلقه للمني الذي يولدون منه، فأسند إليهم فعل إخراجه بالجماع، وإلى ذاته خلق مادته، ثم استدل بالنبات فأسند إليهم حرثه، وأسند إليه زرعه أي إنباته وجعله حبا وثمرا يؤكل، فيتولد ذلك المني منه بدون فعل لهم فيه، ثم بالماء، فأسند إليهم شربه وأسند إليه إنزاله، ثم بالنار التي يعالجون بها طعامهم المؤلف غالبا من النبات والماء، فأسند إليهم إيراءها وإيقادها بحك الزندين من شجرتها، وأسند إليه إنشاء الشجرة.
فعلم من السياق كله أن المراد بالزرع في قوله :﴿ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ؟ ﴾ الإنبات لما يزرع حتى يصير حبا وثمرا يؤكل، ولم يفهم أحد من العرب الذين نزلت هذه الآيات لتقرب من عقولهم ما كانوا يستبعدونه من البعث بعد الموت أن الله تعالى ينفي عنهم فعل زرع الحبوب في الأرض التي يحرثونها ويثبتها لذاته وحده، أو يريد أنه هو الذي يحرك أيديهم بفعل الزرع بدون إرادة لهم ولا اختيار فيه كما يحرك الدم في أجسادهم، ويحرك أعضاء الجهاز الهضمي من المعدة والأمعاء في هضم طعامهم، وإنما كانوا يفهمون منه أنه هو الذي جعل الأرض منبتة لما يبذرونه فيها، بل هو الذي خلق الأرض والحب والماء والهواء، وسخر هذه الأسباب لهم، ولولا ذلك كله لما أمكنهم أن يزرعوا، ولولا أنه يزيل موانع الإنبات والآفات التي تفسد الزرع لما أمكن أي يستفيدوا منه بعد زرعه ونباته، ولذلك قال :﴿ لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون ﴾ [ الواقعة : ٦٥، ٦٧ ] ويستحيل أن يكون فعلهم في الحرث والزرع مما يجعل حطاما، فإنه عرض زال، وإنما المراد الحاصل منه الذي يؤكل.
وقد روي عن مجاهد تفسير تزرعونه بقوله : تنبتونه، وبه أخذ البغوي وابن كثير، وهو تفسير له بما لولاه لم يكن له فائدة. وقال ابن جرير في تفسيره : أأنتم تصيرونه زرعا أم نحن نجعله كذلك ؟ اه. فأنت ترى أن أهل التفسير المأثور ورواته لم يقولوا إن في الآية كلمة تدل على الجبر، وكذلك فحول المفسرين بالمعقول، وحاصل كلامهم أن الزرع أطلق على غايته وهو إخراج نبته وسلامته من الهلاك، لا على بدئه الذي هو شق الأرض وإلقاء البزر فيها.
ويقال مثله في قوله تعالى :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ﴾ وهو أن المراد بالتعذيب غاية القتال وفائدته وهو فعل الله وحده، لا مبدؤه وهو كسب المؤمنين من قتل وجرح، فهو كقوله تعالى في النصر يوم بدر﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ﴾ [ الأنفال : ١٧ ]، وقد تقدم أنه لا دليل فيه على بدعة الجبر التي لم تكن تخطر في بال أحد من الصحابة رضي الله عنهم ( راجع ج ٩ تفسير )، على أن معنى التعذيب إيجاد العذاب الذي هو الشعور بالألم، وهو من فعل الله لا من كسب البشر، فهذه الآية أبعد من آية الأنفال عن الجبر وأهله، وللعذاب هنا معنى آخر غير الشعور بالألم خطر لنا الآن، وهو أن ما يصيب الجماعات والأمم من الآلام والشدائد يكون لبعضها تربية وتمحيصا تهذب به أفرادها، ويرتقى بها مجموعها، وهو جدير بأن يسمى رحمة لا عذابا، ويكون لبعض آخر نقمة وقصاصا عادلا يمحى به باطل الجماعة ويمحق به طغاتها الفاسدون والمفسدون، وهو الجدير باسم العذاب، الذي وعد الله هنا بجعله عاقبة القتال لمن يقتل فقط، دون من يتوب ويؤمن، والحمد لله أنه كان الأكثر. وهو لا يتعارض مع وصف أكثرهم بالفسق في هذا السياق نفسه، فإنما كان ذلك حال أكثرهم عند نزول الآيات، وهذا ما انتهى إليه أمرهم بعد تربية مجموعهم بالقتال.
واستشكل بعض المفسرين تعذيب الله إياهم مع قوله تعالى من سورة الأنفال ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ]، وأجاب عنه بأن المراد بالعذاب المنفي هنالك عذاب الاستئصال، ونقول : إنه لا محل للاستشكال ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن في هؤلاء الذي وعد تعالى هنا بتعذيبهم كما كان في مكة بين مشركيها حين قالوا ﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ]، يعنون عذابا كعذاب أقوام الرسل الذين كذبوهم جحودا وعنادا وخوفهم الله تعالى بمثله في كتابه، وهو العذاب الذي نفى الله وقوعه كما قال المستشكل هنا حيث لا مجال للاستشكال. فإن التعذيب هنالك نقمة محضة، وما كان ليقع على قوم نبي الرحمة، وأما هنا فإنه انتقام من بعضهم بما هو رحمة لمجموعهم، فهو كقطع العضو المجذوم من الجسد لأجل سلامة جملته، كما قال في حكمة ما لقوا من
هذه الآية خاتمة هذا السياق في الحث على جهاد المشركين لتطهير جزيرة العرب من الشرك وطغيانه وخرافاته، وإصرار الراسخين فيه على عداوة الإسلام والمسلمين، وقد كان الكلام في الآيات التي قبلها في بيان حال المشركين في مواصلة ما بدؤوا به من قتال المؤمنين لأجل دينهم، وقتال هؤلاء لهم إلى حد الفصل التام بين الفريقين على الوجه الذي قامت به الحجج الناصعة على كون المؤمنين على الحق في هذا القتال التي لو عرضت على المنصفين من أهل كل ملة لحكموا للمؤمنين عليهم، وقد بسطت في الآيات السابقة بالتفصيل المسهب الذي ليس وراءه غاية، وإنني لا أذكر أنه يوجد في الكتاب العزيز سياق فيه من الإسهاب والتأكيد والتكرار مثل ما في هذا السياق، ولم أر فيما اطلعت عليه من التفاسير من سبق إلى ما وفقني تعالى له من بيان نكتته، والإفصاح بحكمته، والتكرار الذي يقتضيه المقام أعظم أركان البلاغة ؛ لأنه أعظم أسباب إقناع العقل والتأثير في الوجدان. وأما الكلام في هذه الآية فهو في بيان حال جماعة المسلمين وشأنهم في الجهاد الحق الذي يتوقف عليه تمحيصهم من ضعف الإيمان، والهوادة في حقوق الإسلام.
ويقول الجمهور إن«أم » في مثل هذه الجملة هي المنقطعة التي تفيد معنى الإضراب والاستفهام، والمراد بالإضراب هنا تحويل سياق الكلام عن بيان ما يوجب على المؤمنين قتال الكافرين من بدئهم بالقتال لمحض عداوة الإيمان وأهله، ومن نكثهم للأيمان والعهود بعد إبرامها وتوثيقها وغير ذلك مما تقدم، والانتقال منه إلى ما يتعلق بحال المؤمنين أنفسهم، وما لهم من الفائدة العظيمة في الجهاد الحق للمشركين. وتقدم في تفسير آية ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء ﴾ [ البقرة : ١٤ ] من سورة البقرة أن شيخنا رحمه الله تعالى قال : إن «أم » فيها لمحض الاستفهام، مراعى فيها معادلته لاستفهام آخر يؤخذ من سياق الكلام، وليس فيها من معنى الإضراب شيء، ثم فصل القول في المسألة في تفسير آية آل عمران﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾ [ آل عمران : ١٤٢ ] ورأينا أبا جعفر ابن جرير قد جرى في تفسيره على أن الاستفهام في هذه الآيات في مقابلة استفهام آخر.
ونفي العلم الإلهي في هذه الآيات يراد به نفي المعلوم الذي هو متعلقه بالطريقة البرهانية كما تقدم تحقيقه في تفسير آية آل عمران. والوليجة ما يلج في الأمر أو القوم مما ليس منه أو منهم كالدخيلة، وهو يطلق على الواحد والكثير وقد يجمع على ولائج ويشمل السريرة الفاسدة والنية الخبيثة، وبطانة السوء من المنافقين والمشركين، وهو المراد هنا ؛ لأنه هو الذي يتخذ.
والخطاب لمجموع المسلمين الذين كانوا لا يخلون من بقية من المنافقين ومرضى القلوب الذين يثبطون عن القتال. والمعنى على هذا : هل جاهدتم المشركين حق الجهاد وأمنتم عودتهم إلى قتالكم كما بدؤوكم أول مرة، وأمنتم نكث من عاهدتم منهم لأيمانهم كما نكثوا من قبل ؟ وهل علمتم أنهم تركوا الطعن في دينكم وصد الناس عنه كما هو دأبهم منذ ظهر الإسلام ؟ وهل نسيتم ما اعتذر به المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك من الأعذار الملفقة الباطلة، وما كان من خبث الذين خرجوا معكم إليها، وتثبيطهم إياكم عن القتال، وغير ذلك مما فضحتهم به هذه السورة ؟
﴿ أم حسبتم أن تتركوا ﴾ وشأنكم بغير امتحان ولا افتتان.
﴿ ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾ أي والحال أنه لم يظهر فيكم إلى الآن ما يمتاز به أولئك الذين جاهدوا منكم في الله حق جهاده من المنافقين ومرضى القلوب.
﴿ ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ﴾ أي ولم يتخذوا لأنفسهم دخيلة وبطانة من المشركين الذين يحادون الله تعالى بالشرك به، ويحادون رسوله بالصد عن دعوته، ويقاتلون المؤمنين أنصار الله ورسوله، يطلعون أولئك الولائج على أسرار الملة، ويقفونهم على سياسة الأمة، كما فعل ويفعل المنافقون ومرضى القلوب فيكم. فهو بمعنى قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ﴾ [ آل عمران : ١١٨ ] عبر عن عدم ظهور هؤلاء المجاهدين الصادقين وتميزهم من المنافقين وضعفاء الإيمان بعدم علمه بهم ؛ لأن عدم علمه تعالى بالشيء برهان على عدم ثبوته أو وجوده، ولا يوجد هؤلاء ممتازين ظاهرين إلا بما مضت به السنة في الاجتماع من الابتلاء بالشدائد، كما قال في أول سورة العنكبوت﴿ الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾ [ العنكبوت : ١-٣ ].
وقد ثبت في الصحيح أن حاطب بن أبي بلتعة -وهو من أهل بدر- قد تودد إلى مشركي مكة، وكتب إليهم كتابا يخبرهم به بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قتالهم بعد نقضهم لعهده الذي كان في الحديبية، ليكافئوه على ذلك بعدم الاعتداء على ما كان له لديهم في مكة من أهل ومال، فما القول في المنافقين، ومن دون مثل حاطب من ضعفاء المؤمنين ؟ إن ما فشا بين المسلمين في ذلك العهد من كراهة قتال المشركين لم يكن كل سببه ما تقدم من كراهة بعض المؤمنين للقتال بنية صحيحة، بل كان من أسبابه دسائس يلقيها المشركون إلى أصدقاء لهم أو أولي قربى من المنافقين وضعفاء الإيمان، حتى قال بعض المفسرين : إن هذه الآية خطاب لهم من دون المؤمنين الصادقين، والصواب أن الخطاب لجماعة المسلمين كما تقدم، ذكر به الغافل، وأنذر به المنافق، فبين لهم أن منهم من يتخذ وليجة من أعدائهم، وأنه لا بد من التمييز بين الخبيث والطيب منهم، بما دل عليه النفي ب( لما ) الدال على توقع المنفي لقرب وقوعه، وأكد هذا الإخبار والإنذار بقوله :
﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ أي عالم بخفايا ما تعملون الآن وبعد الآن، محيط بدقائقه، وقد مضت سنته بأن يكون التكليف الذي يشق على الأنفس هو الذي يمحص ما في القلوب، ويطهر السرائر، ويزكي الأنفس بقدر استعداد معدنها، وأنه هو الذي يبرز السرائر الخبيثة ويظهر سوء معدنها، والواو في الجملة حالية، أي أحسبتم وظننتم أن تتركوا قبل أن يتم هذا التمحيص والتمييز بين الذين صدقوا في جهادهم والكاذبين من فاسدي السريرة، ومتخذي الوليجة، وهو إلى الآن لم يعلم هؤلاء المجاهدين منكم ؛ لأنهم لم يتميزوا من غيرهم بالفعل، وإن ما لا يعلمه الله هو الذي لا وجود له، لأنه لا يخفى عليه شيء من أمركم، وكيف ذلك والله خبير بما تعملون.
فهذه الآية بمعنى آيات أول سورة العنكبوت وآيتي البقرة وآل عمران اللتين أشرنا إليهما وإلى ما تقدم من تفسيرهما، فليرجع إليه من شاء الوقوف على ما فيهما من العلم والعبرة، والموازنة بين مسلمي عصرنا ومسلمي العصر الأول. وقد ثبت بالاختبار أن للحروب على ما يكون فيها من العدوان والشرور فوائد عظيمة في ترقية الأمم ورفع شأنها بقدر استعدادها، وناهيك بالحرب إذا التزم فيها ما قرره الإسلام من إحقاق الحق وإبطال الباطل، ومراعاة قواعد العدل والفضيلة، كاحترام العهود، وتحريم الخيانة، وتقدير الضرورة فيها بقدرها، ووضع كل من الشدة والرحمة في موضعها، كما تقدم بيانه في تفسير آيات هذه السورة وآيات سورة الأنفال قبلها، وكذا آيات القتال من سورتي البقرة وآل عمران، وكذلك كان المسلمون الأولون في جميع حروبهم على تفاوت بين سلفهم وخلفهم، وقد شهد لهم بذلك علماء التاريخ والاجتماع من الإفرنج المنصفين على قلتهم حتى قال حكيم كبير١ منهم : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.
للتناسب والاتصال بين هاتين الآيتين ( وما بعدهما إلى الآية ٢٢ ) وما قبلهما وجه وجيه واضح، وإن غفل عنه الرازي وأبو السعود وأمثالهما ممن يعنون بالغوص على التناسب بين الآيات، وهاك بيانه :
قال الله تعالى :﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ﴾ [ آل عمران : ٩٦ ] وقال :﴿ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وقص علينا تعالى في سورة البقرة خبر بناء إبراهيم وإسماعيل لهذا البيت وما كانا يدعوان به عند رفع قواعده من جعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة له، وبعث رسول منهم يتلو عليهم آياتهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وقد استجاب الله تعالى دعاءهما كله فكان من ذريتهما أمة مسلمة موحدة له تعالى تقيم دينه في بيته وفي غيره كما أمر، ثم طال عليهم الأمد فطرأت عليهم الوثنية، وترك جماهيرهم ملة إبراهيم الحنيفية، حتى بعث فيهم منهم محمدا رسول الله وخاتم النبيين، تكملة لدعوة جده إبراهيم، فقاوم المشركون دعوته، وصدوه ومن آمن به عن المسجد الحرام وأخرجوهم من ديارهم بجواره، ثم ما زالوا يقاتلونهم في دار هجرتهم إلى أن صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، ومكنهم من فتح مكة، وأدال للتوحيد من الشرك، وللحق من الباطل.
فلما زالت ولاية المشركين عن المسجد الحرام، وطهره الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان فيه من الأصنام، بقي أن يطهره من العبادة الباطلة التي كان المشركون يأتونها فيه، وأن يبين لهم الوجه في كون المسلمين أحق به منهم، فلما آذنهم بنبذ عهودهم وأمر عليا كرم الله وجهه أن يتلو أوائل سورة براءة على مسامع وفودهم في يوم الحج الأكبر من سنة تسع للهجرة، كان من مقاصد هذا البلاغ العام أن يعلموا أن عبادتهم الشركية ستمنع من المسجد الحرام بعد ذلك العام بالتبع لزوال ولايتهم العارضة عليه، فكان علي وأعوانه ينادون في يوم النحر بمنى : لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وإنما أمهلهم إلى موسم السنة التالية لفتح مكة لسببين فيما يظهر :
أحدهما : أنه كان فيهم أصحاب عهد مع المسلمين من قبل الفتح، كان من شروطه أن لا يمنع من المسجد الحرام أحد من الفريقين، والوفاء بالعهد من أهم أحكام الإسلام فأمهلهم إلى انقضاء عهودهم بنبذ ما جاز نبذه، وإتمام ما وجب إتمامه، ولم يمكن إعلامهم بذلك إلا في موسم السنة التاسعة كما أمر الله تعالى.
وثانيهما : أنه كان يتعذر منع من لا عهد لهم في موسمي العامين الثامن والتاسع بدون قتال في أرض الحرم ؛ لأنهم كانوا بمقتضى التقاليد يأتون للحج من كل فج وهم، كثيرون ولا يمكن التمييز بين المشرك والمسلم، ولا المعاهد وغير المعاهد، إلا بعد وصولهم إلى البيت، وشروعهم في الطواف فيه، فكيف السبيل إلى منع المشرك منهم بعد ذلك بغير قتال فيه فضلا عن سائر الحرم، والقتال محرم فيه ؟
وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : إنها أحلت له ساعة من نهار ولم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده ؟ فعلم من هذا أن منع عبادة الشرك من المسجد الحرام، وإبطال ما كان المشركون يدعونه ويفخرون به من حق عمارته الحسية، وإيئاسهم من الاشتراك فيها، كان يتوقف على ما ذكر من نبذ عهودهم، ومن العدل الواجب في الإسلام إعلامهم بذلك قبل تنفيذه بزمن طويل يكفي لعلم الجماهير منهم به، وهذا المنع هو ما تضمنته هاتان الآيتان على أكمل وجه، وفسره علي كرم الله وجهه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم من الجهة الخاصة، فحسن أن يوضع هو وما يتلوه بعد آيات ذلك النبذ والأذان، وما تلاه من التهديد بالقتال بعد عود حالته إلى ما كانت عليه قبل العهود، وهو المقصود بالذات بقسميه السلبي والإيجابي. وسيأتي النهي عن تمكينهم من القرب من المسجد الحرام أيضا في الآية ( ٢٨ )
قال تعالى :
﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ النفي في مثل هذا التعبير يسمى نفي الشأن كما سبق بيانه في نظائره، مع بيان أنه أبلغ من نفي الفعل طبعا أو شرعا ؛ لأنه نفي له بالدليل. والمساجد جمع مسجد، وهو في اللغة مكان السجود، وقد صار اسما للبيوت التي يعبد فيها الله تعالى وحده، كما قال تعالى :﴿ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ﴾ [ الجن : ١٨ ].
قرأ أبو عمرو ويعقوب وابن كثير﴿ مسجد الله ﴾ بالإفراد، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وهم أكبر مفسري السلف.
وقرأ باقي السبعة وآخرون﴿ مساجد الله ﴾ بالجمع.
والمتبادر من الإفراد إرادة المسجد الحرام ؛ لأنه المفرد العلم الأكمل الأفضل من المساجد، وكلها لله، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل، والمراد من المساجد جنسها الذي يصدق بأي فرد من أفرادها، كما يقولون فلان يخدم الملوك وإن لم يخدم إلا واحدا منهم، وفلان يركب البراذين أو الحمير وإن لم يركب إلا واحدا منها، ومنه ﴿ والخيل والبغال والحمير لتركبوها ﴾ [ النحل : ٨ ]، على أن بعضهم زعم أن المراد بالجمع المسجد الحرام أيضا، وعللوه بقول الحسن : إنما قال مساجد لأنه قبلة المساجد كلها، وهو ضعيف وركيك، ويقتضي أن النفي وما يتضمنه من المنع خاص به، وهو باطل إجماعا. وتفسير المفرد بالجمع لإفادته العموم بالإضافة أصح لفظا ومعنى، لولا أنهما تكرار لا تظهر له فائدة، فالحق أن كلا من القراءتين مقصود، وفائدة ذكر المفرد مع الجمع التنويه بمكانته، وكونه محل النزاع، وسبب القتال بين المؤمنين والمشركين.
وعمارة المسجد في اللغة لزومه والإقامة فيه للعبادة أو لخدمته بالترميم والتنظيف ونحوهما، وعبادة الله فيه، وزيارته للعبادة، ومنها الحج والعمرة. قال في اللسان : عمر الرجل ماله وبيته يعمر [ بالضم ] عمارة وعمورا وعمرانا لزمه... ويقال لساكن الدار : عامر، والجمع عمار. ( وهنا ذكر البيت المعمور وما روي في تفسيره، وقال : والمعمور المخدوم )، ثم ذكر : عمر الرجل الله بمعنى عبده، قال : والعمارة [ بالكسر ] ما يعمر به المكان، والعمارة [ بالضم ] أجرة العمارة. [ قال ] : والعمرة [ بالضم ] طاعة الله عز وجل، والعمرة في الحج معروفة مأخوذة من الاعتمار، وهو الزيارة والقصد... وهو في الشرع زيارة البيت الحرام بالشروط المخصوصة المعروفة. قال الزمخشري : ولم يجئ فيما أعلم عمر بمعنى اعتمر، ولكن عمر الله إذا عبده، وعمر فلان ركعتين إذا صلاهما، وهو يعمر ربه يصلي ويصوم اه ملخصا.
وقال الراغب : العمارة نقيض الخراب، يقال : عمر أرضه يعمرها عمارة. وقوله :﴿ إنما يعمر مساجد الله ﴾ إما من العمارة التي هي حفظ البناء، أو من العمرة التي هي الزيارة، أو من قولهم : عمرت بمكان كذا أي أقمت به، لأنه يقال : عمرت المكان وعمرت بالمكان انتهى. وظاهره أنه يقال : عمر بمعنى اعتمر فليحرر.
فعلم من هذه النصوص أن عمارة المسجد تطلق على عبادة الله فيه مطلقا، وعلى النسك المخصوص المسمى بالعمرة وهي خاصة بالمسجد الحرام، وعلى لزومه والإقامة فيه لخدمته الحسية، وعلى بنيانه وترميمه. وكل ذلك مراد هنا ؛ لأن اللفظ يدل عليه والمقام يقتضيه. والمختار عندنا استعمال المشترك في معانيه التي يقتضيها المقام تبعا للشافعي وابن جرير.
روي عن ابن عباس أنه لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ علي له القول، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا ؟ فقال له علي رضي الله عنه : ألكم محاسن ؟ فقال : نعم، إننا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحاج، فأنزل الله عز وجل ردا على العباس ﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ الخ، والمراد أنها تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به هو وغيره من كبراء المشركين أيضا، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك القول لأجل الرد عليه في أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة ؛ بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك كما تقدم.
ومعنى الجملة : ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين- ولا من شأنهم الذي يقتضيه شركهم، أو الذي يشرعه، أو يرضاه الله منهم، أو يقرهم عليه- أن يعمروا مسجد الله الأعظم وبيته المحرم بالإقامة فيه للعبادة أو الخدمة والولاية عليه، ولا أن يزوروه حجاجا ومعتمرين، ولا شيئا من سائر مساجده كذلك.
﴿ شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ أي ما كان لهم ذلك في حال كونهم كافرين شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا ؛ لأن هذا جمع بين الضدين، فإن عمارة مساجد الله الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية بعبادته فيها وحده، ولا تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحد له، وذلك ضد الكفر به، وأي كفر بالله أظهر وأشد من الشرك به ومساواته ببعض خلقه في العبادة ؟ وهو ما كانوا يفعلونه من عبادة الأصنام بالاستشفاع بها، والسجود لما وضعوه في البيت منها عقب كل شوط من طوافهم فيه، وأي اعتراف به أصرح من نص تلبيتهم له تعالى وهي قولهم بأفواههم : لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وكانوا يكفرون بالبعث والجزاء أيضا، ولما بعث فيهم محمد رسول الله وخاتم النبيين كفروا به وبما جاء به من البينات والهدى، كفر سادتهم وكبراؤهم جحودا وعنادا، وتبعهم دهماؤهم خضوعا لهم وتقليدا. ومن النصوص الدالة على جحودهم آية﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ]، ومن الأدلة على عنادهم آية ﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ].
فقوله تعالى :[ شاهدين ] الخ قيد للنفي قبله مبين لعلته، والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به، ونكتة تقييده بها بيان أنه كفر صريح معترف به لا تمكن المكابرة فيه. وقد قيل : إنه لا يجوز للمسلمين أن يستخدموا الكفار في بناء المساجد ؛ لأنه من العمارة الحسية الممنوعة، وفيه نظر ؛ لأن الممنوع منها إنما هو الولاية عليها، والاستقلال بالقيام بمصالحها، كأن يكون ناظر المسجد وأوقافه كافرا. وأما استخدام المسلمين للكافر في عمل لا ولاية فيه كنحت الحجارة، والبناء والنجارة، فلا يظهر دخوله في المنع، ولا فيما ذكر من نفي الشأن، فإن نفي الشأن المذكور دليل على التشريع في هذه المسألة، وكونه حقا مبنيا على أساس ثابت في فطرة البشر وليس تشريعا لها. والدلالة فيه عقلية علمية كما علم من تفسيرنا له.
[ فإن قيل ] قد وقع من بعض الحكام والأفراد من غير المسلمين أن بنى مسجدا للمسلمين، ومنهم من أوصى بمال لعمارة مسجد لهم لمصلحة له في ذلك. [ قلت ] : إن هذا لا يعارض ما فسرنا به نفي الشأن، ولا ما بني عليه من الحكم، وللمسلمين أن يقبلوا مثل هذا المسجد وهذه الوصية بشرط أن لا يكون فيهما ضرر آخر ديني ولا سياسي، لأنه حينئذ يكون كمسجد الضرار الذي يأتي ذكره في هذه السورة، فلو عرض اليهود على المسلمين في هذا العصر أن يعمروا المسجد الأقصى بترميم ما كان تداعى أو ضعف من بنائه، أو بذلوا لهم مالا لذلك لما جاز لهم أن يقبلوا هذا ولا ذاك وإن لم يتول اليهود العمل، لما علم من طمعهم في الاستيلاء على هذا المسجد والتوسل له بما يجعلونه ذريعة لادعاء حق ما لهم فيه، على كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وكتابيهما، وقولهم على مريم بهتانا عظيما.
﴿ أولئك حبطت أعمالهم ﴾ أي أولئك المشركون الكافرون بالله وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم قد حبطت أعمالهم التي يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج وغيرهما من أعمال البر كقري الضيف وصلة الرحم، أي بطلت وفسدت حتى لم يبق لها أدنى تأثير في صلاح أنفسهم مع الشرك والكفر ومفاسدهما، وأصله من الحبط، وهو بالتحريك أن تأكل البهيمة حتى تنتفخ ويفسد جوفها. قال تعالى :﴿ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] ﴿ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾ [ الأنعام : ٨٨ ] ﴿ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾[ الكهف : ١٠٥ ].
﴿ وفي النار هم خالدون ﴾ أي وهم مقيمون في دار العذاب التي تسمى النار دون غيرها، إقامة خلود وبقاء لكفرهم المحبط لأعمالهم الحسنة حتى لا أثر لها في تزكية أنفسهم وإحاطة خطيئاتهم بها وتدسيتها لها، فلم يبق فيها أدنى استعداد لجوار الله تعالى في دار الكرامة، وما ثمة إلا الجنة أو النار ﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾ [ الشورى : ٧ ].
للتناسب والاتصال بين هاتين الآيتين ( وما بعدهما إلى الآية ٢٢ ) وما قبلهما وجه وجيه واضح، وإن غفل عنه الرازي وأبو السعود وأمثالهما ممن يعنون بالغوص على التناسب بين الآيات، وهاك بيانه :
قال الله تعالى :﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ﴾ [ آل عمران : ٩٦ ] وقال :﴿ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وقص علينا تعالى في سورة البقرة خبر بناء إبراهيم وإسماعيل لهذا البيت وما كانا يدعوان به عند رفع قواعده من جعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة له، وبعث رسول منهم يتلو عليهم آياتهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وقد استجاب الله تعالى دعاءهما كله فكان من ذريتهما أمة مسلمة موحدة له تعالى تقيم دينه في بيته وفي غيره كما أمر، ثم طال عليهم الأمد فطرأت عليهم الوثنية، وترك جماهيرهم ملة إبراهيم الحنيفية، حتى بعث فيهم منهم محمدا رسول الله وخاتم النبيين، تكملة لدعوة جده إبراهيم، فقاوم المشركون دعوته، وصدوه ومن آمن به عن المسجد الحرام وأخرجوهم من ديارهم بجواره، ثم ما زالوا يقاتلونهم في دار هجرتهم إلى أن صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، ومكنهم من فتح مكة، وأدال للتوحيد من الشرك، وللحق من الباطل.
فلما زالت ولاية المشركين عن المسجد الحرام، وطهره الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان فيه من الأصنام، بقي أن يطهره من العبادة الباطلة التي كان المشركون يأتونها فيه، وأن يبين لهم الوجه في كون المسلمين أحق به منهم، فلما آذنهم بنبذ عهودهم وأمر عليا كرم الله وجهه أن يتلو أوائل سورة براءة على مسامع وفودهم في يوم الحج الأكبر من سنة تسع للهجرة، كان من مقاصد هذا البلاغ العام أن يعلموا أن عبادتهم الشركية ستمنع من المسجد الحرام بعد ذلك العام بالتبع لزوال ولايتهم العارضة عليه، فكان علي وأعوانه ينادون في يوم النحر بمنى : لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وإنما أمهلهم إلى موسم السنة التالية لفتح مكة لسببين فيما يظهر :
أحدهما : أنه كان فيهم أصحاب عهد مع المسلمين من قبل الفتح، كان من شروطه أن لا يمنع من المسجد الحرام أحد من الفريقين، والوفاء بالعهد من أهم أحكام الإسلام فأمهلهم إلى انقضاء عهودهم بنبذ ما جاز نبذه، وإتمام ما وجب إتمامه، ولم يمكن إعلامهم بذلك إلا في موسم السنة التاسعة كما أمر الله تعالى.
وثانيهما : أنه كان يتعذر منع من لا عهد لهم في موسمي العامين الثامن والتاسع بدون قتال في أرض الحرم ؛ لأنهم كانوا بمقتضى التقاليد يأتون للحج من كل فج وهم، كثيرون ولا يمكن التمييز بين المشرك والمسلم، ولا المعاهد وغير المعاهد، إلا بعد وصولهم إلى البيت، وشروعهم في الطواف فيه، فكيف السبيل إلى منع المشرك منهم بعد ذلك بغير قتال فيه فضلا عن سائر الحرم، والقتال محرم فيه ؟
وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : إنها أحلت له ساعة من نهار ولم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده ؟ فعلم من هذا أن منع عبادة الشرك من المسجد الحرام، وإبطال ما كان المشركون يدعونه ويفخرون به من حق عمارته الحسية، وإيئاسهم من الاشتراك فيها، كان يتوقف على ما ذكر من نبذ عهودهم، ومن العدل الواجب في الإسلام إعلامهم بذلك قبل تنفيذه بزمن طويل يكفي لعلم الجماهير منهم به، وهذا المنع هو ما تضمنته هاتان الآيتان على أكمل وجه، وفسره علي كرم الله وجهه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم من الجهة الخاصة، فحسن أن يوضع هو وما يتلوه بعد آيات ذلك النبذ والأذان، وما تلاه من التهديد بالقتال بعد عود حالته إلى ما كانت عليه قبل العهود، وهو المقصود بالذات بقسميه السلبي والإيجابي. وسيأتي النهي عن تمكينهم من القرب من المسجد الحرام أيضا في الآية ( ٢٨ )
﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ﴾ بعد أن بين عدم استحقاق المشركين لعمارة مساجد الله أثبتها للمسلمين الكاملين، وجعلها مقصورة عليهم بالفعل لا بمجرد الشأن والاستحقاق، وهو الذي يقتضيه مقام الإيجاب، وهم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه الحق الذي بينه في كتابه من توحيده وتنزيهه واختصاصه بالعبادة والاستعانة والتوكل، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه العباد ويجزي كل نفس ما كسبت، وبين إقامة الصلاة المفروضة بأركانها وآدابها وتدبر تلاوتها وأذكارها التي تكسب مقيمها مراقبة الله تعالى وحبه والخشوع له والإنابة إليه، وإعطاء زكاة الأموال -من نقد وزرع وتجارة لمستحقيها من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم ممن يأتي ذكرهم في هذه السورة- وبين خشية الله دون غيره ممن لا ينفع ولا يضر، كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله خوفا من ضرره، أو رجاء في نفعه، فالمراد بالخشية الديني منها دون الغريزي، كخشية أسباب الضرر الحقيقية، فإن هذا لا ينافي خشية الله، ولا يقتضي خشية الطاغوت. والدليل عليها طاعة الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه، رضي الناس أم سخطوا.
﴿ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ﴾ أي فأولئك الجامعون لهذه الخمس من أركان الإيمان والإسلام التي يلزمها سائر أركانها هم الذين يرجون بحق- أو يرجى لهم بحسب سنن الله في أعمال البشر وتأثيرها في إصلاحهم- أن يكونوا من جماعة المهتدين إلى ما يحب الله ويرضى من عمارة مساجده حسا ومعنى، واستحقاق الجزاء عليها بالجنة خالدين فيها، دون غيرهم من المشركين الجامعين لأضدادها - من الإيمان بالطاغوت والشرك بالله والكفر بما جاء به رسوله- الذين دنسوا مسجده الحرام بالأصنام، والاستقسام بالأزلام، وصدوا المسلمين عن الحج والاعتمار والصلاة فيه، ولم تكن صلاة هؤلاء المشركين عنده إلا مكاء وتصدية كعبث الأطفال، وكانوا ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله، ومنع الناس من الإسلام، وتقدم في هذا المعنى من سورة الأنفال، فشرور هؤلاء وضلالهم وطغيانهم التي هي لوازم الشرك تحبط كل عمل حسن عملوه كما تقدم.
كلمة عسى تفيد الرجاء دون القطع، وقال الواحدي وغيره : إنها للتقريب والإطماع، ثم استعملت بمعنى «لعل » أي للرجاء. وقال سيبويه : لعل كلمة ترجية وتطميع، أي للمخاطب بها. فالرجاء هنا ما يكون للمتصفين بما ذكر من الأمور الخمسة من الأمل والطمع بالفعل أو الشأن في الوصول إلى مقام المتقين الكاملين بالثبات عليها، وما يترتب عليه من الثواب كما قررناه، ولا يصح هنا كون الرجاء من الله عز وجل، فإنه هو الذي يُرجى ولا يرجو، وحقيقة الرجاء ظن بحصول أمر وقعت أسبابه واتخذت وسائله من مبتغيه، ولم يبق لحصوله إلا أن تكون وقعت على وجهها المؤدي إلى الغاية، وأن لا تعارضها الموانع التي تكون راجحة على المقتضي، كالزارع يحرث الأرض ويبذر الحب في الوقت المناسب ويتعاهد زرعه بما يحتاج إليه من عذق وسقي وسماد فيكون من المظنون الراجح أن يأتي بثمرة طيبة، ولكن لا يمكن القطع بذلك لما يخشى من وقوع الجوائح المهلكة له مثلا.
وكذلك من يطيع الله تعالى بفعل المستطاع مما أمر به وترك ما نهى عنه، فإنه حقيق بأن يرجو بذلك تزكية نفسه ورفعها إلى مقام المتقين أولياء الله تعالى، وما يترتب على ذلك من مثوبته ورضوانه في دار كرامته، ولكنه لا يمكن أن يجزم بذلك لما يخشى على نفسه من التقصير وشوائب الرياء والسمعة، أو عدم الثبات على الطاعة حتى يموت عليها، وغير ذلك مما يحبط الأعمال أو يمنع من قبولها، والخير للمؤمن أن يكون بين الخوف الذي يصده عن التقصير، والرجاء الذي يبعثه على التشمير، وأن يرجح الخوف في حال الصحة والرجاء في حال المرض، ولا سيما مرض الموت. ومن أراد نعيم الآخرة ولم يسع لها سعيها الذي جعله الله سببا لها فهو من الحمقى أصحاب الأماني، لا من أصحاب الرجاء، فهو كمن أحب أن تنبت له أرضه غلة حسنة كثيرة ولم يزرعها الخ. فسنة الله في الدنيا والآخرة واحدة كما قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى.
ومن قال : إن عسى هنا وعد من الله تعالى، قالوا : إنها منه تعالى للإيجاب والقطع، وهو منزه عن التوقع والظن وعن الإطماع في الشيء وإخلافه بعد تقريبه. ورووا هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنه في الآيات الصريحة في وعد الله تعالى وخبره. كقوله تعالى :﴿ فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ﴾ [ المائدة : ٥٢ ] وقوله :﴿ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ﴾ [ الممتحنة : ٧ ]، فكل من هذين وعد قطعي عنده تعالى، فعلى هذا تكون نكتة التعبير عنه بعسى إبهامه، وعدم إعلام المخاطبين بالوقت الذي يقع فيه، ومن أمعن النظر رأى أن هذا قد يرجع إلى ما فسرنا به عسى هنا، وهو أن كلا من الإتيان بالفتح أو أمر آخر يترتب عليه ندم المشركين، ومن وقوع المودة بين المؤمنين ومن عادوهم من المشركين قريب الوقوع، فهو مرجو ومتوقع في نفسه بوقوع أسبابه ومقدماته، فينبغي أن يعدوا له عدته ويحسبوا له حسابا في معاملتهم، وفي معنى هذا ما اختاره شيخنا من أن معنى لعل في كلام الله تعالى الإعداد لمتعلقها، وتقدم تفصيله( راجع ج١ تفسير ).
وقد استشكل بعضهم وصف عمار المساجد بإيتاء الزكاة ؛ لأنه ليس من الأعمال التي تشرع في المساجد، وأجاب عنه الفخر الرازي بقوله : واعلم أن اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد كأنه يدل على أن عمارة المسجد الحضور فيه، وذلك لأن الإنسان إذا كان مقيما للصلاة فإنه يحضر في المسجد، فتحصل به عمارة المسجد، وإذا كان مؤتيا للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد به. وأما إذا حملنا العمارة على مصالح البناء فإيتاء الزكاة معتبر في هذا الباب أيضا ؛ لأن إيتاء الزكاة واجب، وبناء المسجد نافلة، والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لا يشتغل بالنافلة، والظاهر أن الإنسان ما لم يكن مؤديا للزكاة لم يشتغل ببناء المساجد اه بنصه.
والذي نراه أن المراد بهذه الصفات بيان الإسلام الكامل الذي يقوم أهله بعمارة المساجد الحسية والمعنوية بالفعل، كما أنهم هم أصحاب الحق فيها، وهذه أسسه التي دعا إليها جميع رسل الله تعالى وعليها مدار النجاة كما قال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ [ البقرة : ٦٢ ]، وقد ذكر هنا من العمل الصالح أعظم أركانه التي كان المشركون مجردين منها، واشترط في صحة إسلامهم قبولها كلها أو ما عدا الباطن منها وهو الخشية كما تقدم، وهي الصلاة أعظم العبادات البدنية الروحية الاجتماعية، والزكاة أعظم العبادات المالية الاجتماعية، وخشية الله وحده أعظم ثمرات الإيمان والعبادات النفسية، ولم يذكر الإيمان بالرسل لأن رسالتهم وسيلة إلى هذه المقاصد ولا تحصل على الوجه الصحيح بدونها فهي تستلزمها، وإقامة الصلاة تتوقف عليها لأن الشهادتين من فرائضها، ومن كلمات الأذان لها.
وقول الرازي : إن مانع الزكاة لا يبني المساجد حق، كقول بعض الناس : إن الذي يزكي لا يسرق، وإنما يصح هذا وذاك فيمن يعمل عمله خالصا لوجه الله، ولكن من الناس من يبني مسجدا بالمال الحرام وهو لا يصلي، وإنما يبنيه رياء وسمعة، أو ليجعل فيه أو في قبة بجانبه قبرا له يذكر به اسمه من بعده، ومنهم من يتصدق على الفقراء ويساعد الجمعيات الخيرية والعلمية بالمال الحرام ويأكل الحرام، ولا يؤدي جميع ما يجب عليه من الزكاة، لأنه مراء يبتغي بإنفاقه السمعة والصيت الحسن، لا مثوبة الله ومرضاته.
وقد ورد في عمارة المساجد الحسية والمعنوية أحاديث كثيرة منها في المعنى الأول ما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه من حديث عثمان رضي الله عنه أنه لما بني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولامه الناس قال : إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من بني لله مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة )١، وهو يدل على أن توسيع المسجد كابتدائه.
وروى أحمد عن ابن عباس مرفوعا ( من بنى لله مسجدا - ولو كمفحص قطاة لبيضها- بنى الله له بيتا في الجنة )٢، وسنده صحيح، وروي مثله بدون وصف للمسجد، وروي بلفظ ( بنى الله له بيتا أوسع منه )، وبألفاظ أخرى.
وروى أحمد والترمذي –وصححه- من حديث سمرة بن جندب قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في ديارنا، وأمرنا أن ننظفها٣، وفي معناه من حديث عائشة ( وأن تطيب ).
وفي الصحيحين وسنن أبي داود وابن ماجه أن امرأة كانت تقمُّ المسجد- أي تكنسه- فماتت فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقيل له : ماتت. فقال :( أفلا كنتم آذنتموني بها ؟ ) أي أعلمتموني بموتها لأصلي عليها ( دلوني على قبرها )، فأتى قبرها فصلى عليها٤.
وفي الصحيحين وبعض السنن أيضا أن البزاق في المسجد خطيئة٥، وأنه صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في المسجد فحكها ورؤي الغضب في وجهه، ونهى عن ذلك٦. فإزالة القذر من المساجد وتطهيره واجب، وإتباع أثر القذر بالطيب مستحب.
ومنها في المعنى الثاني ما رواه الشيخان وأصحاب السنن -إلا النسائي- من حديث أبي هريرة مرفوعا :« صلاة الجميع وفي رواية الجماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسا وعشرين درجة، فإن أحدكم إذا توضأ وأحسن الوضوء وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة، حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه : اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يؤذ بحدث »٧، أي بحدث له رائحة كريهة. ومنه رائحة الثوم والبصل ونحوهما كالدخان المعروف في هذا الزمان، فقد روى أحمد والشيخان من حديث جابر مرفوعا ( من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )٨، واستدل العلماء به على منع من أكل الثوم ونحوه من دخول المسجد، وإن لم يكن فيه أحد، إلا أن يزيل الرائحة قبل ذلك، والظاهرية يحرمون أكل ما ذكر ؛ لأنه يمنع من صلاة الجماعة وهي عندهم فرض عين كالحنابلة، والصواب أن فرضيتها لا تقتضي تحريم ما ذكر مطلقا ؛ لأنه يمكن أكلها في الأوقات التي لا جماعة فيها كأول النهار وبعد العشاء، إذ تزول الرائحة في الغالب قبل الظهر في الحالة الأولى وقبل الفجر في الثانية، ويمكن إزالتها قبل ذلك بتنظيف الفم بالسواك ونحوه، وأكل بعض الأشياء المعطرة كأقراص النعنع المعروفة في هذا الزمن وغيرها من الحبوب العطرية التي تمتص لتطييب الفم.
وجماهير أئمة السلف والخلف على إباحة أكل الثوم والبصل. ومن أدلتهم ما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقدر فيها خضرات من بقول فوجد لها ريحا، فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال :( قربوها )، [ وأشار ] إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه كره أكلها قال :( كل، فإني أناجي من لا تناجي )٩، وفي بعض الروايات عند مسلم وغيره أن
٢ ـ أخرجه ابن ماجه في المساجد باب ١، وأحمد في المسند ١/ ٢٤١..
٣ ـ أخرجه أحمد في المسند ٥/ ١٧..
٤ ـ أخرجه البخاري في الصلاة باب ٧٤، ومسلم في الجنائز حديث ٧١، وابن ماجه في الجنائز باب ٣٢..
٥ ـ أخرجه البخاري في الصلاة باب ٣٧، ومسلم في المساجد حديث ٥٥، ٥٧، وأبو داود في الصلاة باب ٢٢، والترمذي في الجمعة باب ٤٩، والدارمي في الصلاة باب ١١٦، وأحمد في المسند ٣/ ٢٣٢، ٢٧٤، ٢٧٧..
٦ ـ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الصلاة باب ٣٤، ٣٥، ٣٦، ٣٩، والأذان باب ٩٤، والعمل في الصلاة باب١٢، والأدب باب ٧٥، ومسلم في المساجد حديث ٥٠ ـ ٥٣، والزهد حديث ٤، وأبو داود في الصلاة باب ٢٢، والنسائي في المساجد باب ٣٢، ٣٥، وابن ماجه في المساجد باب ١٠، والإقامة باب ٦١، والدارمي في الصلاة باب ١١٦، وأحمد في المسند ٢/ ٦، ١٨، ٢٩، ٣٢، ٣٤، ٥٣، ٧٢، ١٤١، ٢٥٠، ٤١٥، ٣/ ٦، ٩، ٢٣٨، ٢٥٢، ٦/ ١٤٨..
٧ ـ أخرجه البخاري في الصلاة باب ٨٧، والأذان باب ٣٦، والبيوع باب ٤٩، وبدء الخلق باب ٧، ومسلم في المساجد حديث ٢٧٢، ٢٧٣، وأبو داود في الصلاة باب ٢٠، وابن ماجه في المساجد باب ١٤، ١٩، ومالك في السفر حديث ٥٢، وأحمد في المسند ٢/ ٢٥٢، ٣١٩، ٤٨٦، ٥٣٢، ٥٣٣..
٨ ـ أخرجه مسلم في المساجد حديث ٧٤، والترمذي في الأطعمة باب ١٣، والنسائي في المساجد باب ١٦..
٩ ـ أخرجه البخاري في الاعتصام باب ٢٤، ومسلم في المساجد حديث ٧٣، وأبو داود في الأطعمة باب ٤٠..
هذه الآيات تكملة لموضوع الآيتين اللتين قبلها في بيان كون الحق في عمارة المسجد الحرام بنوعيها للمسلمين دون المشركين، وكون إيمانهم وإسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارته وسقاية الحاج فيه، وإن قام بهما المسلمون أنفسهم خلافا لما توهم بعضهم في الأعمال التي بعد الإسلام، فقد روى مسلم وأبو داود وابن حبان وبعض رواة التفسير المأثور من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم. فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وذلك يوم الجمعة ـ ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. [ فدخل بعد الصلاة فاستفتاه ]، فأنزل الله ﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ ـ إلى قوله ـ لا يهدي القوم الظالمين }١.
وروى الفريابي عن ابن سيرين قال : قدم علي بن أبي طالب مكة فقال للعباس : أي عم ألا تهاجر ؟ ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أعمر المسجد وأحجب البيت، فأنزل الله﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ الآية.
وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قال العباس حين أسر يوم بدر : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ( أي الأسير ) فأنزل الله ﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾.
وروى أبو جعفر بن جرير عن كعب القرظي قال : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة : أنا صاحب البيت معي مفتاحه، ولو أشاء بت فيه، وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بت في المسجد، فقال علي رضي الله عنه : ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد. فأنزل الله﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ الآية كلها. فهذه الروايات في أسباب النزول وقائع في تفسير الآيات، وإن لم تكن أسبابا.
والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجاجه ـ من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة ـ وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة، وهي أشق العبادات النفسية البدنية المالية، والآيات تتضمن الرد عليها كلها.
وفي أثر علي أن العباس ذكر حجابة البيت، وهي لم تكن له دون السقاية التي كانت له، وأثر ابن عباس فيه تقدم معناه في تفسير الآيتين السابقتين.
تقدم تفسير عمارة المسجد في اللغة والاصطلاح. والسقاية في اللغة الموضع الذي يسقى فيه الماء وغيره، وكذا الإناء الذي يسقى به ؛ ومنه﴿ جعل السقاية في رحل أخيه ﴾ [ يوسف : ٧٠ ]، سميت سقاية لأنها يسقى بها، وصواعا ؛ لأنها يكال بها كالصاع وهو يؤنث ويذكر. قال في اللسان ( كغيره ) : والسقاية الموضع الذي يتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها، ( ثم قال ) : وفي الحديث ( كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت )٢، هي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام اهـ والحديث الذي ذكره ورد في بعض روايات خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
وقال النووي في الأسماء واللغات ما نصه : سقاية العباس رضي الله عنه موضع بالمسجد الحرام زاده الله تعالى شرفا، يستقي فيها الماء ليشربه الناس، وبينها وبين زمزم أربعون ذراعا، حكى الأزرقي في كتابه تاريخ مكة وغيره من العلماء أن السقاية حياض من أدم كانت على عهد قصي بن كلاب توضع بفناء الكعبة، ويستقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، ويسقاه الحاج، فجعل قصي عند موته أمر السقاية لابنه عبد مناف، ولم تزل مع عبد مناف يقوم بها، فكان يسقي الماء من بئر كرادم وغيره إلى أن مات ومن حصون خيبر اهـ.
أقول وقد بني هذا المكان المسمى بسقاية العباس، ولا يزال ماثلا إلى الآن، وهو حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم، وصف مؤرخو مكة مساحتها وبُعدها عن زمزم وعن الكعبة المشرفة.
ويؤخذ من استعمال الكلمة أنها صارت اسم حرفة، وكذا الحجابة وهي سدانة البيت، وهما أفضل مآثر قريش، ولذلك أقرهما الإسلام، ومن المعلوم بالبداهة أن قول العباس : أنا صاحب السقاية، وقول الناس فيه كقوله لا يراد به أنه صاحب الموضع الذي كان يوضع فيه الماء المحلى بالزبيب أو التمر المنبوذ فيه، ولا ذلك الماء، وإنما المراد به أنه هو الذي يتولى إدارة هذا العمل وهو الإتيان بالزبيب أو التمر ونبذه بالماء ووضع أوانيه في المواضع التي يردها الحجاج فيشربون منها، ومن العجب أن يغفل أي لغوي أو مفسر عن هذا المعنى ويقول بعضهم : إنها اسم لمكان السقي، وبعضهم إنها مصدر سقى أو أسقى الخ.
قال عز وجل :﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ﴾ ؟ مقتضى حديث النعمان بن بشير أن الخطاب هنا للمؤمنين الذين تنازعوا أي هذه الأعمال أفضل ؟ ومقتضى حديثي علي وابن عباس أن الخطاب للمشركين، والاستفهام فيه للإنكار، وتشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات كإسناد كل منهما إلى الآخر من ضروب الإيجاز المعهودة في بلاغة القرآن، كقوله تعالى :﴿ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] الخ، وطريقة المفسرين في هذا معروفة وهي تحويل أحدهما إلى الآخر ليتحد المشبه والمشبه به، والمسند والمسند إليه، فيقولون هنا : أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل العمارة للبيت أو فاعل كل منهما ومتوليه كمن آمن بالله واليوم الآخر الخ، وهو الموافق لبقية الآية وما بعدها، أو يقولون : أجعلتم هذه السقاية والعمارة كالإيمان بالله واليوم الآخر الخ ؟ والاستفهام للإنكار المتضمن لمعنى النهي. أي لا تفعلوا ذلك، فإنه خطأ ظاهر كما بينه ما بعده.
ونكتة هذا التعبير بيان أن هذا الفعل ليس كالفعل الآخر، وأن الفاعل لكل منهما ليس كالآخر ؛ بل بينهما من التفاوت والدرجات ما بينه تعالى بيانا مستأنفا بقوله :﴿ لا يستوون عند الله ﴾ إلى قوله :﴿ أجر عظيم ﴾ أي لا يساوي الفريق الأول الفريق الثاني في صفته، ولا في عمله في حكم الله، ولا في مثوبته وجزائه عنده في الدنيا ولا في الآخرة، فضلا عن أن يفضله كما توهم بعض المسلمين، وكما يزعم كبراء مشركي قريش الذين كانوا يتبجحون بخدمة البيت، ويستكبرون على الناس به، كما قال تعالى :﴿ مستكبرين به سامراَ تهجرون ﴾ [ المؤمنون : ٦٧ ]، على القول بأن الضمير في [ به ] للبيت، وإن لم يسبق له ذكر في الآيات التي قبل هذه الآية، قالوا : لأن اشتهار استكبارهم وافتخارهم بأنهم قوامه وسدنته وعماره أغنى عن سبق ذكره، وكانت العرب تدين لهم بذلك لامتيازهم عليهم به وبسقاية حجاجه وكذا ضيافتهم وإن لم تكن عامة كالسقاية، لأن الحاجة إليها لم تكن عامة إذ من المعلوم أن الحجاج كانوا وما زالوا أحوج إلى الماء في الحرم من الزاد ؛ لأن كل حاج كان يمكنه أن يحمل من الزاد ما يكفيه مدة سفره إلى الحرم وعودته بعد أداء المناسك، ولا سيما العربي القنوع القليل الأكل، ولكن لا يمكنه أن يحمل من الماء ما يكفيه كل هذه المدة ولا نصفها، ولذلك كان أول شروطه استطاعة الحج الزاد لإمكانه مع كفالة أولي الأمر في الحرم لتوفير الماء فيه، وحكومة السنة السعودية في هذا العهد تزداد عنايتها في كل سنة بتوفير الماء ونظافته لمئات الألوف من الحاج. وأما سقيهم الماء المحلى فقد بطل منذ قرون كثيرة ؛ لأنه صار متعذرا لكثرتهم، ولو كان ريع أوقاف الحرمين في الأقطار الإسلامية يضبط ويرسل إلى حكومة الحجاز لأمكنها إعادته ووضع نظام لتعميمه في مكة أو منى.
هذا وإن فضيلة البيت الحقيقية التي بني لأجلها هي عبادة الله وحده فيه بما شرعه كما يحب ويرضى، وقد جنى عليه المشركون ودنسوه بعبادة غيره فيه، ثم بصد المؤمنين الموحدين له عنه، كما قال :﴿ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ﴾ [ الفتح : ٢٥ ]، ثم إخراجهم إياهم من جواره ؛ لإيمانهم بربوبيته وألوهيته تعالى وحده دون ما أشركوه معه، كما قال للمؤمنين :﴿ يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ﴾ [ الممتحنة : ١ ]، وقال فيهم ﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ [ الحج : ٤٠ ]، فأي مزية تبقى مع هذه الجرائم لخدمة حجارته واحتكار مفتاحه وسقاية المشركين من حجاجه ؟ وأي ظلم أشد من هذا الظلم في موضوعه ؟
﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ إلى الحق في أعمالهم، ولا إلى الحكم العدل في أعمال غيرهم، أي ليس من سنته في أخلاق البشر وأعمالهم أن يكون الظالم مهديا إلى ما هو ضد صفة الظلم ومناف لها وهو الحق والعدل ؛ لأنه جمع بين ضدين بمعنى النقيضين، والقوم الظالمون أشد إسرافا في الظلم من الأفراد، وأبعد عن الهدى بغرورهم بقوتهم وتناصرهم. ومن أقبح هذا الظلم تفضيل خدمة حجارة البيت وحفظ مفتاحه وسقاية الحاج على الإيمان بالله وحده المطهر للأنفس من خرافات الشرك وأوهامه، والإيمان باليوم الآخر الذي يزعها أن تبغي وتظلم ويحبب إليها الحق والعدل، ويرغبها في الخير وعمل البر، ابتغاء رضوان الله لا للفخر والرياء، وعلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس لإحقاق الحق وإبطال الباطل وترقية شؤون البشر في مدارج العلم والعمل. ومن المعلوم أن هذا الجهاد يشمل القتال والنفقة فيه وغيرهما من أنواع مجاهدة الكفار، ومجاهدة النفس لإبلاغها مقام الكمال، وهذه الجملة ظاهرة في الرد على المشركين، وإبطال تبجحهم وفخرهم على المؤمنين.
هذه الآيات تكملة لموضوع الآيتين اللتين قبلها في بيان كون الحق في عمارة المسجد الحرام بنوعيها للمسلمين دون المشركين، وكون إيمانهم وإسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارته وسقاية الحاج فيه، وإن قام بهما المسلمون أنفسهم خلافا لما توهم بعضهم في الأعمال التي بعد الإسلام، فقد روى مسلم وأبو داود وابن حبان وبعض رواة التفسير المأثور من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم. فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وذلك يوم الجمعة ـ ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. [ فدخل بعد الصلاة فاستفتاه ]، فأنزل الله ﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ ـ إلى قوله ـ لا يهدي القوم الظالمين }١.
وروى الفريابي عن ابن سيرين قال : قدم علي بن أبي طالب مكة فقال للعباس : أي عم ألا تهاجر ؟ ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أعمر المسجد وأحجب البيت، فأنزل الله﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ الآية.
وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قال العباس حين أسر يوم بدر : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ( أي الأسير ) فأنزل الله ﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾.
وروى أبو جعفر بن جرير عن كعب القرظي قال : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة : أنا صاحب البيت معي مفتاحه، ولو أشاء بت فيه، وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بت في المسجد، فقال علي رضي الله عنه : ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد. فأنزل الله﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ الآية كلها. فهذه الروايات في أسباب النزول وقائع في تفسير الآيات، وإن لم تكن أسبابا.
والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجاجه ـ من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة ـ وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة، وهي أشق العبادات النفسية البدنية المالية، والآيات تتضمن الرد عليها كلها.
وفي أثر علي أن العباس ذكر حجابة البيت، وهي لم تكن له دون السقاية التي كانت له، وأثر ابن عباس فيه تقدم معناه في تفسير الآيتين السابقتين.
تقدم تفسير عمارة المسجد في اللغة والاصطلاح. والسقاية في اللغة الموضع الذي يسقى فيه الماء وغيره، وكذا الإناء الذي يسقى به ؛ ومنه﴿ جعل السقاية في رحل أخيه ﴾ [ يوسف : ٧٠ ]، سميت سقاية لأنها يسقى بها، وصواعا ؛ لأنها يكال بها كالصاع وهو يؤنث ويذكر. قال في اللسان ( كغيره ) : والسقاية الموضع الذي يتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها، ( ثم قال ) : وفي الحديث ( كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت )٢، هي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام اهـ والحديث الذي ذكره ورد في بعض روايات خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
وقال النووي في الأسماء واللغات ما نصه : سقاية العباس رضي الله عنه موضع بالمسجد الحرام زاده الله تعالى شرفا، يستقي فيها الماء ليشربه الناس، وبينها وبين زمزم أربعون ذراعا، حكى الأزرقي في كتابه تاريخ مكة وغيره من العلماء أن السقاية حياض من أدم كانت على عهد قصي بن كلاب توضع بفناء الكعبة، ويستقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، ويسقاه الحاج، فجعل قصي عند موته أمر السقاية لابنه عبد مناف، ولم تزل مع عبد مناف يقوم بها، فكان يسقي الماء من بئر كرادم وغيره إلى أن مات ومن حصون خيبر اهـ.
أقول وقد بني هذا المكان المسمى بسقاية العباس، ولا يزال ماثلا إلى الآن، وهو حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم، وصف مؤرخو مكة مساحتها وبُعدها عن زمزم وعن الكعبة المشرفة.
ويؤخذ من استعمال الكلمة أنها صارت اسم حرفة، وكذا الحجابة وهي سدانة البيت، وهما أفضل مآثر قريش، ولذلك أقرهما الإسلام، ومن المعلوم بالبداهة أن قول العباس : أنا صاحب السقاية، وقول الناس فيه كقوله لا يراد به أنه صاحب الموضع الذي كان يوضع فيه الماء المحلى بالزبيب أو التمر المنبوذ فيه، ولا ذلك الماء، وإنما المراد به أنه هو الذي يتولى إدارة هذا العمل وهو الإتيان بالزبيب أو التمر ونبذه بالماء ووضع أوانيه في المواضع التي يردها الحجاج فيشربون منها، ومن العجب أن يغفل أي لغوي أو مفسر عن هذا المعنى ويقول بعضهم : إنها اسم لمكان السقي، وبعضهم إنها مصدر سقى أو أسقى الخ.
ولما كان نفي استواء الفريقين ونفي اهتداء الظالمين إلى الحكم الصحيح في موضوع المفاضلة بينهما وإن اقتضيا بمعونة السياق تفضيل فريق المؤمنين المجاهدين على فريق السدنة والسقائين لا يعرف منهما كنه هذا الفضل ولا درجة أهله عند الله تعالى، وكان ذلك مما يستشرف له التالي والسامع، بينه تبارك اسمه بيانا مستأنفا يتضمن الرد على المؤمنين الذين تنازعوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال بعد الإسلام أفضل ؟ فقال :﴿ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ﴾ هذه العندية حكمية شرعية ومكانية جزائية، أي أعظم درجة وأعلى مقاما في الفضل والكمال في حكم الله، وأكبر مثوبة في جوار الله، من أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، الذين رأى بعض المسلمين أن عملهم أفضل القربات بعد هداية الإسلام، ومن غيرهم من أهل البر والصلاح، الذين لم ينالوا فضل الهجرة والجهاد بنوعيه المالي والنفسي، يدل على هذا العموم في التفضيل عدم ذكر المفضل عليه.
( فإن قيل ) : إن هذا التفسير يدل على أن ما يفتخر به المشركون على المؤمنين من السقاية والعمارة له درجة عند الله تعالى، ولكن درجة الإيمان مع الهجرة والجهاد أعظم- وقد سبق في الآيتين اللتين قبل هذه الآية خلاف ذلك-( قلنا ) : لا مراء في كون هذين العملين من أعمال البر التي يكون لصاحبها درجة عند الله تعالى إذا فعلا كما يرضى الله، ولذلك أقرهما الإسلام دون غيرهما من وظائف الجاهلية، ولكن الشرك بالله تعالى يحبطهما ويحبط غيرهما من أعمال البر التي كانوا يفعلونها كما تقدم.
﴿ وأولئك هم الفائزون ﴾ أي وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله الفضلى، وكرامته العليا المبينة في الآية التالية، دون من لم يكن مستجمعا لهذه الصفات الثلاث، وإن سقى الحاج وعمر المسجد الحرام، فثواب المؤمن على هذين العملين دون ثوابه على الهجرة والجهاد المذكورين، ولا ثواب للكافر عليهما في الآخرة، فإن الكفر بالله ورسله وباليوم الآخر يحبط أمثال هذه الأعمال البدنية، وإن فرض فيها حسن النية، وقلما يفعلها الكافر إلا لأجل الرياء والسمعة.
هذه الآيات تكملة لموضوع الآيتين اللتين قبلها في بيان كون الحق في عمارة المسجد الحرام بنوعيها للمسلمين دون المشركين، وكون إيمانهم وإسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارته وسقاية الحاج فيه، وإن قام بهما المسلمون أنفسهم خلافا لما توهم بعضهم في الأعمال التي بعد الإسلام، فقد روى مسلم وأبو داود وابن حبان وبعض رواة التفسير المأثور من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم. فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وذلك يوم الجمعة ـ ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. [ فدخل بعد الصلاة فاستفتاه ]، فأنزل الله ﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ ـ إلى قوله ـ لا يهدي القوم الظالمين }١.
وروى الفريابي عن ابن سيرين قال : قدم علي بن أبي طالب مكة فقال للعباس : أي عم ألا تهاجر ؟ ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أعمر المسجد وأحجب البيت، فأنزل الله﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ الآية.
وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قال العباس حين أسر يوم بدر : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ( أي الأسير ) فأنزل الله ﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾.
وروى أبو جعفر بن جرير عن كعب القرظي قال : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة : أنا صاحب البيت معي مفتاحه، ولو أشاء بت فيه، وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بت في المسجد، فقال علي رضي الله عنه : ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد. فأنزل الله﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ الآية كلها. فهذه الروايات في أسباب النزول وقائع في تفسير الآيات، وإن لم تكن أسبابا.
والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجاجه ـ من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة ـ وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة، وهي أشق العبادات النفسية البدنية المالية، والآيات تتضمن الرد عليها كلها.
وفي أثر علي أن العباس ذكر حجابة البيت، وهي لم تكن له دون السقاية التي كانت له، وأثر ابن عباس فيه تقدم معناه في تفسير الآيتين السابقتين.
تقدم تفسير عمارة المسجد في اللغة والاصطلاح. والسقاية في اللغة الموضع الذي يسقى فيه الماء وغيره، وكذا الإناء الذي يسقى به ؛ ومنه﴿ جعل السقاية في رحل أخيه ﴾ [ يوسف : ٧٠ ]، سميت سقاية لأنها يسقى بها، وصواعا ؛ لأنها يكال بها كالصاع وهو يؤنث ويذكر. قال في اللسان ( كغيره ) : والسقاية الموضع الذي يتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها، ( ثم قال ) : وفي الحديث ( كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت )٢، هي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام اهـ والحديث الذي ذكره ورد في بعض روايات خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
وقال النووي في الأسماء واللغات ما نصه : سقاية العباس رضي الله عنه موضع بالمسجد الحرام زاده الله تعالى شرفا، يستقي فيها الماء ليشربه الناس، وبينها وبين زمزم أربعون ذراعا، حكى الأزرقي في كتابه تاريخ مكة وغيره من العلماء أن السقاية حياض من أدم كانت على عهد قصي بن كلاب توضع بفناء الكعبة، ويستقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، ويسقاه الحاج، فجعل قصي عند موته أمر السقاية لابنه عبد مناف، ولم تزل مع عبد مناف يقوم بها، فكان يسقي الماء من بئر كرادم وغيره إلى أن مات ومن حصون خيبر اهـ.
أقول وقد بني هذا المكان المسمى بسقاية العباس، ولا يزال ماثلا إلى الآن، وهو حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم، وصف مؤرخو مكة مساحتها وبُعدها عن زمزم وعن الكعبة المشرفة.
ويؤخذ من استعمال الكلمة أنها صارت اسم حرفة، وكذا الحجابة وهي سدانة البيت، وهما أفضل مآثر قريش، ولذلك أقرهما الإسلام، ومن المعلوم بالبداهة أن قول العباس : أنا صاحب السقاية، وقول الناس فيه كقوله لا يراد به أنه صاحب الموضع الذي كان يوضع فيه الماء المحلى بالزبيب أو التمر المنبوذ فيه، ولا ذلك الماء، وإنما المراد به أنه هو الذي يتولى إدارة هذا العمل وهو الإتيان بالزبيب أو التمر ونبذه بالماء ووضع أوانيه في المواضع التي يردها الحجاج فيشربون منها، ومن العجب أن يغفل أي لغوي أو مفسر عن هذا المعنى ويقول بعضهم : إنها اسم لمكان السقي، وبعضهم إنها مصدر سقى أو أسقى الخ.
وههنا تستشرف النفس لمعرفة هذا الفوز المجمل فبينه تعالى بقوله :﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ﴾ في كتابه المنزل على لسان نبيه المرسل، ثم على لسان ملائكته عند الموت.
﴿ برحمة منه ﴾ أي رحمة عظيمة خاصة من لدنه عز وجل.
﴿ ورضوان ﴾ أي نوع من الرضى التام الكامل الذي لا يشوبه ولا يعقبه سخط، يدل على هذا المعنى زيادة لفظ رضوان في المبنى على لفظ رضى مع تنكيره، ويؤيده الحديث الصحيح الآتي.
﴿ وجنات ﴾ تجري من تحتها الأنهار في دار الكرامة وجوار الرحمن.
﴿ لهم فيها نعيم مقيم ﴾ أي لهم فيهما نعيم عظيم خاص بهم دون من لم يؤمن، ولم يهاجر هجرتهم، ولم يجاهد جهادهم، مقيم دائم لا يزول على عظمه وكماله الذي يدل عليه تنكير لفظه في هذا السياق أيضا.
هذه الآيات تكملة لموضوع الآيتين اللتين قبلها في بيان كون الحق في عمارة المسجد الحرام بنوعيها للمسلمين دون المشركين، وكون إيمانهم وإسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارته وسقاية الحاج فيه، وإن قام بهما المسلمون أنفسهم خلافا لما توهم بعضهم في الأعمال التي بعد الإسلام، فقد روى مسلم وأبو داود وابن حبان وبعض رواة التفسير المأثور من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم. فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وذلك يوم الجمعة ـ ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. [ فدخل بعد الصلاة فاستفتاه ]، فأنزل الله ﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ ـ إلى قوله ـ لا يهدي القوم الظالمين }١.
وروى الفريابي عن ابن سيرين قال : قدم علي بن أبي طالب مكة فقال للعباس : أي عم ألا تهاجر ؟ ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أعمر المسجد وأحجب البيت، فأنزل الله﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ الآية.
وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قال العباس حين أسر يوم بدر : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ( أي الأسير ) فأنزل الله ﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾.
وروى أبو جعفر بن جرير عن كعب القرظي قال : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة : أنا صاحب البيت معي مفتاحه، ولو أشاء بت فيه، وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بت في المسجد، فقال علي رضي الله عنه : ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد. فأنزل الله﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ الآية كلها. فهذه الروايات في أسباب النزول وقائع في تفسير الآيات، وإن لم تكن أسبابا.
والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجاجه ـ من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة ـ وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة، وهي أشق العبادات النفسية البدنية المالية، والآيات تتضمن الرد عليها كلها.
وفي أثر علي أن العباس ذكر حجابة البيت، وهي لم تكن له دون السقاية التي كانت له، وأثر ابن عباس فيه تقدم معناه في تفسير الآيتين السابقتين.
تقدم تفسير عمارة المسجد في اللغة والاصطلاح. والسقاية في اللغة الموضع الذي يسقى فيه الماء وغيره، وكذا الإناء الذي يسقى به ؛ ومنه﴿ جعل السقاية في رحل أخيه ﴾ [ يوسف : ٧٠ ]، سميت سقاية لأنها يسقى بها، وصواعا ؛ لأنها يكال بها كالصاع وهو يؤنث ويذكر. قال في اللسان ( كغيره ) : والسقاية الموضع الذي يتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها، ( ثم قال ) : وفي الحديث ( كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت )٢، هي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام اهـ والحديث الذي ذكره ورد في بعض روايات خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
وقال النووي في الأسماء واللغات ما نصه : سقاية العباس رضي الله عنه موضع بالمسجد الحرام زاده الله تعالى شرفا، يستقي فيها الماء ليشربه الناس، وبينها وبين زمزم أربعون ذراعا، حكى الأزرقي في كتابه تاريخ مكة وغيره من العلماء أن السقاية حياض من أدم كانت على عهد قصي بن كلاب توضع بفناء الكعبة، ويستقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، ويسقاه الحاج، فجعل قصي عند موته أمر السقاية لابنه عبد مناف، ولم تزل مع عبد مناف يقوم بها، فكان يسقي الماء من بئر كرادم وغيره إلى أن مات ومن حصون خيبر اهـ.
أقول وقد بني هذا المكان المسمى بسقاية العباس، ولا يزال ماثلا إلى الآن، وهو حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم، وصف مؤرخو مكة مساحتها وبُعدها عن زمزم وعن الكعبة المشرفة.
ويؤخذ من استعمال الكلمة أنها صارت اسم حرفة، وكذا الحجابة وهي سدانة البيت، وهما أفضل مآثر قريش، ولذلك أقرهما الإسلام، ومن المعلوم بالبداهة أن قول العباس : أنا صاحب السقاية، وقول الناس فيه كقوله لا يراد به أنه صاحب الموضع الذي كان يوضع فيه الماء المحلى بالزبيب أو التمر المنبوذ فيه، ولا ذلك الماء، وإنما المراد به أنه هو الذي يتولى إدارة هذا العمل وهو الإتيان بالزبيب أو التمر ونبذه بالماء ووضع أوانيه في المواضع التي يردها الحجاج فيشربون منها، ومن العجب أن يغفل أي لغوي أو مفسر عن هذا المعنى ويقول بعضهم : إنها اسم لمكان السقي، وبعضهم إنها مصدر سقى أو أسقى الخ.
﴿ خالدين فيها أبدا ﴾ أي مقيمين في تلك الجنات إقامة دائمة أبدية، أكد الخلود بالأبدية لأن معناه اللغوي طول المكث والإقامة كما قال{ عطاء غير مجذوذ ] [ هود : ١٠٨ ]، وتقدم تفسير الخلود والأبد في مثل هذا اللفظ مرارا.
﴿ إن الله عنده أجر عظيم ﴾ أي لأن ما عند الله تعالى من الأجر على الإيمان والعمل الصالح وأعظمه وأنفعه وأشقه الهجرة والجهاد عظيم جدا، لا يقدر قدره غيره جل جلاله وعم نواله، وناهيك بالإيمان الكامل الباعث على هجر الوطن، ومفارقة الأهل والسكن، وإنفاق المال الذي هو مناط رغائب الدنيا ونعيمها، وبذل النفس التي هي العلة الغائية للبشر من وجودهم، جهادا في سبيل الله وهي الطريق التي شرعها، والسنن التي سنها لإعلاء كلمته ونصر رسوله، وإقامة ما شرعه من الحق والعدل لعباده، فلا غرو أن يبشرهم بجميع أنواع الأجر والجزاء الروحية والجسدية.
فالأجر الروحاني قسمان عبر عنهما بالرحمة والرضوان، وهما رتبتان أو درجتان نكرهما للدلالة على التنويع والتعظيم الذي نطقت به الآية الثانية. فهذه الرحمة الخاصة، تشمل ما يخصهم به من العطف والإحسان في الدنيا والآخرة، مما هو فوق رحمته العامة لكل الخلق التي وسعت كل شيء، وأما الرضوان -وهو الاسم لكمال الرضاء كما تقدم- فهو فوق نعيم الجنة كله، فإن الله يرحم من رضي عنه ومن لم يرض عنه، وإن كانت رحمته لمن رضي عنه أعلى وأعظم، والدليل على أن هذا الرضوان أعلى النعيم، وأكمل الجزاء، وأنه يكون في الجنة أكبر نعيمها قوله تعالى في هذه السورة ﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ﴾ [ التوبة : ٧٢ ] فقد عطف الرضوان على ما قبله عطف جملة لا عطف مفرد، للدلالة على أنه فضل مستقل فوق الجزاء الذي تقدمه في الوعد وهو الجنات وما فيها، فهذه الآية أبلغ في تعظيم شأن الرضوان الإلهي في الجنة من آية هذا السياق ومن آية آل عمران التي أنزلت قبلهما :﴿ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ﴾ [ آل عمران : ١٥ ] ويؤيد ما قلناه من أن رضوان الله تعالى في الجنة فوق نعيمها كله ما رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ! فيقولون : لبيك ربنا وسعديك، فيقول هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا »١.
ومن تنطع بعض الصوفية في فلسفتهم أنهم لا يطلبون من الله النجاة من النار ولا الفوز بالجنة وإنما يطلبون النعيم الروحاني الأعلى فقط، وهو لقاؤه ورضوانه ورؤيته عز وجل، وإنها لفلسفة جهلية من نزغات منكري البعث الجسماني، مخالفة لنصوص كتاب الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه في غير هذا الموضع.
وأكبر العبر للمسلم في هذا السياق أن البدع الطارئة على الدين يقصد بها في أول أمرها أن تكون مزيد كمال في الدين، تقوي أصوله وما شرع لأجله، ثم ينتهي ذلك بهدم أصوله وما شرع له وإقامة البدعة مقامها، كما يعلم مما رواه البخاري عن ابن عباس في سبب عبادة قوم نوح لود وسواع ويغوث ويعوق ونسر من أنهم كانوا قوما صالحين، فصوروهم بعد موتهم لأجل الذكرى والاتباع، ثم عبدوهم وعبدوا صورهم بالتعظيم والدعاء والتوسل والاستشفاع وغير ذلك، ثم صارت عبادة الله وحده منكرة عندهم، ثم سرى ذلك الشرك في العرب وغيرهم، حتى آل الأمر إلى منع عبادة الله تعالى وحده في بيته الحرام ومنع المسلمين من دخوله لعبادته وحده كما تقدم، وهكذا شأن كل بدعة : يؤول أمر أهلها إلى محاربة السنة وعداوة من يعتصم بها، وينكر البدع المحدثة التي لعن الرسول صلى الله عليه وسلم أهلها، كما فعل ويفعل المبتدعون في تكفير الوهابية وغيرهم من دعاة السنة والمعتصمين بها أو تضليلهم، وقتالهم عند الإمكان.
قد علم مما تقدم أنه لما أعلن الله تعالى براءته وبراءة رسوله من المشركين، وآذنهم بنبذ عهودهم، وبعود حال القتال بينهم وبين المؤمنين كما كانت، بعد أن تبث بالتجربة أنهم لا عهود لهم يوفى بها، ولا أيمان يبرونها، بل يعقدونها عند الخوف، وينقضونها عند الشعور بالقدرة على الفتك ـ كما تقدم شرحه مفصلا ـ عز ذلك على بعض المسلمين، وفتح به باب لدسائس المنافقين وتبرم ضعفاء الإيمان، وكان أكثرهما من الطلقاء الذين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، كان هو السبب لما تقدم من تكرار الأمر بقتال المصرين على الشرك، الناقضين للعهد، وتأكيده، وإقامة الدلائل على وجوبه، وكونه مقتضى الحق والعدل والمصلحة، وإنما كان موضع الضعف من بعض المسلمين في ذلك نعرة القرابة، ورحمة الرحم، وبقية عصبية النسب، إذ كان لا يزال لكثير منهم أولو قربى من المشركين يكرهون قتالهم، ويتمنون إيمانهم، ويرجونه إذا تركوا وشأنهم، بل كان لبعض ضعفاء الإيمان منهم بطانة ووليجة منهم.
فبعد أن بين الله تعالى لهم ما تقدم مما أشرنا إليه آنفا، وقفى عليه بفضل الإيمان والجهاد والهجرة، وحبوط أعمال المشركين حتى ما كان منها خيرا في نفسه، كسقاية الحاج والعمارة الصورية للمسجد الحرام، بعد هذا بين لهم أن ما ذكر من فضل الإيمان والهجرة والجهاد، وما بشر الله به أهله من رحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، لا يتم إلا بترك ولاية الكافرين، وإيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد، والأخ والزوج والعشيرة والمال والسكن.
فقال :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء ﴾ أي لا يتخذ أحد منكم أحدا من أب أو أخ وليا له ينصره في القتال، أو يظاهر لأجله الكفار، بأن يتخذه بطانة ووليجة يخبره بأسرار المؤمنين، وما يستعدون به لقتال المشركين، كما علم في هذا السياق من آية ٦ ﴿ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ﴾.
﴿ إن استحبوا الكفر على الإيمان ﴾ أي إن أصروا على الكفر وآثروه على الإيمان بالحب وما يقتضيه هذا الحب من قتال المؤمنين وعداوتهم، كما علم من شأنهم منذ ظهر الإسلام إلى نزول هذه السورة بعد فتح مكة، ولا سيما جموعهم في حنين الآتي ذكرها. وقد علم من قبل فتحها أن حاطب بن أبي بلتعة -وهو من أهل بدر- قد استخفته نعرة القرابة فكتب إلى مشركي مكة سرا يعلمهم فيه بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قتالهم، ليتخذ له بذلك يدا عندهم يكافئونه عليها بحماية ما كان له عندهم من قرابة، وفي ذلك نزلت سورة الممتحنة في نهي المؤمنين عن موالاة أعداء الله وأعدائهم وعن موادتهم، فتراجع فكل ما فيها من تعليل وتقييد للنهي عن المودة والموالاة فهو معتبر هنا، وقيل : إن هذه الآية نزلت في قصته، وقيل : فيما تقدم من امتناع العباس من الهجرة لما دعي إليها، وقيل : في كل من ثقلت عليه الهجرة عندما دعوا إليها، ولا يصح من ذلك شيء، وقيل : في الذين شكوا مما أوجبته هذه السورة من البراءة من المشركين وتحدثوا باستنكاره، والصواب ما تقدم من نزولها مع ما قبلها وما بعدها، وأنهم استثقلوا ذلك ولم يصح أنهم شكوا منه.
﴿ ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ﴾ أي ومن يتولهم منكم -والحال ما ذكر- فأولئك المتولون لهم هم الظالمون لأنفسهم ولجماعتهم، العريقون في الظلم، الراسخون فيه بوضع الولاية في موضع البراءة والمودة في محل العداوة، دون من لم تستخفه نعرة القرابة وحمية الجاهلية النسبية إلى أن تحمله على ولاية أعداء الله ورسوله والمؤمنين بنصرهم ومظاهرتهم في القتال وما يتعلق به. فهو بمعنى قوله تعالى في سورة الممتحنة﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ﴾ [ الممتحنة : ٨، ٩ ] فإنما النهي عن ولاية الحرب والنصرة للكافرين المحاربين لنا لأجل ديننا. ومثله النهي عن تولي أهل الكتاب في سورة المائدة وقوله فيها ﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ [ المائدة : ٣٥ ] فالظلم في الآيات الثلاث واحد والولاية واحدة، وذكر بعض المفسرين أن ابن عباس فسر الظلم في آية براءة بالشرك ؛ لأن متولي القوم منهم كما قال ابن جرير في آية المائدة، وإنما يتحقق هذا في الولاية التامة دون مثل ما فعل حاطب متأولا.
قد علم مما تقدم أنه لما أعلن الله تعالى براءته وبراءة رسوله من المشركين، وآذنهم بنبذ عهودهم، وبعود حال القتال بينهم وبين المؤمنين كما كانت، بعد أن تبث بالتجربة أنهم لا عهود لهم يوفى بها، ولا أيمان يبرونها، بل يعقدونها عند الخوف، وينقضونها عند الشعور بالقدرة على الفتك ـ كما تقدم شرحه مفصلا ـ عز ذلك على بعض المسلمين، وفتح به باب لدسائس المنافقين وتبرم ضعفاء الإيمان، وكان أكثرهما من الطلقاء الذين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، كان هو السبب لما تقدم من تكرار الأمر بقتال المصرين على الشرك، الناقضين للعهد، وتأكيده، وإقامة الدلائل على وجوبه، وكونه مقتضى الحق والعدل والمصلحة، وإنما كان موضع الضعف من بعض المسلمين في ذلك نعرة القرابة، ورحمة الرحم، وبقية عصبية النسب، إذ كان لا يزال لكثير منهم أولو قربى من المشركين يكرهون قتالهم، ويتمنون إيمانهم، ويرجونه إذا تركوا وشأنهم، بل كان لبعض ضعفاء الإيمان منهم بطانة ووليجة منهم.
فبعد أن بين الله تعالى لهم ما تقدم مما أشرنا إليه آنفا، وقفى عليه بفضل الإيمان والجهاد والهجرة، وحبوط أعمال المشركين حتى ما كان منها خيرا في نفسه، كسقاية الحاج والعمارة الصورية للمسجد الحرام، بعد هذا بين لهم أن ما ذكر من فضل الإيمان والهجرة والجهاد، وما بشر الله به أهله من رحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، لا يتم إلا بترك ولاية الكافرين، وإيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد، والأخ والزوج والعشيرة والمال والسكن.
ثم انتقل من بيان هذه الدركة من الإخلال بحقوق الإيمان ومقتضياته إلى الدركة التي من شأنها أن تكون سببا لها، فقال ﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ﴾.
وجّه الله عز وجل الخطاب في النهي عن الجريمة الكبرى وهي ولاية الكافرين المعادين لله ورسوله إلى المؤمنين بعنوانهم مباشرة، ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم في أمر الجريمة الثانية والوعيد عليها على فرض وقوعها منهم، ولم يشأ أن يعطف هذا على ما قبله فيكون خطابا منه بعنوان صفة الإيمان المنافي لمضمونه، ولذلك عبر عنه بأداة الشرط التي من شأن شرطها أن يكون مشكوكا في وقوعه، أو من شأنه أن لا يقع، وهي«إن »، ولم يرتب هذه المؤاخذة على أصل الحب لما ذكر في الآية من مجامع حظوظ الدنيا ولذاتها ؛ لأنه غريزي، بل رتبه على تفضيل هذه الحظوظ والشهوات الدنيوية في الحب على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله الموعود عليه بما تقدم آنفا من أنواع السعادة الأبدية في الآخرة، وكذا ما دونه كما يدل عليه تنكير كلمة جهاد هنا. وذكر الأبناء والأزواج هنا دون آية النهي عن الولاية ؛ لأن من شأن الإنسان أن يتولى في الحرب من فوقه كالأب ومن هو مثله كالأخ دون من هو دونه، ومن شأنه أن يكون تابعا له كابنه وزوجه، ولكنهما في المرتبة الأولى في الحب، وإننا نبين مراتب هذه الأصناف الثمانية في الحب، ونقفي عليها بمعنى حب الله ورسوله، وكون المؤمن الصادق لا يؤثرعليهما شيئا منها، ولا يعلو حبهما عنده حب شيء سواهما :
١ حب الأبناء للآباء له مناشئ من غرائز النفس وشعورها وعواطفها وعوارفها ومعارفها وطباعها، ومن عُرف الأقوام وآدابهم الاجتماعية وشرائعهم ودينهم، فالولد بضعة من أبيه يرث بعض صفاته وطباعه وشمائله من جسدية ونفسية وعقلية، وأول شيء يشعر به، وينمي في نفسه بنماء تمييزه وعقله إحسان والديه إليه، واقتران صورتهما في خياله بكل محبوب له. ويتلو هذا شعوره بما هما عليه من الحنان والعطف والحدب عليه والحب الخالص له الذي لا يشوبه رياء ولا تهمة، وللوالدة القدح المعلى في هذين، ويفوقها الوالد بما يحدث للولد بعد هذا من شعور الإعجاب بالعظمة والكمال والقدرة وهو من الغرائز، والطفل يشعر بأن أباه أعظم الناس وأحقهم بالإجلال والتعظيم. وهذا الشعور إما أن ينمي ويزداد في الكبر إذا كان الوالد مستحقا له ولو من بعض الوجوه، وإما أن يضعف، ولكنه قلما يزول عينا وأثرا وإن كان في غير محله.
وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم في أسواقهم وفي معاهد الحج، حتى قال الله تعالى :﴿ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]، يتلو ذلك شعور عزة الحماية والصيانة له من والده والذود عنه والانتقام له إذا ضيم، وفوق هذا شعور الشرف، فهو يشرف بشرفه، ويحقر بضِعَته وخسته. فإن أهين بقول أو فعل ترجف أعصابه ويتبيغ دمه، ولا تكاد تهدأ ثائرته إلا بالانتقام له.
تؤيد هذه الأنواع من الشعور والغرائز ملكات تطبعها الحقوق العرفية والآداب الاجتماعية والشرائع الدينية، فالله تعالى قد قرن الإحسان بالوالدين بتوحيده وعبادته وحده بمثل قوله :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] الخ، وقرن شكرهما بشكره في قوله :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ﴾ [ لقمان : ١٢ ]، ثم إنه أمر بمعاملتهما بالمعروف وإن كانا مشركين مع نهيه عن طاعتهما إذا دعواه إلى الشرك، فقال { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ] [ لقمان : ١٥ ].
فهذه مجامع نوازع حب الولد الوالد، والوالدة تفوقه في بعضها وتتخلف عنه في بعض. ولما كان الوالدون هم الذين يقاتلون ويحتاجون إلى الموالاة والمناصرة دون الوالدات اقتصر على ذكرهم، تبعا لنهيه عن موالاتهم ؛ لأن موالاتهم لهم من قبيل طاعتهم في الشرك الذي نهاهم عنه، ونصر الشرك وأهله لأجله شرك، بل اتفق العلماء على أن الرضاء بالكفر كفر، فكيف بنصر الكفر على الإيمان بموالاة الكافرين ونصرهم على المؤمنين ؟ ولكنه لم ينههم عن حب آبائهم المشركين ؛ بل حذرهم أن يكونوا أحب إليهم من الله ورسوله وجهاد ما في سبيله، لأن هذا لا يجتمع مع الإيمان الصحيح كما سيأتي. كذلك نهاهم في سورة المجادلة عن موادة من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم إذا كانت لأجل المحادة كما يفيده ترتيب النهي على فعلها، فإن المودة هي المعاملة الحبية، والمحادة شدة العداوة والبغضاء، فاشتراك المؤمن المحب لله ورسوله مع المحاد لله ولرسوله في المودة المرتبة على صفتيهما جمع بين الضدين، فهو في معنى موالاتهم بل أخص منها.
٢ حب الآباء للأبناء له جميع تلك المناشئ الغريزية والطبيعية، وأنواع الشعور والعواطف النفسية، وبعض تلك الحقوق العرفية والآداب الاجتماعية والأحكام الشرعية لا جميعها، ولكن حب الوالد للولد أحر وأقوى وأنمى وأبقى من عكسه، وهو أشد شعورا بمعنى كون ولده بضعة منه، وكون وجوده مستمدا من وجوده، ويشعر ما لا يشعر من معنى كونه نسخة ثانية منه، يرجى لها من البقاء ما لا يرجى للنسخة الأولى، فهو يحرص على بقائه كما يحرص على نفسه أو أشد، ويحرم نفسه من كثير من الطيبات إيثارا له بها في حاضر أمره ومستقبله، ويكابد الأهوال ويركب الصعاب وكثيرا ما يقترف الحرام في سبيل السعي والإدخار له، وقد بينا في تفسير ﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] الآية أن عاطفة البنوة ونعرتها من أقوى غرائز الفطرة، وناهيك بما ينميها في النفس من قيام الوالد بشؤون الولد من التربية والتعليم، وما يحدثه ذلك من العواطف في الحال، والذكريات في الاستقبال، وكونه مناط الآمال، قال الله تعالى :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ﴾ [ الكهف : ٤٢ ]، قالوا المعنى أن الأعمال الصالحة التي يبقى ثوابها للإنسان بعد الحياة الدنيا خير من زينة المال فيها ثوابا، وخير من البنين فيها أملا، فهو نشر على ترتيب اللف. وقد بينا أسباب حب الآباء للبنين بالتفصيل في تفسير ﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ﴾ [ آل عمران : ١٣ ] الخ.
٣ حب الأخوة يلي في المرتبة حب البنوة والأبوة، والأخوان صنوان في وشيجة الرحم، فالأخ الصغير كالولد، والكبير كالوالد، ويختلفان عنهما بشعور المساواة في المنبت وطبقة القرابة، وقد يماري فيه بعض الذين أفسدت فطرتهم نزغات الفلسفة المادية فيزعمون أنه من التقاليد العادية لا منشأ له من غرائز النفس ولا مقتضيات الطبع، بل يقول بعضهم إن عداوة الأخوة أعرق في الغريزة من محبتها، ويستدلون عليه بما ورد في الكتب الإلهية من قتل أحد ولدي آدم لأخيه في أول النشأة، وعهد سلامة الفطرة من تأثير التنازع في شؤون الحياة، ومن فعلة إخوة يوسف به وهم من أسلم الناس أخلاقا وخيرهم وراثة.
والحق فيما قصه علينا الوحي من قتل قابيل لأخيه هابيل أنه بيان لما في استعداد البشر من التنازع بين غرائز الفطرة بالتعارض بين عاطفة وشيجة الرحم وحب العلو، والرجحان والامتياز على الأقران في رغائب النفس ومنافعها، وما قد يلد من الحسد، وما قد يتبع الحسد من البغي والعدوان، فضرب الله لنا مثلا لبيان هاتين الحقيقتين ليرتب عليه بيان كون غريزة الدين بل هدايته هي المهذبة للفطرة البشرية بترجيح الحق على الباطل، والخير على الشر، فكان قابيل مثلا لمن غلبت عليه النزعة الثانية، وهابيل مثلا لمن غلبت عليه الأولى بترجيح هداية الدين، وذلك قوله تعالى حكاية عنه﴿ لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العلمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ﴾ [ المائدة : ٣١، ٣٢ ]. والدليل على محبة الأخوة ووشيجة الرحم في نفس قابيل، وتنازعها مع حب العلو والرجحان على أخيه، أو مساواته وحسده لتقبل قربانه دونه قوله تعالى :﴿ فطوَّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ﴾ [ المائدة : ٣٣ ]، فإن التعبير عن ترجيح داعية الشر المتولدة من الحسد العارض على عاطفة حب الأخوة ورحمة الرحم«بالتطويع » من أبلغ تحديد القرآن لدقائق الحقائق باللفظ المفرد، فإن معنى صيغة التفعيل التكرار والتدريج في محاولة الشيء كترويض الفرس الجموح، وتذليل البعير الصعب، فهي تدل على أن قابيل كان يجد من نوازع الفطرة في نفسه الأمارة بالسوء مانعا يصدها عما زينه له الحسد من قتل أخيه، وأنها ما زالت تأمره ويعصيها حتى حملته على طاعتها بعد جهد وعناء. وقد شرحنا هذا المعنى شرحا واسعا في تفسير الآيات ( ج ٦ تفسير ).
وقد وقع مثل هذا الحسد من إخوة يوسف : كبر عليهم إقبال أبيهم يعقوب بكل وجهه وكل نفسه على هذا الابن الصغير الذي لم يبلغ أن ينفعه أو ينفع الأسرة بخدمة ولا حماية ولا غيرها من مواضع آمال الآباء في الأبناء، وإعراضه عنهم على قوتهم وقيامهم بكل ما يحتاج إليه الأب والأسرة، فزين لهم الحسد أن يقتلوه أو يغربوه ليجتمع الشمل، ويخلو لهم وجه أبيهم بالإقبال عليهم، ويكونوا بذلك قوما صالحين بزوال سبب الشقاق والفساد فيهم، ولكنهم بعد التشاور رجحوا تغريبه وإبعاده عن أبيه عندما أشار به بعضهم، ولولا عاطفة الرحم وهداية الدين لما رضي العشرة برأي الواحد في ترك قتله. ولماذا نحفظ هذه الوقائع الشاذة وننسى الأمر الغالب الأعم، وهو تواد الإخوة وتعاونهم وتناصرهم بباعث الغريزة ولوازمها ؟ ومنه ما كان من إحسان يوسف إلى إخوته ثم عفوه عنهم ثم معيشته معهم ؟
بعد هذا أذكر القارئ الذي أخاف عليه فساد الأفكار المادية المغرية بعداوة الأخوة للجهل بالدين والحرمان من هدايته، بما هو معهود في هذه البلاد من إهمال تعليمه وتربيته، أذكره بما لا يستطيع العالم المادي إنكاره أو المكابرة فيه من منشأ حب الأخوة في النفس، وما تقتضيه من التواد والتناصر في نظام الاجتماع البدوي والمدني، وهو أن المعهود من أخلاق البشر وآدابهم وعاداتهم المنبعثة عن طباعهم وغرائزهم أن المحبة والعطف فيما بينهم يكون على قدر ما بين أفرادهم وجماعاتهم من الاشتراك في صفات النفس الموروثة، وعواطفها المكتسبة بالتربية والمعاشرة، وفي شؤون الحياة من طبيعية واجتماعية، وفي الحقوق والآداب الشرعية والعادية، وللأخوة من جملة هذه الأمور ما ليس لمن دونهم من الأقارب، بله من بعد عنهم من الأجانب، فالأخ صنو أخيه، منبتهما واحد، ودمهما واحد، ووراثتهما النفسية والجسدية تتسلسل من أرومة واحدة، وإن تفاوتوا فيها، وكل منهما يشعر بالاعتزاز بعزة الآخر إلا أن يفسد فطرته الحسد، ويحفظ من ذكريات الطفولة والصبا ما له سلطان عظيم على النفس، وتأثير كبير في آصرة الرحمة والحب، وما زال أهل الوسط من بيوت الناس الذين سلمت فطرتهم، وكرمت أخلاقهم، يحبون إخوتهم كحبهم أنفسهم وأولادهم، وي
هذه الآيات تذكير للمؤمنين بنصر الله لهم على أعدائهم في مواطن القتال الكثيرة معهم ؛ إذ كان عددهم وعتادهم قليلا لا يرجى معه النصر بحسب الأسباب والعادة، وابتلائه إياهم بالتولي والهزيمة يوم حنين على عجبهم بكثرتهم ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك بعناية خاصة من لدنه ليتذكروا أن عنايته تعالى وتأييده لرسوله وللمؤمنين بالقوى المعنوية أعظم شأنا وأدنى إلى النصر من القوة المادية، كالكثرة العددية وما يتعلق بها، وجعل هذا التذكير تاليا للنهي عن ولاية آبائهم وإخوانهم من الكفار، وللوعيد على إيثار حب القرابة والزوجية والعشيرة-ولو كانوا مؤمنين- والمال والسكن على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، تفنيدا لوسوسة شياطين الجن والإنس ـ من المنافقين ومرضى القلوب ـ لهم وإغرائهم باستنكار عود حالة الحرب مع المشركين وتنفيرهم من قتالهم لكثرتهم، ولقرابة بعضهم، ولكساد التجارة التي تكون معهم، وذلك بعد إقامة الدلائل على كون ذلك من الحق والعدل والمصلحة العامة في الدين والدنيا، وفي هذه الغزوة من العبر والحكم والأحكام ما ليس في غيرها، وسنبين المهم منه في إثر تفسير الآيات.
قال عز وجل :
﴿ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ﴾ الظاهر أن هذا الخطاب مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لجماعة المسلمين بالتبع لما قبله وفيهم بقية من المنافقين وضعفاء الإيمان، ولم يعطف عليه لأنه بيان مستأنف لإقامة الحجة على صحة ما قبله من نهي ووعيد، وأن الخير والمصلحة للمؤمنين في ترك ولاية أولي القربى من الكافرين، وفي إيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب أولي القربى والعشيرة والمال والسكن مما يحب للقوة والعصبية وللتمتع بلذات الدنيا، فإن نصر الله تعالى لهم في تلك المواطن الكثيرة لم يكن بقوة عصبية أحد منهم، ولا بقوة المال، وما يأتي به من الزاد والعتاد، وقد ترتب عليه من القوة والعزة والثروة ما لم يكن لهم مثله من قبل، ثم ترتب عليه من السيادة والملك بطاعة الله ورسوله ما هو أعظم من ذلك فيما بعد، ثم يكون له من الجزاء في الآخرة ما هو أعظم وأدوم، وإنما ذلك من فضل الله عليهم بهذا الرسول الذي جاءهم بهذا الدين القويم.
والمواطن جمع موطن، وهي مشاهد الحرب ومواقعها، والأصل فيه مقر الإنسان ومحل إقامته كالوطن، ووصفها بالكثيرة لأنها تشمل غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر سراياه التي أرسل فيها بعض أصحابه ولم يخرج معهم، ولا يطلق اسم الغزوة ومثلها الغزاة والمغزى إلا على ما تولاه صلى الله عليه وسلم بنفسه من قصد الكفار إلى حيث كانوا من بلادهم أو غيرها.
روى البخاري ومسلم في كتاب المغازي من صحيحيهما عن أبي إسحاق السبيعي أنه سأل زيد بن أرقم : كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة ؟ قال : تسع عشرة. وسأله : كم غزا معه ؟ قال : سبع عشرة١، قال الحافظ في شرح الحديث من أول الكتاب عند قوله تسع عشرة : كذا قال، ومراده الغزوات التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه- سواء قاتل أو لم يقاتل- لكن روى أبو يعلى من طريق أبي الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون، وإسناده صحيح، وأصله في مسلم. فعلى هذا ففات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها، ولعلها الأبواء وبواط، وكأن ذلك خفي عليه لصغره اه.
ثم ذكر الحافظ عن موسى بن عقبة أنه صلى الله عليه وسلم قاتل بنفسه ثمان : بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم المصطلق ثم خيبر ثم مكة ثم حنين ثم الطائف( قال ) وأهمل غزوة قريظة ؛ لأنه ضمها إلى الأحزاب لكونها كانت في أثرها وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب. وكذا وقع لغيره عد الطائف وحنين واحدة لتقاربهما، فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم وقول جابر. وقد توسع ابن سعد فبلغ عدد المغازي التي خرج فيها رسول الله بنفسه سبعا وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي، وهو مطابق لما عده ابن إسحاق، إلا أنه لم يفرد وادي القرى من خيبر، أشار إلى ذلك السهيلي، وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل.. الخ، ووضح الحافظ هذا البسط من جانب، وتدخل بعض المغازي المتقاربة في بعض من جانب آخر، فكان خير جمع بين الأقوال.
ثم قال : وأما البعث والسرايا فعند ابن إسحاق ستا وثلاثين، وعند الواقدي ثمانيا وأربعين( كذا )، وحكى ابن الجوزي في التلقيح ستا وخمسين، وعند المسعودي ستين، وبلغها شيخنا زيادة على السبعين، ووقع عند الحاكم في الإكليل أنها تزيد على مائة، فلعله أراد ضم المغازي إليها. اه واختار بعض العلماء أن المغازي والسرايا كلها ثمانون.
ومن المعلوم أنه لم يقع فيها كلها قتال، فيقال : إنه تعالى نصرهم فيها، كما أن من المعلوم أنه تعالى نصرهم في كل قتال إما نصرا عزيزا مؤزّرا كاملا وهو الأكثر، ولا سيما بدر والخندق وغزوات اليهود والفتح، وإما نصرا مشوبا بشيء من التربية على ذنوب اقترفوها كما وقع في أحد ؛ إذ نصرهم الله أولا، ثم أظهر العدو عليهم بمخالفتهم أمر القائد الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في أمر من أهم أوامر الحرب وهو حماية الرماة لظهورهم كما تقدم تفصيله في سورة آل عمران وتفسيرها، وكما كان في حنين من الهزيمة في أثناء المعركة، والنصر العزيز التام في آخرها وهو ما بينه تعالى بقوله :
﴿ ويوم حنين ﴾ أي ونصركم يوم حنين أيضا، وهو واد إلى جنب ذي المجاز قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات، هذا ما اعتمده الحافظ في الفتح وغيره، وقيل إن بينه وبين مكة ست ليال، وعن الواقدي ثلاث ليال. وفي روح المعاني للآلوسي إنه على ثلاثة أميال من الطائف. وتسمى هذه الغزوة غزوة أوطاس، وغزوة هوازن. وأوطاس - كما في معجم البلدان- واد في أرض هوازن كانت فيه وقعة حنين للنبي صلى الله عليه وسلم ببني هوازن، ومثله في القاموس، وقد عقد البخاري في صحيحه بابا لغزوة أوطاس بعد سوق الروايات في غزوة حنين. وقال الحافظ في الكلام على هذه الترجمة : قال عياض : هو واد في دار هوازن، وهو موضع حرب حنين. اه.
وهذا الذي قاله ذهب إليه بعض أهل السير، والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين. ويوضح ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بجيلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عسكرا مقدمهم أبو عامر الأشعري إلى من مضى إلى أوطاس، -كما يدل عليه حديث الباب- ثم توجه هو وعساكره إلى الطائف. وقال أبو عبيد الله البكري : أوطاس واد في دار هوازن، وهناك عسكروا هم وثقيف، ثم التقوا بحنين اه.
وقال ابن القيم في الاسمين : وهما موضعان بين مكة والطائف، فسميت الغزوة باسم مكانها، وتسمى غزوة لأنهم هم الذين أتوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم اه. والأولى أن يقال : إنها سميت باسمهم لأنها وقعت بأرضهم، ولأنهم هم الذين جمعوا جموع العرب من القبائل الأخرى لقتاله صلى الله عليه وسلم، وكانوا هم الموقدين لنار الحرب والمقصودين بها.
وقوله تعالى :﴿ إذ أعجبتكم كثرتكم ﴾ بدل من يوم حنين، أو عطف بيان له، وحاصل معناه مع ما سبقه أنه نصركم في مواطن كثيرة ما كنتم تطمعون فيها بالنصر بمحض استعدادكم وقوتكم لقلة عددكم وعتادكم، ونصركم أيضا في يوم حنين، وهو اليوم الذي أعجبتكم فيه كثرتكم ؛ إذ كنتم اثني عشر ألفا وكان الكافرون أربعة آلاف فقط، فقال قائلكم معبرا عن رأي الكثيرين الذين غرتهم الكثرة : لن نغلب اليوم من قلة، وقد زعم بعض رواة السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال هذا القول، ورده الرازي بأنه غير معقول، ونرده أيضا بأن المنقول الصحيح خلافه، وهو ما رواه يونس بن بكير في زيادات المغازي عن الربيع بن أنس قال : قال رجل يوم حنين : لن نغلب اليوم من قلة. فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة. اه أي وقعت بأسبابها، فكانت عقوبة على هذا الغرور والعجب الذي تشير إليه الكلمة، وتربية للمؤمنين، حتى لا يعودوا إلى الغرور بالكثرة ؛ لأنها ليست إلا أحد الأسباب المادية الكثيرة للنصرة، وما تقدم بيانه من الأسباب المعنوية في سورة الأنفال أعظم، وقد قال تعالى حكاية عن المؤمنين الكاملين الذين يعلمون قيمة أسباب النصر المعنوية كالصبر والثقة بالله والاتكال عليه ﴿ قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ] وكذلك وقعت الهزيمة بأسبابها في يوم أحد عقوبة وتربية كما تقدم في محله.
﴿ فلم تغن عنكم شيئا ﴾ أي فلم تكن تلك الكثرة التي أعجبتكم وغرتكم كافية لانتصاركم ؛ بل لم تدفع عنكم شيئا من عار الغلب والهزيمة.
﴿ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ﴾ أي ضاقت عليكم الأرض برحبها وسعتها فلم تجدوا لكم فيها مذهبا ولا ملتحدا.
﴿ ثم وليتم مدبرين ﴾ أي وليتم ظهوركم لعدوكم مدبرين لا تلوون على شيء.
الخروج إلى حنين والقتال والهزيمة :
قال الحافظ في أول الكلام على هذه الغزوة من الفتح : قال أهل المغازي : خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين لست خلت من شوال. وقيل : لليلتين بقيتا من رمضان. وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان وسار سادس شوال، وكان وصوله إليها في عاشره. وكان السبب في ذلك أن مالك بن عوف النضري جمع القبائل من هوازن، ووافقه على ذلك الثقفيون، وقصدوا محاربة المسلمين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم، قال عمر بن شيبة في كتاب مكة : حدثنا الحزامي - يعني إبراهيم بن المنذر ـ حدثنا ابن وهب عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة أنه كتب إلى الوليد : أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني عن قصة الفتح ـ فذكر له وقتها ـ فأقام عامئذ بمكة نصف شهر ولم يزد على ذلك حتى أتاه أن هوازن وثقيفا قد نزلوا حنينا يريدون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمعوا إليه ورئيسهم عوف بن مالك. ولأبي داود بإسناد حسن من حديث سهل ابن الحنظلية أنهم ساروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال : إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم قد اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :)تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى ). وعند ابن إسحاق من حديث جابر ما يدل على أن هذا الرجل هو عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي اهـ.
وقد أخرج البيهقي في الدلائل حديث الربيع بن أنس المتقدم عن يونس بن بكر، وزاد فيه أنهم -أي المسلمين- كانوا اثني عشر ألفا منهم ألفان من أهل مكة، أقول : وأما العشرة الآلاف فهم أصحابه الذين فتح بهم مكة. وفي البخاري من حديث هشام بن زيد عن أنس عبارة مبهمة ؛ بل غلط في هذا العدد، قال : لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم، ومع النبي عشرة آلاف من الطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده، فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما فقال :( يا معشر الأنصار )، فقالوا لبيك يا رسول الله نحن معك. ثم التفت عن يساره ( فذكر مثل ذلك ) الخ، فقوله من الطلقاء غلط، وفي رواية له : ومن الطلقاء، وهي مبهمة كما يعلم من رواية مسلم وهي «ومعه الطلقاء» الخ، ومن رواية البيهقي التي تقدمت آنفا. وهؤلاء الطلقاء كانوا ألفين. وكان حال بعض الألفين وخفة بعض الشبان هما السبب الأول للهزيمة، إذ كان بعضهم منافقا أظهر الإسلام لما غلب على أمره ووطنه ومهد دينه ومعهد عزه وكبريائه، وبعضهم ضعيف الإيمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم إلى أن يظهر لهم نور الإسلام وفضله بالعمل ومعاشرته صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين الصادقين، ويزول ما كان في قلوبهم من ألفة الشرك وعداوة الإسلام، حتى إن بعضهم أظهر الشماتة- بل الكفر- عند ما وقعت الهزيمة، وكان منهم من ينوي قتل النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمكنته الفرصة، كما يعلم من الروايات الصحيحة الآتية في القصة.
وأما السبب الثاني للهزيمة فهو مثل ما سبق في وقعة أحد من ظهور المسلمين على المشركين، وإقبالهم على الغنائم واشتغالهم بها عن القتال، وعند ذلك استقبلتهم هوازن وبنو نصر بالسهام، وكانوا رماة لا يكاد يخطئ لهم سهم.
روى الشيخان وغيرهما من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وسأله رجل من قيس : أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة، وأنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ـ وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها ـ وهو يقول :
أنــا النبـي لا كـذبْ أنــا ابن عـبد المطـلب
وفي رواية لمسلم قال : جاء رجل إلى البراء فقال : أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة ؟ فقال : أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى. ولكنه انطلق إخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن- وهم قوم رماة- فرموهم برشق من نبل -كأنها رجل من جراد- فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغتة، فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول :
أنــا النـبـي لا كـذب أنــا ابن عبـد المطـلب
( اللهم انزل نصرك ). قال البراء : كنا والله إذا احمّر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى مسلم أيضا من حديث سلمة بن الأكوع قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فلما واجهنا العدو وتقدمت فأعلو ثنية فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم فتوارى عني، فما دريت ما أصنع، ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فولى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرجع منهزما وعلي بردتان مئتزرا بأحدهما، مرتديا بالأخرى، فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعا، ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما - وهو على بغلته الشهباء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد رأى ابن الأكوع فزعا )، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض ثم استقبل به وجوههم فقال :( شاهت الوجوه )، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين. ١ اهـ.
عدد من ثبت معه صلى الله عليه وسلم في حنين :
قال الحافظ في شرح حديث البراء من فتح الباري عند قوله : وأبو سفيان بن الحارث آخذ برأس بغلته البيضاء- بعد بيان أن الحارث هذا هو ابن عبد المطلب عمه صلى الله عليه وسلم- ما نصه : وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة قال : لما فر الناس يوم حنين جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
أنا النبـي لا كـذب أنا ابـن عبد المطلـب
فلم يبق معه إلا أربعة نفر : ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم : علي والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر، ( قال ) : وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل.
وروى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال : لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل، وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من ثبت يوم حنين.
وروى أحمد والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس، وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة. وهذا لا يخالف حديث ابن عمر فإنه نفي أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين.
وأما ما ذكره النووي في شرح مسلم أنه ثبت معه اثنا عشر رجلا فكأنه أخذه مما ذكره ابن إسحاق في حديثه أنه ثبت معه العباس وابنه الفضل وعلي وأبو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة وأسامة بن زيد وأخوه من أمه أيمن ابن أم أيمن، ومن المهاجرين أبو بكر وعمر، فهؤلاء تسعة، وقد تقدم ذكر ابن مسعود في مرسل الحاكم فهؤلاء عشرة، ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا معه كانوا عشرة فقط وذلك قوله :
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا٢
وعاشرنا وافى الحمـام بنفســه لمـا مسه في الله لا يتوجـع
ولعل هذا هو الثبت، ومن وزاد على ذلك يكون عجل في الرجوع، فعد فيمن لم ينهزم، وممن ذكر الزبر بن بكار وغيره أنه ثبت يوم حنين جعفر بن أبي سفيان بن الحارث وقثم بن العباس وعتبة ومتعب ابنا أبي لهب وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وشيبة بن عثمان الحجبي فقد ثبت عنه أنه لما رأى الناس قد انهزموا استدبر النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، فأقبل عليه فضربه في صدره، وقال له :( قاتل الكفار )، فقاتلهم حتى انهزموا. اهـ.
ونقل ابن القيم عن ابن إسحاق بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا، قال : وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأجنابه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد. وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات الميين ثم قال :( إلى أين أيها الناس ؟ هلم إلي أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله )، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن ابن أم أيمن ـ وقتل يومئذ ـ.
ظهور شماتة المنافقين بالهزيمة :
قال ابن إسحاق : ولما انهزم المسلمون ورأى من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الطعن، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرح جبلة بن الجنيد ـ وقال ابن هشام : صوابه كلدة ـ : ألا قد بطل السحر اليوم. فقال له صفوان أخوه لأمه -وكان بعد مشركا- : اسكت، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.
وذكر ابن سعد عن شيبة بن عثمان الحجبي قال : لما كان عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة، قلت : أسير مع قريش إلى هوازن بحنين، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأثأر منه، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها، وأقول : لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما تبعته أبدا. وكنت مرصدا لما خرجت له، لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة. فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته فأصلتُّ السيف، فدنوت أريد ما أريد منه، ورفعت سيفي حتى كدت أشعره إياه، فرفع لي شواظ من نار كالبرق يكاد يمحشني، فوضعت يدي على بصري خوفا عليه، فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداني ( يا شيب ادن مني )، فدنوت منه فمسح صدري، ثم قال ( اللهم أعذه من الشيطان )، قال : فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان في نفسي. ثم قال :( ادن فقاتل )، فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، الله أعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء- ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حيا لأوقعت به السيف- فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون فكروا كرة رجل واحد، وقربت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوى عليها، وخرج في إثرهم حتى تفرقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكره فدخل خباءه فدخلت عليه ما دخل عليه أحد غيري حبا لرؤية وجهه وسرورا به، فقال :( يا شيب ! الذي أراد الله بك خير مما أردت لنفسك )، ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي مما لم أكن أذكره لأحد قط. ( قال ) : فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم قلت : استغفر لي، فاستغفر لي فقال :( غفر الله لك ) اهـ. وروي نحو من هذا عن النضر
هذه الآيات تذكير للمؤمنين بنصر الله لهم على أعدائهم في مواطن القتال الكثيرة معهم ؛ إذ كان عددهم وعتادهم قليلا لا يرجى معه النصر بحسب الأسباب والعادة، وابتلائه إياهم بالتولي والهزيمة يوم حنين على عجبهم بكثرتهم ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك بعناية خاصة من لدنه ليتذكروا أن عنايته تعالى وتأييده لرسوله وللمؤمنين بالقوى المعنوية أعظم شأنا وأدنى إلى النصر من القوة المادية، كالكثرة العددية وما يتعلق بها، وجعل هذا التذكير تاليا للنهي عن ولاية آبائهم وإخوانهم من الكفار، وللوعيد على إيثار حب القرابة والزوجية والعشيرة-ولو كانوا مؤمنين- والمال والسكن على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، تفنيدا لوسوسة شياطين الجن والإنس ـ من المنافقين ومرضى القلوب ـ لهم وإغرائهم باستنكار عود حالة الحرب مع المشركين وتنفيرهم من قتالهم لكثرتهم، ولقرابة بعضهم، ولكساد التجارة التي تكون معهم، وذلك بعد إقامة الدلائل على كون ذلك من الحق والعدل والمصلحة العامة في الدين والدنيا، وفي هذه الغزوة من العبر والحكم والأحكام ما ليس في غيرها، وسنبين المهم منه في إثر تفسير الآيات.
﴿ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ﴾ السكينة اسم للحالة والهيأة النفسية الحاصلة من السكون والطمأنينة، وهي ضد الاضطراب والانزعاج، وتطلق كما في المصباح على الرزانة والمهابة والوقار. والمعنى أن الله تعالى أفرغ من سماء عزته وقدرته سكينته اللدنية على رسوله بعد أن عرض له ما عرض من الأسف والحزن على أصحابه عند وقوع الهزيمة لهم، على أنه ثبت كالطود الراسي نفسا، ولم يزدد إلا شجاعة وإقداما وبأسا، وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه وأحاطوا ببغلته- وقليل ما هم في ذلك الجيش اللهام- كما يعلم هذا وذاك من الروايات الصحيحة الآتية، ثم على سائر المؤمنين الصادقين فأذهب روعهم، وأزال حيرتهم واضطرابهم، وعاد إليهم ما كان زال أو زلزل من ثباتهم وشجاعتهم، ولا سيما عند ما سمعوا نداءه صلى الله عليه وسلم ونداء العباس يدعوهم إلى نبيهم بأمره كما يأتي، وإنما قال :( وعلى المؤمنين ) ولم يقل وعليكم لأن الخطاب للجماعة، وفيهم بقية من المنافقين وضعفاء الإيمان كما تقدم، وستأتي شواهده في الروايات الصحيحة. فيا لله العجب من هذه الدقة في بلاغة القرآن.
﴿ وأنزل جنودا لم تروها ﴾ أي وأنزل مع هذه السكينة جنودا روحانية من الملائكة لم تروها بأبصاركم، وإنما وجدتم أثرها في قلوبكم، بما عاد إليها من ثبات الجأش، وشدة البأس.
﴿ وعذّب الذين كفروا ﴾ بالقتل والأسر والسبي، وذلك منتهى الغلب والخزي.
﴿ وذلك جزاء الكافرين ﴾ في الدنيا بكفرهم ما داموا يستحبون الكفر على الإيمان ويعادون أهله ويقاتلونهم عليه، كما وعدكم فيمن بقي منهم بقوله من هذا السياق أو البلاغ ﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ﴾ [ التوبة : ١٤ ] الآية. ويدخل في هذا الجزاء من كان حاله مثل حال أولئك الكافرين في قتال من كان على هدي أولئك المؤمنين إلى يوم الدين.
الخروج إلى حنين والقتال والهزيمة :
قال الحافظ في أول الكلام على هذه الغزوة من الفتح : قال أهل المغازي : خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين لست خلت من شوال. وقيل : لليلتين بقيتا من رمضان. وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان وسار سادس شوال، وكان وصوله إليها في عاشره. وكان السبب في ذلك أن مالك بن عوف النضري جمع القبائل من هوازن، ووافقه على ذلك الثقفيون، وقصدوا محاربة المسلمين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم، قال عمر بن شيبة في كتاب مكة : حدثنا الحزامي - يعني إبراهيم بن المنذر ـ حدثنا ابن وهب عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة أنه كتب إلى الوليد : أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني عن قصة الفتح ـ فذكر له وقتها ـ فأقام عامئذ بمكة نصف شهر ولم يزد على ذلك حتى أتاه أن هوازن وثقيفا قد نزلوا حنينا يريدون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمعوا إليه ورئيسهم عوف بن مالك. ولأبي داود بإسناد حسن من حديث سهل ابن الحنظلية أنهم ساروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال : إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم قد اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :)تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى ). وعند ابن إسحاق من حديث جابر ما يدل على أن هذا الرجل هو عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي اهـ.
وقد أخرج البيهقي في الدلائل حديث الربيع بن أنس المتقدم عن يونس بن بكر، وزاد فيه أنهم -أي المسلمين- كانوا اثني عشر ألفا منهم ألفان من أهل مكة، أقول : وأما العشرة الآلاف فهم أصحابه الذين فتح بهم مكة. وفي البخاري من حديث هشام بن زيد عن أنس عبارة مبهمة ؛ بل غلط في هذا العدد، قال : لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم، ومع النبي عشرة آلاف من الطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده، فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما فقال :( يا معشر الأنصار )، فقالوا لبيك يا رسول الله نحن معك. ثم التفت عن يساره ( فذكر مثل ذلك ) الخ، فقوله من الطلقاء غلط، وفي رواية له : ومن الطلقاء، وهي مبهمة كما يعلم من رواية مسلم وهي «ومعه الطلقاء» الخ، ومن رواية البيهقي التي تقدمت آنفا. وهؤلاء الطلقاء كانوا ألفين. وكان حال بعض الألفين وخفة بعض الشبان هما السبب الأول للهزيمة، إذ كان بعضهم منافقا أظهر الإسلام لما غلب على أمره ووطنه ومهد دينه ومعهد عزه وكبريائه، وبعضهم ضعيف الإيمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم إلى أن يظهر لهم نور الإسلام وفضله بالعمل ومعاشرته صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين الصادقين، ويزول ما كان في قلوبهم من ألفة الشرك وعداوة الإسلام، حتى إن بعضهم أظهر الشماتة- بل الكفر- عند ما وقعت الهزيمة، وكان منهم من ينوي قتل النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمكنته الفرصة، كما يعلم من الروايات الصحيحة الآتية في القصة.
وأما السبب الثاني للهزيمة فهو مثل ما سبق في وقعة أحد من ظهور المسلمين على المشركين، وإقبالهم على الغنائم واشتغالهم بها عن القتال، وعند ذلك استقبلتهم هوازن وبنو نصر بالسهام، وكانوا رماة لا يكاد يخطئ لهم سهم.
روى الشيخان وغيرهما من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وسأله رجل من قيس : أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة، وأنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ـ وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها ـ وهو يقول :
أنــا النبـي لا كـذبْ أنــا ابن عـبد المطـلب
وفي رواية لمسلم قال : جاء رجل إلى البراء فقال : أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة ؟ فقال : أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى. ولكنه انطلق إخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن- وهم قوم رماة- فرموهم برشق من نبل -كأنها رجل من جراد- فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغتة، فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول :
أنــا النـبـي لا كـذب أنــا ابن عبـد المطـلب
( اللهم انزل نصرك ). قال البراء : كنا والله إذا احمّر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى مسلم أيضا من حديث سلمة بن الأكوع قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فلما واجهنا العدو وتقدمت فأعلو ثنية فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم فتوارى عني، فما دريت ما أصنع، ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فولى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرجع منهزما وعلي بردتان مئتزرا بأحدهما، مرتديا بالأخرى، فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعا، ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما - وهو على بغلته الشهباء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد رأى ابن الأكوع فزعا )، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض ثم استقبل به وجوههم فقال :( شاهت الوجوه )، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين. ١ اهـ.
عدد من ثبت معه صلى الله عليه وسلم في حنين :
قال الحافظ في شرح حديث البراء من فتح الباري عند قوله : وأبو سفيان بن الحارث آخذ برأس بغلته البيضاء- بعد بيان أن الحارث هذا هو ابن عبد المطلب عمه صلى الله عليه وسلم- ما نصه : وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة قال : لما فر الناس يوم حنين جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
أنا النبـي لا كـذب أنا ابـن عبد المطلـب
فلم يبق معه إلا أربعة نفر : ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم : علي والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر، ( قال ) : وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل.
وروى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال : لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل، وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من ثبت يوم حنين.
وروى أحمد والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس، وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة. وهذا لا يخالف حديث ابن عمر فإنه نفي أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين.
وأما ما ذكره النووي في شرح مسلم أنه ثبت معه اثنا عشر رجلا فكأنه أخذه مما ذكره ابن إسحاق في حديثه أنه ثبت معه العباس وابنه الفضل وعلي وأبو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة وأسامة بن زيد وأخوه من أمه أيمن ابن أم أيمن، ومن المهاجرين أبو بكر وعمر، فهؤلاء تسعة، وقد تقدم ذكر ابن مسعود في مرسل الحاكم فهؤلاء عشرة، ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا معه كانوا عشرة فقط وذلك قوله :
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا٢
وعاشرنا وافى الحمـام بنفســه لمـا مسه في الله لا يتوجـع
ولعل هذا هو الثبت، ومن وزاد على ذلك يكون عجل في الرجوع، فعد فيمن لم ينهزم، وممن ذكر الزبر بن بكار وغيره أنه ثبت يوم حنين جعفر بن أبي سفيان بن الحارث وقثم بن العباس وعتبة ومتعب ابنا أبي لهب وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وشيبة بن عثمان الحجبي فقد ثبت عنه أنه لما رأى الناس قد انهزموا استدبر النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، فأقبل عليه فضربه في صدره، وقال له :( قاتل الكفار )، فقاتلهم حتى انهزموا. اهـ.
ونقل ابن القيم عن ابن إسحاق بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا، قال : وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأجنابه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد. وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات الميين ثم قال :( إلى أين أيها الناس ؟ هلم إلي أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله )، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن ابن أم أيمن ـ وقتل يومئذ ـ.
ظهور شماتة المنافقين بالهزيمة :
قال ابن إسحاق : ولما انهزم المسلمون ورأى من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الطعن، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرح جبلة بن الجنيد ـ وقال ابن هشام : صوابه كلدة ـ : ألا قد بطل السحر اليوم. فقال له صفوان أخوه لأمه -وكان بعد مشركا- : اسكت، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.
وذكر ابن سعد عن شيبة بن عثمان الحجبي قال : لما كان عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة، قلت : أسير مع قريش إلى هوازن بحنين، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأثأر منه، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها، وأقول : لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما تبعته أبدا. وكنت مرصدا لما خرجت له، لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة. فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته فأصلتُّ السيف، فدنوت أريد ما أريد منه، ورفعت سيفي حتى كدت أشعره إياه، فرفع لي شواظ من نار كالبرق يكاد يمحشني، فوضعت يدي على بصري خوفا عليه، فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداني ( يا شيب ادن مني )، فدنوت منه فمسح صدري، ثم قال ( اللهم أعذه من الشيطان )، قال : فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان في نفسي. ثم قال :( ادن فقاتل )، فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، الله أعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء- ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حيا لأوقعت به السيف- فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون فكروا كرة رجل واحد، وقربت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوى عليها، وخرج في إثرهم حتى تفرقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكره فدخل خباءه فدخلت عليه ما دخل عليه أحد غيري حبا لرؤية وجهه وسرورا به، فقال :( يا شيب ! الذي أراد الله بك خير مما أردت لنفسك )، ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي مما لم أكن أذكره لأحد قط. ( قال ) : فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم قلت : استغفر لي، فاستغفر لي فقال :( غفر الله لك ) اهـ. وروي نحو من هذا عن النضر
هذه الآيات تذكير للمؤمنين بنصر الله لهم على أعدائهم في مواطن القتال الكثيرة معهم ؛ إذ كان عددهم وعتادهم قليلا لا يرجى معه النصر بحسب الأسباب والعادة، وابتلائه إياهم بالتولي والهزيمة يوم حنين على عجبهم بكثرتهم ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك بعناية خاصة من لدنه ليتذكروا أن عنايته تعالى وتأييده لرسوله وللمؤمنين بالقوى المعنوية أعظم شأنا وأدنى إلى النصر من القوة المادية، كالكثرة العددية وما يتعلق بها، وجعل هذا التذكير تاليا للنهي عن ولاية آبائهم وإخوانهم من الكفار، وللوعيد على إيثار حب القرابة والزوجية والعشيرة-ولو كانوا مؤمنين- والمال والسكن على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، تفنيدا لوسوسة شياطين الجن والإنس ـ من المنافقين ومرضى القلوب ـ لهم وإغرائهم باستنكار عود حالة الحرب مع المشركين وتنفيرهم من قتالهم لكثرتهم، ولقرابة بعضهم، ولكساد التجارة التي تكون معهم، وذلك بعد إقامة الدلائل على كون ذلك من الحق والعدل والمصلحة العامة في الدين والدنيا، وفي هذه الغزوة من العبر والحكم والأحكام ما ليس في غيرها، وسنبين المهم منه في إثر تفسير الآيات.
﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ﴾ ثم يتوب الله تعالى بعد هذا التعذيب الذي يكون في الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام، وهم الذين لم تحط بهم خطيئات جهالة الشرك وخرافاته من جميع جوانب أنفسهم، ولم يختم على قلوبهم بالإصرار على الجحود والتكذيب، أو الجمود على ما ألفوا بمحض التقليد، والله غفور لمن يتوب عن الشرك والمعاصي، رحيم بهم. ونكتة التعبير عن هذه التوبة، وما يتلوها من المغفرة والرحمة، بصيغة الفعل المستقبل «يتوب » إعلام المؤمنين بأن ما وقع في حنين من إيمان أكثر من بقي من الذين غلبوا وعذبوا بنصر المؤمنين عليهم، سيقع مثله لكل الذين يقدمون على قتال المؤمنين بعد عودة حال الحرب بينهم، فإن من سنة الله في الاجتماع البشري أن يميز الخبيث من الطيب بمثل ذلك. وما من حرب من حروب المسلمين الدينية الصحيحة إلا وكان عاقبتها كذلك. ولما صار الإسلام جنسية، وحروب أهله أهواء دنيوية فقدوا ذلك.
الخروج إلى حنين والقتال والهزيمة :
قال الحافظ في أول الكلام على هذه الغزوة من الفتح : قال أهل المغازي : خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين لست خلت من شوال. وقيل : لليلتين بقيتا من رمضان. وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان وسار سادس شوال، وكان وصوله إليها في عاشره. وكان السبب في ذلك أن مالك بن عوف النضري جمع القبائل من هوازن، ووافقه على ذلك الثقفيون، وقصدوا محاربة المسلمين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم، قال عمر بن شيبة في كتاب مكة : حدثنا الحزامي - يعني إبراهيم بن المنذر ـ حدثنا ابن وهب عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة أنه كتب إلى الوليد : أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني عن قصة الفتح ـ فذكر له وقتها ـ فأقام عامئذ بمكة نصف شهر ولم يزد على ذلك حتى أتاه أن هوازن وثقيفا قد نزلوا حنينا يريدون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمعوا إليه ورئيسهم عوف بن مالك. ولأبي داود بإسناد حسن من حديث سهل ابن الحنظلية أنهم ساروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال : إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم قد اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :)تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى ). وعند ابن إسحاق من حديث جابر ما يدل على أن هذا الرجل هو عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي اهـ.
وقد أخرج البيهقي في الدلائل حديث الربيع بن أنس المتقدم عن يونس بن بكر، وزاد فيه أنهم -أي المسلمين- كانوا اثني عشر ألفا منهم ألفان من أهل مكة، أقول : وأما العشرة الآلاف فهم أصحابه الذين فتح بهم مكة. وفي البخاري من حديث هشام بن زيد عن أنس عبارة مبهمة ؛ بل غلط في هذا العدد، قال : لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم، ومع النبي عشرة آلاف من الطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده، فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما فقال :( يا معشر الأنصار )، فقالوا لبيك يا رسول الله نحن معك. ثم التفت عن يساره ( فذكر مثل ذلك ) الخ، فقوله من الطلقاء غلط، وفي رواية له : ومن الطلقاء، وهي مبهمة كما يعلم من رواية مسلم وهي «ومعه الطلقاء» الخ، ومن رواية البيهقي التي تقدمت آنفا. وهؤلاء الطلقاء كانوا ألفين. وكان حال بعض الألفين وخفة بعض الشبان هما السبب الأول للهزيمة، إذ كان بعضهم منافقا أظهر الإسلام لما غلب على أمره ووطنه ومهد دينه ومعهد عزه وكبريائه، وبعضهم ضعيف الإيمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم إلى أن يظهر لهم نور الإسلام وفضله بالعمل ومعاشرته صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين الصادقين، ويزول ما كان في قلوبهم من ألفة الشرك وعداوة الإسلام، حتى إن بعضهم أظهر الشماتة- بل الكفر- عند ما وقعت الهزيمة، وكان منهم من ينوي قتل النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمكنته الفرصة، كما يعلم من الروايات الصحيحة الآتية في القصة.
وأما السبب الثاني للهزيمة فهو مثل ما سبق في وقعة أحد من ظهور المسلمين على المشركين، وإقبالهم على الغنائم واشتغالهم بها عن القتال، وعند ذلك استقبلتهم هوازن وبنو نصر بالسهام، وكانوا رماة لا يكاد يخطئ لهم سهم.
روى الشيخان وغيرهما من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وسأله رجل من قيس : أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة، وأنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ـ وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها ـ وهو يقول :
أنــا النبـي لا كـذبْ أنــا ابن عـبد المطـلب
وفي رواية لمسلم قال : جاء رجل إلى البراء فقال : أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة ؟ فقال : أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى. ولكنه انطلق إخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن- وهم قوم رماة- فرموهم برشق من نبل -كأنها رجل من جراد- فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغتة، فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول :
أنــا النـبـي لا كـذب أنــا ابن عبـد المطـلب
( اللهم انزل نصرك ). قال البراء : كنا والله إذا احمّر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى مسلم أيضا من حديث سلمة بن الأكوع قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فلما واجهنا العدو وتقدمت فأعلو ثنية فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم فتوارى عني، فما دريت ما أصنع، ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فولى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرجع منهزما وعلي بردتان مئتزرا بأحدهما، مرتديا بالأخرى، فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعا، ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما - وهو على بغلته الشهباء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد رأى ابن الأكوع فزعا )، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض ثم استقبل به وجوههم فقال :( شاهت الوجوه )، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين. ١ اهـ.
عدد من ثبت معه صلى الله عليه وسلم في حنين :
قال الحافظ في شرح حديث البراء من فتح الباري عند قوله : وأبو سفيان بن الحارث آخذ برأس بغلته البيضاء- بعد بيان أن الحارث هذا هو ابن عبد المطلب عمه صلى الله عليه وسلم- ما نصه : وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة قال : لما فر الناس يوم حنين جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
أنا النبـي لا كـذب أنا ابـن عبد المطلـب
فلم يبق معه إلا أربعة نفر : ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم : علي والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر، ( قال ) : وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل.
وروى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال : لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل، وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من ثبت يوم حنين.
وروى أحمد والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس، وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة. وهذا لا يخالف حديث ابن عمر فإنه نفي أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين.
وأما ما ذكره النووي في شرح مسلم أنه ثبت معه اثنا عشر رجلا فكأنه أخذه مما ذكره ابن إسحاق في حديثه أنه ثبت معه العباس وابنه الفضل وعلي وأبو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة وأسامة بن زيد وأخوه من أمه أيمن ابن أم أيمن، ومن المهاجرين أبو بكر وعمر، فهؤلاء تسعة، وقد تقدم ذكر ابن مسعود في مرسل الحاكم فهؤلاء عشرة، ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا معه كانوا عشرة فقط وذلك قوله :
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا٢
وعاشرنا وافى الحمـام بنفســه لمـا مسه في الله لا يتوجـع
ولعل هذا هو الثبت، ومن وزاد على ذلك يكون عجل في الرجوع، فعد فيمن لم ينهزم، وممن ذكر الزبر بن بكار وغيره أنه ثبت يوم حنين جعفر بن أبي سفيان بن الحارث وقثم بن العباس وعتبة ومتعب ابنا أبي لهب وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وشيبة بن عثمان الحجبي فقد ثبت عنه أنه لما رأى الناس قد انهزموا استدبر النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، فأقبل عليه فضربه في صدره، وقال له :( قاتل الكفار )، فقاتلهم حتى انهزموا. اهـ.
ونقل ابن القيم عن ابن إسحاق بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا، قال : وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأجنابه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد. وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات الميين ثم قال :( إلى أين أيها الناس ؟ هلم إلي أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله )، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن ابن أم أيمن ـ وقتل يومئذ ـ.
ظهور شماتة المنافقين بالهزيمة :
قال ابن إسحاق : ولما انهزم المسلمون ورأى من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الطعن، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرح جبلة بن الجنيد ـ وقال ابن هشام : صوابه كلدة ـ : ألا قد بطل السحر اليوم. فقال له صفوان أخوه لأمه -وكان بعد مشركا- : اسكت، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.
وذكر ابن سعد عن شيبة بن عثمان الحجبي قال : لما كان عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة، قلت : أسير مع قريش إلى هوازن بحنين، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأثأر منه، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها، وأقول : لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما تبعته أبدا. وكنت مرصدا لما خرجت له، لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة. فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته فأصلتُّ السيف، فدنوت أريد ما أريد منه، ورفعت سيفي حتى كدت أشعره إياه، فرفع لي شواظ من نار كالبرق يكاد يمحشني، فوضعت يدي على بصري خوفا عليه، فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداني ( يا شيب ادن مني )، فدنوت منه فمسح صدري، ثم قال ( اللهم أعذه من الشيطان )، قال : فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان في نفسي. ثم قال :( ادن فقاتل )، فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، الله أعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء- ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حيا لأوقعت به السيف- فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون فكروا كرة رجل واحد، وقربت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوى عليها، وخرج في إثرهم حتى تفرقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكره فدخل خباءه فدخلت عليه ما دخل عليه أحد غيري حبا لرؤية وجهه وسرورا به، فقال :( يا شيب ! الذي أراد الله بك خير مما أردت لنفسك )، ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي مما لم أكن أذكره لأحد قط. ( قال ) : فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم قلت : استغفر لي، فاستغفر لي فقال :( غفر الله لك ) اهـ. وروي نحو من هذا عن النضر
تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر رضي الله عنه إذ أمَّره على الحج سنة تسع أن يبلغ الناس أنه لا يحج بعد ذك العام مشرك، ثم أمر علياً رضي الله عنه أن يتبع أبا بكر فيقرأ على الناس أوائل سورة براءة يوم الحج الأكبر، وأن ينادي بأن لا يحج بعد ذلك العام مشرك. وقد كانت هذه الآية من الآيات الأربعين التي أمر علي كرم الله وجهه بالنداء بها وهي أبلغ من منع المشركين من الحج كما سيأتي.
ولفظ ( نجس ) فيها بالتحريك مصدر نجس الشيء( من باب تعب )، فهو نجس- بكسر الجيم إذا كان قذراً غير نظيف، والاسم النجاسة. والوصف بالمصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع من كل منهما، ويراد به المبالغة في الوصف بجعل الموصوف كأنه عين الصفة. وإذا وصف الإنسان بأنه نجس أريد به أنه شرير خبيث النفس، وإن كان طاهر البدن والثوب في الحس. وإذا وصف به الداء أو صاحبه أريد به أنه عضال لا يبرأ، ولم يذكر هذا اللفظ ولا كلمة من هذه المادة في غير هذه الآية من التنزيل، وهو يستعمل في اللغة بمعنى القذر والخبيث حسا أو معنى كالرجس الذي تكرر ذكره فيه كما تقدم في تفسير آية التحريم الخمر من سورة المائدة ( ج٧ تفسير ).
وفي لسان العرب : النجس والنجس ( بالفتح والكسر ) والنجس بالتحريك القذر من الناس ومن كل شيء قذرته، ثم قال : وداء نجس وناجس ونجيس عقام لا يبرأ منه، وقد يوصف به صاحب الداء. والنجس اتخاذ عوذة للصبي وقد نجَّس له ونجَّسه عوذه. ( قال )الجوهري : والتنجيس شيء كانت العرب تفعله كالعوذة تدفع بها العين. ( وقال ) الليث : المنجس الذي يعلق عليه عظام أو خرق. ويقال للمعوذ : منجّس، وكان أهل الجاهلية يعلقون على الصبي ومن يخاف عليه عيون الجن الأقذار من خرق المحيض ويقولون الجن لا تقربها اه ملخصا بحروفه، وفيه أن المراد من التنجس رفع النجس يعني ضرر الجن كالتحرج والتأثم والتحنث، وهو الفعل الذي يخرج به فاعله من الحرج والإثم والحنث.
وقال الراغب : النجاسة القذارة، وذلك ضربان : ضرب يدرك بالحاسة وضرب يدرك بالبصيرة. والثاني وصف الله به المشركين فقال :﴿ إنما المشركون نجس ﴾ ويقال نجسه إذا جعله نجساً، ونجسه أيضا أزال نجسه. ومنه تنجيس العرب، وهو شيء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبي ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان. والناجس والنجيس داء خبيث لا دواء له اه.
أقول : لا تزال سلائل العرب في البدو والحضر يقولون فلان نجس بمعنى خبيث ضار مؤذ. كما أن الجاهلين منهم بالإسلام لا يزالون يعلقون التناجيس والتعاويذ على الأولاد لوقايتهم من الجن والعين الخبيثة من الإنس. وكذلك العبرانيون يسمون الداء العضال نجساً وصاحبه نجساً وشفاءه طهارة.
وظاهر كلام الراغب وغيره أن إطلاق النجس على القذر والخبث الحسي والمعنوي حقيقة فيهما، وهو الذي أفهمه، ومنه المعاصي والداء العضال، وقد ذكرهما الزمخشري في قسم الحقيقة، ونقل قول الحسن في رجل تزوج امرأة قد زنى بها : هو أنجسها، فهو أحق بها. وقولهم في الداء وذكر منها شاهداً في البيت قول ساعدة بن جؤية :
والشيب داء نجيس لا دواء له للمرء كان صحيحا صائب القحَم١
وفسره بقوله : أي هو داء عياء للرجل الصحيح الجلد الذي إذا تقحم في الشدائد صاب فيها ولم يخطئ.
قال : ومن المجاز الناس أجناس، وأكثرهم أنجاس، ونجسته الذنوب ﴿ إنما المشركون نجس ﴾ وتقول لا ترى أنجس من الكافر، ولا أنجس من الفاجر اه.
هذا تحقيق معنى النجس والنجاسة في اللغة. وأما في عرف الفقهاء فالنجس ما يجب التطهير لما يصيبه، سواء أكان قذراً في الحس كالبول والغائط أم لا كالخمر والخنزير والكلب عند من يقول بنجاسة أعيانها وهم الأكثرون. ومن ثم قال بعضهم بنجاسة أعيان المشركين ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل. وحكي هذا القول عن ابن عباس والحسن البصري ومالك، وعن الهادي والقاسم والناصر من أئمة العترة، وهو مذهب جمهور الظاهرية والشيعة الإمامة. وجمهور السلف والخلف على خلافه، ومنهم أهل المذاهب الأربعة، والآية ليست نصا ولا ظاهراً راجحاً فيه، والسنة العملية لا تؤيده بل تنفيه، ولا سيما قول من يجعل أهل الكتاب مشركين كالإمامية، فإن إباحة طعام أهل الكتاب ونكاح نسائهم نزل في سورة المائدة وهي آخر ما نزل، فهي بعد سورة التوبة بالإجماع، وإباحتهما تستلزم طهارتهما.
ومن المعلوم القطعي لكل مطلع على السيرة النبوية وتاريخ ظهور الإسلام بالضرورة أن المسلمين كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم- ولا سيما بعد صلح الحديبية- إذ امتنع اضطهاد المشركين وتعذيبهم لمن لا عصبية له ولا جوار يمنعه منهم، وكانت رسلهم ووفودهم ترد على النبي صلى الله عليه وسلم ويدخلون مسجده، وكذلك أهل الكتاب كنصارى نجران واليهود، ولم يعامل أحد أحداً منهم معاملة الأنجاس، ولم يأمر بغسل شيء مما أصابته أبدانهم، بل روي عنه ما يدل على خلاف ذلك مما احتج به الجمهور على طهارة أبدانهم من الأحاديث الصحيحة، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، وأكل من طعام اليهود، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد، ومنها إطعامه هو وأصحابه للوفد من الكفار ولم يأمر صلى الله عليه وسلم بغسل الأواني التي كانوا يأكلون ويشربون فيها، وروى أحمد وأبو داود من حديث جابر بن عبد الله قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك علينا.
وقد استدل القائلون بنجاسة الكافر بمفهوم حديث( إن المؤمن لا ينجس )٢، وقد رواه الجماعة كلهم من حديث أبي هريرة وجاء بلفظ«المسلم » من حديث حذيفة رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي، وهو مفهوم لقب وليس بحجة عند الجمهور القائلين بمفهوم المخالفة، وأبو حنيفة لا يقول به. واستدلوا أيضا بحديث الأمر بغسل آنية أهل الكتاب والأكل فيها إن لم يوجد غيرها وهو في الصحيحين من حديث أبي ثعلبة، وقد بين أبو داود علته وهو قوله : إنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر. وكذا حديث إنقاء أواني المجوس غسلاً والطبخ فيها، وهذا كله من الأمر بالنظافة، ولا دلالة فيه على نجاسة أعيان الناس بمعنى القذر الذي يزال بالغسل.
وجملة القول : إن لفظ النجس في القرآن جاء بالمعنى اللغوي المعروف عند العرب لا بالمعنى العرفي عند الفقهاء، وكانت العرب تصف بعض الناس بالنجس وتريد به الخبث المعنوي كالشر والأذى، وإلا لما وصفوا به بعض الناس دون بعض، كما تقدم في قول الأساس : الناس أجناس، وأكثرهم أنجاس. ولا يطلقون النجس بمعنى القذر الذي يطلب غسله حتى إذا زال سمي طاهراً إلا فيما يدرك قذره وخبثه بالحس كالرائحة القبيحة.
هذا هو الحق الظاهر. وما أفك عنه من أفك إلا بتحكيم الاصطلاحات الفقهية وغيرها في استعمال اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن، ومن الغريب أخذ الرازي الشافعي المذهب بالقول الشاذ المخالف للحس، واستعمال اللغة في نجاسة المشركين بعد بيان الشافعي العربي وأصحابه لبطلانه، وقد اتبعه الألوسي في ذلك على سعة اطلاعه في الفقه واللغة وكان شافعيا ثم صار مفتيا للحنفية. وما أطلت في هذا البحث اللغوي، إلا لتفنيد رأيهما حتى لا يغتر به أحد في هذا العصر الذي صار فيه الكثيرون من الشعوب غير الإسلامية أشد عناية من المسلمين بالنظافة التي جعلها المقلدون أحكاما تعبدية يكابرون فيها الحس واللغة والقياس وحكمة الشارع. ويوقعون مقلديهم في أشد الحرج في السفر، وفي عداوة البشر. إذا فهمت هذا فهاك تفسير الآية.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ أي ليس المشركون كما تعلمون من حالهم إلا أنجاسا فاسدي الاعتقاد، يشركون بالله ما لا ينفع ولا يضر، فيعبدون الرجس من الأوثان والأصنام، ويدينون بالخرافات والأوهام، ولا يتنزهون عن النجاسات ولا الآثام، ويأكلون الميتة والدم من الأقذار الحسية، ويستحلون القمار والزنا من الأرجاس المعنوية، ويستبيحون الأشهر الحرم. وقد تمكنت صفات النجس منهم حساً ومعنى حتى كأنهم عينه وحقيقته، فلا تمكنوهم بعد هذا العام أن يقربوا المسجد الحرام بدخول أرض الحرم فضلاً عن دخول البيت نفسه وطوافهم عراة فيه، يشركون بربهم في التلبية، وإذا صلوا لم تكن صلاتهم عنده إلا مكاء وتصدية. وقيل المراد بنجاستهم تلبسهم بها دائما لعدم تعبدهم بالطهارة كالمسلمين، وقول الجمهور بأن المراد النجاسة المعنوية أظهر، والجمع بين القولين أولى لأنه أعم.
وأما القول بنجاسة أعيانهم فهو لا معنى له في لغة القرآن إلا قذارتها الذاتية ونتنها، وذوات المشركين كذوات سائر البشر بشهادة الحس، ومن كابر شهادة الحس كابر دلالة النظر العقلي واللغوي بالأولى. ولا يصح أن تكون نجاسة تعبدية إلا بنص صريح في إيجاب غسل ما اتصل بها مع البلل، وهو لا وجود له وإنما الموجود خلافه كما تقدم. وقد اتبع القائلون به سنن بعض وثنيي الهند وبعض متعصبي النصارى الذين يعدون كل من لم يعتمد نجساً وما هذا بمذهب، ولكنه من سخافات التعصب، وقد كان هؤلاء ولا يزالون يرون أن هذه المعمودية٣ تغني صاحبها على الغسل من الجنابة أو مطلقا، وحكي لنا عن كثير منهم أنه تمر عليه الشهور والأحوال ولا يغتسل فيها لأجل ذلك، ويعلل بعض قسوسهم المتعصبين عناية المسلمين بالطهارة من الأحداث والأنجاس بأن أبدانهم يخرج منها الدود دائما لعدم تعمدهم، وقد حدثنا فضلاء المصريين أنه كان في فرنسة فرأى أن غلاما لصاحب الفندق الذي كان فيه ينظر في الماء الذي يتوضأ فيه الوضوء الشرعي أو اللغوي ثم يذهب إلى والدته فيوشوشها، فلما تكرر ذلك منه سأل والدته عن ذلك وما يقوله لها ؟ فتمنعت فألح فأخبرته أنه يقول لها يا أمي إنني لا أرى في الماء الذي يغسل فيه هذا المسلم وجهه ويديه دودا كما قال لنا معلمنا القسيس ! ! !.
وقد اختلف الفقهاء في دخول غير المشركين من الكفار المسجد الحرام وغيره من المساجد وبلاد الإسلام، وقد لخص أقوالهم البغوي في تفسير الآية، ونقله عنه الخازن ببعض تصرف وبغير عزو، فقال :
وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام :
أحدها : الحرم فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال، ذمياً كان أو مستأمناً، لظاهر هذه الآية، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك، فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم ؛ بل يخرج إليه بنفسه، أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
القسم الثاني من بلاد الإسلام : الحجاز، وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد، والمدينة الشريفة قيل : نصفها تهامي ونصفها حجازي، وقيل : كلها حجازي. وقال الكلبي : حد الحجاز ما بين جبلي طيء وطريق العراق، سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد، وقيل : لأنه حجز بين نجد والسراة، وقيل : لأنه حجز بين نجد وتهامة والشام. قال الحربي : وتبوك من الحجاز. فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالإذن، ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام الم
٢ ـ أخرجه البخاري في الغسل باب ٢٣، ٢٤، والجنائز باب ٨، ومسلم في الحيض حديث ١١٥، ١١٦، وأبو داود في الطهارة باب ٩١، والترمذي في الطهارة باب ٨٩، والنسائي في الطهارة باب ١٧١، وابن ماجه في الطهارة باب ٨٠، وأحمد في المسند ٢/ ٢٣٥، ٣٨٢، ٤٧١، ٥/ ٣٨٤، ٤٠٢..
٣ ـ في المعجم المسمى بالمنجد لليسوعيين: اعتمد قبل المعمودية. وفيه: المعمودية أول أسرار الدين المسيحي وباب النصرانية، وهي غسل الصبي وغيره بالماء باسم الآب والابن والروح القدس اهـ. ولم يذكر تقديس كهنتهم لهذا الماء (المؤلف)..
كان كل ما تقدم من أول السورة في أحكام قتال المشركين وما يتعلق بهم، وهذه الآية في حكم قتال أهل الكتاب والغاية التي ينتهي إليها، وهي تمهيد للكلام في غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب بالشام، والخروج إليها في زمن العسرة والقيظ، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين، وهتك الأستار عن إسرارهم للكفر، ومن تمحيص المؤمنين، ولم يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم فيها الروم الذين خرج لقتالهم بسببه الذي سيذكر بعد، وإنما حكمة وقوع ذلك بيان هذه الأحكام، والتزييل بين المؤمنين والمنافقين ممن كانت تقع عليهم أحكام الإسلام، قبل وفاته عليه أفضل الصلاة والسلام.
روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن زيد رضي الله عنه في هذه الآية : قال لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال من يليه من العرب أمره ( تعالى ) بجهاد أهل الكتاب.
وروى ابن المنذر عن ابن شهاب قال : أنزلت في كفار قريش والعرب ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ]، وأنزلت في أهل الكتاب ﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ إلى قوله ﴿ حتى يعطوا الجزية ﴾، فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران، قبل وفاته عليه أفضل الصلاة والسلام.
وروى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حبان والبيهقي في سننه عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية حين أمر محمد صلى الله عليه وسلم بغزوة تبوك، وروى ابن أبي شيبة والبيهقي في سننه عن مجاهد أيضا قال : يقاتَل أهل الأوثان على الإسلام، ويقاتل أهل الكتاب على الجزية.
وروى ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن الحسن قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذه الجزيرة من العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد آخر على هذه الآية في شأن أهل الكتاب ﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ﴾ الآية. أقول : وهذا أصح وأدق مما قبله من رأي مجاهد ومن وافقه من الفقهاء في قتال الوثنيين، وأنه لا فرق بينهم وبين مشركي العرب في الحجاز والجزيرة، فقد بينا مرارا أن سياسة الإسلام في عرب الجزيرة خاصة بهم وبها.
واعلم أن هذه الآية في قتال أهل الكتاب، وما قبلها في قتال مشركي العرب ليس أول ما نزل في التشريع الحربي، وإنما هو في غايته. وأما أول ما نزل في ذلك فقد بينا مراراً أنه آيات سورة الحج﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ﴾[ الحج : ٣٩ ] الخ ثم قوله تعالى من سورة البقرة ﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ﴾ [ البقرة : ١٩٠ ] الآيات وفي تفسيرها ما اختاره شيخنا من أن القتال الواجب في الإسلام إنما شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، ولذلك اشترط فيه أن يقدم عليه الدعوة إلى الإسلام، وقال : إن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كانت كلها دفاعا وكذلك حروب الصحابة في الصدر الأول، ثم كان القتال بعد ذلك من ضرورة الملك، وكان في الإسلام مثال الرحمة والعدل ( ج ٢ تفسير )، وسنفصل ذلك بعد تفسير هذه الآية.
قال تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ﴾ فوصف أهل الكتاب الذين بين حكم قتالهم بأربع صفات سلبية هي علة عداوتهم للإسلام ووجوب خضوعهم لحكمه في داره ؛ لأن إقرارهم على الاستقلال وحمل السلاح فيه يفضي إلى قتال المسلمين في دارهم ومساعدة من يهاجمهم فيها، كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وجعلهم حلفاء له، وسمح لهم بالحكم فيما بينهم بشرعهم فوق السماح لهم بأمور العبادة كما تقدم في سورة الأنفال( ٤٨ ٦٠ ج ١٠ )، وكما فعل نصارى الروم في حدود البلاد العربية كما يأتي عند الكلام على غزوة تبوك. وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها هي أصول الدين الإلهي عند كل أمة -كما بينه تعالى في آية ( ٢ : ٦٢ )- وقد أمر هنا بقتال الذين لا يقيمونها عند ما يقوم السبب الشرعي لقتالهم حتى يعطوا الجزية بشرطها، فذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، ووضع تركهم لتحريم ما حرم الله ورسوله وترك الخضوع لدين الحق في موضع العمل الصالح من تلك الآية، وسيأتي الكلام فيه.
وإنك ترى في بعض كتب التفسير المتداولة أن هذه الآية تدل على عدم إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر الخ، وزعم بعضهم أنها نص في ذلك، وغرضهم من هذا أن هذه الصفات ليست قيودا في شرعية قتالهم ؛ بل هي بيان للواقع لا مفهوم لها، فلا يقال إنه إذا وجد من أهل الكتاب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويحرم ما حرم الله ورسوله إليهم على المختار من أن المراد بالرسول عند كل منهم رسولهم، ويدين دين الحق باعتقادهم فإنهم لا يدخلون في هذا الحكم. وقالوا : إن أولئك الذين دلت آية سورة البقرة على إقامتهم لأركان الدين الإلهي هم الذين كانوا متبعين لأنبيائهم في زمانهم، أو قبل تحريفهم لكتابهم، والابتداع في دينهم حتى الشرك، أو الذين اتبعوا خاتم الرسل الذي نسخ كتابه الكتب التي قبله، والشرائع المخالفة لشرعه، بعد بعثته وبلغ دعوته. وقد بينا هذه الأقوال في تفسير تلك الآية. وصرح الفخر الرازي بأن هذه الصفات السلبية قيود تشترط في قتالهم ولكنهم فاقدون لها، فإن وجد منهم قوم متصفون بها حرم علينا بدؤهم بالقتال.
فأما الإيمان بالله تعالى فقد شهد القرآن بأن الفريقين فقدوه بهدم ركنه الأعظم وهو التوحيد، فإنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله يشرعون لهم العبادات والحلال والحرام فيتبعونهم، وذلك حق الرب وحده، فقد أشركوهم به في الربوبية، ومنهم من أشرك في الألوهية كالذين قالوا عزير ابن الله، والذين قالوا المسيح ابن الله، أو هو الله، وسيأتي هذا وذاك في هذا السياق من السورة.
وقد توسع الرازي في المسألة بأساليبه الكلامية فقال :«التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه، فأما الموجود الذي لا يكون جسما ولا حالاً فيه فهو منكر له، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالا في جسم، فحينئذ يكون المشبه منكراً لوجود الإله، فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله.
«فإن قيل : فاليهود قسمان : منهم مشبهة ومنهم موحدة، كما أن المسلمين كذلك. فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله فما قولكم في موحدة اليهود ؟ قلنا : أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية، ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق » اه بنصه.
وهذا الكلام الذي سماه تحقيقا ليس فيه شيء من التحقيق ولا من العلم الصحيح، وإنما هو نظريات كلامية مبنية على اصطلاحات جماعة الأشاعرة حتى في الألفاظ المفردة، فالجسم في اللغة هو الشيء الجسيم الضخم. وقال ابن دريد : هو كل شخص مدرك، وقال أبو زيد : الجسم الجسد. وفي التهذيب ما يوافقه قال : الجسم مجمع البدن وأعضاؤه من الناس والإبل والدواب ونحو ذلك مما عظم من الخلق الجسيم اه من المصباح. واليهود لا يقولون بأن الإله جسم بشيء من هذه المعاني. وتعريفه للجسم بما ذكره غير صحيح لغة ولا اصطلاحا، والإله في اللغة المعبود، واليهود لا تنكر وجود المعبود، والله هو الرب الخالق لكل شيء واليهود يثبتون هذا، وأنه واحد لا شريك له، ولكن لهم أفهاماً في نصوص التوراة يختلفون فيها كالمسلمين، ومنها ما ظاهره التشبيه، والذين يسميهم المجسمة من المسلمين ليسوا مجسمة بالمعنى الذي ذكره، وإنما يسميهم هو وأمثاله مجسمة لمخالفتهم لأمثاله المتكلمين في إثبات ما وصف الله به نفسه بلا تأويل، ولا تشبيه ولا تعطيل، وهو من متكلمي التأويل الذي يكفرون من يخالفهم في بعض تأويلاتهم لها بدعوى أن عدم تأويلها يستلزم كونه تعالى جسما، وهي دعوى باطلة ولازم المذهب ليس بمذهب عند الجمهور، ولو لم يصرح صاحبه بنفي اللزوم فكيف إذا صرح به كالسلف ومن تبعهم من الحنابلة الذين ينبزهم أمثاله بلفظ المجسمة بغير علم ولا هدى، وتأويلات أمثاله للكثير من تلك الآيات قد تستلزم التعطيل أو تخطئة التنزيل، أو قصوره عن بيان عقائد الدين وأصوله بدون كلامهم المبتدع، حتى إن بعضهم حرم قراءتها على العوام كما أنزلها الله تعالى غير مقرونة بتأويل يخرجها عن مدلول لغة القرآن، فإن كان لازم المذهب مذهباً مطلقا فهم الكافرون.
وهو قد انتقل في بحثه في اليهود واختلافهم في فهم صفات الإله إلى اختلاف المسلمين، مبتدئا بالاعتراف بأن حاصل كلامه «إن كل من نازع في صفة من صفات الله كان منكرا لوجود الله تعالى. قال : وحينئذ يلزم أن تقولوا إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله ؛ لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى ». وضرب الأمثال أولا في اختلاف أصحابه الأشعرية، ثم في اختلاف غيرهم، وتحكم في التكفير لبعض المختلفين دون بعض بالنظريات الكلامية الباطلة. وإنما أوردنا كلامه لتنفير المسلمين عن إضاعة الوقت في مثله، وفيما رتبه عليه من الحكم الشرعي المتعارض، وهو زعمه أن غير المجسمة من اليهود لا يدخلون تحت حكم هذه الآية في القتال، ولكن يدخلون تحتها في إيجاب الجزية عليهم، واستدلاله على هذا بأنه لما وجبت الجزية على بعضهم «وجب القول به في حق الكل ؛ إذ لا قائل بالفرق » !
ويرد عليه :
أولا : إنه لا قائل أيضا بالفرق بين حكم القتال وحكم الجزية الذي هو غاية له، فليت شعري ماذا يفعل بهم إذا امتنعوا عن أداء الجزية ؟
وثانيا : إنه لم يقل أحد بما قاله من تقسيم اليهود إلى مجسمة وغير مجسمة، وأن غير المجسمة لا يدخلون في حكم الآية.
وثالثا : إنه إذا قام الدليل من القرآن على ثبوت حكم فلا يجوز أن يتوقف قبوله على قول بعض الفقهاء أو المتكلمين به، وجعل عدم نقل ذلك عن أحد منهم سببا لتركه ! !
ورابعا : إن الشرك بالله تعالى في العبادة - كالدعاء مع الإيمان بأنه موجود ليس بجسم، ولا حالا في جسم، ينافي إيمان الأنبياء الذي دعوا إليه، ولكن النظريات الكلامية صرفته عن ذلك.
وما يقال في الموحدين من اليهود يقال في الموحدين من النصارى كأتباع آريوس من المتقدمين والعقليين المعاصرين من أهل أوروبا وغيرهم، ويبقى النظر في سائر ما اشترط في قتالهم.
وأما مخالفة جماهير النصارى للمسلمين ولجميع كتب الله ورسله في الإيمان بالله تعالى وما يجب من توحيده فهو ظاهر لا يحتاج إلى نظريات كلامية. فأصحاب المذاهب الرسمية منهم كلهم يقولون بألوهية المسيح وربوبيته، ويعبدونه جهرا بغير تأويل، ويقولون بالتثليث، ومنهم من يعبد أمه مريم وغيرها من الرسل والصالحين وتماثيلهم، ولا يعدون الموحدين منهم، وهؤلاء الموحدون لم يبلغوا أن يكونوا أمة، وأولي دولة، بل هم متفرقون في جميع أممهم، مع أن المسيح عليه السلام جاء مصدقاً للتوراة في جميع العقائد، وإنما نسخ بعض الأحكام العملية، كما نقل عنه رواة الأناجيل في قوله :« ما جئت لأنقض الناموس وإنما جئت لأتمم »، وأول ركن من أركان التوراة في الإيمان التوحيد المطلق، والوصية الأولى من وصاياها
تقدم في الآية ٢٩ السابقة لهذه الآيات أن أهل الكتاب المراد بهم اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله تعالى على الوجه الحق الذي جاءت به رسله من توحيد وتنزيه لذاته وصفاته، ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح من أن الناس يبعثون بشرا كما كانوا في الدنيا- أي أجسادا وأرواحاً- وأنهم يجزون بإيمانهم وأعمالهم، وعليها مدار سعادتهم وشقائهم، لا على أشخاص الأنبياء والصديقين، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله إلى كل منهم إيمانا وإذعانا وعملا، ولا يدينون دين الحق. أي إنما يتبعون تقاليد وجدوا عليها آباءهم وأحبارهم ورهبانهم، فلما بين تعالى هذا في سياق قتالهم وما ينتهي به إذا لم يؤمنوا بما جاء رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم- وهو أداء الجزية بشرطها - عطف عليه ما يبين مبهمه، ويفصل مجمله، ويبين غايته، وهو هذه الآيات الأربع.
فقال عز وجل :
﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله ﴾ الخ نبدأ في تفسير هذه الآية بذكر شيء من تاريخ عزير هذا ومكانته عند القوم، ثم ببيان من سموه ابن الله من اليهود، ونقفي على ذلك بذكر قول النصارى : المسيح ابن الله، وتفنيده، ثم من قال بمثل هذا القول من الوثنيين القدماء، -وهو من معجزات القرآن- وقد تقدم هذا مفصلا في تفسير سورتي النساء والمائدة.
عزير هذا هو الذي يسميه أهل الكتاب عزرا، والظاهر أن يهود العرب هم الذين صغروا بالصيغة العربية للتحبيب وصرفوه، وعنهم أخذ المسلمون، والتصرف في أسماء الأعلام المنقولة من لغة إلى أخرى معروف عند جميع الأمم، حتى إن اسم يسوع قلبته العرب فقالت عيسى. وهو - كما في أول الفصل السابع من السفر المعروف باسمه- عزرا بن سرايا بن عزريا بن حلقيا، وساق نسبه إلى العازار بن هارون( ع ).
جاء في دائرة المعارف اليهودية الإنكليزية( طبعة ١٩٠٣ ) أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره وعبق شذا ورده، وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة«وفي الأصل عربة أو مركبة الشريعة » لو لم يكن جاء بها موسى ( التلمود ٢١ ب )، فقد كانت نسيت، ولكن عزرا أعادها أو أحياها. ولولا خطايا بني إسرائيل لاستطاعوا رؤية الآيات المعجزات كما رأوها في عهد موسى اه. وذكر فيها أنه كتب الشريعة بالحروف الأشورية، وكان يضع علامة على الكلمات التي يشك فيها، وأن مبدأ التاريخ اليهودي يرجع إلى عهده.
وقال الدكتور جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس : عزرا( عون ) كاهن يهودي وكاتب شهير سكن بابل مدة ملك( ارتحششتا )الطويل الباع، وفي السنة السابعة لملكه أباح لعزرا بأن يأخذ عددا وافرا من الشعب إلى أورشليم نحو سنة ٤٥٧ ق. م. ( عزرا ص ٧ ) وكانت مدة السفر أربعة أشهر.
ثم قال : وفي تقليد اليهود يشغل عزرا موضعا مهما يقابل بموضع موسى وإيليا، ويقولون أنه أسس المجمع الكبير، وأنه جمع أسفار الكتاب المقدس، وأدخل الأحرف الكلدانية عوض العبرانية القديمة، وأنه ألف أسفار الأيام وعزرا ونحميا.
ثم قال : ولغة سفر عزرا من ص ٤ : ٨ ٦ : ١٩ كلدانية، وكذلك ص ٧ : ١ ٢٧، وكان الشعب بعد رجوعهم من السبي يفهمون الكلدانية أكثر من العبرانية اه.
وأقول : إن المشهور عند مؤرخي الأمم حتى أهل الكتاب منهم أن التوراة التي كتبها موسى( ع )، ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه ( تث٣١ : ٢٥ و٢٦ ) قد فقدت قبل عهد سليمان( ع )، فإنه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين اللذين كتبت فيهما الوصايا العشر، كما تراه في سفر الملوك الأول، وأن ( عزرا ) هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية واللغة الكلدانية الممزوجة ببقايا اللغة العبرية التي نسي اليهود معظمها. ويقول أهل الكتاب : إن ( عزرا ) كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله، وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم، وعليه اعتراضات كثيرة مذكورة في مواضعها من الكتب الخاصة بهذا الشأن، حتى من تآليفهم كذخيرة الألباب للكاثوليك وأصله فرنسي، قد عقد الفصلين الحادي عشر والثاني عشر لذكر بعض الاعتراضات على كون الأسفار الخمسة لموسى، ومنها قوله :( جاء في سفر عزرا ٤ ف١٤ عد ٢١ أن جميع الأسفار المقدسة حرقت بالنار في عهد نبوخذ نصر حيث قال :«إن النار أبطلت شريعتك فلم يعد سبيل لأي امرئ أن يعرف ما صنعت »اه. ويزاد على ذلك أن عزرا أعاد بوحي الروح القدس تأليف الأسفار المقدسة التي أبادتها النار، وعضده فيها كتبة خمسة معاصرون. ولذلك ترى ثرثوليانوس والقديس إيريناوس والقديس إيرونيموس والقديس يوحنا الذهبي والقديس باسيليوس وغيرهم يدعون عزرا مرمم الأسفار المقدسة المعروفة عند اليهود )اه.
ثم أجاب المؤلف عن هذا الاعتراض بأن السفر الرابع من سفر عزرا( كذا ) ليس بقانوني، وأن نسخ الكتاب المقدس لم تكن كلها محفوظة في الهيكل أو في أورشليم. وأن الآباء القديسين الذين استشهد المعترضون بأقوالهم إنما يؤخذ بتعليمهم لا برأيهم، قال :«يستحيل أن يكون رأيهم غير التعليمي غير مصيب، إلا أن الأظهر أنهم إذ سموا عزرا مرمم الأسفار المقدسة إنما أرادوا أن هذا النبي بعد السبي البابلي جمع كل ما تمكن من جمعه من نسخ الكتاب المقدس وقابلها، وجعل منها مجموعاً منقحا مجرداً عن الأغلاط التي كانت قد اندست فيه »اه.
ونقول : إن هذه الأجوبة تأويل لأقوال القديسين المذكورين لا تدل عليه، ولا نسلم أن تعليمهم كان مخالفاً لرأيهم، واحتمالات ودعاوى في أصل المسألة لا دليل عليها إذ لم ينقل أحد أنه كان يوجد قبل عزرا كتاب اسمه الكتاب المقدس، ولا أن أسفار موسى كان يوجد منها نسخ متعددة، وفي التاريخ أن ما كتبه عزرا منها قد فقد أيضاً، وكان يوجد فيه الألوف من الألفاظ البابلية، وعبارات كان عزرا يشك فيها، وأغلاط كثيرة متفق عليها عند أهل الكتاب يتمحلون في الأجوبة عنها، فنسخة عزرا ليست عين الشريعة التي كان كتبها موسى قطعاً.
وقد جاء في ص ١٦٧ من الجزء الأول من إظهار الحق طبعة الأستانة -بعد نقل نحو مما ذكر عن سفر عزرا وإحراق التوراة وجمع عزرا لها بإعانة روح القدس- ما نصه :
«وقال كليمنس اسكندريانوس : إن الكتب السماوية ضاعت فألهم عزرا أن يكتبها مرة أخرى. اه وقال ترتولين : المشهور أن عزرا كتب مجموع الكتب بعد ما أغار أهل بابل بروشالم ؟ اه وقال تهيوفلكت : إن الكتب الإلهية انعدمت رأساً فأوجدها عزرا مرة أخرى بإلهام. اه وقال جان ملنركاتلك في الصفحة ١١٥ من كتابه الذي طبع في بلدة دبي سنة ١٨٤٣ «اتفق أهل العلم على أن نسخة التوراة الأصلية وكذا نسخ كتب العهد العتيق ضاعت من أيدي عسكر بخت نصر، ولما ظهرت نقولها الصحيحة بواسطة عزرا ضاعت تلك النقول أيضا في حادثة أنتيوكس انتهى كلامه بقدر الحاجة اه.
ثم إن صاحب إظهار الحق ذكر في بحث إثبات تحريف كتبهم ( ص ٢٣٥ ٣٩ ) ما في تواريخهم المقدسة ( سفر الملوك وسفر الأيام ) من خبر ارتداد أكثر بني إسرائيل من آخر مدة سليمان الذي كان أول من ارتد وعبد الأوثان وبنى لها المعابد بزعمهم وولديه اللذين اقتسما ملكه فكان مملكتين : مملكة إسرائيل المؤلفة من عشرة أسباط، ومملكة يهوذا المؤلفة من السبطين الآخرين، وغلبت الوثنية وعبادة الأصنام عليهما معا، وإن كانت على الأولى أغلب. وامتد ذلك زهاء أربعة قرون لم يعد للمملكتين فيها حاجة إلى التوراة إلى أن جلس ( يوشيا ) بن ( آمون ) على سرير السلطنة فتاب من الشرك، وأراد إعادة دين موسى إلى الشعب ولكنه لم يجد نسخة من التوراة إلى سبع عشرة سنة من ملكه ؛ إذ ادعى حلقيا الكاهن في السنة الثامنة عشرة أنه وجد نسخة من شريعة موسى في بيت الرب، ( ويقول صاحب قاموس الكتاب المقدس في هذه النسخة ربما كانت «سفر التثنية » وحده )، ويدعون أن العمل جرى على تلك النسخة مدة الثلاث عشرة سنة التي بقيت من ملكه، وقد ارتد من بعده من الملوك، وسلط الله على أولهم ملك مصر، وعلى ثالثهم بخت نصر، ولم تذكر نسخة الشريعة من بعده فلا يعلم أحد ما أصابها.
وأما ما كتبه عزرا فقد فُقد أيضاً في أثناء استيلاء أنطيوكس ملك سورية على أورشليم كما تقدم عنه، وقد وضحه بقوله في ( ص ٢٣٨ ج ١ ) فقال :
لما كتب عزرا عليه السلام كتب العهد العتيق مرة أخرى على زعمهم وقعت حادثة أخرى جاء ذكرها في الباب الأول للمكابيين هكذا :
«لما فتح انتيوكس ملك ملوك الإفرنج( كذا ) أورشليم أحرق جميع نسخ العهد العتيق التي حصلت له من أي مكان بعد ما قطعها، وأمر أن من يوجد عنده نسخة من نسخ كتب العهد العتيق أو يؤدي رسم الشريعة يقتل، وكان تحقيق هذا الأمر في كل شهر، فكان يقتل كل من وجد عنده نسخة من كتب العهد العتيق، أو ثبت أنه أدى رسماً من رسوم الشريعة، وتعدم تلك النسخة »اه ملخصا.
وذكر أن هذه الحادثة كانت سنة ١٦١ ق. م. وامتدت إلى ثلاث سنين ونصف كما فصلت في تواريخهم وتاريخ يوسيفوس. قال : فانعدمت في هذه الحادثة جميع النسخ التي كتبها عزرا كما عرفت في الشاهد ١٦ من المقصد الأول من كلام جان ملنر كاتلك. ثم ذكر أنه في حادثة استيلاء الامبراطور تيطس الرومي على أورشليم وبلاد اليهود أتلفت نسخ كثيرة كانت عندهم وذلك بعد المسيح كما بينه يوسيفوس وغيره من المؤرخين.
نكتفي بهذا البيان هنا، ولنا فيه غرضان :
أحدهما : أن جميع أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم.
وثانيهما : أن هذا المستند واهي البيان متداعي الأركان. وهذا هو الذي حققه علماء أوروبا الأحرار، فقد جاء في ترجمته من دائرة المعارف البريطانية بعد ذكر ما في سفره وسفر نحميا من كتابته للشريعة : أنه جاء في روايات أخرى متأخرة عنها أنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فقط ؛ بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت أتلفت، وأعاد سبعين سفراً غير قانونية ( أبو كريف )، ثم قال كاتب الترجمة فيها : وإذ كانت الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها من كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم، ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر، فكتَّاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقاً ( انظر ص ١٤ ج ٩ من الطبعة الرابعة عشرة سنة ١٩٢٩ ).
وجملة القول : إن اليهود كانوا وما زالوا يقدسون عزيراً هذا، حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب ابن الله، ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما، أم بالمعنى الذي سيأتي قريبا عن فيلسوفهم ( فيلو )، وهو قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى. وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم، وهو مبني على القاعدة التي بيناها في تفسير بعض آيات سورة البقرة التي تحكي عنهم أقوالاً وأفعالاً مسندة إليهم في جملتهم، وهي مما صدر عن بعضهم، وهي أن المراد من هذا الأسلوب تقرير أن الأمة تعد متكافلة في شؤونها العامة، وأن ما يفعله بعض الفرق أو الجماعات أو الزعماء منها يكون له تأثير في جملتها، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلهم، وبينا في تفسير قوله تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ] أن من سنن الاجتماع البشري أن المصائب والرزايا التي تحل بالأمم بفشو المفاسد والرذائل فيها لا تختص الذين تلبسوا بتلك المفاسد وحدهم، كما أن الأوبئة التي تحدث بكثرة الأقذار في الشعب وغير ذلك من الإسراف في الشهوات تكون عامة أيضا.
وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة، كالذين قال الله فيهم :﴿ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلَّت أيديهم ﴾ [ المائدة : ٦٤ ]، والذين قال فيهم ﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ﴾ [ آل عمران : ١٨١ ] ردا على قوله تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسناً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] ؟ ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم ولم ينقل إلينا.
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله ؟ وإنما قالوا هو ابن الله من أجل أن عزيراً كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة
تقدم في الآية ٢٩ السابقة لهذه الآيات أن أهل الكتاب المراد بهم اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله تعالى على الوجه الحق الذي جاءت به رسله من توحيد وتنزيه لذاته وصفاته، ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح من أن الناس يبعثون بشرا كما كانوا في الدنيا- أي أجسادا وأرواحاً- وأنهم يجزون بإيمانهم وأعمالهم، وعليها مدار سعادتهم وشقائهم، لا على أشخاص الأنبياء والصديقين، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله إلى كل منهم إيمانا وإذعانا وعملا، ولا يدينون دين الحق. أي إنما يتبعون تقاليد وجدوا عليها آباءهم وأحبارهم ورهبانهم، فلما بين تعالى هذا في سياق قتالهم وما ينتهي به إذا لم يؤمنوا بما جاء رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم- وهو أداء الجزية بشرطها - عطف عليه ما يبين مبهمه، ويفصل مجمله، ويبين غايته، وهو هذه الآيات الأربع.
تفسير بقية الآيات في اليهود والنصارى
﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ﴾ هذا استئناف بين به ما في قوله :﴿ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ﴾ من الإجمال، فإن أهل الكتاب لو أطلقوا لقب ابن الله على عزير والمسيح إطلاقا مجازيا كما أطلق في كتبهم ولم يضاهئوا به من قبلهم من الوثنيين لما كانوا به كفارا، ً وإنما كانوا كفاراً بهذه الوثنية التي أشير إليها بهذه المضاهأة وبينها بهذه الآية.
الأحبار جمع حبر بفتح الحاء المهملة وكسرها، وهو العالم من أهل الكتاب، والرهبان جمع راهب، ومعناه في اللغة الخائف، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة، والرهبانية في النصرانية بدعة، كما قال تعالى :﴿ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ﴾ [ الحديد : ٢٧ ]، وكانت نيتهم فيها صالحة كما قال تعالى :﴿ إلا ابتغاء رضوان الله ﴾[ الحديد : ٢٧ ]، ذلك بأن الأصل فيها تأثير مواعظ المسيح عليه السلام في الزهد والإعراض عن لذات الدنيا، ثم صار أكثر منتحليها من الجاهلين والكسالى، فكانت عبادتهم صورية أعقبتهم رياء وعجباً وغرورا بأنفسهم وبتعظيم العامة لهم، ولذلك قال تعالى :﴿ فما رعوها حق رعايتها ﴾ [ الحديد : ٢٧ ]، ولما صارت النصرانية ذات تقاليد منظمة في القرن الرابع وضع رؤساؤهم نظماً وقوانين للرهبانية ولمعيشتهم في الأديار. وصار لها عندهم فرق كثيرة يشكو بعض أحرارهم من مفاسدهم فيها. فكان ذلك مصداقاً لقوله تعالى في سلفهم المخلصين ﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ﴾ [ الحديد : ٢٧ ]، وفي خلفهم المرائين ﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ [ الحديد : ١٦ ]، وهذه الآية من تحرير القرآن للحقائق في المسائل الكبيرة بعبارة وجيزة، هي الحق المفيد فيها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرهبانية في الإسلام لما سنبينه في تفسير سورة الحديد إن شاء الله تعالى أن يحيينا ويوفقنا لتفسيرها.
والمعنى اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساء الدين فيهم أرباباً، فاليهود اتخذوا أحبارهم -وهم علماء الدين فيهم- أرباباً بما أعطوهم من حق التشريع فيهم وأطاعوهم فيه، والنصارى اتخذوا رهبانهم -أي عبادهم الذين يخضع العوام لهم- أربابا كذلك. والأظهر أن يكون المراد من الأحبار والرهبان جملة رجال الدين في الفريقين، أي من العلماء والعباد، فذكر من كل فريق ما حذف مقابله من الآخر على طريقة الاحتباك، أي اتخذ اليهود أحبارهم وربانيهم والنصارى قسوسهم ورهبانهم أرباباً غير الله وبدون إذنه، بإعطائهم حق التشريع الديني لهم وبغير ذلك مما هو حق الرب تعالى. والرهبان عند النصارى أدنى طبقات رجال الدين، فاتخاذهم أرباباً يستلزم اتخاذ من فوقهم من الأساقفة والمطارنة والبطاركة بالأولى، فالرهبان يخضعون لتشريع هؤلاء الرؤساء مدوناً كان أو غير مدوّن، والعوام يخضعون لتشريع الرهبان ولو غير مدوَّن، سواء قالوه بالتبع لمن فوقهم، أو من تلقاء أنفسهم، لثقتهم بدينهم. وكذلك اتخذوا المسيح ابن مريم رباً وإلهاً.
أشرك تعالى بين اليهود والنصارى في اتخاذ المسيح رباً وإلهاً يعبدونه، واليهود لم يعبدوا عزيراً، ولم يؤثر عمن قال منهم أنه ابن الله أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح أنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد، ومن النصارى من يعبدون أمه عبادة حقيقة ويصرحون بذلك، وجميع الكاثوليك والأرثوذكس يعبدون تلاميذه ورسله وغيرهم من القديسين في عرفهم، يتوسلون بهم، ويتخذون لهم الصور والتماثيل في كنائسهم، ولكنهم لا يسمون هذا عبادة في الغالب. والظاهر أن من كان قد تنصر من مشركي العرب لم يكونوا يعبدون هؤلاء الرؤساء والكبراء في الملة إلا قليلاً. وأما اتخاذهم أرباباً بالمعنى المأثور في تفسير الآية فقد كان عاما عند الفريقين، فإن اليهود لم يقتصروا في دينهم على أحكام التوراة ؛ بل لم يلتزموها ؛ بل أضافوا إليها من الشرائع اللسانية عن رؤسائهم ما كان خاصاً ببعض الأحوال من قبل أن يدونوه في المشنه والتلمود، ثم دونوه فكان هو الشرع العام، وعليه العمل عندهم.
وأما النصارى فقد نسخ رؤساؤهم جميع أحكام التوراة الدينية والدنيوية على إقرار المسيح لها، واستبدلوا بها شرائع كثيرة في العقائد والعبادات والمعاملات جميعا، وزادوا على ذلك انتحالهم حق مغفرة الذنوب لمن شاؤوا، أو حرمان من شاؤوا من رحمة الله وملكوته، وهذا حق الله وحده ﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ ؟ [ آل عمران : ١٣٥ ] أي لا أحد. والقول بعصمة البابا رئيس الكنيسة في تفسير الكتب الإلهية، ووجوب طاعته في كل ما يأمر به من العبادات وتحريم المحرمات.
روى الترمذي –وحسنه- وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وغيرهم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ﴾، فقال :( أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه )١، كذا في الدر المنثور.
قال ابن كثير : وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة، وكان رئيساً في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ﴾ قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم، فقال :«بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عدي ما تقول ؟ أيضرك أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ؟ ما يضرك ؟ أيضرك أن يقال : لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم إلهاً غير الله ). ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق، قال : فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال :( إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون )٢، وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله وغيرهما في تفسير هذه الآية. اه وسنذكر في إسلامه حديثا آخر قريباً.
ولبعض المفسرين أقوال في الآية جديرة بأن تنقل بنصها لما فيها من العبرة لأهل هذا العصر :
قال العلامة الشيخ سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي في تفسير هذه الآية من كتابه ( الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية )-أي ما يتعلق بأصول العقائد وأصول الفقه في القرآن- ما نصه :«أما المسيح فاتخذوه رباً معبوداً بالحقيقة، وأما الأحبار لليهود والرهبان للنصارى فإنما اتخذوهم أرباباً مجازاً، لأنهم أمروهم بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وإنكار رسالته فأطاعوهم، وغير ذلك مما أطاعوهم فيه فصاروا كالأرباب لهم بجامع الطاعة، والنصارى يزعمون أن المسيح قال لتلاميذه عند صعوده عنهم : ما حللتموه فهو محلول في السماء، وما ربطتموه فهو مربوط في السماء. فمن ثم إذا أذنب أحدهم ذنبا جاء بالقربان إلى البترك٣ أو الراهب، وقال : يا أبانا اغفر لنا، بناء على أن خلافة المسيح مستمرة فيهم، وأنهم أهل الحل والعقد في السماء والأرض على ما نقلوه عن المسيح وهو من ابتداعاتهم في الدين ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ﴾ [ التوبة : ٣١ ] الآية، بدليل قول المسيح ﴿ يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم عليه الجنة ومأواه النار ﴾ اه.
أقول : أما عبارته في الحل والربط فهي موافقة لترجمة اليسوعيين في التعبير بالفعل الماضي، وأما الترجمة الأميركانية فهي بالفعل المضارع هكذا :« الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء ». وأما أمر المسيح إياهم بعبادة الله ربه وربهم وكذلك موسى عليه السلام فسيأتي.
وقال الإمام الرازي في تفسيره ( مفاتيح الغيب ) : الأكثرون من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم. نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانياً فانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى هذه الآية قال : فقلت : لسنا نعبدهم، فقال :( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟ قلت : بلى. قال : فتلك عبادتهم ). وقال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل٤ ؟ فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
( ثم قال الرازي ) : قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه٥ : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات، ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا اه.
ثم قال :( فإن قيل ) : إنه تعالى لما كفرهم بسبب أنهم أطاعوا الأحبار والرهبان فالفاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره كما هو قول الخوارج. والجواب : أن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه لا يعظمه، لكن يلعنه ويستخف به، أما أولئك الأتباع كانوا( ؟ ) يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم فظهر الفرق.
قال :( والقول الثاني ) في تفسير هذه الربوبية : إن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى القول بالحلول والاتحاد، وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الدين فقد يلقي إليهم أن الأمر كما يقولون ويعتقدون، وشاهدت بعض المزورين ممن كان بعيدا عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له، وكان يقول لهم : أنتم عبيدي، فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه فربما ادعى الأولوهية، فإذا كان هذا مشاهداً في هذه الأمة فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة.
قال : وحاصل الكلام أن تلك الربوبية يحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيها لحكم الله، وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا منهم أنواع الكفر فكفروا بالله، فصار ذلك جارياً مجرى أنهم اتخذوهم أربابا من دون الله، ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد، وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة اه كلام الرازي.
( يقول محمد رشيد ) : إننا أوردنا هذا عن هذين المفسرين من أشهر مفسري القرون الوسطى وأكبر نظارها ليعتبر به مسلمو هذا العصر الذين يقلدون شيوخ مذاهبهم الموروثة بغير علم في العبادات والحلال والحرام بدون نص من كتاب الله قطعي الدلالة، أو سنة رسوله القطعية المتبعة بالعمل المتواتر، ولا من حديث صحيح ظاهر الدلالة أيضاً،
٢ ـ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٩، باب ١، وأحمد في المسند ٤/ ٣٧٨..
٣ ـ البترك: هو البطريرك..
٤ ـ الظاهر أنه إنما سأله عن الفريقين؛ لأنه موضوع الآية، ولذكر الرهبان في الجواب، وأنه سقط لفظ النصارى من السؤال بغلط الطبع أو النسخ من قبله، فإن تحقق أن السؤال عن بني إسرائيل دون النصارى فيوجه بأن اليهود موحدون لا يعبدون أحبارهم، والنصارى يعبدون رؤساءهم كما تقدم، وعلى هذا يكون ذكر الرهبان في الجواب سهوا من النساخ، أو مبينا على أن المراد بالرهبان العباد من اليهود والنصارى (المؤلف)..
٥ ـ من المعروف أن أشهر شيوخ الإمام الرازي والده عمر ضياء الدين، ومحيي السنة البغوي، ولم يوضح الرازي هنا من المقصود منهما..
تقدم في الآية ٢٩ السابقة لهذه الآيات أن أهل الكتاب المراد بهم اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله تعالى على الوجه الحق الذي جاءت به رسله من توحيد وتنزيه لذاته وصفاته، ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح من أن الناس يبعثون بشرا كما كانوا في الدنيا- أي أجسادا وأرواحاً- وأنهم يجزون بإيمانهم وأعمالهم، وعليها مدار سعادتهم وشقائهم، لا على أشخاص الأنبياء والصديقين، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله إلى كل منهم إيمانا وإذعانا وعملا، ولا يدينون دين الحق. أي إنما يتبعون تقاليد وجدوا عليها آباءهم وأحبارهم ورهبانهم، فلما بين تعالى هذا في سياق قتالهم وما ينتهي به إذا لم يؤمنوا بما جاء رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم- وهو أداء الجزية بشرطها - عطف عليه ما يبين مبهمه، ويفصل مجمله، ويبين غايته، وهو هذه الآيات الأربع.
ثم وصفهم الله تعالى بوصف ثالث في تفصيل حال كفرهم المجمل المتقدم بعد وصفهم باتخاذ ابن الله ورؤسائهم أرباباً من دون الله، وهو :﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ﴾ أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على البشر بهداية دينه الحق الذي أوحاه إلى موسى وعيسى وغيرهما من رسله، ثم أتمه وأكمله ببعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، بالطعن في الإسلام والصد عنه بالباطل، كما فعلوا من قبل بمثل تلك الأقوال في عزير والمسيح، التي لم تتجاوز أفواههم إلى معنى صحيح، وبما ابتدعه الرؤساء لهم من التشريع، حتى صار التوحيد الذي أمروا به عندهم شركا، والعبد المربوب رباً، والعابد المألوه إلهاً، على تفاوت بين فرقهم في ذلك، كما تقدم شرحه في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآية.
والإرادة في الأصل القصد إلى الشيء، وقد تطلق على ما يفضي إليه وإن لم يتصوره فاعله. يقال في الرجل المسرف المبذر : يريد أن يخرب بيته. أو : أن يترك أولاده فقراء، أي أن تبذيره يفضي إلى ذلك فكأنه يقصده ؛ لأن فعله فعل من يقصد ذلك. وأهل الكتاب الذين عادوا الإسلام منذ البعثة المحمدية كانوا يقصدون إبطاله والقضاء عليه بالحرب والقتال من جهة، وبإفساد العقائد والطعن من جهة أخرى كما يأتي قريباً، وكل من الأمرين يصح التعبير عنه بإرادة إطفاء النور لأنه تمثيل لحالهم معه. وأما ما كان من إفسادهم في دينهم فمنه ما كان بقصد من المنافقين والمبتدعين فيه، ولا سيما الروم الذين اتخذوا النصرانية عصبية سياسية منذ عهد قسطنطين، ومنه ما كان بغير قصد إلى إطفاء نوره، بل كان بعضه بقصد خدمته، ( كما فعل بعض مبتدعة المسلمين الذين اتبعوا سننهم من حيث لا يشعرون بوضع الأحاديث، والعبادات المبتدعة، ونشر الخرافات ) وهو ما بيناه مراراً في مواضع آخرها وأقربها ما قلناه آنفا في هذا السياق.
قال السدي : المراد بالنور هنا الإسلام، وقال الضحاك : هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي : هو القرآن. وقال بعض المفسرين : المراد بالنور الدلائل على التوحيد ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها يهتدى بها إلى الحق في العقليات، كما يهتدى بالنور في رؤية الحسيات ؟ وأقول : إن المعنى الجامع بين النور الحسي والنور المعنوي هو أنه الشيء الظاهر في نفسه المظهر لغيره، ولك أن تقول : إن النور المعنوي للبصيرة كالنور الحسي للبصر. وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى :﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ﴾ [ المائدة : ١٦ ١٧ ] إن في هذا النور الأقوال الثلاثة التي ذكرناها آنفا، وبينا وجه كل منها، واخترنا الثالث منها، وهو القرآن، لموافقته لقوله تعالى :﴿ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ﴾ [ النساء : ١٧٢ ]، وقوله تعالى في رسوله الأعظم :﴿ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾ [ الأعراف : ١٥١ ]، وقوله :﴿ فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ﴾ [ التغابن : ٨ ]، وأما التوراة والإنجيل فقد قال الله تعالى في كل منهما إن فيه نورا هدى ( ٥ : ٤٧ و٤٩ )، ولم يجعله عين النور كالقرآن. ونختار هنا القول الأول وهو دين الإسلام بالمعنى العام الشامل لكل ما جاء به رسل الله، ولا سيما دين التوراة والإنجيل والقرآن. وقد كان كل منها نورا لأهله في الزمن الذي نزل به بقدر حاجتهم، حتى إذا نزل القرآن كان هو النور الأعظم الكافي لهداية جميع البشر إلى آخر الزمان، ولله در البوصيري حيث قال في لاميته بعد ذكر تلك الكتب :
الله أكبر إن دين محمد وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا
نعم إن القوم قد أطفأوا جل ذلك النور، فزجوا بأنفسهم في ظلمات لا يلوح لهم فيها إلا وميض ضئيل منه، وهم يريدون إطفاء الآخر الأخير أيضا. والنور الحسي قد يطفأ بنفخ الفم كسرج الزيت القديمة وإطفاؤه إزالته، وإطفاء النار إزالة لهبها واتقاد جمرها معاً، فهو أبلغ من إخمادها ؛ لأن الإخماد إزالة اللهب فقط. وإذا كان إطفاء السراج سهلا فإطفاء نور الشمس غير ممكن.
وإنما اخترت هنا أن المراد بالنور دين الله الذي بعث به رسله في كل قوم بما يناسب حالهم في زمنهم ؛ لأنه هو الذي يقبل التمام المراد بقوله تعالى :﴿ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ﴾ الذي أضافه إلى اسمه ببعثة محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلى الخلق أجمعين، مبيناً لهم كل ما يحتاجونه من أمر الدين، من عقائد يؤيدها البرهان، ويطمئن لها الوجدان، وتبطل بها عبادة الإنسان للإنسان، فضلاً عن الأصنام والأوثان. وعبادات تتزكى بها النفس، وتطهر من كل رجس، وتجعل كفاية الأغنياء للفقراء حقوقا إلهية، تكفلها العقائد الوجدانية، ويبطل ثوابها المن والأذى، وآداب تطبع في الأنفس ملكات الفضائل، وتتوثق بها عرى المصالح، وتشريع سياسي وقضائي يجمع بين العدل والرحمة، ويجعل السلطان الحكمي للأمة، ويقرر المساواة بين جميع الناس في الحق، مع تعظيم شأن العلم والعقل، واحترام حرية الإرادة والرأي والوجدان، ومنع الإكراه على الأديان، والتوحيد المصلح للاجتماع البشري في العقائد والتعبد والتشريع واللغة، لإزالة التعادي بين الشعوب والقبائل، فمن لم يقبلها كلها كان تشريع المساواة بالعدل كافياً لحفظ حقوقه فيها.
أتم الله تعالى ذلك كله على لسان خاتم النبيين، الذي حفظها إلى آخر الزمان، ولم يكفل ذلك لكتاب آخر ؛ لأن سائر الكتب كانت أدياناً خاصة موقتة، وأنزل عليه بعد أن أتم الدعوة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ﴾ [ المائدة : ٩ ].
وجملة المعنى في هذا التركيب أنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي شرعه لهداية عباده، وإنما قطبه الذي تدور عليه جميع عباداته توحيد الربوبية والألوهية، فتحولوا عنه إلى الشرك والوثنية، والله تعالى لا يريد ذلك، لا يريد في هذا الشأن إلا أن يتم هذا النور الذي بدا في الأجيال السابقة كالسراج على منارته، أو كنور الهلال في بزوغه، فالقمر في منازله، فيجعله بدرا كاملاً، بل شمساً ضاحية، يعم نوره الأرض كلها، وما يريده الله كائن لا مرد له.
﴿ ولو كره الكافرون ﴾ ذلك بعد إتمامه، كما كانوا يكرهونه من قبل عند بدء ظهوره، وجواب لو محذوف للعلم به مما قبله كما يقول النحاة. فهم يكيدون له، ويفترون عليه ويطعنون فيه، وفيمن جاء به. ويحاولون إخفاءه، أو «خنق دعوته، وحصد نبتته »، كما قال شيخنا رحمه الله. فأما اليهود فكان من أمرهم في مقاومة دعوته، ومساعدة المشركين عابدي الأصنام في قتال أهله، ومن خذلان الله تعالى إياهم، ونصر رسوله والمؤمنين عليهم، ما بيناه في تفسير سورة الأنفال، فكانوا في أول الإسلام أشد الناس عداوة لأهله كمشركي العرب سواء، ولما عجزوا عن إطفاء نوره بمساعدة المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم قصدوا إطفاء نوره ببث البدع فيه، وتفريق كلمة أهله بما فعل عبد الله بن سبأ من ابتداع التشيع لعلي كرم الله وجهه، والغلو فيه، وإلقاء الشقاق بين المسلمين في مسألة الخلافة، وكان لشيعته من الدسائس في قتل عثمان رضي الله عنه، ثم في الفتنة بين علي ومعاوية أقبح التأثير، ولولاهم لما قتل أولئك الألوف الكثيرون من صناديد المسلمين، فإن السعي إلى الصلح والاتفاق نجح غير مرة فأفسدوه بدسائسهم، ثم كان لليهود الذين أظهروا الإسلام والقيام بفرائضه نفاقاً مكيدة أخرى لا تزال مفاسدها مبثوثة في كتب التفسير والحديث والتاريخ وهي الإسرائيليات التي بينا بعضها في مواضع من هذا التفسير، ولا نزال نبين ما يعرض لنا فيه وفي المنار.
وأما النصارى فقد كان الحبشة منهم أول من أظهر المودة لهم، وأكرم ملكهم النجاشي من لجأ إليه من مهاجريهم، ومنعهم من تعدي المشركين عليهم، بل أسلم هو على أيديهم، كما تقدم بيانه في تفسير﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ﴾ [ المائدة : ٨٢ ]، ثم انقلب الأمر وانعكست القضية بعد انتشار الإسلام وراء جزيرة العرب، فكان اليهود يتوددون للمسلمين لأنهم أنقذوهم من ظلم النصارى واستبدادهم، وصار نصارى أوروبا المستعمرون للممالك الشرقية هم الذين يقاتلون المسلمين ويعادونهم، دون نصارى هذه البلاد ولا سيما سورية ومصر الأصليين، فإنهم رأوا من عدل المسلمين وفضائلهم ما فضلوهم به على الروم الذين كانوا يظلمونهم ويحتقرونهم، حتى آل الأمر إلى ما بيناه في تفسير الآية السابقة من الحروب الصليبية، وغلو نصارى أوروبا في عداوة المسلمين، وما بيناه قبلها في تفسير قتال أهل الكتاب من حال مسلمي هذا العصر مع دول أوروبا المستولية على أكثر بلادهم، المهددة لهم فيما بقي لهم من مهد دينهم ومشاعره وحرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد بين الله هذا المعنى في سورة الصف بمثل هذه الآية، إلا أنه قال هنالك :﴿ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ﴾ [ الصف : ٨ ] وباقي الآية ونص الآية بعدها كآيتي براءة سواء. فأما قوله﴿ ليطفئوا ﴾ فمن علماء العربية من يقول : إنه بمعنى " أن يطفئوا " لأن اللام فيه مصدرية أو بمعنى المصدرية، ومنهم من يقول : إنها للتعليل، والمعلل محذوف للعلم به من القرينة وهو التحقيق، وبيانه أنه قبل هذه الآية ذكر بشارة عيسى عليه السلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيب اليهود له في رسالته وبشارته، وقال بعدها :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ [ الصف : ٧ ]، فالمعنى على التعليل أن هؤلاء الضالين الظالمين لأنفسهم بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشرهم به عيسى عليه السلام - سواء كانوا من بني إسرائيل أو من غيرهم- بعد بعثته ودعوته إياهم إلى الإسلام وظهور نوره بالحجج الساطعة الدالة على صدقه يريدون افتراء الكذب بإنكار تلك البشارات، وتأويلها بما يصرفها عن وجهها ؛ لأجل أن يطفئوا نور الله تعالى، بافترائهم الذي يخرج من أفواههم ظناً منهم أن الافتراء بإنكارها وتأويلها وبالطعن في محمد صلى الله عليه وسلم يطفئ هذا النور، ثم قال ﴿ والله متم نوره ﴾ أي والحال أن الله تعالى متم نوره بالفعل فلا يطفئه الافتراء، بل هو كمن ينفخ في نور قوي ليطفئه فيزيده بذلك اشتعالاً، أو كمن يحاول إطفاء نور الشمس فلا ينال منها منالاً. فالفرق بين الآيتين أن آية سورة الصف تعليل لافترائهم بإرادتهم إطفاء النور به، وآية براءة لما جاءت بعد بيان شركهم بمضاهأتهم لأقوال الوثنيين من قبلهم جعل ذلك نفسه بمعنى إرادة إطفاء النور بلا واسطة.
ثم إن بينهما فرقا آخر وهو التعبير في آية سورة الصف بقوله :﴿ والله متم نوره ﴾ وفي سورة براءة بقوله :﴿ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ﴾، والأول يفيد أنه متمه بالفعل في الحال، والثاني وعد بأن يتمه في الاستقبال، فيجتمع منهما إثبات هذا الإتمام في الحال والاستقبال، فهو النور التام الكامل الذي لا ينطفئ بالقيل والقال،
تقدم في الآية ٢٩ السابقة لهذه الآيات أن أهل الكتاب المراد بهم اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله تعالى على الوجه الحق الذي جاءت به رسله من توحيد وتنزيه لذاته وصفاته، ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح من أن الناس يبعثون بشرا كما كانوا في الدنيا- أي أجسادا وأرواحاً- وأنهم يجزون بإيمانهم وأعمالهم، وعليها مدار سعادتهم وشقائهم، لا على أشخاص الأنبياء والصديقين، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله إلى كل منهم إيمانا وإذعانا وعملا، ولا يدينون دين الحق. أي إنما يتبعون تقاليد وجدوا عليها آباءهم وأحبارهم ورهبانهم، فلما بين تعالى هذا في سياق قتالهم وما ينتهي به إذا لم يؤمنوا بما جاء رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم- وهو أداء الجزية بشرطها - عطف عليه ما يبين مبهمه، ويفصل مجمله، ويبين غايته، وهو هذه الآيات الأربع.
﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ﴾ هذا بيان مستأنف للمراد من إتمام نور الله عزََّ وجلَّ، وهو أن الله الذي كفل إتمام هذا النور هو الذي أرسل رسوله الأكمل الذي أخذ العهد على النبيين من قبل ( ليؤمنن به ولينصرنه ) إن جاء في زمن أحد منهم، أرسله بالهدى الأتم الأكمل الأعم الأشمل، ودين الحق أي الثابت المتحقق الذي لا ينسخه دين آخر ولا يبطله شيء آخر﴿ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴾ [ فصلت : ٤٢ ] وهو في مقابلة قوله في أهل الكتاب الذي ذكر في أول هذا السياق ﴿ ولا يدينون دين الحق ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] ؛ لأنهم أضاعوا حظاً عظيماً من كتب أنبيائهم ومواعظهم، وحرفوا الباقي منها فلم يقيموه على وجهه، بل استبدلوا به تقاليد وضعها لهم الرؤساء بأهوائهم، كما تقدم شرحه في هذا السياق. فعلم بهذا أن المراد بالحق الأمر الثابت المتحقق، وأن إضافة الدين إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع، وفيه وجه آخر صحيح يجامعه ولا يباينه وهو أن معناه دين الله المحض الذي لا شائبة فيه كالشوائب التي عرضت للأديان السابقة ولما بقي من كتبها. وكلمة الحق من أسماء الله تعالى كما قال :﴿ فذلكم الله ربكم الحق ﴾ [ يونس : ٣٢ ].
ومن المعلوم عند جميع علماء التاريخ العام -ولا سيما تاريخ الأديان- أنه لا يوجد دين منقول عمن جاء به من رسل الله تعالى أو من غيرهم نقلاً صحيحاً متواتراً بالقول والفعل متصل الأسانيد إلا دين الإسلام. وقد ذكرنا في الفصل الذي عقدناه لإثبات ضياع كثير من الإنجيل وتحريف النصارى لكتبهم المقدسة في آخر تفسير ( ٥ : ١٥ ) من سورة المائدة أن فيلسوفا هنديا درس تواريخ الأديان كلها، وبحث فيها بحث حكيم منصف لا يريد إلا استبانة الحق، وأطال البحث في النصرانية لما للدول المنسوبة إليها من الملك وسعة السلطان، ونظر بعد ذلك كله في الإسلام، فكانت غاية ذلك الدرس أن عرف بالبرهان أن الإسلام هو الدين الحق، فأسلم وألف كتابا باللغة الإنكليزية عنوانه ( لماذا أسلمت )، أظهر فيه مزاياه على جميع الأديان وكان من أهمها عنده أنه هو الدين الوحيد الذي له تاريخ ثابت محفوظ... وكان من مثار العجب عنده أن ترضى أوروبا لنفسها ديناً ترفع من تنسبه إليه عن مرتبة البشر فتجعله إلهاً وهي لا تعرف من تاريخه شيئاً يعتد به...
ثم بين غاية إرسال خاتم النبيين والمرسلين بدين الحق أو علته بقوله :﴿ ليظهره على الدين كله ﴾ يقال أظهر الشيء : أوضحه وأبانه فجعله ظاهرا لا خفاء فيه، وأظهر فلانا على الشيء أو على الخبر : أطلعه عليه وأخبره به. ومنه قوله تعالى :﴿ فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ﴾ [ الجن : ٢٧ ]، وقوله :﴿ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه ﴾ [ التحريم : ٣ ] الخ. وأظهره على الشيء أو على الشخص جعله فوقه مستعلياً عليه. والاستعلاء هنا بالعلم والحجة، أو السيادة والغلبة، أو الشرف والمنزلة، أو بها كلها، وهو المختار، وإن كان الوعد يصدق ببعضها، والدين جنس يشمل كل دين.
وفي الضمير المنصوب هنا قولان : أحدهما : أنه للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه، والمعنى حينئذ أنه تعالى يظهر هذا الرسول على كل ما يحتاج إليه المرسل هو إليهم من أمور الدين : عقائده وآدابه، وسياسته وأحكامه، لأن ما أرسله به هو الدين الأخير الذي لا يحتاج البشر بعده إلى زيادة في الهداية الدينية. بل يوكلون فيما وراء نصوصه إلى اجتهادهم واختبارهم العلمي والعملي مع الاهتداء بها، حتى لا يضلوا ولا يتفرقوا بتركها. ونحن نعلم من كتب الأديان وتاريخهم أنها ليست كذلك ؛ بل لا تعدو كتب كل منها حاجة المخاطبين بها من قوم رسولها، فاليهودية دين شعب نسبي أراد الله تربيتهم بشريعة شديدة التضييق عليهم لتطهيرهم من الوثنية وعبادة البشر، ليقيموا التوحيد في بلاد مباركة استحوذ عليها الشرك، وقد كان ذلك زمناً ما، ثم فسدوا وصار أكثرهم وثنيين ماديين، فبعث الله إليهم المسيح عليه السلام بتعاليم شديدة المبالغة في الزهد ومقاومة المفاسد المادية، وكبح جماح الشهوات الجسدية، فكان له ما كان من التأثير فيهم وفي الروم وغيرهم زمنا ما، ولكن غلا بعضهم في الزهد وعرض لهم فيه الغرور مع الجهل، وعاد الأكثرون إلى الإسراف في الشهوات والعلو في الأرض. وكان هذا بعد ذلك تمهيدا للدين التام الوسط الجامع بين المصالح المادية والمعنوية، والمزايا الروحية والجسدية، ليكون عاماً للبشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهذه النصرانية التي يدعي أهلها أنها دين عام بالرغم مما في أناجيلها من قول المسيح لهم أنه لم يرسل ولم يرسلهم إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، يعترفون بأنه قال :«مت ٥ : ١٧ لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل » الخ، ونقلوا عنه أيضا أنه مع هذا قال :« يو ١٦ : ١٢ إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكنكم لا تستطيعون أن تحتملوا الآن* وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية » الخ.
وهذا لا يصدق ولا يمكن تأويله إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أخبرهم وأخبر غيرهم بكل شيء من أمر الدين ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]، وإنما أخبر عن الله عزَّ وجلَّ لا من عند نفسه ﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ﴾ [ النجم : ٣، ٤ ]، وأخبرهم بأمور آتية كثيرة جدا صريحة بعضها في القرآن، وأظهرها غلب الروم الفرس في مدى بضع سنين، وبعضها في الأحاديث الصحيحة، ومن المتواتر منها قوله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر :( تقتلك الفئة الباغية )١، وفي روايات بالغيبة، أي قال هذا له ولغيره، وقوله على المنبر في الحسن عليه السلام :( ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )٢، وإخباره فاطمة عليها السلام بموته، وبأنها أول من يلحق به، وإخباره بموت النجاشي يوم موته وصلاته عليه الخ الخ. ولا يزال الزمان يظهر صدقه في كل ما أخبر به في وقته، وقد مجد المسيح صلوات الله وسلامه عليهما بنفي طعن اليهود فيه وفي أمه، وإثبات كونه ولد طاهرا من الدنس بكلمة الله، وكونه من روح الله، ومؤيداً بآيات الله. وبينا كل ذلك في تفسير الآيات الواردة فيه، وقد سماه المسيح باسمه الدال على الحمد الكثير ( أحمد )، ومثله محمد، وهو في نسخ الإنجيل اليونانية والعربية القديمة البارقليط، ثم غيروه في التراجم الأخيرة فسموه المعزي، كما فصلنا ذلك في تفسير سورة الأعراف.
والوجه الثاني : أن الضمير لدين الحق الذي أرسل به صلى الله عليه وسلم، ومعناه أنه تعالى يعلي هذا الدين ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان، والهداية والعرفان، والعلم والعمران، وكذا السيادة والسلطان ( كما قلنا آنفا )، ولم يكن لدين من الأديان مثل هذا التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعي والسياسي إلا للإسلام وحده.
لا ننكر أن جميع أتباع الأنبياء قد صلحت حالهم باهتداء كل منهم بنبيهم مدة اهتدائهم به، ولكن التاريخ لم يرو لنا أنه كان لدين من الأديان كل هذه الفوائد بتأثيره فيهم.
أما ظهور الإسلام بالحجة والبرهان، فلا يختلف فيه عاقلان مستقلان، عرفاه وعرفا غيره من الأديان، وقد ذكرنا في هذا السياق بعض الشواهد عن هذا من كلام علماء الإفرنج المستقلين، وأشرنا إلى غير ما ذكرناه منها مما يمكن لمقتني مجلدات مجلة المنار أن يراجعوه في أكثرها بالاستعانة بالفهرس العام، ولا سيما لفظ الإسلام.
وأما ظهوره عليها بالعلم والعمران، والسيادة والسلطان، فالذي يتراءى للناس بادي الرأي في هذا الزمان أنه معارض بما عليه دول الإفرنج واليابان، وضعف ما بقي من دول الإسلام، وأنه إنما يظهر وجهه في دول العرب الأولى، وكذا دولة الترك في أول عهدها.
ونجيب عن ذلك بأن ما عليه دول الإفرنج واليابان وشعوبهما ليس من تأثير أديانهما في تعاليمها ولا في العمل بها، ولو كان كذلك لظهر عقب وجود الدين فيهم وأخذهم به. وقد نقلنا في هذا السياق عن علماء الإفرنج الأحرار المستقلين أن مدنيتهم الحاضرة، وما بنيت عليه من العلوم والفنون، لم يكن إلا من تأثير الحضارة الإسلامية والاقتباس من كتبها، ومن المعلوم لكل ملم بالتاريخ الحديث أن اليابان اقتبست حضارتها وقوتها من أوروبا في القرن الماضي، وحضارة العرب لا يمكن أن يكون لها سبب إلا هداية دينهم.
وقد قصر جميع المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم في تفسير هذه الآيات ؛ لأنهم إنما يأخذون تفاسيرهم من معاني الألفاظ دون تحقيق لمدلولاتها في الخارج، ومن الروايات المأثورة على قلتها وقلة ما يصح منها، وقد صح في بعضها قوله صلى الله عليه وسلم :( إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها )٣، وهو حديث طويل رواه مسلم من حديث ثوبان، وفي مسند أحمد عن شاب من محارب مرفوعاً :( أنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها )٤، وهو مطلق غير مقيد بما زوي له صلى الله عليه وسلم وأطلعه الله عليه من الأرض، ومن علماء الأصول من يوجب حمل المطلق على المقيد، وفي بعضها تعيين مصر، وأوصى بالقبط خيراً والشام وملك كسرى وقيصر وكل هذا قديم. فإن كان شيء مما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سيفتح للمسلمين ولما يفتح فلا بد أن يفتح.
روى الإمام أحمد عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( ياعدي أسلم تسلم ). قلت : إني من أهل دين، قال :( أنا أعلم بدينك منك ). فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال :( نعم. ألست من الركوسية٥، وأنت تأكل مرباع٦ قومك ؟ قلت : بلى، قال : فإن هذا لا يحل لك في دينك ). قال : فلم يعدُ أن قالها فتواضعت لها. قال :( أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام : تقول إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب. ( أتعرف الحيرة ؟ قلت : لم أرها، ولكن سمعت بها. قال :( فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز ). قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال :( نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد ). قال عدي : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد٧. ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز. والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها٨. اه من تفسير العماد ابن كثير.
ومن العلماء من يقول إن بعض هذه البشارات لا يتم إلا في آخر الزمان عند ظهور المهدي، وما يتلوه من نزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء، وإقامته لدين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإظهاره بالحكم والعمل به، خلافا لما يتوقعه اليهود والنصارى على اختلافهما في صفته. وقد كان شيوع هذا بين المسلمين من أسباب تقاعدهم عما أوجبه الله تعالى في كل وقت من إعلاء دينه وإقامة حجته، وحماية دعوته، وتنفيذ شريعته، وتعزيز سلطته، اتكالا على أمور غيبية مستقبلة، لا تسقط عنهم فريضة حاضرة، وقد تقدم في الكلام على أشراط الساعة من تفسير سورة الأعراف أن أحاديث المهدي لا يصح منها شيء يحت
٢ ـ أخرجه البخاري في الفتن باب ٢٠، والصلح باب ٩، وفضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب ٧٢٢، والمناقب باب ٢٥، وأبو داود في السنة باب ١٢، والترمذي في المناقب باب ٢٥، النسائي في الجمعة باب ٢٧، وأحمد في المسند ٥/ ٣٨، ٤٤، ٤٩، ٥١..
٣ ـ أخرجه مسلم في الفتن حديث ١٩، وأبو داود في الفتن باب ١، والترمذي في الفتن باب ١٤، وابن ماجه في الفتن باب ٩، وأحمد في المسند ٤/ ١٢٣، ٥/ ٢٧٨، ٢٨٤..
٤ ـ المسند ٥/ ٢٧٨، ٢٨٤..
٥ ـ الركوسية، بالفتح: أهل دين بين الصابئين والنصارى، وقال ابن الأعرابي هو نعت للنصارى..
٦ ـ المرباع: ما كان يأخذه رئيس القوم وعصبته منهم أو من غنائمهم، وهو من عادات الجاهلية..
٧ ـ أي من غير حماية أحد لها في طريقها..
٨ ـ أخرجه أحمد في المسند ٤/ ٣٧٨، ٣٧٩..
هاتان الآيتان متصلتان بسياق الكلام في أهل الكتاب، متممتان له، ومقررتان لموعظة عامة تقتضيها المناسبة. ذلك بأنه تقدم في هذا السياق أن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وأنهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً فعبدوا غيره من دونه، وأنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على عباده برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله لا يريد إطفاءه ؛ بل يريد إتمامه وقد فعل، فناسب أن يبين مع هذا شيئا من سيرة جمهور هؤلاء الرؤساء الدينيين العملية، ليعرف المسلمون حقيقة حالهم والأسباب التي تحملهم على محاولة إطفاء نور الله تعالى، وأن أكثرهم يعبدون أهواءهم وشهواتهم.
وذلك قوله عز وجل :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ﴾ استعمل أكل الأموال بمعنى أخذها والتصرف فيها بوجوه الانتفاع، التي يعد ما يبتاع بها للأكل أعم أنواع الاستعمال والتصرفات، وقد تقدم مثل هذا التعبير في قوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ [ البقرة : ١٨٨ ]، وقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ [ النساء : ٢٩ ]، وإسناد هذه الجريمة المزرية إلى الكثيرين منهم دون جميعهم من دقائق تحري الحق في عبارات الكتاب العزيز، فهو لا يحكم على الأمة الكبيرة بفساد جميع أفرادها أو فسقهم أو ظلمهم، بل يسند ذلك إلى الكثير أو الأكثر، أو يطلق اللفظ العام ثم يستثني منه. فمن الأول قوله تعالى في اليهود ﴿ وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ﴾ [ المائدة : ٦٢، ٦٣ ]، ومن الثاني قوله تعالى قبل هاتين الآيتين فيهم ﴿ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثرهم فاسقون ﴾ [ المائدة : ٥٩ ]، ومن الثالث قوله في المحرفين للكلم الطاعنين في الإسلام منهم ﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ [ النساء : ٤٦ ]، وقد نبهنا في تفسير هذه الآيات وأمثالها على هذا العدل الدقيق في أحكام القرآن على البشر، وإنما نكرره لعظيم شأنه، وذكرنا منه هنا بعض ما نزل في أهل الكتاب، من قبيل تفسير القرآن بالقرآن.
والمعنى العام لأكل أموال الناس بالباطل هو أخذها بغير وجه شرعي من الوجوه التي بذل الناس فيها هذه الأموال بحق يرضاه الله عز وجل، وهو أنواع :
منها : ما يبذله كثير من الناس لمن يعتقدون أنه عابد قانت لله، زاهد في الدنيا، ليدعو لهم ويشفع لهم عند الله في قضاء حاجاتهم وشفاء مرضاهم ؛ لاعتقادهم أن الله يستجيب دعاءه ولا يرد شفاعته، والدعاء مشروع دون أخذ المال به أو عليه، والرجاء باستجابته حسن، واعتقاده بالجزم جهل. أو لظنهم أن الله تعالى أعطاه سلطاناً وتصرفاً في الكون، فهو يقضي الحاجات من دفع الضر عمن شاء، وجلب الخير لمن شاء متى شاء، كما هو المعهود من الوثنيين في الأصل، وممن طرأت عليهم العقائد الوثنية من أتباع الأنبياء عليهم السلام، وتأولها لهم الرؤساء الدينيون المضلون بأنها لا تنافي التوحيد الذي جاء به الرسل، وقد بينا فساد هذه النزعات الشركية في مواضع كثيرة من هذا التفسير، ومنه أن غير أتباع الرسل من المشركين يقولون بمثل هذه الأقوال.
ومنها : ما يأخذه سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم من الهدايا والنذور التي يحملها إلى تلك المواضع أمثال من ذكرنا ممن لا يعقلون معنى التوحيد المجرد، والنصارى يبنون الكنائس والأديار بأسماء القديسين والقديسات، فتحبس عليها الأراضي والعقارات، وتقدم لها النذور والهدايا تقرباً إلى تلك الأسماء أو المسميات، وهذا وما قبله مما اتبع المسلمون فيه سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، مصداقاً للحديث النبوي الصحيح. والوقف على الدير أو الكنيسة عندهم كالوقف على المسجد عندنا قربة حقيقية، وأخذ المال وإعطاؤه في بناء المعابد حق في أصل كل دين سماوي، وإنما البدع الوثنية في المعابد هي المتعلقة بعبادة من ينسب إليه المعبد، ويوضع له فيه قبر أو صورة أو تمثال فيدعى فيه مع الله تارة، ومن دونه تارة، وينذر له وحده آونة ومع الله آونة، فهذه بدع تتبرأ منها أديان الأنبياء الموحاة إليهم من الله عز وجل، والنفقة فيها كلها من الباطل، وآكلوها من رؤساء الدين وسدنة المعابد من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.
ومنها : ما هو خاص بالنصارى ؛ بل ببعض فرقهم كالأرثوذكس والكاثوليك، وهو ما يأخذونه جعلا على مغفرة الذنوب أو ثمناً لها. ويتوسلون إليها بما يسمونه سر الاعتراف. وهو أن يأتي الرجل أو المرأة القسيس أو الراهب المأذون له من الرئيس الأكبر بسماع أسرار الاعتراف ومغفرة الذنوب فيخلو به أو بها، فيقص عليه الخاطئ ما عمل من الفواحش والمنكرات بأنواعها لأجل أن يغفرها له، لأن من عقائد الكنيسة أن ما يغفره هؤلاء يغفره الله تعالى. وقد كان لبيع البابوات للغفران نظام متبع في القرون الوسطى للنصرانية ( أعني الوسطى في الزمن لا في الاعتدال )، وكان الثمن يتفاوت بقدر ثروة المشترين من الملوك والأمراء والنبلاء وكبار الأغنياء فمن دونهم، وكانوا يعطون بالمغفرة صكوكاً يحملونها ليلقوا الله تعالى بها. وكان هذا الخطب الكبير من غلو الكاثوليك في استغلال سلطتهم الدينية أعظم أسباب الخروج عليهم والانقلاب الكبير الذي يسمونه الإصلاح( البروتستانت )، إذ ترتب عليه فساد كبير في استباحة الفواحش وكبائر المعاصي. والاعتراف في الأصل لم يوضع له ثمن، ولكن سوء استعمال بعض رجال الدين له أغراهم بجعله وسيلة لسلب المال، وفي القوانين السرية لبعض الرهبنات الكاثوليكية مواد صريحة في ذلك.
ومنها : ما يؤخذ على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال، فأولو المطامع والأهواء يفتون الملوك والأمراء وكبار الأغنياء بما يساعدهم على إرضاء شهواتهم، والانتقام من أعدائهم، أو ظلم رعاياهم ومعامليهم، بضروب من الحيل والتأويل يصورون به النوازل بغير صورها، ويلبسون به المسائل أثواباً من الزور تلتبس بحقيقتها، وفي المادة الثانية من الفصل الثاني من التعاليم السرية للرهبنة المشار إليها آنفا وجوب التساهل مع الملوك وعشائرهم في الزواج غير الشرعي، وغفران أمثال هذه الخطيئة وغيرها لهم، واستخراج براءة من البابا لهم بالمغفرة ؛ بل في تلك المادة نص في وجوب التساهل في الاعتراف والمغفرة حتى لخدم الملوك والأمراء.
ومن هذا النوع ما خاطب الله تعالى به أحبار اليهود خطاب الاحتجاج والتوبيخ بقوله تعالى :﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ﴾ [ الأنعام : ٩١ ].
ومنها : ما يتيسر لهم سلبه من أموال المخالفين لهم في جنسهم أو دينهم من خيانة وسرقة وغيرها، كما قال تعالى :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ]، يعنون أن الله حرم عليهم أكل أموال إخوانهم الإسرائيليين بالباطل دون الأميين وهم العرب وكذا سائر الطوائف، وقد سبق تفسيره من سورة آل عمران، وفي هؤلاء يقول البوصيري في سرد ما خالف اليهود فيه الحق، وادعوا أنه مشروع لهم :
وبأن أموال الطوائف حللت لهم ربا وخيانة وغلولا
ومنها : الرشوة وهو ما يأخذه صاحب السلطة الدينية أو المدنية رسمية أو غير رسمية من المال وغيره لأجل الحكم أو المساعدة على إبطال حق، أو إحقاق باطل، وهو في معنى الأخذ على الفتوى، وهما مما اتبع فيه بعض فقهاء المسلمين وحكامهم سنن أهل الكتاب أيضاً.
ومنها : الربا حتى الفاحش منه، وهو فاش عند اليهود والنصارى، ولكن منه ما يحله لهم رجال الدين، ومنه ما يحرمونه في الفتوى وكتب الشرع، واليهود أساتذة المرابين في العالم كله، وأحبارهم يفتونهم بأكل الربا من غير إخوتهم الإسرائيليين، ويأكلونه معهم مستحلين له بنص في توراتهم المحرفة بدلاً من نهيهم عنه. وقد تكرر في التوراة النهي عن أخذ الربا والمرابحة، وإقراض النقد والطعام بالربا مطلقاً، وذكر الأخ في نصوص النهي سببه أنه نص في المعاملة مع الخاضعين لشريعتهم وهم لا يكونون إلا منهم لأنها خاصة بهم. وفي سفر تثنية الاشتراع ٣٣ : ١٩ " لا تقرض أخاك بربا فضلة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بربا ٢٠ للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها " فالمراد بالأجنبي هنا إن كان من الأصل هو العدو الحربي الذي كانوا مأذونين في شريعتهم بقتاله لامتلاك بلاده، وهذا قد مضى ولا يصدق على كل من كان غير إسرائيلي في أي بلد من بلاد الله تعالى، خلافاً لما يجرون عليه إلى اليوم، والظاهر أنهم يعدون عرب فلسطين المالكين لمعظم أرضها أعداء حربيين كالذين كانوا فيها عند مقاتلة يوشع لهم، ويستحلون سلب أموالهم وسفك دمائهم إن استطاعوا ؛ لأنهم يزعمون أن أنبياءهم وعدوهم بأن هذه البلاد كلها وما فيها من موضع هيكل سليمان ستعود إليهم وعد الرب أجدادهم من قبل يجعلها لهم، ولكن وعد أنبيائهم مقيد بإتيان المسيح، وقد أتى وكذبه أكثرهم، فإن كانوا ينتظرون غيره فليصبروا إلى أن يأتي ويصدق بشارات الأنبياء، وأما التعدي على أهل البلاد ومحاولة سلب أرضهم وعقارهم منهم بتسخير بعض الدول التي تعبد المال بمالهم لمساعدتهم على هذا الظلم فليس له شبهة في تلك البشارات. ولكن عند المسلمين بشارة أصح وأصرح من بشاراتهم، وهو إخباره صلى الله عليه وسلم لهم بأن اليهود يقاتلونهم فيظهرهم الله تعالى عليهم... ﴿ فانتظروا إنا منتظرون ﴾ [ الأنعام : ١٥٨ ].
على أن اليهود لم يقفوا في الربا عند حد فقد صاروا يأكلون الربا من إخوتهم الفقراء، وهم منهيون في التوراة عنه بلفظ « شعبي الفقير »، كما يرى في سفر الخروج ( ٢٢ : ٢٥ )، وقد وبخهم على ذلك نحميا الذي كان صاحب السعي الأول لإطلاقهم من السبي، والمعيد لبناء أورشليم بعد خرابها، والحاكم فيها والمقيم للسبت وسائر الشرائع التي كتبها لهم رفيقه العزير( عزرا ) كما تقدم في تفسير﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله ﴾ من أول هذا السياق، فراجع الفصل الخامس من سفر نحميا. وفي نبوة حزقيال نهي لهم عن الربا تارة بالإطلاق، وتارة بتخصيص الفقير كما ترى في الإصحاح ١٨ منه. وكذلك داود عليه السلام أطلق القول في ذم الربا والرشوة في آخر المزمور الخامس عشر.
وأما النصارى فقد وضع لهم الأساقفة أحكاماً للربا والقروض فيما يسمونه اللاهوت الأدبي يبيحون فيها بعض الربا دون بعض، وهم كاليهود في المعاملات الربوية الرسمية، وليس من موضوعنا بيان هذا بالتفصيل، وإنما موضوعنا أن الربا المحرم عند الله تعالى على ألسنة أنبيائه لضرره مما يأكله رهبانهم أفراداً وجماعات، وإن لبعض رهبناتهم جمعيات غنية معظم ثروتها من الربا، منها جمعية كانت قد أسست بأرض فرنسة مصرفاً مالياً ( بنكا ) جمعوا فيه من الأمانات ألوف الألوف، ثم ادعوا إفلاسه، فضاعت تلك الأمانات الكثيرة على مودعيها في مَصرفهم، فهاج عليهم الناس هيجة شؤمى، فكانوا يهجمون عليهم في أديارهم ويقتلونهم تقتيلاً، ثم طردتهم فرنسة من بلادها، وإنما تساعدهم في مستعمراتها وغيرها من بلاد الشرق لترويجهم لسياستها.
وقد اطلعت على نظام في الطرق الخفية التي يجمعون بها الأموال من أهل دينهم ومذهبهم، ومن أهمها حمل الأغنياء -ولا سيما المثريات من النساء- على الوصية لجمعيتهم، أو بعض أديارهم وكنائسهم، أو الوقف عليها مما لا حاجة في هذا التفسير إلى تفصيله.
وحسبنا ما ذكرناه في بيان صدق كتاب ا
هاتان الآيتان متصلتان بسياق الكلام في أهل الكتاب، متممتان له، ومقررتان لموعظة عامة تقتضيها المناسبة. ذلك بأنه تقدم في هذا السياق أن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وأنهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً فعبدوا غيره من دونه، وأنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على عباده برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله لا يريد إطفاءه ؛ بل يريد إتمامه وقد فعل، فناسب أن يبين مع هذا شيئا من سيرة جمهور هؤلاء الرؤساء الدينيين العملية، ليعرف المسلمون حقيقة حالهم والأسباب التي تحملهم على محاولة إطفاء نور الله تعالى، وأن أكثرهم يعبدون أهواءهم وشهواتهم.
﴿ يوم يحمى عليها في نار جهنم ﴾ الظرف هنا يتعلق بقوله تعالى قبله ﴿ بعذاب أليم ﴾، وقد بينا من قبل أن الأصل في البشارة الخبر المؤثر يظهر تأثيره في بشرة الوجه بالسرور أو الكآبة، ولكن غلب في الأول، ولذلك يحمل في مثل هذا المقام على التهكم والمراد به الإنذار، أي أخبرهم بعذاب أليم يصيبهم في ذلك اليوم الذي يحمى فيه على تلك الأموال المكنوزة في نار جهنم- أي دار العذاب- بأن توضع وتضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها، فهو كقوله تعالى :﴿ وما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع ﴾ [ الرعد : ١٧ ]، وهو أبلغ من " يوم تحمى "، فتكون من الإحماء عليها كالميسم. وظاهر العبارة أنه يحمى عليها بأعيانها والله قادر على إعادتها، وإن كان المعنى المراد من الإنذار يحصل بالإحماء عليها وعلى مثلها، وليس في أعيانها من المعنى ولا الحكمة ما في إعادة الأجساد، وأمور الآخرة من عالم الغيب، فلا ندرك كنهها وصفاتها من الألفاظ المعبرة عنها، فمذهب السلف الحق الإيمان بالنصوص مع تفويض أمر الكنه والصفة إلى عالم الغيب سبحانه، والواجب علينا مع الإيمان بالنص العبرة المرادة منه في إصلاح النفس.
ويرد عليه أن هذه الأموال تفنى بخراب الدنيا وصيرورة الأرض بقيام الساعة هباء منبثاً، ويجاب عنه بما أجيب عن القول بإعادة الأجساد بأعيانها من قدرة الله تعالى على ذلك. وأهون منه إيراد كون الدرهم أو الدينار الواحد قد يكنزه كثير من الناس بالتداول، وقد يقال : إنهم يكوون بها بالتناوب، وفي معناه إيرادهم على إعادة الأعيان أن جسد الإنسان الواحد قد يكون جسداً لكثير من الناس والحيتان والوحوش والأنعام، وتقدم تفصيل هذا في الكلام على بعث الأجساد من سورة الأعراف.
وفي بعض الآثار أن الدنانير والدراهم المكنوزة تحمى كلها وإن كثرت، ويتسع جسده لها كلها، حتى لا يوضع دينار مكان دينار، ولم يصح هذا مرفوعاً، وإنما صح عند مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا :( ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره )١ الحديث، والصفائح غير الدراهم والدنانير، وهي بالرفع نائب الفاعل لجعل، فيجوز أن تكون مما يخلقه الله يوم القيامة، ورواية الرفع هي المشهورة. قال الشراح : وفي رواية بالنصب. وفي البخاري والنسائي عنه مرفوعاً أيضا :( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمته يقول : أنا مالك، أنا كنزك )٢، ثم تلا صلى الله عليه وسلم آية ﴿ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ [ آل عمران : ١٨٠ ]، وفي رواية للنسائي ( إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان، فليزمه أو يطوقه. يقول : أنا كنزك إنا كنزك )٣، فهذا نص صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم في أن ذلك التعذيب بجعل المال صفائح يكوى بها مانع الزكاة أو شجاعا ( وهو ذكر الحيات ) يطوقه، إنما هو ضرب من التمثيل أو التخييل، لا نفس ذلك المال الذي كان يكنزه في الدنيا، وبه يبطل كل إيراد ويزول كل إشكال، والتعذيب حقيقي على كل حال.
﴿ فتكوى بها جباههم ﴾ التي كانوا يستقبلون بها الناس منبسطة أساريرها من الاغتباط بعظمة الثروة، ويستقبلون بها الفقراء منقبضة متغضنة من العبوس والتقطيب في وجوههم لينفروا ويحجموا عن السؤال.
﴿ وجنوبهم وظهورهم ﴾ التي كانوا يتقلبون بها على النعمة اضطجاعا واستلقاء، ويعرضون بها عن لقاء المساكين وطلاب الحاجات ازوراراً وإدباراً، فلا يكون لهم في جهنم ارتفاق ولا استراحة فيما سوى الوقوف إلا بالانكباب على وجوههم، كما قال :﴿ يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ﴾ [ القمر : ٤٨ ] وكذلك قال هنا.
﴿ هذا ما كنزتم لأنفسكم ﴾ أي تقول لهم ملائكة العذاب الذين يتولون كيهم : هذا العذاب الأليم الواقع بكم هو جزاء ما كنتم تكنزون في الدنيا، أو هذا الميسم الذي تكوون به هو المال الذي كنزتموه لأنفسكم لتنفرد بالتمتع به.
﴿ فذوقوا ما كنتم تكنزون ﴾ أي ذوقوا وباله ونكاله، أو وبال كنزكم له، وإمساككم إياه عن النفقة في سبيل الله. وحاصل المعنى أن ما كنتم تظنون من منفعة كنزه لأنفسكم خاصة بها، لا يشارككم فيها أحد، قد كان لكم خُلفاً، وعليكم ضدا، فإنه صار في الدنيا لغيركم، وكان عذابه في الآخرة هو الخاص بكم، كدأب جميع أهل الباطل، فيما زين لهم من الرذائل، يرى البخلاء أن البخل حزم، كما يرى الجبناء أن الجبن حزم، وتلك خديعة الطبع اللئيم، واجتهاد الرأي الأفين، فالأولون من خوف الفقر في فقر، والآخرون يعرضون أنفسهم للأذى أو الموت بهربهم من الموت، فإن جبنهم هو الذي يغري المعتدين بإيذائهم، ويمكن المقاتلين من الفتك بهم.
وإن أكبر أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر وتمكين أعدائهم من سلب ملكهم، ومحاولة تحويلهم عن دينهم هو بخل أغنيائهم، وجبن ملوكهم وأمرائهم، وقوادهم وزعمائهم، الذي جعلهم أعوانا لسالبي ملكهم على أنفسهم. وقد تقدم بيان هذا المعنى في تفسير قوله تعالى :﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ]، فلو أسس الأغنياء مدارس للجمع بين تعليم العلوم الدينية والدنيوية، لاستغنوا بها عن مدارس دعاة النصرانية، ولأمكن للمصلحين منهم إذا تولوا إدارتها أن يخرجوا لهم فيها رجالاً يحفظون للأمة دينها وملكها، ويعيدون إليها مجدها، ويجذبون أقوام أولئك المعتدين عليها إلى الإسلام فيدخلون فيه أفواجا، ويعود الأمر كما بدأ.
٢ ـ أخرجه البخاري في الزكاة باب ٣، والنسائي في الزكاة باب ٢..
٣ ـ أخرجه النسائي في الزكاة باب ٩..
هاتان الآيتان عود إلى الكلام في أحوال المشركين وما يشرع من معاملتهم بعد الفتح، وسقوط عصبية الشرك، وكان الكلام في قتال أهل الكتاب وما يجب أن ينتهي به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم. وقد ختم الكلام في أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية، التي هي وسيلة العظمة الدنيوية، والشهوات الحيوانية، وإنذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة، وجعل هذا الإنذار موجها إلينا وإليهم جميعاً. ومن ثم كان التناسب بين الكلام فيما يشترك فيه المسلمون مع أهل الكتاب من الوعيد على أكل أموال الناس بالباطل وكنز النقدين، إلى ما يجب أن يخالفوا فيه المشركين من إبطال النسيء ومن أحكام القتال تناسبا ظاهرا قويا، وهنالك مناسبة دقيقة بين حساب الشهور القمرية عند العرب وحساب الشهور الشمسية عند أهل الكتاب، وإن لم يصرح فيه بمخالفتهم في حسابهم.
قال تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ﴾ المراد الشهور التي تتألف منها السنة القمرية، وواحدها شهر، وهو اسم للهلال أو القمر من مادة الشهرة، ثم سميت به الأيام من أول ظهور الهلال إلى سراره، ومبلغ عدتها اثنا عشر شهرا فيما كتبه الله، وأثبته من نظام سير القمر وتقدير منازل خلق السموات والأرض على هذا الوضع المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن، والمراد بيوم خلق السموات والأرض الوقت الذي خلقهما فيه باعتبار تمامه ونهايته في جملته، وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله وخلق كل منهما وما فيهما.
فالكتاب يطلق على نظام الخلق والتقدير والسنن الإلهية فيه ؛ لأنه ثابت كالشيء المكتوب المحفوظ الذي لا ينسى، أو لأنه تعالى كتب كل نظام في خلقه في كتاب عنده في عالم الغيب يسمى اللوح المحفوظ، وقد فسر به الكتاب هنا. قال تعالى حكاية عن موسى في جوابه لفرعون على سؤاله عن القرون الخالية :﴿ قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ﴾ [ طه : ٥٢ ]، وقال :﴿ لكل أجل كتاب ﴾ [ الرعد : ٣٨ ]، وقال :﴿ كتب في قلوبهم الإيمان ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ]، وقال :﴿ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء ﴾، وهذا كله بمعنى النظام الإلهي القدري، وتقدم بحث كتابة المقادير في تفسير سورة الأنعام، وقيل : إن المراد بكتاب الله هنا حكمه التشريعي، لا نظامه التقديري، ومنه حرمة الأشهر الحرم، وكون الحج أشهرا معلومات.
ومن أحكام كتاب الله التشريعية أن كل ما يتعلق بحساب الشهور والسنين كالصيام والحج وعدة المطلقات والرضاع فالمعتبر فيه الأشهر القمرية. وحكمته العامة أنها يمكن العلم بها بالرؤية البصرية للأميين والمتعلمين في البدو والحضر على سواء، فلا تتوقف على وجود الرياسات الدينية ولا الدنيوية ولا تحكم الرؤساء. ومن حكمة شهر الصيام وأشهر الحج أنها تدور في جميع الفصول فتؤدى العبادة بهذا الدوران في كل أجزاء السنة، فمن صام رمضان في ثلاثين سنة يكون قد صام لله في كل أجزاء السنة، ومنها ما يشق الصيام فيه وما يسهل. وكذلك تكرار الحج، وفيه حكمة أخرى في شأن الذين يسافرون له في جميع أقطار الأرض التي تختلف فصولها وأيام الحر والبرد فيها. وإطلاق «الكتاب » بهذا المعنى معروف، ومنه قوله تعالى بعد سرد محرمات النكاح ﴿ كتاب الله عليكم ﴾ [ النساء : ٢٤ ]، ولكن ذكر خلق السموات والأرض أشد مناسبة للأول، ويناسب الثاني قوله :
﴿ منها أربعة حرم ﴾ واحدها حرام «كسحب جمع سحاب »، وهو من الحرمة، فإن الله تعالى كتب وفرض احترام هذه الأشهر وتعظيمها، وحرم القتال فيها على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ونقلت العرب ذلك عنهما بالتواتر القولي والعملي، ولكنها أخلت بالعمل اتباعاً لأهوائها كما يأتي بيانه في الكلام على النسيء في الآية التالية وهو الغاية لما في هذه الآية. وهذه الأشهر ثلاثة منها سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب. وحكمة تحريم القتال فيها وتعظيمها ستأتي.
﴿ ذلك الدين القيم ﴾ الإشارة في قوله :﴿ ذلك ﴾ لعدة الشهور وتقسيمها إلى حرم وغيرها وعدد الحرم منها، وقيل لما تضمنه من تحريمها. والدين القيم هو الصحيح المستقيم الذي لا عوج فيه. والمعنى أن ذلك هو الحق الذي يدان الله تعالى به دون النسيء، وفسر البغوي الدين القيم هنا بالحساب المستقيم. وقال الجمهور : معناه ذلك الشرع الصحيح المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل في الحج وغيره مما يتعلق بالأشهر من الأحكام.
﴿ فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾ الضمير في «فيهن » للأربعة الحرم عند الجمهور، وقيل لجميع الشهور، وظلم النفس يشمل كل محظور، ويدخل فيه هتك حرمة الشهر الحرام دخولاً أولياً، فإن الله تعالى اختص بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تستلزم ترك المحرمات فيها والمكروهات بالأولى، لأجل تنشيط الأنفس على زيادة العناية بما يزكيها ويرفع شأنها، فإن من طبع البشر الملل والسآمة من الاستمرار على حالة واحدة تشق عليها، فجعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة في أدائها كالصلوات الخمس، فإن أدنى ما تصح به صلاة الفريضة لا يتجاوز خمس دقائق للرباعية منها وهي أطولها وما زاد فهو كمال، وخص يوم الجمعة في الأسبوع بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين في التذكير، والموعظة الحسنة التي تقوي في المؤمنين حب الحق والخير، وكره الباطل والشر، والتعاون على البر والتقوى، وإقامة مصالح الملة والدولة، وخص شهر رمضان بوجوب صيامه في كل سنة، وأياما معدودات من شهر ذي الحجة بأداء مناسك الحج، وجعل ما قبلها من أول ذي العقدة وما بعدها إلى آخر المحرم من الأيام التي يحرم فيها القتال ؛ لأن السفر إلى مشاعر الحج في الحجاز والعودة منها تكون في هذه الأشهر الثلاثة، كما حرم مكة وما حولها في جميع السنة لتأمين الحج والعمرة التي تؤدى في كل وقت، واحترام البيت الذي أضافه إلى نفسه، وشرع فيه من العبادة ما لا يصح في غيره. فكان الرجل يلقى قاتل أبيه في أرض الحرم وفي غيرها من الأشهر الحرم فلا يعرض له بسوء على شدتهم في الثأر، وضراوتهم بسفك الدم، وحرم شهر رجب في وسط السنة لتقليل شرور القتال وتخفيف أوزاره، ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه. ولولا اختصاصه تعالى لما شاء من زمان ومكان بالعبادة فيه لما كان للأزمنة والأمكنة في نفسها مزية في ذلك، وأهواء الناس لا تتفق على زمان ولا مكان فيوكل ذلك إليهم، فلم يبق إلا أن يجعل الله الاختصاص أمرا تعبدياً خالصاً يفعل لمجرد الامتثال والقربة كما ورد في تقبيل الحجر الأسود من قول عمر رضي الله عنه : إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك١.
﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ أي قاتلوهم جميعا كما يقاتلونكم جميعاً، بأن تكونوا في قتالهم إلباَ واحداً لا يختلف فيه ولا يختلف عنه أحد، كما هو شأنهم في قتالكم، وذلك أنهم يقاتلونكم لدينكم لا انتقاما ولا عصبية ولا للكسب كدأبهم في قتال قويهم لضعيفهم، فأنتم أولى بأن تقاتلوهم لشركهم ﴿ وهم بدؤهم أول مرة ﴾ [ التوبة : ١٣ ] وهذا لا يقتضي فرضية القتال على كل فرد من الأفراد إلا في حال إعلان الإمام للنفير العام وسيأتي في هذه السورة ﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾ [ التوبة : ١٢٢ ]، وتقدم الكلام في حكم القتال في الأشهر الحرم في تفسير سورة البقرة.
﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ للظلم والعدوان والفساد في الأرض بالشرك والمعاصي، ولأسباب الخذلان والفشل في القتال كالتنازع وتفرق الكلمة ومخالفة سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، وتقدم تفصيل القول في التقوى العامة والخاصة بالقتال في مواضعها من الآيات المناسبة لها، والمعية هنا النصر والمعونة والتوفيق لما فيه المصلحة، والتقوى من أسباب ذلك.
ومن مباحث اللفظ في الآية كلمة«كافة »، لم ترد في التنزيل إلا منكرة منونة في أربعة مواضع : هذه الآية، وقوله تعالى :﴿ ادخلوا في السلم كافة ﴾ [ البقرة : ٢٠٨ ]، وفي أواخر هذه السورة ﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾ [ التوبة : ١٢٢ ]، وفي سورة سبأ ﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ﴾ [ سبأ : ٢٨ ]، وقد ظن بعض العلماء أنها لا تستعمل في العربية إلا هكذا وحكم بخطأ من استعملها معرفة باللام أو الإضافة، ورد عليهم آخرون بما نفصله في الحاشية ليقرأه وحده من أراده٢.
قال الحافظ في شرحه من الفتح : وكانوا في الجاهلية على أنحاء منهم من يسمي المحرم صفرا فيحل فيه القتال، ويحرم القتال في صفر ويسميه المحرم. ومنهم من كان يجعل سنة هكذا وسنة هكذا. ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا، ومنهم من يؤخر صفر إلى ربيع الأول، وربيعا إلى ما يليه، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود فيعيد العدد على الأصل اهـ. وذكر عن الطبري أنهم كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، وفي رواية ١٢ شهرا و٢٥ يوما، فالمراد من استدارة الزمان إذا أن الحج قد وقع في تلك السنة في ذي الحجة الذي هو شهره الأصلي بما كان من تنقل الأشهر بالنسيء. ونقل عن الخطابي أنهم كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقديم والتأخير لأسباب تعرض لهم : منها استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام ثم يحرمون بدله شهرا غيره، فتتحول في ذلك شهور السنة وتتبدل، فإذا أتي على ذلك عدة من السنين استدار الزمان وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك اهـ.
وقال الحافظ في شرحه لألفاظ الحديث : إن المراد بالزمان السنة، وقوله«كهيئته» أي استدارة مثل حالته، ولفظ الزمان يطلق على قليل الوقت وكثيره. والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل، حيث يستوي الليل والنهار اهـ.
وقد كان الأمر كذلك، ولعل حكمته الإشارة إلى تجديد الله تعالى لدينه وإكمال هدايته كما تجدد عمر الزمان بفصل الربيع الذي تحيا فيه الأرض بالنبات، فاستدارة الزمان حسابية وطبيعية ودينية، وإنني منذ سمعت هذا الحديث أشعر بأن له معنى غير الحساب الزمني.
وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية قول بعض المفسرين والمتكلمين في استدارة الزمان بمعنى ما سبق ثم قال : وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة. وأغرب منه ما رواه الطبراني عن بعض السلف في جملة حديث أنه اتفق في حجة الوداع حج المسلمين واليهود والنصارى في يوم واحد وهو يوم النحر عام حجة الوداع والله أعلم اهـ. قلت : فإن صح هذا كان إشارة -أو بشارة- بتحقق ما شرع له الإسلام بإرسال خاتم النبيين إلى الناس كافة، وجمعه الكلمة، واهتداء الأمم به.
ولهذه الرواية ما يؤيدها من كتب التاريخ لخص بعضها محمد لبيب بك البتانوني في رحلته الحجازية قال : إن الكعبة كانت قبل الإسلام بنحو من ٢٧ قرنا ذات منزلة سامية عند العرب وثنييهم ويهودهم ونصاراهم، وقد تجاوزت مكانتها جزيرة العرب إلى بلاد الفرس الذي كانوا يعتقدون أن روح ( هرمز ) نقلت في الكعبة ثم إلى بلاد الهنود، وكانوا يعتقدون أن روح ( شبوه ) أحد آلهتهم قد تقمصت في الحجر الأسود، وقدماء المصريين كانوا يسمون الحجاز بالبلاد المقدسة. واليهود كانوا يحترمونها ويتعبدون فيها على دين إبراهيم، والنصارى من العرب لم يكن احترامهم لها بأقل من احترام اليهود إياها، وكان لهم فيها صور وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما الأزلام، وصورة العذراء والمسيح، إلى أن قال :
هكذا كان شأن الكعبة في الجاهلية قد أجمع جميع الناس على اختلاف دياناتهم على احترامها، واتخذها كل منهم معبداً يعبد الله فيه على حسب دينه أو مذهبه الخ.
٢ ـ قال الفيروزأبادي في القاموس: وجاء الناس كافة أي كلهم، ولا يقال جاءت الكافة؛ لأنه لا يدخلها أل، ووهم الجوهري، ولا تضاف اهـ وقد ذكر شارحه المرتضى من وافقه في هذا الحكم كالحريري والنووي والزجاج ثم قال نقلا عن شيخه: على أن قول الجمهور كالمصنف: لا يقال جاءت الكافة رده الشهاب في شرح الدرة وصحح أنه يقال، وأطال البحث فيه في شرح الشفاء ونقله عن عمر وعلي رضي الله عنهما وأقرهما الصحابة وناهيك بهم فصاحة. وهو مسبوق بذلك، فقد قال شارح اللباب أنه استعمل مجرورا واستدل بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: على كافة بيت مال المسلمين. وهو من البلغاء، ونقله الشمني في حواشي المغني، وقال الشيخ إبراهيم الكوراني في شرح عقيدة أستاذه: من قال من النحاة إن «كافة» لا تخرج عن النصب فحكمه ناشئ عن استقراء ناقص. قال شيخنا: وأقول إن ثبت شيء مما ذكروه ثبوتا لا مطعن فيه فالظاهر أنه قليل جدا، والأكثر استعماله على ما قاله ابن هشام الحريري والمصنف اهـ ما أورده شارح القاموس. وأقول: إن الاستعمال القليل يكفي في الدلالة على الجواز ولاسيما في كلمة كل ما نقل فيها قليل، وقال السيد الآلوسي في تفسير الآية: (كافة) أي جميعا، واشتهر أنه لا بد من تنكيره ونصبه على الحال، وكون ذي الحال من العقلاء، وخطؤوا الزمخشري في قوله في خطبه المفصل«محيطا بكافة الأبواب»، ومخطؤه هو المخطئ لأنا إذا عملنا وضع لفظ لمعنى عام بنقل من السلف، وتتبع لموارد استعماله في كلام من يعتد به، ورأيناهم استعملوه على حالة مخصوصة من الإعراب والتعريف والتنكير ونحو ذلك، جاز لنا على ما هو الظاهر أن نخرجه عن تلك الحالة لأنا لو اقتصرنا في الألفاظ على ما استعملته العرب العاربة والمستعربة نكون قد حجرنا الواسع وعسر التكلم بالعربية على من بعدهم، ولما لم يخرج بذلك عما وضع له فهو حقيقة، فكافة وإن استعملته العرب منكرا منصوبا في الناس خاصة يجوز أن يستعمل معرفا ومنكرا بوجوه الإعراب في الناس وغيرهم، وهو في كل ذلك حقيقة، حيث لم يخرج عن معناه الذي وضعوه له وهو معنى الجميع. ومقتضى الوضع أنه لا يلزمه ما ذكر ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر، على أنه ورد في كلام البلغاء على غير ما ادعوه، ففي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لآل بني كاكلة: قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال عينا ذهبا إبريزا. و هذا كما في شرح المقاصد مما صح والخط كان موجودا في آل بني كاكلة إلى قريب هذا الزمان بديار العراق، ولما آلت الخلافة إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه عرض عليه فنفذ ما فيه لهم وكتب عليه بخطه: ﴿لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون﴾ أنا أول من تبع أمر من أعز الإسلام، ونصر الدين والأحكام، عمر بن الخطاب، ورسمت بمثل ما رسم لآل بني كاكلة في كل عام مائتي دينار ذهبا إبريزا واتبعت أثره، وجعلت لهم مثل ما رسم عمر إذ وجب علي وعلى جميع المسلمين اتباع ذلك. كتبه علي بن أبي طالب اهـ فانظر كيف استعمله عمر بن الخطاب معرفة غير منصوبة لغير العقلاء وهو من هو في الفصاحة؟ وقد سمعه مثل علي كرم الله تعالى وجهه ولم ينكره وهو واحد الأحدين، فأي إنكار واستهجان يقبل بعد، فقوله في المغني: كافة مختص بمن يعقل ووهم الزمخشري في تفسير قوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس﴾ إذ قدر كافة نعت المصدر محذوف أي رسالة كافة لأنه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل إخراجه عما التزم فيه من الحال كوهمه في خطبة المفصل مما لا يلتفت إليه. وإذا جاز تعريفه بالإضافة جاز بالألف واللام أيضا، ولا عبرة بمن خطا فيه كصاحب القاموس وابن الخشاب. وهو عند الأزهري مصدر على فاعلة كالعافية والعاقبة ولا يثنى ولا يجمع، وقيل: هو اسم فاعل والتاء فيه للمبالغة كتاء راوية وعلامة وإليه ذهب الراغب، ونقل أن المعنى هنا قاتلوهم كافين لهم كما يقاتلونكم كافين لكم. وقيل: معناه جماعة. وقيل: للجماعة الكافة كما يقال لهم الوازعة لقوتهم باجتماعهم وتاؤه كتاء جماعة. والحاصل أنهم رواية ودراية لم يصيبوا فيما التزموه من تنكيره ونصبه واختصاصه بالعقلاء، وأنهم اختلفوا في أصله هل هو مصدر أو اسم فاعل من الكف، وأن تاءه هل هي للمبالغة أو للتأنيث، ثم إنهم تصرفوا فيه واستعملوه للتعميم بمعنى جميعا، وعلى ذلك حمل الأكثرون ما في الآية قالوا: وهو مصدر كف عن الشيء وإطلاقه على الجميع باعتبار أنه مكفوف عن الزيادة، أو باعتبار أنه يكف عن التعرض له أو التخلف عنه وهو حال، أما من الفاعل أو من المفعول فمعنى (قاتلوا المشركين كافة) لا يتخلف أحد منكم عن قتالهم، أو لا تتركوا قتال واحد منهم، وكذا في جانب المشبه به، واستدل بالآية على الاحتمال الأول، على أن القتال فرض عين. قيل وهو كذلك في صدر الإسلام ثم نسخ وأنكره ابن عطية اهـ (المؤلف)..
هاتان الآيتان عود إلى الكلام في أحوال المشركين وما يشرع من معاملتهم بعد الفتح، وسقوط عصبية الشرك، وكان الكلام في قتال أهل الكتاب وما يجب أن ينتهي به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم. وقد ختم الكلام في أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية، التي هي وسيلة العظمة الدنيوية، والشهوات الحيوانية، وإنذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة، وجعل هذا الإنذار موجها إلينا وإليهم جميعاً. ومن ثم كان التناسب بين الكلام فيما يشترك فيه المسلمون مع أهل الكتاب من الوعيد على أكل أموال الناس بالباطل وكنز النقدين، إلى ما يجب أن يخالفوا فيه المشركين من إبطال النسيء ومن أحكام القتال تناسبا ظاهرا قويا، وهنالك مناسبة دقيقة بين حساب الشهور القمرية عند العرب وحساب الشهور الشمسية عند أهل الكتاب، وإن لم يصرح فيه بمخالفتهم في حسابهم.
﴿ إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله ﴾ النسيء وصف أو مصدر من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة إذا أخره، ويقال أنسأه بمعنى نسأه أيضا. ففعيل بمعنى مفعول كقتيل ومقتول، أي الشهر الذي أنسئ تحريمه، والمصدر كالحريق والسعير بمعنى النسئ والإنساء نفسه، وكانت العرب ورثت من ملة إبراهيم وإسماعيل تحريم القتال في الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه كما تقدم، كما ورثوا مناسك الحج، ولما طال عليهم الأمد غيروا وبدلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر الحرم، ولا سيما شهر المحرم منها، فإنه كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متوالية، فأول ما بدلوا في ذلك إحلال الشهر المحرم بالتأويل وهو أن ينسؤوا تحريمه إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة كما كانت، وفي ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم معا. وكان لهم في ذلك نظام متبع بأن يقوم رجل من كنانة يسمى القلمس في أيام منى حيث يجتمع الحجيج العام فيقول : أنا الذي لا أحاب، ولا أعاب، ولا يرد قولي. وفي رواية أنه يقول : أنا الذي لا يرد لي قضاء. فيقولون : صدقت، فأخر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم، وبذلك يجعل الشهر الحرام حلالا، ثم صاروا ينسئون غير المحرم، ويسمون النسيء باسم الأصل فتتغير أسماء الشهور كلها. وأما قتالهم نفسه فقد كان كله حراما وبغيا وعدوانا أو ثأرا.
وفي كتاب الأنساب للبلاذري أن ممن كان ينسأ الشهور لهم أبو ثمامة القلمس بن أمية بن عوف الخ نسأ الشهور أربعين سنة، وهو الذي أدرك الإسلام، وذكر من نسأ قبله من قومه، ثم قال : وكانت خثعم وطيئ لا يحرمون الأشهر الحرم، فيغيرون فيها ويقاتلون، فكان من نسأ الشهور من الناسئين يقوم فيقول : إني لا أحاب ولا أعاب ولا يرد ما قضيت به، وإني قد أحللت دماء المحللين من طيئ وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا عرضوا لكم. قال : وأنشدني عبد الله بن صالح لبعض القلامس :
لقد علمت عليا كنانة أننا إذا الغصن أمسى مورق العود أخضرا١
أعزهم سربا وأمنعهم حمى وأكرمهم في أول الدهر عنصرا
وأنا أريناهم مناسك دينهم وحزنا لهم حظا من الخير أوفرا
وإن بنا يستقبل الأمر مقبلا وإن نحن أدبرنا عن الأمر أدبرا
وقال عمير بن قيس بن جندل الطعان :
لقد علمت معد أن قومي كرام الناس أن لهم كراما٢
ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما
فأي الناس لم ندرك بوتر ؟ وأي الناس لم نعلك لجاما ؟
فعلم من هذا أن النسيء تشريع ديني ملتزم غيروا به ملة إبراهيم بسوء التأويل واتباع الهوى، فلهذا سماه الله زيادة في الكفر، أي أنه كفر بشرع دين لم يأذن به الله زائد على أصل كفرهم بالشرك بالله تعالى، فإن شرع الحلال والحرام والعبادة حق له وحده، فمنازعته فيه شرك في ربوبيته كما تقدم في مواضع أقربها تفسير قوله :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ﴾ [ التوبة : ٣١ ]، وأنهم يضلون به سائر الكفار الذين يتبعونهم فيه فيتوهمون أنهم لم يخرجوا به عن ملة إبراهيم ؛ إذ واطئوا فيه عدة ما حرمه الله من الشهور في ملته، وإن أحلوا ما حرمه الله، وهو المقصود بالذات من شرعه في هذه المسألة لا مجرد العدد، فهل يعتبر بهذا من يتجرؤون على التحليل والتحريم بآرائهم وتقاليدهم من غير نص قطعي عن الله ورسوله ؟
﴿ زين لهم سوء أعمالهم ﴾ قال ابن عباس : يريد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة، وهي أنهم يحرمون العدد الذي حرمه الله تعالى لم ينقصوا منه شيئا. وقد أسند التزيين في بعض الآيات إلى الله تعالى لظهور خيريته وحكمته، وفي بعضها إلى الشيطان لوضوح مفسدته، وفي بعضها إلى المفعول لإبهامه، وبينا مناسبة كل منها للموضوع الذي ورد فيه.
﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ إلى حكمه في أحكام شرعه، وبنائها على مصالح الناس، وإصلاح أفرادهم ومجتمعهم في أمور دينهم ودنياهم، فإن هذه الهداية الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة من توابع الإيمان وآثاره، كما قال :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾ [ يونس : ٩ ]، وأما الكافرون فيتبعون فيها أهواءهم وشهواتهم وما يزينه لهم الشيطان، وهي سبب الشقاء ودخول النار.
قال الحافظ في شرحه من الفتح : وكانوا في الجاهلية على أنحاء منهم من يسمي المحرم صفرا فيحل فيه القتال، ويحرم القتال في صفر ويسميه المحرم. ومنهم من كان يجعل سنة هكذا وسنة هكذا. ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا، ومنهم من يؤخر صفر إلى ربيع الأول، وربيعا إلى ما يليه، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود فيعيد العدد على الأصل اهـ. وذكر عن الطبري أنهم كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، وفي رواية ١٢ شهرا و٢٥ يوما، فالمراد من استدارة الزمان إذا أن الحج قد وقع في تلك السنة في ذي الحجة الذي هو شهره الأصلي بما كان من تنقل الأشهر بالنسيء. ونقل عن الخطابي أنهم كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقديم والتأخير لأسباب تعرض لهم : منها استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام ثم يحرمون بدله شهرا غيره، فتتحول في ذلك شهور السنة وتتبدل، فإذا أتي على ذلك عدة من السنين استدار الزمان وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك اهـ.
وقال الحافظ في شرحه لألفاظ الحديث : إن المراد بالزمان السنة، وقوله«كهيئته» أي استدارة مثل حالته، ولفظ الزمان يطلق على قليل الوقت وكثيره. والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل، حيث يستوي الليل والنهار اهـ.
وقد كان الأمر كذلك، ولعل حكمته الإشارة إلى تجديد الله تعالى لدينه وإكمال هدايته كما تجدد عمر الزمان بفصل الربيع الذي تحيا فيه الأرض بالنبات، فاستدارة الزمان حسابية وطبيعية ودينية، وإنني منذ سمعت هذا الحديث أشعر بأن له معنى غير الحساب الزمني.
وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية قول بعض المفسرين والمتكلمين في استدارة الزمان بمعنى ما سبق ثم قال : وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة. وأغرب منه ما رواه الطبراني عن بعض السلف في جملة حديث أنه اتفق في حجة الوداع حج المسلمين واليهود والنصارى في يوم واحد وهو يوم النحر عام حجة الوداع والله أعلم اهـ. قلت : فإن صح هذا كان إشارة -أو بشارة- بتحقق ما شرع له الإسلام بإرسال خاتم النبيين إلى الناس كافة، وجمعه الكلمة، واهتداء الأمم به.
ولهذه الرواية ما يؤيدها من كتب التاريخ لخص بعضها محمد لبيب بك البتانوني في رحلته الحجازية قال : إن الكعبة كانت قبل الإسلام بنحو من ٢٧ قرنا ذات منزلة سامية عند العرب وثنييهم ويهودهم ونصاراهم، وقد تجاوزت مكانتها جزيرة العرب إلى بلاد الفرس الذي كانوا يعتقدون أن روح ( هرمز ) نقلت في الكعبة ثم إلى بلاد الهنود، وكانوا يعتقدون أن روح ( شبوه ) أحد آلهتهم قد تقمصت في الحجر الأسود، وقدماء المصريين كانوا يسمون الحجاز بالبلاد المقدسة. واليهود كانوا يحترمونها ويتعبدون فيها على دين إبراهيم، والنصارى من العرب لم يكن احترامهم لها بأقل من احترام اليهود إياها، وكان لهم فيها صور وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما الأزلام، وصورة العذراء والمسيح، إلى أن قال :
هكذا كان شأن الكعبة في الجاهلية قد أجمع جميع الناس على اختلاف دياناتهم على احترامها، واتخذها كل منهم معبداً يعبد الله فيه على حسب دينه أو مذهبه الخ.
٢ ـ الأبيات من الوافر، والبيت الثاني لعمير الطعان في لسان العرب (نسأ)، وتهذيب اللغة ١٣/ ٨٣، وتاج العروس (نسأ)، ومعجم الشعراء ص ٢٤٣، وبلا نسبة في تاج العروس (قلمس)..
هذا السياق من هنا إلى آخر السورة في غزوة تبوك- وما كانت وسيلة له من هتك أستار النفاق، وتطهير المؤمنين من عوامل الشقاق- إلا الآيتين في آخرها، وما يتخللها من بعض الحكم والأحكام على السنة والمعروفة في أسلوب القرآن. ومناسبته لما قبله أن المراد قتالهم في تبوك هم الروم وأتباعهم المستعبدون من عرب الشام، وكلهم من النصارى الذين نزلت الآيات الأخيرة في حكم قتال اليهود وقتالهم، وبيان حقيقة أحوالهم، وأهمها خروجهم عن هداية دين المسيح عليه السلام في كل من العقائد والفضائل والأعمال، وكان ذكر النسيء في آخره لما ذكرنا. وإننا نقدِّم على تفسير الآيات بيان سبب غزوة تبوك وفاء بما وعدنا به، فنقول :
غزوة تبوك وسببها.
تبوك مكان معروف في منتصف الطريق بين المدينة المنورة ودمشق تقريبا، وقالوا : إن بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، واللفظ ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث على الأشهر.
قال الحافظ في فتح الباري : وكان السبب فيها -أي الغزوة- ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره قالوا : بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعا، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء. فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج وأعلمهم بجهة غزوهم كما سيأتي في الكلام على حديث كعب بن مالك.
وروى الطبراني من حديث عمران بن حصين قال : كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل : إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم يقال له قباذ، وجهز معه أربعين ألفا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد جهز عيراً إلى الشام، فقال يا رسول الله : هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ومائتا أوقية -أي من الفضة- قال : فسمعته يقول :( لا يضر عثمان ما عمل بعدها )، وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حباب نحوه.
وذكر أبو سعيد في ( شرف المصطفى ) والبيهقي في الدلائل من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود قالوا : يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام، فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء. فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ﴾ [ الإسراء : ٧٦ ] الآية انتهى، وإسناده حسن مع كونه مرسلا. اهـ ما ذكره الحافظ.
والصحيح المعتمد في السبب هو الأول، وما ندري من هؤلاء اليهود الذي قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا ؟ وكان هذا بعد الفراغ من يهود المدينة وإجلائهم. والعجيب من الحافظ كيف قال : إن هذا الحديث حسن مع قوله في شهر بن حوشب في التقريب : إنه كثير الإرسال والأوهام، وعلمه ونقله لما لهم فيه من المطاعن في تهذيب التهذيب ؟ وقد صرح السيوطي بضعف الحديث في أسباب النزول، وفي كتب السير أن ما بذله عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة أكثر مما ذكر في حديث عمران.
وقد كانت غزوة تبوك في شهر رجب من سنة تسع باتفاق الرواة، وهو موافق لما رواه ابن عائذ من حديث ابن عباس أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، بجعل الستة الأشهر بعد عودته صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى المدينة، فهو صلى الله عليه وسلم قد دخل المدينة في شهر ذي الحجة من تلك السنة، قاله الحافظ.
والغرض من هذا التمهيد لتفسير الآيات أن سبب هذه الغزوة استعداد الروم لقتال النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وإعداد جيش كثيف للزحف به على المدينة، فهي كسائر غزواته صلى الله عليه وسلم دفاع لا اعتداء، ولما لم يجد من يقاتله عاد ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام، وكان الأمر بها لما سيذكر من الحكم والأحكام.
قال عزَّ وجلَّ :﴿ ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ﴾ الاستفهام في الآية للإنكار والتوبيخ. والخطاب للمؤمنين في جملتهم، تربية لهم بما لعله وقع من مجموعهم لا من جميعهم، ومنهم الضعفاء والمنافقون. والنفر والنفور عبارة عن فرار من الشيء أو إقدام عليه بخفة ونشاط وانزعاج، فهو كما قال الراغب : بمعنى الفزع إليه أو منه، يقال : نفرت الدابة والغزال نفورا، ونفر الحجيج من عرفات نفرا، واستنفر الإمام العسكر إلى القتال أو أعلن النفير العام فنفروا خفافاً وثقالاً، والتثاقل التباطؤ، فهو ضد النفر ؛ لأنه من الثقل المقتضي للبطء، وهو يصدق على من لم يستجب لدعوة النفير، وعلى من حاول أو استجاب متباطئا. وأصل اثقالتم تثقالتم أدغمت المثناة في المثلثة فجيء بهمزة الوصل لأجل النطق بالساكن، والعرب لا تبدأ بالساكن ولا تقف على المتحرك. وقد عدي بإلى لتضمنه معنى التسفل والإخلاد إلى الأرض والميل إلى راحتها ونعيمها.
ولما دعا المؤمنين لغزوة تبوك كان الزمن زمن الحر، وكانوا قريبي عهد بالرجوع من غزوتي الطائف وحنين، وكانت العسرة شديدة، وكان موسم الرطب في المدينة قد تم صلاحه، وآن وقت تلطف الحر والراحة، لأن شهر رجب وافق في تلك السنة برج الميزان، وإن عبر عنه بعضهم بالصيف.
روى ابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية قال : هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف بأمرهم النفير في الصيف حين اخترقت النخل١، وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج، قال : فقالوا : منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمنتشر به أمره في ذلك كله.
وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى غزوة أن يوري بغيرها لما تقتضيه مصلحة الحرب من الكتمان، إلا أنه في هذه الغزوة قد صرح بها ليكون الناس على بصيرة لبعد الشقة وقلة الزاد والظهر. فلهذه الأسباب كلها شق على المسلمين الخروج في ذلك الوقت إلى بلاد الشام، وكانت حكمة الله تعالى في إخراجهم وهو يعلم أنهم لا يلقون فيها قتالاً ما سنبينه في تفسير آياتها من تمحيص المؤمنين وخزي المنافقين، وفضيحتهم فيما كانوا يسرون من كفرهم وتربصهم الدوائر بالمؤمنين.
والمعنى : يا أيها الذين دخلوا في الإيمان ماذا عرض لكم مما ينافي صحة الإيمان أو كماله المقتضي للإذعان والطاعة حين قال لكم الرسول : انفروا في سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم والقضاء على دينكم الحق الذي هو السبيل الموصل إلى معرفة الله وعبادته، وإقامة شرعه وسننه، فتثاقلتم عن النهوض بالنشاط وعلو الهمة، مخلدين إلى أرض الراحة واللذة ؟ وآية الإيمان الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله :﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ﴾.
﴿ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ﴾ أي أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذتها الناقصة الفانية، بدلا من سعادة الآخرة الكاملة الباقية ؟ إن كان الأمر كذلك فقد استبدلتم الذي هو أدنأ وأدنى بالذي هو خير وأبقى.
﴿ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ﴾ أي فما هذا الذي يتمتع به في الحياة الدنيا منغصا بالشوائب والمتاعب في جنب ما في الآخرة من النعيم المقيم، والرضوان الإلهي العظيم، إلا شيء قليل لا يرضاه عاقل بدلاً منه ؟ وإنما يؤثره عليه من لا يؤمن به، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم نعيم الدنيا بالإضافة إلى نعيم الآخرة في قلته في نفسه وزمنه بمن وضع أصبعه في اليم ثم أخرجها منه قال :«فانظر بم ترجع »٢ ؟ رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي، والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
الكلمة الأولى في الهجرة المحمدية
كان من حكمة الله تعالى في رسالة محمد خاتم النبيين المرسل رحمة للعالمين، ومصلحا للناس أجمعين، أن أعد لها في المرتبة الأولى الأمة العربية الأمية باستقلال الفكر، وقوة الإرادة، وذكاء القريحة، وارتقاء اللغة، والسلامة مما منيت به أمم الحضارة من الاستذلال والاستعباد للملوك والأمراء ورؤساء الدين، ثم كان من حكمته تعالى أن عادى هذه الدعوة والقائم بها كبراء قومه قريش كبراً وبغياً وعلواً واستكباراً عن الاعتراف بضلالهم وضلال آبائهم وأجدادهم في شركهم، لئلا يكون في ظهورها بالحق شبهة يظن بها أنها إنما قامت بعصبية قريش، وكان له صلى الله عليه سلم بضعة أعمام لم يؤمن به منهم في السابقين إلا حمزة رضي الله عنه أخوه في الرضاع وقريبه من جهة الأم، فإن أمه ابنة عم آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد آمن في السنة الثانية من بعثته. وكان أبو لهب عمه الكبير الغني أول من صارحه العداوة فقال لقريش : خذوا على يديه، قبل أن تجتمع العرب عليه. وحسبك ما أنزل الله فيه وفي امرأته حمالة الحطب، وكان عمه أبو طالب هو الذي كفله بعد وفاة جده شيبة الحمد عبد المطلب، وإنما كان يحميه ويدافع عنه لعصبية القرابة والتربية. وكان لزوجه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها مقام كبير في قريش كان له تأثير سلبي في تقليل إيذائه صلى الله عليه وسلم، وقد توفيت هي وأبو طالب في أسبوع واحد فاشتد إيذاء قريش له بعدهما، حتى أجمعوا على قتله قتلة تشترك فيها جميع قبائل قريش بأن يأخذوا من كل قبيلة منها شاباً نهداً قوياً يعطونه سيفا فيحمل عليه هؤلاء الشبان حملة رجل واحد فيقطعونه بسيوفهم ليضيع دمه بين القبائل، ويتعذر على بني هاشم الأخذ بثأره على حسب عادة العرب فيرضون بالدية. عند هذا أمره الله تعالى بالهجرة إلى يثرب التي صار اسمها المدينة المنورة بهجرته إليها، وكان قد آمن به وبايعه من أهلها الأنصار في الموسم من جعلهم الله تعالى مقدمة لإيمان غيرهم من الأنصار الكرام.
لم يكاشف النبي صلى الله عليه وسلم بهجرته أحداً غير صاحبه الأول أبي بكر الصديق الذي كان أول من آمن به ممن دعاهم إلى الإسلام بعد أهل بيته :[ وهم زوجه خديجة، وعتيقه زيد بن حارثة، وربيبه علي وكان دون البلوغ، وهؤلاء قد علموا بنبوته صلى الله عليه وسلم وصدقوه قبل أن يأمره الله بالدعوة ]، فكان أبو بكر صاحبه الملازم، ومستشاره الدائم، ووزيره الأكبر وموضع سره، وإنما كان رضي الله تعالى عنه أول من أسلم لأنه كان أشد هذه الأمة استعداداً لنور الإسلام بسلامة فطرته وطهارة نفسه، وقوة عقله، وعرفانه بفضائل النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، وقد كان صديقه من سن الشباب، وروى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لم يعرض الإسلام على واحد إلا وكان له فيه كبوة إلا أبا بكر رضي الله عنه، وإننا نذكر أصح ما أورده نقاد المحدثين من خبر الهجرة، وأوضحه وأبسطه ما رواه ابن أبي شيبة والإمام أحمد والبخاري وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها، فنبدأ به ونقفي عليه بأحاديث أخرى من الجامع الصحيح غير ناظرين إلى روايتها في غيره، ثم نشير إلى غيرها.
قال البخاري٥ في كتاب الهجرة من صحيحه :[ حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليها وسلم قالت : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد٦ لقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة٧- فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق٨، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق ؟
فلم تكذب قريش بجوار ابن الذعنة، وقالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا٩، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه١٠ نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا : إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال : قد عملت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر : فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عزَّ وجلَّ.
والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين :( إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين )، وهما الحرتان١١، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( على رسلك١٢، فإني أرجو أن يؤذن لي ) فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت ؟ قال :( نعم ). فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط١٣ أربعة أشهر.
[ قال ابن شهاب١٤ : قال عروة : قالت عائشة : فبينما نحن يوما جلوسا في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة١٥ قال قائل لأبي : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر :( اخرج من عندك ). فقال أبو بكر : إنما هم أهلك١٦ بأبي أنت يا رسول الله، قال :( فإني قد أذن لي في الخروج ). فقال أبو بكر : الصحابة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( نعم ) : قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بالثمن )١٧. قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق، قالت : ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر -وهو غلام شاب ثقف١٨ لقن١٩- فيدلج٢٠ من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان٢١ به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل٢٢ وهو لبن منحتهما٢٣ ورضيفهما٢٤ حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس٢٥، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هادياً خرّيتاً ـ والخريت الماهر بالهداية ـ قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل.
[ قال ابن شهاب : وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي -وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعشم- أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول : جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال : يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمداً وأصحابه، قال سراقة : فعرفت أنهم هم، فقلت له : إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي -وهي من وراء أكمة- فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي٢٦ حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام٢٧ فاستقسمت بها أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات- ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان٢٨ ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني٢٩، ولم يسألاني إلا أن قال ( أخف عنا )، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حرّ الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يه
٢ ـ أخرجه مسلم في الجنة حديث ٥٥، والترمذي في الزهد باب ١٥، وابن ماجه في الزهد باب ٣، وأحمد في المسند ٤/ ٢٢٩، ٢٣٠..
هذا السياق من هنا إلى آخر السورة في غزوة تبوك- وما كانت وسيلة له من هتك أستار النفاق، وتطهير المؤمنين من عوامل الشقاق- إلا الآيتين في آخرها، وما يتخللها من بعض الحكم والأحكام على السنة والمعروفة في أسلوب القرآن. ومناسبته لما قبله أن المراد قتالهم في تبوك هم الروم وأتباعهم المستعبدون من عرب الشام، وكلهم من النصارى الذين نزلت الآيات الأخيرة في حكم قتال اليهود وقتالهم، وبيان حقيقة أحوالهم، وأهمها خروجهم عن هداية دين المسيح عليه السلام في كل من العقائد والفضائل والأعمال، وكان ذكر النسيء في آخره لما ذكرنا. وإننا نقدِّم على تفسير الآيات بيان سبب غزوة تبوك وفاء بما وعدنا به، فنقول :
غزوة تبوك وسببها.
تبوك مكان معروف في منتصف الطريق بين المدينة المنورة ودمشق تقريبا، وقالوا : إن بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، واللفظ ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث على الأشهر.
قال الحافظ في فتح الباري : وكان السبب فيها -أي الغزوة- ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره قالوا : بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعا، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء. فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج وأعلمهم بجهة غزوهم كما سيأتي في الكلام على حديث كعب بن مالك.
وروى الطبراني من حديث عمران بن حصين قال : كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل : إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم يقال له قباذ، وجهز معه أربعين ألفا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد جهز عيراً إلى الشام، فقال يا رسول الله : هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ومائتا أوقية -أي من الفضة- قال : فسمعته يقول :( لا يضر عثمان ما عمل بعدها )، وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حباب نحوه.
وذكر أبو سعيد في ( شرف المصطفى ) والبيهقي في الدلائل من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود قالوا : يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام، فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء. فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ﴾ [ الإسراء : ٧٦ ] الآية انتهى، وإسناده حسن مع كونه مرسلا. اهـ ما ذكره الحافظ.
والصحيح المعتمد في السبب هو الأول، وما ندري من هؤلاء اليهود الذي قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا ؟ وكان هذا بعد الفراغ من يهود المدينة وإجلائهم. والعجيب من الحافظ كيف قال : إن هذا الحديث حسن مع قوله في شهر بن حوشب في التقريب : إنه كثير الإرسال والأوهام، وعلمه ونقله لما لهم فيه من المطاعن في تهذيب التهذيب ؟ وقد صرح السيوطي بضعف الحديث في أسباب النزول، وفي كتب السير أن ما بذله عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة أكثر مما ذكر في حديث عمران.
وقد كانت غزوة تبوك في شهر رجب من سنة تسع باتفاق الرواة، وهو موافق لما رواه ابن عائذ من حديث ابن عباس أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، بجعل الستة الأشهر بعد عودته صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى المدينة، فهو صلى الله عليه وسلم قد دخل المدينة في شهر ذي الحجة من تلك السنة، قاله الحافظ.
والغرض من هذا التمهيد لتفسير الآيات أن سبب هذه الغزوة استعداد الروم لقتال النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وإعداد جيش كثيف للزحف به على المدينة، فهي كسائر غزواته صلى الله عليه وسلم دفاع لا اعتداء، ولما لم يجد من يقاتله عاد ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام، وكان الأمر بها لما سيذكر من الحكم والأحكام.
﴿ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ﴾ «إلا » مركبة من«أن » الشرطية و«لا » النافية للحال والاستقبال كإن لم للماضي. أي إلا تنفروا كما أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم يعذبكم الله عذابا أليما في الدنيا -يهلككم به بعصيانكم بعد قيام الحجة عليكم- ويستبدل بكم قوما غيركم. قيل كأهل اليمن وأبناء فارس، وليس في محله، فإن الكلام للتهديد، والله يعلم أنه لا يقع الشرط ولا جزاؤه، وإنما المراد قوم يطيعونه ويطيعون رسوله لأنه قد وعد بنصره، وإظهار دينه على الدين كله، فإن لم يكن ذلك بأيديكم، فلا بد أن يكون بأيدي غيركم ﴿ ولن يخلف الله وعده ﴾ [ الحج : ٤٧ ]، قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ﴾ [ المائدة : ٥٤ ]. وقد مضت سنته تعالى بأنه لا بقاء للأمم التي تتثاقل عن الدفاع عن نفسها وحفظ حقيقتها وسيادتها، ولا تتم فائدة القوة الدفاعية والهجومية إلا بطاعة الإمام والقائد العام، فكيف إذا كان الإمام والقائد هو النبي الموعود من ربه العزيز القدير بنصر من نصره، وهلاك من عصاه وخذله ؟
﴿ ولا تضروه شيئا ﴾ أي ولا تضروه تعالى شيئا ما من الضرر في تثاقلكم عن طاعته ونصرة رسوله ؛ لأنه غني عنكم، ولن يبلغ أحد ضره ولا نفعه، بل هو القاهر فوق عباده، وكل من في السموات والأرض مسخر بأمره، وإن كان قد جعل للبشر شيئا من الاختيار، هو حجة عليهم فيما يلقون من الجزاء على الأعمال، وقيل : إن المراد ولا تضروا رسوله بتثاقلكم، فإنه عصمه من الناس، وكفل له النصر بقرينة الآية الآتية :﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ ومنه إهلاككم إن أصررتم على العصيان، وتوليتم عن إقامة دينه وإتمام نوره، ونصر رسوله بقوم آخرين ﴿ يجاهدون في سبيل الله ﴾ [ المائدة : ٥٤ ] بأموالهم وأنفسهم ﴿ ولا يخافون لومة لائم ﴾ [ المائدة : ٥٤ ] كما قال في آخر سورة القتال :﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم* ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ [ محمد : ٣٨ ]، وهذا حجة على من زعم من الروافض أنه لولا ثبات علي كرم الله وجهه والنفر الذي كانوا حول بغلة النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب دينه فلم تقم له قائمة، والله أكبر من جهلهم، ورسوله أعظم عنده ممن ثبت وممن لم يثبت حول بغلته، ووعده أصدق من غلوهم في رفضهم، وهاك من حجج كتابه ما يزيد شبهة بدعتهم افتضاحاً، وحجة السنة وأهلها اتضاحاً :﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم( ٤٠ ) ﴾
الكلمة الأولى في الهجرة المحمدية
كان من حكمة الله تعالى في رسالة محمد خاتم النبيين المرسل رحمة للعالمين، ومصلحا للناس أجمعين، أن أعد لها في المرتبة الأولى الأمة العربية الأمية باستقلال الفكر، وقوة الإرادة، وذكاء القريحة، وارتقاء اللغة، والسلامة مما منيت به أمم الحضارة من الاستذلال والاستعباد للملوك والأمراء ورؤساء الدين، ثم كان من حكمته تعالى أن عادى هذه الدعوة والقائم بها كبراء قومه قريش كبراً وبغياً وعلواً واستكباراً عن الاعتراف بضلالهم وضلال آبائهم وأجدادهم في شركهم، لئلا يكون في ظهورها بالحق شبهة يظن بها أنها إنما قامت بعصبية قريش، وكان له صلى الله عليه سلم بضعة أعمام لم يؤمن به منهم في السابقين إلا حمزة رضي الله عنه أخوه في الرضاع وقريبه من جهة الأم، فإن أمه ابنة عم آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد آمن في السنة الثانية من بعثته. وكان أبو لهب عمه الكبير الغني أول من صارحه العداوة فقال لقريش : خذوا على يديه، قبل أن تجتمع العرب عليه. وحسبك ما أنزل الله فيه وفي امرأته حمالة الحطب، وكان عمه أبو طالب هو الذي كفله بعد وفاة جده شيبة الحمد عبد المطلب، وإنما كان يحميه ويدافع عنه لعصبية القرابة والتربية. وكان لزوجه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها مقام كبير في قريش كان له تأثير سلبي في تقليل إيذائه صلى الله عليه وسلم، وقد توفيت هي وأبو طالب في أسبوع واحد فاشتد إيذاء قريش له بعدهما، حتى أجمعوا على قتله قتلة تشترك فيها جميع قبائل قريش بأن يأخذوا من كل قبيلة منها شاباً نهداً قوياً يعطونه سيفا فيحمل عليه هؤلاء الشبان حملة رجل واحد فيقطعونه بسيوفهم ليضيع دمه بين القبائل، ويتعذر على بني هاشم الأخذ بثأره على حسب عادة العرب فيرضون بالدية. عند هذا أمره الله تعالى بالهجرة إلى يثرب التي صار اسمها المدينة المنورة بهجرته إليها، وكان قد آمن به وبايعه من أهلها الأنصار في الموسم من جعلهم الله تعالى مقدمة لإيمان غيرهم من الأنصار الكرام.
لم يكاشف النبي صلى الله عليه وسلم بهجرته أحداً غير صاحبه الأول أبي بكر الصديق الذي كان أول من آمن به ممن دعاهم إلى الإسلام بعد أهل بيته :[ وهم زوجه خديجة، وعتيقه زيد بن حارثة، وربيبه علي وكان دون البلوغ، وهؤلاء قد علموا بنبوته صلى الله عليه وسلم وصدقوه قبل أن يأمره الله بالدعوة ]، فكان أبو بكر صاحبه الملازم، ومستشاره الدائم، ووزيره الأكبر وموضع سره، وإنما كان رضي الله تعالى عنه أول من أسلم لأنه كان أشد هذه الأمة استعداداً لنور الإسلام بسلامة فطرته وطهارة نفسه، وقوة عقله، وعرفانه بفضائل النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، وقد كان صديقه من سن الشباب، وروى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لم يعرض الإسلام على واحد إلا وكان له فيه كبوة إلا أبا بكر رضي الله عنه، وإننا نذكر أصح ما أورده نقاد المحدثين من خبر الهجرة، وأوضحه وأبسطه ما رواه ابن أبي شيبة والإمام أحمد والبخاري وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها، فنبدأ به ونقفي عليه بأحاديث أخرى من الجامع الصحيح غير ناظرين إلى روايتها في غيره، ثم نشير إلى غيرها.
قال البخاري٥ في كتاب الهجرة من صحيحه :[ حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليها وسلم قالت : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد٦ لقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة٧- فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق٨، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق ؟
فلم تكذب قريش بجوار ابن الذعنة، وقالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا٩، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه١٠ نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا : إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال : قد عملت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر : فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عزَّ وجلَّ.
والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين :( إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين )، وهما الحرتان١١، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( على رسلك١٢، فإني أرجو أن يؤذن لي ) فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت ؟ قال :( نعم ). فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط١٣ أربعة أشهر.
[ قال ابن شهاب١٤ : قال عروة : قالت عائشة : فبينما نحن يوما جلوسا في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة١٥ قال قائل لأبي : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر :( اخرج من عندك ). فقال أبو بكر : إنما هم أهلك١٦ بأبي أنت يا رسول الله، قال :( فإني قد أذن لي في الخروج ). فقال أبو بكر : الصحابة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( نعم ) : قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بالثمن )١٧. قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق، قالت : ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر -وهو غلام شاب ثقف١٨ لقن١٩- فيدلج٢٠ من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان٢١ به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل٢٢ وهو لبن منحتهما٢٣ ورضيفهما٢٤ حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس٢٥، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هادياً خرّيتاً ـ والخريت الماهر بالهداية ـ قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل.
[ قال ابن شهاب : وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي -وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعشم- أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول : جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال : يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمداً وأصحابه، قال سراقة : فعرفت أنهم هم، فقلت له : إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي -وهي من وراء أكمة- فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي٢٦ حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام٢٧ فاستقسمت بها أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات- ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان٢٨ ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني٢٩، ولم يسألاني إلا أن قال ( أخف عنا )، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حرّ الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يه
هذا السياق من هنا إلى آخر السورة في غزوة تبوك- وما كانت وسيلة له من هتك أستار النفاق، وتطهير المؤمنين من عوامل الشقاق- إلا الآيتين في آخرها، وما يتخللها من بعض الحكم والأحكام على السنة والمعروفة في أسلوب القرآن. ومناسبته لما قبله أن المراد قتالهم في تبوك هم الروم وأتباعهم المستعبدون من عرب الشام، وكلهم من النصارى الذين نزلت الآيات الأخيرة في حكم قتال اليهود وقتالهم، وبيان حقيقة أحوالهم، وأهمها خروجهم عن هداية دين المسيح عليه السلام في كل من العقائد والفضائل والأعمال، وكان ذكر النسيء في آخره لما ذكرنا. وإننا نقدِّم على تفسير الآيات بيان سبب غزوة تبوك وفاء بما وعدنا به، فنقول :
غزوة تبوك وسببها.
تبوك مكان معروف في منتصف الطريق بين المدينة المنورة ودمشق تقريبا، وقالوا : إن بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، واللفظ ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث على الأشهر.
قال الحافظ في فتح الباري : وكان السبب فيها -أي الغزوة- ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره قالوا : بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعا، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء. فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج وأعلمهم بجهة غزوهم كما سيأتي في الكلام على حديث كعب بن مالك.
وروى الطبراني من حديث عمران بن حصين قال : كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل : إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم يقال له قباذ، وجهز معه أربعين ألفا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد جهز عيراً إلى الشام، فقال يا رسول الله : هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ومائتا أوقية -أي من الفضة- قال : فسمعته يقول :( لا يضر عثمان ما عمل بعدها )، وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حباب نحوه.
وذكر أبو سعيد في ( شرف المصطفى ) والبيهقي في الدلائل من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود قالوا : يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام، فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء. فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ﴾ [ الإسراء : ٧٦ ] الآية انتهى، وإسناده حسن مع كونه مرسلا. اهـ ما ذكره الحافظ.
والصحيح المعتمد في السبب هو الأول، وما ندري من هؤلاء اليهود الذي قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا ؟ وكان هذا بعد الفراغ من يهود المدينة وإجلائهم. والعجيب من الحافظ كيف قال : إن هذا الحديث حسن مع قوله في شهر بن حوشب في التقريب : إنه كثير الإرسال والأوهام، وعلمه ونقله لما لهم فيه من المطاعن في تهذيب التهذيب ؟ وقد صرح السيوطي بضعف الحديث في أسباب النزول، وفي كتب السير أن ما بذله عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة أكثر مما ذكر في حديث عمران.
وقد كانت غزوة تبوك في شهر رجب من سنة تسع باتفاق الرواة، وهو موافق لما رواه ابن عائذ من حديث ابن عباس أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، بجعل الستة الأشهر بعد عودته صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى المدينة، فهو صلى الله عليه وسلم قد دخل المدينة في شهر ذي الحجة من تلك السنة، قاله الحافظ.
والغرض من هذا التمهيد لتفسير الآيات أن سبب هذه الغزوة استعداد الروم لقتال النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وإعداد جيش كثيف للزحف به على المدينة، فهي كسائر غزواته صلى الله عليه وسلم دفاع لا اعتداء، ولما لم يجد من يقاتله عاد ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام، وكان الأمر بها لما سيذكر من الحكم والأحكام.
قال عزَّ وجلَّ ﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ﴾ أي إلا تنصروا الرسول الذي استنفركم في سبيل الله على من أرادوا قتاله من أولياء الشيطان، فسينصره الله بقدرته وتأييده، كما نصره إذ أجمع المشركون على الفتك به، وأخرجوه من داره وبلده، أي اضطروه إلى الخروج والهجرة ولولا ذلك لم يخرج. وقد تكرر في التنزيل ذكر إخراج المشركين للرسول وللمؤمنين المهاجرين من ديارهم بغير حق، وليس المراد منه أنهم تولوا طردهم وإخراجهم مجتمعين ولا متفرقين ؛ فإن أكثرهم خرج مستخفياً كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه رضي الله عنه، أو تقدير الكلام : إلا تنصروه فقد أوجب الله له النصر في كل حال وكل وقت حتى نصره في ذلك الوقت الذي لم يكن معه جيش ولا أنصار منكم بل حال كونه :
﴿ ثاني اثنين ﴾ أي أحدهما، فإن مثل هذا التعبير لا يعتبر فيه الأولية ولا الأولوية ؛ لأن كل واحد منهما ثان للآخر، ومثله ثالث ثلاثة، ورابع أربعة، لا معنى له إلا أنه واحد من ثلاثة أو أربعة به تم هذا العدد. على أن الترتيب فيه إنما يكون بالزمان أو المكان، وهو لا يدل على تفضيل الأول على الثاني ولا الثالث أو الرابع على من قبله، وسيأتي في حديث الشيخين :( ما ظنك باثنين الله ثالثهما١ ) ؟
﴿ إذ هما في الغار ﴾ أي في ذلك الوقت الذي كان فيه الاثنان في الغار المعروف عندكم، وهو غار جبل ثور.
﴿ إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ﴾ أي إذ كان يقول لصاحبه الذي هو ثانيه -وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه- حين رأى منه أمارة الحزن والجزع، أو كلما سمع منه كلمة تدل على الخوف والفزع :" لا تحزن ". الحزن انفعال نفسي اضطراري يراد بالنهي عنه مجاهدته وعدم توطين النفس عليه، والنهي عن الحزن -وهو تألم النفس مما وقع- يستلزم النهي عن الخوف مما يتوقع، وقد عبر عن الماضي بصيغة الاستقبال «يقول » للدلالة على التكرار المستفاد من بعض الروايات، ولاستحضار صورة ما كان في ذلك الزمان والمكان ليتمثل المخاطبون ما كان لها من عظمة الشأن، وعلل هذا النهي بقوله :﴿ إن الله معنا ﴾ أي لا تحزن لأن الله معنا بالنصر والمعونة، والحفظ والعصمة، والتأييد والرحمة، ومن كان الله تعالى معه بعزته التي لا تغلب، وقدرته التي لا تقهر، ورحمته التي قام ويقوم بها كل شيء فهو حقيق بأن لا يستسلم لحزن ولا خوف، وهذا النوع من المعية الربانية أعلى من معيته سبحانه للمتقين والمحسنين في قوله :﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾ [ النحل : ١٢٧، ١٢٨ ]، والفرق بينهما أن المعية في آية سورة النحل لجماعة المتقين المجتنبين لما يجب تركه، والمحسنين لما يجب فعله، فهي معللة بوصف مشتق هو مقتضى سنة الله في عالم الأسباب لكل من كان كذلك، وإن كان الخطاب في النهي عن الحزن قبلها للرسول صلى الله عليه وسلم، وأما المعية هنا فهي لذات الرسول وذات صاحبه، غير مقيدة بوصف هو عمل لها ؛ بل هي خاصة برسوله وصاحبه من حيث هو صاحبه، مكفولة بالتأييد بالآيات، وخوارق العادات، وكبر العنايات، إذ ليس المقام بمقام سنن الله في الأسباب والمسببات، التي يوفق لها المتقين والمحسنين المتقنين للأعمال.
يعلم هذا التفاوت بين النوعين من الحق الواقع إن لم يعلم من اللفظ وحده، وهي من قبيل قوله تعالى لموسى وهارون إذ أرسلهما إلى فرعون فأظهرا الخوف من بطشه بهما ﴿ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ﴾ [ طه : ٤٥، ٤٦ ]، وقد كان خاتم النبيين أكمل منهما إذ لم يخف من قومه الخارجين في طلبه للفتك به كما سنذكره، وكان للصديق الأكبر أسوة حسنة بهما إذ خاف على خليله وصفيه الذي شرفه الله في ذلك اليوم الفذ بصحبته، وإنما نهاه صلى الله عليه وسلم عن الحزن لا عن الخوف، ونهى الله موسى وهارون عن الخوف لا عن الحزن، لأن الحزن تألم النفس من أمر واقع، وقد كان نهيه صلى الله عليه وسلم إياه عنه في الوقت الذي أدرك المشركون فيه الغار بالفعل.
روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أنس قال : حدثني أبو بكر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين فقلت : يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه. فقال عليه الصلاة والسلام :( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما )٢ ؟
وأما الخوف فهو انفعال النفس من أمر متوقع، وقد نهى الله رسوليه عنه قبل وقوع سببه وهو لقاء فرعون ودعوته إلى ما أمرهما به. والنهي عن الحزن يستلزم النهي عن الخوف كما تقدم، وقد كان الصديق خائفا وحزنا كما تدل عليه الروايات، وهو مقتضى طبع الإنسان.
وحاصل المعنى إلا تنصروه بالنفر لما استنفركم له فإن الله تعالى قد ضمن له النصر، فهو ينصره كما نصره في ذلك الوقت الذي اضطره المشركون فيه بتألبهم عليه واجتماع كلمتهم على الفتك به في ذلك الوقت الذي كان فيه ثاني اثنين في الغار، أعزلين غير مستعدين للدفاع، وكان صاحبه فيه قد ساوره الحزن والجزع في ذلك الوقت الذي كان يقول له فيه -وهو آمن مطمئن بوعد الله وتأييده ومعيته الخاصة- :﴿ لا تحزن إن الله معنا ﴾، فنحن غير مكلفين بشيء من الأسباب أكثر مما فعلنا من استخفائنا هنا. وقد بينا في الكلام على غزوة بدر من تفسير سورة الأنفال المقارنة بين حالي الرسول الأعظم والصديق الأكبر هنالك ؛ إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستغيث ربه، ويستنجزه وعده، وكان الصديق رضي الله عنه يسليه ويهون الأمر عليه، على خلاف حالهما في الغار، وأثبتنا أن حاله صلى الله عليه وسلم في الموضعين كان الأكمل الأفضل، إذ أعطى حال الأخذ بسنن الله في الأسباب والمسببات في بدر حقه، وأعطى حال التوكل المحض في الغار حقه٣.
فتكرار الظرف «إذ » في المواضع الثلاثة مبدلاً بعضها من بعض في غاية البلاغة، به يتجلى تأييده تعالى لرسوله أكمل التجلي، فهو يذكرهم بوقت خروجه صلى الله عليه وسلم مهاجرا مع صاحبه بما كان من قريش من شدة الضغط والاضطهاد، وقد تقدم تفصيله في تفسير﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] من سورة الأنفال، وسيعاد مختصرا في هذا السياق. ويتلوه تذكيرهم بإيوائه مع صاحبه إلى الغار لا يملكان من أسباب الدفاع عن أنفسهما شيئا. ثم يخص بالذكر وقت قوله لصاحبه ﴿ لا تحزن إن الله معنا ﴾، أي أنه كان هو الذي يسلي صاحبه ويثبته لا أنه كان يتثبت به، [ وهكذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في كل وقت يشتد فيه القتال أيضا ]، وكون سبب ذلك وعلته إيمانه الأكمل بمعية الله عزَّ وجلَّ الخاصة. فالعبرة لهم في هذه الذكريات الثلاث أن الله تعالى غني عن نفرهم مع رسوله بقدرته وعزته، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم غني عن نصرهم له بنصره عزَّ وجلَّ وتأييده، وبقدرته على تسخير غيرهم له من جنوده وعباده، وقد بين تعالى أثر ذلك وعاقبته بقوله :
﴿ فأنزل الله سكينته عليه ﴾ أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله :﴿ فأنزل الله سكينته عليه ﴾ قال : على أبي بكر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة معه. وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت ﴿ فأنزل الله سكينته ﴾ قال : على أبي بكر، فأما النبي فقد كانت عليه السكينة. وقد أخذ بهذه الرواية بعض مفسري اللغة والمعقول ووضحوا ما فيها من التعليل بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحدث له وقتئذ اضطراب ولا خوف ولا حزن، وقواها بعضهم بأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور وهو الصاحب، وليس هذا بشيء. وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن إنزال السكينة عليه لا يقتضي أن يكون خائفا أو مضطربا أو منزعجا، وهذا ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها بالفاء الدال على وقوعه بعده وترتبه عليه، وأن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه ( لا تحزن )، ولكنهم قووه بأن ما عطف عليه من قوله :
﴿ وأيده بجنود لم تروها ﴾ لا يصح إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بهؤلاء الجنود الملائكة ؛ لأن الأصل في المعطوفات التعانق وعدم التفكك. وأجاب عنه الآخذون بقول ابن عباس ومجاهد : أولا : بأن التأييد بالجنود معطوف على قوله :﴿ فقد نصره الله ﴾ لا على ﴿ فأنزل الله سكينته ﴾. ثانيا : بأن تفكك الضمائر لا يضر إذا كان المراد من كل منها ظاهراً لا اشتباه فيه. وثالثا : بأنه لا مانع من جعل التأييد لأبي بكر، نقله الآلوسي وقال : كما يدل عليه ما أخرجه ابن مردويه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر :( إن الله تعالى أنزل سكينته عليك وأيدك ) الخ. وقال بعض المفسرين : إن المراد بهذه الجنود ما أيده الله تعالى به يوم بدر والأحزاب وحنين، وقال بعضهم : بل المراد أنه أيده بملائكة في حال الهجرة يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار ويصرفونها عنهما، فقد خرج من داره والشبان المتواطئون على قتله وقوف ولم ينظروه. وإننا نرجع إلى سائر ما في التنزيل من ذكر إنزال السكينة والتأييد بالملائكة لنستمد منها فهم ما في هذه الآية.
أما إنزال السكينة فذكر في ثلاث آيات فقط : أولاها : الآية الرابعة من سورة الفتح، والثانية : الآية السادسة والعشرون منها، وكان نزول السورة بعد صلح الحديبية الذي فتن فيه المؤمنون واضطربت قلوبهم بما ساءهم من شروطه التي عدوها إهانة لهم وفوزاً للمشركين، وأمرها مشهور، فكان من عناية الله تعالى بهم أن ثبت قلوبهم ومكنهم من فتح خيبر، وأنزل سورة الفتح مبيناً فيها حكم ذلك الصلح وفوائده، وامتن بذلك على رسوله وعليهم بقوله :﴿ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ﴾ إلى قوله ﴿ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً ﴾ [ الفتح : ١- ٤ ]، فهذه سكينة خاصة بالمؤمنين، بين حكمتها العليم الحكيم، وفيها إشارة إلى جنود الملائكة لا تصريح.
ثم قال بعد ما تقدمت الإشارة إليه من حكم ذلك الصلح، وما أعقبه من الفتح :﴿ إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً ﴾ [ الفتح : ٢٦ ]، الأشهر في تفسير هذه الحمية أنها ما أباه المشركون في كتاب الصلح من بدئه بكلمة بسم الله الرحمن الرحيم، ومن وصف محمد صلى الله عليه وسلم فيه برسول الله وتعصبهم لما كان من عادة الجاهلية وهو : باسمك اللهم، وهذا مما ساء رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك، كما ساءه كراهة جمهور المسلمين الأعظم لهذا الصلح، ولكنه لم يكن ليضيع بذلك صلحا عظيما كان أول فتح لباب حرية دعوة الإسلام في المشركين، بوضع الحرب عشر سنين، فأنزل الله سكينته عليه وألهمه قبول شروطهم، وأنزلها على المؤمنين بعد أن هموا بمعارضته صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بالتحلل من عمرتهم فتلبثوا حتى خشي عليهم الهلاك، واستشار في ذلك زوجه أم سلمة فأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويأمر حلاقه بحلق شعره، ففعل فاقتدوا به، بما أنزل الله عليهم من سكينته.
والآية [ الثالثة ] هي ما تقدم في هذه السورة في سياق غزوة حنين
٢ ـ تقدم راجع الحاشية السابقة..
٣ ـ راجع تفسير الآية ﴿إذا تستغيثون ربكم﴾ [الأنفال: ٩] في الجزء التاسع..
روي عن أبي الضحى مسلم بن صبيح أن هذه الآية أول ما نزل من هذه السورة، ثم نزل ما قبلها وما بعدها بعد ذلك، ولا يصح بهذا نقل، ولا يقبله فهم ولا عقل، والمتبادر من هذا السياق أن أوله خطاب الله للمؤمنين في قتال أهل الكتاب وما يسوغه وما ينتهي به من قبول الجزية منهم، ويتلوه إنكاره عليهم التثاقل عن النفر إذ استنفرهم الرسول لغزوة تبوك، وما قبله من أول السورة سياق مستقل تكلمنا عليه في أول تفسير السورة، وقد تقدم أن السورة نزلت كلها بعد عزوة تبوك، وما قيل من استثناء الآيتين اللتين في آخرها، فإن صح أن شيئاً نزل منها قبل السفر فهذا السياق من أوله إلى آخره لا هذه الآية وحدها، وأما بعد هذه الآية فظاهر أن أكثره نزل في أثناء السفر ومنه ما نزل بعده كما سنوضحه.
وأما وجه اتصال الآية بما قبلها فهو أنه تعالى لما وبخ الله المؤمنين على التثاقل عن النفر لما استنفرهم الرسول صلى الله عليه وسلم قفى عليه ببيان حكم النفير العام الذي يوجب القتال على كل فرد من الأفراد بما استطاع، ولا يعذر فيه أحد بالتخلف عن الإقدام، وترك طاعة الإمام، فقال :
﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ الخفاف بالكسر جمع خفيف والثقال جمع ثقيل. والخفة والثقل يكونان بالأجسام وصفاتها من صحة ومرض، ونحافة وسمن، وشباب وكبر، ونشاط وكسل، ويكونان بالأسباب والأحوال، كالقلة والكثرة في المال والعيال، ووجود الظهر [ الراحلة ] وعدمه، وثبوت الشواغل وانتفائها. فإذا أعلن النفير العام، وجب الامتثال إلا في حال العجز التام، وهو ما بينه تعالى في الآية ٩١ من هذا السياق :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ﴾ الآية، وعذر القسم الثالث مشروط بما إذا لم يجد الإمام أو نائبه ما ينفق عليهم كما ذكر في الآية وستأتي.
وما ورد عن مفسري السلف من تفسير الخفاف والثقال ببعض ما ذكرنا من الكليات فهو للتمثيل لا للحصر، قال ابن عباس في تفسيرهما : نشاطاً وغير نشاط. وفي رواية عنه : موسرين ومعسرين، وفي رواية ثالثةً : خفافاً من السلاح أي مقلين منه، وثقالاً به أي مستكثرين منه. والحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة : شباناً وشيوخاً. وعطية العوفي : ركباناً ومشاة. وأبو صالح : فقراء وأغنياء. وقال ابن زيد في معناه : الثقيل الذي له الضيعة يكره أن يدع ضيعته. وقال الحكم بن عيينة : مشاغيل وغير مشاغيل.
ومما هو نص في إرادة عموم الأحوال قول أبي أيوب الأنصاري وقد شهد المشاهد كلها إلا غزاة واحدة- قال الله تعالى :﴿ انفروا خفافاً وثقالاً ﴾، فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً. رواه ابن جرير. وروي عن أبي راشد الحراني قال : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو فقلت له : قد أعذر الله إليك، فقال أبت علينا سورة البعوث يعني براءة ﴿ انفروا خفافاً وثقالاً ﴾. وروي عن حيان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان والياً على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة، فرأيت شيخاً كبيراً همَّا قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار، فقلت : يا عم قد أعذر الله إليك، قال فرفع حاجبيه عن عينيه فقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من صبر وشكر وذكر، ولم يعبد إلا الله عز وجل.
أقول : بمثل هذا الفهم للقرآن والاهتداء به فتح سلفنا البلاد، وسادوا العباد، وكانوا خيرا لهم من أبناء جلدتهم، والمشاركين لهم في ملتهم. ولم يبق لأحد من شعوب أمتنا حظ من القرآن إلا تغني بعضهم بتلاوته من غير فهم ولا تدبر، واشتغال آخرين بإعراب جمله ونكت البلاغة في مفرداته وأساليبه من غير علم ولا فقه فيها، ولا فكر ولا تدبر لما أودع من العظات والعبر في مطاويها، فهم يتشدقون بأن ﴿ خفافاً وثقالاً ﴾ منصوبان على الحال، ولا يرشدون أنفسهم ولا غيرهم إلى ما أوجباه على ذي الحال. وقد يذكر من يسمى الفقيه فيهم ما قيل من أن الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفردوا كافة ﴾ [ التوبة : ١١٢ ]، وهو زعم مخالف لما عليه الأئمة كافة، من أنه لا تعارض بين الآيتين كما سيأتي في تفسير الثانية، وبمثل هذا وذاك أضاع المسلمون ملكهم، وصار أكثرهم عبيداً لأعدائهم. ثم بين تعالى ما يجب من هذا النفر بقوله :
﴿ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ﴾ أي وجاهدوا أعداءكم الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت من العلو والفساد في الأرض، ببذل أموالكم وأنفسكم في سبيل الله الموصلة إلى الحق وإقامة ميزان العدل. فمن قدر على الجهاد بماله وبنفسه معاً وجب عليه الجهاد بهما، ومن قدر على أحدهما دون الآخر وجب عليه ما كان في قدرته منهما. كان المسلمون في الصدر الأول ينفق كل على نفسه في القتال، ومن كان عنده فضل من المال بذل منه في تجهيز غيره كما فعل عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة في هذه الغزوة، وكما فعل غيره من أغنياء الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا يفعل أهل نجد الآن.
ولما صار بيت المال غنياً بكثرة الغنائم صار الأئمة والسلاطين يجهزون الجيش من بيت المال، وأئمة اليمن يدخرون المال لأجل القتال، وينفقون على طائفة من الناس طول السنة لتكون مستعدة للقتال كلما استنفرت له. والدول المنظمة تقرر في كل عام مبلغاً معيناً من المال في ميزانية الدولة للنفقات الحربية من برية وبحرية وهوائية. وإذا وقعت الحرب يزيدون في هذه المبالغ، ويجددون لها كثيراً من الضرائب، بل يجعلون جميع أموال الدولة والأمة ومصالحها ومرافقها تحت نفوذ قواد الحرب يتصرفون فيها بالنظام لا بالاستبداد، والمسلمون أولى منهم بكل ما ذكر.
﴿ ذلكم خير لكم ﴾ أي ذلكم الذي أمرتم به من النفر والجهاد الذي هو أبعد مرامي الأمم في حفظ حقيقتها، وعلو كلمتها، وتقرير سياستها خير لكم في دنياكم وآخرتكم، أي خير في نفسه بصرف النظر عن مقابله، أو خير من القعود والبخل عنه، أما الدنيا فلا حياة للأمم فيها ولا عز ولا سيادة إلا بالقوة الحربية، والقعود عن القتال عند الحاجة إليه يغري الأعداء بالقاعدين العاجزين، وحب الراحة يجلب التعب، وأما الآخرة فلا سعادة فيها إلا لمن ينصر الحق، ويقيم العدل، ويتحلى بالفضائل، ويتخلى عن الرذائل، باتباع الدين القويم، والعمل بالشرع العادل الحكيم. ولا يمكن هذا كله إلا باستقلال الأمة بنفسها، وقدرتها على حفظ سيادتها وسلطاتها بقوتها، كما تقدم تفصيله في تفسير الآيات الكثيرة من سورة الأنفال ولا سيما ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] وفي أوائل هذه السورة.
﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ أي إن كنتم تعلمون حقية هذه الخيرية علما إذعانيا يبعث على العمل. وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله، أي يكن خيراً لكم، ويقدره بعضهم أمراً بالامتثال، أي فانفروا وجاهدوا. وقد علم تلك الخيرية وامتثل هذا الأمر المؤمنون الصادقون، واستأذن بعض المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف فأذن لهم على ضعف أعذارهم، وتخلف منهم ومن المؤمنين أناس آخرون فأنزل الله في الجميع الآيات الآتية في أثناء السفر.
كان دأب المؤمنين وعادتهم إذا استنفرهم الرسول صلى الله عليه وسلم للقتال أن ينفروا بهمة ونشاط، ولما استنفرهم لغزوة تبوك تثاقلوا لما تقدم من الأسباب، وللتثاقل درجات تختلف باختلاف قوة الإيمان وضعفه، ويسر الأسباب وعسرها، وكثرة الأعذار وقلتها، ولكن نفر الأكثرون طائعين، وتخلف الأقلون عاجزين. وأما المنافقون فقد كبر عليهم الأمر، وعظم فيهم الخطب، وطفقوا ينتحلون الأعذار الواهية، ويستأذنونه صلى الله عليه وسلم في القعود والتخلف فيأذن لهم، فكان نزول هذه الآيات وما بعدها لبيان تلك الحال وأحكام تلك الوقائع. وهي لا تفهم إلا بمعرفة أسبابها، كما كان يعرفها من وقعت منهم ومعهم وفيما بينهم. ومن حكمة الله تعالى في هذا الأسلوب أنه يضطر المؤمنين بعد ذلك العصر إلى البحث عن تاريخه ليستعينوا به على فهم ما تعبدهم الله تعالى به من الآيات فيعرفوا نشأة دينهم، وسياسة ملتهم، وصفة تكوين أمتهم، ولا شيء أعون للأمم على حفظ حقيقتها كمعرفة تاريخها.
﴿ لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ﴾ أي لو كان ما استنفرتهم له ودعوتهم إليه أيها الرسول عرضاً وهو ما يعرض للمرء من منفعة ومتاع، مما لا ثبات له ولا بقاء قريب المكان أو المنال، ليس في الوصول إليه كبير عناء، وسفراً قاصداً -أي وسطاً لا مشقة فيه ولا كلال١- لاتبعوك فيه، وأسرعوا بالنفر إليه، لأن حب المنافع المادية والرغبة فيها لاصقة بطبع الإنسان، وناهيك بها إذا كانت سهلة المأخذ قريبة المنال، وكان الراغب فيها من غير الموقنين بالآخرة وما فيها من الأجر العظيم للمجاهدين، كأولئك المنافقين.
﴿ ولكن بعدت عليهم الشقة ﴾ التي دعوا إليها وهي تبوك والشقة الناحية، أو المسافة والطريق التي لا تقطع إلا بتكبد المشقة والتعب وكبر عليهم التعرض لقتال الروم في ديار ملكهم، وهم أكبر دول الأرض الحربية، فتخلفوا جبناً وحباً بالراحة والسلامة.
﴿ وسيحلفون بالله ﴾ أي بعد رجوعكم إليهم، وقال :﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم ﴾ [ التوبة : ٩٥ ] كما قال :﴿ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ﴾ [ التوبة : ٩٤ ] قائلين ﴿ لو استطعنا لخرجنا معكم ﴾ أي لو استطعنا الخروج إلى الجهاد بانتفاء الأعذار المانعة لخرجنا معكم، فإننا لم نتخلف عنكم إلا مضطرين.
﴿ يهلكون أنفسهم ﴾ بامتهان اسم الله تعالى بالحلف الكاذب لستر نفاقهم وإخفائه، يؤيدون الباطل بالباطل، ويدعمون الإجرام بالإجرام، أو بالتخلف عن الجهاد المفضي إلى الفضيحة، وما تقتضيه من سوء المعاملة، فالجملة مبينة لحالهم في حلفهم أو ما كان سبباً له، وأنهم يريدون به النجاة فيقعون في الهلاك.
﴿ والله يعلم إنهم لكاذبون ﴾ في زعمهم أنهم لو استطاعوا الخروج لخرجوا معكم.
كان دأب المؤمنين وعادتهم إذا استنفرهم الرسول صلى الله عليه وسلم للقتال أن ينفروا بهمة ونشاط، ولما استنفرهم لغزوة تبوك تثاقلوا لما تقدم من الأسباب، وللتثاقل درجات تختلف باختلاف قوة الإيمان وضعفه، ويسر الأسباب وعسرها، وكثرة الأعذار وقلتها، ولكن نفر الأكثرون طائعين، وتخلف الأقلون عاجزين. وأما المنافقون فقد كبر عليهم الأمر، وعظم فيهم الخطب، وطفقوا ينتحلون الأعذار الواهية، ويستأذنونه صلى الله عليه وسلم في القعود والتخلف فيأذن لهم، فكان نزول هذه الآيات وما بعدها لبيان تلك الحال وأحكام تلك الوقائع. وهي لا تفهم إلا بمعرفة أسبابها، كما كان يعرفها من وقعت منهم ومعهم وفيما بينهم. ومن حكمة الله تعالى في هذا الأسلوب أنه يضطر المؤمنين بعد ذلك العصر إلى البحث عن تاريخه ليستعينوا به على فهم ما تعبدهم الله تعالى به من الآيات فيعرفوا نشأة دينهم، وسياسة ملتهم، وصفة تكوين أمتهم، ولا شيء أعون للأمم على حفظ حقيقتها كمعرفة تاريخها.
﴿ عفا الله عنك ﴾ العفو التجاوز عن الذنب أو التقصير وترك المؤاخذة عليه، ويستعمل بمعنى الدعاء. أي عفا عما تعلق به اجتهادك أيها الرسول حين استأذنوك وكذبوا عليك في الاعتذار.
﴿ لم أذنت لهم ﴾ أي لأي شيء أذنت لهم بالقعود والتخلف كما أرادوا، وهلا استأنيت وتريثت بالإذن ﴿ حتى يتبين لك الذين صدقوا ﴾ في الاعتذار﴿ وتعلم الكاذبين ﴾ فيه، أي حتى تميز بين الفريقين فتعامل كلا بما يليق به، وذلك أن الكاذبين لا يخرجون سواء أذنت لهم أم لم تأذن لهم، فكان مقتضى الحزم أن تتلبث في الإذن أو تمسك عنه اختباراً لهم.
روى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم ﴾ قال : هم ناس قالوا : استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله :﴿ والله يعلم إنهم لكاذبون ﴾ قال : لقد كانوا يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم، وزهادة في الجهاد.
هذا وإن بعض المفسرين -ولا سيما الزمخشري- قد أساؤوا الأدب في التعبير عن عفو الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، وكان يجب أن يتعلموا منها أعلى الأدب معه صلوات الله وسلامه عليه، إذ أخبره ربه ومؤدبه بالعفو قبل الذنب، وهو منتهى التكريم واللطف، وبالغ آخرون كالرازي في الطرف الآخر فأرادوا أن يثبتوا أن العفو لا يدل على الذنب، وغايته أن الإذن الذي عاتبه الله عليه وهو خلاف الأولى، وهو جمود مع الاصطلاحات المحدثة والعرف الخاص في معنى الذنب وهو المعصية، وما كان ينبغي لهم أن يهربوا من إثبات ما أثبته الله تعالى في كتابه تمسكاً باصطلاحاتهم وعرفهم المخالف له ولمدلول اللغة أيضاً، فالذنب في اللغة كل عمل يستتبع ضررًا أو فوت منفعة أو مصلحة، مأخوذ من ذنب الدابة، وليس مرادفا للمعصية بل أعم منها، والإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية وهي تبين الذين صدقوا والعلم بالكاذبين. وقد قال تعالى :﴿ إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ [ الفتح : ١، ٢ ].
فالتفصي من إسناد الذنب إلى الأنبياء بالتأويل ليوافق المذاهب والقواعد كالتفصي مما وصف الله به نفسه وما أسنده إليها من العلو والاستواء على العرش أو غيرهما من الصفات، وهو يستلزم جعل بيان نظار المتكلمين لحقائق دين الله أفصح وأبين وأولى بالتلقين من كتاب الله عزَّ وجلَّ الذي وصفه بأنه تبيان لكل شيء، ولو قيل : إن لازم المذهب مذهب مطلقاً، وإن لم يفطن له صاحب المذهب ويلتزمه، كما يقوله الذين يكفرون كثيراً من المخالفين لهم، لجاز الحكم بكفر هؤلاء المتأولين المحرفين، ولكن أهل الحق من علماء السلف يمنعون من الحكم بالكفر على الشخص المعين فيما يتأول فيه مما هو كفر في نفسه، ويعدون من العذر بالجهل ما لا يعده المتكلمون عذراً.
وقد كان الإذن المعاتب عليه اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم فيما لا نص فيه من الوحي، وهو جائز وواقع من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وليسوا بمعصومين من الخطأ فيه، وإنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحي ببيانه والعمل به، فيستحيل على الرسول أن يكذب أو يخطئ فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل، ويؤيده حديث طلحة في تأبير النخل إذ رآهم صلى الله عليه وسلم يلقحونها فقال :( ما أظن يغني ذلك شيئاً )، فأخبروا بذلك فتركوه ظناً منهم أن قوله هذا من أمر الدين، فنفضت النخل وسقط ثمرها، فأخبر بذلك فقال صلى الله عليه وسلم :( إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عزَّ جلَّ )١ رواه مسلم.
وقد صرح علماء الأصول بجواز الخطأ في الاجتهاد على الأنبياء عليهم السلام، قالوا : ولكن لا يقرهم الله على ذلك ؛ بل يبين لهم الصواب فيه. ومنه ما تقدم في سورة الأنفال من عتاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في أخذ الفدية من أسارى بدر٢، والخطأ هنالك أعظم مما هنا، فغاية ما فيه هنا أنه مخالف لما يقتضيه الحزم، وكان من لطف الرب اللطيف الخبير برسوله البشير النذير أن أخبره بالعفو عنه قبل بيانه له، وأما ذاك فقد بدأ عتابه له وللمؤمنين -الذين عمل برأي جمهورهم في أخذ الفدية- بقوله :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ]، ثم بين أنه كان مقتضياً لعذاب أليم لولا كتاب من الله سبق فكان مانعاً، وسنذكر فائدة أمثال هذا الاجتهاد والخطأ في تفسير الآية ٤٧ وهي قريبة.
ومن مباحث البلاغة في الآية نكتة الاختلاف في التعبير عن الصادقين والكاذبين ؛ إذ عبر عن الأولين بالاسم الموصول بالفعل الماضي، وعن الكاذبين باسم الفاعل، وقد بين ذلك أبو السعود بقوله : وتغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام، للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين، وأن ما صدر من الآخرين وإن كان كذباً حادثا متعلقاً بأمر خاص لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة ناشئ عن رسوخهم في الكذب، والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين، وعما يتعلق بالكذب بالعلم، لما هو المشهور من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي، فظهور صدقه إنما هو تبين ذلك المدلول وانقطاع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملاً له احتمالا عقلياً، وأما كذبه فأمر حادث لا دلالة للخبر عليه في الجملة حتى يكون ظهوره تبيناً له بل هو نقيض لمدلوله، فما يتعلق به يكون علماً مستأنفاً، وإسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لا إلى المعلومين ببناء الفعل للمفعول مع إسناد التبين إلى الأولين لما أن المقصود ههنا علمه عليه الصلاة والسلام بهم ومؤاخذتهم بموجبه، بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم. ومن لم ينتبه لهذا قال : حتى يتبين لك من صدق في عذره ممن كذب فيه. وإسناد التبين إلى الأولين وتعليق العلم بالآخرين مع أن مدار الاستناد والتعلق أولاً وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه لما أن المقصد هو العلم بكلا الفريقين، باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورين، ومعاملتهما بحسب استحقاقهما، لا العلم بوصفيهما بذاتيهما، أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما اه.
٢ ـ راجع تفسير الآيات ٦٧ و٦٨ و٦٩ من سورة الأنفال في هذا الجزء..
ذكر البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة، والظاهر أن مراده لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شؤونهم بمثل ما في هذه السورة من التفصيل، كما قال الله له في الذين مردوا على النفاق ﴿ لا تعلمهم نحن نعلمهم ﴾ [ التوبة : ١٠١ ]، وستأتي في هذا السياق. إذ من المعلوم أن ذكر المنافقين وبعض صفاتهم وأقوالهم وأفعالهم جاءت في عدة سور نزلت قبل سورة براءة : منها سور المنافقين والأحزاب والنساء والأنفال والقتال والحشر، وأما سورة براءة فهي الفاضحة لهم والكاشفة لجميع أنواع نفاقهم الظاهرة والباطنة، وهذه الآيات أول السياق في هذا البيان للتفرقة بينهم وبين المؤمنين في أمر القتال، ولعله صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بعد نزولها.
قال عزَّ وجلَّّ :﴿ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ﴾ هذا نفي للشأن يراد به بيان الواقع في نفسه، فلا يلاحظ في الفعل فيه الزمان الحاضر أو المستقبل الذي وضع له المضارع ؛ بل يشملهما كما يشمل الماضي، كما تقول : الصائم لا يغتاب الناس، والذي يزكي لا يسرق، أي هذا شأن كل منهما، فالمعنى أنه ليس من شأن المؤمنين بالله الذي كتب عليهم القتال، واليوم الآخر الذي يكون فيه الأجر الأكمل على الأعمال، ولا من عادتهم أن يستأذنوك أيها الرسول في أمر الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم إذا عرض المقتضي له، لأن هذا من لوازم الإيمان التي لا تتوقف على الاستئذان ﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ﴾ [ الحجرات : ١٥ ]، وإذا لم يكن من شأنهم أن يستأذنوا في الجهاد بل يقدمون عليه عند وجوبه من غير استئذان لما تقدم آنفا، بل هم يستعدون له في وقت السلم بإعداد القوة ورباط الخيل من استطاع ذلك منهم، فهل يكون من شأنهم أن يستأذنوك في التخلف عنه، بعد إعلان النفير العام له ؟ كلا إن أقصى ما قد يقع من بعضهم التثاقل والبطء في مثل هذا السفر البعيد.
ويحتمل أن يكون المعنى : لا يستأذنك هؤلاء المؤمنون في القعود والتخلف كراهة أن يجاهدوا في سبيل الله، فإن الجهاد لا يكرهه المؤمن الصادق الذي يرجو الله والدار الآخرة، ويعلم أن عاقبة الجهاد الفوز بإحدى الحسنيين : الغنيمة والنصر، أو الشهادة والأجر، وإنما قد يستأذن صاحب العذر الصحيح منهم وهم الذين قبل الله عذرهم وأسقط الحرج عنهم في الآيتين[ ٩١ و٩٢ ]. روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا :( من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه )١ الخ. يعني رجلاً أعد فرسه رباطاً في سبيل الله كلما سمع هيعة أي صيحة لقتال أو في قتال أو فزعة -أي دعوة للإغاثة والنصر فيه- طار على فرسه يبتغي القتل والموت في مظانه، أي المواضع التي يظن أنه يلقى القتل والموت فيها.
﴿ والله عليم بالمتقين ﴾ له باجتناب ما يسخطه، وفعل ما يرضيه، ونيتهم فيه، وأنه ليس من شأنهم أن يستأذنوا بالتخلف كراهة للقتال، فهو يجزيهم وصفهم، وقد استنبط من الآية أنه لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات، ولا في الفضائل والفواضل من العادات، كقرى الضيوف، وإغاثة الملهوف، وسائر عمل المعروف، ويعجبني قول بعض العلماء ما معناه : من قال لك أتأكل ؟ هل آتيك بكذا من الفاكهة أو الحلوى مثلا ؟ فقل له لا، فإنه لو أراد أن يكرمك لما استأذنك.
ذكر البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة، والظاهر أن مراده لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شؤونهم بمثل ما في هذه السورة من التفصيل، كما قال الله له في الذين مردوا على النفاق ﴿ لا تعلمهم نحن نعلمهم ﴾ [ التوبة : ١٠١ ]، وستأتي في هذا السياق. إذ من المعلوم أن ذكر المنافقين وبعض صفاتهم وأقوالهم وأفعالهم جاءت في عدة سور نزلت قبل سورة براءة : منها سور المنافقين والأحزاب والنساء والأنفال والقتال والحشر، وأما سورة براءة فهي الفاضحة لهم والكاشفة لجميع أنواع نفاقهم الظاهرة والباطنة، وهذه الآيات أول السياق في هذا البيان للتفرقة بينهم وبين المؤمنين في أمر القتال، ولعله صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بعد نزولها.
﴿ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ هذا تصريح بمفهوم ما سبق لزيادة تأكيده وتقريره، وجاء الحصر فيه بإنما التي موضعها ما هو معلوم بالجملة، لأن المعنى قد علم من مفهوم الحصر بالنفي والإثبات الذي قبله. والمعنى إنما يستأذنك في التخلف عن الجهاد الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ؛ لأنهم يرون بذل المال للجهاد مغرما يفوت عليهم بعض منافعهم به، ولا يرجون عليه ثوابا كما يرجو المؤمنون، ويرون الجهاد بالنفس آلاما ومتاعب وتعرضا للقتل الذي ليس بعده حياة عندهم، فطبيعة كفرهم بالله واليوم الآخر تقتضي كراهتهم للجهاد، وفرارهم منه ما وجدوا له سبيلا. بضد ما يقتضيه إيمان المؤمنين كما تقدم.
﴿ وارتابت قلوبهم ﴾ أي وقد وقع لهم الريب والشك في الدين من قبل، فلم تطمئن به قلوبهم، ولم تذعن له نفوسهم، وإنما الإيمان هو اليقين المقارن للإذعان وخضوع النفس.
﴿ فهم في ريبهم يترددون ﴾ متحيرين في أمرهم، مذبذبين في عملهم، يحسبون كل صيحة عليهم، فهم يوافقون المؤمنين فيما يسهل أداؤه من عبادات الإسلام، فإذا عرض لهم ما يشق عليهم فعله ضاقت به صدورهم، والتمسوا التفصي منه بما استطاعوا من الحيل والمعاذير الكاذبة، حتى إنه كان يشق عليهم حضور صلاة الفجر والعشاء كما ورد في الصحيح. وسيأتي في بيان فضائحهم ﴿ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمعون ﴾ [ التوبة : ٥٧ ]، وقد ورد في بعض الروايات أن عدد هؤلاء المنافقين كان تسعة وثلاثين رجلا، ولعل المراد المستأذنون أو المتخلفون منهم.
روي عن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بآية سورة النور﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأْذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ﴾ [ النور : ٦٢ ]، والجمهور على أنها محكمة، وما أرى هذا الرأي يصح عن ابن عباس، فإن سورة النور نزلت قبل هذه السورة بالاتفاق، وموضوع الاستئذان فيها غير موضوعه هنا وإلا كانتا متناقضتين، فآية براءة في الاستئذان بالتخلف عن الجهاد والقعود عنه بعد النداء بالنفير العام، وآية النور في استئذان من يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم على أمر جامع كالجمعة والعيدين وليكن منه الجهاد ويعرض لأحدهم حاجة يريد قضاءها والعودة إلى الجماعة، فكان بعضهم لا يرى بذلك بأسا كالذين كانوا مجتمعين معه صلى الله عليه وسلم لصلاة الجمعة فجاءت العير بالتجارة فانفضوا إليها وتركوه قائما يخطب ليس معه إلا إثنا عشر منهم : أبو بكر وعمر وجابر الذي أخرج الشيخان والترمذي وغيرهم هذا الحديث عنه، وفي رواية ابن عباس عند ابن مردويه في تفسيره أنه بقي معه سبعة عشر رجلا وسبع نسوة. وفي هذه الحادثة نزلت الآيات التي في آخر سورة الجمعة، فصار المؤمنون بعد ذلك لا يخرجون من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة تعرض لهم إلا إذا استأذنوه وأذن لهم، ولهذا قال الله تعالى في آية براءة :﴿ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله ﴾، والعجب من المفسرين الذين نقلوا هذه الرواية عن ابن عباس كيف سكتوا عن بيان هذا، من سلم منهم القول بالنسخ ومن لم يسلمه ؟
وحكى الرازي عن أبي مسلم الخراساني في قوله تعالى :﴿ لم أذنت لهم ﴾ أنه ليس فيه ما يدل على أن ذلك الإذن في ماذا، فيحتمل أن بعضهم استأذن في القعود فأذن له، ويحتمل أن بعضهم استأذن في الخروج فأذن له، مع أنه ما كان خروجهم معه صوابا لأجل أنهم كانوا عيونا للمنافقين على المسلمين. فكانوا يثيرون الفتن ويبغون الغوائل، فلهذا السبب ما كان خروجهم مع الرسول مصلحة. قال القاضي : هذا بعيد ؛ لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك على وجه الذم للمتخلفين والمدح للمبادرين، وأيضا ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم اه ما نقله الرازي عنه وعن القاضي عبد الجبار في الرد عليه وكلاهما من المعتزلة.
وأقول : إن هذا الاحتمال الذي ذكره أبو مسلم مردود بأن الخروج إلى الجهاد ما كان يحتاج إلى إذن بعد إعلان النفير فيستأذنوا له. وأما كون خروجهم مفسدة فهو صحيح وسيأتي النص عليه[ في الآية ٤٧ ]، ولكن أولئك المستأذنين لم يكونوا يريدون الخروج كما تقدم، فكانت المصلحة في عدم الإذن لهم لينكشف سترهم، فيعرف النبي والمؤمنون كنه أمرهم، ويثبت هذا قوله تعالى :﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ﴾
ذكر البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة، والظاهر أن مراده لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شؤونهم بمثل ما في هذه السورة من التفصيل، كما قال الله له في الذين مردوا على النفاق ﴿ لا تعلمهم نحن نعلمهم ﴾ [ التوبة : ١٠١ ]، وستأتي في هذا السياق. إذ من المعلوم أن ذكر المنافقين وبعض صفاتهم وأقوالهم وأفعالهم جاءت في عدة سور نزلت قبل سورة براءة : منها سور المنافقين والأحزاب والنساء والأنفال والقتال والحشر، وأما سورة براءة فهي الفاضحة لهم والكاشفة لجميع أنواع نفاقهم الظاهرة والباطنة، وهذه الآيات أول السياق في هذا البيان للتفرقة بينهم وبين المؤمنين في أمر القتال، ولعله صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بعد نزولها.
﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ﴾ من الزاد والراحلة وغير ذلك مما يعد لمثل هذا السفر البعيد، وكانوا مستطيعين لذلك ولم يفعلوا، كما دلت عليه الآية.
﴿ ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ﴾ الانبعاث مطاوع البعث، وهو إثارة الإنسان أو الحيوان وتوجيهه إلى الشيء بقوة ونشاط كبعث الرسل، أو إزعاج كبعثت البعير فانبعث، وبعث الله الموتى. والتثبيط التعويق عن الأمر والمنع منه بالتكسيل أو التخذيل، ولم ترد في التنزيل إلا في هذه الآية. والمعنى كره الله نفرهم وخروجهم مع المؤمنين لما سيذكر من ضرره العائق عما أحبه وقدره من نصره، فثبطهم بما أحدث في قلوبهم من الخواطر والمخاوف التي هي مقتضى سنته في تأثير النفاق، فلم يعدوا للخروج عدته لأنهم لم يريدوه، وإنما أرادوا بالاستئذان ستر ما عزموا عليه من العصيان.
﴿ وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾ في هذا القيل وجوه :
أحدها : أنه تمثيل لداعية القعود التي هي أثر التثبيط، وفي معناه أنه أمر قدري تكويني لا خطاب كلامي.
والثاني : أنه قول الشيطان بالوسوسة.
والثالث : أنه قول بعضهم لبعض.
والرابع : أنه حكاية لإذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وأنه قاله بعبارة تدل على السخط لا على الرضاء، إذ معناه اقعدوا مع الأطفال والزمنى والعجزة والنساء، فأخذوه على ظاهره لموافقته لمرادهم.
ويحتج المجبرة ومنهم الأشعرية على المعتزلة بهذه الآية، ويتأولها هؤلاء بأنها لا تنافي وجوب مراعاة المصالح وتحسين العقل وتقبيحه، ومذهبنا في أمثالها أنها بيان لسنة الله تعالى في ترتيب الأعمال الاختيارية، على ما يبعث عليها من العقائد والصفات النفسية، وموافقة ذلك هنا لحكمته وعنايته تعالى بأمر المؤمنين، وذلك توفيق أقدار لأقدار، في ضمن دائرة الاختيار، فلا جبر ولا اضطرار للعبد، ولا وجوب على الرب، فالحكمة والرحمة وما في شرعه من موافقة المصالح ودرء المفاسد مما يجب له، ولا يجب عليه شيء إلا ما أوجبه وكتبه على نفسه كالرحمة.
هاتان الآيتان في بيان حال هؤلاء المنافقين ما كانت تكون عليه لو خرجوا، والتذكير بما كان من أحوالهم السابقة الدالة على ذلك.
قال عزَّ وجلَّ :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ﴾ هذا التفات عن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أمرهم إلى خطاب جماعة المؤمنين الذين معه، يقول : لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون في القعود في جماعتكم أيها المؤمنون ما زادوكم شيئا من الأشياء إلا خبالا، أي اضطرابا في الرأي، وفسادا في العمل، وضعفا في القتال، وخللا في النظام، فإن الخبال كما قال الراغب : هو الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطرابا كالجنون، والمرض المؤثر في العقل والفكر. والمراد ما زادوكم قوة ومنعة وإقداما، كما هو شأن القوة العددية المتحدة في العقيدة والمصلحة، بل ضعفا وفشلا ومفسدة، كما حصل في غزوة حنين، فإن المنافقين ولوا الأدبار في أول المعركة، وتبعهم ضعفاء الإيمان من المؤلفة قلوبهم من طلقاء فتح مكة، فاضطرب لذلك الجيش كله وفسد نظامه، فولى أكثر المؤمنين معهم بلا روية ولا تدبر، كما هو شأن جماعات البشر في مثل هذه الأحوال.
﴿ ولأوضعوا خلالكم ﴾ الوضع والإيضاع كما في التاج أهون سير الدواب، وقيل ضرب من سير الإبل دون الشد، وقيل هو فوق الخبب. قال الأزهري، ويقال : وضع الرجل إذا عدا أي أسرع وهو مجاز، ويقال أوضع راحلته اه. وخلال الأشياء ما يفصل بينها من فروج ونحوها، والمعنى ولأوضعوا ركائبهم أو ولأسرعوا في الدخول في خلالكم وما بينكم سعيا بالنميمة وتفريق الكلمة.
﴿ يبغونكم الفتنة ﴾ أي حال كونهم يبغون بذلك أن يفتنوكم بالتشكيك في الدين والتثبيط عن القتال، والتخويف من قوة الأعداء.
﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾ أي وفيكم أناس من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العزم والعقل كثيرو السمع لهم، لاستعدادهم لقبول وسوستهم. وقيل أناس نمامون يسمعون لأجلهم ما يعنيهم من أقوالكم فيلقونها إليهم، وهو بعيد وإن رجحه الطبري وقدمه الزمخشري، وسماع بالتشديد صيغة مبالغة لا يختص بما قاله الطبري فيها، فإن أولئك المنافقين الذين استأذنوا لم يكونوا معروفين متميزين بحيث تكون لهم هيئة مجتمعة في الجيش تتخذ الجواسيس لتنظيم عملها.
﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ من هؤلاء وغيرهم، أي محيط علما بذواتهم وسرائرهم وأعمالهم ما تقدم منها وما تأخر، وبما هم مستعدون له في كل حال مما وقع ومما لم يقع ولا يقع، ككون هؤلاء المنافقين لا يزيدون المؤمنين -لو خرجوا فيهم- إلا خبالا الخ، فهو كقوله في خلفاء اليهود منهم الذين كانوا يغرونهم بعداوة النبي صلى الله عليه وسلم ويغرونهم بما يعدونهم به من نصرهم عليه الذي حكاه عنهم في سورة الحشر وكذبهم فيه بقوله :﴿ لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون ﴾ [ الحشر : ١٢ ]، فأحكامه تعالى فيهم على علم تام، ليس فيها ظن ولا اجتهاد كاجتهاد الرسل في الإذن لهم، الذي تثبت هذه الآية نفسها أنه مبني على أصل صحيح، وهو أن خروجهم شر لا خير، وضعف لا قوة، ولكنه لم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم لا يخرجون إذا لم يأذن لهم ؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ومن أعلمه الله، ولم يعلمه تعالى بذلك قبل نزول هذه الآيات.
فاجتهاده صلوات الله وسلامه عليه فيهم كاجتهاده في الإعراض عن الأعمى [ عبد الله ابن أم مكتوم ] عندما جاءه وهو يدعو أكابر رجال قريش إلى الإسلام، وقد لاح له بارقة رجاء في إيمانهم بتحدثهم معه، فإنه صلى الله عليه وسلم علم أن إقباله عليه ينفرهم ويقطع عليه طريق دعوتهم، وكان يرجو بإيمانهم انتشار الإسلام في جميع العرب، فتولى عنه وتلهى بهذه الفكرة، ولم يكن يعلم قبل إعلام الله تعالى أن سنته في البشر أن يكون أول من يتبع الأنبياء والمصلحين فقراء الأمم وأوساطها، دون أكابر مجرميها المترفين ورؤسائها الذين يرون في اتباع غيرهم ضعة بذهاب رياستهم، ومساواتهم لمن دونهم الخ فيكفرون عنادا، ويجحدون بآيات الله استكبارا لا اعتقادا.
وكان من حكمة الله عزَّ وجلَّ في تربية رسوله وتكميله أن يبين له بعض الحقائق بعد اجتهاده الشخصي البشري فيها لتكون أوقع في نفسه وأنفس أتباعه، فيحرصوا على العمل بمقتضاها، ولا يبيحوا لأنفسهم تحكيم آرائهم أو أهوائهم فيها، وكذلك كان سلفنا الصالحون الذين أورثهم الله بهداية كتابه وسنة رسوله الأرض من بعد أهلها، فخلف من بعدهم خلف تركوها، فغلب عليهم الجهل والنفاق، فسلبهم ذلك الملك العظيم، فهل يفقه أهل عصرنا ويعتبرون ؟ ومتى يتدبرون ويهتدون ؟
هاتان الآيتان في بيان حال هؤلاء المنافقين ما كانت تكون عليه لو خرجوا، والتذكير بما كان من أحوالهم السابقة الدالة على ذلك.
﴿ لقد ابتغوا الفتنة من قبل ﴾ أي تالله لقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الفتنة في المسلمين من قبل هذا العهد عهد غزوة تبوك وأوله ما كان في غزوة أحد ﴿ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ﴾ [ آل عمران : ١٢٢ ]، وذلك أنهم لما خرجوا إلى أحد اعتزلهم عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين بنحو ثلث الجيش في موضع يسمى الشوط- بين المدينة وأحد- وطفق يقول لهم في النبي صلى الله عليه وسلم : أطاعهم وعصاني. وفي رواية : أطاع الولدان ومن لا رأي له، فما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا ؟ وكان رأي ابن أبي لعنه الله عدم الخروج إلى أحد، ورأي الجمهور ولا سيما الشبان الخروج، فعمل صلى الله عليه وسلم برأي الأكثر على أنه كان خلاف رأيه أيضاً، فرجع ابن أبي بمن اتبعه من المنافقين، وكاد يفشل بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج بقوله وفعله، فعصمهما الله تعالى من الفتنة بفضله، وذلك قوله تعالى :﴿ والله وليهما ﴾ وتقدم تفصيل ذلك في الكلام على غزوة أحد من تفسير الجزء الرابع.
﴿ وقلبوا لك الأمور ﴾ أي دبروا لك الحيل والمكايد، ودوَّروا الآراء في كل وجه من وجوهها لإبطال دينك، وفض قومهم من حولك، فإن تقليب الشيء تصريفه في كل وجه من وجوهه، والنظر في كل ناحية من أنحائه، ليعلم أيها الأولى بالاختيار. وما زال لهؤلاء المنافقين ضلع مع اليهود وضلع مع المشركين، في كل ما فعلا من عداوتك وقتال المؤمنين.
﴿ حتى جاء الحق ﴾ بالنصر الذي وعدك به ربك وكانوا به يمترون.
﴿ وظهر أمر الله وهم كارهون ﴾ أي ظهر دين الله على الدين كله بالتنكيل باليهود الغادرين، والنصر على المشركين، وإبطال الشرك بفتح مكة ودخول الناس في الإسلام أفواجا، وهم كارهون لذلك، حتى كانوا بعد الفتح يمنون أنفسهم بظهور المشركين على المؤمنين في حنين.
وقد روى ابن جرير الطبري في تفسير الآية من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم، كل قد حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها وبعض القوم يحدث ما لم يحدث بعض، وكل قد اجتمع حديثه في هذا الحديث : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طاب الثمار، وأحبت الظلال، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وأخبر أنه يريد غير الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي صمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاد، وأخبرهم أنه يريد الروم، فتجهز الناس على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه، لما فيه مع ما عظموا من ذكر الروم وغزوهم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره فأمر الناس بالجهاز والانكماش١، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي بن سلول عسكره على ذي حدة أسفل منه نحو ذباب جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، وكان عبد الله بن أبي أخا بني عوف بن الخزرج، وعبد الله بن نبتل أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن يزيد بن التابوت أخا بني قينقاع، وكانوا من عظماء المنافقين، وكانوا ممن يكيد للإسلام وأهله، قال وفيهم كما ثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري أنزل الله :﴿ لقد ابتغوا الفتنة من قبل ﴾ اه. وأول هذا التلخيص موافق لما لخصناه من قبل، وبقية ما ذكره عن ابن أبي وعسكره فيه مبالغة أشار الطبري إلى عدم ثقته بها بقوله[ فيما يزعمون ]، وتقدمت رواية من قال : إن المتخلفين ٣٦ رجلاً.
وزعم بعض المفسرين أن المراد بالفتنة في هذه الآية محاولة المنافقين اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجهم هذا. والصواب أن هذه الحادثة وقعت في أثناء العودة من تبوك، وهي المشار إليها في آية﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾ [ التوبة : ٧٤ ] وسيأتي بيانها.
هذا شروع في بيان حال أناس من أولئك المنافقين بأقوال قالوها فيما بينهم جهرا، وأمور أكنوها في أنفسهم سراً، وأقوال سيقولونها، وأقسام سيقسمونها، وأعذار سيعتذرونها غير ما سبق منهم. وشؤون عامة فيهم ـ أكثرها من أنباء الغيب ـ مع ما يتعلق بذلك ويناسبه من الحكم والأحكام، والعقائد والآداب.
قال عزَّ وجلَّ :
﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ﴾ هذا بيان لأول استئذان معين وقع من أولئك المنافقين في التخلف، واتفقت الروايات على أن جد بن قيس من شيوخهم قال هذا للنبي صلى الله عليه وسلم في أول عهد الدعوة للغزوة وأثناء التجهيز للسفر، وروي أن غيره منهم قال لما دعاهم إلى تبوك : إنه ليفتنكم بالنساء. أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس :( ما تقول في مجاهدة بني الأصفر ) ؟ قال : إني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن، فأْذن لي ولا تفتني. وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لجد بن قيس :( يا جد هل لك في جلاد بني الأصفر ) ؟ قال جد : أتأذن لي يا رسول الله فإني رجل أحب النساء، وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنه :( قد أذنت لك ) فأنزل الله الآية. وقد عبر عن قوله بالفعل المضارع لاستحضار تلك الحال لغرابتها، فإن مثله في نفاقه لا يخشى على نفسه إثم الافتتان بالنساء ؛ إذ لا يجد من دينه مانعاً من التمتع بهن وهو يحبهن، بل شأن ذلك أن يكون مرغباً له في هذه الغزوة.
وقد رد الله شبهته وشبهة من وافقه عليها ورددوا معناها بقوله :﴿ ألا في الفتنة سقطوا ﴾، بدأ الرد على قائلي هذا القول بأداة الافتتاح [ ألا ] المفيدة للتنبيه والتأمل فيما بعدها ولتحقيق مضمونه إن كان خبرا لتوجيه السمع والقلب له، وعبر عن افتتانهم بالسقوط في الفتنة للمبالغة، وقدم الظرف ﴿ في الفتنة ﴾ على عامله ﴿ سقطوا ﴾ للدلالة على الحصر، يقول : ألا فليعلموا أنهم سقطوا وتردوا بهذا القول في هاوية الفتنة بأوسع معناها، لا في شيء آخر من شبهاتها أو مشابهاتها، من حيث يزعمون اتقاء التعرض لشبهة نوع من أنواعها، وهو الإثم بالنظر إلى جمال نساء الروم واشتغال القلب بجمالهن، فتردوا في شر مما اعتذروا به.
﴿ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾ هذا وعيد لهم على الفتنة التي تردوا فيها، وضع فيه المظهر موضع ضميرهم للنص على أن عقابهم بإحاطة جهنم بهم عقاب على الكفر الذي حملهم على ذلك الاعتذار الذي هو ذنب في نفسه كان أقصى عقابه مس النار دون إحاطتها لو لم يكن سببه الكفر بتكذيب الرسول فيما جاء به من حكم الجهاد وثوابه والعقاب على تركه، أو الشك في ذلك كما قال آنفا :﴿ وارتابت قلوبهم ﴾، وقلما يكون الكفر إلا شكاً أو ظنا، فإن رأيت صاحبه موقنا فيه فاعلم أن يقينه سكون النفس إليه عن جهل لا عن علم، والمراد أن جهنم ستكون محيطة بهم جامعة لهم يوم القيامة، وإنما عبر عن ذلك باسم الفاعل الدال على الحال لإفادة تحقق ذلك حتى كأنه واقع مشاهد، ويحتمل أن يقال : إنها محيطة بهم الآن ؛ لأن أسباب الإحاطة معهم، فكأنهم في وسطها، قاله الزمخشري، وإنما تحيط النار بمن أحاطت به خطاياه حتى لا رجاء في توبته ﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ [ البقرة : ٨١ ].
هذا شروع في بيان حال أناس من أولئك المنافقين بأقوال قالوها فيما بينهم جهرا، وأمور أكنوها في أنفسهم سراً، وأقوال سيقولونها، وأقسام سيقسمونها، وأعذار سيعتذرونها غير ما سبق منهم. وشؤون عامة فيهم ـ أكثرها من أنباء الغيب ـ مع ما يتعلق بذلك ويناسبه من الحكم والأحكام، والعقائد والآداب.
﴿ إن تصبك حسنة تسؤهم ﴾ المتبادر أن هذا إخبار عن شأنهم في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، والحسنة كل ما يحسن وقعه ويسر من غنيمة ونصرة ونعمة، أي أنه يسوءهم كل ما يسرك، كما ساءهم النصر في بدر وغير بدر من الغزوات.
﴿ وإن تصبك مصيبة ﴾ أي نكبة وشدة كالذي وقع في غزوة أحد.
﴿ يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ﴾ أي قد أخذنا أمرنا بالحزم والحذر الذي هو دأبنا من قبل وقوعها إذ تخلفنا عن القتال، ولم نلق بأيدينا إلى الهلاك.
﴿ ويتولوا وهم فرحون ﴾ أي وينصرفوا عن الموضع الذي يقولون فيه هذا القول عند بلوغهم خبر المصيبة إلى أهليهم، أو يعرضوا عنك بجانبهم وهم فرحون فرح البطر والشماتة. وتقدم في معنى الآية قوله :﴿ إن تمسسكم حسنة تسؤهم ﴾ [ آل عمران : ١٢٠ ] وهي في سياق غزوة أحد.
وقد ورد في التفسير المأثور ما يدل على أن الآية خبر عن مستقبل الأمر في غزوة تبوك. روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال : إن تصبك في سفرك هذا لغزوة تبوك حسنة تسؤهم، قال : الجد وأصحابه.
وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : جعل المنافقون الذين تخلفوا في المدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء، يقولون : إن محمداً وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم تكذيب خبرهم وعافية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فساءهم ذلك، فأنزل الله تعالى :﴿ إن تصبك حسنة تسؤهم ﴾.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : إن أظفرك الله وردك سالماً ساءهم ذلك، وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا في القعود قبل أن تصيبهم.
والأول أبلغ وهو يشمل هذا وغيره.
هذا شروع في بيان حال أناس من أولئك المنافقين بأقوال قالوها فيما بينهم جهرا، وأمور أكنوها في أنفسهم سراً، وأقوال سيقولونها، وأقسام سيقسمونها، وأعذار سيعتذرونها غير ما سبق منهم. وشؤون عامة فيهم ـ أكثرها من أنباء الغيب ـ مع ما يتعلق بذلك ويناسبه من الحكم والأحكام، والعقائد والآداب.
﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين الذين تفرحهم مصيبتك، وتسوءهم نعمتك وغنيمتك، لن يصيبنا إلا ما كتبه الله وأوجبه لنا بوعده في كتابه، وتقديره لنظام سننه في خلقه، من نصر وغنيمة وتمحيص وشهادة، وضمان لحسن العاقبة.
﴿ هو مولانا ﴾ أي هو وحده مولانا يتولانا بالتوفيق والنصر، ونتولاه باللجأ إليه، والتوكل عليه، فلا نيأس عند شدة، ولا نبطر عند نعمة، وقد قال لنا في وعده ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ﴾ [ الأنفال : ٣٩، ٤٠ ]، وقال في بيان سنته في خلقه ﴿ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ﴾ [ محمد : ١٠، ١١ ]، وقال في سنته في العواقب ﴿ إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ].
﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ أمر مبني على ما قبله، أي وإذ كان الله هو مولاهم فحق عليهم أن يتوكلوا عليه وحده دون غيره، مع القيام بما أوجبه عليهم في شرعه، والاهتداء بسننه في خلقه، ومنها ما أخبرهم به من أسباب النصر المادية والمعنوية التي فصلها في سورة الأنفال وغيرها، كإعداد ما تستطيع الأمة من قوة، واتقاء التنازع الذي يولد الفشل ويفرق الكلمة، وذلك بأن يكلوا إليه توفيقهم لما يتوقف عليه النجاح وتسهيل أسبابه التي لم يصل إليها كسبهم، وما أجهل من يظن أن التوكل وكتابة المقادير يقتضيان ترك العمل والتدبير، وقد بسطنا القول في الأمرين في مواضع من هذا التفسير. ويقابل التوكل عليه تعالى بالمعنى الذي ذكرناه، وما أيدناه به من كتاب الله، اتكال الماديين على حولهم وقوتهم وحدها، حتى إذا ما أدركهم العجز وخانتهم القوة أمام قوة تفوقها، خانهم الصبر، وأدركهم اليأس، إذ ليس لهم ما للمؤمنين من التوكل على ذي القوة التي لا تعلوها قوة، وشر منه اتكال الخرافيين على الأوهام، وتعلق آمالهم بالأماني والأحلام، حتى إذا ما انكشفت أوهامهم، وكذبت أحلامهم، وخابت آمالهم، نكسوا رؤوسهم، ونكصوا على أعقابهم، واستكانوا لأعدائهم، وكفروا بوعد ربهم بنصر المؤمنين. ووعد الله أصدق من دعواهم الإيمان، وإنما وعد بالنصر أولياءه لا أولياء الشيطان.
هذا شروع في بيان حال أناس من أولئك المنافقين بأقوال قالوها فيما بينهم جهرا، وأمور أكنوها في أنفسهم سراً، وأقوال سيقولونها، وأقسام سيقسمونها، وأعذار سيعتذرونها غير ما سبق منهم. وشؤون عامة فيهم ـ أكثرها من أنباء الغيب ـ مع ما يتعلق بذلك ويناسبه من الحكم والأحكام، والعقائد والآداب.
﴿ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ﴾ التربص التمهل في انتظار ما يرجى أو يتمنى وقوعه، ومضمون هذا بدل مما قبله أو بيان له، والحسنيان مثنى الحسنى وهي اسم التفضيل للمؤنث، والاستفهام للتقرير والتحقيق، والجملة تفيد الحصر، أي قل لهم أيضا : هل تتربصون بنا أيها الجاهلون إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما حسنى العواقب وفضلاها، وهما النصرة والشهادة، النصرة المضمونة للجماعة، والشهادة المكتوبة لبعض الأفراد ؟ أي لا شيء ينتظر لنا غير هاتين العاقبتين مما كتب لنا ربنا وأنتم تجهلون ما تتربصون بنا. ﴿ ونحن نتربص بكم ﴾ في مقابلة ذلك إحدى السوءيين :
﴿ أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ﴾ الأولى أن يهلككم بقارعة سماوية لا كسب لنا فيها، كما أهلك من قبلكم من الكافرين الذي كذبوا الرسل، والثانية أن يأذن لنا بقتلكم، إن أغراكم الشيطان بإظهار كفركم، بهذا الاستدراج في الاستمرار على إجرامكم، كما قال في سياق غزوة الأحزاب ﴿ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ﴾ [ الأحزاب : ٦٠ ] الآيات، وحكم الشرع أنهم لا يقتلون ما داموا يظهرون الإسلام بإقامة الشعائر وأداء الأركان، ولا سيما الصلاة والزكاة. ولم تذكر هاتان العاقبتان لهم بصيغة الحصر كعاقبتي المؤمنين لجواز أن يتوبوا عن نفاقهم ويصح إيمانهم، وقد تاب بعضهم، واعترفوا بما كانوا عليه بعد ظهور أمرهم، كالذين أخبرهم النبي بما اءتمروا به من اغتياله صلى الله عليه وسلم. ومن المعقول أن يكون أكثر الباقين تابوا بعد أن أنجز الله لرسوله جميع ما وعده به، ووقع ما كانوا يحذرونه من تنزيل سورة تنبئهم بما في قلوبهم، ومنها فضيحته تعالى لزعيمهم الذي مات على كفره. ولو ذكر ذلك في التنزيل بصيغة الحصر لكان خبراً بخلاف ما سيقع وهو هلاكهم بكفرهم بدون الشرط الذين بيناه.
﴿ فتربصوا إنا معكم متربصون ﴾ أي وإذ كان الأمر كذلك فتربصوا بنا إنا معكم متربصون ما ذكر من عاقبتنا وعاقبتكم، إن أصررتم على كفركم وظهر أمركم، مما نحن فيه على بينة من ربنا ولا بينة لكم، ويا الله ما أبلغ الإيجاز في حذف مفعولي تربصهما وفي التعبير عن تربص المؤمنين بالصفة الدالة على تمكن الثقة من متعلقه !
هذه الآيات الثلاث في مسألة النفقة في القتال، وهي الجهاد المفروض في المال، ومثلها سائر النفقات، في حكم ما يعتورها من الرياء الإخلاص.
روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الجد بن قيس إلى جهاد الروم قال : إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى افتتن، ولكن أعينك بمالي. ففيه نزل ﴿ قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم ﴾، وقد ضعف [ الطبري ] هذا القول بالتعبير عنه بقيل، والحق أن الآية عامة تشمل هذا وغيره، وأنها نزلت مع غيرها من هذا السياق في أثناء السفر لا عقب قول جد بن قيس ما قاله قبله.
والمعنى : قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين : أنفقوا ما شئتم من أموالكم في الجهاد أو غيره مما أمر الله به في حال الطوع للتقية، أو الكره خوف العقوبة، فمهما تنفقوا في الحالين لن يتقبل الله منكم شيئاً منه، ما دمتم على شك مما جاءكم به الرسول من أمر الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة.
وقيل معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل منهم ما ينفقونه، ولكن هذا لا يصح على إطلاقه في جميعهم، لأن مقتضى إجراء أحكام الشريعة عليهم تقتضي وجوب أخذ زكاتهم ونفقاتهم، إلا أن يوجد مانع خاص في شأن بعضهم، كما سيأتي في تفسير﴿ ومنهم من عاهد الله ﴾ [ التوبة : ٧٥ ] الآيات.
قال الإمام ابن جرير وتبعه غيره : وخرج قوله :﴿ أنفقوا طوعاً أو كرهاً ] مخرج الأمر ومعناه الخبر. والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها «إن » التي تأتي بمعنى الجزاء، كما قال جل ثناؤه { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾ [ التوبة : ٨٠ ] فهو في لفظ الأمر ومعناه الخبر، ومنه قول الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقليّة إن تقلَّتِ١
فكذلك قوله :﴿ أنفقوا طوعاً أو كرهاً ﴾ إنما معناه : إن تنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم اه.
﴿ إنكم كنتم قوما فاسقين ﴾ هذا تعليل لعدم قبول نفقاتهم، ومعناه أن إنفاقكم طائعين أو مكرهين سيان في عدم القبول لأنكم كنتم قوما فاسقين، و﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ [ المائدة : ٢٧ ] والمراد بالفسوق الخروج من دائرة الإيمان، الذي هو شرط لقبول الأعمال مع الإخلاص، وهو كثير الاستعمال في القرآن، وتخصيصه بالمعاصي من اصطلاح الفقهاء. فليعتبر بهذا منافقو هذا الزمان، الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ويعلنون أمرها في صحف الأخبار، ليشتهروا بها في الأقطار،
هذه الآيات الثلاث في مسألة النفقة في القتال، وهي الجهاد المفروض في المال، ومثلها سائر النفقات، في حكم ما يعتورها من الرياء الإخلاص.
ثم بين تعالى ما في هذا التعليل من الإجمال فقال :﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ﴾ أي وما منعهم قبول نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بالله وصفاته على الوجه الحق، ومنها الحكمة والتنزه عن العبث في خلق الخلق وهدايتهم وجزائهم على أعمالهم، وكفرهم برسالة رسوله وما جاء به من البينات والهدى. قرأ الجمهور[ تقبل ] بالمثناة الفوقية، وقرأها حمزة والكسائي بالتحتية، وتأنيث النفقات لفظي لا حقيقي فيجوز تذكير فعله.
﴿ ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ﴾ ففعلهم لهذين الركنيين من أركان الإسلام، اللذين هما أظهر آيات الإيمان، لا يدل على صحة إيمانهم لأنهم يأتونهما رياء وتقية لا إيمانا بوجوبهما، ولا قصداً إلى تكميل أنفسهم بما شرعهما الله لأجله، واحتساباً لأجرهما عنده، أما الصلاة فلا يأتونها إلا وهم كسالى، أي في حال الكسل والتثاقل منها، فلا تنشط لها أبدانهم، ولا تنشرح لها صدورهم، زاد في سورة النساء ﴿ يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً ﴾ [ النساء : ١٤٢ ]، وقد أمر الله المؤمنين بإقامة الصلاة لا بمجرد الإتيان بصورتها، ووصفهم بالخشوع فيها، وهو ينافي الكسل عند القيام إليها، فعلى كل مسلم أن يحاسب نفسه ليعلم هل صلاته صلاة المؤمنين، أم صلاة المنافقين ؟
وأما الإنفاق في مصالح الجهاد وغيرها فلا يؤتونه إلا وهم كارهون له، غير طيبة أنفسهم به، لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم مضروبة عليهم، تقوم بها مرافق المؤمنين وهم يعلمون من أنفسهم أنهم ليسوا منهم، فلا يرون لهم بها نفعاً في الدنيا، ولا يؤمنون بنفعها لهم في الآخرة. وبما قررناه يندفع إيراد بعضهم أن الكفر وحده كاف في عدم قبول نفقاتهم، فأي حاجة إلى وصفهم بالكسل عند إتيان الصلاة وكره أداء الزكاة وغيرها من نفقات البر ؟ وتمحل الجواب عنه على مذهب المعتزلة أو الأشعرية، فإن وصفهما بما ذكر تقرير لكفرهم ودفع للشبهة التي ترد عليه بالصلاة والزكاة كما بيناه.
قال الزمخشري :[ فإن قلت ] الكراهية خلاف الطواعية، وقد جعلهم الله طائعين في قوله :﴿ طوعاً ﴾ ثم وصفهم بأنهم ( لا ينفقون إلا وهم كارهون ) [ قلت ] : المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار، لا عن رغبة واختيار اه على أنه فسر الكره في الآية الأولى بالإكراه.
والراجح عندي ما قدمته من أن المراد بطوعهم ما كان بقصد التقية لإخفاء كفرهم، وهو يقتضي كرهه في قلوبهم وعدم إخلاصهم فيه، وهو ما أثبته لهم في الآية الثانية بصيغة الحصر، وحاصله أن المراد به طواعية المصلحة أو الطبع، لا طاعة الشرع، وقد يقال : إن الترديد بين الطوع والكره في مثل هذا التعبير لا يقتضي إثبات وقوع كل منهما، وإنما المراد منه أنه مهما يكن الواقع فهي غير مقبولة، لوجود الكفر المانع من القبول، ومن أطاع الله ورسوله فيما يسهل عليه وعصاهما فيما يشق عليه فلا يعد مذعناً للأمر والنهي لأنه حكم الله، ومن لم يكن مذعناً لا يكون مؤمناً، ﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ﴾ [ البقرة : ٨٥ ]، وقد بايع المؤمنون رسول الله على الطاعة في المنشط والمكره.
هذه الآيات الثلاث في مسألة النفقة في القتال، وهي الجهاد المفروض في المال، ومثلها سائر النفقات، في حكم ما يعتورها من الرياء الإخلاص.
ولما كان أولئك المنافقون من أولي الطول والسعة في الدنيا -كما سيأتي في قوله :﴿ استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ﴾ [ التوبة : ٨٦ ]، وكان ترف الغنى وطغيانه أقوى أسباب إعراضهم عن آيات الله والتأمل في محاسن الإسلام - بين الله تعالى للمؤمنين سوء عاقبتهم فيه فقال :﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾ الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راض به، فتعجب من حسنه كما قال الزمخشري، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من سمع القول أو بلغه، والكلام مرتب على ما قبله، كأنه يقول : إذا كان هذا شأنهم في مظنة ما ينتفعون به من أموالهم، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، فلا تعجبك أيها الرسول أو أيها السامع أموالهم ولا أولادهم التي هي في نفسها من أكبر النعم وأجلها، ولا تظن أنهم وقد حرموا من ثوابها في الآخرة قد صفا لهم نعيمها في الدنيا، وعلل النهي بقوله :﴿ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ﴾ بما يعرض لهم فيها من المنغصات والحسرات، أما الأموال فإنهم يتعبون في جمعها، ويحرصون على حفظها، ويشق عليهم ما ينفقونه منها من زكاة وإعانة على قتال وإنفاق على قريب من المؤمنين، وأشق منه اعتقادهم أنهم يتركونها بعدهم لمصالح المسلمين، لأن ورثتهم منهم في الغالب حتى زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبي [ لعنه الله ] -كما سيأتي في الآيات التي نزلت في خبر موته على كفره وأعيدت هذه الآية فيها. وأما الأولاد فلأنهم يرونهم قد نشؤوا في الإسلام واطمأنت به قلوبهم، وأنهم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وكل هذه حسرات في قلوبهم. ولقد كان ثعلبة -الذي عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين، ثم نقض عهده وأخلف الله ما وعده بعد أن أغناه - أشدهم حسرة بامتناع الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه عن قبول زكاته.
﴿ وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾ فيعذبون بها في الآخرة أشد مما عذبوا بها في الدنيا بموتهم على كفرهم المحبط لعملهم، زهوق الأنفس خروجها من الأجساد. وقال بعض المفسرين : هو الخروج بصعوبة، وفي التنزيل ﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل ﴾ [ الإسراء : ٨١ ] أي هلك واضمحل، وجعله في الأساس مجازا، والظاهر أنه من زهق السهم إذا سقط دون الهدف، وورد زهقت الناقة بمعنى أسرعت، فالتعبير بالزهوق هنا إما من الأول أي الهلاك وهو الأظهر، وإما من الإسراع للإشارة إلى أنه لم يبق من أعمارهم إلا القليل حقيقة، أو من قبيل قوله تعالى فيهم :﴿ قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً ﴾ [ الأحزاب : ١٦ ].
هاتان الآيتان في بيان سبب النفاق ومصانعة المنافقين للمؤمنين وهو الخوف وبيان حالهم فيه.
قال عزَّ وجلَّ :﴿ ويحلفون بالله إنهم لمنكم ﴾ قال الطبري : ويحلفون بالله لكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون كذباً وباطلاً إنهم لمنكم في الدين والملة.
﴿ وما هم منكم ﴾ أي ليسو من أهل دينكم وملتكم بل هم أهل شك ونفاق.
﴿ ولكنهم قوم يفرقون ﴾ يقول : ولكنهم قوم يخافونكم، فهم خوفاً منكم يقولون بألسنتهم أنهم منكم ليأمنوا فيكم فلا يقتلوا اه. وأقول : إن الفرق بالتحريك الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه، أو هو كما قال الراغب : تفرق القلب من الخوف، واستعمال الفرق فيه كاستعمال الصدع والشق فيه، وفعله بوزن فرح، فالمعنى أنهم يحلفون من شدة خوفهم الذي فرق قلوبهم ومزقها. ثم بين سوء حالهم في هذا الفرق بقوله :
هاتان الآيتان في بيان سبب النفاق ومصانعة المنافقين للمؤمنين وهو الخوف وبيان حالهم فيه.
﴿ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ﴾ الملجأ المكان الذي يلجأ إليه الخائف ليعتصم من حصن أو قلعة أو جزيرة في بحر أو قنة في جبل، والمغارات جمع مغارة وهي الغار في الجبل، وتقدم اشتقاقه في تفسير آية الغار، والمدخل بالتشديد [ مفتعل من الدخول ] السرب في الأرض يدخله الإنسان بمشقة، والجماح السرعة الشديدة التي تتعسر مقاومتها أو تتعذر.
يقول إنهم لشدة كرههم للقتال معكم ولمعاشرتكم، ولشدة رعبهم من ظهور نفاقهم لكم، يتمنون الفرار منكم والمعيشة في مضيق من الأرض يعتصمون به من انتقامكم، بحيث لو يجدون ملجأ يلجؤون إليه، أو مغارات يغورون فيها، أو مدخلاً يندسون وينجحرون فيه، لولوا إليه أي إلى ما يجدونه مما ذكر وهم يسرعون مقتحمين كالفرس الجموح لا يردهم شيء. وهذا الوصف من أبلغ مبالغة القرآن في تصوير الحقائق التي لا تتجلى للفهم والعبرة بدونها، فتصور شخوصهم وهم يعدون بغير نظام، يلهثون كما تلهث الكلاب، يتسابقون إلى تلك الملاجئ من مغارات ومدخلات، فيتسلقون إليها، أو يندسون فيها، فكذلك كان تصورهم عند ما سمعوا الآية في وصفهم.
قال ابن جرير : وإنما وصفهم الله بما وصفهم به من هذه الصفة لأنهم إنما قاموا بين أظهر صحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم، ولما هم عليه من الإيمان بالله وبرسوله، لأنهم كانوا في قومهم وعشيرتهم وفي دورهم وأموالهم، فلم يقدروا على ترك ذلك وفراقه فصانعوا القوم بالنفاق، ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بالكفر [ كذا ولعل أصله بإخفاء الكفر ] ودعوى الإيمان، وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به والعداوة لهم اه.
كان المنافقون يرتقبون الفرص للصد عن الإسلام بالطعن على النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه التي يظنون أنها توقع الريب في قلوب ضعفاء الإيمان من الجانب الذي يوافق أهواءهم، وقد كان منها قسمة الصدقات والغنائم.
روى البخاري والنسائي ومصنفو التفسير المأثور عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله، فقال :( ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ ) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ائذن لي فأضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )١ الحديث بطوله. قال [ أبو سعيد ] : فنزلت فيهم ﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات ﴾ الآية.
وروى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين سمع رجلاً يقول : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ! فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال :( رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )، ونزل ﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات ﴾.
وروى سنيد وابن جرير عن داود بن أبي عصام قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت، ورآه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل، فنزلت هذه الآية.
وهنالك روايات أخرى يدل مجموعها على أن هذا القول قاله أفراد من المنافقين، وكان سببه حرمانهم من العطية كما هو مصرح به في الآية، وكانوا من منافقي الأنصار، بل كان جميع المنافقين قبل فتح مكة من أهل المدينة وما حولها ولم يكن أحد منهم من المهاجرين ؛ لأن جميع هؤلاء السابقين الأولين أسلموا في وقت ضعف الإسلام واحتملوا الإيذاء الشديد في سبيل إسلامهم، ولا من الأنصار الأولين كالذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في منى وقد تقدم في الكلام على غزوة حنين من هذا الجزء سبب حرمان النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار من غنائم هوازن، ومن استاء منهم ومن تكلم، وإرضاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم، ولكن الآية نص في قسمة الصدقات، فجعل الغنائم سبباً لنزولها من جملة تساهلهم فيما يسمونه أسباب النزول.
قال تعالى :
﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات ﴾ اللمز مصدر لمزه إذا عابه وطعن عليه مطلقاً أو في وجهه، وأما همزه همزاً فمعناه عابه في غيبته، وأصله العض والضغط على الشيء.
والمعنى ومن هؤلاء المنافقين من يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات وهي أموال الزكاة المفروضة يزعمون أنك تحابي فيه.
ا ﴿ فإن أعطوا منها رضوا ﴾ وإن لم يكن عطاؤهم باستحقاق كأن أظهروا الفقر كذباً واحتيالاً أو كان لتأليف قلوبهم.
﴿ وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ﴾ أي وإن لم يعطوا منها فاجأهم السخط أو فاجؤوك به وإن لم يكونوا مستحقين للعطاء، لأنه لا هم لهم ولا حظ من الإسلام إلا المنفعة الدنيوية كنيل الحطام. وقد عبر عن رضاهم بصيغة الماضي للدلالة على أنه كان يكون لأجل العطاء في وقته وينقضي، فلا يعدونه نعمة يتمنون دوام الإسلام لدوامها، وعبر عن سخطهم بإذا الفجائية وبفعل المضارع للدلالة على سرعته واستمراره. وهذا دأب المنافقين وخلقهم في كل زمان ومكان، كما نراه بالعيان، حتى من مدعي كمال الإيمان، والعلم والعرفان.
كان المنافقون يرتقبون الفرص للصد عن الإسلام بالطعن على النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه التي يظنون أنها توقع الريب في قلوب ضعفاء الإيمان من الجانب الذي يوافق أهواءهم، وقد كان منها قسمة الصدقات والغنائم.
روى البخاري والنسائي ومصنفو التفسير المأثور عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله، فقال :( ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ ) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ائذن لي فأضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )١ الحديث بطوله. قال [ أبو سعيد ] : فنزلت فيهم ﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات ﴾ الآية.
وروى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين سمع رجلاً يقول : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ! فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال :( رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )، ونزل ﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات ﴾.
وروى سنيد وابن جرير عن داود بن أبي عصام قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت، ورآه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل، فنزلت هذه الآية.
وهنالك روايات أخرى يدل مجموعها على أن هذا القول قاله أفراد من المنافقين، وكان سببه حرمانهم من العطية كما هو مصرح به في الآية، وكانوا من منافقي الأنصار، بل كان جميع المنافقين قبل فتح مكة من أهل المدينة وما حولها ولم يكن أحد منهم من المهاجرين ؛ لأن جميع هؤلاء السابقين الأولين أسلموا في وقت ضعف الإسلام واحتملوا الإيذاء الشديد في سبيل إسلامهم، ولا من الأنصار الأولين كالذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في منى وقد تقدم في الكلام على غزوة حنين من هذا الجزء سبب حرمان النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار من غنائم هوازن، ومن استاء منهم ومن تكلم، وإرضاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم، ولكن الآية نص في قسمة الصدقات، فجعل الغنائم سبباً لنزولها من جملة تساهلهم فيما يسمونه أسباب النزول.
﴿ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله ﴾ أي ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الله من فضله بما أنعم عليهم من الغنائم وغيرها، وأعطاهم رسوله بقسمه للغنائم والصدقات كما أمره الله تعالى.
﴿ وقالوا حسبنا الله ﴾ أي هو محسبنا وكافينا في كل حال.
﴿ سيؤتينا الله من فضله ورسوله ﴾ أي سيعطينا الله من فضله في المستقبل من الغنائم والكسب ؛ لأن فضله دائم لا ينقطع، ويعطينا رسوله مما يرد عليه من الغنائم والصدقات زيادة مما أعطانا من قبل لا يبخس أحداً منا حقاً يستحقه في شرع الله تعالى.
﴿ إنا إلى الله راغبون ﴾ لا نرغب إلى غيره في شيء، لأن بيده ملكوت كل شيء، فإليه نتوجه، ومنه نرجو أن يبسط لنا في الرزق بما يوفقنا له من العمل ويهبه لنا من النصر لكان خيرا لهم.
الرغب بالتحريك يتعدى بنفسه يقال : رغبه، ويعدى بفي يقال : رغب فيه، أي أحب حصوله له وتوجه شوقه إلى طلبه، ويتعدى بعن لضد ذلك فيقال : رغب عنه، ومنه ﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾ [ البقرة : ١٣٠ ]، وأما تعديته بإلى فهو بمعنى التوجه إلى الغاية التي ليس بعدها غاية، ولا ينبغي هذا إلا لله تعالى إذا أريد بالغاية ما بعد الأسباب المعروفة للبشر وهو مقام التوكل، ولذلك لم يقل : إنهم يقولون حسبنا الله ورسوله، كما يقولون سيؤتينا الله من فضله ورسوله، فللرسول صلى الله عليه وسلم كسب في الإيتاء بعد فضل الله تعالى، ولكن المحسب الكافي هو الله وحده، كما قال ﴿ أليس الله بكاف عبده ؟ ﴾ [ الزمر : ٣٦ ] وقال :﴿ ومن يتوكل على الله فهو حسبه ﴾[ الطلاق : ٣ ]، ولذلك استعمل في التنزيل بالصيغة الدالة على الحصر، وما ثم إلا هذه الجملة في هذه السورة ومثلها في سورة الأنبياء ﴿ إنا إلى ربنا راغبون ﴾ [ القلم : ٣٢ ]، وقوله تعالى لرسوله في سورة الانشراح ﴿ وإلى ربك فارغب ﴾ [ الشرح : ٨ ].
وإنما حذف جواب الشرط للعلم به من القرينة، وتفصيل المعنى : ولو أنهم رضوا من الله بنعمته، ومن الرسول بقسمته، وعلقوا أملهم ورجاءهم بفضل الله وكفايته، وما سينعم به في المستقبل، وبعدل الرسول صلى الله عليه وسلم في القسمة، وانتهت رغبتهم في هذا وغيره إلى الله وحده، لكان خيرا لهم من الطمع في غير مطمع، ولمز الرسول المعصوم من كل ملمز ومهمز، صلوات الله وسلامه عليه. والآيتان تهديان المؤمن إلى القناعة بكسبه وما يناله بحق من صدقة ونحوها، ثم بأن يوجه قلبه إلى ربه، ولا يرغب إلا إليه في شيء من رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية، لا إلى الرسول ولا إلى من دونه فضلاً وعدلاً وقرباً من الله تعالى بالأولى، فتعسا لعباد القبور، والراغبين إلى ما دفن فيها في مهمات الأمور.
لما كان طمع البشر في المال لا حد له، وقد يكون الغني أشد طمعاً فيه من الفقير، وكان ضعيف الإيمان لا يرضيه قسمة الرسول المعصوم له إذا لم يعطه ما يرضي طمعه، وكان غير المعصوم من أولياء الأمور ومن الأغنياء عرضة لاتباع الهوى في قسمة الصدقات، بين الله تعالى مصارفها بنص كتابه فقال :
﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ﴾ هذه الآية ناطقة بوجوب قصر الصدقات الواجبة -وهي زكاة النقود عيناً أو تجارة والأنعام والزرع والركاز والمعدن- على الأصناف السبعة أو الثمانية المنصوصة فيها دون غيرهم، وهي حجة على من لمز النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين بعدم إعطائهم منها وهم ليسوا منهم وقاطعة لأطماع أمثالهم، واللام في قوله ﴿ للفقراء ﴾ للملك وللاستحقاق أو بتقدير مفروضة كما يدل عليه قوله في آخر الآية ﴿ فريضة من الله ﴾ وسيأتي حكم سائر المعطوفات.
وجمهور الفقهاء على أن الفقراء والمساكين صنفان مستقلان، وقد اختلفوا في تعريف كل منهما بما ذهب به بعضهم إلى أن الفقير أسوأ حالاً وأشد حاجة من المسكين، وبعضهم إلى العكس، وجعلوا ذلك من تقاليد المذاهب التي يتعصب لها بعضهم على بعض. ويرى بعض العلماء المستقلين أنهما قسمان لصنف واحد يختلفان بالوصف لا بالجنس، وهو المختار لنا، ولم يجمع الذكر الحكيم بينهما إلا في هذه الآية، ويكفي من دلالة العطف فيها على المغايرة ما اخترناه في تغايرهما في الوصف. فالفقير في اللغة خلاف الغني ومقابله مقابلة التضاد كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما ﴾ [ النساء : ١٣٥ ]، وقوله :﴿ إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ﴾ [ النور : ٣٢ ]، والغني المطلق هو الله تعالى وكل عباده فقير إليه، كما قاله :﴿ والله الغني وأنتم الفقراء ﴾ [ محمد : ٣٨ ]، وأما فقر الناس بعضهم إلى بعض فهو أمر نسبي، فما من غني إلا وهو مفتقر إلى غيره ممن فوقه وممن دونه أيضاً، ولكن ذكر الفقير في مقابلة الغني أو إطلاق ذكره يدل على المحتاج في معيشته إلى مواساة غيره لعدم وجود ما يكفيه بحسب حاله، ويطلق الفقير في اللغة على الكسير الفقار، ومن يشتكي فقاره وهي جمع فقرة وفقارة [ بفتحهما ] عظام الظهر المنضودة من لدن الكاهل إلى عجب الذنب في الصلب وهذا هو المعنى الأصلي، والمعنى الأول مأخوذ منه كما قيل. ومنه الفاقرة وهي الداهية والمصيبة التي تكسر فقار الظهر.
وأما المسكين فمأخوذ من مادة السكون المراد به قلة الحركة والاضطراب الحسي من الضعف والعجز، أو النفسي من القناعة والصبر، وإنما يطلق على الفقير إذا كان الفقر سبب سكونه. قال في الصحاح : المسكين الفقير، وقد يكون بمعنى الذلة والضعف اه. وقال بعضهم : إنه الفقير القانع الذي لا يسأل، وقيل خلاف ذلك، والأول أولى. وقالوا : إن لفظ المسكين يستعمل بمعنى الذليل والضعيف، وبمعنى المتواضع المخبت والخاشع لله تعالى، ومقابله والجعظري الجواظ المتكبر، ويقال سكن الرجل وتسكن وتمسكن إذا صار مسكيناً. ولكن صيغة تمسكن يدل على تكلف المسكنة ومحاولتها بالتخلق والتعود. وقال اللحياني : تمسكن لربه تضرع. وفي الحديث المرفوع ( اللهم أحيني مسكيناً وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين )١ رواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وصححه وأقره الذهبي ولكن ضعفه النووي، ورواه الترمذي من حديث أنس بسند ضعيف. وقال ابن الجوزي : إنه موضوع، وخطأه السيوطي، وفيه زيادة عند الحاكم وأخرى عند الترمذي، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بالله من الفقر، وقد امتن عليه ربه بقوله :﴿ ووجدك عائلا فأغنى ﴾ [ الضحى : ٨ ]، فلا يعقل مع هذا أن يسأله أشد الفقر، وقد عاش صلى الله عليه وسلم مكفيا ومات مكفياً.
وقال الفيروزأبادي : والمسكين من لا شيء له أو الفقير المحتاج. والمسكين من أذله الفقر أو غيره من الأحوال اه. قال شارحه : قال ابن عرفة : فإذا كانت مسكنته من جهة الفقر حلت له الصدقة، وكان فقيراً مسكيناً، وإذا كان مسكيناً قد أذله سوى الفقر فالصدقة لا تحل له، إذ كان شائعاً في اللغة أن يقال ضرب فلان المسكين وظلم المسكين وهو من أهل الثروة واليسار وإنما لحقه اسم المسكين من جهة الذلة، فمن لم تكن مسكنته من جهة الفقر فالصدقة عليه حرام اه.
فعلم من هذا كله أن الفقير في اللغة المحتاج، وهو ضد الغني أي المكفي ما يحتاج إليه، من الغناء ( بالفتح ) وهو الكفاية، وأن المسكين وصف من السكون يوصف به الفقير وغيره. وقد اختلف العلماء فيه هل هو أسوأ حالا وأشد حاجه من الفقير أو أحسن كما تقدم ؟ ويقال في الترجيح بين القولين زيادة عما قلناه في الحديث آنفا : إما أن يكون المسكين في الآية صنفاً مستقلاً مبايناً للفقير، وإما أن يكون أخص منه لأن المسكنة فيه وصف للفقير، كما ذكر الوجهين ابن عرفة وغيره، فإن كان صنفا مستقلا وجب أن يكون غير فقير ؛ لأن وصف المسكنة فيه لم يكن له بسبب فقره بل بتواضعه وأدبه مثلا كما هو المراد بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا، فكيف يكون أسوأ من الفقير في شدة الحاجة التي يستحق بها الصدقة ؟ وإن كان أخص من الفقير بوصف المسكنة التي كان سببها الفقر فلا يظهر أن يكون المراد بها شدة الفقر وسوء الحال فيه ؛ لأن ذكر الفقراء في هذه الحالة يغني عن ذكر المساكين لأنه يشملهم بعمومه لهم، ويكون استحقاق الشديد الفقر للصدقة أولى من استحقاق من دونه فيه، فلا يصح في الكلام البليغ أن يقال أعط هذه الصدقة أو أطعم هذا الطعام للفقراء ولأشد الناس فقراً، لأن ذكر أشدهم فقرا بعد ذكر الفقراء يكون لغواً إلا أن يراد به الإضراب عما قبله، وحينئذ يقال : بل لأشدهم فقرا، ولا يظهر هنا إرادة التأكيد للاهتمام، فترجح أو تعين أن يراد بالمساكين من جعلتهم مسكنة الفقر أقل اضطراباً فيه، وأكثر تجملاً وسكوناً لخفته عليهم وعدم وصوله بهم إلى الدرجة التي لا تطلق ولا يمكن إخفاؤها بالتجمل، ولا يرد على هذا قوله تعالى :﴿ أو مسكيناً ذا متربة ﴾ [ البلد : ١٦ ] ؛ لأن شدة الحاجة الملصقة بالتراب لا تنافي التجمل والتعفف، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم :( ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرؤوا إن شئتم﴿ لا يسألون الناس إلحافا ﴾٢، وفي لفظ ( ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس )٣ والحديث بلفظيه متفق عليه، وهو صريح فيما اخترناه، وإنما أطلنا في المسألة لتنفيد ما أطاله فيها كثير من المقلدين.
فالفقراء في آية الصدقات هم المستحقون لها بفقرهم كما قال في آية سورة البقرة :﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ﴾ [ البقرة : ٢٧١ ]، وكما قال في مال الفيء من سورة البقرة ﴿ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً ﴾ [ البقرة : ٢٧٣ ] ثم خص المساكين من الفقراء بالذكر لأنهم ربما لا يفطن لهم لتجملهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن والياً وقاضياً :( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب )٤ رواه الجماعة كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
وكرائم أموال الناس خيارها ونفائسها التي تضن الأنفس بها، فلا يجوز للحكام والعاملين على الصدقات أخذها في الصدقة لتعطى للفقراء، ولا بالرشوة المحرمة بالأولى. والمساكين يدخلون في عموم الفقراء في هذا الحديث وأمثاله كالآيات لغة، وحيث يذكر المسكين أو المساكين في القرآن يراد به ما يعم الفقراء بالتغليب أو بطريق الأولى، إذ ورد ذلك في الأمر بالإحسان بهم وفي كفارات الظهار واليمين وصيد الحرم والغنائم وصدقة التطوع، فهما صنفان لجنس أو نوع واحد من المستحقين. وجملة القول إن بين الفقير والمسكين عموماً وخصوصاً وجهياً في اللغة، وعموماً وخصوصاً مطلقا في استعمال الشرع للفظين في آية الصدقات الجامعة بينهما، وحيث ذكر أحدهما وحده يراد به ما يعم الآخر، فاللفظان مختلفان في مفهومهما متحدان فيما يصدقان عليه، وما يعطاه الفقير والمسكين من الصدقة يختلف باختلاف الأحوال، ومقدار المال، وهو خاص بالمسلمين بخلاف صدقة التطوع.
﴿ والعاملين عليها ﴾ أي الذين يوليهم الإمام أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء وهم الجباة، وعلى حفظها وهم الخزنة، وكذا الرعاة للأنعام منها، والكتبة لديوانها، ويجب أن يكونوا من المسلمين، يقال كان فلان عامل الإمام أو السلطان على بلد كذا أو على الزكاة أو الخراج، وفي الأساس : ويقال : من الذي عُمِّل [ بالتشديد والبناء للمفعول ] عليكم ؟ أي نصب عاملاً عليكم اه وقال في أول المادة : تقول أعط العامل عمالته، ووفه جعالته، وهو بالضم فيهما جزاء العمل وأجرته المعينة. وقال الجوهري : رزق العامل على عمله، ولا يشترط في العامل على الصدقات أن يكون مستحقا للصدقة بفقره مثلاً، ولكن إن وجد من هو أهل للعمل من المستحقين يكون أولى من غيره، وإنما عمالته على عمله لا على فقره، فإن لم تكفه كان له أن يأخذ بفقره ما يأخذه أمثاله، وإن كانت زائدة على حاجته أو كان غير محتاج فله أن يأكل منها ويهدي ويتصدق، وقد تجب عليه الزكاة بما يأخذه منها بشروطها من النصاب والحول، وقد يستغنى عنه فيسقط سهمه.
ولا تجوز العمالة لمن تحرم عليهم الصدقة من آل الرسول صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم بالاتفاق، وكذا بنو المطلب، ودليله أن الفضل بن عباس والمطلب بن ربيعة بن عبد المطلب سألا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمرهما على الصدقات بالعمالة كما يؤمر الناس فقال لهما :( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس )٥، وفي لفظ ( لا تنبغي ) بدل( لا تحل ) رواه أحمد ومسلم.
وروى أحمد والشيخان عن بسر بن سعيد أن ابن السعدي المالكي قال : استعملني عمر على الصدقة فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة، فقلت : إنما عملت لله، فقال خذ ما أعطيت، فأني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني، فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فكل وتصدق )٦.
﴿ والمؤلفة قلوبهم ﴾ أي الجماعة الذين يراد تأليف قلوبهم بالاستمالة إلى الإسلام، أو التثبت فيه، أو بكف شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم أو نصرهم على عدو لهم، لا في تجارة وصناعة ونحوهما. فإن من يرى أن مخالفه في الدين مصدر نفع له يوشك أن يواده فإن لم يواده لم يحاده كالعدو الذي يخشى ضرره ولا يرجو نفعه.
وذكر الفقهاء أن المؤلف
٢ ـ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢، باب ٤٨، ومسلم في الزكاة حديث ١٠٢، وأبو داود في الزكاة باب ٢٤، والنسائي في الزكاة باب ٧٦، وأحمد في المسند ١/ ٣٨٤، ٢/ ٣٩٥، ٤٤٥، ٥٠٦..
٣ ـ أخرجه البخاري في الزكاة باب ٥٣، ومسلم في الزكاة حديث ١٠١، والنسائي في الزكاة باب ٧٦، وأحمد في المسند ١/ ٣٨٤، ٤٤٦، ٢/ ٣١٦..
٤ ـ أخرجه البخاري في الزكاة باب ٦٣، والمظالم باب٩، والمغازي باب٦٠، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩، وأبو داود في الزكاة باب ٥، والترمذي في الزكاة باب ٦، والبر باب ٦٨، والنسائي في الزكاة باب ٤٦، وابن ماجه في الزكاة باب١، وأحمد في المسند ١/ ٢٣٣..
٥ ـ أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٦٧، ١٦٨، وأحمد في المسند ٣/ ٤٠٢، ٤/ ١٦٦..
٦ - أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١١٢، وأبو داود في الزكاة باب ٢٨، والإمارة باب ١٠، والنسائي في الزكاة باب ٩٤، وأحمد في المسند ١/ ٥٢..
هذا ضرب آخر من دلائل نفاق أولئك المنافقين وآثاره وهو إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالطعن في أخلاقه العظيمة، وشمائله الكريمة، كإيذاء أولئك الذين لمزوه في بعض أفعاله العادلة، وهي قسمة الصدقات، وناهيك بكفر من يصغرون ما عظمه رب العالمين، بقوله لرسوله :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾[ القلم : ٤ ].
أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال لهم إنما محمد أذن، من حدثه شيئاً صدقه، فأنزل الله فيه﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ﴾.
ولكن منطوق الآية يسند هذا القول إلى جماعة منهم وهو أقرب، وإن كان الإسناد إلى الجماعة يصدق بقول واحد وإقرار الباقين.
والأول مروي عن السدي عند ابن أبي حاتم قال : اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت ومخشي بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم فنهى بعضهم بعضاً وقالوا : نخاف أن يبلغ محمداً فيقع بكم، وقال بعضهم : إنما محمد أذن، نحلف له فيصدقنا، فنزل ( ومنهم ) وذكر الآية.
الأذى ما يؤلم الحي المدرك في بدنه أو في نفسه ولو ألماً خفيفا، يقال : أذي الإنسان [ كرضي ] بكذا أذى، وتأذى تأذياً، إذا أصابه مكروه يسير- كذا قالوا- وآذى غيره إيذاء، وأنكر الفيروزأبادي لفظ الإيذاء، وإن كان هو القياس، لأنه لم يسمع من العرب إلا الأذى والأذاة والأذية، وربما يشهد له قوله تعالى :﴿ لن يضروكم إلا أذى ﴾ [ آل عمران : ١١١ ] من سورة آل عمران ؛ لأنه من آذى المتعدي بنفسه لا من أذي اللازم، إلا أن يقال : إنه اسم مصدر، وتقييدهم للأذى بالمكروه اليسير غير مسلم على إطلاقه، فالظاهر أنه يطلق على اليسير والخفيف وعلى الشديد، وقوله تعالى :﴿ لن يضروكم إلا أذى ﴾ من الأول لأنه مستثنى من الضرر، ومثله ما ورد في الأذى من المطر وأذى الرأس من القمل، ومن الثاني قوله تعالى في سورة الأحزاب :﴿ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهيناً والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ﴾[ الأحزاب : ٥٧، ٥٨ ]، فقد ورد في المأثور تفسير الذين يؤذون الله بالذين نسبوا إليه الابن والبنات، والذين يؤذون رسوله بالذين شجوا رأسه يوم أحد، وبالذين كانوا يكذبون برسالته ويقولون ساحر وشاعر وكاهن، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بالطاعنين في الأعراض، وبالزناة الذين يتبعون النساء لمراودتهن. وناهيك بالوعيد الشديد للجميع.
وأما قولهم :﴿ أذن ﴾ فهو من تسمية الشخص باسم الجارحة للمبالغة في وصفه بوظيفتها وهو كثرة السمع لما يقال وتصديقه كأنه كله أذن سامعة، كقولهم للجاسوس عين، ويطلق على لازمه، وهو عدم الدقة في التمييز بين ما يسمع، وتصديق ما يعقل وما لا يعقل، فيراد به الذم بالغرارة وسرعة الانخداع. وهو من أكبر عيوب الملوك والرؤساء لما يترتب عليه من قبول الغش بالكذب والنميمة، وتقريب المنافقين، وإبعاد الناصحين. وكان صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين بأحكام الشريعة وآدابها التي يعامل بها عامة المسلمين كما أمره الله تعالى ببناء المعاملة على الظواهر، فظنوا أنه يصدق كل ما يقال له. قرأ الجمهور( أذن ) بضمتين، ونافع بسكون الذال، وهما لغتان.
وقد لقنه الله تعالى الرد عليهم بقوله﴿ قل أذن خير لكم ﴾ أي نعم هو أذن ولكنه نعم الأذن، لأنه أذن لا كما تزعمون، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا الحق وما وافق الشرع، وما فيه الخير والمصلحة للخلق، وليس بأذن في غير ذلك كسماع الباطل والكذب والغيبة والنميمة والجدال والمراء فهو لا يلقي سمعه لشيء من ذلك، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله، ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه شرعاً أو عقلاً، كما هو شأن من يوصفون بهذا الوصف من الملوك والزعماء فيستعين المتملقون وأصحاب الأهواء به على السعاية عندهم لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم، وحملهم على إيذاء من يبغون إيذاءه، والإضافة هنا إضافة الموصوف إلى الصفة، وقرأ نافع[ أذن ] بالتنوين و[ خير ] بالرفع صفة له.
والرد من باب أسلوب الحكيم، فهو في أوله يوافقهم على قولهم، ثم يتبعه ما ينقضه عليهم حتى ينقضّ على رؤوسهم، كقوله في سورة [ المنافقين ] وهم هم ﴿ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾[ المنافقون : ٨ ] الآية. فهم كانوا يعنون أنهم الأعزة ويعرضون بالرسول والمؤمنين به، فقلب عليهم مرادهم على تقدير تسليم أصل القضية وهي إخراج الأعز للأذل، بإثبات العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والتعريض بأنهم هم الأذلون ولو شاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأخرجهم، ولكنه لا يفعل إلا إذا أظهروا كفرهم، لأن قاعدة شريعته الحكم على الظواهر. وجعله ابن المنير في الانتصاف من قبيل القول بموجب العلة فقال : لا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه، لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة، ثم كر على طمعهم بالحسم، وأعقبهم في تنقصه باليأس منه، ويضاهي هذا من مستعملات الفقهاء القول بالموجب ؛ لأن في أوله إطماعاً للخصم بالتسليم، ثم بالطمع على قرب، ولا شيء أقطع من الإطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه اه.
ثم فسر المراد من أذن الخير بأفضل الخير وأعلاه على طريق البيان المستأنف فقال :﴿ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾ أي يصدق بالله تعالى وما يوحيه إليه من خبركم وخبر غيركم، وهو الخبر القطعي الصدق، الذي لا يحوم حوله الشك، لأنه برهاني وجداني عياني له بما كشفه الله له من عالم الغيب، وإيمانه به أثبت وأرسخ في اليقين من تصديق غيره بما قامت عليه الأدلة العقلية القطعية، ويصدق في الدرجة الثانية تصديق ائتمان وجنوح للمؤمنين الصادقي الإيمان من المهاجرين والأنصار الذين برهنوا على صدقهم بجهادهم معه في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فهو يصدق أخبارهم لا لذاتها بمجرد سماعها، بل لما علمه من آيات إيمانهم الذي يوجب عليهم الصدق، ولا سيما الصدق بما يحدثونه به، ولما يجده في أخبارهم من أماراته وآياته. ويتضمن هذا أنه لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم وائتمان، ولا يصدقهم في أخبارهم وإن وكدوها بالأيمان، كما ظن من قال منهم[ هو أذن ] اغتراراً بلطفه وأدبه صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كان لا يواجه أحداً بما يكره، وبمعاملته إياهم كما يعامل أمثالهم من عامة أصحابه. وفي هذا تهديد لهم وتخويف بأن ينبئه الله تعالى بما كانوا يسرونه في أنفسهم وفيما بينهم كما سيأتي قريباً في قوله :﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ﴾ [ التوبة : ٦٤ ]، وتخويف من المؤمنين الذين يسيئون الظن فيهم كعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يظهروا على كفرهم فيخبروه به فيأذن بالانتقام منهم.
وأما كونه صلى الله عليه وسلم أذن خير لهم مع هذا فهو معاملته لهم بالحلم وما يقتضيه حكم الشرع من العمل بالظواهر، ومنها قبول المعاذير قبل نهيها عنها في هذه السورة. ولو كان يعاملهم بمقتضى ما يسمع عنهم - كما تقتضيه استعمال كلمة أذن - لما سلموا من عقابه، لأن أخبار السوء عنهم كثيرة بكثرة أعمال السوء فيهم، فلو كان يقبل أخبار الشر لقبلها من المؤمنين الصادقين فيهم ولعقابهم عليها.
وفسر الزمخشري قراءة التنوين في قوله﴿ أذن خير ﴾ بأن كلا من اللفظين خبر لمبتدأ محذوف، أي هو أذن هو خير لكم، يعني إن كان كما تقولون فهو خير لكم لأنه يقبل معاذيركم، ولا يكافئكم على سوء دخيلتكم. وقدر غيره : أذن ذو خير لكم، أو بمعنى : أخير لكم.
ونكتة تعدية الإيمان بالباء في الله تعالى وباللام في المؤمنين أن الأول على الأصل في آمن به ضد كفر به، وصدق به ضد كذب به. وأما الثاني فقد ضمن معنى الميل والائتمان والجنوح للمؤمنين به، وفي معناه آيات كقوله تعالى :﴿ فآمن له لوط ﴾ [ العنكبوت : ٢٦ ] وقوله :﴿ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ﴾ [ يونس : ٨٣ ] وقوله إخباراً عن قول إخوة يوسف لأبيهم﴿ وما أنت بمؤمن لنا ﴾[ يوسف : ١٧ ] وقوله في جدال قوم نوح له ﴿ أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ]، ففي كل هذا معنى التصديق المتضمن للائتمان والتسليم والميل عن جانب إلى جانب، وإنما يكون هذا في إيمان الناس بعضهم لبعض لا في الإيمان بالله عز وجل. وبهذا يعلم كذبهم في زعمهم تصديقه صلى الله عليه وسلم لهم فيما يعتذرون له، فهو لا يصدقهم وإن حلفوا لأنه إنما يؤمن للمؤمنين الصادقين، دون المنافقين الكاذبين.
﴿ ورحمة للذين آمنوا منكم ﴾ أي هو أذن خير لكم على كونه يؤمن للمؤمنين دون غيرهم، هو رحمة للذين آمنوا منكم إيماناً صحيحاً صادقاً إذ كان سبب إيمانهم وهدايتهم إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة، دون من أظهر الإسلام وأسر الكفر منافقاً فهو نقمة عليه في الدارين، كما قال :﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ﴾ [ البقرة : ٢١٨ ] والآيات في هذا المعنى كثيرة. ولما كان كل منهم يدعي الإيمان كان قوله﴿ منكم ﴾ تعريضاً بغير الصادقين منهم لا تصريحا، وفائدته أن يعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عالم بأن منهم منافقين ولكنه لا يعرف أعيانهم وأشخاصهم، ويخشى أن يخبره ربه بهم ويكشف له عن أسرار قلوبهم، كما سيأتي في قوله تعالى :﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ﴾[ التوبة : ٦٤ ]، وقيل : إن المراد بالذين آمنوا منهم الذين أظهروا الإيمان، وأنه رحمة لهم بقبول ظواهرهم ومعاملتهم بها معاملة المؤمنين. ولذلك قال :﴿ الذين آمنوا ﴾ فعبر عنهم بالفعل، ولم يقل المؤمنين بالوصف، وهذا القول ضعيف، وكثيرا ما ناط التنزيل الجزاء على الإيمان بالتعبير عن أهله بالفعل الماضي.
وقرأ حمزة( ورحمة ) بالخفض عطفاً على ( خير )، قيل في معناه : أي هو أذن خير ورحمة لكم، وفيه نظر أيضا، فإنه لو أريد هذا لما فصل بين الخير والرحمة بقوله :﴿ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾ بل هو يؤيد ما قلناه، والتقدير أذن خير لكم كافة، وأذن رحمة للذين آمنوا منكم خاصة، فكل ما في اختلاف التعبير أن لين الرسول صلى الله عليه وسلم ولطفه وإلقاءه السمع إلى محدثه، وعدم معاملته بمقتضى سره وسريرته، هو خير للمنافقين من عدمه، فإنه لو أمره الله تعالى أن يعاملهم بما يخفون من الكفر لكان ذلك أمراً بقطع رقابهم، وبقاؤهم خير لهم بالمعنى الذي يعتقدونه من لفظ الخير، وخير لهم في نفس الأمر، لأنه إمهال لهم يرجى أن يتوب بسببه من فيه استعداد للإيمان منهم بما يراه من آيات الله وتأييده لرسوله وللمؤمنين. والخيرية دنيوية وهي للجميع، والرحمة دنيوية وأخروية وإنما هي للمؤمنين. وأما إرساله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فالمراد به عموم دعوته وهدايته، لا أنه رحمة لمن كفر به كمن آمن به.
ويؤيد ما اخترناه قوله تعالى :﴿ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ﴾ فهو مقابل قوله :﴿ ورحمة للذين آمنوا منكم ﴾ يدل على أن إيذاء الرسول صلى الله عل
روى ابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال في شأن المتخلفين في غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقاً لهم شر من الحمر. فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله إن ما يقول محمد لحق، ولأنت أشر من الحمار. فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال :( ما حملك على الذي قلت ) ؟ فجعل يلتعن ( أي يلعن نفسه ) ويحلف بالله ما قال ذلك. وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب، فأنزل الله في ذلك ﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله، وسمى الرجل المسلم عامر بن قيس من الأنصار. وهذا ليس بحصر، بل المراد أن الآية نزلت في هذا وأمثاله، فإن من عادة المنافقين والكاذبين من عصاة المؤمنين وغيرهم أن يكثروا الحلف ليصدقوا لأنهم لعلمهم بكذبهم يظنون أو يعلمون أنهم متهمون في أقوالهم وأعمالهم، فيحلفون لإزالة التهمة، وهذا معلوم في كل زمان، وقد تقدم في الآية ( ٤٢ ) من هذا السياق حلفهم أنهم لو استطاعوا الخروج في غزوة تبوك لخرجوا، والتصريح بعلم الله بكذبهم في حلفهم هذا وفي الآية ( ٥٦ ) منه ﴿ ويحلفون بالله أنهم لمنكم ﴾ الخ وسيأتي في آية ( ٧٤ ) منه - مثل هذا الحلف على قول من الكفر قالوه أنهم ما قالوه، وفي آيات ٩٥ و٩٦ و١٠٧ منه نحو من ذلك.
فقوله تعالى :﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ﴾ خطاب للمؤمنين في بعض شؤون هؤلاء المنافقين معهم في غزوة تبوك، أخبرهم بأنهم شعروا بما لم يكونوا يشعرون من ظهور نفاقهم فكثر اعتذارهم وحلفهم للمؤمنين في كل ما يعلمون أنهم متهمون به من قول وعمل، ليرضوهم فيطمئنوا لهم، فتنتفي داعية إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بما ينكرون منهم، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ أي والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، فإن المؤمنين قد يصدقونهم فيما يحلفون عليه إذا لم يكن كذبهم فيه ظاهراً معلوماً باليقين، ولكن الله لا يخفى عليه شيء، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو يوحي إلى رسوله من أمور الغيب ما فيه المصلحة.
وكان الظاهر أن يقال :( يرضوهما )، ونكتة العدول عنه إلى( يرضوه ) الإعلام بأن إرضاء رسوله من حيث إنه رسوله عين إرضائه تعالى، لأنه إرضاء له في اتباع ما أرسله به، وهذا من بلاغة القرآن في الإيجاز، ولو قال ( يرضوهما ) لما أفاد هذا المعنى، إذ يجوز في نفس العبارة أن يكون إرضاء كل منهما في غير ما يكون به إرضاء الآخر، وهو خلاف المراد هنا، وكذلك لو قيل :( والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه ) لا يفيد هذا المعنى أيضاً وفيه ما فيه من الركاكة والتطويل، وقد خرجه علماء النحو على قواعدهم فقال بعضهم كأبي السعود : إن الضمير المفرد هنا يعود إلى ما فهم مما قبله الذي يفسر باسم الإشارة أو «ما ذكر » كقول رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبَلَقْ كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ١
يعني كأن ذلك أو كأن ما ذكر، وهو تخريج ضعيف لا يظهر في المثنى. وقال بعضهم : إن الضمير عائد إلى اسم الجلالة ويقدر مثله للرسول، وقال بعضهم : إنه للرسول وحده ؛ لأن الكلام في إيذائه، وهو أضعف مما قبله، وأقرب الأقوال إلى قواعدهم قول سيبويه : إن الكلام جملتان حذف خبر إحداهما لدلالة خبر الأخرى عليه كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راض والرأي مختلفُ٢
فهذا لا تكلف فيه من ناحية التركيب العربي، ولكن تفوت به النكتة التي ذكرناها، وهي من بلاغة القرآن التي يجب على أهل البيان اقتباسها، واستعمال مثل هذا التعبير في كل ما كان مثله في المعنى، ولولا هذا التنبيه لما عنينا بنقل أقوالهم في الإعراب لأنه مخالف لمنهاجنا.
وقوله :﴿ إن كانوا مؤمنين ﴾ تذييل لبيان أن ما قبله هو مقتضى الإيمان الصحيح الذي لا ينجي في الآخرة غيره، أي إن كانوا مؤمنين كما يدعون ويحلفون فليرضوا الله تعالى ورسوله، وإلا كانوا كاذبين، وفي الآية عبرة للمنافقين في زماننا ككل زمان، وعبرة بحالهم لمن يراهم يكذبون ويحلفون عند الحاجة إلى تأكيد أخبارهم فيما لا يرضي الله تعالى ؛ بل فيما يحاولون به إرضاء الناس ولا سيما الملوك والأمراء والوزراء الذين يتقربون إليهم فيما لا يرضي الله تعالى بل فيما يسخطه من المقاصد، التي يتوسلون إليها بأخس الوسائل.
٢ - البيت من المنسرح، وهو لقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه ص ٢٣٩، وتخليص الشواهد ص٢٠٥، والدرر ٥/٣١٤، والكتاب ١/ ٧٥، والمقاصد النحوية ١/ ٥٥٧، ولعمرو بن امرئ القيس الخزرجي في الدرر ١/ ١٤٧، وشرح أبيات سيبويه ١/٢٧٩، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٢٨، ولدرهم بن زيد الأنصاري في الإنصاف ١/ ٩٥، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣/١٠٠، ٦/ ٦٥، ٧/ ١١٦، وأمالي ابن الحاجب ٢/ ٧٢٦، وخزانة الأدب ١٠/٢٩٥، ٤٧٦، وشرح الأشموني ١/٤٥٣، وشرح ابن عقيل ص ١٢٥، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢١٨، ولسان العرب (قعد)، ومغني اللبيب ٢/ ٦٢٢، والمقتضب ٣/ ١١٢، ٤/ ٧٣، وهمع الهوامع ٢/ ١٠٩..
والمعنى : ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الشأن والأمر الثابت الحق هو : من يعادي الله ورسوله - بتعدي حدود الله، أو بلمز الرسول في أعماله كقسمة الصدقات، أو أخلاقه وشمائله كقولهم : هو أذن- فجزاؤه أن له نار جهنم يصلاها يوم القيامة خالداً فيها لا مخرج له منها.
﴿ ذلك الخزي العظيم ﴾ أي ذلك الصلي الأبدي هو الذل والنكال العظيم الذي يتضاءل دونه كل خزي وذل في الحياة الدنيا.
هذه الآيات في بيان شأن آخر من شؤون المنافقين التي كشفت سوأتهم فيها غزوة تبوك.
أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله تعالى :﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ﴾ قال : يقولون القول فيما بينهم، ثم يقولون عسى أن لا يفشى علينا هذا. وأخرجوا -إلا الأول منهم- عن قتادة قال : كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنبئة أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.
الجمهور على أن جملة [ يحذر ] خبر على ظاهرها، وعن الزجاج أنها إنشائية في المعنى، أي ليحذروا ذلك، وهو ضعيف. فالحذر –كالتعب- الاحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه كما يؤخذ من مفردات الراغب وأساس البلاغة[ في مادتي ح ذر، وح رز ] ويستعمل في الخوف الذي هو سببه، وقد استشكل هذا الحذر منهم وهم غير مؤمنين بالوحي، وأجاب أبو مسلم عن هذا الإشكال بأنهم أظهروا الحذر استهزاء، وأجاب الجمهور بما حاصله أن أكثر المنافقين كانوا شاكين مرتابين في الوحي ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا موقنين بشيء من الإيمان ولا من الكفر، فهم مذبذبون بين المؤمنين الموقنين والكافرين الجازمين بالكفر، ومنهم من كان شكه قوياً، ومن كان شكه ضعيفاً، وتقدم شرح حالهم وبيان أصنافهم في أول سورة البقرة فراجع تفسيره وما فيه من بلاغة المثلين اللذين ضربهما الله تعالى لهم. وهذا الحذر والإشفاق أثر طبيعي للشك والارتياب، فلو كانوا موقنين بتصديقه لما كان هناك محل لهذا الخوف والحذر لأن قلوبهم مطمئنة بالإيمان.
واختلف المفسرون في ضمير﴿ عليهم ﴾ قال بعضهم : هو للمنافقين المذكورين والمراد بنزوله عليهم في شأنهم، وبيان كنه حالهم، كقوله تعالى :﴿ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ] أي في شأن ملكه. ويقال : كان كذا على عهد الخلفاء، أي في عهدهم وزمنهم. والمراد بإنبائهم بما في قلوبهم لازمه وهو فضيحتهم وكشف عوارهم، وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم، وقال آخرون : هو للمؤمنين أي يحذر المنافقون أن ينزل على المؤمنين آية تنبئهم بما في قلوبهم أي قلوب المنافقين الحذرين من الشك والارتياب وتربص الدوائر بهم أي بالمؤمنين، وغير ذلك من الشر الذي يسرونه في أنفسهم، والأضغان التي يخفونها في قلوبهم. قيل : فيه تفكيك للضمائر، وأجيب بأن تفكيك الضمائر غير ممنوع، ولا ينافي البلاغة إلا إذا كان المعنى به غير مفهوم.
ولنا في هذا المقام بحثان : أحدهما : أنه ليس ههنا تفكيك للضمائر، فإنه قد سبق أن المنافقين يحلفون للمؤمنين ليرضوهم، وقد وبخهم الله تعالى على اهتمامهم بإرضاء المؤمنين دون إرضاء الله ورسوله وهما أحق بالإرضاء، وأوعدهم على ذلك بأنه محادة لله ورسوله يستحقون بها الخلود في النار، ثم بين بطريقة الاستئناف سبب حلفهم للمؤمنين واهتمامهم بإرضائهم، بأنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، فتبطل ثقتهم بهم، فأعيد الضمير على المؤمنين لأن سياق الكلام فيهم.
والبحث الآخر : أن إنزال الوحي يعدى بإلى وبعلى إلى الرسول الذي يتلقاه عن الله تعالى، ويعدى بهما إلى قومه المنزل ليتلى عليهم لأجل هدايتهم، وكلا الاستعمالين مكرر في القرآن. قال تعالى :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ] الخ، وقال :﴿ قل آمنا بالله وما أنزل علينا ﴾[ آل عمران : ٨٤ ] الخ، وقال :﴿ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ﴾[ الأعراف : ٣ ]، وقال :﴿ واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ﴾ [ البقرة : ٢٣١ ]، وقال :﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ؟ ﴾ [ الأنبياء : ١٠ ].
قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون ﴾ استدل أبو مسلم الأصفهاني بهذا الجواب على أن المنافقين أظهروا الحذر مما ذكر استهزاء، ولم يكونوا يحذرون ذلك بالفعل لعدم إيمانهم، ويرده إسناد الحذر إليهم في أول الآية وآخرها، ولو صح هذا لذكر ذلك عنهم بالحكاية فأسند الحذر إلى قولهم ولم يسنده إليهم، كما أسند إليهم كثيراً من الأقوال في هذه السورة وغيرها، ومنها قوله تعالى في أوائل سورة البقرة :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون ﴾ [ البقرة : ١٤ ]، ويؤيد وقوع الحذر منهم قوله تعالى في السورة المضافة إلى اسمهم ﴿ يحسبون كل صيحة عليهم ﴾ [ المنافقون : ٤ ]، وفي الآية التالية لهذه الآية بيان لضرب آخر من استهزائهم في هذا المقام من سياق غزوة تبوك، فالاستهزاء دأبهم وديدنهم، وحذرهم من تنزيل السورة ليس من هذا الاستهزاء، بل من خوف عاقبته، وإنما العجب من أمرهم استمرارهم عليه مع هذا الحذر، وأما أمرهم به فهو للتهديد والوعيد عليه وبيان كونه سببا لإخراجه تعالى ما يحذرون ظهوره من مخبآت سرائرهم، ومكنونات ضمائرهم، والأصل في الإخراج أن يكون للشيء الخفي المستتر، أو المتمكن المستقر. ومن الأول قوله تعالى في المنافقين :﴿ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ﴾ [ محمد : ٢٩ ] وقوله بعده :﴿ ويخرج أضغانكم ﴾ [ محمد : ٣٧ ]، ومنه إخراج الموتى بالبعث، وإخراج الحب والنبات من الأرض، ومثله في التنزيل كثير. ومن الثاني النفي من الأوطان والديار وفيه آيات كقوله تعالى :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ﴾ [ الحج : ٤٠ ]. فقوله تعالى :﴿ مخرج ما تحذرون ﴾[ التوبة : ٦٤ ] معناه أنه مخرجه الآن بتنزيل هذه السورة التي لم تدع في قلوبهم شيئا من مخبآت نفاقهم إلا أخرجته وأظهرته لهم وللمؤمنين.
هذه الآيات في بيان شأن آخر من شؤون المنافقين التي كشفت سوأتهم فيها غزوة تبوك.
قال تعالى :﴿ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ﴾ روي فيمن نزلت فيهم هذه الآية عدة روايات نذكر أمثلها : أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين ؟ فقالوا أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها ؟ هيهات هيهات. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( احبسوا عليّ هؤلاء الركب )، فأتاهم فقال قلتم كذا، قلتم كذا. قالوا : يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون. وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره وأناس من المنافقين يسيرون أمامه فقالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فلنحن شر من الحمير، فأنزل الله تعالى ما قالوا، فأرسل إليهم : ما كنتم تقولون ؟ فقالوا : إنما كنا نخوض ونلعب.
وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال : قال مخشي بن حمير لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منكم مائة على أن ننجو من أن ينزل فينا قرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر ( أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن هم أنكروا وكتموا فقل بلى قد قلتم كذا وكذا ) فأدركهم فقال لهم فجاؤوا يعتذرون، فأنزل الله﴿ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم ﴾ [ التوبة : ٦٦ ] الآية. فكان الذي عفا الله عنه مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله، فقتل باليمامة لا يعلم مقتله ولا من قتله ولا يرى له أثر ولا عين. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين من بني عمرو بن عوف فيهم وديعة بن ثابت ورجل من أشجع حليف لهم يقال له مخشي بن حمير، كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض : أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم، والله لكأنا بكم غدا تقادون في الحبال. قال مخشي بن حمير : لوددت أني أقاضى، فذكر الحديث مثل الذي قبله، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه.
والمعنى أن الله تعالى نبأ رسوله بما كان يقوله هؤلاء المنافقون في أثناء السير إلى تبوك من الاستهزاء بتصديه لقتال الروم الذين ملأ صيتهم بلاد العرب بما كان تجارهم يرون من عظمة ملكهم في الشام ؛ إذ كانوا يرحلون إليها في كل صيف، نبأه نبأ مؤكدا بصيغة القسم أنه إن سألهم عن أقوالهم هذه يعتذرون عنها بأنهم لم يكونوا فيها جادين ولا منكرين، بل هازلين لاعبين، كما هو شأن الذين يخوضون في الأحاديث المختلفة للتسلي والتلهي، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول لجهلهم أن اتخاذ أمور الدين لعبا ولهوا لا يكون إلا ممن اتخذه هزواً، وهو كفر محض، ويغفل عن هذا كثير من الناس يخوضون في القرآن والوعد الوعيد، كما يفعلون إذ يخوضون في أباطيلهم وأمور دنياهم، وفي الرجال الذين يتفكهون بالتنادر عليهم والاستهزاء بهم وإنما يستعمل «الخوض » فيما كان بالباطل لأنه مأخوذ من الخوض في البحر أو في الوحل، فيراد به الإكثار، والتعرض لتقحم الأخطار، وقال تعالى في سورتي الزخرف والمعارج ﴿ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ﴾ [ الزخرف : ٨٣ ]، وقال في سورة الطور :﴿ فويل للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون ﴾ [ الطور : ١١، ١٢ ]، وقال في سورة النساء :﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ﴾ [ النساء : ١٤٠ ]، وقد بينا في تفسير هذه الآية أن الخطاب فيها لكل من يظهر الإسلام من مؤمن ومنافق، وأنه يدخل في عمومها المبتدعون المحدثون في الدين، والذين يخوضون في الداعين إلى الكتاب والسنة ويستهزئون بهم لاعتصامهم بهما وإيثارهم إياهما على المذاهب المقلدة ( راجع ج٥ تفسير ).
وبعد أن نبأ الله تعالى رسوله بما يعتذرون به لقنه ما يرد به عليهم بقوله :﴿ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ﴾ والمعنى أن الخوض واللعب إذا كان موضوعه صفات الله وأفعاله وشرعه وآياته المنزلة وأفعال رسوله وأخلاقه وسيرته كان ذلك استهزاء بها، لأن الاستهزاء بالشيء عبارة عن الاستخفاف به، وكل ما يلعب به فهو مستخف به، وقد حررنا معنى اللفظ في تفسير ما أسنده تعالى إلى المنافقين من قولهم لشياطينهم :﴿ إنا معكم إنما نحن مستهزؤون ﴾ [ البقرة : ١٤ ]، أي بقولنا للمؤمنين آمنا كما أن من يحترم شيئا أو شخصا أو يعظمه فإنه لا يجعله موضوع الخوض واللعب. وتقديم معمول فعل الاستهزاء عليه يفيد القصر، والاستفهام عنه للإنكار التوبيخي، والمعنى : ألم تجدوا ما تستهزؤون به في خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصرتم ذلك عليهما، فهل ضاقت عليكم جميع مذاهب الكلام تخوضون فيها وتعبثون دونهما، ثم تظنون أن هذا عذر مقبول فتدلون به بلا خوف ولا حياء ؟
هذه الآيات في بيان شأن آخر من شؤون المنافقين التي كشفت سوأتهم فيها غزوة تبوك.
﴿ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ﴾ أي قد كفرتم بهذا الخوض واللعب بعد إيمانكم، فاعتذاركم إقرار بذنبكم، وإنما الاعتذار الإدلاء بالعذر، وهو بالضم ما يراد به محو الذنب وترك المؤاخذة عليه، وأنتم قد جئتم بما يثبت الذنب ويقتضي العقاب، أو هو كما قيل :«عذر أقبح من الذنب ». يقال اعتذر إليّ عن ذنبه فعذرته [ من باب ضرب ]، أي قبلت عذره ورفعت اللوم عنه، وهو على الراجح المختار مأخوذ من عذر الصبي يعذره أي ختنه، فعذره تطهيره بالختان، إذ هو قطع لعذرته أي قلفته التي تمسك النجاسة.
فإن قيل : ظاهر هذا أنهم كانوا مؤمنين فكفروا بهذا الاستهزاء الذي سموه خوضا ولعبا، وظاهر السياق أن الكفر الذي يسرونه هو سبب الاستهزاء الذي يعلنونه، قلنا : كلاهما حق، ولكل منهما وجه :
فالأول : بيان لحكم الشرع، وهو أنهم كانوا مؤمنين حكماً، فإنهم ادعوا الإيمان، فجرت عليهم أحكام الإسلام، وهي إنما تبنى على الظواهر، والاستهزاء بما ذكر عمل ظاهر يقطع الإسلام ويقتضي الكفر، فبه صاروا كافرين حكما، بعد أن كانوا مؤمنين حكماً.
والثاني : وهو ما دل عليه السياق هو الواقع بالفعل، والآية نص صريح في أن الخوض في كتاب الله وفي رسوله وفي صفات الله تعالى ووعده ووعيده، وجعلها موضوعا للعب والهزؤ، كل ذلك من الكفر الحقيقي الذي يخرج به المسلم من الملة، وتجري عليه به أحكام الردة، إلا أن يتوب ويجدد إسلامه.
ثم قال تعالى :﴿ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ﴾ الطائفة مؤنث الطائف، من الطوف أو الطواف حول الشيء. والطائفة من الناس الجماعة منهم ومن الشيء القطعة منه، يقال : ذهبت طائفة من الليل ومن العمر، وأعطاه طائفة من ماله، وإذا أريد بالطائفة الجماعة كان أقلها ثلاثة على قول الجمهور في الجمع. والخطاب هنا للمعتذرين أو الجملة المنافقين، فإن كانت هذه الآية مما أمر الله رسوله أن يقوله لهم كالذي قبله فالمراد بالعفو والتعذيب ما يفعله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وإلا كان المراد ما سيكون في الآخرة، والمعنى أننا إن نعف عن بعضكم بتلبسهم بما يقتضي العفو وهو التوبة والإنابة[ ومنهم مخشي بن حمير ] نعذب بعضا آخر باتصافهم بالإجرام ورسوخهم فيه وعدم تحولهم عنه، أي بالإصرار على النفاق وما يستلزمه من الجرائم الظاهرة، وهذا التقسيم عقلي ؛ إذ لا يخلو حالهم من التوبة أو الإصرار، فمن تاب من كفره ونفاقه عفي عنه، ومن أصر عليه وأظهره عوقب به، فإن كان الوعيد من النبي صلى الله عليه وسلم فمعناه أن هذا ما سننفذ حكم الشرع عليكم به عند الرجوع من دار الحرب إلى دار الإسلام، لأن دار الحرب لا تقام فيها الحدود وأمثالها من الأحكام، والمختار عندنا أنه من الله تعالى، وأن المراد به عفو الله وتعذيبه في الآخرة. وقال الضحاك : يعني أنه إن عفا عن طائفة منهم فليس بتارك الآخرين.
فإن قيل : إنه بين سبب التعذيب وهو الإصرار على الإجرام، ولم يبين سبباً للعفو، أفليس هذا دليلاً على أنه لمحض الفضل ؟
قلنا : إن ما بينه يدل على ما لم يبينه، فإنه لما ذكر أنهم كفروا بعد إيمانهم، دل على أنهم استحقوا العذاب بكفرهم، فبيانه بعد هذا السبب تعذيب بعضهم دال على أن التعذيب ينتفي بانتفاء هذا السبب، وإنما يكون ذلك بترك النفاق وإجرامه والتوبة منهما، والأدلة العامة تدل على أن الوعيد على الكفر لا بد من نفوذه على من لم يتب منه، وأن الوعيد على الذنوب بعضه ينفذ وبعضه يدركه العفو.
وأما عدد من يتوب ويعفى عنه، وعدد من يصر ويعاقب بالفعل من كل من الطائفتين، فيصح أن يكون واحدا أو اثنين أو أكثر، فإن كان واحدا فلا يسمى طائفة وإنما يكون واحدا من الطائفة ممثلا لها، وروي عن الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة رهط استهزؤوا بالله وبرسوله وبالقرآن، قال : وكان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث يسير مجانبا لهم يقال له يزيد بن وديعة، فنزلت ﴿ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ﴾ فسمي طائفة وهو واحد اه. وبناء على هذه الرواية قال من قال إن الطائفة من الواحد إلى الألف، وروي عن مجاهد ومن زعم أنها تطلق على الرجل والنفر، وروي عن ابن عباس، وهو غلط، والراوية المذكورة عن الكلبي لا تقتضيه، وهي لا تصح سندا ؛ فالكلبي متروك، ولا معنى ؛ فإن الذي كان يسير مجانبا لهم لا يتناوله وعيدهم، ولكن المتعلقين بالروايات يحكمونها في العقائد والأحكام، أفلا يحكمونها في اللغة أيضا فيقولون : إن الواحد يسمى طائفة ؟ وقد حافظ بعض المفسرين على اللغة في هذه الرواية فقالوا : إن التاء في طائفة للمبالغة كراوية لكثير الرواية، وهو غير ظاهر هنا، وإنما الظاهر ما شرحناه ولله الحمد والمنة. والظاهر أن أكثر أولئك المنافقين قد تابوا واهتدوا بعد نزول هذه السورة التي نبأتهم بما في قلوبهم كما سيأتي قريبا.
وقد ظهر بما قررناه وجه الاتصال بين الشرط والجزاء، بما سقط به استشكال بعض كبار العلماء كسلطانهم العز بن عبد السلام، واستغنينا به عما تكلفه المتكلفون لحل الإشكال.
هذا بيان عام لحال جميع المنافقين ذكرانهم وإناثهم، مقرون بالوعيد الشديد على ما أعد لهم من الجزاء مع إخوانهم الكفار على فسادهم وإفسادهم، يتلوه ضرب المثل لهم بحال أمثالهم من الأمم قبلهم. فاتصالها بما قبلها من بيان شؤون المنافقين المتعلقة بغزوة تبوك هو من قبيل التناسب بين القواعد العلمية في الأخلاق، والسنن العامة في روابط الاجتماع، وبين الوقائع الخاصة التي تعد من الشواهد على هذه القواعد والسنن.
قال عزَّ وجلَّ :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾ أي أهل النفاق من الرجال والنساء متشابهون فيه وصفاً وعملاً كأن كلاً منهم عين الآخر كما قيل :
تلك العصا من هذه العصيّه هل تلد الحية إلا حيه١
وكما قال تعالى في آل إبراهيم وآل عمران :﴿ ذرية بعضها من بعض ﴾[ آل عمران : ٣٤ ]، وفي استجابته لدعاء الذاكرين المتفكرين﴿ لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ﴾ [ آل عمران : ١٩٥ ]، ثم بين هذا التشابه بقوله :﴿ يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم ﴾، المنكر الشرعي ما ينكره الشرع ويستقبحه، والمنكر العقلي والفطري ما تستنكره العقول الراجحة والفطر السليمة، لمنافاته للفضائل والمنافع الفردية والمصالح العامة، والشرع هو القسطاس المستقيم في ذلك كله، والمعروف ما يقابل المنكر مقابلة التضاد، ومن المنكر الذي يأمر به بعضهم بعضا الكذب والخيانة وإخلاف الوعود والفجور والغدر بنقض العهود، قال صلى الله عليه وسلم :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان )٢ رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة، وفي حديث آخر( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر )٣، رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة من حديث عبد الله بن عمرو. ومن المعروف الذي ينهون عنه الجهاد وبذل المال في سبيل الله للقتال وغير القتال كقولهم الذي ذكر في سورتهم :﴿ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ﴾ [ المنافقون : ٧ ].
وقبض الأيدي ضم أصابعها إلى باطن الكف، وهو كناية عن الامتناع من البذل، كما أن بسط اليد كناية عن الإنفاق والبذل، فهم ينهون الناس عن البذل، ويمتنعون منه بالفعل، واقتصر من منكراتهم الفعلية على هذا لأنه شرها وأضرها، وأقواها دلالة على النفاق، كما أن الإنفاق في سبيل الله أقوى الآيات على الإيمان، والآيات في هذا الإنفاق كثيرة جدا، تقدم كثير منها في سورتي البقرة والأنفال وهذه السورة :
﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾ أي نسوا الله أن يتقربوا إليه بالإنفاق في سبيله وغير ذلك من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، يعني أنهم لرسوخهم في الكفر لم يعد يخطر ببالهم أن له تعالى عليهم حق الطاعة والشكر، فهم لا يذكرونه بشي من أعمالهم، وإنما يتبعون فيها أهواءهم من الرياء ووسوسة الشيطان. وقد حذرهم ربهم طاعة الشيطان ولا سيما في البخل فقال :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ﴾ [ البقرة : ٢٦٨ ]، الفحشاء ما فحش قبحه وعظم كالزنا واللواط والبخل الشديد، وفسرت به في الآية كما فسر الفاحش بالبخيل في قول طرفة بن العبد في معلقته :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدِّدِ٤
وأما نسيان الله تعالى لهم فهو عبارة عن مجازاتهم على نسيانهم إياه بحرمانهم من فوائد ذكره، وفضيلة التقرب إليه بالإنفاق والجهاد في سبيله، وغير ذلك من توفيقه ولطفه في الدنيا، وحرمانهم من الثواب على ذلك في الآخرة كما سيأتي قريباً في قوله :﴿ حبطت أعمالهم ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ]، فالمراد بالنسيان لازمه، وهو جعلهم كالمنسي الذي لا يتعهد ولا يعتنى بشأنه، لا كالمنسي مطلقاً.
﴿ إن المنافقين هم الفاسقون ﴾ الراسخون في الفسوق -وهو الخروج من محيط الإيمان وفضائله- الناكبون عن صراطه المستقيم إلى طرق الشيطان ورذائله، وقد تقدم قريباً قوله تعالى :﴿ إنكم كنتم قوماً فاسقين ﴾ [ التوبة : ٥٣ ]، وهو في طائفة منهم، فلم يذكر بصيغة الحصر ؛ لأنه لا يصح فيهم، وإنما صح هنا لأنه في جنس المنافقين، والحصر فيهم إضافي، فهم أشد فسوقاً من جميع أجناس العصاة، حتى الكفار الذين يعتقدون صحة عقائدهم الباطلة وتعاليمهم المنكرة فلا يبلغ فسوقهم وخروجهم من طاعة الله بمخالفة دينهم، ولا الخروج من فضائل الفطرة السليمة، حد فسوق المنافقين الذين يخالف ظاهرهم باطنهم، والمرجع في تفصيل حالهم إلى ما تقدم من الآيات في أوائل سورة البقرة وفي آيات من سورة النساء، وناهيك بما تقدم من هذه السورة وما تأخر.
٢ - أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٤، والشهادات باب ٢٨، والوصايا باب ٨، والأدب باب ٦٩، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٧ـ ١٠٨، والترمذي في الإيمان باب ٢٠، وأحمد في المسند ٢/ ٢٠٠، ٢٩١، ٣٥٧، ٣٩٧، ٥٣٦..
٣ - أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٤، والمظالم باب١٧، والجزية باب ١٧، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٦، وأبو داود في السنة باب ١٥، والترمذي في الإيمان باب ١٤، والنسائي في الإيمان باب ٢٠، وأحمد في المسند ٢/ ١٨٩، ١٩٨..
٤ - البيت من الطويل، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص ٣٤، ولسان العرب (شدد)، (فحش)، (عيم) والتنبيه والإيضاح ٢/ ٣٢٢، وكتاب العين٢/ ٢٦٩، ومقاييس اللغة ٣/ ١٧٩، ٤/ ٤٧٨، وتهذيب اللغة ٤/ ١٨٨، ١١/ ٢٦٦، وتاج العروس (شدد)، (فحش)، (عقل)، (عيم)..
هذا بيان عام لحال جميع المنافقين ذكرانهم وإناثهم، مقرون بالوعيد الشديد على ما أعد لهم من الجزاء مع إخوانهم الكفار على فسادهم وإفسادهم، يتلوه ضرب المثل لهم بحال أمثالهم من الأمم قبلهم. فاتصالها بما قبلها من بيان شؤون المنافقين المتعلقة بغزوة تبوك هو من قبيل التناسب بين القواعد العلمية في الأخلاق، والسنن العامة في روابط الاجتماع، وبين الوقائع الخاصة التي تعد من الشواهد على هذه القواعد والسنن.
ثم قفى تعالى على بيان حالهم هذه بذكر ما أعده لهم ولإخوانهم الكفار من العقاب فقال :﴿ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها ﴾
الوعد يستعمل في الخير والشر، وفيما ينفع وفيما يضر، والوعيد خاص بالثاني، ولا يكاد يذكر الوعد فيه إلا مع ذكر متعلقه صراحة أو ضمناً كهذه الآية، وقد فصلنا هذه المسألة في الجزء السابع من هذا التفسير، وذكر في هذه الآية المنافقات مع المنافقين للنص على أن في النساء نفاقاً كالرجال، وإن كان هذا معروفاً في طباع الناس، كما قرن ذكر الذكور في صفات الإيمان، وأخَّر ذكر الكفار في مقام الوعيد للإيذان بأن المنافقين وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام شر من الكفار الصرحاء، ولا سيما المتدينين منهم بأديان باطلة من الأصل، أو محرفة ومنسوخة كأهل الكتاب، وقد تكرر هذا في القرآن وبينا وجهه.
وتقدم آنفا ذكر الخلود في جهنم وعيداً على محادة الله ورسوله، وزاد هنا ثلاثاً فقال :﴿ هي حسبهم ﴾ الخ فزيادة التشديد في الوعيد للفرق بين جزاء جماعة المنافقين والكفار الراسخين في النفاق والكفر المتعاونين على أعمالهما، وجزاء أفراد العاصين لله ورسوله، فمفاسد هؤلاء الأفراد شخصية كبيرها وصغيرها، وأما مفاسد جماعات النفاق والكفر القومية والأمم المتعاونة فيها فهي أكبر لأنها أعم. والمعنى أن نار جهنم فيها من الجزاء ما يكفيهم عقاباً في الآخرة، ﴿ ولعنهم الله ﴾ في الدنيا والآخرة بحرمانهم من رحمته الخاصة، التي لا يستحقها إلا المؤمنون الصادقون، الذين تذكر صفاتهم في الآيات المقابلة لهذه عقبها.
﴿ ولهم عذاب مقيم ﴾ أي ثابت لا يتحول عنهم، والظاهر من العطف أنه نوع من العذاب نفسي معنوي غير عذاب جهنم الحسي الخاص بها بنوعيه الظاهر والباطن : الظاهر كالسموم الذي يلفح وجوههم، والحرارة التي تنضج جلودهم، والحميم الذي يصهر ما في بطونهم، والزقوم طعام الأثيم، والضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. والباطن المعبر عن بقوله تعالى في الحطمة :﴿ التي تطلع على الأفئدة ﴾ [ الهمزة : ٧ ]، فهذا النوع المقيم إن كان في الدنيا فهو ما يلصق بقلوب المنافقين من خوف الفضيحة، وما تقدم بيانه في تفسير قوله تعالى في أموالهم وأولادهم :﴿ إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا ﴾ [ التوبة : ٨٥ ] وغير ذلك من تعذيب الضمير والوجدان، ولكل طائفة من الكفار عذاب دنيوي مقيم بحسب حالهم، ولا سيما المعطلين منهم، الذين لا هم لهم إلا في لذات الدنيا، فكل ما يفوتهم منها أو ينغصها عليهم لهم فيه عذاب لا يشعر به المؤمنون الراضون بقضاء الله، الصابرون على بلائه، الشاكرون لنعمائه، وإن كان في الآخرة فهو حرمانهم من لقاء الله تعالى وكرامته، والحجاب دون رؤيته، كما قال :﴿ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم ﴾ [ المطففين : ١٥ ]، وما يذكيه في قلوبهم إطلاع الله تعالى إياهم على أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم، كما تقدم في سورة الأعراف. ولعل هذا هو المراد، ويدل عليه ما يقابله في جزاء المؤمنين من الرضوان الأكبر الذي عطف على نعيم الجنة، ولا مانع من شموله لما في الدنيا والآخرة، ولكنه في عذاب الآخرة المعنوي أظهر، وأعم وأشمل، وتقدم ذكر العذاب المقيم في سورة المائدة بما يدل على أنه في النار [ المائدة : ٤٠ ].
هذا بيان عام لحال جميع المنافقين ذكرانهم وإناثهم، مقرون بالوعيد الشديد على ما أعد لهم من الجزاء مع إخوانهم الكفار على فسادهم وإفسادهم، يتلوه ضرب المثل لهم بحال أمثالهم من الأمم قبلهم. فاتصالها بما قبلها من بيان شؤون المنافقين المتعلقة بغزوة تبوك هو من قبيل التناسب بين القواعد العلمية في الأخلاق، والسنن العامة في روابط الاجتماع، وبين الوقائع الخاصة التي تعد من الشواهد على هذه القواعد والسنن.
﴿ كالذين من قبلكم ﴾ هذا عود إلى خطاب المنافقين الذين نزلت في شأنهم الآيات السابقة واللاحقة بعد ذكر حال جنس المنافقين وصفاتهم في كل زمان، يقول لهم : أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم في أقوام الأنبياء، مفتونون بأموالكم وأولادكم، مغرورون بدنياكم، كما كانوا مفتونين ومغرورين بأموالهم وأولادهم، ولكنهم ﴿ كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم ﴾، أي فكان مطلبهم من أعمالهم وسعيهم التمتع والتنعم بنصيبهم وحظهم الدنيوي من الأموال والأولاد، لم يكن لهم مطلب ولا غرض من الدنيا إلا التمتع بعظمتها تطغيهم بها القوة، وبلذاتها تغريهم بها الثروة، وبزينتها تفرحهم بها كثرة الذربة ؛ لأنهم لم يكن لهم مقاصد شريفة عالية من الحياة سواها كالذي يقصده أهل الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة من إعلاء كلمة الحق، وإقامة ميزان العدل في الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كان خلاقهم كخلاق السباع والأنعام من العدوان واللذات البدنية والنسل.
﴿ فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ﴾ من القوة والأموال والأولاد سواء، لم يفضلوا عليهم بشيء من إرشاد كلام الله وهدي رسوله في الفضائل والأعمال الصالحة التي تتزكى بها الأنفس البشرية، وتكون بها أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية، فكنتم أجدر باللائمة والعقاب منهم، لأنهم أوتوا من القوة المطغية، والأموال المبطرة، والأولاد الفاتنة، فوق ما أوتيتم، ولم يروا من آيات الله تعالى ما رأيتم، ولا سمعوا من حكم كلامه وشرائعه ما سمعتم، ولا نصب لهم من المثل الأعلى لهداية رسله ما نصب لكم بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله نزل عليه أحسن الحديث وأفضل الكتب وأكمل به الدين، وجعله خاتم النبيين، وأعاد ذكر استمتاع من قبلهم لما يقتضيه التبكيت والتأنيب من الإطناب لبيان اختلاف الحالين، فهو يقول لهم : إنكم فعلتم فعلتهم حذو القذة بالقذة مع توفر الدواعي على ضده.
﴿ وخضتم كالذي خاضوا ﴾ أي وخضتم في حمأة الباطل كالخوض الذي خاضوه من كل وجه، على ما بين حالكم وحالهم من الفرق، الذي كان يقتضي أن تكونوا أهدى منهم، وقال الفراء من علماء العربية : إن ( الذي ) تأتي مصدرية كما، فيكون التقدير : وخضتم كخوضهم، وقيل : إن ( الذي ) هنا للجنس كمن وما، وأنه بمعنى الذين، ولكن هذا ضعيف لفظاً ومعنى ؛ إذ المراد أنكم تخوضون كخوض من قبلكم وهو الذي يقتضيه العطف لا كالذين خاضوا مطلقاً من أي فريق كانوا.
﴿ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾ حبط العمل بكسر الباء حبطاً بسكونها وحبوطاً : فسد وذهبت فائدته، وحبط دم القتيل : هدر، وهو من حبط بطن البعير حبطاً [ بفتحتين ] انتفخ وفسد من كثرة أكل الحندقوق فلم يثلط، أي أولئك المستمتعون بخلاقهم وحظهم مما ذكر والخائضون في الباطل حبطت أعمالهم الدنيوية في الدنيا، فكان ضررها أكبر من نفعها لهم لإسرافهم فيها، وإفسادهم في الأرض، كما تحبط بطون الماشية تأكل الخضر فتستوبله فتنتفخ وتفسد ويكون سبب هلاكها، وحبطت أعمالهم الدينية في الآخرة من العبادات وصلة الرحم وصنع المعروف والصدقة وقرى الضيوف، فلم يكن لها أجر ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة، لأنها كانت لأجل الرياء والسمعة وحب الظهور والثناء، ولأجل أن يعاملوا معاملة المسلمين وتجري عليهم أحكامهم، لم تكن لأجل تزكية النفس، ولا لمرضاة الله عز وجل، وفي التنزيل عدة آيات في حبوط الأعمال بالشرك والرياء، أي بطلان ثوابها، وهو مستعار من حبط بطون الماشية كما تقدم، ويا لها من استعارة، فإن الماشية عندما تأكل الخضر من النبات تلذذاً به فتكثر منه فتستوبله وتستوخمه يكون حظها منها فساد بطونها وهلاكها، بدلاً من التغذي والانتفاع الذي تطلبه بشهوتها. وقيل : إن المراد بحبوط أعمالهم في الدنيا فشلهم وخيبتهم فيما كانوا يكيدون للمؤمنين.
وجملة القول : إن أعمالهم إما دينية وإما دنيوية :
فالدينية تحبط كلها في الآخرة لأن شرط قبولها الإيمان والإخلاص، وتحبط في الدنيا إذا ظهر نفاقهم، وافتضح أمرهم، ولحبوطها معنى آخر وهو أنها لا تأثير لها في تهذيب أخلاقهم وتزكية أنفسهم من الفحشاء والمنكر ومساوئ الأخلاق، لأن هذا لا يحصل إلا بالإخلاص.
وأما الدنيوية فهي قسمان :
١ تمتع بالأموال والأولاد والقوة.
٢ – كيد ومكر ونفاق.
وقد بينا معنى حبوطهما آنفا بما يطرد في أزمنة الأنبياء وما يشبهها كعهد الخلفاء الراشدين. وأما أعمال النفاق الدنيوية في أيام الملوك والأمراء الظالمين الفاسقين، فإنها تكون أكثر رواجاً ونتاجاً من أعمال الصادقين المخلصين، ولا دليل على فساد الملوك والأمراء والرؤساء أدل من تقريبهم للمنافقين المتملقين منهم، وإبعادهم للناصحين الصادقين عنهم، قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم :( الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )١ متفق عليه.
﴿ وأولئك هم الخاسرون ﴾ التامو الخسران دون غيرهم ممن لم يكن كل حظهم من نعم الله الاستمتاع العاجل، والخوض في الباطل، إذ جاء خسارهم من مظنة الربح والمنفعة، كقوله تعالى فيهم :﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ]، وكلُّ خسار دون هذا هين كأنه ليس بخسار، وهذا معنى صيغة الحصر في الجملة، فهل يعتبر بهذا أهل هذا الزمان ؟ أم هل يعتبر به التالون والمفسرون للقرآن، أم يقرؤونه ويفسرونه لكسب الحطام ؟
هذا بيان عام لحال جميع المنافقين ذكرانهم وإناثهم، مقرون بالوعيد الشديد على ما أعد لهم من الجزاء مع إخوانهم الكفار على فسادهم وإفسادهم، يتلوه ضرب المثل لهم بحال أمثالهم من الأمم قبلهم. فاتصالها بما قبلها من بيان شؤون المنافقين المتعلقة بغزوة تبوك هو من قبيل التناسب بين القواعد العلمية في الأخلاق، والسنن العامة في روابط الاجتماع، وبين الوقائع الخاصة التي تعد من الشواهد على هذه القواعد والسنن.
﴿ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات ﴾ هذا استفهام تقرير وتوبيخ لمن نزلت فيهم الآيات من الكفار والمنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يذكرهم بالأقوام الذين ضلوا من قبلهم ووصلت إليهم سيرتهم، وكانوا أشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً منهم، والمؤتفكات جمع مؤتفكة من الائتفاك وهو الانقلاب والخسف وهي قرى قوم لوط. وقد فصل التنزيل قصصهم في عدة سور، وبين هنا خلاصة نبأهم ومحل العبرة فيه بقوله :
﴿ أتتهم رسلهم بالبينات ﴾ أي فأعرضوا عنها وعاندوا الرسل، فأخذهم العذاب وهو الطوفان الذي أغرق قوم نوح، والريح العقيم التي أهلكت عاداً قوم هود، والصيحة التي أخذت ثمود، والعذاب الذي هلك به النمروذ الذي حاول إحراق إبراهيم، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها.
﴿ فما كان الله ليظلمهم ﴾ ما كان ليفعل كذا معناه ما كان من شأنه، وهو يتضمن نفي الفعل بدليله، فهو أبلغ منه، أي فما كان من سنة الله ولا من مقتضى عدله وحكمته أن يظلمهم بما حل بهم من العذاب وقد أنذرهم وأعذر إليهم ليجتنبوه.
﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ بجحودهم وعنادهم، وعدم مبالاتهم بإنذار رسلهم. والمراد من ضرب هذا المثل للكافرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والمنافقين أن سنة الله في عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة، فلا بد أن يحل بهم من العذاب ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا، كما قال :﴿ أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ﴾[ القمر : ٤٣ ].
وأما قوم محمد صلى الله عليه وسلم فقد أهلك الله تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم في أول غزوة هاجموهم فيها وهي غزوة بدر، ثم خذل الله من بعدهم في سائر الغزوات ﴿ وأخرج الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من ديارهم وقذف في قلوبهم الرعب ﴾ [ الأحزاب : ٢٦ ]، ﴿ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ [ الحشر : ٢ ]، ثم صار الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وأما المنافقون فما زالوا يكيدون له في السر، حتى فضحهم الله تعالى بهذه السورة في آخر الأمر، فتاب أكثرهم، ومات زعيمهم عبد الله بن أبيّ بغيظه وكفره، ولم تقم للنفاق قائمة من بعده، وسيأتي في هذه السورة نبأ موته، ولو بقي لهم قوة يكيدون بها للإسلام لما خفي أمرها على المؤرخين، فكان قوم محمد صلى الله عليه وسلم بهذا التمحيص خير أقوام النبيين، نشر الله تعالى بهم أعلام هذا الدين، فسادوا به جميع العالمين، ولولا ما أحدثه الروافض المنافقون، والخوارج المغرورون، من الشقاق بين المسلمين، لعمت سيادة الإسلام جميع العالمين.
هاتان الآيتان معطوفتان على الآيات الأربع التي قبلها لبيان المقابلة بين المؤمنين والمنافقين، وما بينهما من التضاد في الأقوال والأفعال التي يقتضيها الإيمان ـ الذي يدعيه المنافقون كذباً وتقية ـ والجزاء عليه وعليها.
قال عز وجل :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾ تقدم بيان معنى الولاية بمعناها العام في تفسير قوله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ]، وفي مواضع أخرى من أجزاء التفسير، وولاية النصرة الحربية وما يتعلق بها في مواضع أهمها في شأن المسلمين وأهل الكتاب تفسير قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، وفي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض والكفار بعضهم لبعض تفسير قوله تعالى :[ الأنفال : ٧٢ و٧٣ ].
ولاية المؤمنين والمؤمنات بعضهم لبعض في هذه الآية تعم ولاية النصرة، وولاية الأخوة والمودة، ولكن نصرة النساء تكون فيما دون القتال بالفعل، فللنصرة أعمال كثيرة، مالية وبدنية وأدبية، وكان نساء النبي صلى الله عليه سلم ونساء أصحابه يخرجن مع الجيش يسقين الماء ويجهزن الطعام، ويضمدن جراح الجرحى، وفي الصحيح أن فاطمة عليها السلام كانت هي وأم سليم وغيرها ينقزن قرب الماء في غزوة أحد ويسرعن بها إلى المقاتلة والجرحى يسقينهم ويغسلن جراحهم. وكان النساء يحرضن على القتال، ويرددن المنهزم من الرجال، قال حسان :
يظل جيادنا متمطّرات يلطِّمهنَّ بالخمر النساءُ١
وفي سيرة الخنساء رضي الله عنها أنها كانت تحرض أبناءها على القتال بشعرها كلما قتل واحد، حتى إذا ما قتل الثالث قالت : الحمد لله الذي أكرمني بشهادتهم. هذا شأن الخنساء في الإسلام وكانت من أرق النساء قلباً، وأكمدهن حزناً، ورثاؤها لأخويها ملأ أندية الأدب شجواً وشجنا. ونكتة الفرق بين المؤمنين والمنافقين في الوصف المتقابل هنا أن المنافقين لا ولاية بينهم بأخوة تبلغ فضيلة الإيثار، ولا تناصر يبلغ الإقدام على القتال، لأن النفاق شكوك وذبذبة من لوازمهما الجبن والبخل، وهما الخلقان المانعان من التناصر ببذل النفس والمال، بل قصاراه التعاون بالكلام وما لا يشق من الأعمال. وإنما تكون ولاية التناصر بالقتال لأصحاب العقائد الثابتة، والملة الراسخة، سواء كانت حقاً أو باطلة، ولذلك أثبتها القرآن لليهود والنصارى بعض كل منهما لبعض، وللكفار على الإطلاق، ولم يثبتها للمنافقين الخلص بعضهم مع بعض، بل كذب منافقي المدينة في وعدهم لليهود حلفائهم بنصرهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا قاتلوهم في قوله :﴿ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون ﴾ [ الحشر : ١١، ١٢ ].
فهذا ما يتعلق بالمقابلة بين المؤمنين والمنافقين في علاقة بعضهم ببعض، وخلاصته أن المنافقين يشبه بعضهم بعضاً في شكهم وارتيابهم ونفاقهم وآثاره من قول وعمل، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض في الولاية العامة من أخوة ومودة وتعاون وتراحم، حتى شبه النبي صلى الله عليه وسلم جماعتهم بالجسد الواحد، وبالبنيان يشد بعضه بعضا، وولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل، والملة والوطن، وإعلاء كلمة الله عز وجل، وفي آثار ذلك من القول والعمل المضاد لما عليه المنافقون وهو ما يبينه بياناً مستأنفاً بقوله :
﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ كما أن المنافقين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وهاتان الصفتان من أخص صفات المؤمنين التي يمتازون بها على المنافقين وعلى غيرهم من الكفار، وهما سياج حفظ الفضائل، ومنع فشو الرذائل، فراجع مزاياهما في تفسير﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ [ آل عمران : ١٠٤ ]، وقد فضل الله تعالى بهما أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم في قوله :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ] الآية، وورد في فرضيتهما وفوائدهما آيات أخرى وأحاديث حكيمة.
﴿ ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ﴾ أي يؤدون الصلاة المفروضة وما شاؤوا من التطوع على أقوم وجه وأكمله في شروطها وأركانها وآدابها ولا سيما الخشوع لله تعالى وكثرة ذكره فيها، وما يوجبه الإيمان من حضور القلب في مناجاته، ويعطون الزكاة المفروضة عليهم لمن فرضت لهم في الآية الستين من هذه السورة وما وفقوا له من التطوع. وفائدة إقامة هذين الركنين من أركان الإسلام مع الإخلاص في الإيمان قد بينه الله تعالى في قوله :﴿ إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين ﴾ [ المعارج : ١٩ ٢٦ ] الآيات، فالصلاة والزكاة علاج لما في جبلة الإنسان من الهلع والجبن الحاجم له عن الإقدام في الدفاع عن الحق وإعلاء كلمة الله، ومن الشح الصادّ له عن الإنفاق في سبيل الله، ولذلك كان المنافقون أجبن الناس وأبخلهم.
وقد جعل الله تعالى هذه الأربع غاية للإذن للمؤمنين بقتال من يقاتلونهم ويعادونهم في الدين، وسبباً لنصرهم وتمكينهم في الأرض بالملك والسيادة، إذ قال بعد أول ما نزل من الإذن لهم في القتال﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ﴾ [ الحج : ٤١ ]، وبهذه الصفات فتح المسلمون الفتوحات، ودانت لهم الأمم طوعاً، وبتركها سلب أكثر ملكهم، والباقي على وشك الزوال إن لم يتوبوا إلى ربهم، ويرجعوا إلى هداية دينهم، ولا سيما إقامة هذه الأركان منه.
وإقامة المؤمنين للصلاة يقابل في صفات المنافقين نسيانهم لله عز وجل، لأن روح الصلاة مراقبة الله تعالى وذكره بالقلب واللسان، ولا فائدة لها بدون ذلك كما قال تعالى :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ﴾[ العنكبوت : ٤٥ ]، أي إن ذكره الذي شرعت الصلاة له هو أكبر من كل شيء، إذ به يستحكم للمؤمن ملكة المراقبة لله تعالى في جملة أحواله وأعماله، فينتهي عن الفحشاء والمنكر، وتزكوا نفسه، وتعلو همته، وتكمل شجاعته، ويتم سخاؤه، ونجدته، ولذلك قال :﴿ قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ﴾ [ الأعلى : ١٤، ١٥ ] وقال لموسى عليه السلام ﴿ وأقم الصلاة لذكري ﴾[ طه : ١٤ ].
وإيتاء المؤمنين للزكاة يقابل في صفات المنافقين قوله :﴿ ويقبضون أيديهم ﴾، ولقد كان المنافقون يصلون، ولكنهم لم يكونوا يقيمون الصلاة، وكانوا يزكون وينفقون، ولكن خوفاً أو رياء لا طاعة لله، وقد تقدم في هذا السياق﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ﴾ [ التوبة : ٥٤ ]، وتقدم في سورة النساء ﴿ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ﴾ [ النساء : ١٤١ ]، ومن لم يتدبر هذه الآيات كلها والمقارنة بين صلاة المؤمنين وصلاة المنافقين وزكاتهما لا يفقه حكمة الله تعالى في هذين الركنين اللذين هما أعظم أركان الإسلام، وهذا الفقه لا يجده طالبه فيما يسميه الناس كتب الفقه، وإن زعم الخاسرون الجاهلون أنها تغني عن هداية كتاب الله تعالى، وأنه لم يبق للمسلمين فائدة منه إلا التعبد بتلاوته، والتبرك بمصاحفه، وكذا اتجار بعض حفاظ ألفاظه بتغنيهم به ! !
ثم قال :﴿ ويطيعون الله ورسوله ﴾ أي يستمرون على الطاعة، بترك ما نهوا عنه وفعل ما أمروا به بقدر الاستطاعة، وهو يقابل وصفه المنافقين بأنهم هم الفاسقون، فإن الفسق هو الخروج من حظيرة الطاعة كما تقدم، وقوله تعالى :﴿ أولئك سيرحمهم الله ﴾ يقابل نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه لهم كما علم مما فسرناهما به آنفاً. والمراد أنه تعالى يتعهد المؤمنين والمؤمنات برحمته الخاصة المستمرة في مستقبل أمرهم في الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته وطاعة رسوله، وقد قال المحققون من علماء العربية : إن السين في مثل﴿ سيرحمهم ﴾ لتأكيد الإثبات كما أن«لن » لتأكيد النفي، وكلتاهما للمستقبل. وقوله :﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾ تذييل لتعليل هذا الوعد المؤكد، وهو أنه تعالى عزيز لا يمتنع عليه شيء من وعده ولا من وعيده، وحكيم لا يضع شيئاً منهما إلا في موضعه، ولولا أن الوعد هنا للمقابلة بالوعيد الذي قبله لكان المناسب أن يقال : إن الله غفور رحيم.
هاتان الآيتان معطوفتان على الآيات الأربع التي قبلها لبيان المقابلة بين المؤمنين والمنافقين، وما بينهما من التضاد في الأقوال والأفعال التي يقتضيها الإيمان ـ الذي يدعيه المنافقون كذباً وتقية ـ والجزاء عليه وعليها.
ولما ذكر صفاتهم ورحمته لهم بالإجمال، بين ما وعدهم من الجزاء المفسر لرحمته المؤكدة بالتفصيل، في مقابلة ما أوعد به المنافقين وإخوانهم الكفار تفسيراً لنسيانه لهم، فقال :﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ﴾الآية نص في مساواة النساء للرجال في نعيم الآخرة كله حتى أعلاه، بالتبع لمساهمتهن لهم في التكليف وولاية الإيمان، إلا ما خصهن الشرع له لضعفهن، وانفرادهن بوظائفهن الخاصة بهن، إذ حط عنهن وجوب القتال، والصلاة والصيام في بعض الأحوال، وهذا من المعلوم بالضرورة من أحكام الإسلام، وإن جهله أو تجاهله أعداؤه الطغام، والجنات البساتين الملتفة الأشجار بحيث تجن الأرض أي تغطيها وتسترها. وجريان الأنهار من تحت أشجارها، مزيد في جمالها، ومانع من أسون مائها، والخلود فيها عبارة عن المقام الدائم، وتقدم مثله مراراً.
وأما المساكن الطيبة في جنات عدن فهي الدور والخيام التي يطيب لساكنيها بها المُقام في ذلك المَقام، لاشتمالها على جميع المرافق والأثاث والرياش والزينة والرزق الذي تتم به راحة المقيم فيها وغبطته، ومنها الغرفات التي قال الله تعالى فيها :﴿ وهم في الغرفات آمنون ﴾ [ سبأ : ٣٧ ] وقال :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين ﴾ [ العنكبوت : ٥٨ ] وقال :﴿ لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار ﴾ [ الزمر : ٢٠ ].
وأما إضافة هذه الجنات إلى [ عدن ] فقد تعددت في التنزيل بما جاوز جمع القلة، ومعنى العدن في اللغة الإقامة والاستقرار والثبات، يقال عدن في مكان كذا من بابي ضرب وقعد أقام وثبت فيه، ومنه المعدن لمستقر الجواهر كالذهب والفضة والماس وغيرها. وفسروها بقولهم : جنات إقامة وخلود كقوله تعالى :﴿ جنة الخلد ﴾ [ الفرقان : ١٥ ] و﴿ جنة المأوى ﴾ [ النجم : ١٥ ]، ولكن هاتين وردتا باللفظ المفرد مضافاً إلى معرفة، فهما اسمان لدار النعيم كلفظ الجنة في مثل ﴿ ادخلوا الجنة ﴾ [ الأعراف : ٤٩ ] و﴿ يدخلون الجنة ﴾ [ النساء : ١٢٤ ]، وسيأتي في سورة يونس ﴿ تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ﴾ [ يونس : ٩ ]، وأما " جنات عدن " فهو جمع أضيف إلى هذا اللفظ المفرد [ عدن ]، فجعله بمعنى إقامة كما قيل يقتضي جعله مكرراً مع قوله قبله﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ [ البقرة : ٢٥ ]، لأنها وصفت بالإقامة وبالخلود فيها أيضاً، على ما في تنكير عدن بهذا المعنى من الضعف، فوجب أن يكون لفظ عدن معرفة، ومعنى التركيب : في جنات المكان المسمى بهذا الاسم [ عدن ]. وقد ورد في الأحاديث ما يفسر هذا، وهو ذكر جنة عدن باللفظ المفرد المضاف، وفي بعضها ما يدل على أن المراد بها مكان أو منزل من منازل دار النعيم كالفردوس الذي هو أوسط الجنة أو أعلاها، وهو ما يكون فيه تجلي الرؤية، التي هي أعلى النعيم وأكمل المعرفة :
روى الشيخان من حديث أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه -وهو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه- في تفسير آيات سورة الرحمن ﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ وقوله بعد وصفهما ﴿ ومن دونهما جنتان ﴾ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما من فضة، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما من ذهب، وما بين القوم وبين أن ينظروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن )١، أي حالة كونهم في جنة عدن، فالمتبادر من هذا أن جنة عدن مكان سام في طبقة من طبقات الجنة، لا أنها نكرة مضافة إلى نكرة. ومجموع الحديث والآيات يدل على أن عدنا منزل في أعلى الجنة، وأن فيه جنات أي بساتين متعددة، لكل من خاف مقام ربه منها جنتان، ومن دونهما جنتان، وهي كالأربع الموصوفة في سورة الرحمن.
ويقرب من حديث أبي موسى المتفق عليه حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً :( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن )٢، فيفهم منه أن الفردوس هو جنة عدن، وهذا ما قاله مقاتل والكلبي، قالا : عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنات محدقة حولها الخ، وتتمته في تفسير البغوي. وقد ثبت في المرفوع أن أعلى درجة في الجنة على الإطلاق تسمى الوسيلة وهي درجة النبي صلى الله عليه وسلم التي طلب منا أن نسألها له في دعاء الأذان :( اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته )٣ فهذه درجة خاصة.
ومن هنا يعلم أن قوله تعالى :﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾ بعد ذكر جنات عدن يراد به أعلى درجات الرضوان، وما هو إلا مقام رؤية الرب تعالى التي تكمل بها معرفة الرحمن، وتتم سعادة الإنسان، فالإنسان جسد وروح، ففي الجنات ومساكنها أعلى النعيم الجسماني، ورضوان الله الأكبر هو أعلى النعيم الروحاني، فالتنوين فيه للتعظيم، والدليل على ما حررته أنه لم يعطف مفرداً على ما قبله مما وعدوا به على الإيمان وأعماله لأنه فوق كل جزاء، كما أشير إليه في قوله :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ [ يونس : ٢٦ ] ؛ بل جاء مرفوعاً في اللفظ كرفعه معناه، في جملة مستقلة تقديرها : وهنالك رضوان من الله أكبر وأعظم من تلك الجنات وما فيها. لا يقدر قدره، ولا يكتنه سره.
فهذا ما يفهم بمعونة الحديث من اختلاف إعرابه ووصفه باسم التفضيل [ أكبر ]، وقد ورد لفظ [ رضوان ] معطوفا على ما قبله غير موصوف بهذا الوصف، ولا موصولاً بكونه من الله في آية ﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ﴾ [ التوبة : ٢١ ] من هذه السورة وذكرت في تفسيرها ما ورد من قوله تعالى :﴿ ورضوان من الله ﴾ معطوفاً على الجنات والأزواج، فهل يجوز في بلاغة القرآن أن يكون ما هنا من اختلاف الإعراب ووصف أكبر بغير فائدة ؟ وهل يجد له من الفائدة ما هو أليق به مما ورد في الحديث الصحيح من نعمة الرؤية ؟ كلا، ولم يبين هذا بنص صريح في القرآن، لئلا يكون فتنة لمن لم تسم أرواحهم إلى إدراك هذه المعاني، فحكمته الرحمة بضعف الإنسان، واللبيب يفهم بالإشارة، ما لا يفهمه الغبي بأفصح عبارة، أفلم تر كيف اختلف الألباء في فهم قوله سبحانه :﴿ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ﴾ [ القيامة : ٢٢، ٢٣ ].
وأما تحقيق معنى الرؤية والحكم فيما اختلفوا فيه من معنى هذه الآية، ومعنى رداء الكبرياء وغيره من الحجب التي تحجب العبد عن ربه، فقد فصلته في تفسير سورة الأعراف تفصيلاً يقربه من العقل والعلم( ج ٩ تفسير )، فهو وما هنا مما انفرد هذا التفسير بتحقيقه بإلهام الله تعالى وفضله وله الحمد والمنة :
ووجه المقابلة الضدية بين ما هنا وما في وعيد المنافقين قبله ظاهر، فالجنات التي تجري من تحتها الأنهار والخلود فيها مقابل لنار جهنم والخلود فيها، والمساكن الطيبة في جنات عدن مقابل للعذاب المقيم، ورضوان الله الأكبر للمؤمنين مقابل للعنة الله للمنافقين والكافرين، إذ هي الطرد والحرمان من رحمته الخاصة، نعوذ بوجهه.
﴿ ذلك هو الفوز العظيم ﴾ أي ذلك الذي ذكر من الوعد للمؤمنين والمؤمنات بالنعيم الجسماني والروحاني، هو الفوز العظيم الذي يجزى به أولئك المؤمنون الصالحون المصلحون دون غيره من هذه الحظوظ الدنيوية الخسيسة الفانية التي يتكالب عليها الكفار والمنافقون الفاسدون المفسدون، وإنما هي في نظر المتقين بلغة عامل، وزاد مسافر، فما على المؤمن إلا أن يحاسب نفسه وينصب لها الميزان، من كفة المؤمنين وكفة المنافقين في هذه الآيات، ويحكم لها أو عليها بحكم الله عز وجل لا بهواها، ولا يغترن أحد بلقب الإسلام، ولا بدعوى الإيمان، إلا إذا شهد بصدقه القرآن وقد ورد في وصف الجنة ودرجاتها وحورها روايات كثيرة منها المنكر والموضوع، والمرسل والموقوف، ومن المرفوع منها ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن أنه سأل عمران بن حصين وأبا هريرة عن تفسير﴿ ومساكن طيبة في جنات عدن ﴾ فذكر أنهما قالا له : على الخبير سقطت، وأنهما سألا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرا وصفاً طويلاً منه أنه يوجد هنالك ألوف من البيوت في كل منها ألوف من الحور العين.. وهو منكر لا يصح له متن ولا سند. وقد قال المحقق ابن القيم : إنه لم يثبت في نساء الجنة حديث صحيح بأكثر من زوجين لكل رجل، وقد روى ابن أبي شيبة عن كعب الأحبار معنى هذا الحديث، والظاهر أن المرفوع من دسائسه أيضا.
٢ - أخرجه البخاري في الجهاد باب ٤، والتوحيد باب ٧٢٢ والترمذي في الجنة باب ٤، وأحمد في المسند ٢/ ٣٣٥..
٣ - أخرجه البخاري في الأذان باب ٨، وتفسير سورة ١٧، باب ١١، وأبو داود في الصلاة باب ٣٧، والترمذي في الصلاة باب ٤٣، والنسائي في الأذان باب ٣٨، وابن ماجه في الأذان باب ٤..
هاتان الآيتان تهديد للمنافقين، وإنذار لهم بالجهاد كالكفار المجاهرين، إذا استرسلوا بهذه الجرأة في إظهار ما ينافي الإيمان والإسلام، من الأقوال والأفعال، كالقول الذي أنكروه بعد أن أظهره الله عليه وكذبهم الله تعالى في إنكارهم، أو بجهاد دون جهاد الكفار المحاربين، وأقله ألا يعاملوا بعد هذا الأمر كمعاملة المؤمنين الصادقين، وأن يقابلوا بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر واللين، وغير ذلك مما يأتي بيانه في هذه السورة.
قال عزَّ وجلَّ :
﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ﴾ أي ابذل جهدك في مقاومة الفريقين الذين يعيشون مع المؤمنين بمثل ما يبذلون من جهدهم في عداوتك، وعاملهم بالغلظة والشدة الموافقة لسوء حالهم، وقدم ذكر الكفار في جهاد الدنيا لأنهم المستحقون له بإظهارهم لعداوتهم له صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، والمنافقون يخفون كفرهم وعداءهم ويظهرون الإسلام فيعاملون معاملة المسلمين في الدنيا، وقدم ذكر المنافقين في جزاء الآخرة لأن كفرهم أشد، وعذرهم فيه أضعف، وقد تقدم تفسير الجهاد بمعناه العام المستعمل في القرآن وبمعناه الخاص بالقتال في مواضع أجمعها الاستطراد الذي كتبناه في آخر آية الجزية[ ج ١٠ ]، وفيها أن الجهاد مشاركة من الجهد، وهو الطاقة والمشقة كالقتال من القتل، وأنه حسي ومعنوي، وقولي وفعلي، واتفق علماء الملة على أن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين، فلا يقاتلون إلا إذا أظهروا الكفر البواح بالردة، أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة، أو امتنع بعض طوائفهم من إقامة شعائر الإسلام وأركانه.
وروي في تفسير الآية المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه قال : جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان، ففسر الكفار هنا بالحربيين، وسيأتي من جهاد المنافقين حرمانهم من الخروج والقتال مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن صلاته على جنائزهم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت ﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ﴾ أمر رسول الله أن يجاهد بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر، فقوله :( فليلقه )يفهم منه أن هذا في جهاد الأفراد بالمعاملة، لا في جهاد الجماعات بالمقاتلة، فهو إذا بمعنى إزالة المنكر في قوله صلى الله عليه وسلم :( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )١، رواه الجماعة إلا البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وزاد ابن مسعود لقاء الكافر أو المنافق بوجه مكفهر، أي عبوس مقطب، ولكن لا يظهر جعله دون كراهة القلب، ولا أن كراهة القلب لا تستطاع، ولم نقف على سند هذا الحديث فنعرف مكانه من الصحة.
وكان من شمائله صلى الله عليه وسلم طلاقة الوجه والبشاشة في وجوه جميع من يلقاهم حتى الكفار والمنافقين، روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن عائشة أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال :( بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة )، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة : يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عائشة متى عهدتني فاحشاً ؟ إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره )٢، وكان ذلك الرجل على الراجح عيينة بن حصن الذي تقدم ذكره في المؤلفة قلوبهم في سياق قسمة الغنائم بعد غزوة حنين وسياق مصارف الزكاة، وكان سيد قومه على حماقته، فلقب بالأحمق المطاع، وقد أسلموا تبعاً له فكان إسلامهم أصح من إسلامه.
ولا تعارض بين الحديثين لأن حديث عائشة في شمائل النبي وآدابه العامة، وحديث ابن مسعود في معاملة خاصة بالمنافقين والكفار هي من قبيل العقوبة، فالأول : بمعنى قوله تعالى :﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ]، وفي معناه أحاديث كثيرة، والثاني : مفسر للآية التي نحن بصد تفسيرها وفي معناها قوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ﴾ [ التوبة : ١٢٣ ]، والغلظة في اللغة الخشونة والشدة، ومعاملة العدو المحارب بهما من الشيء في موضعه، ومعاملته باللين والرحمة وضع لهما في غير موضعهما :
ووضع الندى في موضع السيف في العلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
وأما الأعداء غير المحاربين كالمنافقين الذين قال الله عنهم لرسوله :﴿ هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ﴾ [ المنافقون : ٤ ] والكفار المعاهدين والذميين الخائنين فكان صلى الله عليه وسلم يعاملهم أولاً بلطفه ولينه بناء على حكم الإسلام الظاهر، وكانت هذه المعاملة هي التي جرأت المنافقين على أذاه بما تقدم في هذا السياق، ومنه قولهم فيه :[ هو أذن ]، وكذلك كفار اليهود كان صلى الله عليه وسلم عاهدهم ووفى لهم، وكانوا يؤذونه حتى بتحريف السلام عليه بقولهم : السام عليكم، وهو الموت فيقول :( وعليكم ) ثم تكرر نقضهم لعهده حتى كان من أمرهم ما تقدم بيانه في تفسير سورة الأنفال( ج ١٠ )، فأمره الله تعالى في هذه الآية بالغلظة على الفريقين في جهاده التأديبي لهم، ومثلها بنصها في سورة التحريم، وهو جهاد فيه مشقة عظيمة، لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين، وشدته في قتاله للأعداء الحربيين، يجب فيه إقامة العدل واجتناب الظلم.
ومن كلام عمر رضي الله عنه فيه : أذلوهم ولا تظلموهم. وهذه الغلظة الإدارية [ أي غير الطبيعية ] تربية للمنافقين وعقوبة، يرجى أن تكون سبباً لهداية من لم يطبع الكفر على قلبه، وتحيط به خطايا نفاقه، فإن اكفهراره صلى الله عليه وسلم في وجوههم تحقير لهم يتبعه فيه المؤمنون، وبه وبما سيأتي يفقدون جميع منافع إظهار الإسلام الأدبية، ومظاهر أخوة الإيمان وعطفه، فمن رأى أنه محتقر بين قومه وأبناء جنسه، من الرئيس والإمام الأعظم وغيره يضيق صدره، ويرجع إلى نفسه بالمحاسبة، فيراها إذا أنصف وتدبر مليمة مذنبة، فلا يزال ينحي عليها باللائمة، حتى تعرف ذنبها، وتثوب إلى رشدها، فتتوب إلى ربها، وهي سياسة حكمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين، وإسلام ألوف الألوف من الكافرين.
هذا وإن معاشرة الرئيس من إمام وملك وأمير لمنافقي قومه بمثل ما يعاشر به المخلصين منهم فيه توطين لأنفسهم على النفاق، وحمل لغيرهم على الشقاق، فكيف إذا وضع المحاسنة موضع المخاشنة، والإيثار لهم، حيث تجب الأثرة عليهم، وبالغ في تكريمهم بالحباء والاصطفاء، لمبالغتهم في التملق له ودهان الدهاء، والإطراء في الثناء ؟ فإن هذه المعاملة مفسدة لأخلاق الدهماء، ومثيرة لحفائظ المخلصين الفضلاء، وكم أفسدت على الملوك الجاهلين أمرهم، وكانت سبباً لإضاعة ملكهم.
﴿ ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾ هذا جزاؤهم في الآخرة عطفه على جزائهم في الدنيا، فهم لا مأوى لهم يلجؤون إليه هنالك إلا دار العذاب الكبرى، التي لا يموت من أوى إليها ولا يحيا، فهم يصيرون إليها معتولين، ويُدعُّون إليها مقهورين، لا يأوون إليها مختارين، وبئس المصير هي :﴿ إنها ساءت مستقرا ومقاما ﴾ [ الفرقان : ٦٦ ].
٢ - أخرجه البخاري في الأدب باب ٣٨، ومسلم في البر حديث ٧٣، وأبو داود في الأدب باب٥..
هاتان الآيتان تهديد للمنافقين، وإنذار لهم بالجهاد كالكفار المجاهرين، إذا استرسلوا بهذه الجرأة في إظهار ما ينافي الإيمان والإسلام، من الأقوال والأفعال، كالقول الذي أنكروه بعد أن أظهره الله عليه وكذبهم الله تعالى في إنكارهم، أو بجهاد دون جهاد الكفار المحاربين، وأقله ألا يعاملوا بعد هذا الأمر كمعاملة المؤمنين الصادقين، وأن يقابلوا بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر واللين، وغير ذلك مما يأتي بيانه في هذه السورة.
﴿ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ﴾هذا استئناف لبيان السبب المقتضي لجهادهم كالكفار، وهو أنهم أظهروا الكفر بالقول، وهموا بشر ما يغري به من الفعل، وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أظهره الله على ذلك، وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم عنه، ويحلفون على إنكارهم ليصدقوا كدأبهم الذي سبق، ﴿ اتخذوا أيمانهم جنة ﴾ [ المجادلة : ١٦ ]، وكانوا يحلفون للمؤمنين ليرضوهم، وكانوا يخوضون في آيات الله وفي رسوله بما هو استهزاء خرجوا به من حظيرة الإيمان الذي يدعونه إلى محظور الكفر الذي يكتمونه. وفي هذه الآية إسناد قول آخر من الكفر إليهم ينافي الإسلام الظاهر، فضلاً عن الإيمان الباطن. والمعنى يحلفون بالله أنهم ما قالوا تلك الكلمة التي أسندت إليهم، والله تعالى يكذبهم ويثبت بتأكيد القسم و«قد » أنهم قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم، ولم يذكر الكلمة التي نفوها وأثبتها، لأنها لا ينبغي أن تذكر في نص الكتاب فيتعبد المسلمون بتلاوتها.
وقد اختلف رواة التفسير المأثور في تعيينها والقائلين لها، فعن ابن عباس وأنس وعروة أنها نزلت فيمن قال منهم : لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحمير. وفيه عدة روايات تقدم بعضها في الذين قالوا :﴿ إنما كنا نخوض ونلعب ﴾، وأشهرها في كتب التفسير ما أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عروة أن رجلا من الأنصار يقال له الجُلاس [ بضم الجيم ] بن سويد قال ليلة في غزوة تبوك : والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شر من الحمير، فسمعه غلام له يقال له عمير بن سعد وكان ربيبه فقال : أي عم تب إلى الله. وجاء الغلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه فجعل يحلف ويقول : والله ما قلت يا رسول الله، فقال الغلام : بلى والله لقد قلته، فتب إلى الله، ولولا أن ينزل القرآن فيجعلني معك ما قلته، فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا فلا يتحركون إذا نزل الوحي، فرفع عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ﴾ إلى قوله ﴿ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ﴾ فقال : قد قلته وقد عرض الله عليّ التوبة فأنا أتوب، فقبل منه ذلك، وقتل له قتيل في الإسلام، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه ديته فاستغنى بذلك، وكان همَّ أن يلحق بالمشركين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام ( وعت أذنك ). وأخرج عبد الرازق عن ابن سيرين قال : لما نزل القرآن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن عمير فقال له :( يا غلام وعت أذنك وصدقك ربك ) اه. وقد أشار الحافظ الذهبي إلى ضعف حديث جُلاس هذا مع قوله أنه كان من المنافقين وتاب. وروي أنه كان من المخلفين لم يحضر غزوة تبوك.
وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل شجرة فقال :( إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه )، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( علام تشتمني أنت وأصحابك ) ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم، وأنزل الله ﴿ يحلفون بالله ما قالوا ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهني، فقال عبد الله بن أبيّ للأوسي انصروا أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك. والله﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ﴾ [ المنافقون : ٨ ]، فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله ﴿ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ﴾.
وأقول : إن قول عبد الله بن أبي هذا قد رواه الشيخان وغيرهما فأخرجه البخاري في تفسير سورة المنافقين، وأنه كان في غزاة، وذكر الحافظ في شرحه عن محمد بن كعب عن زيد بن أرقم عند النسائي، وعن سعيد بن جبير مرسلا عند عبد بن حميد بإسناد صحيح أنها غزوة تبوك، وأن الذي عليه أهل المغازي أنها في غزوة بني المصطلق. وأن هذا القول كان سبب نزول سورة المنافقين، وليس فيه أن آية براءة التي نفسرها نزلت في ذلك. وحديث البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله من طريقين أن الخصام الذي كان سبب قول ابن أبي -لعنه الله- ما قال كان بين مهاجري وأنصاري، وذكر الحافظ في شرحه رواية قتادة في ذلك، وفي المسألة روايات أخرى، ولا مانع من التعدد عقلاً، وإن لم يصح نقلاً. وابن أبي كان من المخلفين، لم يخرج في غزوة تبوك كالجُلاس.
﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾ وهو اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة منصرفه من تبوك، ذكر ابن القيم في هذه المسألة من زاد المعاد ما نصه :
ذكر أبو الأسود في مغازيه عن عروة قال : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً من تبوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من المنافقين فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق، فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فلما غشيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر خبرهم فقال :( من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم )، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هموا بالمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثموا وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه، وأمر عماراً أن يأخذ بزمام الناقة وأمر حذيفة أن يسوقها فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم، وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع ومعه محجن واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضرباً بالمحجن، وأبصر القوم وهم متلثمون ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم الله سبحانه حين أبصروا حذيفة، وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أدركه قال :( اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار وراءها )، فأسرعوا حتى استووا بأعلاها، فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة :( هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب أحداً ) ؟ قال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان، وقال : كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا ) ؟ قالوا : لا والله يا رسول الله، قال :( فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا طلعت في العقبة طرحوني منها )، قالوا : أو لا تأمر بهم يا رسول الله إذاً فنضرب أعناقهم ؟ قال :( أكره أن يتحدث الناس ويقولوا : إن محمداً قد وضع يده في أصحابه )، فسماهم لهما وقال :( اكتماهم ).
وهذا السياق رواه البيهقي وغيره من هذه الطريق، وقد روى القصة ابن إسحاق في سيرته وذكر أسماء أولئك الرهط بما أنكروا عليه بعضه، والصحيح في عدد هؤلاء المنافقين ما رواه مسلم من حديث عمار وحذيفة اللذين كانا مع راحلة النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة، وقد أخبرهما بأسمائهم وأمرهما بكتمانها، فقد روى في صحيحه من حديث قيس بن عباد قال : قلنا لعمار : أرأيت قتالكم أرأياً رأيتموه فإن الرأي يخطئ ويصيب ؟ أو عهداً عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة. وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن في أمتي قال شعبة وأحسبه قال حدثني حذيفة، وقال غندر أراه قال :( في أمتي ) اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدُّبيلة١ سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم ).
وروي بعضه من حديث أبي الطفيل قال : كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟ قال : فقال له القوم أخبره إذ سألك. قال : كنا نخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة، قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا علمنا بما أراد القوم، وقد كان في حرة فمشى فقال :( إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد )، فوجد قوماً قد سبقوه فلعنهم يومئذ اه.
وقد ذكر الطبراني في مسند حذيفة أسماء أصحاب العقبة، وروى عن ابن عبد العزيز بن بكار أنه قال : هم متعب بن بشير، ووديعة بن ثابت، وجد بن عبد الله بن نبتل بن الحارث من بني عمرو بن عوف، والحارث بن يزيد الطائي، وأوس بن قيظي، والحارث بن سويد، وسعد بن زرارة، وقيس بن فهد، وسويد وداعس من بني الحبلى، وقيس بن عمرو بن سهل، وزيد بن اللصيت، وسلالة بن الحمام، وهما من بني قينقاع أظهروا الإسلام اه من تفسير ابن كثير، وإنما ذكرت عددهم وأسماءهم حتى لا يكون لخلفائهم من منافقي الروافض سبيل إلى تضليل عوام المسلمين، بما اعتادوا من الطعن في خير أصحاب النبيين والمرسلين.
﴿ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾ نقم منه الشيء أنكره وعابه كما في الأساس، وكذا عاقبه عليه، وقال الراغب : نقمت الشيء إذا نكرته إما باللسان وإما بالعقوبة. أي وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم شيئاً يقتضي الكراهة والكفر والهم بالانتقام إلا إغناء الله تعالى إياهم ورسوله من فضله تعالى بالغنائم التي هي عندهم غاية الغايات في هذه الحياة، وكانوا كسائر الأنصار من الفقراء. فالإغناء من فضل الله ببعثة الرسول والنصر له وما فيه من الغنائم كما وعده. وتقدم شرحه في تفسير آية﴿ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله ﴾ [ التوبة : ٥٩ ] كما تقدم في الكلام على قسمة غنائم حنين قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار ( وكنتم عالة فأغناكم الله بي ).
والذين قالوا : إن الآية نزلت في الجُلاس بن سويد حملوا الإغناء على الدية التي ذكرت في قصته، وهو ضعيف لأن الكلام في توبيخ المنافقين كافة، ولا سيما الذين هموا بما لم ينالوا، ولم يكن جُلاس منهم، وغاية ما يقال فيها : إنها تدخل في عموم الإغناء، فيحمل جلاس من توبيخها علاوة على ما يحمله سائر المنافقين، وقد تاب وأناب رضي الله عنه.
وهذا التعبير من نوع البديع الذي يسمونه المدح في معرض الذم، كقول الشاعر في كره ساسة الترك في الآستانة للعرب :
وما نقموا منا بني العرب خلة سوى أن خير الخلق لم يك أعجما
﴿ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ﴾ أي فإن يتوبوا من النفاق، وما يصدر عنه من مساوئ الأقوال والأفعال، يكن ذلك المتاب خيراً لهم في الدنيا والآخرة، كما يدل عليه مقابله في الجملة التالية، أما في الدنيا فبما فيه من الفوائد الروحية والعلمية بالإيمان بالله، والتوكل عليه، والرضا بقضائ
هذا بيان لحال طائفة أخرى من أولئك المنافقين الذين أغناهم الله ورسوله من فضله بعد الفقر والإملاق، ويوجد مثلهم في كل زمان، وهم الذين يلجؤون إلى الله تعالى في وقت العسرة والفقر، أو الشدة والضر، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه، إذا هو كشف ضرهم، وأغنى فقرهم، فإذا استجاب لهم نكسوا على رؤوسهم، ونكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة، وبطروا الحق، وهضموا حقوق الخلق.
وهذا مثل من شر أمثالهم :
﴿ *ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ﴾ أي ومن هؤلاء المنافقين من عاهد الله تعالى وأقسم أوكد الإيمان لئن آتاهم من فضله مالاً وثروة ليشكرن له نعمته بالصدقة منها والأعمال الشرعية النافعة التي ينتظمون بها في سلك الصالحين القائمين بحقوق الله وحقوق عباده. وأعاد اللام الواقعة في جواب القسم في ﴿ لنكونن ﴾ لتأكيد العزم على الاستعانة والتوسل بفضل المال، إلى الاستقامة على منهج الصلاح، بما هو وراء الصدقات، التي عقدوا العهد والقسم عليها أولاً وبالذات.
هذا بيان لحال طائفة أخرى من أولئك المنافقين الذين أغناهم الله ورسوله من فضله بعد الفقر والإملاق، ويوجد مثلهم في كل زمان، وهم الذين يلجؤون إلى الله تعالى في وقت العسرة والفقر، أو الشدة والضر، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه، إذا هو كشف ضرهم، وأغنى فقرهم، فإذا استجاب لهم نكسوا على رؤوسهم، ونكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة، وبطروا الحق، وهضموا حقوق الخلق.
﴿ فلما آتاهم من فضله ﴾ ما طلبوا من سعة رزقه.
﴿ بخلوا به وتولوا ﴾ أي ما لبثوا أن بخلوا بما آتاهم عقب حصوله، وأمسكوه فلم يتصدقوا بشيء منه، وتولوا وانصرفوا عن الاستعانة به على الطاعة وإصلاح حالهم وحال أمتهم كما عاهدوا وأقسموا، ولم يكن توليهم هذا أمرا عارضاً شغلهم عنه شاغل يزول بزواله، بل تولوا ﴿ وهم معرضون ﴾ بكل قواهم عن الصدقة والعمل الصالح، فكان الإعراض صفة راسخة فيهم حاكمة عليهم، بحيث إذا ذكروا بما يجب عليهم لا يذكرون، وإذا دعوا إليه لا يستجيبون.
هذا بيان لحال طائفة أخرى من أولئك المنافقين الذين أغناهم الله ورسوله من فضله بعد الفقر والإملاق، ويوجد مثلهم في كل زمان، وهم الذين يلجؤون إلى الله تعالى في وقت العسرة والفقر، أو الشدة والضر، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه، إذا هو كشف ضرهم، وأغنى فقرهم، فإذا استجاب لهم نكسوا على رؤوسهم، ونكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة، وبطروا الحق، وهضموا حقوق الخلق.
﴿ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم ﴾ يقال أعقبه الشيء إذا جعله عاقبة أمره وثمرته، أي فأعقبهم الله تعالى أو أعقبهم ذلك البخل وتولي الإعراض، بعد العهد الموثق بأوكد الإيمان، نفاقاً راسخاً في قلوبهم متمكنا منها ملازماً لها.
﴿ إلى يوم يلقونه ﴾ للحساب في الآخرة، لأنه بلغ المنتهى الذي لا رجاء معه في التوبة. ذلك ﴿ بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ﴾ فذكر سببين هما أخص صفات المنافقين وأظهر الآيات الدالة على نفاقهم : إخلاف الوعد والكذب كما تقدم بيانه ونصوص الأحاديث فيه، فكيف إذا كان الوعد لله تعالى مع العهد والقسم، وقد عبر عن إخلافهم الوعد بالفعل الماضي لأنه في حادثة وقعت، وعبر عن كذبهم بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار، لأن ذلك شأنهم الدائم الذي هو أخص لوازم النفاق، فالمنافق مضطر إلى الكذب في كل وقت لأن ظاهره يخالف باطنه، ولا بد له من كتمان ما في باطنه وإظهار خلافه دائما لئلا يظهر فيفتضح ويعاقب، ولا يحصل ذلك إلا بالكذب. وإسناد إعقابهم النفاق إلى الله تعالى أو إلى البخل والتولي عن الطاعة قولان للمفسرين مآلهما واحد، إلا أن الثاني آدب. وذلك أن سنته تعالى في البشر أن العمل بما يقتضيه النفاق يمكن النفاق ويقويه في القلب، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيده قوة ورسوخاً في النفس، وهكذا جميع صفات النفس وأخلاقها وعقائدها، تقوى وترسخ بالعمل الذي يصدر عنها، فإسنادها إلى العمل يكون صحيحاً بهذا الاعتبار لا بالمعنى الذي تقوله المعتزلة القدرية، كما أن إسنادها إلى الله تعالى يكون صحيحاً لأنها مقتضى سننه وتقديره، لا بالمعنى الذي تقوله الجبرية والصوفية، فالمراد من التقديرين واحد، ويؤيده ما ورد في سبب النزول وهو :
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ ومنهم من عاهد الله ﴾ أن رجلا كان يقال له ثعلبة من الأنصار أتى مجلساً فأشهدهم فقال : لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه، وتصدقت، وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف ما وعده، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده، فقص الله شأنه في القرآن اه.
وأخرج الحسن بن سفيان وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والعسكري في الأمثال والطبراني وابن منده والبارودي وأبو النعيم في معرفة الصحابة، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، قال :( ويحك يا ثعلبة أما ترضى أن تكون مثلي ؟ فلو شئتُ أن يسير ربي هذه الجبال معي لسارت ). قال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فوالذي بعثك بالحق إن آتاني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه. قال :( ويحك يا ثعلبة قليل تطيق شكره، خير من كثير لا تطيق شكره ). فقال : يا رسول الله ادع الله تعالى لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اللهم أرزقه مالاً )، فاتجر واشترى غنما فبورك له فيها، ونمت كما ينمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة فتنحى بها، فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يشهدها بالليل. ثم نمت كما ينمو الدود فضاق بها مكانه، فتنحى به فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الأخبار، وفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فأخبروه أنه اشترى غنما وأن المدينة ضاقت به، وأخبروه بخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ويح ثعلبة بن حاطب ).
ثم إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الصدقات، وأنزل الله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ]، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين : رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سلمة يأخذان الصدقات، فكتب لهما أسنان الإبل والغنم كيف يأخذانها على وجهها، وأمرهما أن يمرا على ثعلبة بن حاطب وبرجل من بني سليم، فخرجا فمرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال : أرياني كتابكما، فنظر فيه، فقال : ما هذا إلا جزية، فانطلقا حتى تفرغا ثم مرا بي، قال : فانطلقا وسمع بهما السلمي فاستقبلهما بخيار إبله فقالا : إنما عليك دون هذا، فقال : ما كنت أتقرب إلى الله إلا بخير مالي فقبلاه، فلما فرغا مرا بثعلبة فقال : أرياني كتابكما فنظر فيه فقال : ما هذا إلا جزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى قدما المدينة فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلمهما :( ويح ثعلبة بن حاطب )، ودعا للسلمي بالبركة، وأنزل الله :﴿ ومنهم من عاهد الله لئن أتانا الله من فضله لنصدقن ﴾. قال : فسمع بعض من أقارب ثعلبة، فأتى ثعلبة فقال : ويحك يا ثعلبة أنزل الله فيك كذا وكذا.
قال : فقدم ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هذه صدقة مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله تعالى قد منعني أن أقبل منك )، قال : فجعل يبكي ويحثي التراب على رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هذا عملك بنفسك، أمرتك فلم تطعني ) فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى. ثم أتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر اقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار، فقال أبو بكر : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلها ؟ فلم يقبلها أبو بكر. ثم ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتاه فقال : يا أبا حفص يا أمير المؤمنين اقبل مني صدقتي، وتوسل إليه بالمهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر أقبلها أنا ؟ فأبى أن يقبلها. ثم ولي عثمان فهلك في خلافة عثمان، وفيه نزلت ﴿ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ﴾ [ التوبة : ٧٩ ] قال وذلك في الصدقة اه.
وفي الحديث إشكالات تتعلق بسبب نزول الآيات، وظاهر سياق القرآن أنه كان في سفر غزوة تبوك، وظاهره أنها نزلت عقب فرضية الزكاة والمشهور أنها فرضت في السنة الثانية وفيه خلاف تقدم في تفسير قسمة الصدقات، وبعدم قبول توبة ثعلبة وظاهر الحديث ولا سيما بكائه أنها توبة صادقة، وكان العمل جارياً على معاملة المنافقين بظواهرهم، وظاهر الآيات أنه يموت على نفاقه، ولا يتوب عن بخله وإعراضه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه عاملاه بذلك لا بظاهر الشريعة، وهذا لا نظير له في الإسلام.
هذا بيان لحال طائفة أخرى من أولئك المنافقين الذين أغناهم الله ورسوله من فضله بعد الفقر والإملاق، ويوجد مثلهم في كل زمان، وهم الذين يلجؤون إلى الله تعالى في وقت العسرة والفقر، أو الشدة والضر، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه، إذا هو كشف ضرهم، وأغنى فقرهم، فإذا استجاب لهم نكسوا على رؤوسهم، ونكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة، وبطروا الحق، وهضموا حقوق الخلق.
﴿ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ﴾ أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يعلنون غير ما يسرون، ويقولون ما لا يفعلون، ويتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان ولمز الرسول، أن الله يعلم سرهم الكامن في أعماق قلوبهم، ونجواهم التي يخصون بها من يثقون بمشاركته إياهم في نفاقهم، ﴿ وأن الله علام الغيوب ﴾ كلها﴿ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ﴾ [ آل عمران : ٥ ]، ﴿ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ﴾[ غافر : ١٩ ]، فهم يكذبون على الله فيما يعاهدونه به، وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه.
الاستفهام في قوله تعالى ألم يعلموا للتوبيخ والإنذار، أو للتنبيه القاطع لطريق الاعتذار، فإن المنافقين كانوا يؤمنون بوجود الله وعلمه إيماناً إجماليا تقليدياً، وإنما كانوا يرتابون في الرسالة والوحي والبعث، ولكن ما ذكر من عملهم وأيمانهم الكاذبة باسمه هو عمل من لا يؤمن به، ولا يعلم أنه يعلم سره ونجواه وأنه علام الغيوب، فإن من يعلم هذا علماً صحيحاً فلا بد أن يستحيي من الله ويخاف عقابه إن كان يؤمن بالبعث والجزاء، ولكنهم لا يعلمون ذاك ولا يؤمنون بهذا.
هذا بيان لحال أولئك المنافقين في جملتهم مع المؤمنين في جملتهم فيما كان من أمرهم في الصدقات للجهاد، إذ لم يقف المنافقون عند حد بخلهم وتخلفهم، بل تعدوه إلى لمز المؤمنين وذمهم، بما بذله غنيهم وفقيرهم، ولحكم من تردوا في هذه الهاوية من النفاق، وهو أنه لم يعد لهم أدنى حظ من التلبس بالإسلام، ولا أدنى نفع من استغفار الرسول ودعائه لهم، لرسوخهم في الكفر بالله ورسوله، وعدم الرجاء في إيمانهم.
قال عز وجل :
﴿ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم ﴾ أي أولئك هم الذين يلمزون المتطوعين من المؤمنين ويعيبونهم في أمر الصدقات التي هي أظهر آيات الإيمان، أو أعني بما ذكر من الذم الذين يلمزون المطوعين ويذمونهم من أخص فضائلهم التي تجرد أولئك المنافقون منها. فأصل «المطوعين » المتطوعين، أدغمت التاء في الطاء، فهي كالمطهرين بتشديد الطاء والمتطهرين. والتطوع في العبادة ما زاد على الفريضة، والصدقات جمع صدقة تطلق على الأنواع والأفراد منها. وقوله :﴿ في الصدقات ﴾ كقوله :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات ﴾ [ التوبة : ٥٨ ]، ولكن اللمز هنالك في قسمتها وههنا في صفة أدائها ومقدارها والنية فيها كما يذكر في سبب النزول قريباً. وقال المفسرون إنه متعلق بيلمزون، ولا يجوز تعلقه بالمطوعين للفصل بكونهم من المؤمنين، وهذا الفصل ليس بأجنبي بل هو بيان للمطوعين، ولكن التطوع واللمز كلاهما يتعديان بالباء لا بفي، فلا بد من التقدير كما فعلت. والمتطوعين والمطوعة يطلق على الذين يتبرعون بالجهاد والغزو من تلقاء أنفسهم بدون أن يدعوهم الإمام أو السلطان لذلك بالتعيين، وتكون نفقتهم من بيت المال، هذا هو المعنى الاصطلاحي، والمتطوعون بالحرب في هذا العصر تتولى نفقتهم إدارة العسكر من مال الحكومة، إذ لا يمكنهم في النظام العسكري الحديث أن يتولوا أمر النفقة على أنفسهم.
والتطوع في أصل اللغة تكلف الطاعة أو الإتيان بما في الطوع من العمل، وقد يطلق في اللغة على ما يعم الواجب، كما قيل في تفسير آية السعي بين الصفا والمروة ﴿ ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم ﴾ [ البقرة : ١٥٨ ]، واستعمل في القرآن والحديث بمعنى النفل أي الزيادة على الواجب. قال تعالى في آيات الصيام﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيراً فهو خير له ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ]، أي فمن زاد في الفدية على طعام مسكين واحد، أو في الصيام على شهر رمضان فهو خير له، وفي حديث الأعرابي المستفيض في كتب الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم عند ما ذكر له الصلوات الخمس وصيام رمضان وشرائع الإسلام وسأله هل عليه غيرها ؟ قال له صلى الله عليه وسلم( لا، إلا أن تطوع )١ أي تتطوع وتتبرع من تلقاء نفسك.
ولا يظهر كون التطوع هنا بمعنى التبرع بالغزو، إذ الكلام خاص بغزوة تبوك، وقد تقدم أن النفر إليها كان واجباً على كل من قدر عليه ؛ لأن الله قد استنفر المؤمنين لها. ووبخ المتثاقلين عنها، وقال :﴿ انفروا خفاقاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ﴾ [ التوبة : ٤١ ]، ولكن يصح أن يكون المراد بالمطوعين ما يدل عليه المعنى اللغوي العام وهم الذين نفروا للجهاد بأموالهم وأنفسهم طاعة لله ولرسوله من غير أن يكره أحد منهم على ذلك، أو يطلب بشخصه له. وأظهر منه أن يراد هنا التطوع بالصدقات، وهو المختار عندنا، على أن اللمز واقع في شأنها وما يتعلق بصفتها ومقدارها، لا متعلق بها نفسها، وهو الواقع المعقول، والمنقول في سبب النزول الآتي.
والذين لا يجدون إلا جهدهم } أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم، والجهد بالضم والفتح الطاقة وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان، مأخوذ من طاقة الحبل وهي الفتلة الواحدة، والفتيل من الفتل التي يتألف منها، وتسمى قوة وجمعها قوى كما بيناه في تفسير﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ] من آيات الصيام. والمراد بهم الفقراء الذين تصدقوا بقليل هو مبلغ جهدهم وآخر طاقتهم، وعطفهم على المطوعين من عطف الخاص على العام تنويهاً بهم، لأن مجال لمزهم وعيبهم عند المنافقين أوسع، والسخرية منهم في عرفهم أشد، وإن كانوا أجدر بالثناء والإكبار عند المؤمنين، ولذلك قيل : إنهم هم المراد بقوله تعالى :﴿ فيسخرون منهم ﴾، أي يستهزؤون بهم احتقاراً لما جاؤوا به، وعدَّا له من الحماقة والجنون في الدين، وقيل : إنه عام يشمل المكثرين والمقلين.
قال تعالى في بيان جزاء هؤلاء اللامزين الساخرين﴿ سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ﴾ هذا التعبير يسمى مشاكلة، وما هو إلا العدل في جزاء المماثلة، أي جزاهم بمثل ذنبهم فجعلهم سخرية للمؤمنين وللناس أجمعين، بفضيحته لهم في هذه السورة ببيان هذا الخزي وغيره من مخازيهم وعيوبهم، ولهم فوقه عذاب أليم تقدم بيانه في هذا السياق بهذا اللفظ وغيره.
لا يتجلى المراد من هذه الآية إلا ببيان ما نزلت فيه ومن نزلت فيهم، وقد روي فيه عدة روايات في الصحاح والسنن والتفسير المأثور :
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال : لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون : إن الله غني عن صدقة هذا، وما فعل الآخر هذا إلا رياء. فنزلت﴿ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ﴾٢ [ التوبة : ٧٩ ] الآية.
هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير، وقال في الزكاة : لما نزلت آية الصدقة٣. الخ، وفي رواية : كنا نتحامل على ظهورنا. قال الحافظ في تفسير «نتحامل » من فتح الباري : أي يحمل بعضنا لبعض بالأجرة. وقال صاحب المحكم : تحامل في الأمر تكلفه على مشقة، ومنه تحامل على فلان أي كلفه ما لا يطيق، وذكر الروايات في ذلك بما نختاره على ما جمعه السيوطي في الدر المنثور لبيان طرقه وصفته، فقال :
وروى البزار من طريق عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً )، قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله عندي أربعة آلاف : ألفين أقرضهما ربي، وألفين أمسكهما لعيالي، فقال :( بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت ). قال : وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر. الحديث.
قال البزار : لم يسنده إلا طالوت بن عباد عن أبي عوانة عن عمر، قال : وحدثناه أبو كامل عن أبي عوانة فلم يذكر أبا هريرة فيه، وكذلك أخرجه عبد بن حميد عن يونس بن محمد عن أبي عوانة، وأخرجه ابن أبي حاتم والطبري وابن مردويه من طرق أخرى عن أبي عوانة مرسلاً، وذكره ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد. وأخرجه الطبري من طريق يحيى بن أبي كثير، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة والمعنى واحد قال : وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة -يعني في غزوة تبوك- فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال : يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها وأمسكت نصفها، فقال :( بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت )، وتصدق يومئذ عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر. الحديث.
وكذا أخرجه الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب بمعناه.
وعند عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعمائة أوقية من ذهب فقال : إن لي ثمانمائة أوقية من ذهب. الحديث.
وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فقال : ثمانية آلاف دينار، ومثله لابن أبي حاتم من طريق مجاهد، وحكى عياض في الشفاء أنه جاء يومئذ بتسعمائة بعير.
وهذا اختلاف شديد في القدر الذي أحضره عبد الرحمن بن عوف، وأصح الطرق فيه ثمانية آلاف درهم، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أو غيره والله أعلم.
ووقع في معاني الفراء أن النبي صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة فجاء عمر بصدقة، وعثمان بصدقة عظيمة، وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -يعني عبد الرحمن بن عوف- ثم جاء أبو عقيل بصاع من تمر، فقال المنافقون : ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء. وأما أبو عقيل : فإنما جاء بصاعه ليذكر بنفسه، فنزلت. ولابن مردويه من طريق أبي سعيد فجاء عبد الرحمن بن عوف بصدقته، وجاء المطوعون من المؤمنين الحديث اه.
٢ - أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩، باب ١١، ومسلم في الزكاة حديث ٧٢، والنسائي في الزكاة باب ٤٩..
٣ - أخرجه البخاري في الزكاة باب ١٠..
هذا بيان لحال أولئك المنافقين في جملتهم مع المؤمنين في جملتهم فيما كان من أمرهم في الصدقات للجهاد، إذ لم يقف المنافقون عند حد بخلهم وتخلفهم، بل تعدوه إلى لمز المؤمنين وذمهم، بما بذله غنيهم وفقيرهم، ولحكم من تردوا في هذه الهاوية من النفاق، وهو أنه لم يعد لهم أدنى حظ من التلبس بالإسلام، ولا أدنى نفع من استغفار الرسول ودعائه لهم، لرسوخهم في الكفر بالله ورسوله، وعدم الرجاء في إيمانهم.
ثم بين تعالى عقابهم الخاص بأمر الدين، بما جعل حكمهم في ذنوبهم حكم الكافرين، فقال :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾ هذه الآية بمعنى آية سورة المنافقين ﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ [ المنافقون : ٦ ]، وفيها زيادة تأكيد بذكر السبعين مرة، والتصريح بأن سبب عدم المغفرة هو الكفر الخ، وعدد السبعين يستعمل بمعنى الكثرة المطلقة في عرف العرب، فليس المراد به هذا العدد بعينه، بل المعنى مهما تكثر من الاستغفار فلن يستجاب لك فيهم، وحسنت هذه الزيادة فيها لتأخر نزولها، فهي أمر معناه الخبر، كما قال الجمهور، تقديره : الاستغفار لهؤلاء المنافقين المعينين وعدمه سيان، فلن يغفر الله لهم وإن كثر الاستغفار.
والظاهر أنه كان صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم رجاء أن يهديهم الله تعالى فيتوب عليهم ويغفر لهم، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له، ويقول :( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) رواه ابن حبان في صحيحه من حديث سهل بن سعد، وروى مثله الشيخان من حديث ابن مسعود قال : كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول، وذكره. وفي مسلم :( رب اغفر ) الخ. قال بعض العلماء : إنه صلى الله عليه وسلم يعني نفسه حين شجوا رأسه في أحد، فهو الحاكي والمحكي عنه. والاستغفار للمشركين في جملتهم لا يدخل في معنى قوله تعالى الآتي في هذه السورة ﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾ [ التوبة : ١١٣ ] ؛ لأن النهي هنا عن الاستغفار لمن تبين للنبي أنه من أصحاب الجحيم، ولا سيما بعد الموت على الشرك، لا للأحياء غير المعينين، وهؤلاء المنافقون المعنيون هنا من هذا القبيل لأنهم هم المعينون الذين أخبره الله بكفرهم فيما تقدم وفيما سيأتي، ولذلك بين سبب عدم مغفرته لهم بقوله :
﴿ ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ﴾ أي ذلك الامتناع من المغفرة بسبب كفرهم بالله ورسوله، فهم لا يوقنون بما وصف به نفسه من العلم بسرهم ونجواهم وبسائر الغيوب، ولا بوحية لرسوله وما أوجبه من اتباعه، ولا ببعثه للموتى وحسابهم وجزائهم، وليس سببه عدم الاعتداد باستغفارك أيها الرسول لهم، فإن شرط قبوله مع قابلية المغفرة وضعه في موضعه، وهو ما سبق في سورة النساء ﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ [ النساء : ٦٤ ]، يعني أن المغفرة إنما وعد بها التائبون المستغفرون من ذنوبهم إذا استغفرت لهم. وهؤلاء كفار في باطنهم، مصرون على كفرهم، فاسقون عن أمر ربهم.
﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ أي جرت سنته في الراسخين في فسوقهم وتمردهم المصرين على نفاقهم، الذين أحاطت بهم خطاياهم أن يفقدوا الاستعداد للتوبة والإيمان، فلا يهتدون إليهما سبيلاً، وتقدم وصفهم بهذا الفسوق في الآية [ ٦٧ ]، ومثل هذه الجملة بنصها في الآية [ ٣٧ ] من هذه السورة.
وقد ذكر الرازي وتبعه الألوسي في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنه أنه لما نزل قوله تعالى :﴿ سخر الله منهم ﴾ سأله عليه الصلاة والسلام اللامزون الاستغفارَ لهم فهمّ أن يفعل، فنزلت فلم يفعل. وقيل : نزلت بعد أن فعل. واختار الرازي عدمه لأنه لا يجوز الاستغفار للكافر. وفي التعليل بحث : وهو أن من ظاهره الإسلام كالمنافقين لا يحكم بكفره إلا بوحي من الله تعالى، أو صدور ما يدل على الكفر دلالة قطعية، ولمز المطوعين ليس منه. على أن طلبهم الاستغفار إظهار للتوبة. وهذه الرواية لم نرها في كتب التفسير المأثور فلا ندري من أين جاء بها الرازي، وهو لم يعزها إلى أحد من المحدثين ولا من رواة التفسير كعادته، وهي معارضة بما ورد في سبب نزولها من أنه الاستغفار لعبد الله بن أبي رئيس المنافقين وزعيمهم. روى هذا بعض رواة التفسير المأثور عن ابن عباس وعروة والشعبي والسدي فيراجع في الدر المنثور، وسنبين ذلك وما فيه من المباحث والإشكال بعد تفسير قوله تعالى :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ﴾ [ التوبة : ٨٤ ] وما هو ببعيد.
كانت الآيات من أول هذه السورة إلى الآية ٢٨ منها في شأن المؤمنين مع المشركين في القتال بعد فتح مكة واضمحلال دولة الشرك، وجاءت بضع آيات بعدها في شأن المؤمنين مع أهل الكتاب في القتال والجزية مع بيان حالهم في الخروج عن هداية دين أنبيائهم، يتلوها ما كان من إعلان النفير العام لقتال الروم في تبوك من أرض الشام المعروف. وفي الكلام عليها بيان أحوال المنافقين مع المؤمنين من استثقالهم للجهاد، واستئذانهم في التخلف عنه، وظهور أمارات نفاقهم في الأقوال والأفعال، وفضيحتهم فيها، ووعيدهم عليها، وعلى نفاقهم الصادرة عنه، وما كان من ذلك في أثناء السفر والعودة منه. وانتهى ذلك بالآية الثمانين.
وعاد الكلام في هذه الآيات إلى بيان حال الذين تخلفوا عن القتال وظلوا في المدينة، وما يجب من معاملتهم بعد الرجوع إليها، وكل هذا قد نزل في أثناء السفر.
قال عز وجل :
﴿ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ﴾ الفرح شعور النفس بالارتياح والسرور، والخلاف مصدر خالفه يخالف كالمخالفة، واستعمل ظرفا بمعنى بعد وخلف، قال في الأساس : وجلست خلاف فلان وخلفه أي بعده. اه. ومنه ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ﴾ [ الإسراء : ٧٦ ]، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص، وقرأ الباقون [ خلفك ]، واستشهد اللسان على هذه اللغة ببضعة شواهد، وههنا يصح المعنيان.
والمخلفون اسم مفعول من خلف فلاناً وراءه [ بالتشديد ] إذا تركه خلفه. والمعنى فرح المخلفون من هؤلاء المنافقين، أي الذين تركهم الرسول صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى غزوة تبوك بقعودهم في بيوتهم مخالفين لله تعالى وله، وهذا المعنى أصح هنا، وإنما فرحوا لأنهم لا يؤمنون بما في الخروج معه من الأجر العظيم الذي لا تذكر بجانبه راحة القعود في البيوت شيئاً.
﴿ وقالوا لا تنفروا في الحر ﴾ أي قالوا لإخوانهم في النفاق : لا تنفروا معه في الحر، نهيا لهم عن المعروف وإغراء بالثبات على المنكر، وهو عدم النفر، أو قالوه تثبياً لهم فيه، وتثبيطاً للمؤمنين عنه.
﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾ أي قل أيها الرسول تفنيدا لقولهم وتسفيهاً لحلومهم : نار جهنم التي أعدها الله تعالى لمن عصاه وعصى رسوله أشد حراً من تلك الأيام في أوائل فصل الخريف فهو لا يلبث أن يخف ويزول، على كونه مما تحتمله الجسوم، وأما نار جهنم فحرها على شدته دائم، فهو يلفح وجوههم، وينضج جلودهم، وينزع شواهم، وفي هذا أكبر عبرة لمن يتركون الجهاد وغيره من الواجبات إيثاراً للراحة والنعيم، وما يفعله في حال وجوبه عليهم إلا المنافقون، ثم قال :
﴿ لو كانوا يفقهون ﴾ أي لو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به لما خالفوا أو قعدوا، ولما فرحوا بقعودهم إذ أجرموا فقعدوا، بل لحزنوا واكتأبوا، وبكوا وانتحبوا، كما فعل المؤمنون الذين أرادوا الخروج والنفقة فعجزوا، وسيأتي بيان لحالهم قريباً.
كانت الآيات من أول هذه السورة إلى الآية ٢٨ منها في شأن المؤمنين مع المشركين في القتال بعد فتح مكة واضمحلال دولة الشرك، وجاءت بضع آيات بعدها في شأن المؤمنين مع أهل الكتاب في القتال والجزية مع بيان حالهم في الخروج عن هداية دين أنبيائهم، يتلوها ما كان من إعلان النفير العام لقتال الروم في تبوك من أرض الشام المعروف. وفي الكلام عليها بيان أحوال المنافقين مع المؤمنين من استثقالهم للجهاد، واستئذانهم في التخلف عنه، وظهور أمارات نفاقهم في الأقوال والأفعال، وفضيحتهم فيها، ووعيدهم عليها، وعلى نفاقهم الصادرة عنه، وما كان من ذلك في أثناء السفر والعودة منه. وانتهى ذلك بالآية الثمانين.
وعاد الكلام في هذه الآيات إلى بيان حال الذين تخلفوا عن القتال وظلوا في المدينة، وما يجب من معاملتهم بعد الرجوع إليها، وكل هذا قد نزل في أثناء السفر.
﴿ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ﴾ في هذا الأمر بقلة الضحك وكثرة البكاء وجوه :
أحدها : وهو المختار عندنا أن هذا هو الأجدر بهم، بل الواجب عليهم بحسب ما تقتضيه حالهم، وتستوجبه جريمتهم، لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف والخلاف من أجر، وما سيحملون في الآخرة من وزر، وما يلاقون في الدنيا من خزي وضر، فهو خبر في صيغة أمر، نكتته أنه أمر مبني على واجب مقرر.
ثانيها : أن هذا ما يكون من أمرهم في الدنيا، فلن يطيب لهم فيها عيش بعد أن هتك الوحي أستارهم، وكشف عوارهم، وأمر الرسول والمؤمنون بمعاملتهم بما يقتضيه نفاقهم، وعدم الاعتداد بما يظهرون من إسلامهم.
ثالثها : أن المراد بالضحك القليل ما سيكون منهم في الدنيا بعد الفضيحة، وهو قليل بالنسبة إلى ما كان من ماضيهم مع المؤمنين، وبالنسبة إلى حياتهم في هذه الدنيا، وبالبكاء الكثير ما سيكون منهم في الآخرة، وهو على كل حال إنذار مقابل لما ذكر من فرحهم بالتخلف مثبت أنه فرح عاقبته الحزن والكآبة، والخيبة والندامة، في الدنيا ويوم القيامة.
وفي معنى الآية قوله صلى الله عليه وسلم :( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا )١ متفق عليه ؛ بل رواه الجماعة إلا أبو داود من حديث أنس، ورواه الحاكم من حديث أبي هريرة بلفظ :( لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلا : يظهر النفاق، وترتفع الأمانة، وتقبض الرحمة، ويتهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين، أناخ بكم الشُّرُف الجون، الفتن كأمثال الليل المظلم )، الشرف بضمتين جمع شارف وهي الناقة العالية السن، والجون السوداء، أي الفتن الكبيرة المظلمة، فهو تشبيه، وروي بالقاف أي التي تأتي من قبل مشرق المدينة.
وإنما كان الأمر في الآية بمعنى الخبر لأنه إنذار بالجزاء لا تكليف، وقد قيل في فائدة هذا التعبير عن الخبر بالإنشاء أنه يدل على أنه حتم لا يحتمل الصدق والكذب كما هو شأن الخبر لذاته في احتمالهما، لأن الأصل في الأمر أن يكون للإيجاب وهو حتم. ويمكن أن يقال : إن الأمر بما ذكر يتضمن الإخبار بسببه، فيكون مؤكداً للخبر ببناء الحكم عليه، ويقابله التعبير عن الأمر بصيغة الخبر للتفاؤل بمضمونه كأنه وقع بالفعل.
وقال بعضهم : إن الأمر هنا للتكوين، كقوله تعالى :﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ [ العلق : ١ ]، أي كن قارئاً بعد إذ كنت أمياً باسم الله مبلغاً عنه، ثم وصف ربه بما يدل على قدرته على جعل الأمي قارئا بأنه خلق كل شيء وخلق الإنسان من علق، فجعله بعد ذلك سميعاً بصيراً وعلم الإنسان بالقلم، علمه ما لم يعلم، فكما فعل ذلك كله يجعلك قارئاً باسمه عز وجل. والمعنى على هذا : فليكونوا بقدرتنا وتقديرنا قليلي الضحك كثيري البكاء، لأن سبب سرورهم وفرحهم بتخلفهم ونفاقهم قد زال، وأعقبهم الفضيحة والنكال، ويؤيد كونه تكويناً قدريا، لا تكليفاً شرعياً، جعله عقاباً جزائياً لهم على عملهم بقوله :﴿ جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ فإن جزاء كل عمل من جنسه، وكما يدين المرء يدان.
فعل «رجع » يستعمل لازما كقوله تعالى :﴿ فرجع موسى إلى قومه ﴾ [ طه : ٨٦ ] وقوله :﴿ فلما رجعوا إلى أبيهم ﴾ [ يوسف : ٦٣ ] ومصدره الرجوع، ويستعمل متعدياً كهذه الآية وقوله :﴿ فرجعناك إلى أمك ﴾ [ طه : ٤٠ ] ومصدره الرجع. والفاء للتفريع على ما قبله لأنه مرتب عليه. والمعنى فإن ردك الله أيها الرسول من سفرك هذا إلى طائفة منهم أي المخلفين من المنافقين، وما كل من تخلف كان منافقاً.
﴿ فاستأذنوك للخروج ﴾ معك في غزاة أو غير غزاة مما تخرج لأجله.
﴿ فقل لن تخرجوا معي أبدا ﴾ أي لن يكون لكم شرف صحبة الإيمان بالخروج معي إلى الجهاد في سبيل الله، ولا إلى غيره كالنسك أبدا ما بقيت.
﴿ ولن تقاتلوا معي عدوا ﴾ من الأعداء بصفة ما، لا بالخروج والسفر إليهم، ولا بغير ذلك كأن يهاجموا المؤمنين في عاصمتهم، كما فعلوا يوم الأحزاب مثلا، فكل من الخروج المطلق الذي حذف متعلقه، والقتال الذي ذكر متعلقة نكرة منفية عام، فيصدقان بكل خروج وكل قتال لعدو في أي مكان، وقد يكون كل منهما بدون الآخر، فبينهما عموم وخصوص مطلق، وقد غفل عن هذا من غفل من المفسرين فزعموا أن الثاني تأكيد للأول، ثم بين سبب هذا الحرمان من شرف الجهاد فقال :
﴿ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ﴾ أي إنكم رضيتم لأنفسكم بخزي القعود أول مرة دعيتم فيها إلى الخروج، واستنفرتم فلم تنفروا عصياناً لله ورسوله.
﴿ فاقعدوا مع الخالفين ﴾ ما حييتم أبدا، أي مع الذين تخلفوا عن النفر، أو مع الأشرار الفاسدين، الذين خرجوا عن سبيل المهتدين. قال في مجاز الأساس : وخلف اللبن : تغير، ومعناه خلف طيبه تغيره - أي صار المتغير الفاسد خلفاً للطيب-، وخلف فوه خلوفاً، وخلف عن خلق أبيه، وخلف عن كل خير : تحول وفسد، وهو خالفة أهل بيته، أي فاسدهم وشرهم اه.
والخالف في الأصل اسم لمن يخلف غيره أي يأتي بعده، ومثله الخلف بالتحريك وبفتح فسكون، وقد استعمل الأول فيمن يخلف غيره في الخير والصلاح، والثاني فيمن يخلف غيره في الشر والطلاح. قال في اللسان : فأما الخالفة فهو الذي لا غناء عنده ولا خير فيه، وكذلك الخالف. وقيل : هو الكثير الخلاف، ثم قال نقلا عن ابن الأثير : وقد يكون الخالف المتخلف عن القوم في الغزو وغيره كقوله تعالى :﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾ [ التوبة : ٨٧ ] اه.
ويراد بالخوالف الصبيان والعجزة والنساء، الذين لا يكلفون القيام بشرف الجهاد، للدفاع عن الحق والحقيقة وإعلاء كلمة الله.
ويجوز الجمع بين المعنيين الحقيقي والمجازي وهو مذهب الشافعي والطبري الذي جرينا عليه في مثل هذا.
والمرة في قوله تعالى :﴿ أول مرة ﴾ قد استعملت في كلامهم ظرفاً وأصلها الفعلة الواحدة من المر والمرور. قال في القاموس : المرة الفعلة الواحدة جمعها مر ومِرار ومِرر بكسرهما ومرور بالضم. «ولقيه ذات مرة » قال سيبويه : لا يستعمل إلا ظرفاً، و«ذات المرارة » أي مراراً كثيرة. اه المراد منه.
هذا بيان ما شرعه الله تعالى في شأن من يموت من هؤلاء المنافقين في أثر ما شرعه في شأن الأحياء منهم، وهو كسابقه خاص بمن نزلت فيهم وهم الذين ثبتت أدلة كفرهم، أو إعلامه تعالى لرسوله بحقيقة أمرهم، وفي مقدمتهم زعيمهم الأكبر الأكفر عبد الله بن أبي بن سلول والاثني عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال عز وجل :
﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ﴾ أي لا تصل أيها الرسول بعد الآن على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين عرفناك شأنهم صلاة الجنازة أبداً ما حييت، ولا تقف على قبره عند الدفن للدعاء له بالتثبيت، كما تقوم على قبور المؤمنين عند دفنهم، ويلزم هذا النهي عدم تشييع جنائزهم.
روى أبو داود والحاكم وصححه والبزار من حديث عثمان رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال :( استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل )١، وقد نص الفقهاء على العمل بهذا الحديث، ولا نعرف شيئا من السنة في معنى القيام على القبر غيره، فانتظار الدفن أعم منه، وأدخل فيه بعضهم زيارة القبور وهو غير ظاهر، فقد ورد في زيارة القبور أحاديث متعددة بلفظ الزيارة لا بلفظ القيام.
وقد علل تعالى هذا النهي ببيان مستأنف فقال :﴿ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ﴾، أي إنهم كفروا وماتوا وهم فاسقون، أي وهم في حال خروجهم السابق من حظيرة الإيمان، كما تقدم في تفسير مثله من هذا السياق[ والجملة الحالية تدل على وقوع مضمونها قبل حدوث العامل فيها ]، والنهي يتعلق بالحال والاستقبال، ولا سيما إذا أكد بكلمة أبدا التي هي نص في معنى الاستقبال، ولكن قال في تعليل النهي :( وماتوا ) وهو فعل ماض، والقاعدة في التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي أن يكون لتأكيده وتحققه حتى كأنه وقع بالفعل، أي وسيموتون وهم متلبسون بكفرهم، ولعل فيه إشارة إلى ما روي في سبب نزول الآية وهو صلاته صلوات الله عليه على عبد الله بن أبيّ، فيكون المعنى ومات من مات منهم على كفره، وسيموت الآخرون كذلك. وفيه بحث نبينه بعد إجمال الكلام على قوله :﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾
وروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنما خيرني الله فقال :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ﴾ وسأزيده على السبعين ). قال : إنه منافق. قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ﴾ زاد مسلم في رواية أخرى فترك الصلاة عليهم٢.
وروى مسلم من حديث جابر بن عبد الله كان يقول : أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبيّ ـ وفي رواية جاء إلى عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في حفرته ـ فأخرجه من قبره فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه.
وقد ورد في هذه المسألة روايات أخرى فنقتصر على هذا الذي في الصحيحين وغيرهما مما في معناه، وما استشكله العلماء منه، وما أجابوا به عنه، فإن ورود هذا في سبب نزول الآيات وبيان المراد منها مما يخالف ظاهرها وهي لا إشكال في شيء منها كما تقدم.
ولكن حديث معارضة عمر بطريقيه مشكل ومضطرب من وجوه :
١ـ جعل الصلاة على ابن أبيّ سبباً لنزول آية النهي، وسياق القرآن صريح في أنها نزلت في سفر غزوة تبوك سنة ثمان، وإنما مات ابن أبي في السنة التي بعدها.
٢ـ قول عمر للنبي صلى الله عليه وسلم وقد نهاك ربك أن تصلي عليه يدل على أن النهي عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبي، وقوله بعده. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تصل على أحد منهم ﴾ الخ صريح في أنه نزل بعد موته والصلاة عليه.
٣ ـ قوله : إنه صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى خيره في الاستغفار لهم وعدمه إنما يظهر التخيير لو كانت الآية كما ذكر في الحديث ولم يكن فيها بقيتها، أي التصريح بأنه لن يغفر الله لهم بسبب كفرهم، وأن الله لا يهدي القوم الفاسقين، ومن ثم كان المتبادر من «أو» فيها أنها للتسوية بين ما بعدها وما قبلها لا للتخيير، وبه فسرها المحققون كما فهمها عمر، واستشكلوا الحديث إذ لا يعقل أن يكون فهم عمر أو غيره أصح من فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخطاب الله له، ولذلك أنكر بعضهم صحته.
٤ ـ التعارض بين رواية ( فلو أعلم أنني لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ) ( ورواية وسأزيد على السبعين ).
٥ ـ التعارض بين إعطائه صلى الله عليه وسلم قميصه لابنه لتكفينه فيه وحديث جابر إخراجه لابن أبي من قبره وإلباسه قميصه.
٦ ـ إذا أمكن أن تكون الصلاة على ابن أبي قبل نزول النهي عن الصلاة عليهم فلا شك في أنها كانت بعد آية ﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ﴾ وآية ﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾، والجزم في كل منهما بأن الله لن يغفر لهم.
وقد لخص الحافظ في فتح الباري ما ورد وما قاله العلماء من إشكال وجواب بما هو أجمع مما قاله من قبله ومن بعده ممن اطلعنا على أقوالهم، وهو ما كتبه في الكلام على قول البخاري باب قوله :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ﴾وهذا نصه :«ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم. قال الواقدي : أنبأنا معمر عن الزهري قال : قال حذيفة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إني مسر إليك سراً فلا تذكره لأحد : إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان ) رهط ذوي عدد من المنافقين. قال : فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشي معه وإلا لم يصل عليه. ومن طريق أخرى عن جبير بن مطعم أنهم اثنا عشر رجلاً، وقد تقدم حديث حذيفة قريباً أنه لم يبق منهم غير رجل واحد. ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك أن الله علم أنهم يموتون على الكفر، بخلاف من سواهم فإنهم تابوا. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر المذكور في الباب قبله من وجه آخر. وقوله فيه ( إنما خيرني الله ) أو ( أخبرني الله ) كذا وقع بالشك. والأول بمعجمة مفتوحة وتحتانية ثقيلة من التخيير. والثاني بموحدة من الإخبار. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أبي ضمرة الذي أخرجه البخاري من طريقه بلفظ ( إنما خيرني الله ) بغير شك وكذا في أكثر الروايات بلفظ التخيير، أي بين الاستغفار وعدمه كما تقدم.
واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه، واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه.
قال ابن المنير : مفهوم الآية زلت فيه الأقدام حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث، وقال : لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصح أن الرسول قاله اهـ. ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاني في التقريب : هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها. وقال إمام الحرمين في مختصره : هذا الحديث غير مخرج في الصحيح، وقال في البرهان : لا يصححه أهل الحديث. وقال الغزالي في المستصفى : الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح. وقال الداودي الشارح : هذا الحديث غير محفوظ. والسبب في إنكارهم صحته ما تقرر عندهم مما قدمناه، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه من حمل «أو» على التسوية لما يقتضيه سياق القصة، وحمل السبعين على المبالغة. قال ابن المنير ليس عند أهل البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد انتهى. وأيضا فشرط القول بمفهوم الصفة وكذا العدد عندهم مماثلة المنطوق للمسكوت وعدم فائدة أخرى، وهنا للمبالغة فائدة واضحة، فأشكل قوله :( سأزيد على السبعين ) مع أن حكم ما زاد عليها حكمها.
وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال :( سأزيد على السبعين ) استمالة لقلوب عشيرته، لا أنه أراد أنه إن زاد على السبعين يغفر لهم، ويؤيده تردده في ثاني حديثي الباب حيث قال :( لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر لهم لزدت )، لكن قدمنا أن الرواية ثبتت بقوله :( سأزيد )، ووعده صادق ولا سيما وقد ثبت قوله :( لأزيدن ) المبالغة في التأكيد بصيغته. وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون فعل ذلك استصحاباً للحال ؛ لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتا قبل مجيء الآية، فجاز أن يكون باقياً على أصله في الجواز وهذا جواب حسن. وحاصله أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين لا أنه جازم بذلك، ولا يخفى ما فيه، وقيل إن الاستغفار يتنزل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربه حاجة فسؤاله إياه يتنزل منزلة الذكر، لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك والمغفرة في نفسها ممكنة وتعلق العلم بعدم نفعها لا يغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها بل لتعظيم المدعو، فإذا تعذرت المغفرة عوض الداعي عنها ما يليق به من الثواب أو دفع السوء كما ثبت في الخبر، وقد يحصل بذلك عن المدعو لهم تخفيف. كما في قصة أبي طالب.
هذا معنى ما قاله ابن المنير وفيه نظر ؛ لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعاً، وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ [ التوبة : ١١٣ ].
ووقع في أصل هذه القصة إشكال آخر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أطلق أنه خير بين الاستغفار لهم وعدمه بقوله تعالى :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾، وأخذ بمفهوم العدد من السبعين فقال :( سأزيد عليها )، مع أنه قد سبق قبل ذلك بمدة طويلة نزول قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ﴾ [ التوبة : ١١٣ ]، فإن هذه الآية ـ كما سيأتي في تفسير هذه السورة قريباً ـ نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فنزلت، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقاً. وقصة عبد الله بن أبيّ هذه في السنة التاسعة من الهجرة كما تقدم، فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الجزم بكفرهم في نفس الآية ؟
وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا حاصله : أن المنهي عنه استغفار ترجى إجابته حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم كما في قصة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أبي. فإنه استغفار لقصد تطيب قلوب من بقي منهم. وهذا الجواب ليس بمرضي عندي. ونحوه قول الزمخشري فإنه قال :[ فإن قلت ] كيف خفي على أفصح الخلق وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي ولا سيما وقد تلاه قوله :﴿ ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ﴾ الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم [ قلت ] : لم يخف عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل وقال ما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، وهو كقول إبراهيم عليه السلام ﴿ ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ]، وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة المذكورة لطف بأمته، وباعث على رحمة بعضهم بعضاً انتهى.
وقد تعقبه ابن المنير وغيره وقالوا : لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول، لأن الله أخبر أنه لا يغفر للكفار، وإذا كان لا يغفر لهم فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم. ومنه من قال : إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركاً لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرا للإسلام، لاحتمال أن يكون معتقده صحيحاً. وهذا جواب جيد.
وقد قدمت البحث في هذه الآية في كتاب الجنائز والترجيح أن نزولها كان متراخياً عن قصة أبي طالب جداً، وأن الذي نزل في قصته ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ [ القصص : ٥٦ ] وحررت دليل ذلك هنالك، إلا أن في بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله ما يدل على أن نزول ذلك وقع متراخياً عن القصة. ولعل الذي نزل أولاً وتمسك النبي صلى الله عليه وسلم به قوله تعالى :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾ إلى هنا خاصة، ولذلك اقتصر في جواب عمر على التخيير وعلى ذكر السبعين، فلما وقعت القصة المذكورة كشف ال
هذا بيان ما شرعه الله تعالى في شأن من يموت من هؤلاء المنافقين في أثر ما شرعه في شأن الأحياء منهم، وهو كسابقه خاص بمن نزلت فيهم وهم الذين ثبتت أدلة كفرهم، أو إعلامه تعالى لرسوله بحقيقة أمرهم، وفي مقدمتهم زعيمهم الأكبر الأكفر عبد الله بن أبي بن سلول والاثني عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾
قد تقدم مثل هذا بنصه وهو الآية ٥٥ من هذه السورة إلا أنه قال فيها [ ولا أولادهم ] وتفسيرهما واحد إلا أن زيادة «لا » في تلك الآية للنهي عن الإعجاب بكل من أموالهم وأولادهم على حدته، وهو يصدق بمن كان له إحدى الزينتين، والنهي في هذه عن الإعجاب بهما مجتمعتين، وهو أدعى إلى الإعجاب، وأعيد هذا النهي هنا لاقتضاء المقام له كاقتضائه هناك التأثير الذي يكون له في نفس التالي والسامع، ولأن السياق هنا في طائفة منهم غير الطائفة التي جاءت في السياق الأول.
وروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنما خيرني الله فقال :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ﴾ وسأزيده على السبعين ). قال : إنه منافق. قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ﴾ زاد مسلم في رواية أخرى فترك الصلاة عليهم٢.
وروى مسلم من حديث جابر بن عبد الله كان يقول : أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبيّ ـ وفي رواية جاء إلى عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في حفرته ـ فأخرجه من قبره فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه.
وقد ورد في هذه المسألة روايات أخرى فنقتصر على هذا الذي في الصحيحين وغيرهما مما في معناه، وما استشكله العلماء منه، وما أجابوا به عنه، فإن ورود هذا في سبب نزول الآيات وبيان المراد منها مما يخالف ظاهرها وهي لا إشكال في شيء منها كما تقدم.
ولكن حديث معارضة عمر بطريقيه مشكل ومضطرب من وجوه :
١ـ جعل الصلاة على ابن أبيّ سبباً لنزول آية النهي، وسياق القرآن صريح في أنها نزلت في سفر غزوة تبوك سنة ثمان، وإنما مات ابن أبي في السنة التي بعدها.
٢ـ قول عمر للنبي صلى الله عليه وسلم وقد نهاك ربك أن تصلي عليه يدل على أن النهي عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبي، وقوله بعده. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تصل على أحد منهم ﴾ الخ صريح في أنه نزل بعد موته والصلاة عليه.
٣ ـ قوله : إنه صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى خيره في الاستغفار لهم وعدمه إنما يظهر التخيير لو كانت الآية كما ذكر في الحديث ولم يكن فيها بقيتها، أي التصريح بأنه لن يغفر الله لهم بسبب كفرهم، وأن الله لا يهدي القوم الفاسقين، ومن ثم كان المتبادر من «أو» فيها أنها للتسوية بين ما بعدها وما قبلها لا للتخيير، وبه فسرها المحققون كما فهمها عمر، واستشكلوا الحديث إذ لا يعقل أن يكون فهم عمر أو غيره أصح من فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخطاب الله له، ولذلك أنكر بعضهم صحته.
٤ ـ التعارض بين رواية ( فلو أعلم أنني لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ) ( ورواية وسأزيد على السبعين ).
٥ ـ التعارض بين إعطائه صلى الله عليه وسلم قميصه لابنه لتكفينه فيه وحديث جابر إخراجه لابن أبي من قبره وإلباسه قميصه.
٦ ـ إذا أمكن أن تكون الصلاة على ابن أبي قبل نزول النهي عن الصلاة عليهم فلا شك في أنها كانت بعد آية ﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ﴾ وآية ﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾، والجزم في كل منهما بأن الله لن يغفر لهم.
وقد لخص الحافظ في فتح الباري ما ورد وما قاله العلماء من إشكال وجواب بما هو أجمع مما قاله من قبله ومن بعده ممن اطلعنا على أقوالهم، وهو ما كتبه في الكلام على قول البخاري باب قوله :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ﴾وهذا نصه :«ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم. قال الواقدي : أنبأنا معمر عن الزهري قال : قال حذيفة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إني مسر إليك سراً فلا تذكره لأحد : إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان ) رهط ذوي عدد من المنافقين. قال : فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشي معه وإلا لم يصل عليه. ومن طريق أخرى عن جبير بن مطعم أنهم اثنا عشر رجلاً، وقد تقدم حديث حذيفة قريباً أنه لم يبق منهم غير رجل واحد. ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك أن الله علم أنهم يموتون على الكفر، بخلاف من سواهم فإنهم تابوا. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر المذكور في الباب قبله من وجه آخر. وقوله فيه ( إنما خيرني الله ) أو ( أخبرني الله ) كذا وقع بالشك. والأول بمعجمة مفتوحة وتحتانية ثقيلة من التخيير. والثاني بموحدة من الإخبار. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أبي ضمرة الذي أخرجه البخاري من طريقه بلفظ ( إنما خيرني الله ) بغير شك وكذا في أكثر الروايات بلفظ التخيير، أي بين الاستغفار وعدمه كما تقدم.
واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه، واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه.
قال ابن المنير : مفهوم الآية زلت فيه الأقدام حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث، وقال : لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصح أن الرسول قاله اهـ. ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاني في التقريب : هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها. وقال إمام الحرمين في مختصره : هذا الحديث غير مخرج في الصحيح، وقال في البرهان : لا يصححه أهل الحديث. وقال الغزالي في المستصفى : الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح. وقال الداودي الشارح : هذا الحديث غير محفوظ. والسبب في إنكارهم صحته ما تقرر عندهم مما قدمناه، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه من حمل «أو» على التسوية لما يقتضيه سياق القصة، وحمل السبعين على المبالغة. قال ابن المنير ليس عند أهل البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد انتهى. وأيضا فشرط القول بمفهوم الصفة وكذا العدد عندهم مماثلة المنطوق للمسكوت وعدم فائدة أخرى، وهنا للمبالغة فائدة واضحة، فأشكل قوله :( سأزيد على السبعين ) مع أن حكم ما زاد عليها حكمها.
وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال :( سأزيد على السبعين ) استمالة لقلوب عشيرته، لا أنه أراد أنه إن زاد على السبعين يغفر لهم، ويؤيده تردده في ثاني حديثي الباب حيث قال :( لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر لهم لزدت )، لكن قدمنا أن الرواية ثبتت بقوله :( سأزيد )، ووعده صادق ولا سيما وقد ثبت قوله :( لأزيدن ) المبالغة في التأكيد بصيغته. وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون فعل ذلك استصحاباً للحال ؛ لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتا قبل مجيء الآية، فجاز أن يكون باقياً على أصله في الجواز وهذا جواب حسن. وحاصله أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين لا أنه جازم بذلك، ولا يخفى ما فيه، وقيل إن الاستغفار يتنزل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربه حاجة فسؤاله إياه يتنزل منزلة الذكر، لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك والمغفرة في نفسها ممكنة وتعلق العلم بعدم نفعها لا يغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها بل لتعظيم المدعو، فإذا تعذرت المغفرة عوض الداعي عنها ما يليق به من الثواب أو دفع السوء كما ثبت في الخبر، وقد يحصل بذلك عن المدعو لهم تخفيف. كما في قصة أبي طالب.
هذا معنى ما قاله ابن المنير وفيه نظر ؛ لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعاً، وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ [ التوبة : ١١٣ ].
ووقع في أصل هذه القصة إشكال آخر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أطلق أنه خير بين الاستغفار لهم وعدمه بقوله تعالى :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾، وأخذ بمفهوم العدد من السبعين فقال :( سأزيد عليها )، مع أنه قد سبق قبل ذلك بمدة طويلة نزول قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ﴾ [ التوبة : ١١٣ ]، فإن هذه الآية ـ كما سيأتي في تفسير هذه السورة قريباً ـ نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فنزلت، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقاً. وقصة عبد الله بن أبيّ هذه في السنة التاسعة من الهجرة كما تقدم، فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الجزم بكفرهم في نفس الآية ؟
وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا حاصله : أن المنهي عنه استغفار ترجى إجابته حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم كما في قصة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أبي. فإنه استغفار لقصد تطيب قلوب من بقي منهم. وهذا الجواب ليس بمرضي عندي. ونحوه قول الزمخشري فإنه قال :[ فإن قلت ] كيف خفي على أفصح الخلق وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي ولا سيما وقد تلاه قوله :﴿ ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ﴾ الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم [ قلت ] : لم يخف عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل وقال ما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، وهو كقول إبراهيم عليه السلام ﴿ ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ]، وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة المذكورة لطف بأمته، وباعث على رحمة بعضهم بعضاً انتهى.
وقد تعقبه ابن المنير وغيره وقالوا : لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول، لأن الله أخبر أنه لا يغفر للكفار، وإذا كان لا يغفر لهم فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم. ومنه من قال : إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركاً لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرا للإسلام، لاحتمال أن يكون معتقده صحيحاً. وهذا جواب جيد.
وقد قدمت البحث في هذه الآية في كتاب الجنائز والترجيح أن نزولها كان متراخياً عن قصة أبي طالب جداً، وأن الذي نزل في قصته ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ [ القصص : ٥٦ ] وحررت دليل ذلك هنالك، إلا أن في بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله ما يدل على أن نزول ذلك وقع متراخياً عن القصة. ولعل الذي نزل أولاً وتمسك النبي صلى الله عليه وسلم به قوله تعالى :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾ إلى هنا خاصة، ولذلك اقتصر في جواب عمر على التخيير وعلى ذكر السبعين، فلما وقعت القصة المذكورة كشف ال
هذا بيان لحالة المنافقين العامة في أمر الجهاد بالمال والنفس، الذي هو أقوى آيات الإيمان بالله ورسوله وما جاء به، وما يقابله من حال المؤمنين الصادقين فيه، وما بين الحالين من التضاد في العمل والأثر في القلب اللذين هما مناط الجزاء.
قال تعالى :﴿ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله ﴾ شرطية إذا في هذا المقام تفيد التكرار، والآية معطوفة على ما قبلها من خبر المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد، للجمع بين تلك الحال الخاصة، وهذه الشنشنة العامة، والمعنى إنه كلما نزلت سورة تدعو الناس أو المنافقين ببعض آياتها إلى الإيمان بالله والجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم، أي ناطقة بأن آمنوا وجاهدوا ﴿ استأذنك أولوا الطول منهم ﴾ الطول بالفتح يطلق على الغنى والثروة، وعلى الفضل والمنة، وهو من مادة الطول [ بالضم ] ضد القصر. والمراد بهم هنا أولوا المقدرة على الجهاد المفروض بأموالهم وأنفسهم، أي استأذنوك بالتخلف عن الجهاد.
﴿ وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ﴾ أي دعنا نكن مع القاعدين في بيوتهم من الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال، والصبيان والنساء غير المخاطبين به.
وفي معنى الآية قوله تعالى في سورة القتال أو محمد ﴿ ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم ﴾[ محمد : ٢٠، ٢١ ] والآيات دليل على جبن المنافقين وضعفاء الإيمان، ورضاهم لأنفسهم بالذل والهوان.
هذا بيان لحالة المنافقين العامة في أمر الجهاد بالمال والنفس، الذي هو أقوى آيات الإيمان بالله ورسوله وما جاء به، وما يقابله من حال المؤمنين الصادقين فيه، وما بين الحالين من التضاد في العمل والأثر في القلب اللذين هما مناط الجزاء.
﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾ رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء وروي هذا عن ابن عباس وقتادة ومن لا خير فيهم من أهل الفساد، فهو جمع خالفة، وتقدم بيان ما قاله علماء اللغة فيه في تفسير ﴿ فاقعدوا مع الخالفين ﴾ من آية ( ٨٣ ).
﴿ وطبع على قلوبهم ﴾ الطبع على القلوب والختم عليها عبارة عن عدم قبولها لشيء جديد من العلم والموعظة غير ما استقر فيها واستحوذ عليها، وصار وصفا ووجدانا لها، وقد بينا الاستعمال اللغوي حقيقته ومجازه للكلمة في تفسير﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ [ البقرة : ٧ ] وفي مواضع أخرى من سورة النساء والأعراف.
﴿ فهم لا يفقهون ﴾ أي فلأجل ذلك هم لا يفهمون ما يخاطبون به فهم تدبر واعتبار فيعملوا به، وقد بينا حقيقة معنى الفقه في مواضع أبسطها تفسير ﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] من سورة الأعراف، وفيه تحقيق معنى القلب.
هذا بيان لحالة المنافقين العامة في أمر الجهاد بالمال والنفس، الذي هو أقوى آيات الإيمان بالله ورسوله وما جاء به، وما يقابله من حال المؤمنين الصادقين فيه، وما بين الحالين من التضاد في العمل والأثر في القلب اللذين هما مناط الجزاء.
﴿ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ﴾ هذا استدراك على قعود المنافقين عن الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم عملا بداعي الإيمان، وأمر الله في القرآن، لأن ما جروا عليه من النفاق قد طبع على قلوبهم بمقتضى سنة الله تعالى في التأثير والارتباط بين العقائد والأعمال، والفعل والانفعال، فهم لا يفقهون ما أمروا به فيعملوا به، لكن الرسول والذين آمنوا به وكانوا معه في كل أمور الدين لا يفارقونه، قد جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فقاموا بالواجب خير قيام، كما يقتضيه الإيمان والإسلام، وما كان أولئك المنافقون الجبناء البخلاء بأهل للقيام بهذه الأعباء، كما تقدم فيما وصفوا به من الآيات، ولا سيما آية ﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ﴾ [ التوبة : ٤٧ ].
﴿ وأولئك لهم الخيرات ﴾ عطف جزاءهم على جهادهم ولم يذكره مفصولاً مستأنفاً كقوله السابق في المؤمنين والمؤمنات ﴿ أولئك سيرحمهم الله ﴾[ التوبة : ٧١ ]، وقوله :﴿ أولئك على هدى من ربهم ﴾ [ البقرة : ٥ ] الآية ؛ لأنه تتمة لبيان حالهم المخالفة لحال المنافقين بدءا وانتهاء وعملا وجزاء، أي وأولئك المجاهدون البعيدو المنال في معارج الكمال لهم دون المنافقين الخيرات التي هي ثمرات الإيمان والجهاد، من شرف النصر، ومحو كلمة الكفر، واجتثاث شجرة الشرك، وإعلاء كلمة الله، وإقامة الحق والعدل بدين الله، والتمتع بالغنائم والسيادة في الأرض.
﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ أي الفائزون بسيادة الدنيا مع سعادة الآخرة، دون أولئك المنافقين الذين حرموا منهما بنفاقهم، وما له من سوء الأثر في أعمالهم وأخلاقهم. وتقدم مثل هذا وما يناسبه ويؤيده مكررا في هذا السياق.
هذا بيان لحالة المنافقين العامة في أمر الجهاد بالمال والنفس، الذي هو أقوى آيات الإيمان بالله ورسوله وما جاء به، وما يقابله من حال المؤمنين الصادقين فيه، وما بين الحالين من التضاد في العمل والأثر في القلب اللذين هما مناط الجزاء.
﴿ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ﴾ تقدم معنى هذه الآية بما هو أوسع من هذه في الآية ٧٢، وسيأتي مثلها في آخر الآية المتممة للمائة.
هذه الآية في بيان حال الأعراب خاصة، وهم بدو العرب الذين طلبوا الإذن بالتخلف، والذين تخلفوا بغير إذن، عقب بيان حال منافقي الحضر في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيأتي آيات أخرى في منافقي الأعراب ومؤمنيهم في الآيات ٩٧، ٩٨، ٩٩ قال عزّ وجلّ :
﴿ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم ﴾ المعذرون بالتشديد اسم فاعل من التعذير كالمقصرين من التقصير. هكذا قرأ الكلمة جمهور القراء، وقرأها يعقوب بالتخفيف من الإعذار، وروي هذا عن ابن عباس، ولكن من طريق الكلبي، وكذا عن مجاهد. وقد تقدم في تفسير الآية ٦٦ معنى العذر والاعتذار. والإعذار إبداء العذر ومنه المثل«أعذر من أنذر » وأعذر : ثبت له عذر، وقصر ولم يبالغ وهو يرى أنه مبالغ-كأنه ضد- وكثرت ذنوبه وعيوبه، وله معاني أخرى كما في القاموس [ قال ] : وقوله تعالى :﴿ وجاء المعذرون ﴾ بتشديد الذال المكسورة أي المعتذرون الذين لهم عذر، وقد يكون المعذر غير محق فالمعنى المقصرون بغير عذر اه. وزاد شارحه : ومعنى المعذرون الذين يعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن، وهو ههنا شبيه بأن يكون لهم عذر. ويجوز في كلام العرب المعذرون بكسر العين المهملة الذين يعذرون : يوهمون أن لهم عذرا ولا عذر لهم. قال أبو بكر : ففي المعذرين وجهان : إذا كان المعذرون من عذر الرجل فهو معذر فهم لا عذر لهم، وإذا كان المعذرون أصله المعتذرون فألقيت فتحة التاء على العين وأبدل منها ذال وأدغمت في الذال التي بعدها فلهم عذر. وقال أبو الهيثم في تفسير الآية : معناه المعتذرون، يقال : عذَّر عذارا في معنى اعتذر، ويجوز عذََّر الرجل يعذر عِذَّاراً فهو معذر. قال : ومثله : هدَّى يهدي هداء إذا اهتدى. قال الله :﴿ أمن لا يهدي إلا أن يهدي ﴾ [ يونس : ٣٥ ]اه.
وقال أطال ابن منظور في الكلام على المادة والمراد منها في الآية.
والحكمة في القراءتين على اختلاف معاني الصيغتين بيان اختلاف أحوال أولئك الأعراب في أعذارهم، فمنهم من له عذر صحيح هو موقن به، ومن له عذر صوري لا حقيقي وهو يوهم أنه حقيقي عالما بأنه مخادع، ومنهم من له عذر ضعيف هو في شك منه إن نوقش فيه عجز عن إثباته، ومنهم من لا عذر له في الواقع فهو كاذب في انتحاله، وهذا من إيجاز القرآن العجيب بالإتيان بلفظ مفرد يتناول هذه الأقسام كلها، مبهمة إلا عند أهلها، للحكمة الآتية المقتضية لإبهامها.
والمعنى : وجاء الذين يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في التخلف عن الخروج إلى تبوك امتثالا للنفير العام، من أولى التعذير والإعذار، قال الضحاك : هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم، فقالوا : يا نبي الله إن نحن غزونا معك تُغِير إعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله عنكم ). وقال ابن عباس : هم قوم تخلفوا بعذر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول : وظاهره أن عذرهم حق، وهو يصدق ببعضهم دون بعض، كمقابله الذي يذكر عن أبي عمرو.
﴿ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ﴾ أي وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا الله ورسوله من الأعراب، أي أظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاماً، يقال كما في الأساس : كذبته نفسه إذا حدثته بالأماني والأوهام التي لا يبلغها، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقة له، قال الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ غَلَسَ الظلام من الرباب خيالا١
وهؤلاء هم المنافقون الأقحاح. قال أبو عمرو بن العلاء : كلا الفريقين كان مسيئاً : قوم تكلفوا عذراً بالباطل وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله :﴿ وجاء المعذرون ﴾، وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى وهم المنافقون، فأوعدهم الله بقوله :﴿ سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ﴾ الظاهر المختار أن هذا الوعيد يعود على ما قبله من الفريقين عاما في المكذبين، وخاصاً ببعض المعذرين، كما هو المتبادر من قوله تعالى :﴿ منهم ﴾ أي الأعراب الذين اعتذر بعضهم وقعد بعض، فإن الذين كذبوا الله ورسوله كلهم كفار، وأما المعتذرون فمنهم الصادق في عذره، والكاذب فيه لمرض في قلبه، أو لتكذيبه لله ورسوله، وكل منهم يعرف نفسه فيحاسبها إذا وجد الوعيد موضعا للعبرة منها، ولو جعل التبعيض لهم وحدهم لظل القاعدون الكاذبون بغير وعيد وهم شر من شرهم، فلا يصح التبعيض فيهم وحدهم، ومن ثم اقتضى التحقيق أن يوجه الوعيد إلى الذين كفروا منهم لكفرهم لا لاعتذارهم، وإلى الذين قعدوا لكفرهم لا لقعودهم، بل للكذب الذي كان سببه وهو عين الكفر، وهو لم يذكر بصيغة الحصر، لأن من القعود ما يكون بعذر من الأعذار المنصوصة في الآية التالية وهم أولوا الضرر في قوله تعالى :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ﴾ [ النساء : ٩٥ ] الخ. فالإبهام لمستحقي هذا الوعيد من الفريقين من بلاغة القرآن التي امتاز بها إعجازه البياني. وهذا العذاب الأليم يراد به عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جميعاً كما تقدم في آخر الآية [ ٧٤ ].
بين الله تعالى في هذه الآيات الأعذار الشرعية المقبولة عنده وعند رسوله بالتفصيل فعلم منه بطلان ما عداها وخص بالذكر شر ما عداها وهو استئذان الأغنياء.
فقال :﴿ ليس على الضعفاء ﴾ الضعفاء جمع ضعيف وهو ضد القوي أي من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد، قال ابن عباس : يعني الزمنى والشيوخ والعجزة، وقيل هم الصبيان وقيل النسوان ذكره البغوي. والزمنى بوزن المرضى وبالتحريك جمع زمين كمريض، ويقال زمن ( ككتف ) وزمنون، وهم من أصابتهم الزمانة وهي العاهة التي لا تزول بل تبقى على الزمان، ومنها الكساح ( بالضم ) والعمى والعرج، وقدم ذكر هؤلاء لأن عذرهم دائم لا يزول.
﴿ ولا على المرضى ﴾ جمع مريض وهم الذين عرضت لهم أمراض لا يتمكنون معها من الجهاد كالحميات وعذرهم ينتهي بالشفاء منها.
﴿ ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ﴾ وهم الفقراء الذين لا يجدون مالاً ينفقون منه على أنفسهم إذا خرجوا للجهاد ويتركون لعيالهم ما يكفيهم، وكان المؤمنون يجهزون أنفسهم للقتال، فالفقير ينفق على نفسه، والغني ينفق على نفسه وعلى غيره بقدر سعته، كما فعلوا في غزوة تبوك، إذا لم يكن للمسلمين بيت مال غني ينفق منه النبي صلى الله عليه وسلم على الغزاة، وهذا العذر خاص بالمال، ويزول إذا كان للأمة في بيت المال ما ينفقون منه، أي ليس على هذه الأصناف الثلاثة ﴿ حرج ﴾ أي ضيق في حكم الشرع يعدون به مذنبين ولا إثم في القعود عن الجهاد الواجب.
﴿ إذا نصحوا لله ورسوله ﴾ في حال قعودهم لعجزهم، أي إذا أخلصوا لله تعالى في الإيمان وللرسول صلى الله عليه وسلم في الطاعة وأداء الأمانة بالقول والعمل، ولا سيما الذي تقتضيه حالة الحرب فالنصيحة والنصح ( بالضم ) تحري ما يصلح به الشيء ويكون خالياً من الغش والخلل والفساد، من قولهم : نصح العسل ونصع إذا كان خالصاً مصفى، «ونصح الخياط الثوب إذا أنعم خياطته ولم يترك فيه فتقاً ولا خللاً » ذكره في مجاز الأساس، وقال :«شبه ذلك بالنصح » على طريقته في جعل المعاني الحسية من المجاز والمعنوية من الحقيقة، ونحن نرى عكس هذا، أعني أن نصح العسل والخياط حقيقة، والنصح في التوبة والطاعة هو المأخوذ منه، والأجدر بأن يكون مجازاً، إلا إن يكثر استعماله فيعد من الحقيقة، ومنه يعلم أن من النصح لله ورسوله في هذه الحالة كل ما فيه مصلحة للأمة ولا سيما المجاهدين منها، من كتمان سر، وحث على بر، ومقاومة خيانة الخائنين في سر أو جهر، فالنصح العام ركن من الأركان المعنوية للإسلام به عز السلف وبزوا، وبتركه ذل الخلف وابتزوا.
روى مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الدين النصيحة. قالوا لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )١.
وروى البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم٢.
﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾ السبيل الطريق السهل يطلق على الحسي منه والمعنوي، في الخير وفي الشر، كما تقدم في تفسير﴿ ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ]، و«من » لتأكيد النفي العام، وهو أبلغ من قولك :« ما عليه سبيل » وإن كان عاما، فقولك ما على فلان من سبيل معناه ليس لأحد أدنى طريق يسلكها لمؤاخذته أو النيل منه، فكل السبل مسدودة دون الوصول إليه، وهذا الاستعمال مكرر في القرآن. والمحسنون ضد المسيئين، وهو عام في كل من أحسن عملا من أعمال البر والتقوى :﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ﴾ [ البقرة : ١١٢ ] الآية. والشرع الإلهي يجزي المحسن بأضعاف إحسانه، ولا يؤاخذ ولا يعاقب المسيء إلا بقدر إساءته. فإذا كان أولئك المعذورون في القعود عن الجهاد محسنين في سائر أعمالهم بالنصح المذكور انقطعت طرق المؤاخذة دونهم، والإحسان أعم من النصح المذكور، فالجملة تتضمن تعليل رفع الحرج عنهم بما ينتظمون به في سلك المحسنين، فيكون رفعه عنهم مقروناً بالدليل. فكل ناصح لله ورسوله محسن، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج، وهذه المبالغة في أعلى مكانة من أساليب البلاغة.
ولما ذكر رفع المؤاخذة عنهم بإحسانهم السلوك فيما هم معذورون فيه من القعود عن الجهاد وهو الذي اقتضاه المقام، قفى عليه بالستر عليهم والصفح والإحسان إليهم فيما عداه، على قاعدة« هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ فقال :﴿ والله غفور رحيم ﴾ أي وهو تعالى كثير المغفرة واسع الرحمة، فهو يستر على المقصرين ما لا يخلوا منه البشر من ضعف في أداء الواجبات لا ينافي الإخلاص والنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويدخلهم في رحمته في عباده الصالحين. وأما المنافقون المسيئون عملاً ونية فإنما يغفر لهم ويرحمهم إذا تابوا من نفاقهم الباعث لهم على إساءتهم.
٢ - أخرجه البخاري في الإيمان باب ٤٢، ومواقيت الصلاة باب ٣، والزكاة باب ٢، ومسلم في الإيمان حديث ٩٧، ٩٩، والترمذي في البر باب ١٧..
بين الله تعالى في هذه الآيات الأعذار الشرعية المقبولة عنده وعند رسوله بالتفصيل فعلم منه بطلان ما عداها وخص بالذكر شر ما عداها وهو استئذان الأغنياء.
﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه ﴾ هذا معطوف على نفي الحرج عن الضعفاء والمرضى والفقراء ونفي السبيل عن المحسنين، أي لا حرج على من ذكر بشرطه، ولا سبيل على المحسن منهم في قعوده، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل فيخرجوا معك فلم تجد ما تحملهم عليه الخ، وهؤلاء جماعة من الفقراء يدخلون في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون للجهاد في سفر طويل كغزوة تبوك وهو فقدهم الرواحل التي تحملهم، فهو من عطف الخاص على العام. يقال : حمله على البعير أو غيره أي أركبه إياه أو أعطاه إياه ليركبه، وكان الطالب لظهر يركبه يقول لمن يطلبه منه : احملني.
ثم بين حال هؤلاء بعد جواب الرسول لهم بياناً مستأنفاً فقال :
﴿ تولوا وأعينهم تفيض من الدمع ﴾ أي انصرفوا من مجلسك وهم في حال بكاء شديد، هاجه حزن عميق. فكانت أعينهم تمتلئ دمعاً، فيتدفق فائضا من جوانبها تدفقاً، حتى كأنها ذابت فصارت دمعاً، فسالت همعاً﴿ حزنا ﴾ منهم وأسفاً.
﴿ ألا يجدوا ما ينفقون ﴾ أي على عدم وجدانهم عندك ولا عندهم ما ينفقون ولا ما يركبون في خروجهم معك جهاداً في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين. فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني فقالوا : يا رسول الله احملنا، فقال :( والله لا أجد ما أحملكم عليه )، فتولوا ولهم بكاء، وعز عليهم أن يحبسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملاً. فأنزل الله عذرهم :﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال : جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه فقال :( لا أجد ما أحملكم عليه )، فأنزل الله ﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ﴾ الآية. وذكر البطون التي ينسبون إليها، وهنالك روايات أخرى في عددهم وبطونهم عند ابن إسحاق وغيره. وأنهم كانوا يسمون البكائين.
وهنالك رواية أخرى أنهم ما سألوه صلى الله عليه وسلم إلا الحملان على النعال، ورواية أخرى أنهم سألوه الزاد والماء، ولا مانع من وقوع كل ذلك في هذه الغزوة الكبيرة، ولكن الآية خاصة بطلاب الرواحل ؛ لأنه هو المتبادر من اللفظ.
والحكمة في التعبير بالإتيان لأجل الحمل والاعتذار عنه بعدم وجدان ما يحمل عليه دونه ذكر جنسه من راحلة ودابة هي إفادة العموم فيما يحمل عليه مريد السير، فتدخل فيه مراكب هذا الزمان من مراكب النقل البرية والهوائية والبحرية، ويتحقق العذر بفقد ما يحتاج إليه منها في كل سفر بحسبه، وفقد العذر بوجوده، فوجود الخيل والجمال والبغال لا ينفي العذر في السفر الذي يقطع في القطارات الحديدية أو السيارات أو المناطيد أو الطيارات.
بين الله تعالى في هذه الآيات الأعذار الشرعية المقبولة عنده وعند رسوله بالتفصيل فعلم منه بطلان ما عداها وخص بالذكر شر ما عداها وهو استئذان الأغنياء.
لما بين أن كل أولئك ما عليهم من سبيل بقي بيان من عليهم السبيل في تلك الحال فذكرهم بقوله :﴿ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ﴾ الواضح السوي الموصل إلى المؤاخذة والمعاقبة بالحق.
﴿ على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ﴾ أي يطلبون الإذن لهم في القعود والتخلف عن النفر، والحال أنهم أغنياء في حال هذا لاستئذان ومن قبله، قادرون على إعداد العدة له من زاد ورواحل وغير ذلك، ولماذا ؟
﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾ أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف والخالفين، من النساء والأطفال والمعذورين، بل مع الفاسدي الأخلاق المفسدين.
﴿ وطبع الله على قلوبهم ﴾ فأحاط بهم ما جروا عليه من خطاياهم وذنوبهم، بحسب سنن الله تعالى في أمثالهم.
﴿ فهم لا يعلمون ﴾ كنه حالهم، ولا سوء مآلهم، وما هو سببه من أعمالهم.
فأما حالهم في التخلف وطلب القعود مع الخوالف بغير أدنى عذر فهو رضا بالذل والمهانة في الدنيا، لأن تخلف الأفراد عن القتال الذي تقوم به الشعوب والأقوام، ورضاء الرجال الانتظام في سلك النساء والأطفال، يعد في عرف العرب والعجم من أعظم مظاهر الخزي والعار، وهو في حكم الإسلام أقوى آيات الكفر والنفاق.
وأما مآلهم وسوء عاقبتهم فيه فهو ما فضحهم الله به في هذه السورة، وما شرعه لرسوله وللمؤمنين من جهادهم وإهانتهم، وعدم العود إلى معاملتهم بظاهر إسلامهم، وما عده لهم من العذاب الأليم، والخزي الدائم في نار الجحيم.
نسأله تعالى أن يجعلنا من العلماء الموقنين، الفقهاء المعتبرين، المؤمنين الصادقين، العاملين المخلصين. وأن يوفقنا لإتمام تفسير كتابه بالحق، النافع للخلق، ويهدينا جميعاً للعمل به، والاستضاءة بنوره، ويؤتي هذه الأمة به ما وعدها من سعادة الدنيا والآخرة، وهو على كل شيء قدير.
تم تفسير الجزء العاشر كتابة وتحريراً في العشر الأول من شهر رمضان المبارك سنة ١٣٤٩، وقد اعتمدنا جعل آية ٩٣ ﴿ إنما السبيل ﴾ الخ منه مراعاة للمعنى الذي كانت به متممة لما قبلها، وهي في بعض المصاحف أول الجزء الحادي عشر.
وكنا بدأنا به في شوال سنة ١٣٤٦، ونشر في المجلدات التاسع والعشرين والثلاثين والحادي والثلاثين من المنار.
ونرجو أن يوفقنا الله تعالى لإنجاز تفسير كل جزء مما بقي في أقل من سنة مع الاختصار غير المخل إن شاء الله تعالى وبه الحول والقوة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذه الآيات بيان لما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد عودتهم إليهم.
قال عزّ وجلّ :﴿ يعتذرون إليكم ﴾ يعتذر إليكم ّأيها المؤمنون أولئك الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وهم أغنياء أصحاء لا عذر لهم.
﴿ إذا رجعتم إليهم ﴾ من سفركم هذا عن جميع سيئاتهم.
﴿ قل ﴾ أيها الرسول لهم حينئذ. ﴿ لا تعتذروا لن نؤمن لكم ﴾ لن نصدقكم تصديق جنوح وائتمان، لكن بتلبسكم بالإسلام تحسينا للظن، ولا عملا بالظواهر، ولماذا ؟
﴿ قد نبأنا الله ﴾ بوحيه إلى رسوله المهم. ﴿ من أخباركم ﴾ التي تسرونها في ضمائركم، وهي مخالفة لظواهركم التي تعتذرون بها، ونبأ الله هو الحق اليقين، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل، ولا يصدق الكاذب، ولم يقل :" نبأني " وهو صلى الله عليه وسلم المنبأ من الله وحده لأن المراد أنه أمره أن ينبئ بذلك أصحابه، ولم يكن هذا النبأ خاصا به. واعتذارهم للجميع يقتضي أن يعلموا أن الجميع عالمون بما فضحهم الله به، وإن كان المبلغ لهم هو الرسول صلى الله عليه وسلم بما له من الرياسة، وما لخبره من الثقة التي لا يشك فيها أحد، والتأثير الذي يحسب له كل حساب، فهو من قبيل التبليغات الرسمية العليا الصادرة عن الملوك والسلاطين، دع كونه أسمى وأعلى ؛ لأنه نبأ الرسول المعصوم عن الله عز وجل.
﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ﴾ بعد الآن، وهو الذي يدل إما على الإصرار على النفاق، وإما على التوبة والإذعان في الإيمان، الذي تترتب عليه الأعمال. وأما أقوالكم فلا قيمة لها وإن أكدتموها بالإيمان. فإن تبتم وأنبتم وشهد لكم عملكم بصلاح سريرتكم فإن الله يقبل توبتكم، ويعاملكم رسوله بما يعامل به المؤمنين الذين تشهد لهم أعمالهم بإخلاصهم وصدقهم، وإن أبيتم إلا الإصرار على نفاقكم، والاعتماد على نفاق سوق كذبكم بأعذاركم وأيمانكم، فسيعاملكم رسوله بما أمره الله به في هذه السورة من جهادكم والإغلاظ عليكم كإخوانكم الكفار المجاهدين، وعدم السماح لكم بالخروج معه أبدا، ولا بأن تقاتلوا معه عدوا، وما يتعلق بذلك من إهانة واحتقار.
﴿ ثم تردون ﴾ من هذه الحياة على الذل والموت عليه.
﴿ إلى عالم الغيب والشهادة ﴾ الذي يعلم ما تسرون وما تعلنون، وما تكتمون وما تظهرون. والغيب ما غاب عن المخاطبين علمه، والشهادة ما يشهدونه ويعرفونه.
﴿ فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ عندما تحشرون وتحاسبون، ويجازيكم عليه بما تستحقون، وهو ما أوعدكم به في هذه السورة وفي غيرها كقوله :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ [ النساء : ١٤٥ ].
من الفقه في الآية أن من آداب الإسلام تحامي كل ذنب أو تقصير يحتاج فاعله إلى الاعتذار، وورد في بعض الأحاديث المرفوعة :" إياك وكل أمر يعتذر منه "، رواه الضياء في الأحاديث المختارة عن أنس، وروى غيره مثله في أثناء حديث آخر.
ويجب التنبه في هذا المقام لجهل فظيع وقفنا عليه بمذاكرة بعض المشتغلين بعلوم الدين التقليدية مخالف لهذه الآية وأمثالها من كتاب الله تعالى، وهو زعمهم أن ما عابه الكتاب الحكيم على المشركين والكافرين من أعمال الشرك والكفر كدعاء غير الله واتخاذ أولياء من دونه يقربونهم إليه ويشفعون لهم عنده فيما يطلبون من دفع ضر وجلب نفع مما لا ينال بالكسب فهو خاص بهم وبأوليائهم وشفعائهم، وأن وقوع مثله من المسلمين لا ينافي صحة إيمانهم، والاعتداد بإسلامهم، للفرق الواضح بين من يدعو الأصنام والأوثان ويجعلها واسطة بينه وبين الله تعالى تشفع له عنده وتقربه إليه زلفى، ومن يدعو الأنبياء والأولياء لذلك وهم عباد الله المكرمون، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ! !
جهل هؤلاء أن الشرك والكفر لا يختلف حكمه باختلاف متعلقه، فمن يدعو مع الله صنما أو كوكبا كمن يدعو نبيا أو ملكا، على أن الأوثان والأصنام كانت تماثيل لذكرى بعض الأولياء والصالحين كالقبور المنسوبة إلى بعضهم نسبة صحيحة أو مزورة، ولكن ماذا يقول هؤلاء الجاهلون المدافعون عن الشرك وأهله في أهل الكتاب الذين يدعون ويستغيثون الأنبياء والصالحين، متوسلين بهم ومتشفعين، وهم الذين اتبع القبوريون من المسلمين سننهم في شركهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك تحذيرا وإنذارا بقوله :" لتتبعن سنن من كان قبلكم " ١ الحديث، وهو متفق عليه وتقدم ذكره مرارا، وفصلت هذه المسألة في تفسير الآية ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ﴾ [ التوبة : ٣١ ] فيراجع تفسيرها.
ويذكر هؤلاء الجاهلون بالقرآن وتاريخ الإسلام فرقا آخر بين شرك المسلمين وشرك من قبلهم، وهو أن المشركين السابقين اتخذوا أوثانهم وأنبياءهم آلهة وأربابا، وأن المسلمين الذين يدعون الأولياء ويستغيثون في الشدائد طلبا لشفاعتهم لم يتخذوهم آلهة ولا أربابا وإنما يتخذونهم وسائل ووسائط ويعتقدون أنهم مخلوقون مثلهم.
والجواب عن هذا أنه لا فرق بين عمل الفريقين إلا في التسمية، ولكن من بعض الوجوه، فمشركو العرب لم يكونوا يسمون أصنامهم أربابا ؛ بل كانوا يعتقدون ويقولون إن رب العالمين وخالقهم ومدبر أمورهم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله وحده، لأن هذا مقتضى لغتهم، وإنما كانوا يسمونها آلهة لأن الإله في لغتهم هو المعبود، والمعبود هو من يتوجه إليه ويدعى فيما لا يقدر عليه الناس بكسبهم في دائرة الأسباب المعروفة لهم، ويعظم ويتقرب إليه بالذبائح وغيرها لأجل ذلك، سواء كان سلطانه على النفع ودفع الضر بذاته لذاته وهو الله تعالى، أو بشفاعته عند الله. وقد تقدم بسط هذا المعنى مرارا، وسيعاد في تفسير سورة يونس للنصوص الصريحة فيه، فتسمية هذه العبادة لغير الله توسلا في عرف بعض الناس لا يخرجها عن حقيقتها، ولا عن كون اسمها في اللغة العربية عبادة وهو ما كان يسميها به أهل هذه اللغة. وإنما التوسل الشرعي التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الأعمال الصالحة، لا بالأهواء المبتدعة، ولا بالتقاليد المتبعة.
هذه الآيات بيان لما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد عودتهم إليهم.
﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾ سيؤكدون لكم اعتذارهم بالأيمان الكاذبة إذا انقلبتم وتحولتم إليهم من سفركم، لأجل أن تعرضوا عن عتبهم وتوبيخهم على قعودهم مع الخالفين من النساء والأطفال والعجزة، وبخلهم بالنفقة، ولم يذكر المحلوف عليه للدلالة على شموله لكل ما يعتذر عنه.
﴿ فأعرضوا عنهم ﴾ إعراض إهانة واحتقار، لا إعراض صفح وإعذار، وهذا التعبير من أسلوب الحكيم، وهو قبول ما يبغون من الإعراض عنهم، ولكن على غير الوجه الذي يرجونه منه بل على ضده، وقد علل الأمر بقوله :﴿ إنهم رجس ﴾ أي قذر معنوي يجب الإعراض عنه تنزها عن القرب منه بأشد مما يتنزه الطاهر الثوب والبدن عن ملابسة الأرجاس والأقذار الحسية. وهذا بمعنى ما تقدم من قوله ٢٨ ﴿ إنما المشركون نجس ﴾، وسبق بيان معنى الرجس في تفسير آية ﴿ إنما الخمر والميسر ﴾ [ المائدة : ٩٣ ] من سورة المائدة.
﴿ ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ أي وملجؤهم الأخير نار جهنم جزاء بما كانوا يكسبون في الدنيا من أعمال النفاق التي دنست أنفسهم، والإعراض عن آيات الله الذي زادهم رجسا على رجسهم، كما تراه في الآية ( ١٢٥ ) الآتية.
ويجب التنبه في هذا المقام لجهل فظيع وقفنا عليه بمذاكرة بعض المشتغلين بعلوم الدين التقليدية مخالف لهذه الآية وأمثالها من كتاب الله تعالى، وهو زعمهم أن ما عابه الكتاب الحكيم على المشركين والكافرين من أعمال الشرك والكفر كدعاء غير الله واتخاذ أولياء من دونه يقربونهم إليه ويشفعون لهم عنده فيما يطلبون من دفع ضر وجلب نفع مما لا ينال بالكسب فهو خاص بهم وبأوليائهم وشفعائهم، وأن وقوع مثله من المسلمين لا ينافي صحة إيمانهم، والاعتداد بإسلامهم، للفرق الواضح بين من يدعو الأصنام والأوثان ويجعلها واسطة بينه وبين الله تعالى تشفع له عنده وتقربه إليه زلفى، ومن يدعو الأنبياء والأولياء لذلك وهم عباد الله المكرمون، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ! !
جهل هؤلاء أن الشرك والكفر لا يختلف حكمه باختلاف متعلقه، فمن يدعو مع الله صنما أو كوكبا كمن يدعو نبيا أو ملكا، على أن الأوثان والأصنام كانت تماثيل لذكرى بعض الأولياء والصالحين كالقبور المنسوبة إلى بعضهم نسبة صحيحة أو مزورة، ولكن ماذا يقول هؤلاء الجاهلون المدافعون عن الشرك وأهله في أهل الكتاب الذين يدعون ويستغيثون الأنبياء والصالحين، متوسلين بهم ومتشفعين، وهم الذين اتبع القبوريون من المسلمين سننهم في شركهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك تحذيرا وإنذارا بقوله :" لتتبعن سنن من كان قبلكم " ١ الحديث، وهو متفق عليه وتقدم ذكره مرارا، وفصلت هذه المسألة في تفسير الآية ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ﴾ [ التوبة : ٣١ ] فيراجع تفسيرها.
ويذكر هؤلاء الجاهلون بالقرآن وتاريخ الإسلام فرقا آخر بين شرك المسلمين وشرك من قبلهم، وهو أن المشركين السابقين اتخذوا أوثانهم وأنبياءهم آلهة وأربابا، وأن المسلمين الذين يدعون الأولياء ويستغيثون في الشدائد طلبا لشفاعتهم لم يتخذوهم آلهة ولا أربابا وإنما يتخذونهم وسائل ووسائط ويعتقدون أنهم مخلوقون مثلهم.
والجواب عن هذا أنه لا فرق بين عمل الفريقين إلا في التسمية، ولكن من بعض الوجوه، فمشركو العرب لم يكونوا يسمون أصنامهم أربابا ؛ بل كانوا يعتقدون ويقولون إن رب العالمين وخالقهم ومدبر أمورهم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله وحده، لأن هذا مقتضى لغتهم، وإنما كانوا يسمونها آلهة لأن الإله في لغتهم هو المعبود، والمعبود هو من يتوجه إليه ويدعى فيما لا يقدر عليه الناس بكسبهم في دائرة الأسباب المعروفة لهم، ويعظم ويتقرب إليه بالذبائح وغيرها لأجل ذلك، سواء كان سلطانه على النفع ودفع الضر بذاته لذاته وهو الله تعالى، أو بشفاعته عند الله. وقد تقدم بسط هذا المعنى مرارا، وسيعاد في تفسير سورة يونس للنصوص الصريحة فيه، فتسمية هذه العبادة لغير الله توسلا في عرف بعض الناس لا يخرجها عن حقيقتها، ولا عن كون اسمها في اللغة العربية عبادة وهو ما كان يسميها به أهل هذه اللغة. وإنما التوسل الشرعي التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الأعمال الصالحة، لا بالأهواء المبتدعة، ولا بالتقاليد المتبعة.
هذه الآيات بيان لما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد عودتهم إليهم.
﴿ يحلفون لكم لترضوا عنهم ﴾ فتستديموا معاملتهم السابقة بظاهر إسلامهم، وهذا غرض آخر وراء غرض الإعراض عنهم لا يهنأ عيشهم بدونه، ولاحظ لهم من إظهار الإسلام غيره، ولو كان إسلامهم عن إيمان لكان غرضهم الأول إرضاء الله ورسوله كما تقدم في آية ﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ﴾ الخ، وليس لكم أن ترضوا عنهم وهذه حالتهم.
﴿ فإن ترضوا عنهم ﴾ فَرْضا وقد أعلمكم الله بحالهم ﴿ فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ﴾ عن أمره منهم ولا من غيرهم، فإن هذا الفسوق سبب أو علة لسخط الله تعالى، فالحكم بعدم رضاه متعلق به لا بذواتهم وشخوصهم، ومقتضاه أنه إذا فرض أن بعض المؤمنين رضي عنهم وآمن لهم باعتذارهم بعد النهي عنه كان فاسقا مثلهم، محروما من رضائه تعالى، كما أن من يتوب منهم ويرضي الله ورسوله يخرج من حدود سخطه عز وجل ويدخل في حظيرة مرضاته ؛ إذ لا يعد بعد ذلك فاسقا. فأحكام الله العامة ووعده ووعيده تتعلق بالأعمال والصفات النفسية والبدنية لا بالذوات والأعيان، ولو قال :" فإن الله لا يرضى عنهم " لما أفاد التعبير هذه الحقائق والمعاني، بل كان يكون حكما على أفراد معينين، مسجلا عليهم الموت على كفرهم وعدم قبول توبة أحد منهم، وما أبعد هذا عن حكمة الله وعن هداية كتابه العزيز !
ويجب التنبه في هذا المقام لجهل فظيع وقفنا عليه بمذاكرة بعض المشتغلين بعلوم الدين التقليدية مخالف لهذه الآية وأمثالها من كتاب الله تعالى، وهو زعمهم أن ما عابه الكتاب الحكيم على المشركين والكافرين من أعمال الشرك والكفر كدعاء غير الله واتخاذ أولياء من دونه يقربونهم إليه ويشفعون لهم عنده فيما يطلبون من دفع ضر وجلب نفع مما لا ينال بالكسب فهو خاص بهم وبأوليائهم وشفعائهم، وأن وقوع مثله من المسلمين لا ينافي صحة إيمانهم، والاعتداد بإسلامهم، للفرق الواضح بين من يدعو الأصنام والأوثان ويجعلها واسطة بينه وبين الله تعالى تشفع له عنده وتقربه إليه زلفى، ومن يدعو الأنبياء والأولياء لذلك وهم عباد الله المكرمون، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ! !
جهل هؤلاء أن الشرك والكفر لا يختلف حكمه باختلاف متعلقه، فمن يدعو مع الله صنما أو كوكبا كمن يدعو نبيا أو ملكا، على أن الأوثان والأصنام كانت تماثيل لذكرى بعض الأولياء والصالحين كالقبور المنسوبة إلى بعضهم نسبة صحيحة أو مزورة، ولكن ماذا يقول هؤلاء الجاهلون المدافعون عن الشرك وأهله في أهل الكتاب الذين يدعون ويستغيثون الأنبياء والصالحين، متوسلين بهم ومتشفعين، وهم الذين اتبع القبوريون من المسلمين سننهم في شركهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك تحذيرا وإنذارا بقوله :" لتتبعن سنن من كان قبلكم " ١ الحديث، وهو متفق عليه وتقدم ذكره مرارا، وفصلت هذه المسألة في تفسير الآية ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ﴾ [ التوبة : ٣١ ] فيراجع تفسيرها.
ويذكر هؤلاء الجاهلون بالقرآن وتاريخ الإسلام فرقا آخر بين شرك المسلمين وشرك من قبلهم، وهو أن المشركين السابقين اتخذوا أوثانهم وأنبياءهم آلهة وأربابا، وأن المسلمين الذين يدعون الأولياء ويستغيثون في الشدائد طلبا لشفاعتهم لم يتخذوهم آلهة ولا أربابا وإنما يتخذونهم وسائل ووسائط ويعتقدون أنهم مخلوقون مثلهم.
والجواب عن هذا أنه لا فرق بين عمل الفريقين إلا في التسمية، ولكن من بعض الوجوه، فمشركو العرب لم يكونوا يسمون أصنامهم أربابا ؛ بل كانوا يعتقدون ويقولون إن رب العالمين وخالقهم ومدبر أمورهم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله وحده، لأن هذا مقتضى لغتهم، وإنما كانوا يسمونها آلهة لأن الإله في لغتهم هو المعبود، والمعبود هو من يتوجه إليه ويدعى فيما لا يقدر عليه الناس بكسبهم في دائرة الأسباب المعروفة لهم، ويعظم ويتقرب إليه بالذبائح وغيرها لأجل ذلك، سواء كان سلطانه على النفع ودفع الضر بذاته لذاته وهو الله تعالى، أو بشفاعته عند الله. وقد تقدم بسط هذا المعنى مرارا، وسيعاد في تفسير سورة يونس للنصوص الصريحة فيه، فتسمية هذه العبادة لغير الله توسلا في عرف بعض الناس لا يخرجها عن حقيقتها، ولا عن كون اسمها في اللغة العربية عبادة وهو ما كان يسميها به أهل هذه اللغة. وإنما التوسل الشرعي التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الأعمال الصالحة، لا بالأهواء المبتدعة، ولا بالتقاليد المتبعة.
﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا ونِفَاقًا وأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﴾ بيان مستأنف لحال سكان البادية من المنافقين، لأنه مما يسأل عنه بعد ما تقدم في منافقي الحضر من سكان المدينة وغيرها من القرى. فالأعراب اسم جنس لبدو العرب، واحده أعرابي، والأنثى أعرابية والجمع أعاريب والعرب اسم جنس لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة بدوه وحضره واحده عربي. وقد وصف الأعراب بأمرين اقتضتهما طبيعة البداوة : الأول أن كفارهم ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم من أهل الحضر ولاسيما الذين يقيمون في المدينة المنورة نفسها لأنهم أغلظ طباعا، وأقسى قلوبا، وأقل ذوقا وآدابا، -كدأب أمثالهم من بدو سائر الأمم بما يقضون جل أعمارهم في رعي الأنعام وحمايتها من ضواري الوحوش. ومن تعدي أمثالهم عليها وعلى نسائهم وذراريهم، فهم محرومون من وسائل العلوم الكسبية، والآداب الاجتماعية. الثاني : أنهم أجدر أي أحق وأخلق من أهل الحضر بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من البينات والهدى في كتابه، وما آتاه من الحكمة التي بين بها تلك الحدود بسنن أقواله وأفعاله، وفهم ألفاظ القرآن اللغوية لا يكفي في علم حدوده العملية. كان أهل المدينة وما حولها من القرى يتلقون عنه صلى عليه وسلم كل ما كان ينزل من القرآن وقت نزوله ويشهدون سنته في العمل به، وكان يرسل العمال إلى البلاد المفتوحة يقيمون فيها يبلغون القرآن، ويحكمون بين الناس به وبالنسبة المبينة له، فيعرف أهلها الحدود التي حدها الله تعالى ونهاهم أن يعتدوها. ولم يكن هذا كله ميسورا لأهل البوادي، وهم مأمورون بالهجرة، لأجل العلم والنصرة، لأن الإسلام دين علم وحضارة.
فالأعراب أجدر بالجهل من الحضر بطبيعة البداوة لا بضعف أفهامهم، أو بلادة أذهانهم، أو ضيق نطاق بيانهم، فقد كانوا مضرب الأمثال في قوة الجنان، ولوذعية الأذهان، وذرابة اللسان، وسعة بيداء البيان، وعنهم أخذ رواة العربية أكثر مفردات العربية وأساليبها.
والجدارة بالشيء قد تكون طبيعة، وقد تكون بأسباب كسبية، من فنية وشرعية وأدبية، وقد تكون بأسباب سلبية اقتضتها حالة المعيشة والبيئة، قيل : إنها مشتقة من الجدار وهو الحائط الذي يكون حدا للبستان أو الدار، وقيل من جدر الشجرة، ويرادف الجدير بالشيء والأجدر، الحقيق والأحق، والخليق والأخلق، وقد يستعمل أفعل في كل منها للتفضيل مع التصريح بالمفضل عليه غالبا. كحديث " والثيب أحق بنفسها من وليها " ١، ومع تركه للعلم به أحيانا، ومنه قوله تعالى :﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾ [ آل عمران : ١٥ ].
﴿ والله عليم حكيم ﴾ واسع العلم بأمور عباده وصفاتهم وأحوالهم الظاهرة من بداوة وحضارة وعلم وجهل، والباطنة من إيمان وكفر، وإخلاص ونفاق، تام الحكمة فيما يحكم به عليهم، وما يشرعه لهم، وما يجزيهم به، من نعيم مقيم، أو عذاب أليم.
روى أحمد وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس يرفعه :" من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن " ٢، قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري، وروى أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا " من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدا " ٣، وسبب الأخير أن السلاطين قلما يرضون عمن يلتزم الحق والصدق والنصح الصريح، وقلما يأتيهم ويزداد قربا منهم إلا المرائي الذي يمدحهم بالباطل ويعينهم على الظلم ولو بالتأول لهم، وقد بينا هذا المعنى في تفسير ﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ﴾ [ التوبة : ٦١ ].
٢ أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٢٤، والترمذي في الفتن باب ٦٩، والنسائي في الصيد باب ٢٤، وأحمد في المسند ١/٣٥٧..
٣ أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٢٤،. وأحمد في المسند ٢/٣٧١، ٤٤٠، ٤/٢٩٧..
﴿ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ﴾ تقدم في الآية ٩٠ أن بعض الأعراب جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم معذرين ليأذن لهم في القعود عن غزوة تبوك، وذكر في هذه الآية حال الذين كانوا ينفقون بعض أموالهم في سبيل الجهاد رياء وتقية فيعدون ما ينفقون من المغارم، وهي ما يلزمه المرء مما يثقل عليه فيلتزمه كرها أو طوعا لدفع مكروه عن نفسه أو عن قومه له فيه منفعة ذاتية. ولم يكن هؤلاء الأعراب المنافقون يرجون بهذه النفقة جزاء في الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث. ولهذا قال الضحاك : يعني بالمغرم أنه لا يرجو ثوابا عند الله ولا مجازاة، وإنما يعطي ما يعطي من الصدقات كرها. وعن ابن زيد : إنما ينفقون رياء اتقاء أن يغزوا ويحاربوا ويقاتلوا ويرون نفقاتهم مغرما [ قال ] : وهم بنو أسد وغطفان.
﴿ ويتربص بكم الدوائر ﴾ أي ينتظرون دوائر الزمان، أي تصاريفه ونوائبه التي تدور بالناس وتحيط بهم بشرورها أن تنزل بكم فتبدل قوتكم ضعفا، وعزكم ذلا، وانتصاركم هزيمة وكسرا، فيستربحوا من أداء هذه المغارم لكم، بالتبع للخروج من طاعتكم، والاستغناء عن إظهار الإسلام نفاقا لكم، كانوا أولا يتوقعون ظهور المشركين واليهود على المؤمنين، فلما يئسوا من ذلك صاروا ينتظرون موت النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أن الإسلام يموت بموته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله. وهكذا يعلل الجاهل الضعيف نفسه الخبيثة بالأماني والأوهام.
وإذا كان منافقو المدينة الذين هم أجدر من هؤلاء الأعراب أن يعلموا ما في الإسلام من القوة الذاتية، وما في اعتصام المؤمنين الصادقين به من القوة الحربية، كانوا يتربصون بالمؤمنين الهزيمة من الروم في تبوك، وكانوا إن أصاب النبي صلى الله عليه وسلم مصيبة مما لا يخلو عنه البشر يفرحون ويقولون ( قد أخذنا أمرنا من قبل ) أي احتطنا لهذه العاقبة قبل وقوعها، فهل يستغرب مثل هذا التربص من الأعراب سكان البادية الذين يجهلون ما ذكر ؟ ( راجع تفسير الآيات ٥٠ ٥٤ من هذه السورة ).
﴿ عليهم دائرة السوء ﴾ دعاء عليهم بما يتربصونه بالمؤمنين، أو خبر بحقيقة حالهم معهم، ومآل الاحتمالين واحد، لأن الخبر في كلامه تعالى حق ومضمونه كمضمون الدعاء واقع، ما له من دافع، والدعاء منه عز وجل يراد به مآله وهو وقوع السوء عليهم وإحاطته بهم. والسوء بالفتح في قراءة الجمهور، وهو مصدر ساءه الأمر ضد سره، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ههنا وفي سورة الفتح بالضم، وهو اسم لما يسوء. والإضافة : كرجل صدق وقدم صدق. وتقديم الخبر يفيد الحصر أي عليهم وحدهم دائرة السوء تحيط بهم دون المؤمنين الذين يتربصونها بهم، فإن هؤلاء لا عاقبة لهم تتربص بهم إلا ما يسرهم ويفرحهم من نصر الله وتوفيقه لهم، وما يسوء أعداءهم من خذلان وخيبة وتعذيب لهم في الدنيا قبل الآخرة حتى بأموالهم وأولادهم، كما تقدم في قوله تعالى :﴿ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ﴾ [ التوبة : ٥٢ ] وقوله :﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ﴾ [ التوبة : ٥٥ ].
﴿ والله سميع عليم ﴾ لا يخفى عليه شيء من أقوالهم المعبرة عن شعورهم واعتقادهم في نفقاتهم إذا تحدثوا بها فيما بينهم، وأقوالهم التي يقولونها للرسول أو لعماله على الصدقات، أو لغيرهم من المؤمنين مراءاة لهم، ولا من أعمالهم التي يعملونها، ومن نياتهم وسرائرهم التي يخلونها، فهو سيحاسبهم على ما يسمع ويعلم أي على كل قول وفعل ويجزيهم به.
ولما ذكر حال هؤلاء الأعراب المنافقين عطف عليه بيان حال المؤمنين الصادقين منهم١ فقال :﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الأخر ﴾ إيمانا صادقا إذعانيا تصدر عنه آثاره من العمل الصالح. قال مجاهد : هم بنو مقرن من مزينة وهم الذين قال الله فيهم ﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ﴾ [ التوبة : ٩٢ ] الآية. وقال الكلبي : هم أسلم وغفار وجهينة ومزينة، وثم روايات أخرى فيهم، والنص يشمل جميع المؤمنين الصادقين منهم ومن غيرهم من الأعراب. وقد ذكر من وصفهم ضد ما ذكره في وصف من قبلهم في أمر النفقة في سبيل الله فقال :﴿ ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ﴾ أي يتخذ ما ينفقه وسيلة لأمرين عظيمين : أولها القربات والزلفى عند الله عز وجل، وثانيهما صلوات الرسول، أي أدعيته ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو المتصدقين ويستغفر لهم، ولم يثبت في النص انتفاع أحد بعمل غيره إلا الدعاء وما يكون المرء سببا فيه كالولد الصالح، والسنة الحسنة يتبع فيها. فهذا القصد في اتخاذ الصدقات ضد اتخاذ المنافقين إياها مغرما.
والقربات كالقرب جمع قربة ( بضم القاف ) وهي في المنزلة والمكانة كالقرب في المكان والقرابة، والقربى في الرحم، والأصل في الكل واحد وهو الدنو من الشيء مطلقا، فقصد القربة في العمل هو الإخلاص وابتغاء مرضاة الله ورحمته ومثوبته فيه. وجمعها باعتبار تعدد النفقات ففيه إيماء إلى إخلاصهم في كل فرد منها. والصلوات جمع صلاة، ومعناها أو أحد معانيها في أصل اللغة الدعاء، وإطلاقها على العبادة المخصوصة من أركان الإسلام شرعي وجهه أن الدعاء هو روحها الأعظم لأنه مخ العبادة، وسرها الذي تتحقق به العبودية على أكمل وجوهها، وهو في الفاتحة فريضة، وفي السجود فضيلة، ويأتي قريبا بيان هذه الصلوات على المتصدقين في تفسير الآية ( ١٠٣ ).
وقد بين الله تعالى جزاء هؤلاء الأعراب على ما شهد لهم به من صدق الإيمان وإخلاص النية في الإنفاق في سبيل الله، وأدائهم به حق الله، وهو قصد القربة عنده، وحق الرسول وهو طلب دعائه لهم بقبول نفقتهم وإثابتهم عليها، فقال بأسلوب الاستئناف المشعر بالاهتمام :﴿ ألا إنها قربة لهم ﴾ وهو إخبار بقبوله تعالى لنفقتهم مؤكد بافتتاحه بأداة التنبيه الدالة على الاهتمام بما بعدها وهي ( ألا ) وب [ إن ] الدالة على تحقيق مضمون الجملة وبالجملة الاسمية فقوله تعالى :[ إنها قربة ] راجع إلى النفقة المأخوذة من قوله :[ ما ينفق ] فإفراد القربة لأنها خبر الضمير المفرد.
وقوله :﴿ سيدخلهم الله في رحمته ﴾ تفسير لهذه القربة والمراد بالرحمة هنا الرحمة الخاصة بمن رضي الله عنهم، وهي هداية الصراط المستقيم وما تنهي إليه من دار النعيم، ومعنى إدخالهم فيها أن يكونوا مغمورين فيها وتكون هي محيطة بهم شاملة لهم، وهذا أبلغ من مثل ﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ﴾ [ التوبة : ٢١ ]، والسين في قوله [ سيدخلهم ) لتأكيد الوعد وتحقيقه وتقدم مثله. وعلله بقوله :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ أي واسع المغفرة والرحمة يغفر للمخلصين في أعمالهم ما يلمون به من ذنب أو تقصير، ويرحم الصادقين في إيمانهم فيهديهم به إلى أحسن العمل وخير المصير، وفي الآية من بلاغة الإيجاز ما يدل على علو مقام هؤلاء الأعراب.
قال :
﴿ والسَّابِقُونَ الأَولُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ هذه طبقات ثلاث هي خير هذه الأمة التي هي في جملتها خير أمة أخرجت للناس :
فالأولى : السابقون الأولون من المهاجرين. قيل هم الذين صلوا إلى القبلتين، وروي عن أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن سيرين والحسن وقتادة وغيرهم. وقيل : هم أهل بدر، وروي عن محمد بن كعب وعطاء بن يسار، وقيل هم الذين شهدوا بيعة الرضوان في الحديبية وعليه الشعبي، ولكن هذا القول وما قبله في السابقين من المهاجرين والأنصار جميعا : وأما السابقون من المهاجرين وحدهم فهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية ؛ لأن المشركين كانوا إلى ذلك الوقت يضطهدون المؤمنين في بلادهم ويقاتلونهم في دار الهجرة وما حولها ولا يمكنون أحدا من الهجرة ما وجدوا إلى صده سبيلا، ولا منجاة للمؤمن من شرهم إلا بالفرار أو الجوار، فالذين هاجروا قبل صلح الحديبية وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم كانوا كلهم من المؤمنين الصادقين، ليس فيهم منافق كما قلنا من قبل، إذ لم يكن للنفاق في ذلك الوقت مقتض ولا سبب، ولا للهجرة والجهاد داع غير الإخلاص في الإيمان وإقامة بناء الإسلام، وإن كان هؤلاء يتفاضلون في السبق وفي غيره من الأعمال، فأفضلهم الخلفاء الأربعة فسائر الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة بأشخاصهم، وما كل سابق أفضل من كل مسبوق، ومن السابقين بالإيمان من سبقه غيره بالهجرة، وأول من آمن على الإطلاق خديجة [ رض ] ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بلغها خبر بعثته قبل كل أحد فصدقت وآمنت، ويليها من كان معه صلى الله عليه وسلم في بيتها، وهم علي وكان ابن ١٠ سنين، وزيد بن حارثة، ومن خارجه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والمشهور أنه أول من آمن من الرجال، ولا خلاف في أنه آمن عندما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم بغير أدنى تريث أو تردد، ولا في أنه أول المهاجرين مع الرسول كما تقدم في تفسير آية الغار، وأول الدعاة إلى الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم.
الطبقة الثانية : السابقون الأولون من الأنصار وهم الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة في منى في المرة الأولى سنة إحدى عشرة من البعثة وكانوا سبعة، وفي المرة الثانية وكانوا سبعين رجلا وامرأتين. ويليهم الذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم من قبل النبي صلى الله عليه وسلم يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وأرسله مع أهل العقبة الثانية سنة اثنتي عشرة من البعثة، وكذا من آمن عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تكون للمسلمين قوة غالبة تتقى وترتجى، وهذه القوة رسخت عقب هجرته صلى الله عليه وسلم، وصار بعض أهل المدينة يظهرون الإسلام نفاقا بدليل قوله تعالى في الآيات التي نزلت في شأن غزوة بدر وكانت في السنة الثانية ﴿ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ﴾ [ الأنفال : ٤٩ ]، ولم يكن فيهم أحد من المهاجرين ولا من الأنصار السابقين، وإن كانوا كلهم من الأوس والخزرج.
الطبقة الثالثة : الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في الهجرة والنصرة اتباعا بإحسان، أو محسنين في الأفعال والأقوال، فتضمن هذا القيد الشهادة للسابقين بكمال الإحسان لأنهم صاروا فيه أئمة متبوعين، وخرج به من اتبعوهم في ظاهر الإسلام مسيئين غير محسنين في هذا الاتباع وهم المنافقون، ومن اتبعوهم محسنين في بعض الأعمال ومسيئين في بعض وهم المذنبون، والآيات الآتية مبينة حال الفريقين.
هؤلاء الطبقات الثلاث ﴿ رضي الله عنهم ﴾ في إيمانهم وإسلامهم وإحسانهم، وأعلاه ما كان من هجرتهم وجهادهم، فقبل طاعاتهم، وغفر سيئاتهم، وتجاوز عن زلاتهم، إذ بهم أعز الإسلام، ونكل بأعدائه من المشركين وأهل الكتاب.
﴿ ورضوا عنه ﴾ بما وفقهم له، وأسبغه عليهم من نعمه الدينية والدنيوية، فأنقذهم من شرك، وهداهم من ضلال، وأغناهم من فقر، وأعزهم من ذل.
﴿ وأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ تقدم مثل هذا الوعد الكريم في الآية ( ٧٢ ) وفي آيات أخرى ومعناه ظاهر، وأي فوز أعظم من نعيم الجنة الخالد من بدني وروحاني ؟
قرأ الجمهور ( والأنصار ) بالخفض عطفا على المهاجرين، وقرأها يعقوب بالرفع عطفا على ( السابقون )، وروي عن الحسن البصري، بل روي أيضا وفيه نظر عندي أن عمر رضي الله عنه قرأها كذلك مع جعل ( الذين اتبعوهم ) صفة للأنصار، وأنكر على رجل قرأها بالخفض فأخبره أنه تلقاها عن أبي بن كعب كاتب الوحي وجامع القرآن، فسأل عمر أبيا فصدقه وأخبره أنه هكذا سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أنها هكذا أنزلها الله على جبريل ونزل جبريل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر : لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا يعنى المهاجرين الأولين فقال أبي : تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة ﴿ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ﴾ [ الجمعة : ٣ ].
ولفظ الاتباع فيها نص في الصحابة المتأخرين الذين اتبعوا الأولين من المهاجرين والأنصار في صفتيهم : الهجرة والنصرة، وهو بصيغة الماضي فلا يدخل في عمومه التابعون الذين تلقوا الدين والعلم من الصحابة ولم ينالوا شرف الصحبة والهجرة والنصرة، وتسمية هؤلاء بالتابعين اصطلاحية حدثت بعد نزول القرآن وانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.
وقد ورد ذكر الطبقات الثلاث من الصحابة في آخر سورة الأنفال وعبر فيه عن الطبقة الثالثة بقوله :﴿ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ﴾ [ الأنفال : ٥٧ ] وذكرت في تفسيرها آيات سورة الحشر، وقد عبر فيها عن الطبقة الثالثة بقوله ﴿ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ﴾ [ الحشر : ١٠ ] الخ، ولا شك في مشاركة سائر المؤمنين لأولئك الصحابة الكرام في رضاء الله وثوابه بقدر اتباعهم لهم في الهجرة إن وجدت أسبابها، والجهاد بالأموال لهم في الهجرة إن وجدت أسبابها، والجهاد بالأموال والأنفس لنصرة الإسلام، ومنها نصرته بالحجة والبرهان، وفي سائر أعمال البر والإحسان، وإن الآيات تدل على ذلك في كل موضع، لأن الجزاء في حكم الله الحق وشرعه العدل على الأعمال، وللسابقين في كل عمل فضيلة السبق والإمامة في كل عصر، ويمتاز عصر الرسول الذي وجد فيه الإسلام وأقيم بنيانه، ورفعت أركانه، ونشرت في الخافقين أعلامه، على كل عصر بعده، وهم الأقلون المقربون كما قال تعالى :﴿ والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ﴾ [ الواقعة : ١٠ ١٣ ].
هذه الشهادة من رب العالمين للطبقات الثلاث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدمغ حقها باطلُ الروافض الذين يطعنون فيهم، ويحثوا التراب في أفواههم، والذي سن هذا الطعن في جمهورهم الأعظم عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام لأجل إيقاع الشقاق بين المسلمين وإفساد أمرهم، ثم نظم الدعوة لذلك زنادقة المجوس بعد فتح المسلمين لبلادهم، كما بيناه مرارا. ثم جعل الرفض مذهبا، له فرق ذات عقائد، منها ما هو كفر صريح، ومنها ما هو ابتداع قبيح. ومنها ما هو دون ذلك.
وروي عن أبي صخر حميد بن زياد قال : أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له : ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم. فقلت : من أين تقول هذا ؟ قال : اقرأ قول الله تعالى :﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ﴾ إلى أن قال ﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ وقال :﴿ والذين اتبعوهم بإحسان ﴾ شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة. قال أبو صخر : فكأني لم أقرأ هذه الآية قط.
والتحقيق ما قلناه، فإن هذه الآيات وما بعدها في بيان حال المسلمين في عهد نزولها مؤمنيهم ومنافقيهم، ومحسنيهم ومسيئهم، والذين خلطوا منهم عملا صالحا وآخر سيئا، والذين تاب الله عليهم والذين أرجأ توبتهم. وهذه الآية نص في أن الطبقات الثلاث من السابقين الأولين والذين اتبعوهم في الإيمان والهجرة والجهاد عندما أبيحت الهجرة وتيسرت أسبابها بصلح الحديبية قد فازوا كلهم برضاء الله ووعده لهم الجنة، وأنه ليس فيهم أحد من المنافقين بل كان جميع المنافقين من أهل المدينة وما حولها إلى أن فتحت مكة، وأعتق النبي صلى الله عليه وسلم أهلها، فأظهروا الإسلام والسيوف تقطر من دمائهم، فكان منهم المنافقون، وضعفاء الإيمان المقلدون، وهم الذين كانوا سبب الهزيمة في حنين كما تقدم في تفسير الآيات ٢٥ ٢٧، ثم حسن إسلام الأكثرين، ففتحوا الفتوحات ونشروا الإسلام في العالمين.
وجملة القول : إن جميع أفراد هذه الطبقات الثلاث، قد جازوا القنطرة واستبقوا الصراط، وما عاد يؤثر في كمال إيمانهم شيء، لأن نورهم يمحو كل ظلمة تطرأ على أحد منهم بإلمامه بذنب. وإذا كان بعض المحدثين يقول : إن من اتفق الشيخان على تعديله في الرواية أي اعتمدا عليه في أصولهما المسندة قد جاز قنطرة الجرح، فماذا يقال فيمن عدلهم الله عز وجل، وشهد لهم بأنه رضي عنهم ورضوا عنه ؟ وسيأتي أن الله تعالى تاب على المذنبين والمقصرين وغفر لهم.
وللشيخ محيي الدين بن عربي مناظرة مع نفسه بسطها في كتابه ( روح القدس ) ذكر فيها أنه في أثناء مجاورته بمكة المكرمة حدث لنفسه من الإعجاب بعبادتها ومعرفتها ما دعاه إلى مناظرتها وإقامة الحجة عليها بغرورها، فعرضها أولا على القرآن، فاعترفت بضعفها عن بلوغ ما قرره من أوج الكمال، فعرضها على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذرت بحديث عائشة " كان خلقه القرآن " ١، وهو ما يعجز عنه من دونه كل إنسان، فعرضها على فضائل الصحابة فأقرت بعجزها عن الرجحان في هذا الميزان، ومسابقة من رباهم المصطفى بكتاب الله وآياته، وزكاهم بحكمته فاقتبسوا نوره من مشكاته، ولكنها أبت أن تعترف لكبار التابعين بمثل هذا السبق، وكان له معها حجاج في أويس القرني هو من أعلى حقائق علم النفس.
﴿ ومِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ومِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ﴾ بعد أن بين تعالى حال كملة المؤمنين كلهم قفى عليه بذكر مردة المنافقين من أهل البدو والحضر، وعطفهم عليهم من باب عطف الضد على الضد، فهو يقول : إن بعض الأعراب الذين حولكم أيها المؤمنون منافقون. قال البغوي : وهم من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، كانت منازلهم حول المدينة، أي كما كان فيهم مؤمنون صادقون دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإن من أهل المدينة نفسها منافقين أيضا من الأوس والخزرج غير مَن أعلم الله رسوله بهم في هذه السورة بما صدر عنهم من الأقوال والأفعال المنافية للإيمان، وقد وصف هؤلاء بقوله :
﴿ مردوا على النفاق ﴾ أي مرنوا عليه وحذقوه حتى بلغوا الغاية من إتقانه، وجعله بحيث لا يشعر أحد به، لاتقائهم جميع الأمارات والشبهات التي تدل عليه. يقال مرد على الشيء يمرد ( كقعد يقعد ) مرودا إذا مرن عليه. وإذا عتا واشتد فيه حتى يتعذر إرجاعه عنه. ومن الأول الغلام الأمرد الذي لم ينبت الشعر في وجهه، والشجرة المرداء التي لا ورق فيها، ومنه مرد الشيء تمريدا إذا صقله وملسه حتى صار أملس لا حرشة فيه ولا خشونة، ومنه ( صرح ممرد من قوارير ) قال في اللسان : وتأويل المرود أن يبلغ الغاية التي تخرج من جملة ما عليه الصنف. ثم قال : والمرود على الشيء المرون عليه، ومرد على الكلام أي مرن عليه لا يعبأ به [ أي لا يعني أن يتكلف له ] قال الله تعالى ﴿ ومِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ ﴾ [ التوبة : ١٠١ ] قال الفراء : يريد مرنوا عليه وجربوا، كقولك تمردوا، وقال ابن الأعرابي المرد التطاول بالكبر والمعاصي ومنه قوله :﴿ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ ﴾ أي تطاولوا اه.
﴿ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ﴾ أي لا تعرفهم أيها الرسول بفطنتك ودقة فراستك التي تنظر فيها بنور الله لحذقهم في التقية وتجنب مثارات الشبهة، وأكد هذا النفي بإثبات العلم بأعيانهم له وحده عز وجل، ولعلهم أخفى نفاقا وأشد تقية ممن قال فيهم :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ولَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ واللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [ محمد : ٢٩، ٣٠ ].
فهؤلاء ممن لم يعلمه الله بأعيانهم كما أعلمه بمن أشير إليهم في الآية [ ٧٤ ]، ولا فضحهم بأقوال قالوها ولا بأفعال فعلوها كما فضح غيرهم في هذه السورة، لأنهم بمرودهم على النفاق يتحامون ما يكون شبهة على إيمانهم، فضرره قاصر عليهم، وحكمة إخباره تعالى إياه بذلك أن يعلموا هم أنه الله عليم بما يسرون من نفاقهم، ويحذروا أن يفضحهم كما فضح غيرهم، ليتوب المستعد للإيمان منهم وهو في ستر الله تعالى قبل أن ينجز ما أوعدهم بقوله :﴿ سنعذبهم مرتين ﴾ أي في الحياة الدنيا : إحداهما ما يصيبهم من المصائب وتوبيخ الضمائر، وانتظار الفضيحة بهتك أستار السرائر، وما يتلو ذلك من جهادهم إذا ظهر نفاقهم كغيرهم، والثانية آلام الموت وزهوق أنفسهم وهم كافرون وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند موتهم، فأقرب ما يفسر به العذاب مرتين هو ما تقدم في تفسير الآيات ٥٥ و٧٣ و٧٤ و٨٢ و٨٣، ففيه بيان لكل ما يصيب المنافقين في الدنيا من عذاب الوجدان الباطن، وعذاب من يفتضح أمرهم في الظاهر، وورد في التفسير المأثور أقوال في هاتين المرتين بعضها في معنى ما ذكرنا وبعضها مردود ومتناقض.
﴿ ثم يردون إلى عذاب عظيم ﴾ أي في الآخرة وهو عذاب جهنم، وهم في الدرك الأسفل منها كما تقدم.
جاء في كتب التفسير المأثور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس مرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :" إن منكم منافقون فمن سميته فليقم "، ثم قال : قم يا فلان، حتى سمى ٣٦ رجلا، فإن صح فهو عدد الذين سبق تهديدهم في هذه السورة لظهور نفاقهم دون الذين مردوا على النفاق، ولكن لم يرو لنا ما كان من أمر هؤلاء بعد هذه الفضيحة بكفرهم ومنعهم من الصلاة، ومقتضاه أن تجري عليهم أحكام المرتدين، ومثل هذا لا يخفى وتتوفر الدواعي على نقله بالتواتر أو الاستفاضة، ولم يرو المحدثون شيئا فيه، والذي أراه أن الرواية غير صحيحة والله أعلم.
والعبرة في هذا السياق أن هؤلاء المنافقين فريقان : فريق عرفوا بأقوال قالوها وأعمال عملوها، وفريق مردوا على النفاق وحذقوه حتى صار أملس ناعما لا يكاد يشعر أحد بشيء يستنكره منه فيظهر عليه، وكل من الفريقين يوجد في كل عصر، ولاسيما منافقي السياسة في هذا العهد، وهم الذين اتخذهم الأجانب المعتدون على بلاد الإسلام دعاة وولائج وأعوانا على استعباد أمتهم واستعمار أوطانهم، فما من قطر من هذه الأقطار التي رزئت بالأجانب إلا ولهم فيها أعوان وأنصار من أهلها يزعمون أنهم يخدمون أمتهم ووطنهم من طريق استمالتهم واسترضائهم، وأنهم لولاهم لما وقفوا من الظلم وهضم الحقوق عند الحد الذي هم عليه، ومنهم من يخدمون الأجانب خدما خفية لا تشعر بها الأمة ؛ لأنهم مردوا على النفاق، وإنما يحتاج الخونة الخادمون للأجانب إلى النفاق، وتلبيس خيانتهم وإخفائها بالكذب والاختلاق، إذا كان للرأي العام فطنة وقوة يخشونها، وأما البلاد التي استحوذ عليها الجهل والضعف فلا يبالي الخائنون برضاء أهلها ولا بسخطهم.
وأشد المنافقين مرودا وإتقانا للنفاق أعوان الملوك والأمراء المستبدين، وشرهم وأضرهم الذين يلبسون لباس علماء الدين.
﴿ وآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي وثم آخرون أو ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة أناس آخرون ليسوا من المنافقين، ولا من السابقين الأولين، ولا من الذين اتبعوهم بإحسان لا إساءة فيه، بل من المؤمنين.
﴿ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً ﴾ أي خلطوا في أعمالهم بأن عملوا عملا صالحا وعملا سيئا، وقيل معناه خلطوا صالحا بسيئ وسيئا بصالح، أو خلطوا في كل منهما ما ليس منه، فكان ناقصا ولكنه لم يغلب الآخر ويندغم فيه، فلم يكونوا من الصالحين الخلص ولا من الفاسقين أو المنافقين، ذلك بأنهم آمنوا وعملوا الصالحات، واقترفوا بعض السيئات، وهم أو منهم بعض الذين تخلفوا عن النفر والخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح كالضعفاء والمرضى وغير الواجدين، ولا استئذان كاستئذان المرتابين، ولا اعتذار كاذب كالمنافقين، ثم كانوا ناصحين لله في أثناء قعودهم، شاعرين بذنبهم، خائفين من ربهم، فكان كل من قعودهم ونصحهم مقترنا بالآخر، كالذي يدخل أرضا مغصوبة فيصلح فيها، ويعترف بأنه مذنب بدخولها، ويأتي بالإصلاح لتكفير ذنب الاعتداء. وهذا المعنى لا يؤيده قولك : خلط العمل الصالح بالسيئ، كما تقول خلط القمح بالشعير أو الماء باللبن، لأن هذا الضرب من الخلط يصير فيه المخلوط والمخلوط به شيئا واحدا أو كالشيء الواحد، فلا يقول صاحبه عندي ماء فرات ولا لبن محض، وأما الضرب الأول المراد من الآية فقد بقي فيه كل من النوعين ممتازا بنفسه، وإنما خلطه مع الآخر عبارة عن الجمع بينهما، وعدم انفراد أحدهما دون الآخر، والواو العاطفة هي التي تؤدي هذا المعنى من الجمع، وهو من دقائق بلاغة القرآن بالعدول عن التعدية بالباء إلى العطف.
﴿ عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي هم محل الرجاء لقبول الله توبتهم، التي يشير إلى وقوعها اعترافهم بذنوبهم، وقد تقدم ( في ج ١٠ ) أن كلمة " عسى " وضعت للتقريب والإطماع، ثم استعملت في الرجاء كلعل، وقول بعضهم : إنها من الله للإيجاب غير صحيح، أو لتوفيقهم للتوبة الصحيحة التي هي سبب المغفرة والرحمة، وإنما تتحقق التوبة بالعلم الصحيح بقبح الذنب وسوء عاقبته، وألم الوجدان من تصور سخط الله والخوف من عقابه، والإقلاع عن الذنب أو الذنوب بباعث هذا الألم الذي هو ثمرة ذلك العلم، والعزم على عدم العود إلى اقترافها، ثم العمل بضدها، ليمحي من النفس أثرها، والروايات صريحة بأن اعتراف من ذكر بذنوبهم قد استتبع كل هذا.
﴿ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ تعليل لرجاء قبول توبتهم، إذ معناه أنه كثير المغفرة للتائبين واسع الرحمة للمحسنين، كما قال :﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ]، وكما قال :﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ [ الأعراف : ٥٦ ]، وكما قص علينا من خبر استغفار الملائكة للمؤمنين قولهم :﴿ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ﴾ إلى قوله ﴿ وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته ﴾ [ غافر : ٧، ٨ ].
قال بعض العلماء : إن هذه الآية أرجى آية في القرآن، وقال آخرون : أرجى الآيات قوله تعالى :﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [ الزمر : ٥٣ ]، وإنما هذا علاج لمن اشتد عليهم الخوف من إسرافهم في شهواتهم، حتى كادوا يقنطون من رحمة ربهم، لا للمصرين على ذنوبهم بغير مبالاة، ولذلك قال بعدها :﴿ وأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴾ [ الزمر : ٥٤ ] إلى آخر الآيات.
ومن العبرة في هذه الأقسام للمسلمين أن قسم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا يوجد في كل زمان ومكان، كقسم الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وأما المهاجرون والأنصار الأولون الذين أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بهم بناء الإسلام فهم الذين لا يلزّ بهم قرين، ولا يلحقهم لاحق من العالمين، ولعل أكثر المسلمين الصادقين في هذا الزمان من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ولعل أسوأ سيئاتهم ترك الجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، فيجب أن يسترشدوا بهذه الآية، وبما ورد في سبب نزولها من توبة أبي لبابة وأصحابه. ولا تتم العبرة بها إلا بتدبر ما بعدها، وهو تطهير النفس من النفاق وضعف الإيمان، ببذل الصدقات وغيره من صالح الأعمال.
وقد روى البخاري في تفسير الآية في صحيحه عن سمرة بن جندب مرفوعا " أتاني الليلة ( أي في النوم ) ملكان فابتعثاني بي إلى مدينة بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء. قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة، قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك، قالا : وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم " ١ اه.
فهذا تمثيل في الرؤيا لتحسين العمل الصالح وتجميله للنفس وتشويه العمل القبيح لها، ولتطهيرها بالتوبة والعمل الصالح حتى تكون كلها حسنة جميلة وأهلا لدار الكرامة، بعد أن تبعث في الصورة التي كانت عليها قبل التوبة. وقد قال تعالى :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ [ هود : ١١٤ ]، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس بنهر يفيض على عتبة الإنسان خمس مرات كل يوم " فهل يبقي عليها وسخا أو قذرا " ؟
أخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة أن أبا لبابة وأصحابه جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أطلقوا فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال :" ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا " فأنزل الله ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾. وأخرج مثله عنه من طريق محمد بن سعد عن آبائه وزاد : فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءا من أموالهم فتصدق بها عنهم. وله في سبب النزول روايات أخرى، وهذا النص حكمه عام وإن كان سببه خاصا، عام في الآخذ يشمل خلفاء الرسول من بعده ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وفي المأخوذ منهم وهم المسلمون الموسرون. قال العماد ابن كثير : وهذا عام وإن عاد الضمير في ( أموالهم ) إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون، وإنما كان هذا خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بقوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾.
وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد أبو بكر الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال الصديق : والله لو منعوني عناقا وفي رواية عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه اه. وهذا مشهور في الصحاح والسنن والسير ومجمع عليه، وهاك معنى الآية :
﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ أي خذ أيها الرسول من أموال من ذكر، ومن سائر أموال المؤمنين على اختلاف أنواعها، ومنها مال التجارة صدقة معينة -كالزكاة المفروضة- أو غير معينة -وهي التطوع فالصدقة ما ينفقه المؤمن قربة لله كما تقدم في نفقة مؤمني الأعراب.
﴿ تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ أي تطهرهم بها من دنس البخل والطمع والدناءة والقسوة على الفقراء البائسين وما يتصل بذلك من الرذائل، وتزكي أنفسهم بها أي تنميها وترفعها بالخيرات والبركات الخلقية والعملية، حتى تكون بها أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية. فالمطهر هنا الرسول والمطهر به الصدقة. والتزكية صيغة مبالغة من الزكاة وهو نماء الزرع ونحوه، قال في مجاز الأساس : رجل زكي زائد الخير والفضل بيّن الزكاء والزكاة ( وحنانا من لدنا وزكاة ) اه.
والتزكية للأنفس بالفعل تسند إلى الله تعالى، لأنه هو الخالق المقدر الموفق للعبد لفعل ما تزكو به نفسه وتصلح، قال تعالى :﴿ ولَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء ﴾ [ النور : ٢٠ ]، وتسند إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه هو المربي للمؤمنين على ما تزكو به أنفسهم ويعلو قدرها بسنته العلمية والقولية في بيان كتاب الله، وما لهم فيه من الأسوة الحسنة، ومنه هذه الآية، وقال تعالى :﴿ هُو الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ ﴾ [ الجمعة : ٢ ]، فتزكيته صلى الله عليه وسلم للأمة من مقاصد البعثة وتسند إلى العبد لكونه هو الفاعل لما جعله الله سببا لطهارة نفسه وزكائها كالصدقات وغيرها من أعمل البر، ومنه قوله تعالى :﴿ قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ﴾ [ الشمس : ٩، ١٠ ]، وقوله :﴿ قد أفلح من تزكى* وذكر اسم ربه فصلى ﴾ [ الأعلى : ١٤، ١٥ ]، وأما قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ﴾ [ النساء : ٤٨ ]، وقوله :﴿ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ﴾ [ الطور : ٣٢ ]، فهو في زكاة النفس بدعوى اللسان، فالتزكية تطلق على الفعل المزكي وهو الأصل، وعلى القول الدال عليه ومنه تزكية الشهود.
﴿ وصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص ( صلاتك ) بالمفرد أي جنسها، والباقون ( صلواتك ) بالجمع، وباعتبار جماعة المتصدقين. والصلاة اسم من صلى يصلي تصلية وقد هجر لفظ التصلية في الإسلام ومنه :
تركت الدنان وعزف القيان وأدمنت تصلية وابتهالا١
ومعناها الأصلي الدعاء وهو المراد من الآية، وسميت العبادة الإسلامية المخصوصة صلاة من تسمية الشيء بأهم أجزائه، فإن الدعاء مخ العبادة وروحها. وقيل في التعليل غير ذلك. والصلاة من الله على عباده الرحمة والحنان، ومن ملائكته الدعاء والاستغفار، قال تعالى :﴿ هُو الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ومَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [ الأحزاب : ٤٣ ]، ثم قال :﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ﴾ [ الأحزاب : ٥٥ ]، وصلاتنا على نبينا صلى الله عليه وسلم دعاؤنا له بما أمرنا به في الصلاة بعد التشهد الأخير وما في معناه، كقولنا في دعاء الأذان المأثور " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته " ٢، رواه الجماعة إلا مسلما. والسكن ما تسكن إليه النفس وترتاح من أهل ومال ومتاع ودعاء وثناء.
والمعنى ادع أيها الرسول للمتصدقين واستغفر لهم عاطفا عليهم إن دعاءك واستغفارك سكن لهم يذهب به اضطراب أنفسهم إذا أذنبوا، وتطمئن قلوبهم بأن تقبل توبتهم إذا تابوا، ويرتاحون إلى قبول الله صدقاتهم بأخذك لها، ووضعك إياها في مواضعها.
﴿ واللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي سميع لدعائك سماع قبول وإجابة، عليم بما فيه من الخير والمصلحة، فالمراد من السماع والعلم لازمهما. وسميع لاعترافهم بذنوبهم، عليم بندمهم وتوبتهم منها، وبإخلاصهم في صدقتهم وطيب أنفسهم بها، فهو الذي يثيبهم عليها.
فجملة ( إن صلاتك ) تعليل للأمر بالدعاء، وتذييلها بالتذكير بسمع الله وعلمه إشعار بقبول الدعاء وقبول الطاعات والجزاء عليها، وتصرح به الآية التالية.
روى الشيخان من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال :" اللهم صل على فلان "، فأتاه أبي بصدقته فقال :" اللهم صل على آل أبي أوفى " ٣، فقوله : بصدقته، صريح في أن المراد بها زكاة الفريضة. وهو يدل على أن المراد بالآية صدقة الفريضة أو ما يعم الفريضة وغيره، وعلى أنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على هذا الدعاء، ولذلك قيل : إن الأمر في الآية للوجوب وهو خاص به صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الظاهرية بوجوب الدعاء على آخذي الزكاة من الأئمة أيضا، والجمهور على أنه مستحب لهم. وقد بوب البخاري للحديث بقوله :( باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة )، وقوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ إلى قوله ﴿ سكن لهم ﴾. والجمهور على أن الدعاء بلفظ الصلاة خاص بدعائه صلى الله عليه وسلم لغيره وبدعاء المسلمين له، وقيد الأول بعض العلماء بما عدا هذا اللفظ الذي كان يدعو به للمتصدقين " اللهم صل على فلان " عند إعطاء الصدقة. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بغيره أيضا، فقد روى النسائي من حديث وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم قال في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة :" اللهم بارك فيه وفي إبله "، وقال الشافعي : السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق، ويقول : آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت.
والأفضل الجمع بين الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وأكثر المسلمين يخص بالسلام الأنبياء والملائكة، وكذا جماعة آل بيته صلى الله عليه وسلم، والشيعة يلتزمون السلام على السيدة فاطمة وبعلها وولديهما والأئمة المشهورين من ذرية السبطين، ويوافقهم كثير من أهل السنة وغيرهم في الزهراء والسبطين ووالدهما سلام الله ورضوانه عليهم إذا ذكروا جماعة أو أفرادا، وأما الصلاة والسلام على الآل بالتبع للرسول صلى الله عليه وسلم فهو مجمع عليه، ومنه صلاة التشهد، وكذا عطف الصحابة والتابعين على الآل ذائع في الكتب والخطب والأقوال.
فصل في فوائد الزكاة المفروضة والصدقات
والإصلاح المالي للبشر، وامتياز الإسلام بذلك على جميع الأديان
ما ذكر الله تعالى من تطهير الصدقة للمؤمنين وتزكيتهم بها يشمل أفرادهم وجماعتهم فيه تطهر أنفس الأفراد من أرجاس البخل والدناءة والقسوة والأثرة والطمع والجشع، ومن أكل أموال الناس بالباطل من خيانة وسرقة وغصب وربا وغير ذلك، فإن الذي يتربى بالإيمان على بذل بعض ما في يده أو ما أودعه في خزانته وصندوقه في سبيل الله ابتغاء مرضاته ومغفرة ذنوبه ورفع درجاته جدير بأن ينزه نفسه عن أخذ مال غيره بغير حق. وهذا التطهير لأنفس الأفراد وتزكيتها بالعلم والعرفان، والتقوى التي هي مجموع ثمرات الإيمان، يستلزم تطهير جماعة المؤمنين ( وما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالهيئة الاجتماعية ) من أرجاس الرذائل الاجتماعية التي هي مثار التحاسد والتعادي والبغي والعدوان والفتن والحروب.
ذلك بأن الأموال قوام حياة الناس وقطب الرحى لمعايشهم ومرافقهم العامة والخاصة، وهم متفاوتون في الاستعداد للكسب والتثمير، والإسراف والتقتير، والقصد والتدبير، والجحود والبخل، والتعاون على البر، فلا ينفك بعضهم محتاجا إلى بعض في كسب الرزق وفي إنفاقه، وأشدهم استعدادا لجمع الثروة الذين يغلب على طباعهم الحرص والبخل حتى على أنفسهم وأولي قرباهم، وبهذا يكون بعضهم فتنة أي امتحانا لبعض ومثارا للتنازع والتخاصم كما قال تعالى :﴿ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ﴾ ؟ [ الفرقان : ٢٠ ]، أي ذلك مقتضى سنته في تفاوت البشر في الاستعداد والأخلاق والأعمال. وقد بينا حكمة ذلك من قبل.
ولما كان الدين مرشدا للبشر إلى تزكية أنفسهم وتقويم أخلاقهم بما تصلح به فطرتهم، ويرتقي به أفرادهم وجماعتهم شرع الله فيه من الأحكام التعبدية والعملية ما يقيهم شر هذه الفتنة، وينقذهم مما يترتب على إهمالها من المحنة، فأوجب على أصحاب الأموال من النفقات والصدقات ما يبدل سيئات الثروة في الإسلام حسنات، وإننا لم نجد في كتب التفسير ولا كتب الفقه ولا دواوين التاريخ الإسلامي بيانا علميا لحكمة الشريعة في السياسة المالية وما انفردت به من الإصلاح المعقول فيها، وكنت عازما على شرح ذلك في تفسير هذه الآية فلما وصلت إليه وفكرت في أصول هذه المسألة وفروعها تبين لي أنه لا يمكن تفصيل القول فيها إلا بتأليف سفر مستقل، ورأيت أن أكتفي هنا بإيراد أهم الحقائق التي تشير إلى عظم شأن هذه المسألة وإصلاح الإسلام فيها فأقول :
إن اتساع دوائر العلوم والفنون والمصالح العامة في هذا العصر قد اضطر الباحثين إلى انفراد بعض الأفراد والجماعات للأخصاء في كل فرع من فروعها لتمحيص مسائلها والإحاطة بها بقدر الإمكان، حتى إن الرجال الماليين لا يستحقون هذا اللقب فيه ( أي لقب المالي ) إلا بعد إتقان عدة علوم منها، والتمرن بالعمل في بعض فروعها، وإننا نرى بعض الاجتماعيين منهم يجزمون بأن جميع الثورات والحروب السياسية والدينية ذات الشأن في تاريخ البشر قد كان المال سببها الصحيح، أو أحد الأسباب المؤثرة فيها أشد التأثير، ولم يستثنوا من ذلك حروب أوروبا الدينية ولا
٢ أخرجه البخاري في الأذان باب ٨، وتفسير سورة ١٧، باب ١١، وأبو داود في الصلاة باب ٣٧، والترمذي في الصلاة باب ٤٣، والنسائي في الأذان باب ٣٨، وابن ماجه في الأذان باب٤..
٣ أخرجه البخاري في الدعوات باب ٣٢، وأبو داود في الزكاة باب ٧، والنسائي في الزكاة باب ١٣، وابن ماجه في الزكاة باب ٨، وأحمد في المسند ٤/٣٥٣ ـ ٣٥٥، ٣٨١، ٣٧٣..
﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ﴾ أي ألم يعلم أولئك التائبون من ذنبهم أن الله هو الذي يقبل توبة التائبين من عباده، ولم يجعل ذلك لرسوله، بَلْه من دونه من خلقه، فالاستفهام لتقرير ما دل عليه القرآن وكونه هو الذي حملهم على التوبة، أو ألم يعلم المؤمنون كافة هذا وهو مقتضى الإيمان وموجبه ؟ والاستفهام على هذا تحضيض على العلم وما يستلزمه من التوبة. وقبول التوبة عنهم، قيل : إنه بمعنى قبولها منهم، نحو : لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى، وقيل : إن القبول هنا قد تضمن معنى التجاوز والصفح، أي هو الذي يقبلها منهم متجاوزا عن ذنوبهم عفوا عنها، وهذا أبلغ.
﴿ ويأخذ الصدقات ﴾ أي يتقبلها بأنواعها ويثيب عليها، ويعده إقراضا له فيضاعف ثوابها، بمقتضى وعده في مثل قوله :﴿ إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ [ التغابن : ١٧ ] وقوله :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ﴾ [ البقرة : ٢٣٥ ]، فأخذ الصدقات له ثلاث صور :
إحداها : أخذ الفقراء والمساكين وغيرهم إياها من المستحقين من يد المتصدق.
الثانية : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في عهده والأئمة من بعده إياها لأجل وضعها في مصارفها التي أمر الله بها.
الثالثة : أخذ الله عز وجل إياها، وهو قبولها للإثابة عليها بالمضاعفة التي وعدها.
وفي التعبير بأخذ الله تعالى بعد قوله للنبي ﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم بكونه تعالى هو الذي يأخذ ما أمره بأخذه.
﴿ وأن الله هو التواب الرحيم ﴾ أي وأنه هو الذي يقبل التوبة بعد التوبة من كل مذنب يشعر بضرر ذنبه، ويتوب عنه منيبا إلى ربه، مهما يتكرر ذلك، الرحيم بالتائبين الذي يثيبهم. فصيغة المبالغة ( التواب ) تتحقق بكثرة التائبين وبتكرار التوبة من المذنب الواحد الذي يمنعه الخوف من ربه، أن يصر على ذنبه، كما قال تعالى في وصف المتقين ﴿ والَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ومَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ولَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٥ ]، وفي الحديث " ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " ١. روى الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا :" ما تصدق أحدكم من كسب حلال طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله " ٢، والحديث تمثيل لمضاعفته تعالى للصدقة المقبولة.
وهذه الجملة الاسمية المؤكدة بأن وبضمير الفصل الدالة على الحصر، وما فيها من صيغة المبالغة بمعنى الكثرة من التوبة، ومبالغة الصفة الراسخة من الرحمة تفيد أعظم البشرى للتائبين، وأبلغ الترغيب في التوبة للمذنبين، كما لا يخفى على المتدبرين.
٢ أخرجه البخاري في الزكاة باب ٨، والتوحيد باب ٢٣، ومسلم في الزكاة حديث ٦٣، ٦٤..
﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾ هذا عطف على قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ الخ أي وقل لهم أيها الرسول اعملوا لدنياكم وآخرتكم ولأنفسكم وأمتكم " حذف متعلق العمل يدل على العموم، وقدره بعضهم اعملوا ما شئتم "، فإنما العبرة بالعمل لا بالاعتذار عن التقصير، ولا بدعوى الجد والتشمير، وخير الدنيا والآخرة منوطان بالعمل، وهو لا يخفى على الله ولا على الناس أيضا، فسيرى الله عملكم خيرا كان أو شرا، فيجب عليكم أن تراقبوه تعالى في أعمالكم، وتتذكروا أنه ناظر إليكم، عليم بمقاصدكم ونياتكم، لا تخفى عليه منكم خافية، وجدير بمن يؤمن برؤية الله ليعمله أن يتقنه، وأن يخلص له النية فيه، فيقف فيه عند حدود شرعه، ويتحرى به تزكية نفسه والخير لخلقه، ولا يكتفي فيه بترك معاصيه واجتناب مناهيه.
راود رجل امرأة عن نفسها في فلاة قائلا : إنه لا يرانا هنا إلا الكواكب، قالت : فأين مكوكبها ؟ فخجل وانصرف.
وسيراه رسوله والمؤمنون، ويزيونه بميزان الإيمان، المميز بين الإخلاص والنفاق، وهم شهداء الله على الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي :" لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان " ١ وقال زهير :
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم٢
فإذا كانت الخلائق النفسية والأعمال السرية لا تخفى على الناس مهما يكن من محاولة صاحبها لإخفائها، فماذا يقال في الأعمال التي هي مقتضى العقائد والأخلاق، وما انطبعت عليه النفس من الملكات، ومرنت عليه من العادات ؟ نرى المؤمنين الصادقين يخفون بعض أعمال البر التي يستحب إخفاؤها كالصدقة على الفقير المتعفف سترا عليه، ومبالغة في الإخلاص لله تعالى الذي ينافيه الرياء وحب السمعة، ولكنهم لا يلبثون أن يشتهروا بها، ونرى بعض المنافقين يخفون بعض أعمال النفاق خوفا من الناس لا من الله، ولكنهم لا يلبثون أن يفتضحوا بها. ومن أمثال العوام : إن الذي يختفي هو الذي لا يقع.
والآية تهدينا إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان، المقررة صفاتهم في القرآن، تلي مرضاة الله ورسوله، وأنهم لا يجتمعون على ضلالة. وفي معناه حديث أنس في الصحيحين قال : مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" وجبت "، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال :" وجبت "، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما وجبت ؟ قال :" هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض " ٣، وفي لفظ مسلم تكرار " وجبت " ثلاث مرات في الموضعين، وكذا تكرار " أنتم شهداء الله في الأرض ".
وفي معناه حديث ابن عمر مرفوعا :" إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار " ٤، أخرجه الترمذي من طريق سليمان المديني، وقال : هذا حديث غريب من هذا الوجه، وسليمان المديني عندي هو سليمان بن سفيان اه. أقول : وهو ضعيف منكر الحديث باتفاقهم، ويعزى الحديث إلى الطبراني بلفظ " لا تجتمع أمتي على ضلالة "، والعلماء يستدلون به على حجية الإجماع لصحة معناه بموافقته للآيات والصحاح من الأخبار، وإنما يدل على إجماع الأمة، أمة الإجابة وأهل الاستقامة، لا على الإجماع المصطلح عليه عند الأصولين.
وفي معناه قول ابن عباس :" ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " ٥، رواه عنه أحمد في السنة لا في المسند، ومن الناس من يظن أنه حديث مرفوع، ويستدل به الجهال حتى من المعممين أدعياء العلم على استحسان البدع الفاشية حتى في العقائد الثابتة، كبدع القبور التي كان يلعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعليها في مرض موته، من بناء المساجد عليها، والصلاة إليها، وإيقاد السرج والمصابيح عندها، بل ما هو شر من ذلك وهو عبادتها بالطواف حولها، ودعاء أصحابها، والنذر لهم، والاستغاثة بهم، حتى في الشدائد، وهو ما لم يكن يفعله عباد الأصنام في مثل هذه الحال، بل كانوا فيه يخلصون الدعاء لله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
بعد هذا الإرشاد إلى ما يقتضي الإحسان في الأعمال من مراقبة الله وتحري مرضاته ومرضاة رسوله وجماعة المؤمنين والخير لعباده بها، ذكرهم تعالى بما يقتضي ذلك من جزاء الآخرة عليها، فقال :﴿ وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ﴾ بالبعث بعد الموت.
﴿ فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ في الدنيا مما كان مشهودا للناس منه، وما كان غائبا عن علمهم منه ومن نياتكم فيه، ينبئكم به عند الحساب، وما يترتب عليه من الجزاء بحسن الثواب، أو سوء العذاب.
٢ البيت من الطويل، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٣٢، والجني الداني ص ٦١٢، والدرر ٤/١٨٤، ٥/٨٢، وشرح شواهد المغني ص ٧٤٣، ٧٣٨، ٣٨٦، وشرح قطر الندى ص ٣٧، ومغني اللبيب ص ٣٣٠، بلا نسبة في شرح الأشموني ٣/٥٧٩، ومغنى اللبيب ص ٣١٣، وهمع الهوامع ٢/٣٥، ٥٨..
٣ أخرجه البخاري في الجنائز باب ٨٦، والشهادات باب ٦، ومسلم في الجنائز حديث ٦٠..
٤ أخرجه الترمذي في الفتن باب ٧..
٥ أخرجه أحمد في المسند ١/٣٧٩..
هذه الآية عطف على قوله تعالى :﴿ وآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً ﴾، وهؤلاء هم القسم الأخير من المتخلفين عن غزوة تبوك. فقد علم مما تقدم أن المتخلفين منهم المنافقون وهم أكثرهم- وقد تقدم بيان أقسامهم ومن اعتذر ومن لم يعتذر منهم- ومنهم المؤمنون، وهم قسمان : أحدهما : الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا وزكوا توبتهم بالصدقة وطلب دعاء الرسول واستغفاره فتاب الله عليهم. وثانيهما : الذين حاروا في أمرهم ولم يعتذروا للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم لا عذر لهم، وأرجأوا توبتهم، فأرجأ الله الحكم القطعي في أمرهم للحكمة التي يأتي بيانها قريبا. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وغيرهم : هم الثلاثة الذين خلفوا، أي عن التوبة، وهم مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحظ وطيب الثمار والظلال لا شكا ونفاقا، فكانت طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورين، فنزلت توبة أولئك قبل توبة هؤلاء، وأرجئ هؤلاء عن التوبة حتى نزلت آيتا التوبة الآتيتين ( ١١٧ و ١١٨ ).
﴿ وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ ﴾ أي وثم أناس آخرون من المتخلفين مؤخرون لحكم الله في أمرهم، أو لأمره لرسوله بما يعاملهم به.
قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( مرجون ) بحذف الهمزة للتخفيف، والآخرون ( مرجؤن ) بالهمزة على الأصل، فهو اسم مفعول من أرجأه إذا أخره، وقيل هما لغتان. رجاه يرجوه وأرجأه يرجئه.
وروي أن هذا الإرجاء كان ٥٠ يوما.
﴿ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ أي أبهم الأمر عليهم وعلى الناس، لا يدرون ما ينزل فيهم، هل تنصح توبتهم فيتوب الله عليهم كما تاب على الذين اعترفوا بذنوبهم، أم يحكم بعذابهم في الدنيا والآخرة كما حكم على الخالفين من المنافقين ؟ فالترديد بين الأمرين هو بالنسبة إلى الناس لا إلى الله عز وجل، وحكمة إبهام أمر هؤلاء عليهم إثارة الهم والخوف في قلوبهم لتصح توبتهم، وحكمة إبهامه على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين تركهم مكالمتهم ومخالطتهم، تربية للفريقين على ما يجب في أمثالهم من الذين يؤثرون الراحة ونعمة العيش على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله لإعلاء كلمة الحق والعدل، ودفع عدوان الكفار عن المؤمنين، حتى ما كان من أمرهم ما بينه في الآية ١١٨.
﴿ واللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ عليم بحال عباده، ويربيهم ويزكيهم ويصلح حال أفرادهم ومجموعهم، حكيم فيما يشرعه لهم من الأحكام المفيدة لهذا الصلاح ما عملوا بها. ومن آثار علمه وحكمته إرجاء النص على توبتهم في كتابه، ومن هذه الحكمة تكرار تأثير تلاوة المؤمنين للآيات في ذلك في الأوقات المتفرقة، فإنها من أعظم آيات القرآن ترهيبا وتخويفا، وعظة وتهذيبا.
روي أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته بأن يأذن لمجمع فيؤمهم في مسجدهم، فقال : لا ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار ؟ فقال : يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ، فوالله لقد صليت بهم، والله يعلم أني لا أعلم ما أضمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرءون من القرآن شيئا، فعذره وصدقه وأمره بالصلاة بقومه.
قال تعالى :
﴿ والَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وكُفْراً وتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ ورَسُولَهُ مِن قَبْلُ ﴾ يحتمل أن تكون هذه الجملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها من السياق في جملته حذف خبرها للعلم به، ويبعد أن تكون معطوفة على قوله :﴿ وآخرون مرجون ﴾ إلا على قول ضعيف روي عن الحسن، وهو أنه في المنافقين، والأفصح أن يكون لفظ " الذين " منصوبا على الاختصاص بالذم، وجعله محتملا لما ذكر ولغيره نراه من الإبهام الذي تقتضيه البلاغة في هذا المقام، لما أشرنا إليه آنفا من الإبهام، وقد قرر علماء البيان أن البلاغة تقتضي أحيانا إيراد عبارة تذهب النفس في فهمها عدة مذاهب محتملة فيها. وقرأ نافع وابن عامر " الذين " بغير واو. وهي أقرب إلى قول الحسن منها إلى قول الجمهور، وما أشرنا إليه من حكمة وضع الآيات هنا أظهر في هذه القراءة منه في قراءة جمهور القراء " فتأمل ".
ذكر المفسرون أن هؤلاء الذين اتخذوا هذا المسجد كانوا اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج وسموهم بأسمائهم، وقد بين الله تعالى أن الأغراض التي بنوه لأجلها أربعة ذكرت منصوبة على المفعول لأجله وهي :
١ أنهم اتخذوه لمضارة المؤمنين، أي محاولة إيقاع الضرر بهم، وهم أهل مسجد قباء " الذين بناه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه من مكة مهاجرا، وقبل وصوله إلى المدينة "، إذ بنوه بجواره مضادة لهم في الاجتماع للصلاة فيه.
٢ الكفر أو تقوية الكفر، وتسهيل أعماله من فعل وترك، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هنالك مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد، والتشاور بينهم في الكيد لرسول الله وغير ذلك، قيل : لا بد هنا من تقدير مضاف ؛ لأن بناء المسجد نفسه ليس كفرا، ولكن التعليلات الأربعة في الآية هي للقصد من البناء المعبر عنه بالاتخاذ، والكفر يطلق على الاعتقاد وعلى العمل المنافيين للإيمان.
٣ التفريق بين المؤمنين الذين هنالك، فإنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء، وفي ذلك من مقاصد الإسلام الاجتماعية ما فيه، وهو التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة، ولذلك كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافيا لمقاصد الإسلام، ومن الواجب على المسلمين في كل بلد أن يصلوا الجمعة في مسجد واحد إذا تيسر، فإن تفرقوا عمدا وصلوا في عدة مساجد والحالة هذه كانوا خاطئين، وذهب بعض الأئمة إلى أن الجمعة الصحيحة تكون حينئذ لأهل المسجد الذين سبقوا بالتجميع، وهذا يدل على أن بناء المساجد لا يكون قربة مقبولة عند الله إلا إذا كان بقدر حاجة المؤمنين المصلين، وغير سبب لتفريق جماعتهم، ومنه يعلم أن كثيرا من مساجد مصر القريب بعضها من بعض وكذا أمثالها في الأمصار الأخرى لم تبن لوجه الله تعالى، بل كان الباعث على بنائها الرياء، واتباع الأهواء، من جهلة الأمراء والأغنياء.
٤ الإرصاد لمن حارب الله ورسوله من قبل اتخاذ هذا المسجد، أي الانتظار والترقب لمن حارب الله ورسوله أن يجيء محاربا، فيجد مكانا مرصدا له، وقوما راصدين مستعدين للحرب معه، وهم هؤلاء المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصدا لذلك. يقال : رصدته أي قعدت له على طريقه أترقبه، وراصدته راقبته، وأرصدت هذا الجيش للقتال، وهذا الفرس للطراد اه ملخصا من الأساس، واتفق المفسرون على أن الذي أغراهم ببناء هذا المسجد لهذا الغرض رجل من الخزرج يعرف بأبي عامر الراهب، وعدهم بأن سيأتيهم بجيش من الروم لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
﴿ ولَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى ﴾ إخبار مؤكد بالقسم أنهم سيحلفون : إنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخصلة أو الخطة التي تفوق غيرها في الحسن، وهي الرفق بالمسلمين وتيسير صلاة الجماعة على أولي العجز والضعف ومن يحبسهم المطر منهم، ليصدقهم الرسول صلى الله عليه وسلم ويصلي لهم فيه.
﴿ واللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ في قولهم، حانثون بيمينهم.
قال العماد ابن كثير : سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها، وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش، فألبهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله عز وجل، وكانت العاقبة للمتقين، وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه، فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا، فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أُحد، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه، وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك. فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه، فقال :" إنا على سفر ؛ ولكن إذا رجعنا إن شاء الله "، فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم " مسجد قباء " الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية، وذكر روايته بمعنى ما ذكر مختصرة اه.
وذكر البغوي في خبر أبي عامر الفاسق هذا أنه ما زال يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه المشركين إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدا لأني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم الخ ما تقدم آنفا.
﴿ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ﴾ هذا نهي للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالتبع له عن الصلاة فيه مؤكد بلفظ الأبد الذي يستغرق الزمن المستقبل، وتفسير القيام بالصلاة هنا مروي عن ابن عباس وهو معهود في التنزيل كقوله :﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ] وقوله :﴿ قم الليل إلا قليلا ﴾ [ المزمل : ٢ ]، والنهي عن القيام المطلق يتضمن النهي عن القيام للصلاة، ولكنها هي المقصودة بالنهي لطلبهم لها به صلى الله عليه وسلم.
﴿ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَولِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ﴾ اللام الداخلة على المسجد للقسم أو للابتداء. والتأسيس وضع الأساس الأول للبناء الذي يقوم عليه ويرفع، والمراد منه هنا القصد والغرض من البناء، والتقوى الاسم الجامع لما يرضي الله ويقي من سخطه، أي أن مسجدا قصد ببنائه منذ وضع أساسه في أول يوم تقوى الله تعالى بإخلاص العبادة له، وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى، هو أحق أن تقوم فيه أيها الرسول مصليا بالمؤمنين من غيره، ولاسيما ذلك المسجد الذي وضع أساسه على المقاصد الأربعة الخبيثة، والسياق يدل على أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم مسجد قباء، وقد صح في أحاديث رواها الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنه فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة، ففي رواية مسلم عن أبي سعيد أنه لما سأله أخذ صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال :" هو مسجدكم هذا " ١، وفي رواية لأحمد عنه وعن سهل بن سعد " هو مسجدي هذا " ٢، ولفظ الآية لا يمنع من إرادة كل من المسجدين، لأن كلا منهما قد بناه النبي صلى الله عليه وسلم ووضع أساسه على التقوى من أو يوم شرع فيه ببنائه، أو من أول يوم وجد في موضعه ( والتحقيق أن " من " تدخل على الزمان والمكان ).
﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾ هذه جملة وصف بها المسجد الذي أسس على التقوى تؤكد ترجيح القيام مع أهله المطهرين في مقابل أهل مسجد الضرار وهم رجس، والمعنى : فيه رجال يعمرونه بالاعتكاف وإقامة الصلاة، وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال، يحبون أن يتطهروا بذلك من كل ما يعلق بأنفسهم من درن الآثام، أو التقصير في إقامة دعائم الإسلام، كما تطهر المتخلفون منهم عن غزوة تبوك بالتوبة والصدقات، ومن لوازم عمارته المعنوية والعكوف فيه طهارة الثوب والبدن الحسية، وطهارة الوضوء والغسل الحكمية، فالتطهر صيغة مبالغة تشمل الطهارتين النفسية والبدنية، ووردت الروايات بكل منهما، ولكل من الاستعمالين موضع من التنزيل، والجمع بينهما هو الأولى.
﴿ واللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ أي المبالغين في الطهارة الروحية والجسدية، وإنما يبالغون فيها إذا أحبوها، وحينئذ تكمل إنسانيتهم المؤلفة من الروح والجسد. ولا يطيق نجاسة البدن وقذارته إلا ناقص الفطرة والأدب، وأنقص منه من يطيق خبث النفس بالإصرار على المعاصي والعادات القبيحة، والتخلق بالأخلاق الذميمة. دع رجس المنافقين المرائين في الأعمال، الأشحة الباخلين بالأموال. وأما حب الله المستحقين لحبه، فهو من صفات كماله، لأن العالم بتفاوت الأشياء في الحسن والقبح، والكمال والنقص، يكون من أفضل صفاته حب الجمال والكمال والحق والخير، وبغض أضدادها وكراهتها، وحبه اللائق بربوبيته منزه عن مشابهة حبنا، كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا، ولكن يظهر أثره في المحبوبين من عباده في أخلاقهم وأعمالهم، ومعارفهم وآدابهم، وأعلاه ما أشار إليه حديث البخاري القدسي :" ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به " ٣ الخ.
وقد قال الله تعالى معللا ما وعظ به نساء نبيه صلى الله عليه وسلم من أمره ونهيه لهن بما يليق بمكانتهن من رسوله ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ].
وقد فسر بعض المفسرين محبته تعالى للمطهرين برضاه عنهم وإحسانه إليهم، وهو تأويل فسر به اللفظ ببعض لوازمه، فإن كان هربا من نظرية من قال من المتكلمين : إن اتصاف الله تعالى بالحب محال ؛ لأنه انفعال نفسي يستحيل على ذي الجلال، فيجب تفسيره بلازمه المذكور كما قال بعضهم في الرحمة وغيرها من الصفات، فهو هروب من مذهب السلف الحق، ووقوع فيما فروا منه بالتأويل، وهو تشبيه الله بخلقه. إذ يقال لهم : إن الرضا عاطفة نفسية كالحب، والإحسان عمل بدني كبسط اليد بالبذل، وهما يسندان إلى الناس فلا يصح أن يوصف بهما الخالق عز وجل ؛ لأنه تشبيه له بالخلق، كذا العلم والقدرة والمشيئة والكلام، وغيرهما من صفات الذات، فإن كلا منها وضعت في اللغات، لمعانيها المعروفة في المخلوقات، ككون العلم صور المعلومات المنتزعة منها في الذهن، وهو بهذا المعنى محال على الله عز وجل. وإذا كان الأمر كذلك فالحق أن يوصف تعالى بما وصف به نفسه على ظاهره بقيوده الثلاثة التي قررها السلف الصالح : أي بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل. فعلمه تعالى انكشاف يليق به، وحبه معنى نفسي يليق به الخ.
ذكر السيوطي في الدر المنثور عدة روايات حاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء عن سبب ثناء الله تعالى عليهم بهذه الآية، فأجابوه بأنهم يستنجون بالماء، وفي بعضها أنهم يتبعون الحجارة بالماء، وذكر أن ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وغيرهم رووا عن طلحة بن نافع قال : حدثني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك رضي الله عنه أن هذه الآية لما نزلت ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا ؟ " قالوا : نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة. قال :" فهل مع ذلك غيره ؟ قالوا : إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء قال :" هو ذاك فعليكموه ". ٤
أقول طلحة بن نافع هذا ثقة روى عنه الجماعة كلهم، ولكن رواية البخاري عنه مقرونة بغيره، وهي أربعة أحاديث رواها عن جابر. ولعله اقتصر عليها، لقول شيخه علي بن المديني : إنه لم يرو عن جابر غيرها، أي لم يصح عنده غيرها. وقال أبو حاتم : إنه لم يسمع من أبي أيوب، ولكنه هنا صرح بالسماع منه فيما رواه من ذكر وغيرهم.
وحديثه هذا على كل حال أقوى من أحاديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أهل مسجد قباء وجعله الثناء عليهم، وهو في سؤال الأنصار، والمسئولون منهم كلهم من سكان المدينة، وتؤيده الأحاديث الصحيحة الناطقة بأن المسجد الذي أثنى الله عليه وعلى أهله هو مسجده فيها. وقد قلنا : إنه لا مانع من إرادة كل منهما، وهو أولى من القول بتعارضهما، كما أن الروايات فيهما لا تنافي إرادة نوعي الطهارة كليهما، ويؤيد إرادة الطهارة المعنوية قوله تعالى :﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوى مِنَ اللّهِ ورِضْوانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾
٢ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٩، باب ١٤، والنسائي في المساجد باب ٨، وأحمد في المسند ٣/٨، ٥/١١٦، ٣٣١، ٣٣٥..
٣ أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣٨، وأحمد في المسند ٦/٢٥٦..
٤ أخرجه بن ماجة في الطهارة باب ٢٨، وأحمد في المسند ٣/٤٢٢، ٦/٦..
﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوى مِنَ اللّهِ ورِضْوانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ هذا بيان مستأنف للفرق بين أهل المسجدين في مقاصدهما منهما : أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسا إلى رجسهم، وأهل مسجد التقوى وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأنصاره الذين يحبون أكمل الطهارة لظاهرهم وباطنهم، فاستفادوا بذلك محبة الله لهم، وورد بصيغة استفهام التقرير، لما فيه من تنبيه الشعور وقوة التأثير، والبنيان مصدر كالعمران والغفران، ويراد به المبني من دار أو مسجد وهو المتعين هنا. وتقدم آنفا معنى التأسيس، والشفا ( بالفتح والقصر ) الحرف، والشفير للجرف والنهر وغيره. والجرف ( بضمتين ) جانب الوادي ونحوه الذي يتحفر أصله بما يجرفه السيل منه فيجتاح أسفله فيصير مائلا للسقوط، والهار الضعيف المتصدع المتداعي للسقوط، وهذا التعبير يضرب مثلا لما كان في منتهى الضعف والإشراف على الزوال، وهو من أبلغ الأمثال، لمنتهى الوهي والانحلال.
المراد بالمثل هنا بيان ثبات الحق الذي هو دين الإسلام وقوته ودوامه، وسعادة أهله به، وذكره بأثره وثمرته في عمل أهله وجماعها التقوى، وبجزائهم عليه وأعلاه رضوان الله تعالى، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله، ووهيه وقرب زواله، وخيبة صاحبه وسرعة انقطاع آماله، وشر أهله المنافقين، وشر أعمالهم ما اتخذوه من مسجد الضرار للمفاسد الأربعة المبينة في الآية الأولى من هذا السياق.
وقد ذكر في وصف بنيان الفريق الأول -وهم المؤمنون- المشبه دون المشبه به لأنه المقصود بالذات، ولم يذكر فيما قبله من عملهم إلا المبالغة في الطهارة. وذكر من وصف بنيان الفريق الثاني الهيئة المشبه بها دون المشبه، لأنه ذكر فيما قبل مقاصدهم منها كلها، وهذا من دقائق إيجاز القرآن.
نقول في المعنى الجامع بين المشبه به في الفريقين : أفمن أسس بنيانه الذي يتخذه مأوى وموئلا له، يقيه من فواعل الجو وعدوان كل حي، وموطنا لراحته، وهناء معيشته، على أمتن أساس وأثبته، وأقواه على مصابرة العواصف والسيول، وصد الهوام والوحوش هو خير بنيانا وراحة وأمانا ؟ أم من أسس بنيانه على أوهى القواعد وأقلها بقاء واستمساكا، فهي عرضة للانهيار، في كل لحظة من ليل أو نهار ؟
وأما معنى المشبه المقصود بالذات في كل منهما فيصور هكذا : أفمن كان مؤمنا صادقا يتقي الله في جميع أحواله، ويبتغي رضوانه في أعماله، بتزكية نفسه بها ونفع عياله، - والخلق كلهم عيال الله كما ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفمن كان كذلك خير عملا، وأفضل عاقبة وأملا، وممن نزل فيهم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ﴾ [ الكهف : ١٠٧ ]، أم من هو منافق مرتاب، مراء كذاب، يبتغي بأفضل مظاهر أعماله الضرر والضرار، وتقوية أعمال الكفر وموالاة الكفار، وتفريق جماعة المؤمنين الأخيار، والإرصاد لمساعدة من حارب الله ورسوله من الأشرار، وما يكون من عاقبة ذلك في الدنيا من الفضيحة والعار، والخزي والبوار، وفي الآخرة من الانهيار في نار جهنم وبئس القرار ؟
وفي معنى هذا المثل ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾ [ الرعد : ١٧ ] الآية وخلاصة المثلين أن الإيمان الصادق، وما يلزمه من العلم الصالح، هو المثمر الثابت، وأن النفاق وما يستلزمه من العمل الفاسد، هو الباطل الزاهق، وهذا المعنى يوافق قول علماء الكون أنه لا يتنازع شيئان في الوجود إلا ويكون الغالب هو الأصلح منهما. ويسمون هذه السنة ( ناموس الانتخاب الطبيعي وبقاء الأمثل )، وسبق بيانه في هذا التفسير.
صدق الله العظيم، فقد ثبت الله المؤمنين بالقول الثابت، وهداهم بإيمانهم إلى العمل الصالح، ففتحوا البلاد، وأقاموا الحق والعدل في العباد، وأهلك الله المنافقين، لا يفقهون ولا يعتبرون، وشر النفاق وأضره نفاق العلماء، للملوك والأمراء.
﴿ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ أي مضت سنته في ارتباط العقائد والأخلاق بالأعمال، بأن الظالم لا يكون مهتديا في أعماله إلى الحق والعدل، فضلا عن الرحمة والفضل، ولا أظلم في الناس من المنافقين ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ واللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ آل عمران : ٨٦ ].
﴿ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ الريبة اسم من الريب، وهو ما تضطرب فيه النفس، ويتردد الوهم ويسوء الظن، فيكون صاحبه منه في شك وحيرة إن لم يكن مثاره الشك. قال قوم صالح عليه السلام له، منكرين دعوته إياهم إلى عبادة الله وحده :﴿ وإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ [ هود : ٦٢ ]، ولهذا الاستعمال أمثال في التنزيل، وهو صريح في أن الشك مثار للريب وموقع فيه لا أنه عينه، وقد يفسر به باعتبار لزومه له وإيقاعه فيه. قال الشاعر :
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت وقد رابني منها الغداة سفورُها١
والظاهر أن ارتيابهم فيه كان منذ بنوه على أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه فهدم، وذلك أنهم لسوء نيتهم في بنائه كانوا يخافون أن يطلع الله رسوله على مقاصدهم السوءى فيه، وكان ذلك شأن سائر إخوانهم كما تقدم في قوله تعالى :﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ﴾ [ التوبة : ٦٤ ] وذكرنا في تفسيرها قوله تعالى :﴿ يحسبون كل صحية عليهم ﴾ [ المنافقون : ٤ ] ( ج ١٠ ) وأجدر بهم أن يكونوا بعد هدمه أشد ارتيابا، وأكثر اضطرابا، بما يحذرون من عقابهم في الدنيا كما أنذرتهم هذه السورة مرارا، وأن يستمر ذلك ملازما لهم.
﴿ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾ قرأ ابن عامر وحفص عن نافع وحمزة ( تقطع ) بفتح التاء وتشديد الطاء من التقطع، وقرأ الباقون بضم التاء من التقطيع، أي إلا أن تقطع الريبة قلوبهم أفلاذا، فتتقطع بها وتكون جذاذا، وقرأ يعقوب ( إلى ) بدل ( إلا ) وفسر ذلك بالموت والهلاك، وبالحسرة والندم المقتضي للتوبة، وقال الزمخشري وتبعه معتادو الأخذ عنه : لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم، لا يزول وسمه عن قلوبهم، ولا يضمحل أثره ( إلا أن تقطع قلوبهم ) قطعا، وتفرّق أجزاء، فحينئذ يسلون عنه، وأما ما دامت سالمة مجتمعة، فالريبة باقية فيها متمكنة، فيجوز أن يكون ذكر التقطع تصويرا لحال زوال الريبة عنهم، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم، أو في القبور أو في النار. وقيل معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم اه.
﴿ واللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ فحكم في أمرهم وبين من حالهم ما اقتضته الحكمة والعلم المحيط بكل شيء.
هاتان الآيتان في بيان حال المؤمنين حق الإيمان، البالغين فيه ما هو غاية له من الكمال، وضعتا بعد بيان حال المنافقين، وأصناف المؤمنين المقصرين، ومنهما تعرف جميع درجات المسلمين، ولاسيما المتخلفين عن الجهاد في سبيل الله.
﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ ﴾ هذا تمثيل لإثابة الله المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بتمليكهم الجنة دار النعيم الأبدي، والرضوان السرمدي، تفضل جل جلاله وعم نواله بجعلها من قبيل من باع شيئا هو له لآخر، لطفا منه تعالى وكرما وتكريما لعباده المؤمنين بجعلهم كالمتعاقدين معه، كما يتعاقد البيعان على المنافع المتبادلة، وهو عز وجل المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها، والمالك لأموالهم إذ هو الذي رزقها، وهو غني عن أنفسهم وأموالهم، وإنما المبيع والثمن له وقد جعلهما بكرمه لهم.
وقوله :﴿ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ ﴾ بيان لصفة تسليم المبيع وهو أنهم يقاتلون في سبيل الحق والعدل الموصلة إلى مرضاته تعالى فيبذلون أنفسهم وأموالهم فيكونون إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله، وإما مقتولين شهداء في هذه السبيل قرأ الجمهور بتقديم ( يقتلون ) المبني للفاعل، وحمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول، فدلت القراءتان على أن الواقع هو أن يقتل بعضهم ويسلم بعض، وأنه لا فرق بين القاتل والمقتول في الفضل، والمثوبة عند الله عزّ وجلّ، إذ كل منهما في سبيله لا حبا في سفك الدماء، ولا رغبة في اغتنام الأموال، ولا توسلا إلى ظلم العباد، كما يفعل عباد الدنيا من الملوك ورؤساء الأجناد.
﴿ وعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإِنجِيلِ والْقُرْآنِ ﴾ أي وعدهم بذلك وعدا أوجبه لهم على نفسه، وجعله حقا عليه أثبته في الكتب الثلاثة المنزلة على أشهر رسله، ولا تتوقف صحة هذا الوعد على وجوده في التوراة والإنجيل اللذين في أيدي أهل الكتاب بنصه لما أثبتناه من ضياع كثير منهما، وتحريف بعض ما بقي لفظا ومعنى، بل يكفي إثبات القرآن لذلك وهو مهيمن عليها. ( راجع ج ١٠ ).
﴿ ومَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ ﴾ ؟ أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله عزّوجلّ، إذ لا يمنعه من ذلك عجز من الوفاء، ولا يمكن أن تعرض له فيه التردد أو البداء، ١.
﴿ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ﴾ الاستبشار الشعور بفرح البشرى أو استشعارها، الذي تنبسط به بشرة الوجه فيتألق نورها، والجملة تقرير لتمام صفقة البيع من الجانبين.
﴿ وذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ الذي لا يتعاظمه فوز، دون ما يتقدمه من النصر والسيادة والملك، الذي لا يعد فوزا إلا بجعله وسيلة لإقامة الحق والعدل. أعلى الله تعالى مقام المؤمنين المجاهدين في سبيله فجعلهم بفضله مالكين معه، ومبايعين له، ومستحقين للثمن الذي بايعهم به، وأكد لهم أمر الوفاء به وإنجازه، ويروى عن جدنا الإمام جعفر الصادق عليه السلام في معنى الآية.
أثامن بالنفس النفيسة ربها فليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها أشتري الجنات، إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها فقد ذهبت مني وقد ذهب الثمن
ويروى عنه أنه قال : ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها. ومعناه أن الذي يقتل أو يموت في سبيل الله كان باذلا لبدنه الفاني لا لروحه الباقية، وليس معناه أن يبيع لربه جسده دون نفسه الناطقة كما توهم بعض المتفلسفين.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فكبر الناس في المسجد، فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال : يا رسول الله أنزلت فينا هذه الآية ؟ قال :" نعم " فقال الأنصاري : بيع ربيح، لا نقيل ولا نستقيل، يعني البيع.
وأخرج ابن جرير أن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اشترط لنفسك ولربك فقال :" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ". قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال :" الجنة " قال : ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت الآية. وظاهر هذا أنها نزلت في مبايعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم وتفصيله فيما يلي، وإن لم يصرح بأنه سبب النزول.
وأخرج ابن سعد عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت أن أسعد بن زرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فقال : يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمدا ؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإنس كافة. فقالوا : نحن حرب لمن حارب، وسلم لمن سالم. فقال أسعد بن زرارة : يا رسول الله اشترط علي، فقال :" تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، ولا تنازعوا الأمر أهله، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم ". قالوا : نعم، قال قائل الأنصار : نعم هذا لك يا رسول الله، فما لنا ؟ قال :" الجنة والنصر ".
وأخرج ابن سعد عن الشعبي قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم بالعباس بن عبد المطلب- وكان ذا رأي- إلى السبعين من الأنصار عند العقبة، فقال العباس : ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم للمشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم. فقال قائلهم -وهو أبو أمامة أسعد- : يا محمد سل لربك ما شئت، ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك، فقال :" أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم ". قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال :" الجنة ". فكان الشعبي إذا حدث هذا الحديث قال : ما سمع الشيب والشباب بخطبة أقصر ولا أبلغ منها.
ومعنى نزولها في مبايعة الأنصار أنها تدخل في عموم الآية دخولا أوليا لا أنها خاصة بها.
وقد روى ابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعا :" من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله ".
وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال : ما على ظهر الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة. وفي لفظ : اسعوا إلى بيعة بايع الله بها كل مؤمن﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوالَهُم ﴾.
ولكن العجب ممن يدعون الإيمان وهم ينكثون بيعة الله عزّ وجلّ، فهم لا يبذلون أنفسهم ولا شيئا من أموالهم في سبيل الله، وإنما يطلبون الجنة بغير ثمنها، كما يطلبون سعادة الدنيا وسيادتها من غير طريقها، ولا طريق لها إلا الجهاد بالمال والنفس. والقرآن حجة عليهم وهو حجة الله البالغة التي لا يدحضها شيء وهي تدحض كل شيء.
هاتان الآيتان في بيان حال المؤمنين حق الإيمان، البالغين فيه ما هو غاية له من الكمال، وضعتا بعد بيان حال المنافقين، وأصناف المؤمنين المقصرين، ومنهما تعرف جميع درجات المسلمين، ولاسيما المتخلفين عن الجهاد في سبيل الله.
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين البائعين أنفسهم وأموالهم لله تعالى بجنته ودار كرامته، فقال :
﴿ التَّائِبُونَ ﴾ أي التائبون الكاملون في توبتهم وهي الرجوع إلى الله تعالى عن كل ما يبعد عن مرضاته، وتختلف باختلاف أحوال أهلها، فتوبة الكفار الذين يدخلون في الإسلام هي الرجوع عن الكفر الذي كانوا عليه من شرك وغيره كما تقدم في قوله تعالى :﴿ فَإِن تَابُواْ وأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [ التوبة : ١١ ]، وتوبة المنافق من النفاق وتقدم ذكرها في هذه السورة أيضا، وتوبة العاصي من المعصية، ومنه توبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين، وتقدم قريبا ذكر من تاب منهم ومن أرجئ أمره، وتوبة المقصر في شيء من البر وعمل الخير إنما تكون في التشمير فيه والاستزادة منه، وتوبة من يغفل عن ربه إنما تكون في الإكثار من ذكره وشكره، وسيأتي ذكر توبة الله تعالى على الجميع في الآيتين ( ١١٧ و ١١٨ ).
﴿ الْعَابِدُونَ ﴾ لله ربهم وحده، مخلصين له الدين في جميع عباداتهم في عامة أوقاتهم، لا يتوجهون إلى غيره بدعاء ولا استعانة، ولا يترقبون إلى سواه بعمل مما يقصد به القربة ومثوبة الآخرة.
﴿ الْحَامِدُونَ ﴾ لله ربهم في السراء والضراء، بالثناء عليه بلفظ الحمد وغيره من الذكر المشروع الدال على الرضا منه تعالى، ومهما يصب الإنسان من مصائب الدنيا فإنه يبقى له منه النعم فيها وفي الدين ؛ بل يبقى له من اللطف الإلهي في نفس المصائب ما يجب عليه أن يحمد الله ويشكره عليه.
( وتقدم بيان الحمد والعبادة في تفسير سورة الفاتحة وغيرها ).
﴿ السَّائِحُونَ ﴾ في الأرض، يجوبون الأقطار لغرض صحيح، من علم أو عمل كالجهاد في سبيل الله، وروي عن عطاء، أو للهجرة حيث تشرع الهجرة، وروي عن عبد الرحمن بن زيد قال : السائحون هم المهاجرون ليس في أمة محمد سياحة إلا الهجرة. أو لطلب العلم النافع للسائح في دينه أو دنياه، أو النافع لقومه وأمته، وروي عن عكرمة، وخصه بعضهم بطلب الحديث :( لأنهم كانوا يسافرون من مصر إلى أخرى للرواية )، أو للنظر في خلق الله وأحوال الشعوب والأمم للاعتبار والاستبصار، ومعرفة سنن الله تعالى وحكمه وآياته، وهذا ما تدل عليه الآيات المتعددة في الحث على السير في الأرض كما بيناه في الأصلين ( ١٣ و١٤ ) من الأصول العلمية التي استنبطناها من سورة الأنعام ( ج ٨ ).
وروي عن عبد الله بن مسعود أن المراد بالسائحين الصائمون، وقاله في تفسير ( سائحات ) من سورة التحريم، وتعلق به مصنفو التفاسير لاستبعادهم مدح الله تعالى النساء بالسياحة في الأرض، وإنما يحظر في الإسلام سفر المرأة منفردة دون زوجها أو أحد محارمها، وأما إذا كانت تسيح مع زوجها والمحرم حيث يسيح لغرض صحيح من علم نافع أو عمل صالح أو طلب الصحة أو الرزق فلا إشكال في مدحها بالسياحة ؛ بل ينبغي اشتراك الرجال والنساء في جميع أعمال الحياة النافعة.
وأزيد على ذلك السياحة والسفر لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها، وإذا صح أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصحبون نساءهم في غزواتهم عند الإمكان، وهن غير مكلفات بالقتال، بل يساعدن عليه بتهيئة الطعام والشراب، وتضميد الجراح وغير ذلك كما تقدم في تفسير الآية ٧١، ﴿ والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ ( ج ١٠ ) فلأن يصحبنهم في سائر الأسفار أولى. وفي سفر المرأة مع زوجها إحصان له ولها، فهو مانع للمسلم من التطلع في السفر إلى غيرها.
وعلل سفيان بن عيينة تفسير السائحين بالصائمين بأن الصائم يترك اللذات كلها كالسائح للتعبد، ومثله أو منه قول الأزهري : يسمى الصائم سائحا لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا يحمل زادا، فكان ممسكا عن الأكل. ولهذا التعليل خص بعضهم إطلاق وصف السائحين على الصائمين بالذين يديمون الصيام، وأخذ بعضهم بظاهر اللفظ، فقال : يكفي في صحة الوصف صيام الفرض، وكل ذلك ضعيف.
والصوفية يخصون السائحين الممدوحين باللذين يهيمون في الأرض لتربية إرادتهم، وتهذيب أنفسهم باحتمال المشاق، والبعد عن مظان السمعة والرياء، لجمع القلب على الرب عزّ وجلّ بالإخلاص في عبادته، والتكمل في منازل معرفته، كالسياحين من الأمم قبلهم، وقد كان إطلاق السياحة بهذا المعنى ذائعا من قبل الإسلام، حتى قال صاحب القاموس : السياحة الذهاب في الأرض للعبادة، ومنه سمي المسيح الخ، واعترضوه فيه، فإنما هو عرف ليس من أصل اللغة، وتقدم معنى السياحة اللغوي في تفسير قوله تعالى :﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾، وهو أول آية من هذه السورة ( ج ١٠ ).
وقد حدث للمتصوفة بدع في السياحة، كقصد مشاهد القبور المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين للتبرك بها، والاستمداد من أرواح من دفنوا فيها، وكثير منهم يكون له هوى في التنقل من بلد إلى آخر، فيظل هائما في الأسفار، وينقطع بذلك عن الأعمال التي تنفع الناس وعن الزواج، ويرتكب بعضهم فيها كثيرا من المنكرات، ويكون لهم طمع في استجداء الناس، والسؤال حرام إلا لضرورة، والفقهاء ينكرون عليهم سياحتهم هذه.
قال ابن الجوزي : السياحة في الأرض لا لمقصود ولا إلى مكان معروف منهي عنها. وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا رهبانية في الإسلام، ولا تبتل، ولا سياحة في الإسلام ". وقال الإمام أحمد : ما السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين والصالحين، ؛ لأن السفر يشتت القلب، فلا ينبغي للمريد أن يسافر إلا في طلب علم أو مشاهدة شيخ يقتدي به اه.
وأقول : روى ابن جرير من حديث أبي هريرة مرفوعا وموقوفا حديث " السائحون هم الصائمون "، ولا يصح رفعه، وروي عن عائشة وابن عباس ومجاهد وغيرهم من أقوالهم، ومن مرسل عمرو بن دينار عن عبيد بن عميرة، وروى أبو داود من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ائذن لي بالسياحة ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله عزّوجلّ " ١، قال الحافظ المنذري : القاسم هذا تكلم فيه غير واحد. اه. أقول : منهم الإمام أحمد، كان يقول فيما يروى عنه من المناكير : إنها من قبله، ويقول بعضهم : إنها ممن روى عنه من الضعفاء، لا منه، وقال ابن حبان : كان يروي عن الصحابة المعضلات.
وللإمام الغزالي في كتاب السفر من الإحياء كلام نفيس في فوائد السياحة والاعتبار بآيات الله تعالى فيها، لا يوجد في غيره مثله.
﴿ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ ﴾ لله تعالى في صلواتهم. والصلاة تذكر تارة بلفظها وتارة ببعض أركانها كالقيام والركوع والسجود. وهذا الوصف يفيد التذكير بهذه الهيئة وتمثليها للقارئ والسامع.
﴿ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾ تقدم معنى هذا الأمر والنهي ومكانته من صفات المؤمنين في تفسير الآية ( ٧١ ) من هذه السورة ( ج ١٠ )، وهذه الصفة وما بعدها من الصفات المتعلقة بجماعة المؤمنين فيما يجب على بعضهم لبعض، وكل ما قبلها من صفات الأفراد.
﴿ والْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ ﴾ أي شرائعه وأحكامه التي حدد فيها ما يجب وما يحظر على المؤمنين من العمل بها، وما يجب على أئمة المسلمين وأولي الأمر وأهل الحل والعقد منهم إقامتها وتنفيذها بالعمل في أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلوا بما يجب عليهم من الحفظ لها.
﴿ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي وبشر أيها الرسول المؤمنين الموصوفين بهذه البضع الصفات، ولم يذكر ما يبشرهم به لتعظيم شأنه وشموله لخير الدنيا وسعادة الآخرة.
ومن مباحث اللغة أن المعدودات تسرد بغير عطف، وإنما عطف النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف للإيذان بأنهما فريضة واحدة لتلازمهما في الغالب. وأما عطف " الحافظون لحدود الله " على جملة ما تقدم فقيل : لأن التعداد قد تم بالوصف السابع من حيث إن السبعة هو العدد التام، والثامن ابتداء عدد آخر معطوف عليه، وإن هذه الواو تسمى واو الثمانية. وأنكر هذه الواو النحاة المحققون، وقيل : لأنه إجمال لما تقدم من التفصيل قبله، فلا يصح أن يجعل فردا من أفراده فيسرد معه، وأقوى منه عندي أنه وصف جامع للتكاليف عامة، والمنهيات خاصة، والسبعة المسرودة قبله من المأمورات، ولا يحصل الكمال للمؤمن بها إلا مع اجتناب المنهيات، وهو أول ما يلاحظ في حفظ حدود الله قال تعالى :﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] ﴿ وتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] ﴿ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [ الطلاق : ١ ]، وعلى هذا يكون معنى نظم الآية أن المؤمنين الكاملين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى هم المتصفون بالصفات السبع، والحافظون مع ذلك لجميع حدود الله في كل أمر ونهي، ويعبر عن هذا في عرف هذا العصر بقولهم :" المثل الأعلى " ويطلقونه على الأفراد النابغين في بعض الفضائل العامة، وعلى الجماعات والأمم الراقية، ويكفي أن يقال فيه :" المثل " في كذا. كما قال تعالى :﴿ ولما ضرب ابن مريم مثلا ﴾ [ الزخرف : ٥٧ ] وقال :﴿ وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ﴾ [ الإسراء : ٢ ]، أو يقال : مثل عال، أو مثل شريف. وأما الأعلى فهو الله عزّ وجلّ كما قال عن نفسه ﴿ ولله المثل الأعلى ﴾ [ النحل : ٦٠ ]، وقال :﴿ ولَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاواتِ والْأَرْضِ وهُو الْعزيز الْحَكِيمُ ﴾ [ الروم : ٢٧ ].
وجملة القول فيهم أنهم الحافظون لجميع حدود الله تعالى، وخصت تلك الخلال السبع بالذكر لأنها هي التي تمثل في نفس القارئ أكمل ما يكون المؤمن به محافظا على حدود الله تعالى.
تقدم في الآية الثمانين من هذه السورة أن الله تعالى لا يغفر للمنافقين لأنهم كفروا بالله ورسوله الخ، فاستغفار الرسول لهم وعدمه سيان. وتقدم في سورة النساء ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ [ النساء : ٣٨ و ١١٦ ]، وقد شرع الله للمؤمنين في أوائل سورة الممتحنة التأسي بإبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه في البراءة من قومهم المشركين ومن معبوداتهم، واستثنى من هذه الأسوة استغفار إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه، فقال :﴿ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك من الله من شيء ﴾ [ الممتحنة : ٤ ]، وقد تبين هنا حكم الاستغفار لمن ذكر، وقفى عليه بقاعدة التشريع العامة التي يبنى عليها الجزاء، فقال عزّ وجلّ :
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ هذا نفي بمعنى النهي، فهو أبلغ من النهي المجرد، وهذا التعبير فيه يسمى نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الشيء نفسه، لأنه نفي معلل بالسبب المقتضي له. والمعنى : ما كان من شأن النبي ولا مما يصح أن يصدر عنه من حيث هو نبي، ولا من شأن المؤمنين ولا مما يجوز أن يقع منهم من حيث هم مؤمنون، أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين.
﴿ ولو كانوا أولي قربى ﴾ لهم في الأصل حق البر وصلة الرحم وكانت عاطفة القرابة تقتضي الغيرة عليهم وحب المغفرة لهم، " ولو " هذه تفيد الغاية، المعطوف عليه يحذف حذفا مطردا للعلم به، والمراد أنه ليس مما تبيحه النبوة ولا الإيمان، ولا مما يصح وقعه من أهلهما الاستغفار للمشركين في حال من الأحوال، حتى لو كانوا أولي قربى، فإن لم يكونوا كذلك فعدم جوازه أولى.
ثم قيد الحكم بقوله تعالى :﴿ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أهل النار الخالدين فيها بأن ماتوا على شركهم وكفرهم ولو بحسب الظاهر، كاستصحاب حالة الكفر إلى الموت، أو نزل وحي يسجل عليهم ذلك، كإخباره تعالى عن أناس من الجاحدين المعاندين من أصحاب النار خالدين فيها، أو أنهم طبع قلوبهم وختم عليها. وقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ [ البقرة : ٦ ]، ومثله في المنافقين ﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم ﴾ [ المنافقون : ٦ ] الخ.
وقد ورد في الصحيحين وغيرهما أن هذه الآية نزلت في أبي طالب، إذ دعاه صلى الله عليه وسلم عند ما حضره الموت إلى قول ( لا إله إلا الله ) فامتنع، وأبو طالب مات بمكة قبل الهجرة، فهل نزلت الآية عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها، أم نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له ؟ وروي من طرق أنها نزلت حين زار صلى الله عليه وسلم قبر أمه واستغفر لها، والله أعلم، والآية نص في تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة، وكذا وصفه بذلك، كقولهم المغفور له المرحوم فلان، كما يفعله بعض المسلمين الجغرافيين الآن، لعدم تحققهم بمقتضى الإيمان، وتقيدهم بأحكام الإسلام، ومنهم بعض المعممين والحاملين لدرجة العالمية من الأزهر.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وغيرهم من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال :" أي عم ! قل : لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله "، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب. وأبي أن يقول : لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وهُو أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ ١ [ القصص : ٥٦ ].
هذا لفظ البخاري في تفسير الآية الأخيرة من سورة القصص، وأخرجه في تفسير آية براءة وفي الجنائز أيضا.
قال الحافظ في شرحه للحديث : ووقع في رواية مجاهد قال : يا ابن أخي ملة الأشياخ. ووقع في حديث أبي حازم عند مسلم والترمذي والطبري قال : لولا أن تعيرني بها قريش يقولون : ما حمله على ذلك إلا جزع الموت لأقررت بها عينك. ثم قال الحافظ : وروى الطبري من طريق شبل عن عمرو بن دينار قال النبي صلى الله عليه وسلم :" استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي "، فقال أصحابه لنستغفرن لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه، فنزلت.
قال : وهذا فيه إشكال ؛ لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقا، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية، والأصل عدم تكرار النزول، وقد أخرج الحاكم وابن أبي حاتم من طريق أيوب بن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا، ثم بكى فبكينا لبكائه، فقال :" إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، فأنزل علي ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ ".
وأخرج أحمد من حديث ابن بريدة عن أبيه نحوه، ومنه نزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب ولم يذكر نزول الآية، وفي رواية الطبري من هذا الوجه لما قدم مكة أتى رسم قبر، ومن طريق فضيل بن مرزوق عن عطية لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها، فنزلت. وللطبراني من طريق عبد الله بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس نحو حديث ابن مسعود وفيه : لما هبط من ثنية عسفان. وفيه نزول الآية في ذلك. فهذه طرق يعضد بعضها بعضا، وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب. ويؤيده أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد بعد أن شج وجهه :" رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ". ٢
لكن يحتمل في هذا أن يكون الاستغفار خاصا بالأحياء وليس البحث فيه، ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم، ويكون لنزولها سببان : متقدم وهو أمر أبي طالب، ومتأخر وهو أمر آمنة، ويؤيد تأخير النزول ما تقدم في تفسير براءة من استغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك، فإن ذلك يقتضي تأخير النزول وإن تقدم السبب، ويشير إلى ذلك أيضا قوله في حديث الباب :" وأنزل الله في أبي طالب ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ ؛ لأنه يشعر بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره، والثانية نزلت فيه وحده، ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد من طريق أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي قال : سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله :﴿ ما كان للنبي ﴾ الآية، وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : قال المؤمنون : ألا نستغفر لآبائنا كما استغفر إبراهيم لأبيه ؟ فنزلت. ومن طريق قتادة ذكرنا له أن رجالا فذكر نحوه.
وفي الحديث أن من لم يعمل خيرا قط إذا ختم عمره بشهادة أن لا إله إلا الله حكم بإسلامه، وأجريت عليه أحكام المسلمين، فإن قارن نطق لسانه عقد قلبه نفعه ذلك عند الله تعالى بشرط أن لا يكون وصل إلى حد انقطاع الأمل من الحياة وعجز عن فهم الخطاب، ورد الجواب، وهو وقت المعاينة، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ﴾ [ النساء : ١٨ ] والله أعلم اه كلام الحافظ، وقد تعددت الروايات في استغفار بعض الصحابة لآبائهم وأولي قرباهم من المشركين تأسيا به صلى الله عليه وسلم حين استغفر لعمه حتى نزل النهي فكفوا.
٢ أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٥٤، والمرتدين باب ٥، ومسلم في الجهاد حديث ١٠٤، وابن ماجه في الفتن باب ٢٣، وأحمد في المسند ١/٣٨٠، ٤٢٧، ٤٣٢، ٤٤١، ٤٥٣، ٤٥٦، ٤٥٧..
هي السورة التاسعة
وآياتها ١٢٩ عند الكوفيين و١٣٠ عند الجمهور
هي مدنية بالاتفاق، قيل إلا قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ﴾ [ الأنفال : ١١٣ ] الآية لما روي في الحديث المتفق عليه من نزولها في النهي عن استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب كما سيأتي تفصيله في تفسيرها. ويجاب عنه بجواز أن يكون نزولها تأخر عن ذلك، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول الآية مرتين : مرة منفردة ومرة في أثناء السورة.
واستثنى ابن الفرس قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول ﴾ إلى آخر الآيتين في آخرها فزعم أنهما مكيتان، ويرده ما رواه الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن، وقول الكثيرين إنها نزلت تامة. وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات يجاب عنه بأن أكثر ما روي في أسباب النزول كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا، أعني أن الرواة كانوا يذكرونها كثيرا في مقام الاستدلال، وهذا لا يدل على نزولها وحدها، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة.
ولم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة في أولها ؛ لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور. هذا هو المعتمد المختار في تعليله، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة، والمشهور أنه لنزولها بالسيف ونبذ العهود، وقيل غير ذلك مما في جعله سببا وعلة نظر، وقد يقال : إنه حكمة لا علة، ومما قاله بعض العلماء في هذه الحكمة : إنها تدل على أن البسملة آية من كل سورة أي ؛ لأن الاستثناء بالفعل كالاستثناء بالقول معيار العموم.
وقد ورد لها أسماء كثيرة هي صفات لأهم ما اشتملت عليه : فمنها سورة الفاضحة لما فضحته من سرائر المنافقين وإنبائهم بما في قلوبهم من الكفر وسوء النيات، وهذا الاسم روي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ومنها المنفرة والمعبرة والمبعثرة والمثيرة والبحوث ( كصبور ) لتنفيرها وتعبيرها عما في القلوب وبحث ذلك وإثارته وبعثرته، وكذا المدمدمة والمخزية والمنكلة والمشردة، ومعاني هذه الألقاب ظاهرة في معنى فضيحتها للمنافق، وما يترتب عليها من الدمدمة عليهم والخزي والنكال والتشريد بهم، ومنها المقشقشة، قال الزمخشري : وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه. وأشهرها الثابت التوبة وبراءة، وسائر الأسماء ألقاب لبيان معانيها. وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وفي حال الاستعداد لها في زمن العسرة والخروج إليها في القيظ، وفي أثنائها ظهر من آيات نفاق المنافقين ما كان خفيا من قبل.
وقد صرحوا بأن أولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبي صلوات الله وسلامه عليه عليا عليه السلام ليقرأها على المشركين في الموسم كما يذكر مفصلا في محله.
وفي صحيح البخاري وغيره عن البراء قال : آخر آية نزلت ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ وآخر سورة نزلت براءة١. وهو رأي له، لا رواية مرفوعة، ويحمل قوله في الآية على أنها آخر ما نزل في الكلالة، فهي بعد آيات المواريث وفي السورة على بعضها أو معظمها. وأرجح ما ورد في آخر آية نزلت أنه قوله تعالى :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ]، أو ما قبلها من آيات الربا من دونها، والأرجح أن يقال معها. وتقدم تفصيل المسألة في آخر سورة البقرة ( ج ٣ )، وأما آخر سورة نزلت تامة فالأرجح أنه سورة النصر، وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعدها أياما قليلة.
وأما التناسب بينها وبين ما قبلها فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع بعض، فهي كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيهما من أصول الدين وفروعه والسنن الإلهية والتشريع وجله في أحكام القتال وما يتعلق به من الاستعداد له وأسباب النصر فيه وغير ذلك من الأمور الروحية والمالية وأحكام المعاهدات والمواثيق- من حفظها ونبذها عند وجود المقتضي له - وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض والكافرين بعضهم مع بعض، وكذا أحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى والقلوب، فما بدئ به في الأول أتم في الثانية. ولولا أن أمر القرآن في سوره ومقاديرها موقوف على النص لكان هذا الذي ذكرناه مؤيدا من جهة المعاني لمن قال : إنهما سورة واحدة، كما يؤيده من ناحية ترتيب السور بحسب طولها وقصرها، وتوالي السبع الطول منها، ويليها المئون، والأنفال دونها.
مثال ذلك :
١ إن العهود ذكرت في سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها، ولا سيما نبذها الذي قيد في الأول بخوف خيانة الأعداء.
٢ تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب في كل منهما.
٣ ذكر في الأولى صد المشركين عن المسجد الحرام، وأنهم ليسوا بأوليائه ﴿ إن أولياؤه إلا المتقون ﴾ [ الأنفال : ٣٤ ] أي من المؤمنين، وجاء في الثانية ﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ [ الأنفال : ١٧ ] الخ الآيات.
٤ ذكر في أول الأولى صفات المؤمنين الكاملين، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين، ثم ذكر في آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين كما تقدم، وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضا.
٥ ذكر في الأولى الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وجاء مثل هذا الترغيب بأبلغ من ذلك وأوسع في الثانية، وذكرت في الأولى مصارف الغنائم من هذه الأموال، وفي الثانية مصارف الصدقات.
٦ ورد ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض في الأولى في آية واحدة، وفصل في الثانية أوسع تفصيل حتى كانت أجدر بأن تسمى سورة المنافقين من سورة ﴿ إذا جاءك المنافقون ﴾ لو كانت تسمية السور بالرأي.
﴿ ومَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ ﴾ مما يدخل في عموم تأسيكم به على إطلاقه، فإنه ما كان وما وقع لسبب ولا علة ﴿ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وعَدَهَا إِيَّاهُ ﴾ في حياته إذ كان يرجوا إيمانه فقال له :﴿ لأستغفرن لك وما أملك من الله من شيء ﴾ [ الممتحنة : ٤ ]، أي لا أملك لك هداية ولا نجاة، وإنما أملك دعاء الله تعالى. وقد وفى بوعده وما كان إلا وفيا كما شهد له تعالى بقوله :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾ [ النجم : ٣٧ ]، فكان من دعائه ﴿ واغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ولَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ ولَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ٨٦ ٨٩ ]، أي من الشرك والكفر والشك المقتضي للنفاق، فمن استغفر لحي يرجو إيمانه بقصد سؤال الله أن يهديه لما يكون به أهلا للمغفرة فلا بأس.
﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾ قال ابن عباس : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو الله فتبرأ منه. وفي رواية عنه : فلما تبين له أنه عدو الله يقول : لما مات على كفره. وقال قتادة : تبين له حين مات، وعلم أن التوبة انقطعت عنه. وقيل : إنه تبين له ذلك بوحي من الله تعالى، فحينئذ تبرأ منه ومن قرابته، وترك الاستغفار له كما هو مقتضى الإيمان ﴿ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ] الآية.
ورد أن إبراهيم يعد من الخزي له يوم القيامة أن يكون أبوه في النار، كما رواه البخاري من حديث رؤيته في النار، وأنه يقول :" يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد "، فيمسخ الله أباه ذيخا وهو ذكر الضباع الكثير الشعر حتى لا يخزى إبراهيم ابنه برؤيته في النار على صورته المعروفة له ولقومه. وقد تقدم لفظ الحديث في قصة إبراهيم مع أبيه من تفسير سورة الأنعام ( ج ٧ ).
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأواهٌ حَلِيمٌ ﴾ هذه الجملة المؤكدة بوصف إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالمبالغة في خشية الله والخشوع له، وبالحلم والثبات في أموره كلها، تعليل لامتناعه عن الاستغفار لأبيه بعد العلم برسوخه في الشرك وعداوة الله عزّ وجلّ. الأواه الكثير التأوه والتحسر، وإنما يتأوه إبراهيم من خشية الله، ويتحسر على المشركين من قومه ولاسيما أبيه، ويطلق الأواه على الخاشع الكثير الدعاء والتضرع، وأصل التأوه قول " أوّه " ( بالكسر منونا وغير منون ) أو واه، أو أوه. وفي حديث مرفوع في التفسير المأثور :" الأواه الخاشع المتضرع "، وعن ابن عباس فيه روايات : منها أنه المؤمن أو الموقن بلسان الحبشة، ١ والحليم الذي لا يستفزه الغضب ولا يعبث به الطيش، لا يستخفه الجهل أو هوى النفس، ومن لوازمه الصبر والثبات والصفح والتأني في الأمور، واتقاء العجلة في كل من الرغب والرهب، وذهب الزمخشري إلى أن الجملة تعليل لما كان من استغفاره لأبيه، قال بعد تفسير الأواه بالذي يكثر التأوه : ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحمله كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه وقوله ( لأرجمنك ) اه.
هي السورة التاسعة
وآياتها ١٢٩ عند الكوفيين و١٣٠ عند الجمهور
هي مدنية بالاتفاق، قيل إلا قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ﴾ [ الأنفال : ١١٣ ] الآية لما روي في الحديث المتفق عليه من نزولها في النهي عن استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب كما سيأتي تفصيله في تفسيرها. ويجاب عنه بجواز أن يكون نزولها تأخر عن ذلك، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول الآية مرتين : مرة منفردة ومرة في أثناء السورة.
واستثنى ابن الفرس قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول ﴾ إلى آخر الآيتين في آخرها فزعم أنهما مكيتان، ويرده ما رواه الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن، وقول الكثيرين إنها نزلت تامة. وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات يجاب عنه بأن أكثر ما روي في أسباب النزول كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا، أعني أن الرواة كانوا يذكرونها كثيرا في مقام الاستدلال، وهذا لا يدل على نزولها وحدها، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة.
ولم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة في أولها ؛ لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور. هذا هو المعتمد المختار في تعليله، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة، والمشهور أنه لنزولها بالسيف ونبذ العهود، وقيل غير ذلك مما في جعله سببا وعلة نظر، وقد يقال : إنه حكمة لا علة، ومما قاله بعض العلماء في هذه الحكمة : إنها تدل على أن البسملة آية من كل سورة أي ؛ لأن الاستثناء بالفعل كالاستثناء بالقول معيار العموم.
وقد ورد لها أسماء كثيرة هي صفات لأهم ما اشتملت عليه : فمنها سورة الفاضحة لما فضحته من سرائر المنافقين وإنبائهم بما في قلوبهم من الكفر وسوء النيات، وهذا الاسم روي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ومنها المنفرة والمعبرة والمبعثرة والمثيرة والبحوث ( كصبور ) لتنفيرها وتعبيرها عما في القلوب وبحث ذلك وإثارته وبعثرته، وكذا المدمدمة والمخزية والمنكلة والمشردة، ومعاني هذه الألقاب ظاهرة في معنى فضيحتها للمنافق، وما يترتب عليها من الدمدمة عليهم والخزي والنكال والتشريد بهم، ومنها المقشقشة، قال الزمخشري : وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه. وأشهرها الثابت التوبة وبراءة، وسائر الأسماء ألقاب لبيان معانيها. وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وفي حال الاستعداد لها في زمن العسرة والخروج إليها في القيظ، وفي أثنائها ظهر من آيات نفاق المنافقين ما كان خفيا من قبل.
وقد صرحوا بأن أولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبي صلوات الله وسلامه عليه عليا عليه السلام ليقرأها على المشركين في الموسم كما يذكر مفصلا في محله.
وفي صحيح البخاري وغيره عن البراء قال : آخر آية نزلت ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ وآخر سورة نزلت براءة١. وهو رأي له، لا رواية مرفوعة، ويحمل قوله في الآية على أنها آخر ما نزل في الكلالة، فهي بعد آيات المواريث وفي السورة على بعضها أو معظمها. وأرجح ما ورد في آخر آية نزلت أنه قوله تعالى :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ]، أو ما قبلها من آيات الربا من دونها، والأرجح أن يقال معها. وتقدم تفصيل المسألة في آخر سورة البقرة ( ج ٣ )، وأما آخر سورة نزلت تامة فالأرجح أنه سورة النصر، وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعدها أياما قليلة.
وأما التناسب بينها وبين ما قبلها فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع بعض، فهي كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيهما من أصول الدين وفروعه والسنن الإلهية والتشريع وجله في أحكام القتال وما يتعلق به من الاستعداد له وأسباب النصر فيه وغير ذلك من الأمور الروحية والمالية وأحكام المعاهدات والمواثيق- من حفظها ونبذها عند وجود المقتضي له - وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض والكافرين بعضهم مع بعض، وكذا أحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى والقلوب، فما بدئ به في الأول أتم في الثانية. ولولا أن أمر القرآن في سوره ومقاديرها موقوف على النص لكان هذا الذي ذكرناه مؤيدا من جهة المعاني لمن قال : إنهما سورة واحدة، كما يؤيده من ناحية ترتيب السور بحسب طولها وقصرها، وتوالي السبع الطول منها، ويليها المئون، والأنفال دونها.
مثال ذلك :
١ إن العهود ذكرت في سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها، ولا سيما نبذها الذي قيد في الأول بخوف خيانة الأعداء.
٢ تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب في كل منهما.
٣ ذكر في الأولى صد المشركين عن المسجد الحرام، وأنهم ليسوا بأوليائه ﴿ إن أولياؤه إلا المتقون ﴾ [ الأنفال : ٣٤ ] أي من المؤمنين، وجاء في الثانية ﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ [ الأنفال : ١٧ ] الخ الآيات.
٤ ذكر في أول الأولى صفات المؤمنين الكاملين، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين، ثم ذكر في آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين كما تقدم، وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضا.
٥ ذكر في الأولى الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وجاء مثل هذا الترغيب بأبلغ من ذلك وأوسع في الثانية، وذكرت في الأولى مصارف الغنائم من هذه الأموال، وفي الثانية مصارف الصدقات.
٦ ورد ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض في الأولى في آية واحدة، وفصل في الثانية أوسع تفصيل حتى كانت أجدر بأن تسمى سورة المنافقين من سورة ﴿ إذا جاءك المنافقون ﴾ لو كانت تسمية السور بالرأي.
﴿ ومَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ﴾ أي وما كان من شأن الله تعالى في حلمه ورحمته، ولا من سننه في خلقه التي هي مظهر عدله وحكمته، أن يصف قوما بالضلال، ويجري عليهم أحكامه بالذم والعقاب، بعد إذ هداهم إلى الإيمان، وشرح صدورهم بالإسلام، بمجرد قول أو عمل صدر عنهم بخطأ الاجتهاد.
﴿ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾ من الأقوال والأفعال، بيانا جليا واضحا لا شبهة فيه ولا إشكال.
﴿ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ فهو يشرع لهم من الأحكام ما تكمل به فطرتهم، ويستقيم به رأيهم وفهمهم، فبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع حتى لا يضل فيه اجتهادهم بأهواء نفوسهم، ويترك لهم مجالا للاجتهاد فيما دون ذلك من مصالحهم، فهو لهذا لم يؤاخذ إبراهيم في استغفاره لأبيه قبل أن يتبين له حاله، وكذلك لا يؤاخذ النبي والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم وأولي القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم الله في ذلك، وإن كان من شأنه أن يعلم أنه من لوازم الإيمان، قال مجاهد في تفسير الجملة : بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيان طاعته و معصيته عامة، ما فعلوا أو تركوا اه.
يعني أن الآية عامة وإن نزلت في مسألة استغفارهم للمشركين. وعن ابن عباس أنها نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى، قال : لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم. ولكن ما كان الله ليعذب قوما بذنب أذنبوه حتى يبين لهم ما يتقون، قال : حتى ينهاهم قبل ذلك اه.
وأقول : الآية متأخرة النزول عن غزوة بدر، ولكنها شاملة لحكمها، فقد تقدم أن أخذ الفداء من الأسرى هو في معنى الاستغفار للمشركين هنا من حيث إنه خلاف ما يقتضيه شأن النبوة والإيمان لقوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ]، فهذا نفي للشأن كنفي الاستغفار هنا، ثم قال تعالى هنالك بعد عتابهم الشديد ﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [ الأنفال : ٦٨ ]، فابن عباس يفسر هذا الكتاب بحكمه تعالى في هذه الآية بأنه لا يحكم بضلال قوم في شيء فيعاقبهم عليه إلا بعد أن يبين لهم ما يتقون بيانا واضحا تاما لا مجال معه للاجتهاد الذي يكون عذرا في المخالفة، سواء كانت هذه الآية نزلت وقتئذ أم لا، فهذا حكم الله تعالى.
أخرج ابن المنذر أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يخطب أصحابه كل عشية خميس ثم يقول : فمن استطاع منكم أن يغدو عالما أو متعلما فليفعل، ولا يغدو لسوى ذلك، فإن العالم والمتعلم شريكان في الخير. أيها الناس : إني والله ما أخاف عليكم أن تؤخذوا بما لم يبين لكم، وقد قال الله تعالى :﴿ ومَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾ فقد بين لكم ما تتقون.
ويؤخذ من هذا كله قاعدة أن أحكام الإسلام العامة التي عليها مدار الجزاء في الآخرة، ويكلف العمل به كل من بلغه إن كان من الأحكام الشخصية، ويؤخذ بها الأمة كلها، وينفذه أئمتها وأمراؤها فيها، هو ما كان قطعي الدلالة ببيان الله تعالى ورسوله لا حجة معه لأحد في تركه. وأن ما عداها منوط بالاجتهاد، فمن ظهر له من نص ظني الدلالة حكم، واعتقد أنه مراد الله من الآية وجب عليه اتباعه، ومن لا فلا، كما وقع عند نزول آية البقرة في الخمر والميسر، إذ فهم بعض الصحابة من قوله تعالى :﴿ وإثمها أكبر من نفعهما ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] تحريمهما فترك، وبقي من لم يفهم هذا يشرب الخمر حتى بين الله تحريمها مع الميسر بيانا قطعيا بآيات المائدة. وأصل مذهب الحنفية أن الفرائض والتحريم الديني لا يثبتان إلا بالنص القطعي، أو بنص القرآن القطعي ؛ بل هذا ما كان عليه علماء السلف. وتقدم تحقيق المسألة ( في ج ١٠ تفسير )، والآية تدل على بطلان قول بعض المبتدعة بالمؤاخذة على ما يجب بحكم العقل كالصدق والأمانة، صرح به مفسرهم الزمخشري واستثناه من حكم الآية بأنه غير موقوف على التوقيف، نعم أن حسنه يعلم بالعقل، ولكن التكليف الذي يبنى عليه جزاء الآخرة لا يصح إلا بالشرع، كما تدل عليه الآية وغيرها، وقد أمر الله بالصدق والأمانة وأوجبهما وحرم الكذب والخيانة. كما بين كل ما أراد جعله دينا للناس. قد أخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم أن ما سكت عنه فلم يبينه لنا فهو عفو منه تعالى غير نسيان، فليس لنا أن نسأل عنه، ولا أن نضع له أحكاما بآراء عقولنا. وقد بسطنا هذه المسألة في تفسير ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا ﴾ [ المائدة : ١٠٤ ] الخ ( راجع ج ٧ ) مع الفصل الملحق به الخ.
هي السورة التاسعة
وآياتها ١٢٩ عند الكوفيين و١٣٠ عند الجمهور
هي مدنية بالاتفاق، قيل إلا قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ﴾ [ الأنفال : ١١٣ ] الآية لما روي في الحديث المتفق عليه من نزولها في النهي عن استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب كما سيأتي تفصيله في تفسيرها. ويجاب عنه بجواز أن يكون نزولها تأخر عن ذلك، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول الآية مرتين : مرة منفردة ومرة في أثناء السورة.
واستثنى ابن الفرس قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول ﴾ إلى آخر الآيتين في آخرها فزعم أنهما مكيتان، ويرده ما رواه الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن، وقول الكثيرين إنها نزلت تامة. وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات يجاب عنه بأن أكثر ما روي في أسباب النزول كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا، أعني أن الرواة كانوا يذكرونها كثيرا في مقام الاستدلال، وهذا لا يدل على نزولها وحدها، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة.
ولم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة في أولها ؛ لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور. هذا هو المعتمد المختار في تعليله، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة، والمشهور أنه لنزولها بالسيف ونبذ العهود، وقيل غير ذلك مما في جعله سببا وعلة نظر، وقد يقال : إنه حكمة لا علة، ومما قاله بعض العلماء في هذه الحكمة : إنها تدل على أن البسملة آية من كل سورة أي ؛ لأن الاستثناء بالفعل كالاستثناء بالقول معيار العموم.
وقد ورد لها أسماء كثيرة هي صفات لأهم ما اشتملت عليه : فمنها سورة الفاضحة لما فضحته من سرائر المنافقين وإنبائهم بما في قلوبهم من الكفر وسوء النيات، وهذا الاسم روي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ومنها المنفرة والمعبرة والمبعثرة والمثيرة والبحوث ( كصبور ) لتنفيرها وتعبيرها عما في القلوب وبحث ذلك وإثارته وبعثرته، وكذا المدمدمة والمخزية والمنكلة والمشردة، ومعاني هذه الألقاب ظاهرة في معنى فضيحتها للمنافق، وما يترتب عليها من الدمدمة عليهم والخزي والنكال والتشريد بهم، ومنها المقشقشة، قال الزمخشري : وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه. وأشهرها الثابت التوبة وبراءة، وسائر الأسماء ألقاب لبيان معانيها. وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وفي حال الاستعداد لها في زمن العسرة والخروج إليها في القيظ، وفي أثنائها ظهر من آيات نفاق المنافقين ما كان خفيا من قبل.
وقد صرحوا بأن أولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبي صلوات الله وسلامه عليه عليا عليه السلام ليقرأها على المشركين في الموسم كما يذكر مفصلا في محله.
وفي صحيح البخاري وغيره عن البراء قال : آخر آية نزلت ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ وآخر سورة نزلت براءة١. وهو رأي له، لا رواية مرفوعة، ويحمل قوله في الآية على أنها آخر ما نزل في الكلالة، فهي بعد آيات المواريث وفي السورة على بعضها أو معظمها. وأرجح ما ورد في آخر آية نزلت أنه قوله تعالى :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ]، أو ما قبلها من آيات الربا من دونها، والأرجح أن يقال معها. وتقدم تفصيل المسألة في آخر سورة البقرة ( ج ٣ )، وأما آخر سورة نزلت تامة فالأرجح أنه سورة النصر، وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعدها أياما قليلة.
وأما التناسب بينها وبين ما قبلها فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع بعض، فهي كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيهما من أصول الدين وفروعه والسنن الإلهية والتشريع وجله في أحكام القتال وما يتعلق به من الاستعداد له وأسباب النصر فيه وغير ذلك من الأمور الروحية والمالية وأحكام المعاهدات والمواثيق- من حفظها ونبذها عند وجود المقتضي له - وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض والكافرين بعضهم مع بعض، وكذا أحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى والقلوب، فما بدئ به في الأول أتم في الثانية. ولولا أن أمر القرآن في سوره ومقاديرها موقوف على النص لكان هذا الذي ذكرناه مؤيدا من جهة المعاني لمن قال : إنهما سورة واحدة، كما يؤيده من ناحية ترتيب السور بحسب طولها وقصرها، وتوالي السبع الطول منها، ويليها المئون، والأنفال دونها.
مثال ذلك :
١ إن العهود ذكرت في سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها، ولا سيما نبذها الذي قيد في الأول بخوف خيانة الأعداء.
٢ تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب في كل منهما.
٣ ذكر في الأولى صد المشركين عن المسجد الحرام، وأنهم ليسوا بأوليائه ﴿ إن أولياؤه إلا المتقون ﴾ [ الأنفال : ٣٤ ] أي من المؤمنين، وجاء في الثانية ﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ [ الأنفال : ١٧ ] الخ الآيات.
٤ ذكر في أول الأولى صفات المؤمنين الكاملين، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين، ثم ذكر في آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين كما تقدم، وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضا.
٥ ذكر في الأولى الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وجاء مثل هذا الترغيب بأبلغ من ذلك وأوسع في الثانية، وذكرت في الأولى مصارف الغنائم من هذه الأموال، وفي الثانية مصارف الصدقات.
٦ ورد ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض في الأولى في آية واحدة، وفصل في الثانية أوسع تفصيل حتى كانت أجدر بأن تسمى سورة المنافقين من سورة ﴿ إذا جاءك المنافقون ﴾ لو كانت تسمية السور بالرأي.
﴿ إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ والأَرْضِ ﴾ لا شريك له في خلقهما ولا في تدبير شؤونهما ولا في التشريع الديني للمكلفين فيهما.
﴿ يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ أي يهب الحياة الحيوانية والحياة المعنوية الروحية بمحض قدرته ومشيئته ومقتضى سننه في التكوين والهداية الفعلية، ويميت ما شاء من الأبدان بانقضاء آجالها المقدرة في علمه، ومن الأنفس بنكوبها عن صراط هدايته.
﴿ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن ولِيٍّ ولاَ نَصِير ﴾ أي وليس لكم أيها المؤمنون أحد غير الله يتولى أمركم، ولا نصير ينصركم على عدوكم، فلا تحيدوا عن هدايته فيما نهاكم عنه من الاستغفار لأولي القربى الذين هم أهل الولاية والنصرة من عصباتكم في الأنساب، ولا في غير ذلك من أوامره ونواهيه.
﴿ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ والْمُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ ﴾ هذا خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق، بين به تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة وفي غيرها، لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى لهم بيانا قطعيا يعد مخالفه عاصيا، وقد بينا في تفسير الآية ( ١٠٤ ) أن للتوبة درجات تختلف باختلاف طبقات التوابين الرجاعين إلى الله من كل إعراض عنه. وتوبته تعالى على عباده لها معنيان عطفه عليهم وهذا أعلاهما، وتوفيقهم للتوبة وقبولها منهم، وإنما يتوبون من ذنب، وما كل ذنب معصية لله عزّ وجلّ، وقد فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله تعالى في سياق هذه الغزوة :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم ﴾ [ التوبة : ٤٣ ] ؟ وحققنا في تفسيرها مسألة ذنوب الأنبياء وكونها من الاجتهاد الذي لم يقرهم عليه ؛ لأن غيره خير منه، وأما المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم وهم خلص المؤمنين ﴿ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ فمنهم من كان ذنبه التثاقل في الخروج حتى ورد الأمر الحتم فيه، والتوبيخ على التثاقل إلى الأرض، ومنهم من كان ذنبهم السماع للمنافقين فيما كانوا يبغون من فتنة المؤمنين بالقوة والاستدراك وبالفعل.
أما العسرة فهي الشدة والضيق، وكانت عسرة في الزاد إذا كانت عند انتهاء فصل الصيف الذي نفدت فيه مؤنتهم من التمر، وأول فصل الخريف الذي بدأ فيه إرطاب الموسم الجديد، ولا يمكن حمل شيء منه، فكان يكتفي الواحد منهم أو الاثنان بالتمرة الواحدة من التمر القديم، ومنه المدود واليابس، وقد تزود بعضهم أيضا بالشعير المسوس والإهالة الزنخة، وعسرة في الماء حتى كانوا ينحرون البعير على قلة الرواحل ليعتصروا الفرث الذي في كرشه ويبلوا به ألسنتهم، وعسرة في الظّهر حتى كان العشرة يعتقبون بعيرا واحدا، وعسرة في الزمن إذ كان في حمارة القيظ وشدة الحر، ولعل التعبير بساعة العسرة للتذكير بذلك الوقت العصيب. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه في ساعة العسرة : عسرة الظّهر وعسرة الزاد وعسرة الماء، وقال ابن عباس لعمر رضي الله عنهم : حدثنا من شأن ساعة العسرة، فقال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش شديد، حتى ظننا أن رقابنا ستقطع، حتى إن كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا، فرفع يديه فلم يرجعها حتى قالت السماء، فأهطلت ثم سكبت فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر، أخرجه ابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في دلائلها والضياء في المختارة.
﴿ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾ أي اتبعوه من بعد ما قرب أن يزيغ قلوب فريق منهم عن صراط الإسلام، بعصيان الرسول حين أمر بالنفير العام، وإذ تثاقل بعضهم عن النفر ووبخهم الله تعالى في الآيات ٣٨ و ٣٩ و ٤٠، أو المعنى أنه تاب على المؤمنين كافة من بعد ما كاد يزيغ بعضهم عن الإيمان، والمراد بهم الذين تخلفوا بالفعل منهم لغير علة النفاق، وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، واعترفوا بذنوبهم تائبين فقبل الله توبتهم كما تقدم، وقال هنا فيهم ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾ وهو الظاهر من العطف بثم، وأما على التوجيه الآخر فهو تأكيد لما في أول الآية من التوبة على الجميع.
﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ وهذا تعليل لقبول توبتهم فالرأفة العناية بالضعيف والرفق به والعطف عليه، والرحمة أعم وأوسع، وتقدم تحقيق معناها في تفسير الفاتحة. قرأ ( كاد يزيغ ) بالياء التحتانية حمزة وحفص، وقرأها الباقون ( تزيغ ) بالفوقانية، والمعنى واحد فيهما إلا أن في هذه من احتمال الإعراب النحوي ما ليس في تلك.
﴿ وعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ ﴾ أي وتاب أيضا على الثلاثة الذين خلفوا عن الخروج إلى تبوك معه صلى الله عليه وسلم، وهم المرجون لأمر الله في الآية ( ١٠٦ )، أو خلفوا بمعنى أرجئوا حتى ينزل فيهم أمر الله، وهم كعب بن مالك من بني سلمة، وهلال بن أمية من بني واقف، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف.
﴿ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ أي خلفوا وأبهم الله أمرهم إلى أن شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم برحبها، أي بما وسعت من الخلق، خوفا من العاقبة وتألما وامتعاضا من إعراض النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنهم، وهجرهم إياهم في المجالسة والمحادثة والتحية.
﴿ وضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ﴾ أي وضاقت أنفسهم على أنفسهم، وإنما كان ذلك بما كانوا يشعرون به من ضيق صدورهم بامتلاء قلوبهم من الهم والغم، حتى لا متسع فيها لشيء من البسط والسرور، فكأنهم لا يجدون لأنفسهم مكانا ترتاح إليه وتطمئن به.
﴿ وظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ﴾ واعتقدوا أنه لا ملجأ لهم من سخط الله يلجئون إليه إلا إليه تعالى، بأن يتوبوا إليه ويستغفروه ويرجون رحمته، فإن الرسول البر الرؤوف الرحيم بأصحابه ما عاد ينظر إليهم ولا يكلمهم حتى يطلبوا دعاءه واستغفاره، وهو صلى الله عليه وسلم لا يشفع في الدنيا ولا في الآخرة إلا لمن ارتضى الله أن يشفع لهم.
﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي بعد ذلك كله عطف تعالى ورجع عليهم وأنزل قبول توبتهم أو وفقهم للتوبة المقبولة عنده.
﴿ لِيَتُوبُواْ ﴾ ويرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿ إِنَّ اللّهَ هُو التَّوابُ الرَّحِيمُ ﴾ إنه تعالى هو كثير القبول لتوبة التائبين، الواسع الرحمة للمحسنين، وتقدم مثله قريبا.
وإن العبرة بهذه القصة لا تتم إلا بذكر أصح الروايات وأوسعها في شرح ما بين الله من حالهم فيها، وهو حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأشهر مدوني التفسير المأثور من طريق الزهري قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، واستقبل عدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان-.
قال كعب رضي الله عنه : فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله عزّ وجلّ، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليها أصعر، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئا، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إن أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، وقلت الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه، فغدوت بعدما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، وليت أني فعلت، ثم لم يقدر لي ذلك، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذر الله، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك :" ما فعل كعب بن مالك ؟ " فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه برداه، والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل : بئسما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني ذنبي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول : بماذا أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بعضا وثمانين رجلا، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي :" تعال "، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي :" ما خلفك ؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرك " ؟ فقلت : يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيتُ جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله يسخطك علي، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عقبى من الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال صلى الله عليه وسلم :" أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك "، فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فلقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم، لقيه معك رجلان قالا ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي.
قال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس أو قال تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما. وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، فإذا التفتُّ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام. فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال : فسكت، قال : فعدت فنشدته فسكت، فعدت فنشدته. قال : الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
وبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إليّ كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا، فقرأته فإذا فيه :
أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها : وهذه أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها.
حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول برسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال : بل اعتزلها ولا تقربنها، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي : إلحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع، وليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال :" لا، ولكن لا يقربنك ". فقالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه. فقلت : والله لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدري ما يقول إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب.
قال : فلبثنا عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا، قال : ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر. فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إليّ رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ ؟ فاستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنئوني بالتوبة، ويقولون ليهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، قال : فكان كعب رضي الله عنه لا ينساها لطلحة.
قال كعب رضي الله عنه : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور :" أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ". قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال :" لا بل من عند الله "، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال :" أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك ". فقلت إني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت : يا رسول الله إنما أنجاني الله ب
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ ﴾ باتباع ما أمر به بقدر الاستطاعة، وترك ما نهى عنه، وبين تحريمه مطلقا.
﴿ وكونوا مع الصادقين ﴾ أي مع جماعة الصادقين أو منهم ( وفاقا لقراءة ابن مسعود وقد تكون تفسيرا )، دون المنافقين الذين يتنصلون من ذنوبهم بالكذب ويؤدونه بالحلف. والصادقون هم المعتصمون بالصدق والإخلاص في جهادهم إذا جاهدوا، وفي عهودهم إذا عاهدوا، وفي أقوالهم ووعودهم إذا حدّثوا ووعدوا، وفي توبتهم إذا أذنبوا أو قصروا، والمنافقون ضدهم في ذلك وغيره.
تقدم في آخر حديث كعب بن مالك المتفق عليه أن هذه الآية نزلت فيه وفي أصحابه بما صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينتحلوا لأنفسهم عذرا كاذبا في التخلف عن النفر معه. وبه قال نافع والسدي. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه :( وكونوا مع الصادقين ) مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال سعيد بن جبير والضحاك : مع أبي بكر وعمر، وابن عباس وأبو جعفر : مع علي. والحق أنها عامة كما قال ابن عمر في عهده، ومثله يقال في الصادقين من بعده، وأن الثلاثة الذين نزلت في قصتهم يدخلون في عمومها دخولا أوليا. وأن أبا بكر وعمر وعليا أفضل من هؤلاء الثلاثة، وأعرق في الصدق وأكمل. ولكني أشم من الروايتين رائحة وضع النواصب والروافض، وقيل : إن المراد بالصادقين المهاجرين، وأن أبا بكر احتج بالآية على الأنصار يوم السقيفة. وهذا القول لا وجه له، والاحتجاج به لا يصح، ووجهه القائلون به بأنه جعل الصادقين هنا هم الصادقين في آية سورة الحشر ﴿ للفقراء المهاجرين ﴾ إلى قوله ﴿ أولئك هم الصادقون ﴾ [ الحشر : ٩ ]، ومقتضاه أن يكون هذا الوصف خاصا بالمهاجرين حيث وجد في القرآن معرّفا كآية ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ﴾ إلى قوله ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [ الحجرات : ١٥ ] وقوله :﴿ ليسأل الصادقين ﴾ [ الأحزاب : ٨ ] ﴿ ليجزي الله الصادقين ﴾ [ الأحزاب : ٢٤ ] وغيرهن، وهو باطل، ولم يقل به أحد، ومع هذا لا يدل على وجوب اتباع الأنصار وغيرهم لهم في الإمامة كما قال الطوفي.
أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأشهر رواة التفسير والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا يعد أحدكم صبية شيئا ثم لا ينجزه، اقرؤوا إن شئتم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾، فهل تجدون لأحد رخصة في الكذب ؟ وأخرجه عنه الحاكم وصححه، والبيهقي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ :" إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له، إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، إنه يقال للصادق : صدق وبر، ويقال للكاذب : كذب وفجر. وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ويكذب حتى عند الله كذابا ".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن الرجل ليصدق الخ ما تقدم آنفا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الرجل ليكذب " ١ الخ ما تقدم فيما قبله، والأحاديث في فضيلة الصدق ورذيلة الكذب وكونها من صفات المنافقين كثيرة تقدم بعضها، وفي روايات عديدة :" إن المؤمن قد يطبع على كل خلق إلا الكذب والخيانة "، وإنه لا رخصة في الكذب إلا لضرورة من خديعة حرب، أو إصلاح بين اثنين، أو رجل يحدث امرأته ليرضيها، يعني في مثل التحبب إليها بوصف محاسنها ورضاه عنها، لا في مصالح الدار والعيال وغيرها، والرواية في هذا على علاتها تقيد بحديث :" إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب٢، وفي رواية " ما يغني الرجل العاقل عن الكذب " روى ابن عدي الأول عن عمران بن حصين والثاني عن علي رضي الله عنهما.
٢ أخرجه البخاري في الأدب باب ١١٦..
هاتان الآيتان في تأكيد وجوب الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه من الأجر العظيم، وحظر تخلف أحد عنه إلا بإذنه، بما فيه من تفضيل أنفسهم على نفسه.
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ﴾ ما كان بالذي يصح لأهل المدينة عاصمة الإسلام ومقر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بالذي يستقيم أو يحل لهم.
﴿ ومَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ ﴾ كمزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار.
﴿ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ ﴾ إذا خرج غازيا في سبيل الله كما فعل بعضهم في غزوة تبوك، ولا في غير هذا من أمور الملة ومصالح الأمة.
﴿ ولاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ﴾ أي ولا أن يفضلوا أنفسهم على نفسه فيصونوها، ويرغبوا بإيثار راحتها وسلامتها عن بذلها فيما يبذل فيه نفسه الشريفة القدسية مع احتمال الجهد والمشقة في سبيل الله عزّ وجلّ. يقال : رغب في الشيء إذا أحبه وآثره، ورغب عنه إذا كرهه وأعرض عنه، وقد جمع هنا بينهما بهذه العبارة المؤثرة الدالة على أن المتخلف يفضل نفسه ويؤثرها على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يكمل إيمان أحد حتى يحبه أكثر من حبه لنفسه، وهذا يصح بعده صلى الله عليه وسلم في كل راغب عن سنته والتأسي به، كالملاحدة الذين يقولون لا يجب اتباعه بعد موته، والمبتدعة والمقلدة الذين يؤثرون بدعهم ومذاهبهم على سنته.
قال الزمخشري - ونعم ما قال- : أمروا أن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقّوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعز نفس على الله وأكرمها، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها ولا يقيمون لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلا عن أن يربؤا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها، ويضنوا بها على ما سمع بنفسه عليه. وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية اه.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولاَ نَصَبٌ ولاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ أي ذلك الذي دل عليه النفي من النهي عن التخلف عنه، ووجوب الاتباع له، بسبب أن كل ما يصيبهم في جهادهم من أذى وإن قلّ، ومن إيذاء للعدو وإن صغر، فهو عمل صالح لهم به أكبر الأجر، فلا يصيبهم ظمأ لقلة الماء، أو نصب لبعد الشقة أو قلة لظهر، أو مجاعة لقلة الزاد، في سبيل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه.
ولاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّار } وطوؤهم إياه لأنه من دارهم، ويعدون وطأه اعتداء عليهم واستهانة بقوتهم، فيغيظهم أن تمسه أقدام المؤمنين أو حوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم، فكيف إذا يسر الله فتحه لهم.
﴿ ولاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً ﴾ أي ولا يبلغون من أي عدو من أعداء الله ورسوله شيئا مما أرادوا من جرح أو قتل أو أسر أو هزيمة أو غنيمة.
﴿ إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾ أي كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح مرضي لله تعالى مجزي عليه الثواب العظيم، فما أكثر هذه الأعمال الصالحات التي تعم الأمور العارضة كالجوع والعطش، وتشمل كل حركة من بطشة يد أو وطئة قدم ؟
﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ هذا تعليل لهذا الأجر العظيم يدل على عموم الحكم، وإن كان من المعلوم بالضرورة أن هذا الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم أجرا، وأنفس ذخرا، قال قتادة : إن حكم الآية خاص به صلى الله عليه وسلم وبمن جاهد معه، وقال الأوزاعي وعبد الله بن المبارك وغيرهما من علماء التابعين : هذه الآية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة. وهذا القول أصح، على ما لا يخفى من التفاوت في الأجر، فالجهاد في سبيل الله إحسان، و ﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾ ؟ [ الرحمن : ٦٠ ] في كل مكان وزمان.
هاتان الآيتان في تأكيد وجوب الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه من الأجر العظيم، وحظر تخلف أحد عنه إلا بإذنه، بما فيه من تفضيل أنفسهم على نفسه.
﴿ ولاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولاَ كَبِيرَةً ولاَ يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ ﴾ أي كذلك شأنهم فيما ينفقون في سبيل الله صغر أم كبر، قلّ أم كثر، وفي كل واد يقطعونه في سيرهم غادين أو رائحين ( وهو مسيل الماء في منفرجات الجبال وأغور الآكام، خصه بالذكر لما فيه من المشقة )، لا يترك شيء منه أو ينسى بل يكتب لهم.
﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ ﴾ بكتابته في صحف أعمالهم.
﴿ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ وهو الجهاد، فإنه عند وجوبه وفرضيته بالاستنفار له يكون أحسن الأعمال، إذ يتوقف عليه حفظ الإيمان، وملك الإسلام، وجميع ما يتبعهما من فضائل الأعمال، يقال : جزاه العمل وجزاه به. كما قال :﴿ ثم يجزاه الجزاء الأوفى ﴾ [ النجم : ٤١ ] والنص على جزائهم أحسن ما كانوا يعملون لا ينافي جزاءهم بما دونه وقد قال آنفا ﴿ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ وهو فيه، وإنما المراد النص على أن هذا العمل أحسن أعمالهم أو من أحسنها ؛ لأنه جمع بين الجهاد بالمال والجهاد بالنفس وما قبله من الثاني فقط، والجزاء على الأحسن يكون أحسن منه على قاعدة ﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها ﴾ [ النمل : ٨٩ ] وبيان ذلك بقاعدة ﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ]، وقال بعضهم : إن معنى الجملة أنه تعالى يجزيهم بكل عمل مما ذكر أحسن جزاء على أعمالهم الحسنة، أي في غير الجهاد بالمال والنفس، بأن تكون النفقة الصغيرة فيه كالنفقة الكبيرة في غيره من المبرات. والمشقة القليلة فيه كالمشقة الكثيرة فيما عداه من الأعمال الصالحات.
هذه الآية من تتمة أحكام الجهاد بالقتال، مع زيادة حكم طلب العلم والتفقه في الدين وهو آلة الجهاد بالحجة والبرهان، الذي عليه مدار الدعوة إلى الإيمان، وإقامة دعائم الإسلام، وإنما جهاد السيف حماية وسياج. وسببها أن ما ورد في فضل الجهاد وثوابه وفي ذم القاعدين عنه وكونه من شأن المنافقين دون المؤمنين الصادقين، قوى رغبة المؤمنين فيه حتى كانوا إذا أراد الرسول صلى الله عليه وسلم إرسال سرية للقاء بعض المشركين وإن قلوا انتدب لها جميع المؤمنين، ويتسابقون إلى الخروج فيها، ويدعون الرسول صلى الله عليه وسلم وحده أو مع نفر قليل كما ورد، وإنما يجب هذا في النفير العام إذا وجد سببه بقدر الحاجة لا في كل استنفار لمقاومة الكفار، على أن النفر العام قد يتعذر أو تكثير فيه الأعذار، وقيل : إنه لم يكن واجبا على عمومه إلا في عهده صلى الله عليه وسلم أو على الأنصار بمقتضى مبايعتهم له ( راجع ج ١٠ ).
﴿ ومَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾ أي ما كان شأن المؤمنين ولا مما يجب عليهم ويطلب منهم، أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد، فإن هذه السرايا من فروض الكفاية لا من فروض الأعيان، وإنما يجب ذلك إذا خرج الرسول واستنفرهم للخروج.
﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ ﴾ لولا حرف تحضيض وحث على ما تدخل عليه، أي فهلا نفر للقتال من كل فرقة كبيرة.
﴿ مِّنْهُمْ ﴾ كالقبيلة أو أهل المدينة.
﴿ طَآئِفَةٌ ﴾ أي جماعة بقدر الحاجة.
﴿ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ ﴾ أي ليتأتى لهم -أي المؤمنين في جملتهم- التفقه في الدين، بأن يتكلف الباقون في المدينة الفقاهة في الدين بما يتجدد نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات، وما يجري عليه صلى الله عليه وسلم من بيانها بالقول والعمل، فيعرف الحكم مع حكمته، ويفصل العلم المجمل بالعمل به.
﴿ ولِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ الذين نفروا للقاء العدو.
﴿ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ ﴾ أي يجعلوا جل همهم من الفقاهة بأنفسهم إرشاد هؤلاء وتعليمهم ما عملوا، وإنذارهم عاقبة الجهل، وترك العمل بالعلم.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ أي رجاء أن يخافوا الله ويحذوا عاقبة عصيانه. ويكون جميع المؤمنين علماء بدينهم قادرين على نشر دعوته، وإقامة حجته، وتعميم هدايته، فهذا ما يجب أن يكون غاية العلم والتفقه في الدين والغرض منه، لا الرياسة والعلو بالمناصب، والتكبر على الناس وطلب المنافع الشخصية منهم.
والآية تدل على وجوب تعميم العلم والتفقه في الدين، والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة، وتفقيه الناس فيه على الوجه الذي يصلح به حالهم، ويكونون به هداة لغيرهم، وإن المتخصصين لهذا التفقه بهذه النية لا يقلون في الدرجة عند الله عن المجاهدين بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله، والدفاع عن الملة والأمة ؛ بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع فرضا عينيا، والدلائل على هذا كثيرة، وما قاله بعض الأصوليين من دلالة الآية على الاحتجاج بخبر الواحد متكلف بعيد عن معنى النظم الكريم، ومبني على أن لفظ طائفة يطلق على الواحد كما قيل وهو باطل.
كنت أطلب العلم في طرابلس، وكان حاكمها الإداري ( المتصرف ) فيها مصطفى باشا بابان من سروات الكرد، وكان من أهل العلم والفقه في مذهب الشافعية، وقد قال لي مرة في دارنا بالقلمون : لماذا تستثني الدولة العلماء وطلاب العلوم الدينية من خدمة العسكرية، وهي واجبة شرعا، وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب ؟ يعرض بي أليس هذا خطأ لا أصل له في الشرع ؟ فقلت له على البداهة : بل لهذا أصل في نص القرآن الكريم وتلوت الآية، فاستكثر الجواب على مبتدئ مثلي لم يقرأ التفسير وأثنى ودعا.
وقد تعارضت الروايات المأثورة في هذه الآية، فاختلفت الأقوال في تفسيرها، والحق فيها ما قلنا وعليه الجمهور.
أخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : نسخ هؤلاء الآيات ﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ [ التوبة : ٤١ ] ﴿ وإلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ﴾ [ التوبة : ٣٩ ] قوله :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾، يقول : لتنفر طائفة، ولتمكث طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالماكثون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين يتفقهون في الدين، وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو، لعلهم يحذرون ما نزل من بعدهم من قضاء الله في كتابه وحدوده.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في المدخل عنه في الآية : يعني ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، يعني عصبة السرايا، فلا يسيرون إلا بإذنه. فإذا رجعت السرايا وقد نزل قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم، إن الله أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا، وقد تعلمناه، فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم صلى الله عليه وسلم بعدهم، ويبعث سرايا آخر، فذلك قوله :﴿ ليتفقهوا في الدين ﴾، يقول : يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم ويعملونه السرايا إذا رجعت إليهم ( لعلهم يحذرون ).
فأما قوله في الرواية الأولى بأن هذه الآية نسخت آيات النفير العام فهو قد يوافق إطلاق السلف في النسخ، ومنه عندهم تخصيص العام وتقييد المطلق، ولا يصح هنا النسخ المصطلح عليه في أصول الفقه ؛ لأن موضع النفر الخاص غير موضع النفير العام، فلا تنافي بين الأحكام، وبهذا يقول جمهور العلماء.
وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري أنه جعل الضمير في قوله تعالى :﴿ ليتفقهوا في الدين ﴾ للطائفة التي تنفر للغزو لا للتي تبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وذلك قوله : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. وزعم الطبري أن هذا القول أولى بالصواب، وأوضح ذلك بأن هذه الطائفة النافرة تتفقه بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من معاينة حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه، ( ولينذروا قومهم ) فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك ( إذا ) هم ( رجعوا إليهم ) من غزوهم ( لعلهم يحذرون ) يقول : لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله حذرا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروهم خبرهم اه.
وهذا تأويل متكلف ينبو عنه النظم الكريم، فإن اعتبار طائفة السرية بما قد يحصل لها من النصر وهو غير مضمون ولا مطرد لا يسمى تفقها في الدين وإن كان يدخل في عموم معنى الفقه، فإن التفقه هو التعلم الذي يكون بالتكلف والتدرج والمتبادر من الدين علمه. ولا يصح هذا المعنى في ذلك العهد إلا في الذين يبقون مع النبي صلى الله عليه وسلم فيزدادون كل يوم علما وفقها بنزول القرآن كما تقدم آنفا في تفسير ﴿ وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله ﴾ [ التوبة : ٩٧ ]، وما يأتي قريبا فيما ينزل من السور فيزداد به الذين آمنوا إيمانا.
وأخذ بعضهم من قول الحسن أنه يشمل السفر لأجل طلب العلم، لما في الرحلة من أسباب زيادة الاستفادة بالانقطاع للعلم ولقاء أساطينه، وعلل بعضهم فضيلة السياحة بذلك كما تقدم قريبا.
وقد بينا معنى الفقه في عرف اللغة واستعمال القرآن، وأنه أخص من العلم بفروع الأحكام، وحققناه بشواهد الآيات في تفسير ﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] ( ج ٩ تفسير ).
اعلم أن هذه الآية قاعدة من قواعد القتال الذي نزلت أهم قواعده وأحكامه في هذه السورة والتي قبلها، وإنما وضع ههنا على سنة القرآن في تفريق الموضوع الواحد الكثير الأحكام في مواضع متفرقة، وبينا حكمته آنفا عودا على بدء.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّار ﴾ أي الذين يدنون منكم وتتصل بلادهم ببلادكم، وذلك أن القتال شرع لتأمين الدعوة إلى الإسلام وحرية الدين والدفاع عن أهله، وقد كانت الدعوة موجهة إلى الأقرب فالأقرب من الكفار كما قال تعالى لرسوله ﴿ لتنذر أم القرى ومن حولها ﴾ [ الشورى : ٧ ]، وقال لأهل مكة ﴿ وأوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، أي وكل من بلغته دعوته، بل أمره أن يخص الأقرب إليه في النسب من أهل بلده أم القرى فقال :﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ].
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال : كان الذين يلونه من الكفار العرب فقاتلهم حتى فرغ منهم، وعن قتادة قال : الأدنى فالأدنى، وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سأل عن غزو الديلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" قاتلوا الذين يلونكم من الكفار "، قال :" الروم " اه يعني أن الروم هم المراد بالكفار في الآية ؛ لأنهم كانوا عند نزولها في هذه السورة بعد الفراغ من أمر يهود المدينة وخيبر هم الذين يلونهم في تبوك وسائر بلاد الشام.
وترجيح البدء بالأقرب فالأقرب معقول من وجوه كثيرة، كالحاجة والإمكان والسهولة والنفقة، ولذلك كانت القاعدة فيه عامة في الدعوة والقتال والنفقات والصدقات، وكذا ما يدار في المجلس من شراب ونحوه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي من على يمينه وإن لم يكن أفضل الجالسين، ثم الذي يليه فالذي يليه، وأمر بأن يأكل الإنسان مما يليه. وإنما تطرد القاعدة في الحالة العادية، وأما ما يعرض من ضرورة في كل ذلك فله حكمه، فأحكام الضرورات مستثناة في الواجبات والمحرمات والآداب.
﴿ ولْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ أي وليجدوا فيكم شدة وخشونة في القتال ومتعلقاته كما تقدم في تفسير آية ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ والْمُنَافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ٧٣ ] ( ج ١٠ )، والغلظة على المقاتلين في زمن الحرب من مقتضيات الطبيعية والمصلحة، وتنكيرها في الآية يدل على أن لأولي الأمر أن يحددوها في كل زمن وكل حال بما يتفق مع المصلحة، وإنما أمروا بها على كونها طبيعية لتقييد ما أمروا به في الأحوال العامة من الرفق والعدل والبر في معاملة الكفار، حتى صار ذلك من أخلاق الإسلام، وأمر القتال مبني على الشدة والغلظة في كل الأمم، وقد حرم فظائعها الإسلام كما تقدم في تفسير سورة الأنفال، وقد بلغت فظائعها عند الإفرنج في هذا العصر ما يخشى أن يفضي إلى تدمير العمران كله.
﴿ واعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ له مراعاة أحكامه وسننه بالمعونة والنصر، وأهمها ما يجب اتقاؤه في الحرب، من التقصير في أسباب النصر والغلب التي بينها في كتابه، والتي تعرف بالعلم والتجارب، كإعداد ما يستطاع من قوة، والصبر والثبات، والطاعة والنظام، وترك التنازع والاختلاف، وكثرة ذكر الله، والتوكل عليه فيما وراء الأسباب، وقد بينا حقيقة معنى التقوى وأنواعها، واختلاف المراد منها باختلاف مواضعها في تفسير ( ٢٩ : ٨ ج ٩ ).
﴿ وإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ ﴾ كلمة " ما " بعد " إذ " تفيد التأكيد لمضمون شرطها، يعني وإذ تحقق إنزال الله تعالى على رسوله سورة من القرآن.
﴿ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً ﴾ أي فمن المنافقين من يتساءل مع إخوانه للاختبار، أو مع من يلقاه من المسلمين كافة للتشكيك، قائلا : أيكم زادته هذه السورة إيمانا ؟ أي يقينا بحقية القرآن والإسلام، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن في كل سورة من القرآن آيات على صدقه صلى الله عليه وسلم بما فيها من ضروب الإعجاز العامة الدالة على أنها من عند الله تعالى، وكون محمد صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يأتي بمثلها من تلقاء نفسه، فالسؤال عن الإيمان بأصل الإسلام وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه عن الله عزّ وجلّ، وهو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وخضوع الوجدان الذي يستلزم العمل، لا مجرد اعتقاد صدق الخبر، الذي يقابله اعتقاد كذبه، فإن أشد الناس كفرا أولئك المصدقون الجاحدون الذين قال الله لرسوله فيهم :﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ]، ومثله قوله :﴿ وجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٤ ]، ولا شك أن الإيمان بمعناه الذي قلناه يزيد بنزول القرآن في عهد الرسول، وناهيك بمن يحضر نزوله عليه ويسمعه منه، وكذا يزيد بتلاوته وبسماعه من غيره أيضا ثباتا في قلب المؤمن، وقوة إذعان، وصدق وجدان، ورغبة في العمل والقرب من الله.
قال الله تعالى في جواب هذا السؤال وهو العليم الخبير :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾ فأثبت تعالى للمؤمن زيادة الإيمان بزيادة نزول القرآن، وهو يشمل الزيادة في حقيقته وصفته من اليقين والإذعان واطمئنان القلب، وفي متعلقه وهو ما في السورة من مسائل العلم، وفي أثره من العمل والتقرب إلى الرب. وإنما يتساءل المنافقون عن الأول وهو الذي يفقدونه، وإنما غيره تابع له.
﴿ وهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ أي والحال أنهم يسرون بنزولها، وتستدعي زيادة الإيمان في قلوبهم البشرى، والارتياح بما يرجون من خير هذه الزيادة بتزكية أنفسهم، وأثر ذلك في أعمالهم في الدنيا والآخرة.
﴿ وأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ أي شك وارتياب يدعو إلى النفاق بإسرار الكفر وإظهار الإسلام.
﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ﴾ أي كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق الذي هو أقذر الرجس النفسي وشر أنواعه.
﴿ ومَاتُواْ وهُمْ كَافِرُونَ ﴾ أي واستحوذ ذلك عليهم ورسخ فيهم، فكان مقتضى سنة الله تعالى في تأثير الأعمال في صفات النفس أن من مات منهم مات على كفره، وسيموت من بقي منهم وهم متلبسون بالكفر، وهاك الدليل على ذلك :
﴿ أَولاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ﴾ الاستفهام لتقرير مضمون الحكم عليهم، والحجة عليه، وهو داخل على فعل محذوف للعلم به من المقام، والمعنى أيجهلون هذا ويغفلون عن حالهم فيما يعرض لهم عاما بعد عام من تكرار الفتون والاختبار، الذي يظهر به استعداد الأنفس للإيمان أو الكفر، والتمييز بين الحق والباطل، كالآيات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من نصر الله له ولمن اتبعه، وخذلان أعدائه من الكفار والمنافقين ووقوع ما أنذرهم، ومن إنباء الله رسوله بما في قلوبهم، وفضيحتهم بما يسرون من أعمالهم، كما فصل في هذه السورة وذكر بعضه في غيرها. وقرأ حمزة ويعقوب ( أو لا ترون ) على أن الخطاب للمؤمنين الذين قد يروعهم الخبر المؤكد وقوعه بموتهم على كفرهم، كأنه يقول : أتعجبون من الحكم عليهم بهذه العاقبة السوءى، ولا ترون الدلائل الدالة عليها من فتنتهم وابتلائهم المرة بعد المرة، سنة بعد سنة، بما من شأنه أن يذهب بشكهم ويشفي مرض قلوبهم، من آيات الله فيهم وفي غيرهم.
﴿ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ ولاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي ثم تمرّ الأعوام على ذلك ولا يتوبون من نفاقهم، ولا يتعظون بما حلّ بهم مما أنذرهم الله تعالى به، وهل بعد هذا من برهان على انطفاء نور الفطرة والاستعداد للإيمان أقوى من هذا ؟ إن كان وراءه برهان أقوى منه فهو أنهم يفرون من العلاج الذي من شأنه أن يشفيهم من مرض قلوبهم، وهو ما أكد به ما قبله بقوله :﴿ وإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾
﴿ وإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾ هذا بيان لحال المنافقين الذين كانوا يكونون في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم عند نزول سورة، وما يكون من فعلهم وقولهم عند تلاوته لها وما قبلها في بيان حالهم إذا بلغهم نزول سورة من حيث البحث عن تأثيرها، وقد يقال : إن الأولى تشمل من سمع منه ومن بلغ عنه، والعبرة بموضوعها، لا بطريقة العلم بها، وإن هذه أدل على رسوخهم في الكفر وعدم الطمع في رجوعهم عنه، بإثباتها أنهم يكرهون سماع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أشد تأثيرا من سماعه من غيره في الهداية، ولذلك كان المشركون يمنعونه من تلاوته على الناس لئلا يهتدوا بسماعه منه، فإن لم يتمكنوا من إسكاته أعرضوا عن سماعه ولغوا فيه، ومنعوا صاحبه الصديق أيضا من الصلاة في المسجد الحرام، ثم من مسجده الخاص، لما رأوا النساء والصبيان يجتمعون لسماع القرآن منه، ويتأثرون بخشوعه فيه :
يقول : وإذا أنزلت سورة وهم في المجلس تسارقوا النظر، وتغامزوا بالعيون على حين تخشع أبصار المؤمنين، وتنحني رؤوسهم، وتجب قلوبهم، وترامقوا بالعيون يتشاورون في الانسلال من المجلس خفية لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من الإنكار والسخرية بالوحي، قائلا بعضهم لبعض بالإشارة أو العبارة :﴿ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ﴾ أي من الرسول والمؤمنين إذا نحن انصرفنا كارهين لسماعها.
﴿ ثُمَّ انصَرَفُواْ ﴾ يتسللون لواذا إلى مجامعهم الخاصة بهم، والتعبير بثم لبيان تراخي فعلهم عن وقت لقولهم، إلى سنوح فرصة الغفلة عنهم ولو أفرادا، فكلما لمح أحد منهم غفلة من المؤمنين عنه انصرف.
﴿ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم ﴾ هذه الجملة تحتمل الدعاء والخبر، ومضمونها النهائي في كلام الله واحد كما تقدم نظيره قريبا. والمعنى صرف الله قلوبهم عن صدق الإيمان، والاهتداء بآيات الله في القرآن، المرشدة إلى آياته في الأكوان.
﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ﴾ أي بسبب أنهم قوم فقدوا صفة الفقاهة الفطرية وفهم الحقائق وما يترتب عليها من الأعمال، لعدم استعمال عقولهم فيها، فهم لا يفقهون ما يسمعون من هذه الآيات لعدم تدبرها، والإعراض عن النظر والتأمل في معانيها، وموافقتها للعقل، وهدايتها إلى الحق والعدل، ذلك بأنهم اتخذوا أنفسهم أعداء وخصوما للرسول، فوطنوا أنفسهم على الإعراض عن كل ما جاء به من غير بحث ولا تأمل فيه : أمعقول أم غير معقول ؟ أحق أم باطل ؟ أخير أم شر ؟ أهدى أم ضلال ؟ أنافع أم ضار ؟ فأنى يرجى لهم وهذه حالهم أن يهتدوا بتعدد نزول الآيات والسور ؟ إنما مثلهم كمثل أعداء الإسلام من أهل الملل التي جروا على نظام تعليمي وتربية وجدانية عملية في عصبيتهم الدينية والقومية وارتباط منافعهم الاجتماعية والسياسية بها : لقنهم رؤساؤهم أنه يوجد دين اسمه الإسلام بني أساسه على عداوتكم لذاتكم، فيجب عليكم أن لا تنظروا فيه إلا أن يكون للبحث عن مطعن ولو متكلف تلمزونه به، ولا تفكروا في شيء من حال أهله في دينهم ودنياهم إلا للعداوة والتحقير لهم، وتدبير المكايد للعدوان عليهم، وإذا ظهر لكم شيء حسن من دينهم فوجهوا كل قواكم العقلية وبلاغتكم الكلامية إلى تشويهه وذمه والصد عنه، وهذا ما يفعله رجال الكنائس النصرانية على اختلاف مذاهبهم كما بيناه في غير هذا الموضع.
ومن المباحث الكلامية في الآيات الخلاف في زيادة الإيمان ونقصه، على مذهبين في إثبات ذلك ونفيه، وجمهور السلف من الصحابة والتابعين وحفاظ السنة على الإثبات، وهذه المسألة من أغرب مسائل عصبيات المذاهب عند النظار الجدليين ومقلديهم، وما كان ينبغي لمسلم أن يجعل هذا موضع خلاف لبحث بعض من ينتسب إليهم في مفهوم لفظ الإيمان الذي يتحقق باعتقاده الدخول في الملة : هل يقبل الزيادة والنقصان في ذاته ؟ أم المراد من هذه الآية وما في معناها متعلق الإيمان من العقائد والأحكام التي كانت تشتمل عليها السورة ؟ واستبعاد أن يكون التصديق الذي يكون به الكافر مؤمنا قابلا للزيادة والنقصان، وهي نظرية باطلة، وقد بينا معنى الآية بما يدل على أن قصر زيادة الإيمان فيها على التصديق بزيادة العلم بما تضمنته باطل، لأن هذا بديهي لا يمكن أن يكون هو الذي سأل عنه المنافقون، ونصوص القرآن الكثيرة صريحة في زيادة الإيمان ونقصه، وكذلك الأحاديث الصحيحة التي صرح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أقل الإيمان -وهو المنجي من الخلود في النار- كالذرة أو الخردلة من الإيمان الكامل الذي لا يمس أهله من عذاب النار شيء، كالذين وصفهم الله بقوله :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وجلّتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٢ ] الخ وقوله :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ﴾ [ الحجرات : ١٥ ] الخ.
والتحقيق أن اليقين في الإيمان وغيره له درجات متفاوتة في القوة والضعف، واليقين الذي يصح به الإيمان هو اليقين اللغوي، وهو الاعتقاد الجازم في غير الحسيات والضروريات كما بيناه في مواضع أولها تفسير ﴿ وبالآخرة هم يوقنون ﴾ [ البقرة : ٤ ]، وهو درجات منها التقليد الجازم، ومنها المعلوم بالنظر والاستدلال، وقد يطرأ عليهما الشك والزوال، ولولا ذلك ما تصور ارتداد مؤمن عن دينه، ومنها ما يصير وجدانا ضروريا بشرح الصدر، والنور الإلهي بكثرة الذكر والفكر والعبادة.
وأما اليقين المنطقي العلم القطعي بالبرهان بأن هذا الشيء كذا مع العلم القطعي باستحالة أن يكون غير كذا، فهو الذي قالوا إنه لا يقبل الزيادة والنقصان، ولكنه نادر الوقوع في غير الضروريات، ولا تتوقف عليه صحة الإيمان، ومع هذا يمكن أن يقال : إنه قابل للزيادة في وصفه وطمأنينة القلب به، وفي ترتيب آثاره عليه. ومثال الأول أن ترى شبحا في سدفة الفجر فتعلم أنه إنسان في انتصاب قامته، ثم تزداد علما به كلما انتشر الضياء، حتى يكون العلم به تفصيليا. والبرهان المنطقي المفيد لهذا اليقين عندهم لا تكون مقدماته النظرية في درجة الضروريات قوة وثباتا. وقد قسم بعضهم اليقين إلى ثلاث درجات : علم اليقين وهو ما يعلم بالدليل، وعين اليقين وهو ما يكون بالمشاهدة والكشف، وحق اليقين وهو ما يكون بالذوق والوجدان. ومثل لها بعضهم بالفناء عند الصوفية، وبعضهم بالموت، فكل أحد عنده علم اليقين بأنه يموت، فإذا عاين ملائكة الموت عند الحشرجة وقبل قبض الروح كان عين اليقين، فإذا مات بالفعل وصل إلى درجة حق اليقين، لكن هذه الدرجة وما قبلها لا يتعلق بهما بالتكليف.
ختم الله تعالى هذه السورة بهاتين الآيتين اللتين قال أبي بن كعب رضي الله عنه إنهما آخر ما نزل، وبينا في الكلام على السورة قبل الشروع في تفسيرها ما يعارضه، وسنحقق المسألة بعد الفراغ من تفسير الآيتين.
﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ جمهور المفسرين على أن الخطاب هنا للعرب، فهو في معنى قوله :﴿ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ﴾ [ الجمعة : ٢ ]، فالمنة به صلى الله عليه وسلم على قومه أعظم، والحجة عليهم به وبكتابه أنهض، وأخص قومه به قبيلة قريش، فعشيرته الأقربون بنو هاشم وبنو المطلب، ولو لم يؤمن به وبكتابه العرب لما آمن العجم، وهو مبعوث إلى جميع الناس كما تقدم في قوله :﴿ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ﴾ [ الأعراف : ١٥٨، ولكنه وجه دعوته إلى الأقرب فالأقرب على القاعدة التي بيناها آنفا في قتال الأقرب فالأقرب، فالعرب آمنوا بدعوته مباشرة، والعجم آمنوا بدعوة العرب، العرب آمنوا بفهم القرآن وبيانه صلى الله عليه وسلم له بالتبليغ والعمل، وبما شاهدوا من آيات الله تعالى في شخصه، والعجم آمنوا بدعوة العرب، وما شاهدوا من عدلهم وفضائلهم، ثم بدعوة بعضهم لبعض بعد انتشار الإسلام فيهم.
وقال الزجاج : إن الخطاب للعالم كله لعموم بعثته، فيكون بمعنى ما يأتي في أول السورة التالية ﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ﴾ [ يونس : ٢ ] الخ، ولكن آية أول سورة يونس هذه في الرد على منكري كون البشر رسولا من الله، وهو المحكي عن جميع كفار الأمم، وآية آخر سورة براءة في امتنان الله عزّ وجلّ على من أرسل إليهم الرسول من أنفسهم وصميم قومهم، لتأييد الحجة بالمنة، والترغيب في إجابة الدعوة، فإن من طبع كل قوم حب الاختصاص بالفضل والشرف على غيرهم، كما قال تعالى في امتنانه عليه بالقرآن المجيد ﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ [ الزخرف : ٤٤ ]، أي شرف لك ولهم، تذكرون به في العالم، ويدوّن لكم في التواريخ، وإنما قاومه وعانده أكابر قومه حتى من بني هاشم أنفة واستكبارا عن اتباعه، وهم يرونه دونهم، ولما يتضمن اتباعه من الإقرار بكفرهم وكفر آبائهم وأجدادهم الذين يفاخرون بهم، مع عدم ثقتهم بفوزه وبأنهم ينالون باتباعه من مجد الدنيا فوق ما كانوا عليه بمسافات تطاول السماء رفعة وشرفا، دع ما هو فوق مجد الدنيا من سعادة الآخرة، ثم إنهم صاروا يفتخرون بكونه صلى الله عليه وسلم منهم، بأكثر مما يبيحه دينه لهم، حتى صار أقربهم يتكل على نسبه فيقصر في العلم والعمل.
وقد أكد تعالى هذه المنة الخاصة بوصفه هذا الرسول بقوله :﴿ عزيز عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ الخ العنت المشقة ولقاء المكروه الشديد، وقيده الراغب بما يخاف منه الهلاك، وعزّ على فلان الأمر : ثقل واشتد عليه، وقالوا : هو كناية عن الأنفة عنه، وما مصدرية، أي شديد على طبعه وشعوره القومي عنتكم ؛ لأنه منكم، وهذا يشمل ما يكون في الدنيا وما يكون في الآخرة، فلا يهون عليه أن يكونوا في دنياهم أمة ضعيفة ذليلة يعنتها أعداؤها بسيادتهم عليها وتحكمهم فيها، ولا أن يكونوا في الآخرة من أصحاب النار.
﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُم ﴾ الحرص شدة الرغبة في الحصول على المفقود، وشدة العناية بحفظ الموجود، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على اهتداء قومه به بإيمان كافرهم وثبات مؤمنهم في دينه، كما قال تعالى له :﴿ إن تحرص على هداهم ﴾ [ النحل : ٣٧ ]، وقال :﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ].
﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين، فكل ما يدعوهم إليه من العمل بشرائع الله تعالى فهو دليل على ثبوت هذه الصفات الكاملة والعواطف السامية له صلى الله عليه وسلم بنص الله تعالى، وهو أرحم بالمؤمنين وأرأف، وكل شاق منها كالجهاد فهو منجاة مما هو أشق منه، ولا شيء من الشاق منها ببالغ حد العنت، للقطع في هذا الدين بنفي العسر والحرج.
وصف الله تعالى رسوله بصفتين من صفاته العلى، وسماه باسمين من أسمائه الحسنى، بعد وصفه بوصفين هما أفضل نعوت الرؤساء والزعماء المدبرين لأمور الأمم بالحق والعدل والفضل، وفي الصحاح والقاموس أن الرأفة أشد الرحمة. وجعلهما بعض اللغويين والمفسرين بمعنى واحد. وقال بعضهم : إن الرأفة أخص، لا تكاد تقع في الكراهية، والرحمة قد تقع في الكراهية للمصلحة، واختار الرازي أنها مبالغة في رحمة مخصوصة من دفع المكروه وإزالة الضرر. وقال أستاذنا إنها لا تستعمل إلا في حق من وقع في بلاء، اختيارا لقول الرازي ( ج ٢ تفسير )، وأصح منه أنها تستعمل في مكان الضعف والشفقة والرقة كقولهم : رأف بولده وترأف به، وتقديمه على الرحيم هو الواجب، كأنه قال : رؤوف بضعفاء المؤمنين وأولي القربى منهم، ورحيم بهم كلهم، وتخصيص رأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين، في مقابلة ما أمر به هو الغلظة على الكفار والمنافقين، لا يعارض كون رسالته رحمة للعالمين، كما هو ظاهر، فإن هذه الرحمة مبذولة لجميع الأمم، لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم، ولكن منهم من قبلها ومنهم من ردها، وقد بينا في تفسير ( وأغلظ عليهم ) أنه إنما أمر بذلك صلوات الله تعالى عليه لأن الغالب على طبعه الشريف الرقة والرحمة والأدب في المقابلة والمعاشرة. وقد قال تعالى :﴿ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ].
وفي التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه في الآية ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ قال : ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريها وربيعيها ويمانيها، يعني أن نسبه متشعب في جميع قبائل العرب وبطونها. وعنه في ﴿ عزيز عليه ما عنتم ﴾ قال : شديد عليه ما شق عليكم. ﴿ حريص عليكم ﴾ أن يؤمن كفاركم.
ومن القراءة الشاذة في الآية ﴿ أنفسكم ﴾ بفتح الفاء من النفاسة، رواها ابن مردويه من حديث علي مرفوعا، وقرأ بها ابن عباس والزهري وابن محيصن، ورويت عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر، وهي خبر واحد لا يثبت بها القرآن، وفيها أن المعهود في فصيح الكلام أن النفيس والأنفس مما يوصف به الأشياء لا الأشخاص.
الأولى ما ورد في كتابة الآيتين عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وكونهما آخر ما نزل
إن معنى هاتين الآيتين لا يظهر إلا في دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة في أول زمن البعثة، وقد ذكرت في الكلام على هذه السورة قبل البدء بتفسيرها أن ابن أبي الفرس قال : إنهما مكيتان، وأنه يرد قوله ما ورد من أنهما آخر ما نزل من القرآن، ثم ذكرت هنالك أصح ما ورد في آخر ما نزل من القرآن، وهو غير هاتين الآيتين.
وأقول الآن : إن قول ابن أبي الفرس هو الوجيه من جانب المعنى، فهو يؤيد الرواية، وأما القول بأنهما آخر ما نزل فقد أخرج في بعض المسانيد والتفاسير المأثورة عن أبي بن كعب بألفاظ متقاربة منها : عن ابن عباس عنه : أن آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم- وفي لفظ أن آخر ما أنزل من القرآن- ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ الخ آخر الآية، ومنها : عن الحسن عنه أنه كان يقول : إن أحدث القرآن عهدا بالله ـ وفي لفظ بالسماء ـ هاتان الآيتان ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ الخ السورة، ومنها : من طريق أبي العالية عنه أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون ويملّ عليهم أبي بن كعب، حتى انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة ﴿ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ﴾ [ التوبة : ١٢٧ ] فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن، فقال أبي بن كعب إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرأني بعد هذا آيتين ﴿ لقد جاءكم ﴾ ـ إلى ـ ﴿ رب العرش العظيم ﴾، قال فختم الأمر بما فتح به : بلا إله إلا الله اهـ. وهو صريح في أنهما آخر ما نزل من هذه السورة، لا من القرآن مطلقا ؛ إلا إذا صح أن سورة براءة آخر سورة نزلت، والصحيح في الرواية أن آخر ما نزل من السور سورة النصر، ومن الآيات ﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ] كما تقدم في محله.
وفي حديث زيد بن ثابت في جمع القرآن المكتوب الذي كان متفرقا في عهد أبي بكر عند ابن سعد وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم أنه قال : حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ إلى آخرهما اهـ، والمراد أنه لم يجدهما مكتوبتين عندما جمع المكتوب في الرقاع والأكتاف والعسب في هذه السورة إلا عند خزيمة، وفي رواية في البخاري وغيره عند أبي خزيمة، وهي أرجح كما سيأتي، إلا أن تكونا وجدتا عند كل منهما، وكانتا محفوظتين للكثيرين كما صرح به في الروايات الأخرى.
فقد أخرج ابن إسحاق وأحمد وابن أبي داود في المصاحف عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة ﴿ لقد جاءكم رسول ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وهو رب العرش العظيم ﴾ إلى عمر فقال : من معك على هذا ؟ فقال : لا أدري والله إلا أني أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما وحفظتهما، فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن فألحقت في آخر براءة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر فقال عمر : لا أسألك عليها بينة أبدا، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أن خزيمة بن ثابت جاء عثمان حين تصدى لكتابة القرآن بعد مقتل عمر فقال : إني رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما، فقالوا ما هما ؟ قال : تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ﴾ الخ السورة. فقال عثمان : وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما ؟ قال : اختم بهما آخر ما نزلت من القرآن، فختمت بهما براءة.
فيؤخذ من مجموع الروايات أن الآيتين كانتا محفوظتين مشهورتين إلا أنهم اختلفوا في موضعهما، ففي بعضها أنهما آخر سورة براءة بالتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها أنهما وضعتا بالرأي والاجتهاد، والمعتمد الأول قطعا ؛ لأن من حفظ التوقيف حجة على من لم يحفظ. والظاهر أن سبب الاختلاف في موضعهما أن موضوعهما يدل على أنهما مكيتان، ولم تصح لجماعة جامعي المصحف رواية بكتابتهما في إحدى السور المكية، ولكن وجدتا عند أبي خزيمة مكتوبتين في آخر براءة.
وفي الصحيح أن زيد بن ثابت الذي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمره أبو بكر بجمع القرآن مع آخرين، وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون، قال : فوجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة بالشك، وهو من الراوي لا من زيد، وفي رواية عنه مع خزيمة، والتحقيق الذي قرره الحافظ ابن حجر أن آخر التوبة وجد عند أبي خزيمة، وأما الذي وجد مع خزيمة فهو آية الأحزاب، وذلك ما رواه البخاري في تفسير سورتها عن زيد بن ثابت، قال : لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين من المؤمنين ﴿ رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴾، قال الحافظ في شرحه : هذا يدل على أن زيدا لم يكن يعتمد في جمع القرآن على علمه، ولا يقتصر على حفظه. لكن فيه إشكال ؛ لأن ظاهره أنه اكتفى مع ذلك بخزيمة وحده، والقرآن إنما يثبت بالتواتر. والذي يظهر في الجواب أن الذي أشار إليه أنه فقده فقْدُ وجودِها مكتوبة لا فقْد وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره، ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن :" فجعلت أتتبعه من الرقاع والعسب، كما سيأتي مبسوطا في فضائل القرآن " اهـ.
وأقول : إنني قد ذكرت آنفا أن هذا هو المراد منه، وهو ما كنت أفهمه دون غيره، وأجيب به من سألني عنه مستشكلا، فقول الحافظ : والذي يظهر الخ كان يجب أن يكون : والذي يتعين القطع به كذا، وحسبك دليلا على هذا أنه قال : إنهم كانوا يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فهو صريح في أن البحث كان عمن كتبها فقط، وجملة القول أن الآيتين كانتا محفوظتين ومكتوبتين ومعروفتين لكثير من الصحابة، وإنما اختلفوا عند الجمع في موضع كتابتهما حتى شهد من شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعهما في آخر سورة براءة وفاقا لقول أبي بن كعب الذي ثبت في الصحيح أنه أحد الذين تلقوا القرآن كله مرتبا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا زيد بن ثابت. وكان عدد المختلفين في موضوعهما قليلا، فلما كتبتا في المصاحف وافق الجميع على وضعهما ههنا، ولم يروا أي اعتراض على ذلك عمن كتبوا لأنفسهم مصاحف اعتمدوا فيها على حفظهم كابن مسعود رضي الله عنه.
بقي البحث في حكمة وضعهما في آخر هذه السورة المدنية وموضوعهما مكي، يؤيده كون الخطاب فيهما لقومه صلى الله عليه وسلم ما جزم به جماهير المفسرين، وما هما بأول ما وضع من الآيات المكية في السور المدنية لمناسبة اقتضت ذلك. ولعل الحكمة في ذلك أن يفيدا بموضوعهما صحة الخطاب بهما لكل من تبلغه الدعوة من أمة الإجابة، وهو ما ذهب إليه الخطابي، كما دل موضوعهما ونزولهما بمكة ـ كما قال ابن أبي الفرس ـ على كون الخطاب فيهما لقومه صلى الله عليه وسلم، وهو ما جزم به الجماهير، ويكون ما قلناه جامعا بين الأقوال كلها.
طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم،
وفضل قومه، واصطفاؤه من خيارهم
من المأثور في تفسير الآيتين ما ذكروا في قوله تعالى :﴿ رسول من أنفسكم ﴾ من الأحاديث المرفوعة في طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم من سفاح الجاهلية، ومن فضل قومه وعشيرته وعترته وأهل بيته على غيرهم، وأصح ما ورد في هذا ما رواه مسلم والترمذي من حديث واثلة رضي الله عنه مرفوعا :" إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم " ١، ولم أر لأحد من العلماء بيانا لمعنى هذا الاصطفاء بم كان ؟ وقد وفقني الله لاستنباطه من التاريخ العام، وبينته في المنار، وفي خلاصة السيرة المحمدية في جواب السؤال عن حكمة بعثه خاتم النبيين بالرسالة العامة للناس أجمعين، بالدين العام للبدو والحضر، من العرب الذين غلبت عليهم جهالة البدو، وبعد عهدهم بما سبق لأمتهم من الحضارة والعلم، ولم يبعث من بعض شعوب الحضارة القريبة كالفرس والروم والهند والصين، ويليه السؤال عن مزية كنانة في العرب من آل إسماعيل، الذين امتازوا على سائر العرب بأنهم ممن اصطفى الله من آل إبراهيم، ثم عن مزية قريش في بني كنانة، وفضل بني هاشم على سائر قريش ؟
خلاصة ما بينته في فضل العرب على سائر الأمم، الذي أعدهم به الله لبعثة سيد البشر من العرب والعجم، بالدين العام الباقي، هي أن جميع شعوب الحضارة المشار إليها وغيرها كانت قد فسدت غرائزها وأخلاقها الفطرية، وعقائدها الدينية، وآدابها التقليدية، بفساد رؤساء الدين والدنيا فيها، وتعاون الفريقين على استعبادها واستذلالها لهما، وتسخيرها لتوفير لذاتهما وتشييد صروح عظمتهما، بسلب حريتهم العقلية بالتقاليد الدينية التي يفرض عليهم الكهنة والأحبار والقسوس الخضوع لها، بدون أن يكون لهم أدنى رأي أو اختيار أو فهم فيها، وسلب حرية إرادتهم في حياتهم الشخصية والاجتماعية، بما يضع لهم الملوك والحكام من القوانين والنظم الإدارية والعسكرية الاستبدادية، وبتحكمهم فيهم بدون قانون ولا نظام أيضا، فجميع الأمم والشعوب كانت مرهقة مستعبدة في دينها ودنياها إلا العرب، ولاسيما عرب الحجاز.
وأما العرب فلم يكن عندهم رياسة حكم استبدادية تستذلهم وتفسد بأسهم وتقهر إرادتهم على ما لا يريدون، ولا رياسة دينية تقهرهم على اتباع تقاليد تعبدية لا يعقلونها، بل كانوا على أتم الحرية العقلية واستقلال الإرادة في دينهم ودنياهم، وفي أعلى ذروة من عزة النفس، وشدة البأس، فبحرية عقولهم كانوا على أتم الاستعداد للنهوض بما اعتقدوا حقيته وصلاحه وخيريته، ولإقامته في قومهم، ونشره في غيرهم، والدفاع عنه باختيارهم، وتصرفهم في كل ذلك بمقتضى الوازع النفسي، دون تحكم رئيس ديني ولا دنيوي، فإن هذا الدين إنما أوجب طاعة الأئمة والقواد بالمعروف والإذعان للشرع، وما تضعه الأمة لنفسها من النظام بالشورى بين ممثليها من أهل الحل والعقد، حتى فرض الله على الرسول صلى الله عليه وسلم مشاورتها في أمورها، وقال له ربه في صيغة مبايعة نسائها له ﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾، وبها كان يبايع الرجال كالنساء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف " ٢ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي كرم الله وجهه.
وأما كنانة فقد كان أشهر ذرية إسماعيل في العلم والحكمة، والكرم والنبل، حتى كانت العرب تحج إليه، وينقلون عنه حكما رائعة، وكفى بهذا اصطفاء عليهم، وامتيازا فيهم.
وأما امتياز قريش على سائر العرب فهو معروف متواتر، وأهمه أن ما ذكرناه من عزة النفس، واستقلال الإرادة والعقل، كان أكمل فيهم، فإن بعض العرب في أطراف جزيرتهم خضعوا لسيادة الفرس والروم خضوعا ما، وجملته أ
ختم الله تعالى هذه السورة بهاتين الآيتين اللتين قال أبي بن كعب رضي الله عنه إنهما آخر ما نزل، وبينا في الكلام على السورة قبل الشروع في تفسيرها ما يعارضه، وسنحقق المسألة بعد الفراغ من تفسير الآيتين.
﴿ فَإِن تَولَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ ﴾ هذا التفات عن خطاب أمة الرسول أو قومه الذين امتن الله تعالى عليهم بمجيئه رسولا إليهم من أنفسهم وبفضائله العائدة عليهم، إلى خطابه صلى الله عليه وسلم وبيان ما يجب عليه في حال إعراضهم عن الاهتداء والانتفاع بما خاطبهم به ربهم في شأنه. يقول : فإن تولوا وانصرفوا عن الإيمان بك والاهتداء بما جئتهم به، فقل : حسبي الله، أي هو محسبي الذي يكفيني أمر توليهم وإعراضهم، وما يعقبه من عداوتهم لي وصدهم عن سبيله، وقد بلغت وما قصرت.
﴿ لا إِلَهَ إِلاَّ هُو ﴾ أي لا معبود غيره ألجأ إليه بالدعاء والاستعانة كما يلجئون إلى آلهتهم المنتحلة.
﴿ عَلَيْهِ تَوكَّلْتُ ﴾ وحده، فلا أكل أمري فيما أعجز عنه إلى غيره، وكيف لا أخصه بالتوكل ﴿ وهُو رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ الذي هو مركز تدبير أمور الخلق كلها، كما قال في الآية الثالثة من السورة التالية ﴿ ثم استوى على العرش يدبر الأمر ﴾ [ يونس : ٣ ].
قرأ جمهور القراء العظيم بالخفض على أنه صفة للعرش، وقرئ بالرفع على أنه صفة لرب، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير.
وعظمة العرش بعظمة الرب الذي استوى عليه، وعظمة الملك الكبير الذي هو مركز تدبيره ووحدة النظام فيه، وعظمتهما في الملأ الأعلى وفيما دونه هي المظهر الوجودي لعظمة هذا الرب التي لا تحد، ولا يدرك كنهها أحد، ودليل على أنه الإله الحق الذي لا يصح أن يعبد غيره ولا يتوكل على سواه، وكيف يعبد غيره بالدعاء أو غيره أو يتوكل على سواه من يعلم أنه هو الرب المالك للعالم كله، والمدبر لأموره، ويراجع هنا تفسير ﴿ يا أيها النبي حسبك الله ﴾ [ الأنفال : ٦٤ ] ( في ج ١٠ )، وفسر بعضهم العرش هنا بالملك ( بالضم ) لأنه يطلق عليه تجوزا، وهو خطأ منهم ؛ لأن هذا التجوز لا مسوغ له، ولا يصح في كل الآيات التي ورد فيها اللفظ، والمعنى الحقيقي أبلغ منه وأعم، فإنه يدل على المعنى المجازي وزيادة ؛ إذ ليس لكل ملك في الأرض عرش حقيقي هو المركز الوحيد لتدبير كل شيء فيه. فالعرش العظيم يدل على الملك العظيم وعلى وحدة النظام والتدبير فيه، ولفظ : الملك العظيم لا يدل على هذا، لاحتمال وجود الخلل فيه، وكون تدبيره ليس له مرجع وحدة تكفل النظام، وتمنع الخلل والفساد، ونظار المتكلمين ومفسروهم يتأولون العرش والاستواء عليه فرارا من التشبيه الذي يستلزمه بزعمهم المبني على قياس عالم الغيب على عالم الشهادة، وقياس الخالق على المخلوق، وهو قياس باطل بإجماعهم، وقال ابن عباس : سمي العرش عرشا لارتفاعه، وفي الدر المنثور روايات في وصف العرش ومادته هي من الإسرائيليات لا يصح فيها شيء مرفوع.
الأولى ما ورد في كتابة الآيتين عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وكونهما آخر ما نزل
إن معنى هاتين الآيتين لا يظهر إلا في دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة في أول زمن البعثة، وقد ذكرت في الكلام على هذه السورة قبل البدء بتفسيرها أن ابن أبي الفرس قال : إنهما مكيتان، وأنه يرد قوله ما ورد من أنهما آخر ما نزل من القرآن، ثم ذكرت هنالك أصح ما ورد في آخر ما نزل من القرآن، وهو غير هاتين الآيتين.
وأقول الآن : إن قول ابن أبي الفرس هو الوجيه من جانب المعنى، فهو يؤيد الرواية، وأما القول بأنهما آخر ما نزل فقد أخرج في بعض المسانيد والتفاسير المأثورة عن أبي بن كعب بألفاظ متقاربة منها : عن ابن عباس عنه : أن آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم- وفي لفظ أن آخر ما أنزل من القرآن- ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ الخ آخر الآية، ومنها : عن الحسن عنه أنه كان يقول : إن أحدث القرآن عهدا بالله ـ وفي لفظ بالسماء ـ هاتان الآيتان ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ الخ السورة، ومنها : من طريق أبي العالية عنه أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون ويملّ عليهم أبي بن كعب، حتى انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة ﴿ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ﴾ [ التوبة : ١٢٧ ] فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن، فقال أبي بن كعب إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرأني بعد هذا آيتين ﴿ لقد جاءكم ﴾ ـ إلى ـ ﴿ رب العرش العظيم ﴾، قال فختم الأمر بما فتح به : بلا إله إلا الله اهـ. وهو صريح في أنهما آخر ما نزل من هذه السورة، لا من القرآن مطلقا ؛ إلا إذا صح أن سورة براءة آخر سورة نزلت، والصحيح في الرواية أن آخر ما نزل من السور سورة النصر، ومن الآيات ﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ] كما تقدم في محله.
وفي حديث زيد بن ثابت في جمع القرآن المكتوب الذي كان متفرقا في عهد أبي بكر عند ابن سعد وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم أنه قال : حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ إلى آخرهما اهـ، والمراد أنه لم يجدهما مكتوبتين عندما جمع المكتوب في الرقاع والأكتاف والعسب في هذه السورة إلا عند خزيمة، وفي رواية في البخاري وغيره عند أبي خزيمة، وهي أرجح كما سيأتي، إلا أن تكونا وجدتا عند كل منهما، وكانتا محفوظتين للكثيرين كما صرح به في الروايات الأخرى.
فقد أخرج ابن إسحاق وأحمد وابن أبي داود في المصاحف عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة ﴿ لقد جاءكم رسول ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وهو رب العرش العظيم ﴾ إلى عمر فقال : من معك على هذا ؟ فقال : لا أدري والله إلا أني أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما وحفظتهما، فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن فألحقت في آخر براءة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر فقال عمر : لا أسألك عليها بينة أبدا، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أن خزيمة بن ثابت جاء عثمان حين تصدى لكتابة القرآن بعد مقتل عمر فقال : إني رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما، فقالوا ما هما ؟ قال : تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ﴾ الخ السورة. فقال عثمان : وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما ؟ قال : اختم بهما آخر ما نزلت من القرآن، فختمت بهما براءة.
فيؤخذ من مجموع الروايات أن الآيتين كانتا محفوظتين مشهورتين إلا أنهم اختلفوا في موضعهما، ففي بعضها أنهما آخر سورة براءة بالتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها أنهما وضعتا بالرأي والاجتهاد، والمعتمد الأول قطعا ؛ لأن من حفظ التوقيف حجة على من لم يحفظ. والظاهر أن سبب الاختلاف في موضعهما أن موضوعهما يدل على أنهما مكيتان، ولم تصح لجماعة جامعي المصحف رواية بكتابتهما في إحدى السور المكية، ولكن وجدتا عند أبي خزيمة مكتوبتين في آخر براءة.
وفي الصحيح أن زيد بن ثابت الذي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمره أبو بكر بجمع القرآن مع آخرين، وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون، قال : فوجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة بالشك، وهو من الراوي لا من زيد، وفي رواية عنه مع خزيمة، والتحقيق الذي قرره الحافظ ابن حجر أن آخر التوبة وجد عند أبي خزيمة، وأما الذي وجد مع خزيمة فهو آية الأحزاب، وذلك ما رواه البخاري في تفسير سورتها عن زيد بن ثابت، قال : لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين من المؤمنين ﴿ رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴾، قال الحافظ في شرحه : هذا يدل على أن زيدا لم يكن يعتمد في جمع القرآن على علمه، ولا يقتصر على حفظه. لكن فيه إشكال ؛ لأن ظاهره أنه اكتفى مع ذلك بخزيمة وحده، والقرآن إنما يثبت بالتواتر. والذي يظهر في الجواب أن الذي أشار إليه أنه فقده فقْدُ وجودِها مكتوبة لا فقْد وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره، ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن :" فجعلت أتتبعه من الرقاع والعسب، كما سيأتي مبسوطا في فضائل القرآن " اهـ.
وأقول : إنني قد ذكرت آنفا أن هذا هو المراد منه، وهو ما كنت أفهمه دون غيره، وأجيب به من سألني عنه مستشكلا، فقول الحافظ : والذي يظهر الخ كان يجب أن يكون : والذي يتعين القطع به كذا، وحسبك دليلا على هذا أنه قال : إنهم كانوا يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فهو صريح في أن البحث كان عمن كتبها فقط، وجملة القول أن الآيتين كانتا محفوظتين ومكتوبتين ومعروفتين لكثير من الصحابة، وإنما اختلفوا عند الجمع في موضع كتابتهما حتى شهد من شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعهما في آخر سورة براءة وفاقا لقول أبي بن كعب الذي ثبت في الصحيح أنه أحد الذين تلقوا القرآن كله مرتبا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا زيد بن ثابت. وكان عدد المختلفين في موضوعهما قليلا، فلما كتبتا في المصاحف وافق الجميع على وضعهما ههنا، ولم يروا أي اعتراض على ذلك عمن كتبوا لأنفسهم مصاحف اعتمدوا فيها على حفظهم كابن مسعود رضي الله عنه.
بقي البحث في حكمة وضعهما في آخر هذه السورة المدنية وموضوعهما مكي، يؤيده كون الخطاب فيهما لقومه صلى الله عليه وسلم ما جزم به جماهير المفسرين، وما هما بأول ما وضع من الآيات المكية في السور المدنية لمناسبة اقتضت ذلك. ولعل الحكمة في ذلك أن يفيدا بموضوعهما صحة الخطاب بهما لكل من تبلغه الدعوة من أمة الإجابة، وهو ما ذهب إليه الخطابي، كما دل موضوعهما ونزولهما بمكة ـ كما قال ابن أبي الفرس ـ على كون الخطاب فيهما لقومه صلى الله عليه وسلم، وهو ما جزم به الجماهير، ويكون ما قلناه جامعا بين الأقوال كلها.
طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم،
وفضل قومه، واصطفاؤه من خيارهم
من المأثور في تفسير الآيتين ما ذكروا في قوله تعالى :﴿ رسول من أنفسكم ﴾ من الأحاديث المرفوعة في طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم من سفاح الجاهلية، ومن فضل قومه وعشيرته وعترته وأهل بيته على غيرهم، وأصح ما ورد في هذا ما رواه مسلم والترمذي من حديث واثلة رضي الله عنه مرفوعا :" إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم " ١، ولم أر لأحد من العلماء بيانا لمعنى هذا الاصطفاء بم كان ؟ وقد وفقني الله لاستنباطه من التاريخ العام، وبينته في المنار، وفي خلاصة السيرة المحمدية في جواب السؤال عن حكمة بعثه خاتم النبيين بالرسالة العامة للناس أجمعين، بالدين العام للبدو والحضر، من العرب الذين غلبت عليهم جهالة البدو، وبعد عهدهم بما سبق لأمتهم من الحضارة والعلم، ولم يبعث من بعض شعوب الحضارة القريبة كالفرس والروم والهند والصين، ويليه السؤال عن مزية كنانة في العرب من آل إسماعيل، الذين امتازوا على سائر العرب بأنهم ممن اصطفى الله من آل إبراهيم، ثم عن مزية قريش في بني كنانة، وفضل بني هاشم على سائر قريش ؟
خلاصة ما بينته في فضل العرب على سائر الأمم، الذي أعدهم به الله لبعثة سيد البشر من العرب والعجم، بالدين العام الباقي، هي أن جميع شعوب الحضارة المشار إليها وغيرها كانت قد فسدت غرائزها وأخلاقها الفطرية، وعقائدها الدينية، وآدابها التقليدية، بفساد رؤساء الدين والدنيا فيها، وتعاون الفريقين على استعبادها واستذلالها لهما، وتسخيرها لتوفير لذاتهما وتشييد صروح عظمتهما، بسلب حريتهم العقلية بالتقاليد الدينية التي يفرض عليهم الكهنة والأحبار والقسوس الخضوع لها، بدون أن يكون لهم أدنى رأي أو اختيار أو فهم فيها، وسلب حرية إرادتهم في حياتهم الشخصية والاجتماعية، بما يضع لهم الملوك والحكام من القوانين والنظم الإدارية والعسكرية الاستبدادية، وبتحكمهم فيهم بدون قانون ولا نظام أيضا، فجميع الأمم والشعوب كانت مرهقة مستعبدة في دينها ودنياها إلا العرب، ولاسيما عرب الحجاز.
وأما العرب فلم يكن عندهم رياسة حكم استبدادية تستذلهم وتفسد بأسهم وتقهر إرادتهم على ما لا يريدون، ولا رياسة دينية تقهرهم على اتباع تقاليد تعبدية لا يعقلونها، بل كانوا على أتم الحرية العقلية واستقلال الإرادة في دينهم ودنياهم، وفي أعلى ذروة من عزة النفس، وشدة البأس، فبحرية عقولهم كانوا على أتم الاستعداد للنهوض بما اعتقدوا حقيته وصلاحه وخيريته، ولإقامته في قومهم، ونشره في غيرهم، والدفاع عنه باختيارهم، وتصرفهم في كل ذلك بمقتضى الوازع النفسي، دون تحكم رئيس ديني ولا دنيوي، فإن هذا الدين إنما أوجب طاعة الأئمة والقواد بالمعروف والإذعان للشرع، وما تضعه الأمة لنفسها من النظام بالشورى بين ممثليها من أهل الحل والعقد، حتى فرض الله على الرسول صلى الله عليه وسلم مشاورتها في أمورها، وقال له ربه في صيغة مبايعة نسائها له ﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾، وبها كان يبايع الرجال كالنساء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف " ٢ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي كرم الله وجهه.
وأما كنانة فقد كان أشهر ذرية إسماعيل في العلم والحكمة، والكرم والنبل، حتى كانت العرب تحج إليه، وينقلون عنه حكما رائعة، وكفى بهذا اصطفاء عليهم، وامتيازا فيهم.
وأما امتياز قريش على سائر العرب فهو معروف متواتر، وأهمه أن ما ذكرناه من عزة النفس، واستقلال الإرادة والعقل، كان أكمل فيهم، فإن بعض العرب في أطراف جزيرتهم خضعوا لسيادة الفرس والروم خضوعا ما، وجملته أ
( تم تفسير سورة براءة بفضل الله وتوفيقه في شهر صفر سنة خمسين وثلاثمائة وألف وبقي تلخيص ما فيها من أصول الدين وأحكامه وحكمه وسياسته وآدابه وسنن الله في ذلك، فنسأله تعالى توفيقنا فيه للحق الذي يرضاه وينفع عباده ).