تفسير سورة سورة البقرة من كتاب تفسير المنار
المعروف بـتفسير المنار
.
لمؤلفه
محمد رشيد رضا
.
المتوفي سنة 1354 هـ
ﰡ
ﭑ
ﰀ
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
(الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)(الم) هُوَ وَأَمْثَالُهُ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ الْمُبْتَدَأَةِ بِهِ، وَلَا يَضُرُّ وَضْعُ الِاسْمِ الْوَاحِدِ كَـ (الم) لِعِدَّةِ سُوَرٍ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يُعَيِّنُ مَعْنَاهُ اتِّصَالُهُ بِمُسَمَّاهُ، وَحِكْمَةُ التَّسْمِيَةِ وَالِاخْتِلَافِ فِي (الم) وَ (المص) نُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى الْمُسَمِّي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ((وَيَسَعُنَا فِي ذَلِكَ مَا وَسِعَ صَحَابَةَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَابِعِيهِمْ، وَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ أَنْ يَتَنَطَّعَ مُتَنَطِّعٌ فَيَخْتَرِعَ مَا يَشَاءُ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي قَلَّمَا يَسْلَمُ مُخْتَرِعُهَا مِنَ الزَّلَلِ)).
هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَأَقُولُ الْآنَ:
أَوَّلًا - إِنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تُقْرَأُ مُقَطَّعَةً بِذِكْرِ أَسْمَائِهَا لَا مُسَمَّيَاتِهَا، فَنَقُولُ: أَلِفْ، لَامْ، مِيمْ، سَاكِنَةَ الْأَوَاخِرِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي تَرْكِيبِ الْكَلَامِ فَتُعْرَبُ بِالْحَرَكَاتِ.
ثَانِيًا - إِنَّ عَدَمَ إِعْرَابِهَا يُرَجِّحُ أَنَّ حِكْمَةَ افْتِتَاحِ بَعْضِ السُّوَرِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا لِلتَّنْبِيهِ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً مِنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى إِعْجَازِهِ؛ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ مِنْهَا كَانَ يُتْلَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِثْلُ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا بَعْدَهَا لِدَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ (المص - الْأَعْرَافِ).
ثَالِثًا - اقْتَصَرَ عَلَى جَعْلِ حِكْمَتِهَا الْإِشَارَةُ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَفُنُونِهَا: كَالْفَرَّاءِ، وَقُطْرُبٍ، وَالْمُبَرِّدِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَبَعْضِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ: كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ، وَالْحَافِظِ الْمِزِّيِّ، وَأَطَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي بَيَانِهِ وَتَوْجِيهِهِ بِمَا يُرَاجَعُ فِي كَشَّافِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ.
رَابِعًا - إِنَّ أَضْعَفَ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ وَأَسْخَفَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْإِشَارَةُ بِأَعْدَادِهَا فِي حِسَابِ الْجُمَّلِ إِلَى مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ مَا يُشَابِهُ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ
حَدِيثًا فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ
الْيَهُودِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ.
خَامِسًا - يَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا عُنِيَ بِهِ بَعْضُ الشِّيعَةِ مِنْ حَذْفِ الْمُكَرَّرِ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَصِيَاغَةِ جُمَلٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْهَا فِي مَدْحِ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - أَوْ تَفْضِيلِهِ وَتَرْجِيحِ خِلَافَتِهِ، وَقُوبِلُوا بِجُمَلٍ أُخْرَى مِثْلِهَا تَنْقُضُ ذَلِكَ كَمَا وَضَّحْنَاهُ فِي مَقَالَاتِنَا (الْمُصْلِحُ وَالْمُقَلِّدُ).
سَادِسًا - إِنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي النَّاسِ - حَتَّى عُلَمَاءِ التَّارِيخِ وَاللُّغَاتِ مِنْهُمْ - مَنْ يَرَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ رُمُوزًا إِلَى بَعْضِ الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ سَتُظْهِرُهُ الْأَيَّامُ.
(ذَلِكَ الْكِتَابُ) الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ: وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِمَا يُكْتَبُ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هَذِهِ الرُّقُومُ وَالنُّقُوشُ ذَاتُ الْمَعَانِي، وَالْإِشَارَةُ تُفِيدُ التَّعْيِينَ الشَّخْصِيَّ أَوِ النَّوْعِيَّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكُتُبِ، بَلِ الْمُرَادُ كِتَابٌ مَعْرُوفٌ مَعْهُودٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَصْفِهِ، وَذَلِكَ الْعَهْدُ مَبْنِيٌّ عَلَى صِدْقِ الْوَعْدِ مِنَ اللهِ بِأَنَّهُ يُؤَيِّدُهُ بِكِتَابٍ (تَامٍّ كَامِلٍ كَافِلٍ لِطُلَّابِ الْحَقِّ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ فِي جَمِيعِ شُئُونِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ) فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا (كُلُّهُ وَقْتَ نُزُولِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ، فَقَدْ يَكْفِي فِي صِحَّتِهَا وُجُودُ الْبَعْضِ، وَقَدْ كَانَ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ قَبْلَ نُزُولِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِتَابَتِهَا فَكُتِبَتْ وَحُفِظَتْ، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ) بَلْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِشَارَةِ أَنْ يُشَارَ إِلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِيهَا وَصْفُ (هُدًى لِلْمَتَّقِينَ) وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْكِتَابِ كُلِّهِ عِنْدَ نُزُولِ بَعْضِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِكْمَالِ الْكِتَابِ كُلِّهِ.
وَمِنْ حِكْمَةِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِهَذَا الْكِتَابِ (أَيِ الْمَكْتُوبِ الْمَرْقُومِ) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ الْكِتَابُ وَحْدَهُ، وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ عِنْدَ النُّزُولِ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا بِالْفِعْلِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: أَنَا أُمْلِي كِتَابًا، أَوْ هَلُمَّ أُمْلِ عَلَيْكَ كِتَابًا، وَالْإِشَارَةُ الْبَعِيدَةُ بِالْكَافِ يُرَادُ بِهَا بُعْدُ مَرْتَبَتِهِ فِي الْكَمَالِ، وَعُلُوُّهُ عَنْ مُتَنَاوَلِ قَرِيحَةِ شَاعِرٍ أَوْ مَقُولِ خَطِيبٍ قَوَّالٍ، وَالْبَعْدُ وَالْقُرْبُ فِي الْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ إِنَّمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ شَيْئًا بَعِيدًا عَنْهُ تَعَالَى أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ فِي الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْأَشْيَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْقُرْبُ مِنْهُ وَالْبُعْدُ عَنْهُ تَعَالَى مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا بِعِلْمِهِ.
(لَا رَيْبَ فِيهِ) الرَّيْبُ وَالرِّيبَةُ: الشَّكُّ وَالظِّنَّةُ (التُّهْمَةُ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابُ مُبَرَّأٌ مِنْ وَصَمَاتِ الْعَيْبِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا رِيبَةَ تَعْتَرِيهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى،
خَامِسًا - يَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا عُنِيَ بِهِ بَعْضُ الشِّيعَةِ مِنْ حَذْفِ الْمُكَرَّرِ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَصِيَاغَةِ جُمَلٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْهَا فِي مَدْحِ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - أَوْ تَفْضِيلِهِ وَتَرْجِيحِ خِلَافَتِهِ، وَقُوبِلُوا بِجُمَلٍ أُخْرَى مِثْلِهَا تَنْقُضُ ذَلِكَ كَمَا وَضَّحْنَاهُ فِي مَقَالَاتِنَا (الْمُصْلِحُ وَالْمُقَلِّدُ).
سَادِسًا - إِنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي النَّاسِ - حَتَّى عُلَمَاءِ التَّارِيخِ وَاللُّغَاتِ مِنْهُمْ - مَنْ يَرَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ رُمُوزًا إِلَى بَعْضِ الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ سَتُظْهِرُهُ الْأَيَّامُ.
(ذَلِكَ الْكِتَابُ) الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ: وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِمَا يُكْتَبُ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هَذِهِ الرُّقُومُ وَالنُّقُوشُ ذَاتُ الْمَعَانِي، وَالْإِشَارَةُ تُفِيدُ التَّعْيِينَ الشَّخْصِيَّ أَوِ النَّوْعِيَّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكُتُبِ، بَلِ الْمُرَادُ كِتَابٌ مَعْرُوفٌ مَعْهُودٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَصْفِهِ، وَذَلِكَ الْعَهْدُ مَبْنِيٌّ عَلَى صِدْقِ الْوَعْدِ مِنَ اللهِ بِأَنَّهُ يُؤَيِّدُهُ بِكِتَابٍ (تَامٍّ كَامِلٍ كَافِلٍ لِطُلَّابِ الْحَقِّ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ فِي جَمِيعِ شُئُونِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ) فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا (كُلُّهُ وَقْتَ نُزُولِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ، فَقَدْ يَكْفِي فِي صِحَّتِهَا وُجُودُ الْبَعْضِ، وَقَدْ كَانَ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ قَبْلَ نُزُولِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِتَابَتِهَا فَكُتِبَتْ وَحُفِظَتْ، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ) بَلْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِشَارَةِ أَنْ يُشَارَ إِلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِيهَا وَصْفُ (هُدًى لِلْمَتَّقِينَ) وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْكِتَابِ كُلِّهِ عِنْدَ نُزُولِ بَعْضِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِكْمَالِ الْكِتَابِ كُلِّهِ.
وَمِنْ حِكْمَةِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِهَذَا الْكِتَابِ (أَيِ الْمَكْتُوبِ الْمَرْقُومِ) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ الْكِتَابُ وَحْدَهُ، وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ عِنْدَ النُّزُولِ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا بِالْفِعْلِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: أَنَا أُمْلِي كِتَابًا، أَوْ هَلُمَّ أُمْلِ عَلَيْكَ كِتَابًا، وَالْإِشَارَةُ الْبَعِيدَةُ بِالْكَافِ يُرَادُ بِهَا بُعْدُ مَرْتَبَتِهِ فِي الْكَمَالِ، وَعُلُوُّهُ عَنْ مُتَنَاوَلِ قَرِيحَةِ شَاعِرٍ أَوْ مَقُولِ خَطِيبٍ قَوَّالٍ، وَالْبَعْدُ وَالْقُرْبُ فِي الْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ إِنَّمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ شَيْئًا بَعِيدًا عَنْهُ تَعَالَى أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ فِي الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْأَشْيَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْقُرْبُ مِنْهُ وَالْبُعْدُ عَنْهُ تَعَالَى مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا بِعِلْمِهِ.
(لَا رَيْبَ فِيهِ) الرَّيْبُ وَالرِّيبَةُ: الشَّكُّ وَالظِّنَّةُ (التُّهْمَةُ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابُ مُبَرَّأٌ مِنْ وَصَمَاتِ الْعَيْبِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا رِيبَةَ تَعْتَرِيهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى،
104
وَلَا فِي كَوْنِهِ هَادِيًا مُرْشِدًا، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فِي قُوَّةِ آيَاتِهِ وَنُصُوعِ بَيِّنَاتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَرْتَابُ عَاقِلٌ مُنْصِفٌ وَغَيْرُ مُتَعَنِّتٍ وَلَا مُتَعَسِّفٍ فِي كَوْنِهِ هِدَايَةً مُفَاضَةً مِنْ سَمَاءِ الْحَقِّ.
مُهْدَاةً إِلَى الْخَلْقِ، عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ قَبْلَهُ الِاشْتِغَالُ بِشَيْءٍ مِنْ عُلُومِهِ، وَلَا الْإِتْيَانُ بِكَلَامٍ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي بَلَاغَتِهِ، وَلَا أُسْلُوبِهِ حَتَّى بَعْدَ نُبُوَّتِهِ - وَلِهَذَا قَالَ فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا (وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأَتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (: ٢٣) وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي كُلٍّ مِنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ وَعُلُومِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْهِدَايَةِ - لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوَجَّهَ إِلَيْهِ الشُّبْهَةُ، أَوْ تَحُومَ الرِّيبَةُ، سَوَاءٌ أَشَكَّ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَعَمَى بَصِيرَتِهِ، أَوْ بِتَكَلُّفِهِ ذَلِكَ عِنَادًا أَوْ تَقْلِيدًا أَمْ لَا.
(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وَالْهُدَى: مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ كَالتُّقَى وَالسُّرَى، وَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا: الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مَعَ الْمَعُونَةِ الْخَاصَّةِ وَالْأَخْذِ بِالْيَدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنِ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ) لِأَنَّ كَوْنَهُ هَادِيًا لِلْمُتَّقِينَ بِالْفِعْلِ غَيْرُ كَوْنِهِ هَادِيًا - دَالًّا - لِسَائِرِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ أَخْذِهِمْ بِدَلَالَتِهِ، وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَكَلِمَةُ (الْمُتَّقِينَ) مِنَ الِاتِّقَاءِ، وَالِاسْمُ: التَّقْوَى، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ: وَقَى يَقِي، وَالْوِقَايَةُ مَعْرُوفَةُ الْمَعْنَى، وَهُوَ: الْبُعْدُ أَوِ التَّبَاعُدُ عَنِ الْمُضِرِّ أَوْ مُدَافَعَتُهُ، وَلَكِنْ نَجِدْ هَذَا الْحَرْفَ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ - وَاتَّقُوا اللهَ - فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فَمَعْنَى اتِّقَاءِ اللهِ
تَعَالَى اتِّقَاءُ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِنَّمَا تُضَافُ التَّقْوَى إِلَى اللهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا لِأَمْرِ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّقِيَ ذَاتَ اللهِ تَعَالَى وَلَا تَأْثِيرَ قُدْرَتِهِ، وَلَا الْخُضُوعَ الْفِطْرِيَّ لِمَشِيئَتِهِ.
وَمُدَافَعَةُ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى تَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَا نَهَى وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْخَوْفِ مِنَ الْعَذَابِ وَمِنَ الْمُعَذِّبِ، فَالْخَوْفُ يَكُونُ ابْتِدَاءً مِنَ الْعَذَابِ وَفِي الْحَقِيقَةِ مِنْ مَصْدَرِهِ، فَالْمُتَّقِي: هُوَ مَنْ يَحْمِي نَفْسَهُ مِنَ الْعِقَابِ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نَظَرٌ وَرُشْدٌ يَعْرِفُ بِهِمَا أَسْبَابَ الْعِقَابِ وَالْآلَامِ فَيَتَّقِيهَا.
وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّقَاؤُهُ قِسْمَانِ: دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُتَّقَى بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: مُخَالَفَةُ دِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ، وَمُخَالَفَةُ سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ.
فَأَمَّا عِقَابُ الْآخِرَةِ فَيُتَّقَى بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْخَالِصِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاجْتِنَابِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَفْضَلُ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى فَهْمِهِمَا وَاتِّبَاعِهِمَا سِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَوَّلِينَ مِنْ آلِ الرَّسُولِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.
مُهْدَاةً إِلَى الْخَلْقِ، عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ قَبْلَهُ الِاشْتِغَالُ بِشَيْءٍ مِنْ عُلُومِهِ، وَلَا الْإِتْيَانُ بِكَلَامٍ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي بَلَاغَتِهِ، وَلَا أُسْلُوبِهِ حَتَّى بَعْدَ نُبُوَّتِهِ - وَلِهَذَا قَالَ فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا (وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأَتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (: ٢٣) وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي كُلٍّ مِنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ وَعُلُومِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْهِدَايَةِ - لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوَجَّهَ إِلَيْهِ الشُّبْهَةُ، أَوْ تَحُومَ الرِّيبَةُ، سَوَاءٌ أَشَكَّ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَعَمَى بَصِيرَتِهِ، أَوْ بِتَكَلُّفِهِ ذَلِكَ عِنَادًا أَوْ تَقْلِيدًا أَمْ لَا.
(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وَالْهُدَى: مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ كَالتُّقَى وَالسُّرَى، وَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا: الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مَعَ الْمَعُونَةِ الْخَاصَّةِ وَالْأَخْذِ بِالْيَدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنِ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ) لِأَنَّ كَوْنَهُ هَادِيًا لِلْمُتَّقِينَ بِالْفِعْلِ غَيْرُ كَوْنِهِ هَادِيًا - دَالًّا - لِسَائِرِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ أَخْذِهِمْ بِدَلَالَتِهِ، وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَكَلِمَةُ (الْمُتَّقِينَ) مِنَ الِاتِّقَاءِ، وَالِاسْمُ: التَّقْوَى، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ: وَقَى يَقِي، وَالْوِقَايَةُ مَعْرُوفَةُ الْمَعْنَى، وَهُوَ: الْبُعْدُ أَوِ التَّبَاعُدُ عَنِ الْمُضِرِّ أَوْ مُدَافَعَتُهُ، وَلَكِنْ نَجِدْ هَذَا الْحَرْفَ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ - وَاتَّقُوا اللهَ - فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فَمَعْنَى اتِّقَاءِ اللهِ
تَعَالَى اتِّقَاءُ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِنَّمَا تُضَافُ التَّقْوَى إِلَى اللهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا لِأَمْرِ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّقِيَ ذَاتَ اللهِ تَعَالَى وَلَا تَأْثِيرَ قُدْرَتِهِ، وَلَا الْخُضُوعَ الْفِطْرِيَّ لِمَشِيئَتِهِ.
وَمُدَافَعَةُ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى تَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَا نَهَى وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْخَوْفِ مِنَ الْعَذَابِ وَمِنَ الْمُعَذِّبِ، فَالْخَوْفُ يَكُونُ ابْتِدَاءً مِنَ الْعَذَابِ وَفِي الْحَقِيقَةِ مِنْ مَصْدَرِهِ، فَالْمُتَّقِي: هُوَ مَنْ يَحْمِي نَفْسَهُ مِنَ الْعِقَابِ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نَظَرٌ وَرُشْدٌ يَعْرِفُ بِهِمَا أَسْبَابَ الْعِقَابِ وَالْآلَامِ فَيَتَّقِيهَا.
وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّقَاؤُهُ قِسْمَانِ: دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُتَّقَى بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: مُخَالَفَةُ دِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ، وَمُخَالَفَةُ سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ.
فَأَمَّا عِقَابُ الْآخِرَةِ فَيُتَّقَى بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْخَالِصِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاجْتِنَابِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَفْضَلُ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى فَهْمِهِمَا وَاتِّبَاعِهِمَا سِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَوَّلِينَ مِنْ آلِ الرَّسُولِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.
105
وَأَمَّا عِقَابُ الدُّنْيَا فَيَجِبُ أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى اتِّقَائِهِ بِالْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا سِيَّمَا سُنَنُ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ - وَأَمْثِلَتُهَا ظَاهِرَةٌ - وَسُنَنُ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ.
فَاتِّقَاءُ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ فِي الْقِتَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ نِظَامِ الْحَرْبِ وَفُنُونِهَا، وَإِتْقَانِ آلَاتِهَا وَأَسْلِحَتِهَا الَّتِي ارْتَقَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ ارْتِقَاءً عَجِيبًا، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (٨: ٦٠) كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَسْبَابِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَاتِّحَادِ الْأُمَّةِ وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ عِنْدَهُ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٨: ٤٥ - ٤٦) وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَعْنَى التَّقْوَى فِي الْقُرْآنِ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ كَالتَّقْوَى فِي الْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (٥: ٨٨) وَمِثْلُهُ فِي سِيَاقِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مِنْهَا (الْآيَةَ ٩٠) وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُرَاجَعُ كُلُّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ مَا مَعْنَاهُ:
كَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ مَنْ مَقَتَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَأَدْرَكَ أَنَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يُرْضِيهِ الْخُضُوعُ لَهَا، وَأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ يُحِبُّ الْخَيْرَ وَيُبْغِضُ الشَّرَّ. فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ اعْتَزَلَ النَّاسَ لِذَلِكَ، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ إِلَّا الِالْتِجَاءَ وَالِابْتِهَالَ وَتَعْظِيمَ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَلِكَ مَا كَانَ يُسَمَّى صَلَاةً فِي لِسَانِهِمْ، وَبَعْضَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعَقْلُ فِي مُعَامَلَاتِ الْخَلْقِ.
وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣: ١١٣ - ١١٤) وَبِقَوْلِهِ: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥: ٨٢، ٨٣) فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ هُمُ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَخْصِيصِ مَا جَاءَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ بِالْمُسْلِمِينَ، بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ كَانَ فِي قُلُوبِهِمُ اشْمِئْزَازٌ مِمَّا عَلَيْهِ أَقْوَامُهُمْ، وَفِي نُفُوسِهِمْ شَيْءٌ مِنَ التَّشَوُّفِ إِلَى هِدَايَةٍ يَهْتَدُونَ بِهَا، وَيَشْعُرُونَ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لَهَا إِذَا جَاءَهُمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَالْمُتَّقُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذَنْ هُمُ الَّذِينَ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ فَأَصَابَتْ عُقُولُهُمْ ضَرْبًا مِنَ الرَّشَادِ، وَوُجِدَ فِي أَنْفُسِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِتَلَقِّي نُورِ الْحَقِّ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَوَقِّي سُخْطِ اللهِ تَعَالَى وَالسَّعْيِ فِي مَرْضَاتِهِ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَأَدَّاهُمْ إِلَيْهِ نَظَرُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ.
فَاتِّقَاءُ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ فِي الْقِتَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ نِظَامِ الْحَرْبِ وَفُنُونِهَا، وَإِتْقَانِ آلَاتِهَا وَأَسْلِحَتِهَا الَّتِي ارْتَقَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ ارْتِقَاءً عَجِيبًا، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (٨: ٦٠) كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَسْبَابِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَاتِّحَادِ الْأُمَّةِ وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ عِنْدَهُ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٨: ٤٥ - ٤٦) وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَعْنَى التَّقْوَى فِي الْقُرْآنِ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ كَالتَّقْوَى فِي الْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (٥: ٨٨) وَمِثْلُهُ فِي سِيَاقِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مِنْهَا (الْآيَةَ ٩٠) وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُرَاجَعُ كُلُّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ مَا مَعْنَاهُ:
كَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ مَنْ مَقَتَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَأَدْرَكَ أَنَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يُرْضِيهِ الْخُضُوعُ لَهَا، وَأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ يُحِبُّ الْخَيْرَ وَيُبْغِضُ الشَّرَّ. فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ اعْتَزَلَ النَّاسَ لِذَلِكَ، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ إِلَّا الِالْتِجَاءَ وَالِابْتِهَالَ وَتَعْظِيمَ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَلِكَ مَا كَانَ يُسَمَّى صَلَاةً فِي لِسَانِهِمْ، وَبَعْضَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعَقْلُ فِي مُعَامَلَاتِ الْخَلْقِ.
وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣: ١١٣ - ١١٤) وَبِقَوْلِهِ: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥: ٨٢، ٨٣) فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ هُمُ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَخْصِيصِ مَا جَاءَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ بِالْمُسْلِمِينَ، بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ كَانَ فِي قُلُوبِهِمُ اشْمِئْزَازٌ مِمَّا عَلَيْهِ أَقْوَامُهُمْ، وَفِي نُفُوسِهِمْ شَيْءٌ مِنَ التَّشَوُّفِ إِلَى هِدَايَةٍ يَهْتَدُونَ بِهَا، وَيَشْعُرُونَ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لَهَا إِذَا جَاءَهُمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَالْمُتَّقُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذَنْ هُمُ الَّذِينَ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ فَأَصَابَتْ عُقُولُهُمْ ضَرْبًا مِنَ الرَّشَادِ، وَوُجِدَ فِي أَنْفُسِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِتَلَقِّي نُورِ الْحَقِّ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَوَقِّي سُخْطِ اللهِ تَعَالَى وَالسَّعْيِ فِي مَرْضَاتِهِ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَأَدَّاهُمْ إِلَيْهِ نَظَرُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ.
106
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
الْإِيمَانُ: هُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الْمُقْتَرِنُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ وَقَبُولِهَا وَاسْتِسْلَامِهَا، وَآيَتُهُ الْعَمَلُ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ عِنْدَ عَدَمِ الصَّارِفِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْيَقِينِ، وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْهُمْ، كَذَاتِ اللهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَالدَّارِ
الْآخِرَةِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الرُّوحِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مُمْكِنٍ. وَلِلصَّلَاةِ صُورَةٌ وَرُوحٌ، فَصُورَتُهَا عِبَادَةُ الْأَعْضَاءِ، وَرُوحُهَا عِبَادَةُ الْقَلْبِ - كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي - وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مُطْلَقًا، وَمَا بَعْدَهَا فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَفَسَّرَهُمَا شَيْخُنَا تَفْسِيرًا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَدْلُولِ النَّظْمِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ:
النَّاسُ قِسْمَانِ: مَادِّيٌّ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا بِالْحِسِّيَاتِ، وَغَيْرُ مَادِّيٍّ يُؤْمِنُ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، أَيْ بِمَا غَابَ عَنِ الْمَشَاعِرِ مَتَى أَرْشَدَ إِلَيْهِ الدَّلِيلُ أَوِ الْوِجْدَانُ السَّلِيمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ - وَهِيَ جُنُودٌ غَائِبَةٌ لَهَا مَزَايَا وَخَوَاصُّ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: إِيمَانٌ بِالْغَيْبِ. وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِالْقُرْآنِ، وَمَنْ يَتَصَدَّى لِهِدَايَتِهِ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا تَتَحَقَّقُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِهَا ثُمَّ يُقْنِعُهُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هِدَايَةٌ مِنْ لَدُنْهُ تَعَالَى. لِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ:
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ: هُوَ الِاعْتِقَادُ بِمَوْجُودٍ وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ، وَقَدْ كَتَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي صَاحِبِهِ مَا نَصَّهُ:
(وَصَاحِبُ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَاقِفٌ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَقَائِمٌ عَلَى أَوَّلِ النَّهْجِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الْمَسْلَكِ، وَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ إِلَى الْغَايَةِ، فَإِنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ بِأَنَّ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ مَوْجُودَاتٍ يُصَدِّقُ بِهَا الْعَقْلُ - وَإِنْ كَانَتْ لَا يَأْتِي عَلَيْهَا الْحِسُّ - إِذَا أَقَمْتَ لَهُ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُسْتَعْلِي عَنِ الْمَادَّةِ وَلَوَاحِقِهَا، الْمُتَّصِفِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، سَهُلَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَخَفَّ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَلِيِّ الْمُقَدِّمَاتِ وَخَفِيِّهَا، وَإِذَا جَاءَ الرَّسُولُ بِوَصْفِ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَوْ بِذِكْرِ عَالَمٍ مِنَ الْعَوَالِمِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهَا، كَعَالَمِ الْمَلَائِكَةِ - مَثَلًا - لَمْ يَشُقَّ عَلَى نَفْسِهِ تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ بَعْدَ ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ، لِهَذَا جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْوَصْفَ فِي مُقَدِّمَةِ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَجِدُونَ فِي الْقُرْآنِ هُدًى لَهُمْ.
الْإِيمَانُ: هُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الْمُقْتَرِنُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ وَقَبُولِهَا وَاسْتِسْلَامِهَا، وَآيَتُهُ الْعَمَلُ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ عِنْدَ عَدَمِ الصَّارِفِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْيَقِينِ، وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْهُمْ، كَذَاتِ اللهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَالدَّارِ
الْآخِرَةِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الرُّوحِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مُمْكِنٍ. وَلِلصَّلَاةِ صُورَةٌ وَرُوحٌ، فَصُورَتُهَا عِبَادَةُ الْأَعْضَاءِ، وَرُوحُهَا عِبَادَةُ الْقَلْبِ - كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي - وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مُطْلَقًا، وَمَا بَعْدَهَا فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَفَسَّرَهُمَا شَيْخُنَا تَفْسِيرًا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَدْلُولِ النَّظْمِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ:
النَّاسُ قِسْمَانِ: مَادِّيٌّ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا بِالْحِسِّيَاتِ، وَغَيْرُ مَادِّيٍّ يُؤْمِنُ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، أَيْ بِمَا غَابَ عَنِ الْمَشَاعِرِ مَتَى أَرْشَدَ إِلَيْهِ الدَّلِيلُ أَوِ الْوِجْدَانُ السَّلِيمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ - وَهِيَ جُنُودٌ غَائِبَةٌ لَهَا مَزَايَا وَخَوَاصُّ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: إِيمَانٌ بِالْغَيْبِ. وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِالْقُرْآنِ، وَمَنْ يَتَصَدَّى لِهِدَايَتِهِ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا تَتَحَقَّقُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِهَا ثُمَّ يُقْنِعُهُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هِدَايَةٌ مِنْ لَدُنْهُ تَعَالَى. لِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ:
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ: هُوَ الِاعْتِقَادُ بِمَوْجُودٍ وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ، وَقَدْ كَتَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي صَاحِبِهِ مَا نَصَّهُ:
(وَصَاحِبُ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَاقِفٌ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَقَائِمٌ عَلَى أَوَّلِ النَّهْجِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الْمَسْلَكِ، وَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ إِلَى الْغَايَةِ، فَإِنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ بِأَنَّ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ مَوْجُودَاتٍ يُصَدِّقُ بِهَا الْعَقْلُ - وَإِنْ كَانَتْ لَا يَأْتِي عَلَيْهَا الْحِسُّ - إِذَا أَقَمْتَ لَهُ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُسْتَعْلِي عَنِ الْمَادَّةِ وَلَوَاحِقِهَا، الْمُتَّصِفِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، سَهُلَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَخَفَّ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَلِيِّ الْمُقَدِّمَاتِ وَخَفِيِّهَا، وَإِذَا جَاءَ الرَّسُولُ بِوَصْفِ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَوْ بِذِكْرِ عَالَمٍ مِنَ الْعَوَالِمِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهَا، كَعَالَمِ الْمَلَائِكَةِ - مَثَلًا - لَمْ يَشُقَّ عَلَى نَفْسِهِ تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ بَعْدَ ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ، لِهَذَا جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْوَصْفَ فِي مُقَدِّمَةِ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَجِدُونَ فِي الْقُرْآنِ هُدًى لَهُمْ.
107
(وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْمَوْجُودِ إِلَّا الْمَحْسُوسَ وَيَظُنُّ أَنْ لَا شَيْءَ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، فَنَفْسُهُ تَنْفِرُ مِنْ ذِكْرِ مَا وَرَاءَ مَشْهُودِهِ أَوْ مَا يُشْبِهُ مَشْهُوُدَهُ،
وَقَلَّمَا تَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى قَلْبِهِ إِذَا بَدَأْتَهُ بِدَعْوَاكَ، نَعَمْ قَدْ تُوصِلُكَ الْمُجَاهَدَةُ بَعْدَ مُرُورِ الزَّمَانِ فِي إِيرَادِ الْمُقَدِّمَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَالْأَخْذِ بِهِ فِي الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، إِلَى تَقْرِيبِهِ مِمَّا تَطْلُبُ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَنْصُرَكَ الصَّبْرُ، أَوْ يُخْضِعَهُ الْقَهْرُ حَتَّى يَتِمَّ لَكَ مِنْهُ الْأَمْرُ، فَمِثْلُ هَذَا إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ نَبَا عَنْهُ سَمْعُهُ، وَلَمْ يَجْمُلْ مِنْ نَفْسِهِ وَقْعُهُ، فَكَيْفَ يَجِدُ فِيهِ هِدَايَةً أَوْ مُنْقِذًا مِنْ غَوَايَةٍ؟).
(وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ عِنْدَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِسْلَامِ التَّقْلِيدِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْخُذْ مِنَ النَّفْسِ إِلَّا مَا أَخَذَ اللَّفْظُ مِنَ اللِّسَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَحْتَ نَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَلْحَظْهُ وُجْدَانُ الْقَلْبِ، بَلْ أُغْلِقَتْ عَلَيْهِ خِزَانَةُ الْوَهْمِ، وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ إِيمَانًا لَا يُفِيدُ فِي إِعْدَادِ الْقَلْبِ لِلِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، لَمَّا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِبَيَانٍ يُشْعِرُ بِحَقِيقَةِ مَا أَرَادَهُ تَعَالَى مِنْ مَعْنَى الْإِيمَانِ) فَذَكَرَ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْجُمَلِ الْآتِيَةِ، قَالَ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) إِلَخْ، الصَّلَاةُ: إِظْهَارُ الْحَاجَةِ وَافْتِقَارٌ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمُ ((الصَّلَاةُ مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ)) لِأَنَّ إِظْهَارَ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ وَلَوْ بِالْفِعْلِ فَقَطِ الْتِمَاسٌ لِلْحَاجَةِ وَاسْتِدْرَارٌ لِلنِّعْمَةِ، أَوْ طَلَبٌ لِدَفْعِ النِّقْمَةِ، أَرَأَيْتُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَقِفُونَ بَيْنَ أَيْدِي الْمُلُوكِ نَاكِسِي رُءُوسِهِمْ حَانِيِي ظُهُورِهِمْ، وَتَارَةً يَقَعُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ يُقَبِّلُونَهَا، أَلَيْسَ الْبَاعِثَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ إِمَّا خَوْفٌ مِنْ عُقُوبَةٍ يَطْلُبُونَ بِهِ دَفْعَهَا، وَإِمَّا حَذَرٌ عَلَى نِعْمَةٍ يَتَوَقَّوْنَ سَلْبَهَا وَرَفْعَهَا، فَيَلْتَمِسُونَ بَقَاءَهَا وَيَرْجُونَ زِيَادَتَهَا وَنَمَاءَهَا؟.
هَذِهِ الصَّلَاةُ كَانَتْ تُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ الْجَاهِلِيِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْحَنِيفِيِّينَ وَالْحُنَفَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَكَتَبَ الْأُسْتَاذُ فِي وَصْفِهَا مَا نَصُّهُ:
(وَالصَّلَاةُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أَفْضَلِ أَشْكَالِهِ وَهُوَ تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ الْمُفْتَتَحَةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْمُخْتَتَمَةَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَعْبُودِ، وَشُعُورِ الْأَنْفُسِ بِعَظَمَتِهِ لَوْ أَقَامَهَا الْمُصَلُّونَ وَأَتَوْا بِهَا عَلَى وَجْهِهَا) وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) وَلَمْ يَقُلْ: يُصَلُّونَ،
وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَتَى حُدِّدَتْ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ يُقَالُ لِمَنْ يُؤَدِّيهَا بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ: إِنَّهُ صَلَّى، وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ هَذَا خَلْوًا مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَقِوَامِهَا الْمَقْصُودِ مِنَ الْهَيْئَةِ الظَّاهِرَةِ، فَاحْتِيجَ إِلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ قِوَامُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِلَفْظِ الْإِقَامَةِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا مِنْ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ وَالسُّنَنِ. وَهُوَ لَا يَعْدُو
وَقَلَّمَا تَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى قَلْبِهِ إِذَا بَدَأْتَهُ بِدَعْوَاكَ، نَعَمْ قَدْ تُوصِلُكَ الْمُجَاهَدَةُ بَعْدَ مُرُورِ الزَّمَانِ فِي إِيرَادِ الْمُقَدِّمَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَالْأَخْذِ بِهِ فِي الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، إِلَى تَقْرِيبِهِ مِمَّا تَطْلُبُ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَنْصُرَكَ الصَّبْرُ، أَوْ يُخْضِعَهُ الْقَهْرُ حَتَّى يَتِمَّ لَكَ مِنْهُ الْأَمْرُ، فَمِثْلُ هَذَا إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ نَبَا عَنْهُ سَمْعُهُ، وَلَمْ يَجْمُلْ مِنْ نَفْسِهِ وَقْعُهُ، فَكَيْفَ يَجِدُ فِيهِ هِدَايَةً أَوْ مُنْقِذًا مِنْ غَوَايَةٍ؟).
(وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ عِنْدَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِسْلَامِ التَّقْلِيدِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْخُذْ مِنَ النَّفْسِ إِلَّا مَا أَخَذَ اللَّفْظُ مِنَ اللِّسَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَحْتَ نَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَلْحَظْهُ وُجْدَانُ الْقَلْبِ، بَلْ أُغْلِقَتْ عَلَيْهِ خِزَانَةُ الْوَهْمِ، وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ إِيمَانًا لَا يُفِيدُ فِي إِعْدَادِ الْقَلْبِ لِلِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، لَمَّا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِبَيَانٍ يُشْعِرُ بِحَقِيقَةِ مَا أَرَادَهُ تَعَالَى مِنْ مَعْنَى الْإِيمَانِ) فَذَكَرَ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْجُمَلِ الْآتِيَةِ، قَالَ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) إِلَخْ، الصَّلَاةُ: إِظْهَارُ الْحَاجَةِ وَافْتِقَارٌ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمُ ((الصَّلَاةُ مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ)) لِأَنَّ إِظْهَارَ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ وَلَوْ بِالْفِعْلِ فَقَطِ الْتِمَاسٌ لِلْحَاجَةِ وَاسْتِدْرَارٌ لِلنِّعْمَةِ، أَوْ طَلَبٌ لِدَفْعِ النِّقْمَةِ، أَرَأَيْتُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَقِفُونَ بَيْنَ أَيْدِي الْمُلُوكِ نَاكِسِي رُءُوسِهِمْ حَانِيِي ظُهُورِهِمْ، وَتَارَةً يَقَعُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ يُقَبِّلُونَهَا، أَلَيْسَ الْبَاعِثَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ إِمَّا خَوْفٌ مِنْ عُقُوبَةٍ يَطْلُبُونَ بِهِ دَفْعَهَا، وَإِمَّا حَذَرٌ عَلَى نِعْمَةٍ يَتَوَقَّوْنَ سَلْبَهَا وَرَفْعَهَا، فَيَلْتَمِسُونَ بَقَاءَهَا وَيَرْجُونَ زِيَادَتَهَا وَنَمَاءَهَا؟.
هَذِهِ الصَّلَاةُ كَانَتْ تُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ الْجَاهِلِيِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْحَنِيفِيِّينَ وَالْحُنَفَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَكَتَبَ الْأُسْتَاذُ فِي وَصْفِهَا مَا نَصُّهُ:
(وَالصَّلَاةُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أَفْضَلِ أَشْكَالِهِ وَهُوَ تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ الْمُفْتَتَحَةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْمُخْتَتَمَةَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَعْبُودِ، وَشُعُورِ الْأَنْفُسِ بِعَظَمَتِهِ لَوْ أَقَامَهَا الْمُصَلُّونَ وَأَتَوْا بِهَا عَلَى وَجْهِهَا) وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) وَلَمْ يَقُلْ: يُصَلُّونَ،
وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَتَى حُدِّدَتْ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ يُقَالُ لِمَنْ يُؤَدِّيهَا بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ: إِنَّهُ صَلَّى، وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ هَذَا خَلْوًا مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَقِوَامِهَا الْمَقْصُودِ مِنَ الْهَيْئَةِ الظَّاهِرَةِ، فَاحْتِيجَ إِلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ قِوَامُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِلَفْظِ الْإِقَامَةِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا مِنْ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ وَالسُّنَنِ. وَهُوَ لَا يَعْدُو
108
وَصْفَ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنَّمَا قِوَامُ الصَّلَاةِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْإِقَامَةِ: هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَالْخُشُوعُ الْحَقِيقِيُّ لَهُ، وَالْإِحْسَاسُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى.
وَكَتَبَ شَيْخُنَا عِنْدَ تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ هُنَا بِمَا تَقَدَّمَ أَخْذًا عَنْهُ مَا نَصُّهُ:
(فَإِذَا خَلَتْ صُورَةُ الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْمُصَلِّي أَنَّهُ أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ قَدْ هَدَمَهَا بِإِخْلَائِهَا مِنْ عِمَادِهَا، وَقَتَلَهَا بِسَلْبِهَا رُوحَهَا، وَمِنْ غَرِيبِ مَزَاعِمِ مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ: أَنَّ حُضُورَ الْقَلْبِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَاسْتِشْعَارِ الْخَشْيَةِ مِنْ أَصْعَبِ مَا تَتَجَشَّمُهُ النَّفْسُ، بَلْ يَكَادُ مُسْتَحِيلًا لِغَلَبَةِ الْخَوَاطِرِ عَلَى ذِهْنِ الْمُصَلِّي.
هَذَا - وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا جُحُودًا لِمَعْنَى الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهُمْ هَذَا الْوَهْمُ الْبَاطِلُ مِنْ شِدَّةِ الْغَفْلَةِ وَاسْتِحْكَامِ الْعِلَّةِ، وَإِنِّي أَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ لَوْ أَخَذُوا بِهَا لَشُغِلُوا بِمَعْنَى الصَّلَاةِ حَتَّى عَنِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا، تِلْكَ الطَّرِيقَةُ: هِيَ أَلَّا يَنْطِقَ الْمُصَلِّي بِلَفْظٍ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَوْرِدُ مَعْنَاهُ عَلَى ذِهْنِهِ، فَإِذَا قَالَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يَسْتَحْضِرُ مَعْنَى الْحَمْدِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، مَعَ وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْأَكْوَانِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَإِذَا قَالَ مِثْلَ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) تَصَوَّرَ مَعْنَى الْمُلْكِ وَتَعَلُّقَهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَهَكَذَا - فَإِذَا أَخَذَ الْمُصَلِّيَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَعَانِيَ مِنْ أَلْفَاظِهَا الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا فَقَدْ أَقَامَ الصَّلَاةَ، أَمَّا وَهُوَ يَنْطِقُ وَلَا يَفْقَهُ، وَلَا يَلْحَظُ بِذِهْنِهِ مَعْنَى لَفْظِ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُصَلِّي، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ؟).
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أَقُولُ: الرِّزْقُ فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ وَالْعَطَاءُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، كَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَيُخَصُّ بِأُمُورِ الْمَعَاشِ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ لَفْظِيَّةٍ، وَقَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ: الرِّزْقُ مَا انْتُفِعَ بِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، وَخَصَّهُ
الْمُعْتَزِلَةُ بِالْحَلَالِ، وَنَفَاقُ الشَّيْءِ: كَنَفَادِهِ، وَأَنْفَقَهُ: جَعَلَهُ يَنْفُقُ بِصَرْفِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْإِنْفَاقَ هُنَا يَشْمَلُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَذِي الْقُرْبَى وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، إِذِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ تَكُونُ بَعْضَ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ لَا كُلَّ مَا يَمْلِكُ - فَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الِاقْتِصَادِ، وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَظْهَرُ آيَاتِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَقَالَ شَيْخُنَا شَارِحًا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتِهِ بِمَا مِثَالُهُ:
هَذَا الْوَصْفُ مِنْ أَقْوَى أَمَارَاتِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَأْتُونَ بِضُرُوبِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَمَتَى عَرَضَ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي بَذْلَ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى يُمْسِكُونَ وَلَا تَسْمَحُ أَنْفُسُهُمْ بِالْبَذْلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا مَا يَكُونُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَلَا مَا يُسَمُّونَهُ بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ، كَقِرَى الضُّيُوفِ ابْتِغَاءَ عِوَضٍ كَالشُّهْرَةِ وَالْجَاهِ، أَوِ الْأُنْسِ بِالْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِنْفَاقُ النَّاشِئُ عَنْ شُعُورٍ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي رَزَقَهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَأَنَّ الْفَقِيرَ الْمَحْرُومَ عَبْدُ اللهِ مِثْلُهُ، وَأَنَّهُ حُرِمَ مِنْ سَعَةِ
وَكَتَبَ شَيْخُنَا عِنْدَ تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ هُنَا بِمَا تَقَدَّمَ أَخْذًا عَنْهُ مَا نَصُّهُ:
(فَإِذَا خَلَتْ صُورَةُ الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْمُصَلِّي أَنَّهُ أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ قَدْ هَدَمَهَا بِإِخْلَائِهَا مِنْ عِمَادِهَا، وَقَتَلَهَا بِسَلْبِهَا رُوحَهَا، وَمِنْ غَرِيبِ مَزَاعِمِ مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ: أَنَّ حُضُورَ الْقَلْبِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَاسْتِشْعَارِ الْخَشْيَةِ مِنْ أَصْعَبِ مَا تَتَجَشَّمُهُ النَّفْسُ، بَلْ يَكَادُ مُسْتَحِيلًا لِغَلَبَةِ الْخَوَاطِرِ عَلَى ذِهْنِ الْمُصَلِّي.
هَذَا - وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا جُحُودًا لِمَعْنَى الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهُمْ هَذَا الْوَهْمُ الْبَاطِلُ مِنْ شِدَّةِ الْغَفْلَةِ وَاسْتِحْكَامِ الْعِلَّةِ، وَإِنِّي أَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ لَوْ أَخَذُوا بِهَا لَشُغِلُوا بِمَعْنَى الصَّلَاةِ حَتَّى عَنِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا، تِلْكَ الطَّرِيقَةُ: هِيَ أَلَّا يَنْطِقَ الْمُصَلِّي بِلَفْظٍ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَوْرِدُ مَعْنَاهُ عَلَى ذِهْنِهِ، فَإِذَا قَالَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يَسْتَحْضِرُ مَعْنَى الْحَمْدِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، مَعَ وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْأَكْوَانِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَإِذَا قَالَ مِثْلَ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) تَصَوَّرَ مَعْنَى الْمُلْكِ وَتَعَلُّقَهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَهَكَذَا - فَإِذَا أَخَذَ الْمُصَلِّيَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَعَانِيَ مِنْ أَلْفَاظِهَا الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا فَقَدْ أَقَامَ الصَّلَاةَ، أَمَّا وَهُوَ يَنْطِقُ وَلَا يَفْقَهُ، وَلَا يَلْحَظُ بِذِهْنِهِ مَعْنَى لَفْظِ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُصَلِّي، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ؟).
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أَقُولُ: الرِّزْقُ فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ وَالْعَطَاءُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، كَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَيُخَصُّ بِأُمُورِ الْمَعَاشِ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ لَفْظِيَّةٍ، وَقَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ: الرِّزْقُ مَا انْتُفِعَ بِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، وَخَصَّهُ
الْمُعْتَزِلَةُ بِالْحَلَالِ، وَنَفَاقُ الشَّيْءِ: كَنَفَادِهِ، وَأَنْفَقَهُ: جَعَلَهُ يَنْفُقُ بِصَرْفِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْإِنْفَاقَ هُنَا يَشْمَلُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَذِي الْقُرْبَى وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، إِذِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ تَكُونُ بَعْضَ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ لَا كُلَّ مَا يَمْلِكُ - فَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الِاقْتِصَادِ، وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَظْهَرُ آيَاتِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَقَالَ شَيْخُنَا شَارِحًا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتِهِ بِمَا مِثَالُهُ:
هَذَا الْوَصْفُ مِنْ أَقْوَى أَمَارَاتِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَأْتُونَ بِضُرُوبِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَمَتَى عَرَضَ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي بَذْلَ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى يُمْسِكُونَ وَلَا تَسْمَحُ أَنْفُسُهُمْ بِالْبَذْلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا مَا يَكُونُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَلَا مَا يُسَمُّونَهُ بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ، كَقِرَى الضُّيُوفِ ابْتِغَاءَ عِوَضٍ كَالشُّهْرَةِ وَالْجَاهِ، أَوِ الْأُنْسِ بِالْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِنْفَاقُ النَّاشِئُ عَنْ شُعُورٍ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي رَزَقَهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَأَنَّ الْفَقِيرَ الْمَحْرُومَ عَبْدُ اللهِ مِثْلُهُ، وَأَنَّهُ حُرِمَ مِنْ سَعَةِ
109
الْعَيْشِ لِضَعْفٍ أَوْ حِرْمَانٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى الرِّزْقِ (أَوْ عَنْ إِحْسَاسٍ بِأَنَّ مَصْلَحَةً مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْفَعَةً مِنْ مَنَافِعِهِمُ الْعَامَّةِ لَا تَقُومُ أَوْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِبَذْلِ الْمَالِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ عَلَى مَنْ أُوتِيَ الْمَالَ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ السَّبِيلِ وَهُوَ أَفْضَلُ سُبُلِ اللهِ) فَمَنْ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ دَاعِيَةً لِبَذْلِ أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ - وَهُوَ مَالُهُ - ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَقِيَامًا بِشُكْرِهِ، وَرَحْمَةً لِأَهْلِ الْعَوَزِ وَالْبَائِسِينَ مِنْ خَلْقِهِ، فَهُوَ لَا شَكَّ مُسْتَعِدٌّ لِقَبُولِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ أَتَمَّ الِاسْتِعْدَادَ، حَتَّى إِذَا مَا دُعِيَ إِلَيْهِ لَبَّى وَأَجَابَ، وَأَسْلَمَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَأَنَابَ.
فَهَذَا بَيَانُ حَالِ الْفِرْقَةِ الْأَوْلَى مِمَّنْ يَهْتَدِي بِالْقُرْآنِ فِعْلًا، وَيَشْمَلُهَا لَفْظُ الْمُتَّقِينَ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ، وَكَانَ مِنْهُمْ بَعْضُ الْعَرَبِ الْحُنَفَاءِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ الصُّلَحَاءِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ أَنَّهَا مُسْتَعِدَّةٌ لِقَبُولِهِ، وَمُهَيَّأَةٌ لِلِاسْتِرْشَادِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْإِجْمَالِيَّ بِاللهِ وَبِحَيَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يُوَفَّى النَّاسُ فِيهَا أُجُورَهُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَاتِّقَاءَ مَا يَحُولُ دُونَ
السَّعَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ النَّاقِصِ وَالتَّعْلِيمِ الَّذِي لَمْ يَقْتَنِعْ بِهِ الْعَقْلُ، وَلَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَقَدْ هَيَّأَهُمْ لِقَبُولِ الْقُرْآنِ وَأَنْ يَقْتَبِسُوا مِنْ نُورِهِ مَا يَذْهَبُ بِظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ، وَيَمْنَحُ الْأَرْوَاحَ مَا تَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ.
وَبَعْدَ أَنَّ بَيَّنَ حَالَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الَّتِي يَكُونُ الْكِتَابُ هُدًى لَهَا (يُخْرِجُهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الشَّكِّ إِلَى نُورِ الْيَقِينِ، وَيَنْكُبُ بِهَا عَنْ مَهَابِّ رِيَاحِ الْفِكْرِ إِلَى مُسْتَقَرِّ السِّكِّينَةِ وَمُسْتَكَنِّ الطُّمَأْنِينَةِ، بِمَا تَتَعَرَّفُهُ النَّفْسُ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ) عَطَفَ عَلَيْهَا بَيَانَ حَالِ الْفِرْقَةِ الَّتِي اهْتَدَتْ بِهِ فِعْلًا، وَصَارَ إِمَامًا لَهَا تَتْبَعُهُ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهَا، دُونَ أَنْ تَغْمُضَ عَيْنُهَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أَضَاءَ لَهَا مَا أَضَاءَ مِنْهُ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)
أَقُولُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ يُؤْمِنُ بِالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِيمَا قَبْلَهَا مَنْ يُؤْمَنُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَتَيْنِ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَالْعَطْفُ فِيهِمَا عَطْفُ الصِّفَاتِ لَا عَطْفُ الْمَوْصُوفِينَ، وَثَمَّ قَوْلٌ ثَالِثٌ شَاذٌّ، وَهُوَ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ شَيْخِنَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ. وَالْمُرَادُ عَلَى كُلِّ رَأْيٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَهَذَا بَيَانُ حَالِ الْفِرْقَةِ الْأَوْلَى مِمَّنْ يَهْتَدِي بِالْقُرْآنِ فِعْلًا، وَيَشْمَلُهَا لَفْظُ الْمُتَّقِينَ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ، وَكَانَ مِنْهُمْ بَعْضُ الْعَرَبِ الْحُنَفَاءِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ الصُّلَحَاءِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ أَنَّهَا مُسْتَعِدَّةٌ لِقَبُولِهِ، وَمُهَيَّأَةٌ لِلِاسْتِرْشَادِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْإِجْمَالِيَّ بِاللهِ وَبِحَيَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يُوَفَّى النَّاسُ فِيهَا أُجُورَهُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَاتِّقَاءَ مَا يَحُولُ دُونَ
السَّعَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ النَّاقِصِ وَالتَّعْلِيمِ الَّذِي لَمْ يَقْتَنِعْ بِهِ الْعَقْلُ، وَلَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَقَدْ هَيَّأَهُمْ لِقَبُولِ الْقُرْآنِ وَأَنْ يَقْتَبِسُوا مِنْ نُورِهِ مَا يَذْهَبُ بِظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ، وَيَمْنَحُ الْأَرْوَاحَ مَا تَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ.
وَبَعْدَ أَنَّ بَيَّنَ حَالَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الَّتِي يَكُونُ الْكِتَابُ هُدًى لَهَا (يُخْرِجُهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الشَّكِّ إِلَى نُورِ الْيَقِينِ، وَيَنْكُبُ بِهَا عَنْ مَهَابِّ رِيَاحِ الْفِكْرِ إِلَى مُسْتَقَرِّ السِّكِّينَةِ وَمُسْتَكَنِّ الطُّمَأْنِينَةِ، بِمَا تَتَعَرَّفُهُ النَّفْسُ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ) عَطَفَ عَلَيْهَا بَيَانَ حَالِ الْفِرْقَةِ الَّتِي اهْتَدَتْ بِهِ فِعْلًا، وَصَارَ إِمَامًا لَهَا تَتْبَعُهُ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهَا، دُونَ أَنْ تَغْمُضَ عَيْنُهَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أَضَاءَ لَهَا مَا أَضَاءَ مِنْهُ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)
أَقُولُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ يُؤْمِنُ بِالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِيمَا قَبْلَهَا مَنْ يُؤْمَنُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَتَيْنِ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَالْعَطْفُ فِيهِمَا عَطْفُ الصِّفَاتِ لَا عَطْفُ الْمَوْصُوفِينَ، وَثَمَّ قَوْلٌ ثَالِثٌ شَاذٌّ، وَهُوَ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ شَيْخِنَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ. وَالْمُرَادُ عَلَى كُلِّ رَأْيٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
110
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الْإِيمَانُ التَّفْصِيلِيُّ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) فَيَكْفِي فِيهِ الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ، وَقَالَ شَيْخُنَا مَا مِثَالُهُ:
هَذِهِ هِيَ الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَأُعِيدَ لَفْظُ (الَّذِينَ) لِتَحْقِيقِ التَّمَايُزِ بَيْنَ الطَّبَقَتَيْنِ، وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ أَرْقَى مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا تَقْتَضِي الْأَوْصَافَ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى تِلْكَ وَزِيَادَةً، فَالْقُرْآنُ يَكُونُ هُدًى لَهَا بِالْأَوْلَى، وَمَعْنَى كَوْنِهِ هُدًى لَهَا: أَنَّهُ يَكُونُ إِمَامَهَا فِي أَعْمَالِهَا وَأَحْوَالِهَا، لَا تَحِيدُ عَنِ النَّهْجِ الَّذِي نَهَجَهُ لَهَا، كَمَا ذَكَرْنَا.
مَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِمَا ذُكِرَ مُهْتَدٍ بِالْقُرْآنِ، فَالْمُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ عَلَى ضُرُوبٍ شَتَّى، وَنَرَى بَيْنَنَا كَثِيرِينَ مِمَّنْ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ قَالَ: هُوَ كَلَامُ اللهِ وَلَا شَكَّ، وَلَكِنْ إِذَا عُرِضَتْ أَعْمَالُهُ وَأَحْوَالُهُ عَلَى الْقُرْآنِ نَرَاهَا مُبَايِنَةً لَهُ كُلَّ الْمُبَايَنَةِ، الْقُرْآنُ يَنْهَى عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ يَغْتَابُ وَيَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَلَا يَتَأَثَّمُ مِنَ الْكَذِبِ، الْقُرْآنُ يَأْمُرُ بِالْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَهُوَ كَمَا وَصَفَ الْقُرْآنُ الْمُكَذِّبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) (٥١: ١١) لَا يُفَكِّرُ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ، وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَلَا مُسْتَقْبَلِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَتَدَبَّرُ الْآيَاتِ وَالنُّذُرَ، وَلَا الْحَوَادِثَ وَالْعِبَرَ.
إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الَّذِي يُزَيِّنُ أَعْمَالَهُ وَأَخْلَاقَهُ بِاسْتِكْمَالِ مَا هُدِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ دَائِمًا، وَيَجْعَلُهُ مِعْيَارًا يَعْرِضُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَالَ وَالْأَخْلَاقَ، لِيَتَبَيَّنَ: هَلْ هُوَ مُهْتَدٍ بِهِ أَمْ لَا؟ مِثَالُ ذَلِكَ: الصَّلَاةُ. يَصِفُهَا الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَقَالَ فِي الْمُصَلِّينَ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٧٠: ١٩ - ٢٢).
فَبَيِّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَقْتَلِعُ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةَ الرَّاسِخَةَ الَّتِي تَكَادُ تَكُونُ فِطْرِيَّةً، فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَمْ تَقْتَلِعْ مِنْ نَفْسِهِ جُذُورَ الْجُبْنِ وَالْهَلَعِ، وَتَصْطَلِمُ جَرَاثِيمَ الْبُخْلِ وَالطَّمَعِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مُصَلِّيًا فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ، وَلَا مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ عِبَادَهُ الرَّحْمَنُ.
أَمَّا لَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ مِنْ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ الرَّفِيعِ الْأَعْلَى، وَأَوْحَى إِلَى الْعِبَادِ مِنَ الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ الْأَسْمَى، وَسُمِّيَ إِنْزَالًا لِمَا فِي جَانِبِ الْأُلُوهِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْعُلُوِّ، عُلُوِّ الرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ، وَالْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ، الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ بِالتَّكْرِيمِ وَالِاصْطِفَاءِ عَنْ كَوْنِهِمْ عَبِيدًا خَاضِعِينَ، وَقَدْ سَمَّى الْقُرْآنُ غَيْرَ الْوَحْيِ مِنْ إِسْدَاءِ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ إِنْزَالًا فَقَالَ: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (: ٥٧: ٢٥) فَنَكْتَفِ بِهَذَا مِنْ مَعْنَى الْإِنْزَالِ، وَهُوَ مَا يَفْهَمُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ، مِنْ حَضَرٍ وَبَدْوٍ.
هَذِهِ هِيَ الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَأُعِيدَ لَفْظُ (الَّذِينَ) لِتَحْقِيقِ التَّمَايُزِ بَيْنَ الطَّبَقَتَيْنِ، وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ أَرْقَى مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا تَقْتَضِي الْأَوْصَافَ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى تِلْكَ وَزِيَادَةً، فَالْقُرْآنُ يَكُونُ هُدًى لَهَا بِالْأَوْلَى، وَمَعْنَى كَوْنِهِ هُدًى لَهَا: أَنَّهُ يَكُونُ إِمَامَهَا فِي أَعْمَالِهَا وَأَحْوَالِهَا، لَا تَحِيدُ عَنِ النَّهْجِ الَّذِي نَهَجَهُ لَهَا، كَمَا ذَكَرْنَا.
مَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِمَا ذُكِرَ مُهْتَدٍ بِالْقُرْآنِ، فَالْمُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ عَلَى ضُرُوبٍ شَتَّى، وَنَرَى بَيْنَنَا كَثِيرِينَ مِمَّنْ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ قَالَ: هُوَ كَلَامُ اللهِ وَلَا شَكَّ، وَلَكِنْ إِذَا عُرِضَتْ أَعْمَالُهُ وَأَحْوَالُهُ عَلَى الْقُرْآنِ نَرَاهَا مُبَايِنَةً لَهُ كُلَّ الْمُبَايَنَةِ، الْقُرْآنُ يَنْهَى عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ يَغْتَابُ وَيَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَلَا يَتَأَثَّمُ مِنَ الْكَذِبِ، الْقُرْآنُ يَأْمُرُ بِالْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَهُوَ كَمَا وَصَفَ الْقُرْآنُ الْمُكَذِّبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) (٥١: ١١) لَا يُفَكِّرُ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ، وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَلَا مُسْتَقْبَلِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَتَدَبَّرُ الْآيَاتِ وَالنُّذُرَ، وَلَا الْحَوَادِثَ وَالْعِبَرَ.
إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الَّذِي يُزَيِّنُ أَعْمَالَهُ وَأَخْلَاقَهُ بِاسْتِكْمَالِ مَا هُدِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ دَائِمًا، وَيَجْعَلُهُ مِعْيَارًا يَعْرِضُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَالَ وَالْأَخْلَاقَ، لِيَتَبَيَّنَ: هَلْ هُوَ مُهْتَدٍ بِهِ أَمْ لَا؟ مِثَالُ ذَلِكَ: الصَّلَاةُ. يَصِفُهَا الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَقَالَ فِي الْمُصَلِّينَ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٧٠: ١٩ - ٢٢).
فَبَيِّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَقْتَلِعُ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةَ الرَّاسِخَةَ الَّتِي تَكَادُ تَكُونُ فِطْرِيَّةً، فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَمْ تَقْتَلِعْ مِنْ نَفْسِهِ جُذُورَ الْجُبْنِ وَالْهَلَعِ، وَتَصْطَلِمُ جَرَاثِيمَ الْبُخْلِ وَالطَّمَعِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مُصَلِّيًا فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ، وَلَا مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ عِبَادَهُ الرَّحْمَنُ.
أَمَّا لَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ مِنْ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ الرَّفِيعِ الْأَعْلَى، وَأَوْحَى إِلَى الْعِبَادِ مِنَ الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ الْأَسْمَى، وَسُمِّيَ إِنْزَالًا لِمَا فِي جَانِبِ الْأُلُوهِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْعُلُوِّ، عُلُوِّ الرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ، وَالْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ، الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ بِالتَّكْرِيمِ وَالِاصْطِفَاءِ عَنْ كَوْنِهِمْ عَبِيدًا خَاضِعِينَ، وَقَدْ سَمَّى الْقُرْآنُ غَيْرَ الْوَحْيِ مِنْ إِسْدَاءِ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ إِنْزَالًا فَقَالَ: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (: ٥٧: ٢٥) فَنَكْتَفِ بِهَذَا مِنْ مَعْنَى الْإِنْزَالِ، وَهُوَ مَا يَفْهَمُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ، مِنْ حَضَرٍ وَبَدْوٍ.
111
وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّنِي كُنْتُ اكْتَفَيْتُ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي تَفْسِيرِ الْإِنْزَالِ تَحَامِيًا لِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ خِلَافٍ وَجِدَالٍ، وَلَكِنَّنِي عُدْتُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى فَصْلِ الْمَقَالِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ، فَأَزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّ إِنْزَالَ الْحَدِيدِ فِيهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِلسَّلَفِ وَالْخَلْفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (٣٩ - ٦) أَوْضَحُهَا أَنَّ الْمُرَادَ إِنْزَالُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَدِيدَ نُزِّلَ مِنَ الْجَنَّةِ مَعَ آدَمَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْزَالَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ إِلَى مَا دُونَهُ، وَيُطْلَقُ الْعُلُوُّ مَجَازًا فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَهُوَ عُلُوُّ مَكَانٍ وَعُلُوُّ مَكَانَةٍ، وَمِنَ الثَّانِي: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لِعَالٍ فِي الْأَرْضِ) (١٠: ٨٣).
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عُلُوَّ الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوْقِعِ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَالْجِهَاتُ كُلُّهَا أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بَائِنٌ مِنْهُمْ، بِلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِشَيْءٍ وَلَا حَالٌ فِيهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، وَهَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ مَا يَأْتِي مِنْ لَدُنْهُ إِنْزَالًا، فَمَلَكُ الْوَحْيِ كَانَ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَنْزِلُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَيَتَلَقَّاهُ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْلَمُ صِفَةَ تَلَقِّي الْمَلَكِ عَنِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ مُجْمَلًا كَمَا بُلِّغْنَاهُ، وَلَا صِفَةَ تَلَقِّي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جِبْرِيلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ النُّبُوَّةِ وَلَسْنَا بِأَنْبِيَاءَ، وَهُوَ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ وَصَفَ لَنَا تَكْلِيمَهُ لِلْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (٤٢: ٥١) الْآيَةَ - وَقَوْلِهِ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٢٦: ١٩٣ - ١٩٥) وَوَصَفَهُ لَنَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ هَاشِمٍ الْمَخْزُومِيُّ - فَقَالَ: ((أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أَمَّا لَفْظُ (الْآخِرَةِ) فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ أَوِ الدَّارُ الْآخِرَةُ حَيْثُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ وَبِالنَّارِ.
وَأَمَّا الْيَقِينُ: فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ الْوَاقِعِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَلَا الزَّوَالَ، فَهُوَ اعْتِقَادَانِ: اعْتِقَادُ أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا.
وَأَقُولُ الْآنَ: هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ، وَهُوَ عُرْفُ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَدْ جَارَيْنَاهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ
الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ فِي غَيْرِ الْحِسِّيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَالْجَزْمُ بِخَبَرِ الصَّادِقِ وَاعْتِقَادِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَاتِ يُسَمَّى يَقِينًا إِذَا كَانَ ثَابِتًا لَا شَكَّ فِيهِ.
(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (٣٩ - ٦) أَوْضَحُهَا أَنَّ الْمُرَادَ إِنْزَالُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَدِيدَ نُزِّلَ مِنَ الْجَنَّةِ مَعَ آدَمَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْزَالَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ إِلَى مَا دُونَهُ، وَيُطْلَقُ الْعُلُوُّ مَجَازًا فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَهُوَ عُلُوُّ مَكَانٍ وَعُلُوُّ مَكَانَةٍ، وَمِنَ الثَّانِي: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لِعَالٍ فِي الْأَرْضِ) (١٠: ٨٣).
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عُلُوَّ الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوْقِعِ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَالْجِهَاتُ كُلُّهَا أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بَائِنٌ مِنْهُمْ، بِلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِشَيْءٍ وَلَا حَالٌ فِيهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، وَهَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ مَا يَأْتِي مِنْ لَدُنْهُ إِنْزَالًا، فَمَلَكُ الْوَحْيِ كَانَ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَنْزِلُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَيَتَلَقَّاهُ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْلَمُ صِفَةَ تَلَقِّي الْمَلَكِ عَنِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ مُجْمَلًا كَمَا بُلِّغْنَاهُ، وَلَا صِفَةَ تَلَقِّي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جِبْرِيلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ النُّبُوَّةِ وَلَسْنَا بِأَنْبِيَاءَ، وَهُوَ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ وَصَفَ لَنَا تَكْلِيمَهُ لِلْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (٤٢: ٥١) الْآيَةَ - وَقَوْلِهِ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٢٦: ١٩٣ - ١٩٥) وَوَصَفَهُ لَنَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ هَاشِمٍ الْمَخْزُومِيُّ - فَقَالَ: ((أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أَمَّا لَفْظُ (الْآخِرَةِ) فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ أَوِ الدَّارُ الْآخِرَةُ حَيْثُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ وَبِالنَّارِ.
وَأَمَّا الْيَقِينُ: فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ الْوَاقِعِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَلَا الزَّوَالَ، فَهُوَ اعْتِقَادَانِ: اعْتِقَادُ أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا.
وَأَقُولُ الْآنَ: هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ، وَهُوَ عُرْفُ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَدْ جَارَيْنَاهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ
الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ فِي غَيْرِ الْحِسِّيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَالْجَزْمُ بِخَبَرِ الصَّادِقِ وَاعْتِقَادِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَاتِ يُسَمَّى يَقِينًا إِذَا كَانَ ثَابِتًا لَا شَكَّ فِيهِ.
112
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْيَقِينَ: الْعِلْمُ وَإِزَاحَةُ الشَّكِّ وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشَّكِّ. وَالْعِلْمُ: نَقِيضُ الْجَهْلِ اهـ.
فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ فَقَطْ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ، وَلَا مُلَاحَظَةَ طَرَفٍ رَاجِحٍ عَلَى طَرَفٍ مَرْجُوحٍ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الظَّنُّ. وَالْيَقِينُ الْمَنْطِقِيُّ أَكْمَلُ، وَهُوَ مَا بَنَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا مَا يَأْتِي مَبْسُوطًا لَا مُلَخَّصًا، قَالَ مَا مَعْنَاهُ:
(وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، وَلَمْ يَصِفْ بِهَذَا الْوَصْفِ الطَّائِفَةَ الْأَوْلَى لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَتَتَوَجَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا وَتُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهَا اللهُ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنَّهَا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ لَهَا: أَنْ خَرَجَ بِهَا مِنْ غَمَرَاتِ تِلْكَ الْحَيْرَةِ).
(وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَ الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي اعْتِقَادِ قَوْمٍ: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (٥٣: ٢٨) وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الظَّانُّ مُوقِنًا وَعَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فِي اعْتِقَادِهِ، فَمَا حَالُ مَنْ هُوَ دُونَهُ مِنَ الشَّاكِينَ وَالْمُرْتَابِينَ؟ وَيُعْرَفُ الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِآثَارِهِ فِي الْأَعْمَالِ).
(إِنَّنَا نَرَى الرَّجُلَ يَأْتِي إِلَى الْمَحْكَمَةِ بِدَعْوَى زُورٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ بِهَا حَقَّ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ أَوْ يُجَامِلَ آخَرَ بِشَهَادَةِ زُورٍ، أَوْ يَنْتَقِمَ بِهَا مِنْ ثَالِثٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ وَمُبْطِلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ إِنَّ أَمَامَكَ يَوْمًا يَعَضُّ الظَّالِمُ فِيهِ عَلَى يَدَيْهِ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَمَامِي يَوْمًا، وَأَنَّ أَمَامِي شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ - يَعْنِي الْقَبْرَ - وَالدُّنْيَا لَا تُغْنِي عَنِ الْآخِرَةِ، وَيَحْلِفُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ أَوْ فِي شَهَادَتِهِ، ثُمَّ يُظْهِرُ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ، وَيُضْطَرُّ إِلَى الِاعْتِرَافِ وَالْإِقْرَارِ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عِنْدَهُ خَيَالٌ يَلُوحُ فِي ذِهْنِهِ عِنْدَمَا يُرِيدُ الْخِلَابَةَ وَالْخِدَاعَ لِأَجْلِ أَكْلِ الْحُقُوقِ أَوْ إِرْضَاءِ الْهَوَى، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ كَأَثَرِ الِاعْتِقَادِ بِبَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَيِّتِينَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ).
(فَمِثْلُ هَذَا الْإِيمَانِ - وَإِنْ تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ تِلْكَ - لَيْسَ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ الْإِيقَانِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ).
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ فِي آثَارِ الْيَقِينِ: الْيَقِينُ إِيمَانُكَ بِالشَّيْءِ، وَالْإِحْسَاسُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ وِجْدَانِكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ بِكَ الْعِلْمُ بِهِ أَنْ صَارَ مَالِكًا لِنَفْسِكَ مُصَرِّفًا لَهَا فِي أَعْمَالِهَا، وَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ مُحَقَّقًا لِلْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى تَكُونَ قَدْ أَصَبْتَهُ مِنْ إِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ:
(الْأَوْلَى) النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى النَّظَرِ، كَالْإِيقَانِ بِوُجُودِ اللهِ وَرِسَالَةِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ بِتَلْخِيصِ الْمُقَدَّمَاتِ، وَالْوُصُولِ بِهَا إِلَى حَدِّ الضَّرُورِيَّاتِ، فَأَنْتَ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى مَا وَصَلْتَ إِلَيْهِ كَأَنَّكَ رَاءٍ مَا اسْتَقَرَّ رَأْيُكَ عَلَيْهِ.
فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ فَقَطْ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ، وَلَا مُلَاحَظَةَ طَرَفٍ رَاجِحٍ عَلَى طَرَفٍ مَرْجُوحٍ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الظَّنُّ. وَالْيَقِينُ الْمَنْطِقِيُّ أَكْمَلُ، وَهُوَ مَا بَنَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا مَا يَأْتِي مَبْسُوطًا لَا مُلَخَّصًا، قَالَ مَا مَعْنَاهُ:
(وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، وَلَمْ يَصِفْ بِهَذَا الْوَصْفِ الطَّائِفَةَ الْأَوْلَى لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَتَتَوَجَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا وَتُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهَا اللهُ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنَّهَا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ لَهَا: أَنْ خَرَجَ بِهَا مِنْ غَمَرَاتِ تِلْكَ الْحَيْرَةِ).
(وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَ الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي اعْتِقَادِ قَوْمٍ: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (٥٣: ٢٨) وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الظَّانُّ مُوقِنًا وَعَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فِي اعْتِقَادِهِ، فَمَا حَالُ مَنْ هُوَ دُونَهُ مِنَ الشَّاكِينَ وَالْمُرْتَابِينَ؟ وَيُعْرَفُ الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِآثَارِهِ فِي الْأَعْمَالِ).
(إِنَّنَا نَرَى الرَّجُلَ يَأْتِي إِلَى الْمَحْكَمَةِ بِدَعْوَى زُورٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ بِهَا حَقَّ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ أَوْ يُجَامِلَ آخَرَ بِشَهَادَةِ زُورٍ، أَوْ يَنْتَقِمَ بِهَا مِنْ ثَالِثٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ وَمُبْطِلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ إِنَّ أَمَامَكَ يَوْمًا يَعَضُّ الظَّالِمُ فِيهِ عَلَى يَدَيْهِ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَمَامِي يَوْمًا، وَأَنَّ أَمَامِي شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ - يَعْنِي الْقَبْرَ - وَالدُّنْيَا لَا تُغْنِي عَنِ الْآخِرَةِ، وَيَحْلِفُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ أَوْ فِي شَهَادَتِهِ، ثُمَّ يُظْهِرُ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ، وَيُضْطَرُّ إِلَى الِاعْتِرَافِ وَالْإِقْرَارِ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عِنْدَهُ خَيَالٌ يَلُوحُ فِي ذِهْنِهِ عِنْدَمَا يُرِيدُ الْخِلَابَةَ وَالْخِدَاعَ لِأَجْلِ أَكْلِ الْحُقُوقِ أَوْ إِرْضَاءِ الْهَوَى، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ كَأَثَرِ الِاعْتِقَادِ بِبَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَيِّتِينَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ).
(فَمِثْلُ هَذَا الْإِيمَانِ - وَإِنْ تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ تِلْكَ - لَيْسَ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ الْإِيقَانِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ).
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ فِي آثَارِ الْيَقِينِ: الْيَقِينُ إِيمَانُكَ بِالشَّيْءِ، وَالْإِحْسَاسُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ وِجْدَانِكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ بِكَ الْعِلْمُ بِهِ أَنْ صَارَ مَالِكًا لِنَفْسِكَ مُصَرِّفًا لَهَا فِي أَعْمَالِهَا، وَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ مُحَقَّقًا لِلْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى تَكُونَ قَدْ أَصَبْتَهُ مِنْ إِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ:
(الْأَوْلَى) النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى النَّظَرِ، كَالْإِيقَانِ بِوُجُودِ اللهِ وَرِسَالَةِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ بِتَلْخِيصِ الْمُقَدَّمَاتِ، وَالْوُصُولِ بِهَا إِلَى حَدِّ الضَّرُورِيَّاتِ، فَأَنْتَ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى مَا وَصَلْتَ إِلَيْهِ كَأَنَّكَ رَاءٍ مَا اسْتَقَرَّ رَأْيُكَ عَلَيْهِ.
113
(وَالطَّرِيقُ الْأُخْرَى) خَبَرُ الصَّادِقِ الْمَعْصُومِ بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِهِ وَعِصْمَتِهِ عِنْدَكَ، وَلَا يَكُونُ الْخَبَرُ طَرِيقًا لِلْيَقِينِ حَتَّى تَكُونَ سَمِعْتَ الْخَبَرَ مِنْ نَفْسِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ جَاءَكَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا تَحْتَمِلُ الرِّيَبَ، وَهِيَ طَرِيقُ التَّوَاتُرِ دُونَ سِوَاهَا، فَلَا يَنْبُوعَ لِلْيَقِينِ بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا سَبِيلُ الْمُتَوَاتِرَاتِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ فِي وُقُوعِهَا، فَالْإِيقَانُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا وَالْمَلَأِ الْأَعْلَى وَأَوْصَافِهِ، وَصِفَاتِ اللهِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا النَّظَرُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَنَا مِنَ اللهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَمَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا قِيَاسٍ.
وَأَكَّدَ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: (هُمْ) اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ خَاصَّةٌ مِنْ خَوَاصِّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَبِمَا أُنْزِلَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ سِوَاهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوقِنُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ قَطْعِيًّا، فَهَذِهِ الْإِضَافَاتُ الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى أَخْبَارِ الْغَيْبِ وَخَلَقُوا لَهَا الْأَحَادِيثَ، بَلْ أَضَافُوا إِلَيْهَا أَيْضًا أَقْوَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى نَسَبُوهَا إِلَى السَّلَفِ، وَبَعْضَ
غَرَائِبَ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّصَوُّفِ لَا تَدْخُلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْيَقِينُ، بَلِ الْجَهْلُ بِالْكَثِيرِ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّمَا الْوَصْفُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُوَ الْيَقِينُ، وَلَا يَكُونُ الْيَقِينُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ الْقَطْعُ، وَأَمَّا الظَّنُّ: فَهُوَ وَصْفُ مَنْ عَابَهُمُ الْقُرْآنُ وَأَزْرَى بِهِمْ، فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِأَحْوَالِهِمْ.
(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
هَاهُنَا إِشَارَتَانِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَكَرَّرَ الْإِشَارَةَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْوَصْفَيْنِ لِتَحَقُّقِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ تَنْكِيرَ (هُدًى) هُنَا لِلتَّعْظِيمِ. وَشَيْخُنَا قَدْ جَعَلَ الْإِشَارَتَيْنِ لِنَوْعَيِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأُسْلُوبِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ.
قَالَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ الْأُولَى:
قَالَ: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْفِرْقَةِ الْأُولَى: وَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ
وَأَكَّدَ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: (هُمْ) اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ خَاصَّةٌ مِنْ خَوَاصِّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَبِمَا أُنْزِلَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ سِوَاهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوقِنُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ قَطْعِيًّا، فَهَذِهِ الْإِضَافَاتُ الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى أَخْبَارِ الْغَيْبِ وَخَلَقُوا لَهَا الْأَحَادِيثَ، بَلْ أَضَافُوا إِلَيْهَا أَيْضًا أَقْوَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى نَسَبُوهَا إِلَى السَّلَفِ، وَبَعْضَ
غَرَائِبَ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّصَوُّفِ لَا تَدْخُلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْيَقِينُ، بَلِ الْجَهْلُ بِالْكَثِيرِ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّمَا الْوَصْفُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُوَ الْيَقِينُ، وَلَا يَكُونُ الْيَقِينُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ الْقَطْعُ، وَأَمَّا الظَّنُّ: فَهُوَ وَصْفُ مَنْ عَابَهُمُ الْقُرْآنُ وَأَزْرَى بِهِمْ، فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِأَحْوَالِهِمْ.
(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
هَاهُنَا إِشَارَتَانِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَكَرَّرَ الْإِشَارَةَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْوَصْفَيْنِ لِتَحَقُّقِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ تَنْكِيرَ (هُدًى) هُنَا لِلتَّعْظِيمِ. وَشَيْخُنَا قَدْ جَعَلَ الْإِشَارَتَيْنِ لِنَوْعَيِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأُسْلُوبِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ.
قَالَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ الْأُولَى:
قَالَ: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْفِرْقَةِ الْأُولَى: وَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ
114
الْحَقَّ، لِأَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ - كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ (هُدًى) الدَّالُّ عَلَى النَّوْعِ - وَيَنْتَظِرُونَ بَيَانًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لِيَأْخُذُوا بِهِ، وَلِذَلِكَ تَقَبَّلُوهُ عِنْدَمَا جَاءَهُمْ، فَقَدْ أَشْعَرَ اللهُ قُلُوبَهُمُ الْهِدَايَةَ بِمَا آمَنُوا بِهِ مِنَ الْغَيْبِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي سَبَقَ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ.
وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَى هُدًى تُشْرَكُ فِيهِ تِلْكَ الْفِرْقَةُ الْأَوْلَى، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ؛ لِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ بِالْقُرْآنِ وَعَامِلَةٌ بِهِ، وَقَوْلُهُ (عَلَى هُدًى) تَعْبِيرٌ يُفِيدُ التَّمَكُّنَ مِنَ الشَّيْءِ كَتَمَكُّنِ الْمُسْتَقِرِّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: " رَكِبَ هَوَاهُ " وَلَقَدْ كَانَ أَفْرَادُ تِلْكَ الْفِرْقَةِ (أَيِ الْأُولَى) عَلَى بَصِيرَةٍ وَتَمَكُّنٍ مِنْ نَوْعِ الْهُدَى الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا غَيْرَ كَافٍ لِإِسْعَادِهِمْ وَفَلَاحِهِمْ، فَهُوَ كَافٍ لِإِعْدَادِهِمْ وَتَأْهِيلِهِمْ لَهُمَا بِالْإِيمَانِ التَّفْصِيلِيِّ الْمُنَزَّلِ، وَلِذَلِكَ قَبِلُوهُ عِنْدَمَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ.
وَإِلَى الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ الثَّانِيَةُ:
(وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَهُمُ الْمُفْلِحُونَ بِالْفِعْلِ لِاتِّصَافِهِمْ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالْقُرْآنِ، وَبِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ
الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْيَقِينِ بِالْآخِرَةِ - لَا مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ إِجْمَالًا - وَيُرْشِدُ إِلَى التَّغَايُرِ بَيْنِ مَرْجِعِ الْإِشَارَتَيْنِ تَرْكُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ (هُمْ) فِي الْأُولَى وَذِكْرُهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدًا لَذَكَرَ الْفَصْلَ فِي الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الْهُدَى الصَّحِيحِ التَّامِّ، فَهُوَ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ سِوَاهُمْ، لَكِنَّهُ اكْتَفَى عَنِ التَّنْصِيصِ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهُدَى بِحَصْرِ الْفَلَاحِ فِيهِمْ، وَمَادَّةُ الْفَلْحِ تُفِيدُ فِي الْأَصْلِ مَعْنَى الشَّقِّ وَالْقَطْعِ، وَمِثْلُهَا مَادَّةُ الْفَلْجِ بِالْجِيمِ وَالْفَلْخِ بِالْخَاءِ وَالْفَلْذِ وَالْفَلْعِ وَالْفَلْغِ وَالْفَلْقِ وَالْفَلِّ وَالْفَلْمِ، وَيُطْلَقُ الْفَلَاحُ وَالْفَلْجُ عَلَى الْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ: أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِذَا فَازَ بِمَرْغُوبِهِ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مُعَانَاةٍ، بَلْ لَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ مِنَ السَّعْيِ إِلَى الرَّغِيبَةِ وَالِاجْتِهَادِ لِإِدْرَاكِهَا، فَهَؤُلَاءِ مَا كَانُوا مُفْلِحِينَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ، وَبِاتِّبَاعِ هَذَا الْإِيمَانِ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي الَّتِي نِيطَ بِهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْيَقِينِ بِالْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَيُدْخَلُ فِي هَذَا كُلِّهِ تَرْكُ الْكَذِبِ وَالزُّورِ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنْ سَائِرِ الرَّذَائِلِ كَالشَّرِّ وَالطَّمَعِ وَالْجُبْنِ وَالْهَلَعِ وَالْبُخْلِ وَالْجَوْرِ وَالْقَسْوَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالِانْغِمَاسِ فِي ضُرُوبِ اللَّذَّاتِ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْفَضَائِلُ الَّتِي هِيَ أَضْدَادُ هَذِهِ الرَّذَائِلِ الْمَتْرُوكَةِ، وَجَمِيعُ مَا سَمَّاهُ الْقُرْآنُ عَمَلًا صَالِحًا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ (وَالسَّعْيُ فِي تَوْفِيرِ مَنَافِعِهِمُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مَعَ الْتِزَامِ الْعَدْلِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ مَا حَدَّهُ الشَّرْعُ الْقَوِيمُ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ).
وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَى هُدًى تُشْرَكُ فِيهِ تِلْكَ الْفِرْقَةُ الْأَوْلَى، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ؛ لِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ بِالْقُرْآنِ وَعَامِلَةٌ بِهِ، وَقَوْلُهُ (عَلَى هُدًى) تَعْبِيرٌ يُفِيدُ التَّمَكُّنَ مِنَ الشَّيْءِ كَتَمَكُّنِ الْمُسْتَقِرِّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: " رَكِبَ هَوَاهُ " وَلَقَدْ كَانَ أَفْرَادُ تِلْكَ الْفِرْقَةِ (أَيِ الْأُولَى) عَلَى بَصِيرَةٍ وَتَمَكُّنٍ مِنْ نَوْعِ الْهُدَى الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا غَيْرَ كَافٍ لِإِسْعَادِهِمْ وَفَلَاحِهِمْ، فَهُوَ كَافٍ لِإِعْدَادِهِمْ وَتَأْهِيلِهِمْ لَهُمَا بِالْإِيمَانِ التَّفْصِيلِيِّ الْمُنَزَّلِ، وَلِذَلِكَ قَبِلُوهُ عِنْدَمَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ.
وَإِلَى الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ الثَّانِيَةُ:
(وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَهُمُ الْمُفْلِحُونَ بِالْفِعْلِ لِاتِّصَافِهِمْ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالْقُرْآنِ، وَبِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ
الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْيَقِينِ بِالْآخِرَةِ - لَا مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ إِجْمَالًا - وَيُرْشِدُ إِلَى التَّغَايُرِ بَيْنِ مَرْجِعِ الْإِشَارَتَيْنِ تَرْكُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ (هُمْ) فِي الْأُولَى وَذِكْرُهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدًا لَذَكَرَ الْفَصْلَ فِي الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الْهُدَى الصَّحِيحِ التَّامِّ، فَهُوَ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ سِوَاهُمْ، لَكِنَّهُ اكْتَفَى عَنِ التَّنْصِيصِ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهُدَى بِحَصْرِ الْفَلَاحِ فِيهِمْ، وَمَادَّةُ الْفَلْحِ تُفِيدُ فِي الْأَصْلِ مَعْنَى الشَّقِّ وَالْقَطْعِ، وَمِثْلُهَا مَادَّةُ الْفَلْجِ بِالْجِيمِ وَالْفَلْخِ بِالْخَاءِ وَالْفَلْذِ وَالْفَلْعِ وَالْفَلْغِ وَالْفَلْقِ وَالْفَلِّ وَالْفَلْمِ، وَيُطْلَقُ الْفَلَاحُ وَالْفَلْجُ عَلَى الْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ: أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِذَا فَازَ بِمَرْغُوبِهِ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مُعَانَاةٍ، بَلْ لَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ مِنَ السَّعْيِ إِلَى الرَّغِيبَةِ وَالِاجْتِهَادِ لِإِدْرَاكِهَا، فَهَؤُلَاءِ مَا كَانُوا مُفْلِحِينَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ، وَبِاتِّبَاعِ هَذَا الْإِيمَانِ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي الَّتِي نِيطَ بِهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْيَقِينِ بِالْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَيُدْخَلُ فِي هَذَا كُلِّهِ تَرْكُ الْكَذِبِ وَالزُّورِ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنْ سَائِرِ الرَّذَائِلِ كَالشَّرِّ وَالطَّمَعِ وَالْجُبْنِ وَالْهَلَعِ وَالْبُخْلِ وَالْجَوْرِ وَالْقَسْوَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالِانْغِمَاسِ فِي ضُرُوبِ اللَّذَّاتِ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْفَضَائِلُ الَّتِي هِيَ أَضْدَادُ هَذِهِ الرَّذَائِلِ الْمَتْرُوكَةِ، وَجَمِيعُ مَا سَمَّاهُ الْقُرْآنُ عَمَلًا صَالِحًا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ (وَالسَّعْيُ فِي تَوْفِيرِ مَنَافِعِهِمُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مَعَ الْتِزَامِ الْعَدْلِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ مَا حَدَّهُ الشَّرْعُ الْقَوِيمُ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ).
115
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ الْإِيمَانُ بِالدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَمَا عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مُخَالِفٌ يُعْتَدُّ بِهِ، فَلَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، فَالْإِيمَانُ بِهِ إِيمَانٌ، وَالْإِسْلَامُ لِلَّهِ بِهِ إِسْلَامٌ، وَإِنْكَارُهُ خُرُوجٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْقِدَ الِارْتِبَاطِ الْإِسْلَامِيِّ وَوَاسِطَةَ الْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الثُّبُوتِ وَدَرَجَةِ الْعِلْمِ فَمَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَثَارَ اخْتِلَافٍ فِي الدِّينِ. زَادَ الْأُسْتَاذُ هُنَا بِخَطِّهِ عِنْدَ قَوْلِنَا: اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ مَا نَصَّهُ:
(أَوْ ذَوْقِ الْعَارِفِينَ أَوْ ثِقَةِ النَّاقِلِينَ بِمَنْ نَقَلُوا عَنْهُ لِيَكُونَ مُعْتَمَدَهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ بَعْدَ التَّحَرِّي وَالتَّمْحِيصِ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُلْزِمُوا غَيْرَهُمْ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ ثِقَةَ النَّاقِلِ بِمَنْ يَنْقُلُ عَنْهُ حَالَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ لَا يُمْكِنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْعُرَ بِهَا حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَعَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي الْحَالِ مِثْلُ مَا لِلنَّاقِلِ مَعَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَحْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَدَخَائِلِ نَفْسِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ، وَتَحْصُلُ الثِّقَةُ لِلنَّفْسِ بِمَا يَقُولُ الْقَائِلُ).
وَأَقُولُ: مَعْنَى هَذَا أَنَّ بَعْضَ أَحَادِيثِ الْآحَادِ تَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِهَا، وَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - يَكْتُبُونَ جَمِيعَ مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا مَعَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُتَّبَعَةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ بَيَانِ السُّنَّةِ، كَصَحِيفَةِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ: كَالدِّيَةِ، وَفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَتَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ كَمَكَّةَ، وَلَمْ يَرْضَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مِنَ الْخَلِيفَتَيْنِ: الْمَنْصُورِ، وَالرَّشِيدِ أَنْ يَحْمِلَا النَّاسَ عَلَى الْعَمَلِ بِكُتُبِهِ حَتَّى (الْمُوَطَّأِ)، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ عَلَى مَنْ وَثِقَ بِهَا: رِوَايَةً، وَدَلَالَةً، وَعَلَى مَنْ وَثِقَ بِرِوَايَةِ أَحَدٍ وَفَهْمِهِ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَنْ يَأْخُذَهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ تَشْرِيعًا عَامًّا، وَأَمَّا ذَوْقُ الْعَارِفِينَ، فَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الدِّينِ، وَلَا يُعَدُّ حُجَّةً شَرْعِيَّةً بِالْإِجْمَاعِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ فِي الشُّبَهَاتِ، وَالِاحْتِيَاطِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤَمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
(أَوْ ذَوْقِ الْعَارِفِينَ أَوْ ثِقَةِ النَّاقِلِينَ بِمَنْ نَقَلُوا عَنْهُ لِيَكُونَ مُعْتَمَدَهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ بَعْدَ التَّحَرِّي وَالتَّمْحِيصِ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُلْزِمُوا غَيْرَهُمْ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ ثِقَةَ النَّاقِلِ بِمَنْ يَنْقُلُ عَنْهُ حَالَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ لَا يُمْكِنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْعُرَ بِهَا حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَعَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي الْحَالِ مِثْلُ مَا لِلنَّاقِلِ مَعَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَحْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَدَخَائِلِ نَفْسِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ، وَتَحْصُلُ الثِّقَةُ لِلنَّفْسِ بِمَا يَقُولُ الْقَائِلُ).
وَأَقُولُ: مَعْنَى هَذَا أَنَّ بَعْضَ أَحَادِيثِ الْآحَادِ تَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِهَا، وَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - يَكْتُبُونَ جَمِيعَ مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا مَعَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُتَّبَعَةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ بَيَانِ السُّنَّةِ، كَصَحِيفَةِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ: كَالدِّيَةِ، وَفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَتَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ كَمَكَّةَ، وَلَمْ يَرْضَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مِنَ الْخَلِيفَتَيْنِ: الْمَنْصُورِ، وَالرَّشِيدِ أَنْ يَحْمِلَا النَّاسَ عَلَى الْعَمَلِ بِكُتُبِهِ حَتَّى (الْمُوَطَّأِ)، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ عَلَى مَنْ وَثِقَ بِهَا: رِوَايَةً، وَدَلَالَةً، وَعَلَى مَنْ وَثِقَ بِرِوَايَةِ أَحَدٍ وَفَهْمِهِ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَنْ يَأْخُذَهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ تَشْرِيعًا عَامًّا، وَأَمَّا ذَوْقُ الْعَارِفِينَ، فَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الدِّينِ، وَلَا يُعَدُّ حُجَّةً شَرْعِيَّةً بِالْإِجْمَاعِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ فِي الشُّبَهَاتِ، وَالِاحْتِيَاطِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤَمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
قَالَ الْأُسْتَاذُ: كَانَ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لِصِنْفَيْنِ مِنَ النَّاسِ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ هِدَايَةٌ وَلِنُفُوسِهِمْ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ انْبِعَاثٌ.
(الْأَوَّلُ مِنَ الصِّنْفَيْنِ) : أُولَئِكَ الَّذِينَ يُبَلِّغُهُمْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَهُمْ مِمَّنْ يَخْشَى اللهَ وَيَهَابُ سُلْطَانَهُ، وَفِي أُصُولِ اعْتِقَادِهِمُ الْإِيمَانُ بِمَا وَرَاءَ الْحِسِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
(وَالثَّانِي) : أُولَئِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ
(وَهَذَا الصِّنْفُ قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ فِيمَنْ كَانُوا مُتَّقِينَ مُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ، ثُمَّ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَقَدْ يَفْتَرِقُ الصِّنْفَانِ فِيمَنْ بَقِيَ إِلَى الْيَوْمِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَمِنَ الْوَلَدِ مِنْ آبَاءٍ مُؤْمِنِينَ ثُمَّ صَدَقَ إِيمَانُهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ رُشْدَهُ وَمَلَكَ عَقْلَهُ).
أَمَّا هَاتَانِ الْآيَتَانِ فَقَدْ بَيَّنَتَا حَالَ طَائِفَةٍ ثَالِثَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ يُبَيِّنُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) إِلَخْ، حَالَ طَائِفَةٍ أُخْرَى أَخَصَّ مِنْهَا وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَظْهَرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَفِي بَعْضِ أَفْعَالِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُمْ فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ كَافِرُونَ، بَلْ شَرٌّ مِنَ الْكَافِرِينَ (فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ يَنْقَسِمُ إِلَيْهَا النَّاسُ إِذَا بَلَغَهُمُ الْقُرْآنُ وَنَظَرُوا فِيهِ، وَدُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالْأَخْذِ بِهَدْيِهِ).
بَيِّنَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يُوجَدُ فِي النَّاسِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ، فَلَيْسَ هَذَا عَيْبًا وَتَقْصِيرًا فِي هِدَايَةِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ فِيهِمْ لَا فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ هِدَايَةٌ كَسَائِرِ الِهَدَايَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي أَعْرَضَ النَّاسُ وَعَمُوا عَنْهَا (كَهِدَايَةِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنَحْوِهَا مِمَّا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ هَذَا النَّوْعَ الْبَشَرِيَّ، وَقَدْ يَحْكُمُ الرَّجُلُ بِأَنَّ فِي الْعَمَلِ مَضَرَّةٌ تَلْحَقُ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَعْدِلُ عَنْ حُكْمِهِ انْتِهَازًا لِلَذَّةٍ زَيَّنَهَا لَهُ حِسُّهُ أَوْ وَهْمُهُ، وَيَأْتِي ذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ سُوءِ مَغَبَّتِهِ، فَاحْتِقَارُ الرَّجُلِ لِعَقْلِ نَفْسِهِ لَا يَعُدُّ عَيْبًا فِي تِلْكَ الْمَوْهِبَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا يَحُطُّ مِنْ شَأْنِ النِّعْمَةِ فِيهَا.
انْظُرْ إِلَى رَجُلٍ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ وَيَمْشِي فِي طَرِيقٍ لَا يَعْرِفُهَا فَيَسْقُطُ فِي حُفْرَةٍ وَتَتَحَطَّمُ عِظَامُهُ، هَلْ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ قَدْرِ بَصَرِهِ، وَيَبْخَسُ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِحْسَانِ بِهِ عَلَى هَذَا الَّذِي لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا خُلِقَ لَهُ؟) فَفِي الْكَلَامِ تَسْلِيَةٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ، وَسَيِّدُهُمْ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ تَسْلِيَةٌ لَهُ أَوَّلًا وَبِالْأَوْلَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَقُولُ: هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ تُجَاهَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَطَعَهُ وَفَصَّلَهُ مِمَّا قَبْلَهُ، فَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَيْهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ طُولِ شُقَّةِ الِانْفِصَالِ وَعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي شَيْءٍ مَا، بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ الْآتِي، فَإِنَّ لَهُمْ حَظًّا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلِمَنْ يَتُوبُ مِنْهُمْ حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا.
وَالْكَفْرُ فِي اللُّغَةِ: سَتْرُ الشَّيْءِ وَتَغْطِيَتُهُ وَإِخْفَاؤُهُ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِهِ اللَّيْلُ وَالْبَحْرُ
(الْأَوَّلُ مِنَ الصِّنْفَيْنِ) : أُولَئِكَ الَّذِينَ يُبَلِّغُهُمْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَهُمْ مِمَّنْ يَخْشَى اللهَ وَيَهَابُ سُلْطَانَهُ، وَفِي أُصُولِ اعْتِقَادِهِمُ الْإِيمَانُ بِمَا وَرَاءَ الْحِسِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
(وَالثَّانِي) : أُولَئِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ
(وَهَذَا الصِّنْفُ قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ فِيمَنْ كَانُوا مُتَّقِينَ مُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ، ثُمَّ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَقَدْ يَفْتَرِقُ الصِّنْفَانِ فِيمَنْ بَقِيَ إِلَى الْيَوْمِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَمِنَ الْوَلَدِ مِنْ آبَاءٍ مُؤْمِنِينَ ثُمَّ صَدَقَ إِيمَانُهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ رُشْدَهُ وَمَلَكَ عَقْلَهُ).
أَمَّا هَاتَانِ الْآيَتَانِ فَقَدْ بَيَّنَتَا حَالَ طَائِفَةٍ ثَالِثَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ يُبَيِّنُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) إِلَخْ، حَالَ طَائِفَةٍ أُخْرَى أَخَصَّ مِنْهَا وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَظْهَرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَفِي بَعْضِ أَفْعَالِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُمْ فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ كَافِرُونَ، بَلْ شَرٌّ مِنَ الْكَافِرِينَ (فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ يَنْقَسِمُ إِلَيْهَا النَّاسُ إِذَا بَلَغَهُمُ الْقُرْآنُ وَنَظَرُوا فِيهِ، وَدُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالْأَخْذِ بِهَدْيِهِ).
بَيِّنَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يُوجَدُ فِي النَّاسِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ، فَلَيْسَ هَذَا عَيْبًا وَتَقْصِيرًا فِي هِدَايَةِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ فِيهِمْ لَا فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ هِدَايَةٌ كَسَائِرِ الِهَدَايَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي أَعْرَضَ النَّاسُ وَعَمُوا عَنْهَا (كَهِدَايَةِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنَحْوِهَا مِمَّا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ هَذَا النَّوْعَ الْبَشَرِيَّ، وَقَدْ يَحْكُمُ الرَّجُلُ بِأَنَّ فِي الْعَمَلِ مَضَرَّةٌ تَلْحَقُ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَعْدِلُ عَنْ حُكْمِهِ انْتِهَازًا لِلَذَّةٍ زَيَّنَهَا لَهُ حِسُّهُ أَوْ وَهْمُهُ، وَيَأْتِي ذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ سُوءِ مَغَبَّتِهِ، فَاحْتِقَارُ الرَّجُلِ لِعَقْلِ نَفْسِهِ لَا يَعُدُّ عَيْبًا فِي تِلْكَ الْمَوْهِبَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا يَحُطُّ مِنْ شَأْنِ النِّعْمَةِ فِيهَا.
انْظُرْ إِلَى رَجُلٍ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ وَيَمْشِي فِي طَرِيقٍ لَا يَعْرِفُهَا فَيَسْقُطُ فِي حُفْرَةٍ وَتَتَحَطَّمُ عِظَامُهُ، هَلْ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ قَدْرِ بَصَرِهِ، وَيَبْخَسُ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِحْسَانِ بِهِ عَلَى هَذَا الَّذِي لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا خُلِقَ لَهُ؟) فَفِي الْكَلَامِ تَسْلِيَةٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ، وَسَيِّدُهُمْ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ تَسْلِيَةٌ لَهُ أَوَّلًا وَبِالْأَوْلَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَقُولُ: هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ تُجَاهَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَطَعَهُ وَفَصَّلَهُ مِمَّا قَبْلَهُ، فَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَيْهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ طُولِ شُقَّةِ الِانْفِصَالِ وَعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي شَيْءٍ مَا، بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ الْآتِي، فَإِنَّ لَهُمْ حَظًّا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلِمَنْ يَتُوبُ مِنْهُمْ حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا.
وَالْكَفْرُ فِي اللُّغَةِ: سَتْرُ الشَّيْءِ وَتَغْطِيَتُهُ وَإِخْفَاؤُهُ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِهِ اللَّيْلُ وَالْبَحْرُ
117
وَالزُّرَّاعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) (٥٧: ٢٠) لِأَنَّهُمْ يُغَطُّونَ الْحَبَّ بِالتُّرَابِ - وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَقَالَ الْفَارَابِيُّ وَتَبِعَهُ الْجَوْهَرِيُّ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَهُوَ خَطَأٌ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ - وَمِنَ الْمَجَازِ: كُفْرُ النِّعْمَةِ بِعَدَمِ شُكْرِهَا وَذِكْرِهَا تَنْوِيهًا بِهَا، وَكَذَا الْكُفْرُ بِاللهِ أَوْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ، أَوْ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، أَيْ إِنْكَارُهُ وَعَدَمُ التَّصْدِيقِ بِهِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا الشِّرْكُ فِي عِبَادَتِهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ السِّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ السَّلْبِيَّةِ فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَهُوَ مَجَازُ لُغَةٍ، وَحَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا هُنَا مَنْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْكُفْرَ رَسَخَ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا: الْكُفْرُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ جُحُودِ مَا صَرَّحَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَوْ جُحُودُ الْكِتَابِ نَفْسِهِ، أَوِ النَّبِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ: مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (بَعْدَمَا بَلَغَتِ الْجَاحِدَ رِسَالَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَاغًا صَحِيحًا، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّتِهَا لِيَنْظُرَ فِيهَا فَأَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَحَدَهُ عِنَادًا أَوْ تَسَاهُلًا أَوِ اسْتِهْزَاءً، نَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِرَّ فِي النَّظَرِ حَتَّى يُؤْمِنَ وَلَمْ نَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَفَّرَ أَحَدًا بِمَا وَرَاءَ هَذَا، فَمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ وَالْأَقَاوِيلِ الْمُخَالِفَةِ لِبَعْضِ مَا أُسْنِدَ إِلَى الدِّينِ وَلَمْ يَصِلِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مِنْهُ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ - أَيْ لَمْ يَكُنْ سَنَدُهُ قَطْعِيًّا كَسَنَدِ الْكِتَابِ - فَلَا يُعَدُّ مُنْكِرُهُ كَافِرًا إِلَّا إِذَا قَصَدَ بِالْإِنْكَارِ تَكْذِيبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَتَى كَانَ لِلْمُنْكِرِ سَنَدٌ مِنَ الدِّينِ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ فَلَا يُكَفَّرُ (وَإِنْ ضَعُفَتْ شُبْهَتُهُ فِي الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِ مَا دَامَ صَادِقَ النِّيَّةِ فِيمَا يَعْتَقِدُ، وَلَمْ يَسْتَهِنْ بِشَيْءٍ مِمَّا ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وُرُودُهُ عَنِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يَتَأَوَّلُ بَعْضَ الظَّنِّيَّاتِ، أَوْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِمَّا سَبَقَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، أَوْ يُنْكِرُ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، فَجَرَّءُوا النَّاسَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، حَتَّى صَارُوا يُكَفِّرُونَ مَنْ يُخَالِفَهُمْ فِي بَعْضِ الْعَادَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْبِدَعِ الْمَحْظُورَاتِ (ثُمَّ هُمْ عَلَى عَقَائِدِ الْكَافِرِينَ، وَأَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَصِفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ).
الْكَافِرُونَ أَقْسَامٌ:
(مِنْهُمْ) مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيُنْكِرُهُ عِنَادًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَقَلُّونَ
وَلَا ثَبَاتَ لَهُمْ وَلَا قِوَامَ، وَكَانَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَرَضُوا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: كُنْتُ قُلْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَلِمَةً جَدِيرَةً بِأَنْ تُحْفَظَ وَهِيَ: " إِنَّ جُحُودَ الْحَقِّ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ كَالْيَقِينِ فِي الْعِلْمِ، كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ ".
وَقَالَ شَيْخُنَا: الْكُفْرُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ جُحُودِ مَا صَرَّحَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَوْ جُحُودُ الْكِتَابِ نَفْسِهِ، أَوِ النَّبِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ: مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (بَعْدَمَا بَلَغَتِ الْجَاحِدَ رِسَالَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَاغًا صَحِيحًا، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّتِهَا لِيَنْظُرَ فِيهَا فَأَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَحَدَهُ عِنَادًا أَوْ تَسَاهُلًا أَوِ اسْتِهْزَاءً، نَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِرَّ فِي النَّظَرِ حَتَّى يُؤْمِنَ وَلَمْ نَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَفَّرَ أَحَدًا بِمَا وَرَاءَ هَذَا، فَمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ وَالْأَقَاوِيلِ الْمُخَالِفَةِ لِبَعْضِ مَا أُسْنِدَ إِلَى الدِّينِ وَلَمْ يَصِلِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مِنْهُ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ - أَيْ لَمْ يَكُنْ سَنَدُهُ قَطْعِيًّا كَسَنَدِ الْكِتَابِ - فَلَا يُعَدُّ مُنْكِرُهُ كَافِرًا إِلَّا إِذَا قَصَدَ بِالْإِنْكَارِ تَكْذِيبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَتَى كَانَ لِلْمُنْكِرِ سَنَدٌ مِنَ الدِّينِ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ فَلَا يُكَفَّرُ (وَإِنْ ضَعُفَتْ شُبْهَتُهُ فِي الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِ مَا دَامَ صَادِقَ النِّيَّةِ فِيمَا يَعْتَقِدُ، وَلَمْ يَسْتَهِنْ بِشَيْءٍ مِمَّا ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وُرُودُهُ عَنِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يَتَأَوَّلُ بَعْضَ الظَّنِّيَّاتِ، أَوْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِمَّا سَبَقَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، أَوْ يُنْكِرُ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، فَجَرَّءُوا النَّاسَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، حَتَّى صَارُوا يُكَفِّرُونَ مَنْ يُخَالِفَهُمْ فِي بَعْضِ الْعَادَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْبِدَعِ الْمَحْظُورَاتِ (ثُمَّ هُمْ عَلَى عَقَائِدِ الْكَافِرِينَ، وَأَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَصِفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ).
الْكَافِرُونَ أَقْسَامٌ:
(مِنْهُمْ) مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيُنْكِرُهُ عِنَادًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَقَلُّونَ
وَلَا ثَبَاتَ لَهُمْ وَلَا قِوَامَ، وَكَانَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَرَضُوا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: كُنْتُ قُلْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَلِمَةً جَدِيرَةً بِأَنْ تُحْفَظَ وَهِيَ: " إِنَّ جُحُودَ الْحَقِّ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ كَالْيَقِينِ فِي الْعِلْمِ، كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ ".
118
(وَمِنْهُمْ) مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلَا يُرِيدُ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٨: ٢٢ - ٢٣) فَهَؤُلَاءِ كُلَّمَا صَاحَ بِهِمْ صَائِحُ الْحَقِّ فَزِعُوا وَنَفَرُوا، وَأَعْرَضُوا وَاسْتَكْبَرُوا، فَفِي أَنْفُسِهِمْ شُعُورٌ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهَا زَلْزَلَةً، كُلَّمَا لَاحَ لَهُمْ شُعَاعُهُ يَحْجُبُونَهُ عَنْ أَعْيُنِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَنْظَارَهُمْ فِي فَهْمِ الْحَقِّ، وَيَخَافُونَ لَوِ اسْتَعْمَلُوهَا أَنْ يَنْقُصَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا يَظُنُّونَهُ خَيْرًا، وَيَتَوَهَّمُونَهُ مَعْقُودًا بِعَقَائِدِهِمُ الَّتِي وَجَدُوا عَلَيْهَا آبَاءَهُمْ وَسَادَاتِهِمْ.
(وَمِنْهُمْ) : مَنْ مَرِضَتْ نَفْسُهُ وَاعْتَلَّ وِجْدَانُهُ فَلَا يَذُوقُ لِلْحَقِّ لَذَّةً، وَلَا تَجِدُ نَفْسُهُ فِيهِ رَغْبَةً، بَلِ انْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى هُمُومٍ أُخَرَ مَلَكَتْ قَلْبَهُ وَأَسَرَتْ فُؤَادَهُ، كَالْهُمُومِ الَّتِي غَلَبَتْ أَغْلَبَ النَّاسِ الْيَوْمَ عَلَى دِينِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَهِيَ مَا اسْتَغْرَقَتْ كُلَّ مَا تَوَفَّرَ لَدَيْهِمْ مِنْ عَقْلٍ وَإِدْرَاكٍ، وَاسْتَنْفَدَتْ كُلَّ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ فِي سَبِيلِ كَسْبِ مَالٍ أَوْ تَوْفِيرِ لَذَّةٍ جُسْمَانِيَّةٍ، أَوْ قَضَاءِ شَهْوَةٍ وَهْمِيَّةٍ، فَعَمِيَ عَلَيْهِمْ كُلُّ سَبِيلٍ سِوَى سُبُلِ مَا اسْتُهْلِكُوا فِيهِ، فَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ، أَوْ نَادَاهُمْ إِلَيْهِ مُنَادٍ، رَأَيْتَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُ الدَّاعِي، وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَبَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ حَظُّ الْحَقِّ مِنْهُمُ الِاسْتِهْزَاءَ وَالِاسْتِهَانَةَ بِأَمْرِهِ، فَإِذَا وَعَدَهُمْ أَوْ أَوْعَدَهُمُ النَّذِيرُ، قَالُوا: لَا نُصَدِّقُ وَلَا نُكَذِّبُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى ذَلِكَ الْمَصِيرِ، وَهَذَا الْقِسْمُ كَالَّذِي قَبْلَهُ كَثِيرُ الْعَدَدِ فِي النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَخُصُوصًا فِي الْأُمَمِ الَّتِي يَفْشُو فِيهَا الْجَهْلُ، وَتَنْطَمِسُ مِنْ أَفْرَادِهَا أَعْيُنُ الْفِطْرَةِ، وَتَنْضُبُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَنَابِيعُ الْفَضَائِلِ، فَيُصْبِحُونَ كَالْبَهَائِمِ السَّائِمَةِ، لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا فِيمَا يَمْلَأُ بُطُونَهُمْ أَوْ يُدَاعِبُ أَوْهَامَهُمْ،
وَيَصِحُّ جَمْعُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ تَحْتَ قِسْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قِسْمُ الْمُعْرِضِينِ الْجَاحِدِينَ الْجَاهِلِينَ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ قِسْمُ الْمُعَانِدِينَ الْمُكَابِرِينَ.
فَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) الْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ الْمُقْتَرِنِ بِالتَّخْوِيفِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُ ذَمَّهُ وَطَلَبَ تَرْكِهِ، أَوْ تَرْكٍ لِأَمْرٍ يَتَضَمَّنُ مَدْحَهُ وَطَلَبَ فِعْلِهِ نَصًّا أَوِ اقْتِضَاءً، وَالسَّوَاءُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي قِسْمِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ، يَسْتَوِي
(وَمِنْهُمْ) : مَنْ مَرِضَتْ نَفْسُهُ وَاعْتَلَّ وِجْدَانُهُ فَلَا يَذُوقُ لِلْحَقِّ لَذَّةً، وَلَا تَجِدُ نَفْسُهُ فِيهِ رَغْبَةً، بَلِ انْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى هُمُومٍ أُخَرَ مَلَكَتْ قَلْبَهُ وَأَسَرَتْ فُؤَادَهُ، كَالْهُمُومِ الَّتِي غَلَبَتْ أَغْلَبَ النَّاسِ الْيَوْمَ عَلَى دِينِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَهِيَ مَا اسْتَغْرَقَتْ كُلَّ مَا تَوَفَّرَ لَدَيْهِمْ مِنْ عَقْلٍ وَإِدْرَاكٍ، وَاسْتَنْفَدَتْ كُلَّ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ فِي سَبِيلِ كَسْبِ مَالٍ أَوْ تَوْفِيرِ لَذَّةٍ جُسْمَانِيَّةٍ، أَوْ قَضَاءِ شَهْوَةٍ وَهْمِيَّةٍ، فَعَمِيَ عَلَيْهِمْ كُلُّ سَبِيلٍ سِوَى سُبُلِ مَا اسْتُهْلِكُوا فِيهِ، فَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ، أَوْ نَادَاهُمْ إِلَيْهِ مُنَادٍ، رَأَيْتَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُ الدَّاعِي، وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَبَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ حَظُّ الْحَقِّ مِنْهُمُ الِاسْتِهْزَاءَ وَالِاسْتِهَانَةَ بِأَمْرِهِ، فَإِذَا وَعَدَهُمْ أَوْ أَوْعَدَهُمُ النَّذِيرُ، قَالُوا: لَا نُصَدِّقُ وَلَا نُكَذِّبُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى ذَلِكَ الْمَصِيرِ، وَهَذَا الْقِسْمُ كَالَّذِي قَبْلَهُ كَثِيرُ الْعَدَدِ فِي النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَخُصُوصًا فِي الْأُمَمِ الَّتِي يَفْشُو فِيهَا الْجَهْلُ، وَتَنْطَمِسُ مِنْ أَفْرَادِهَا أَعْيُنُ الْفِطْرَةِ، وَتَنْضُبُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَنَابِيعُ الْفَضَائِلِ، فَيُصْبِحُونَ كَالْبَهَائِمِ السَّائِمَةِ، لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا فِيمَا يَمْلَأُ بُطُونَهُمْ أَوْ يُدَاعِبُ أَوْهَامَهُمْ،
وَيَصِحُّ جَمْعُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ تَحْتَ قِسْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قِسْمُ الْمُعْرِضِينِ الْجَاحِدِينَ الْجَاهِلِينَ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ قِسْمُ الْمُعَانِدِينَ الْمُكَابِرِينَ.
فَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) الْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ الْمُقْتَرِنِ بِالتَّخْوِيفِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُ ذَمَّهُ وَطَلَبَ تَرْكِهِ، أَوْ تَرْكٍ لِأَمْرٍ يَتَضَمَّنُ مَدْحَهُ وَطَلَبَ فِعْلِهِ نَصًّا أَوِ اقْتِضَاءً، وَالسَّوَاءُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي قِسْمِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ، يَسْتَوِي
119
الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ فِي الْوَاقِعِ، فَالَّذِي يُعْرِضُ عَنِ النُّورِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَيُغْمِضُ عَيْنَيْهِ كَيْلَا يَرَاهُ بُغْضًا لَهُ لِذَاتِهِ أَوْ تَأَذِّيًا بِهِ، أَوْ عِنَادًا وَعَدَاوَةً لِمَنْ دَعَاهُ إِلَيْهِ مَاذَا يُفِيدُهُ النُّورُ؟
وَمَاذَا يَعِيبُ النُّورَ مِنْ إِعْرَاضِهِ؟ وَالَّذِي لَا يَعْرِفُ النُّورَ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ طَبِيعَتِهِ وَخُبْثَ تَرْبِيَتِهِ أَنْآهُ عَنْهُ وَأَبْعَدَهُ، وَجَعَلَهُ يَأْلَفُ الظُّلْمَةَ كَالْخُفَّاشِ (أَوْ أَفْسَدَ الْجَهْلُ وُجْدَانَهُ فَأَصْبَحَ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَلَا بَيْنَ نَافِعٍ وَضَارٍّ، وَلَا بَيْنَ لَذِيذٍ وَمُؤْلِمٍ، مَاذَا عَسَاهُ يُفِيدُهُ النُّورُ مَهْمَا سَطَعَ أَوْ يُؤَثِّرُ فِيهِ الضَّوْءُ مَهْمَا ارْتَفَعَ؟).
(لَا يُؤْمِنُونَ) أَقُولُ: هَذِهِ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِتَسَاوِي الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقِّ دُعَاةِ دِينِهِ، فَهُمْ يَدْعُونَ كُلَّ كَافِرٍ إِلَى دِينِ اللهِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمُسْتَعِدِّ لِلْإِيمَانِ وَغَيْرِ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ إِذْ هُوَ أَمَرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى.
ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ فَقْدَهُمْ لِهَذَا الِاسْتِعْدَادَ، وَرُسُوخَهُمْ فِي الْكُفْرِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ
مَعَهُ مَحَلٌّ لِغَيْرِهِ بِهَذَا التَّعْبِيرِ الْبَلِيغِ (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ).
قَالَ الرَّاغِبُ: الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
(الْأَوَّلُ) : مَصْدَرُ خَتَمْتُ وَطَبَعْتُ، وَهُوَ تَأْثِيرُ الشَّيْءِ كَنَقْشِ الْخَاتَمِ وَالطَّابِعِ.
(الثَّانِي) : الْأَثَرُ الْحَاصِلُ عَنِ النَّقْشِ، وَيَتَجَوَّزُ بِذَلِكَ تَارَةً فِي الِاسْتِيثَاقِ مِنَ الشَّيْءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْمَنْعِ بِالْخَتْمِ عَلَى الْكُتُبِ وَالْأَبْوَابِ نَحْوَ: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) - إِلَى أَنْ قَالَ - فَقَوْلُهُ: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)... إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَجْرَى اللهُ بِهِ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَنَاهَى فِي اعْتِقَادِ بَاطِلٍ وَارْتِكَابِ مَحْظُورٍ - وَلَا يَكُونُ مِنْهُ تَلَفُّتٌ بِوَجْهٍ إِلَى الْحَقِّ - يُورِثُهُ ذَلِكَ هَيْئَةً تُمَرِّنُهُ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْمَعَاصِي، وَكَأَنَّمَا يُخْتَمُ بِذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) (١٦: ١٠٨) اهـ.
الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مُرَادَهُ أَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ مَثَلٌ لِمَنْ تَمَكَّنَ الْكُفْرُ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى فَقَدُوا الدَّوَاعِيَ وَالْأَسْبَابَ الَّتِي تَعْطِفُهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ فِي أَدِلَّةِ الْإِيمَانِ وَمَحَاسِنِهِ (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فَلَا يَدْخُلُهَا غَيْرُ مَا رَسَخَ فِيهَا، (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) فَلَا يَسْمَعُونَ آيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةَ سَمَاعَ تَأَمُّلٍ وَتَفَقُّهٍ، وَقَوْلُهُ: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ (خَتَمَ) وَالْغِشَاوَةُ: مَا يُغَطَّى بِهِ الشَّيْءُ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَادَّةِ: غَ شِ يَ - التَّغْطِيَةُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ أَبْصَارَهُمْ لَا تُدْرِكُ آيَاتِ اللهِ الْمُبْصِرَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِيمَانِ، فَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُ، وَقَدْ أُسْنِدَ الْخَتْمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي أَمْثَالِهِمْ، وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَجْبُورُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا عَلَى مَنْعِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ مِنْهُ بِالْقَهْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ تَمَرُّنِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ فِي قُلُوبِهِمْ بِأَنَّهُ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا
وَمَاذَا يَعِيبُ النُّورَ مِنْ إِعْرَاضِهِ؟ وَالَّذِي لَا يَعْرِفُ النُّورَ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ طَبِيعَتِهِ وَخُبْثَ تَرْبِيَتِهِ أَنْآهُ عَنْهُ وَأَبْعَدَهُ، وَجَعَلَهُ يَأْلَفُ الظُّلْمَةَ كَالْخُفَّاشِ (أَوْ أَفْسَدَ الْجَهْلُ وُجْدَانَهُ فَأَصْبَحَ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَلَا بَيْنَ نَافِعٍ وَضَارٍّ، وَلَا بَيْنَ لَذِيذٍ وَمُؤْلِمٍ، مَاذَا عَسَاهُ يُفِيدُهُ النُّورُ مَهْمَا سَطَعَ أَوْ يُؤَثِّرُ فِيهِ الضَّوْءُ مَهْمَا ارْتَفَعَ؟).
(لَا يُؤْمِنُونَ) أَقُولُ: هَذِهِ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِتَسَاوِي الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقِّ دُعَاةِ دِينِهِ، فَهُمْ يَدْعُونَ كُلَّ كَافِرٍ إِلَى دِينِ اللهِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمُسْتَعِدِّ لِلْإِيمَانِ وَغَيْرِ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ إِذْ هُوَ أَمَرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى.
ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ فَقْدَهُمْ لِهَذَا الِاسْتِعْدَادَ، وَرُسُوخَهُمْ فِي الْكُفْرِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ
مَعَهُ مَحَلٌّ لِغَيْرِهِ بِهَذَا التَّعْبِيرِ الْبَلِيغِ (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ).
قَالَ الرَّاغِبُ: الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
(الْأَوَّلُ) : مَصْدَرُ خَتَمْتُ وَطَبَعْتُ، وَهُوَ تَأْثِيرُ الشَّيْءِ كَنَقْشِ الْخَاتَمِ وَالطَّابِعِ.
(الثَّانِي) : الْأَثَرُ الْحَاصِلُ عَنِ النَّقْشِ، وَيَتَجَوَّزُ بِذَلِكَ تَارَةً فِي الِاسْتِيثَاقِ مِنَ الشَّيْءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْمَنْعِ بِالْخَتْمِ عَلَى الْكُتُبِ وَالْأَبْوَابِ نَحْوَ: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) - إِلَى أَنْ قَالَ - فَقَوْلُهُ: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)... إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَجْرَى اللهُ بِهِ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَنَاهَى فِي اعْتِقَادِ بَاطِلٍ وَارْتِكَابِ مَحْظُورٍ - وَلَا يَكُونُ مِنْهُ تَلَفُّتٌ بِوَجْهٍ إِلَى الْحَقِّ - يُورِثُهُ ذَلِكَ هَيْئَةً تُمَرِّنُهُ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْمَعَاصِي، وَكَأَنَّمَا يُخْتَمُ بِذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) (١٦: ١٠٨) اهـ.
الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مُرَادَهُ أَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ مَثَلٌ لِمَنْ تَمَكَّنَ الْكُفْرُ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى فَقَدُوا الدَّوَاعِيَ وَالْأَسْبَابَ الَّتِي تَعْطِفُهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ فِي أَدِلَّةِ الْإِيمَانِ وَمَحَاسِنِهِ (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فَلَا يَدْخُلُهَا غَيْرُ مَا رَسَخَ فِيهَا، (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) فَلَا يَسْمَعُونَ آيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةَ سَمَاعَ تَأَمُّلٍ وَتَفَقُّهٍ، وَقَوْلُهُ: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ (خَتَمَ) وَالْغِشَاوَةُ: مَا يُغَطَّى بِهِ الشَّيْءُ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَادَّةِ: غَ شِ يَ - التَّغْطِيَةُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ أَبْصَارَهُمْ لَا تُدْرِكُ آيَاتِ اللهِ الْمُبْصِرَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِيمَانِ، فَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُ، وَقَدْ أُسْنِدَ الْخَتْمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي أَمْثَالِهِمْ، وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَجْبُورُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا عَلَى مَنْعِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ مِنْهُ بِالْقَهْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ تَمَرُّنِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ فِي قُلُوبِهِمْ بِأَنَّهُ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا
120
وَمَلَكَ أَمْرَهَا حَتَّى لَمْ يَعُدْ فِيهَا اسْتِعْدَادٌ لِغَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عَنِ الرَّاغِبِ، وَيُوَضِّحُ مَا قُلْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) (٦٣: ٣) وَقَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكَفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا
يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (٤: ١٥٥) فَذَكَرَ أَنَّ الطَّبْعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَتِلْكَ الْمَعَاصِي الَّتِي أَسْنَدَهَا إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (٤٥: ٢٣) فَقَدْ ذَكَرَ مِنْ فِعْلِهِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ: أَنَّهُ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَمَنْ صَارَ هَوَاهُ مَعْبُودَهُ لَا يُفِيدُ مَعَهُ شَيْءٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ الْغِشَاوَةَ عَلَى بَصَرِهِ مِنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَلِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ دَقَائِقُ فِي هَذِهِ التَّعْبِيرَاتِ ادَّخَرَهَا اللهُ تَعَالَى لَهُ وَهِيَ مَعَ هَذَا تُغْنِيكَ عَنْ تَمَارِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الْآيَاتِ تَعَصُّبًا لِمَذَاهِبِهِمْ وَقَالَ:
يَقُولُونَ: إِنَّ الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ وَالرَّيْنَ أَلْفَاظٌ تَجْرِي عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْخُلَهُ وَيَمَسَّهُ، وَالْقُلُوبُ مُرَادٌ بِهَا الْعُقُولُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ: الْأَسْمَاعُ، وَإِفْرَادُهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْمَصَادِرِ أَلَّا تُجْمَعَ، وَقَدْ لُوحِظَ هُنَا الْأَصْلُ، وَالْأَبْصَارُ: الْعُيُونُ الَّتِي تُدْرِكُ الْمُبْصَرَاتِ مِنَ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ.
(قَالَ) : وَأَنَا أَرَى فِي مَسْأَلَةِ هَذَا الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ رَأْيًا آخَرَ، إِذْ لَوْ صَحَّ مَا قِيلَ فَإِنَّ الْبَصَرَ أَيْضًا مَصْدَرٌ فَلِمَاذَا جَمَعَهُ؟ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْعَقْلَ لَهُ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ فِي إِدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ، فَلَيْسَ النَّاسُ فِيهِ سَوَاءً فَجَمَعَ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، وَأَنْوَاعُ تَصَرُّفِهِمْ فِي وُجُوهِهِ بِخِلَافِ السَّمْعِ، فَإِنَّ أَسْمَاعَ النَّاسِ تَتَسَاوَى فِي إِدْرَاكِ الْمَسْمُوعَاتِ، فَلَا تَتَشَعَّبُ تَشَعُّبَ الْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ، وَأَمَّا الْأَبْصَارُ: فَهِيَ مِثْلُ الْعُقُولِ فِي التَّشَعُّبِ، وَأَعْظَمُ مَعِينٍ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْمُبْصِرَاتِ كَثِيرَةٌ فَتُعْطِي لِلْعَقْلِ مَوَادَّ كَثِيرَةً، وَالسَّمْعُ لَا يُدْرِكُ إِلَّا الصَّوْتَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ عِنْدَ النَّقْلِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ إِلَّا التَّوَاتُرُ (بِخِلَافِ مَا نَقْطَعُ فِيهِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ، فَهُوَ كَثِيرٌ، فَالْأَوَّلِيَّاتُ كَالْحُكْمِ أَنَّ الْجُزْءَ أَصْغَرُ مِنَ الْكُلِّ
وَأَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَالْقَضَايَا الَّتِي
يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (٤: ١٥٥) فَذَكَرَ أَنَّ الطَّبْعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَتِلْكَ الْمَعَاصِي الَّتِي أَسْنَدَهَا إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (٤٥: ٢٣) فَقَدْ ذَكَرَ مِنْ فِعْلِهِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ: أَنَّهُ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَمَنْ صَارَ هَوَاهُ مَعْبُودَهُ لَا يُفِيدُ مَعَهُ شَيْءٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ الْغِشَاوَةَ عَلَى بَصَرِهِ مِنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَلِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ دَقَائِقُ فِي هَذِهِ التَّعْبِيرَاتِ ادَّخَرَهَا اللهُ تَعَالَى لَهُ وَهِيَ مَعَ هَذَا تُغْنِيكَ عَنْ تَمَارِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الْآيَاتِ تَعَصُّبًا لِمَذَاهِبِهِمْ وَقَالَ:
يَقُولُونَ: إِنَّ الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ وَالرَّيْنَ أَلْفَاظٌ تَجْرِي عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْخُلَهُ وَيَمَسَّهُ، وَالْقُلُوبُ مُرَادٌ بِهَا الْعُقُولُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ: الْأَسْمَاعُ، وَإِفْرَادُهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْمَصَادِرِ أَلَّا تُجْمَعَ، وَقَدْ لُوحِظَ هُنَا الْأَصْلُ، وَالْأَبْصَارُ: الْعُيُونُ الَّتِي تُدْرِكُ الْمُبْصَرَاتِ مِنَ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ.
(قَالَ) : وَأَنَا أَرَى فِي مَسْأَلَةِ هَذَا الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ رَأْيًا آخَرَ، إِذْ لَوْ صَحَّ مَا قِيلَ فَإِنَّ الْبَصَرَ أَيْضًا مَصْدَرٌ فَلِمَاذَا جَمَعَهُ؟ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْعَقْلَ لَهُ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ فِي إِدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ، فَلَيْسَ النَّاسُ فِيهِ سَوَاءً فَجَمَعَ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، وَأَنْوَاعُ تَصَرُّفِهِمْ فِي وُجُوهِهِ بِخِلَافِ السَّمْعِ، فَإِنَّ أَسْمَاعَ النَّاسِ تَتَسَاوَى فِي إِدْرَاكِ الْمَسْمُوعَاتِ، فَلَا تَتَشَعَّبُ تَشَعُّبَ الْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ، وَأَمَّا الْأَبْصَارُ: فَهِيَ مِثْلُ الْعُقُولِ فِي التَّشَعُّبِ، وَأَعْظَمُ مَعِينٍ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْمُبْصِرَاتِ كَثِيرَةٌ فَتُعْطِي لِلْعَقْلِ مَوَادَّ كَثِيرَةً، وَالسَّمْعُ لَا يُدْرِكُ إِلَّا الصَّوْتَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ عِنْدَ النَّقْلِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ إِلَّا التَّوَاتُرُ (بِخِلَافِ مَا نَقْطَعُ فِيهِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ، فَهُوَ كَثِيرٌ، فَالْأَوَّلِيَّاتُ كَالْحُكْمِ أَنَّ الْجُزْءَ أَصْغَرُ مِنَ الْكُلِّ
وَأَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَالْقَضَايَا الَّتِي
121
قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا مِنَ الْمَعْقُولَاتِ الْمَحْضَةِ، وَالتَّجْرِيبِيَّاتِ وَالْحَدْسِيَّاتِ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْعَقْلُ وَالْبَصَرُ، وَالْقِسْمُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ سَبِيلُ الْإِدْرَاكِ فِيهِ الْبَصَرُ، فَالْعُقُولُ وَالْأَبْصَارُ بِمَنْزِلَةِ يَنَابِيعَ كَثِيرَةٍ تَنْبَجِسُ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا عُيُونٌ لِلْعَلَمِ مُخْتَلِفَةٌ، بِخِلَافِ السَّمْعِ فَإِنَّهُ يَنْبُوعٌ وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُ) فَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْعُقُولَ وَالْأَبْصَارَ تَتَصَرَّفُ فِي مُدْرَكَاتٍ كَثِيرَةٍ فَكَأَنَّهَا صَارَتْ بِذَلِكَ كَثِيرَةً فَجُمِعَتْ، وَأَمَّا السَّمْعُ فَلَا يُدْرِكُ إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا فَأُفْرِدَ.
سَأَلَهُ سَائِلٌ: كَيْفَ هَذَا، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ السَّمْعَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ؟ فَقَالَ: أَنَا لَا أَتَكَلَّمُ فِي التَّفْضِيلِ، ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا أَشْرَحُ مَوْجُودًا وَأُبَيِّنُ مُنَاسَبَةَ اللَّفْظِ لَهُ، (وَإِنَّ الْمُشَاهَدَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الْعَقْلَ لَا مُنْتَهَى لِتَصَرُّفِهِ، وَبِأَنَّ أَقَلَّ مَا قِيلَ فِي الْبَصَرِ: إِنَّهُ يُدْرِكُ الْأَلْوَانَ، وَالْأَشْكَالَ، وَالْمَقَادِيرَ. وَالسَّمْعُ: لَا يُدْرِكُ إِلَّا الْأَصْوَاتَ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الذَّوْقَ لَا يُحِسُّ إِلَّا بِالْمَذُوقَاتِ وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَصِلُ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ قَدْ يَتَضَمَّنُ حِكَايَةً عَنْ مَعْقُولٍ أَوْ مُبْصِرٍ، وَلَكِنَّ وُرُودَهُ عَلَى الْحِكَايَةِ لَا يُغَيِّرُ مِنْ حَقِيقَتِهِ، فَهُوَ مَعْقُولٌ أَوْ مُبْصَرٌ، فَمَنْ ذَكَرَ لَكَ بُرْهَانًا عَلَى حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ فَإِنَّمَا تَسْمَعُ مِنْهُ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفَ، وَأَمَّا فَهْمُكَ الْمُقَدَّمَاتِ وَوُصُولُكَ مِنْهَا إِلَى النَّتَائِجِ فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ عَقْلِكَ لَا مِنْ طَرِيقِ سَمْعِكَ، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ الْأَفْضَلِيَّةِ يَسْتَنِدُ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُدْرَكَاتِ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْكَلَامِ - وَهُوَ مَسْمُوعٌ - فَقَدْ بَيَّنَّا لَكَ مَا فِيهِ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ جَمِيعَ ضُرُوبِ الْكَلَامِ يَصِحُّ أَنْ تُكْتَبُ، وَطَرِيقُ فَهْمِهَا مِنَ الرَّقْمِ
إِنَّمَا هُوَ الْبَصَرُ، وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي تَعَدُّدِ الطَّرِيقِ لَيْسَ مَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْحِكَايَةِ، بَلْ مَا يَكُونُ مِنْ طَبِيعَةِ الْقُوَّةِ).
وَأَمَّا انْطِبَاقُ الْكَلَامِ عَلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ وَبَيَانُ حِرْمَانِهِمْ وَكَوْنِهِمْ كَمَا وُصِفُوا - فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّائِفَةِ الَّتِي عَانَدَتِ الْحَقَّ وَهِيَ تَعْرِفُهُ - ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَانَدُوا الْحَقَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى أَيْدِيهِمْ (فَقَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِطَابَعِ ذَلِكَ الْعِنَادِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَ عُقُولِهِمْ وَإِدْرَاكِ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ مِنْ ضَعْفِ أَمْرٍ وَفَسَادِ حَالٍ فِي الدُّنْيَا، وَشَقَاءٍ وَخُلُودٍ فِي نَكَالِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ هُمْ قَدْ حُجِبُوا بِهِ عَنْ إِدْرَاكِ مَا يَتْبَعُ) ذَلِكَ الْحَقَّ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْحَقَائِقِ الْأُخْرَى، فَقَدْ خُتِمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا حُجِبُوا عَنْهُ.
سَأَلَهُ سَائِلٌ: كَيْفَ هَذَا، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ السَّمْعَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ؟ فَقَالَ: أَنَا لَا أَتَكَلَّمُ فِي التَّفْضِيلِ، ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا أَشْرَحُ مَوْجُودًا وَأُبَيِّنُ مُنَاسَبَةَ اللَّفْظِ لَهُ، (وَإِنَّ الْمُشَاهَدَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الْعَقْلَ لَا مُنْتَهَى لِتَصَرُّفِهِ، وَبِأَنَّ أَقَلَّ مَا قِيلَ فِي الْبَصَرِ: إِنَّهُ يُدْرِكُ الْأَلْوَانَ، وَالْأَشْكَالَ، وَالْمَقَادِيرَ. وَالسَّمْعُ: لَا يُدْرِكُ إِلَّا الْأَصْوَاتَ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الذَّوْقَ لَا يُحِسُّ إِلَّا بِالْمَذُوقَاتِ وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَصِلُ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ قَدْ يَتَضَمَّنُ حِكَايَةً عَنْ مَعْقُولٍ أَوْ مُبْصِرٍ، وَلَكِنَّ وُرُودَهُ عَلَى الْحِكَايَةِ لَا يُغَيِّرُ مِنْ حَقِيقَتِهِ، فَهُوَ مَعْقُولٌ أَوْ مُبْصَرٌ، فَمَنْ ذَكَرَ لَكَ بُرْهَانًا عَلَى حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ فَإِنَّمَا تَسْمَعُ مِنْهُ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفَ، وَأَمَّا فَهْمُكَ الْمُقَدَّمَاتِ وَوُصُولُكَ مِنْهَا إِلَى النَّتَائِجِ فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ عَقْلِكَ لَا مِنْ طَرِيقِ سَمْعِكَ، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ الْأَفْضَلِيَّةِ يَسْتَنِدُ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُدْرَكَاتِ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْكَلَامِ - وَهُوَ مَسْمُوعٌ - فَقَدْ بَيَّنَّا لَكَ مَا فِيهِ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ جَمِيعَ ضُرُوبِ الْكَلَامِ يَصِحُّ أَنْ تُكْتَبُ، وَطَرِيقُ فَهْمِهَا مِنَ الرَّقْمِ
إِنَّمَا هُوَ الْبَصَرُ، وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي تَعَدُّدِ الطَّرِيقِ لَيْسَ مَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْحِكَايَةِ، بَلْ مَا يَكُونُ مِنْ طَبِيعَةِ الْقُوَّةِ).
وَأَمَّا انْطِبَاقُ الْكَلَامِ عَلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ وَبَيَانُ حِرْمَانِهِمْ وَكَوْنِهِمْ كَمَا وُصِفُوا - فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّائِفَةِ الَّتِي عَانَدَتِ الْحَقَّ وَهِيَ تَعْرِفُهُ - ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَانَدُوا الْحَقَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى أَيْدِيهِمْ (فَقَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِطَابَعِ ذَلِكَ الْعِنَادِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَ عُقُولِهِمْ وَإِدْرَاكِ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ مِنْ ضَعْفِ أَمْرٍ وَفَسَادِ حَالٍ فِي الدُّنْيَا، وَشَقَاءٍ وَخُلُودٍ فِي نَكَالِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ هُمْ قَدْ حُجِبُوا بِهِ عَنْ إِدْرَاكِ مَا يَتْبَعُ) ذَلِكَ الْحَقَّ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْحَقَائِقِ الْأُخْرَى، فَقَدْ خُتِمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا حُجِبُوا عَنْهُ.
122
وَأَمَّا الْخَتْمُ عَلَى سَمْعِهِمْ، فَلِأَنَّهُمْ صَمُّوا عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَاسْتِمَاعِ الْقَوْلِ لِفَهْمِهِ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ فَهْمِ الْحَقِّ فَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ إِلَّا صَوْتًا لَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَاهُ إِلَى مَوْضِعِ الْإِدْرَاكِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ، فَقَدْ خُتِمَ عَلَى سَمْعِهِ فَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ.
وَأَمَّا الْأَبْصَارُ فَإِنَّمَا كَانَتْ عَلَيْهَا غِشَاوَاتٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْجَاحِدِينَ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْبَصَرِ: هِيَ التَّوَقِّي مِنَ الْخَطَرِ، وَالْعِبْرَةُ بِمَا يُبْصَرُ، فَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي تَقَعُ تَحْتَ بَصَرِهِ كُلَّ يَوْمٍ كَأَنَّهُ لَمْ يُبْصِرْ شَيْئًا مِنْهَا، فَقَدْ ضُرِبَ عَلَى بَصَرِهِ بِغِشَاوَةٍ، (وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ جُمِعَا تَحْتَ قِسْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قِسْمُ الْمُعْرِضِينَ الْجَاحِدِينَ الْجَاهِلِينَ كَمَا سَبَقَ، فَالْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى حَتَّى فِي فَهْمِ مَا يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ، وَرُؤْيَةِ مَا يَقَعُ تَحْتَ حَوَاسِّهِمْ) وَالْكَلَامُ كُلُّهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ يَعْرِفُهُ اللِّسَانُ وَتَعْهَدُهُ اللُّغَةُ، وَالْمَعْنَى هُوَ مَا بَيَّنَّا وَاللهُ أَعْلَمُ. (وَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ الْخَتْمِ تَمْثِيلًا لِفَقْدِ حَقِيقَةِ الْفَهْمِ وَالْحِرْمَانِ مِنْ فَوَائِدِ تِلْكَ الْمَوَاهِبِ الْإِلَهِيَّةِ - مَوَاهِبِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ - كَانَ إِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْحِرْمَانِ، وَتَقْدِيرًا لِمُصِيبَةِ الْخُسْرَانِ؛ لِأَنَّ مَا خُتِمَ بِيَدِ اللهِ لَا تَفُضُّهُ يَدٌ سِوَاهُ).
وَأَمَّا النُّكْتَةُ فِي اسْتِعْمَالِ الْخَتْمِ مَعَ الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةِ مَعَ الْبَصَرِ: فَهِيَ أَنَّ الْخَتْمَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَكْنُونِ الْمَسْتُورِ، وَهَكَذَا مَوْضِعُ حِسِّ السَّمْعِ، وَمَوْضِعُ الْإِدْرَاكِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالْأَسْمَاعُ فِي ظَاهِرِ الْخِلْقَةِ، وَأَمَّا الْبَصَرُ فَالْحَاسَّةُ مِنْهُ
ظَاهِرَةٌ مُنْكَشِفَةٌ (قَالَ) : وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّقَائِقِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: " وَلِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعَ صَاحِبَتِهَا مَقَامٌ ".
(وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أَقُولُ: الْعَذَابُ اسْمٌ لِمَا يُؤْلِمُ وَيَذْهَبُ بِعُذُوبَةِ الْحَيَاةِ مِنْ ضَرْبٍ وَوَجَعٍ وَجُوعٍ وَظَمَأٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَذَبَ الرَّجُلُ إِذَا تَرَكَ الْمَأْكَلَ (زَادَ غَيْرُهُ: مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ) وَالنَّوْمَ، فَهُوَ عَاذِبٌ وَعَذُوبٌ، فَالتَّعْذِيبُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَذَّبَ، أَيْ يَجُوعُ وَيَسْهَرُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْعَذْبِ، فَعَذَّبْتُهُ: أَزَلْتُ عَذْبَ حَيَاتِهِ، عَلَى بِنَاءِ: مَرَّضْتُهُ وَقَذَيْتُهُ، وَقِيلَ أَصْلُ التَّعْذِيبِ: إِكْثَارُ الضَّرْبِ بِعَذْبَةِ السَّوْطِ أَيْ طَرَفِهِ اهـ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْعَذَابُ كَالنَّكَالِ بِنَاءً وَمَعْنًى، تَقُولُ: أَعْذَبَ عَنِ الشَّيْءِ وَنَكَلَ عَنْهُ إِذَا أَمْسَكَ، وَمِنْهُ الْمَاءُ الْعَذْبُ؛ لِأَنَّهُ يَقْمَعُ الْعَطَشَ وَيَرْدَعُهُ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى نُقَاخًا وَفُرَاتًا ثُمَّ اتَّسَعَ فَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ أَلَمٍ فَادِحٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِقَابًا يَرْدَعُ الْجَانِيَ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ إِلَخْ.
وَالْعَظِيمُ: ضِدُّ الْحَقِيرِ، فَهُوَ فَوْقَ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّغِيرِ، وَتَنْكِيرُ الْعَذَابِ هُنَا
وَأَمَّا الْأَبْصَارُ فَإِنَّمَا كَانَتْ عَلَيْهَا غِشَاوَاتٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْجَاحِدِينَ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْبَصَرِ: هِيَ التَّوَقِّي مِنَ الْخَطَرِ، وَالْعِبْرَةُ بِمَا يُبْصَرُ، فَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي تَقَعُ تَحْتَ بَصَرِهِ كُلَّ يَوْمٍ كَأَنَّهُ لَمْ يُبْصِرْ شَيْئًا مِنْهَا، فَقَدْ ضُرِبَ عَلَى بَصَرِهِ بِغِشَاوَةٍ، (وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ جُمِعَا تَحْتَ قِسْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قِسْمُ الْمُعْرِضِينَ الْجَاحِدِينَ الْجَاهِلِينَ كَمَا سَبَقَ، فَالْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى حَتَّى فِي فَهْمِ مَا يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ، وَرُؤْيَةِ مَا يَقَعُ تَحْتَ حَوَاسِّهِمْ) وَالْكَلَامُ كُلُّهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ يَعْرِفُهُ اللِّسَانُ وَتَعْهَدُهُ اللُّغَةُ، وَالْمَعْنَى هُوَ مَا بَيَّنَّا وَاللهُ أَعْلَمُ. (وَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ الْخَتْمِ تَمْثِيلًا لِفَقْدِ حَقِيقَةِ الْفَهْمِ وَالْحِرْمَانِ مِنْ فَوَائِدِ تِلْكَ الْمَوَاهِبِ الْإِلَهِيَّةِ - مَوَاهِبِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ - كَانَ إِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْحِرْمَانِ، وَتَقْدِيرًا لِمُصِيبَةِ الْخُسْرَانِ؛ لِأَنَّ مَا خُتِمَ بِيَدِ اللهِ لَا تَفُضُّهُ يَدٌ سِوَاهُ).
وَأَمَّا النُّكْتَةُ فِي اسْتِعْمَالِ الْخَتْمِ مَعَ الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةِ مَعَ الْبَصَرِ: فَهِيَ أَنَّ الْخَتْمَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَكْنُونِ الْمَسْتُورِ، وَهَكَذَا مَوْضِعُ حِسِّ السَّمْعِ، وَمَوْضِعُ الْإِدْرَاكِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالْأَسْمَاعُ فِي ظَاهِرِ الْخِلْقَةِ، وَأَمَّا الْبَصَرُ فَالْحَاسَّةُ مِنْهُ
ظَاهِرَةٌ مُنْكَشِفَةٌ (قَالَ) : وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّقَائِقِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: " وَلِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعَ صَاحِبَتِهَا مَقَامٌ ".
(وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أَقُولُ: الْعَذَابُ اسْمٌ لِمَا يُؤْلِمُ وَيَذْهَبُ بِعُذُوبَةِ الْحَيَاةِ مِنْ ضَرْبٍ وَوَجَعٍ وَجُوعٍ وَظَمَأٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَذَبَ الرَّجُلُ إِذَا تَرَكَ الْمَأْكَلَ (زَادَ غَيْرُهُ: مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ) وَالنَّوْمَ، فَهُوَ عَاذِبٌ وَعَذُوبٌ، فَالتَّعْذِيبُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَذَّبَ، أَيْ يَجُوعُ وَيَسْهَرُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْعَذْبِ، فَعَذَّبْتُهُ: أَزَلْتُ عَذْبَ حَيَاتِهِ، عَلَى بِنَاءِ: مَرَّضْتُهُ وَقَذَيْتُهُ، وَقِيلَ أَصْلُ التَّعْذِيبِ: إِكْثَارُ الضَّرْبِ بِعَذْبَةِ السَّوْطِ أَيْ طَرَفِهِ اهـ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْعَذَابُ كَالنَّكَالِ بِنَاءً وَمَعْنًى، تَقُولُ: أَعْذَبَ عَنِ الشَّيْءِ وَنَكَلَ عَنْهُ إِذَا أَمْسَكَ، وَمِنْهُ الْمَاءُ الْعَذْبُ؛ لِأَنَّهُ يَقْمَعُ الْعَطَشَ وَيَرْدَعُهُ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى نُقَاخًا وَفُرَاتًا ثُمَّ اتَّسَعَ فَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ أَلَمٍ فَادِحٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِقَابًا يَرْدَعُ الْجَانِيَ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ إِلَخْ.
وَالْعَظِيمُ: ضِدُّ الْحَقِيرِ، فَهُوَ فَوْقَ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّغِيرِ، وَتَنْكِيرُ الْعَذَابِ هُنَا
123
لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ مُبْهَمٌ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ: التَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، وَوَصْفُهُ مَعَ ذَلِكَ بِعَظِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَالِغٌ حَدَّ الْعَظَمَةِ كَمًّا وَكَيْفًا، فَهُوَ شَدِيدُ الْإِيلَامِ وَطَوِيلُ الزَّمَانِ، وَهَلْ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْآخِرَةِ؟ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (٥: ٤١) فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمِنْ آيَاتٍ أُخْرَى: أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ، وَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ جَزَاؤُهُ الضَّنْكُ وَفَقْدُ الْعِزَّةِ وَالسُّلْطَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ فِي الْعُقْبَى.
وَهُنَا سَأَلَهُ سَائِلٌ: هَلِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنَا لَا أُحِبُّ أَنْ أَحْشُرَ الْمَسَائِلَ الْخِلَافِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، بَلْ أُحِبُّ أَنْ أُبَيِّنَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَفْهَمُهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَمَا كَانَ يَخْطُرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْهُمُ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ، عَلَى أَنَّ الِاتِّفَاقَ وَاقِعٌ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ بَلْ بَيْنَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ
بِالْمُحَالِ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَأَنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكِتَابِ وَتَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، فَمَا بَقِيَ مِنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ لَا يَمَسُّ نُصُوصَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١: ٤٢).
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
قَدَّمْنَا أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَأَقْسَامِ النَّاسِ بِإِزَائِهِ، وَذَكَرْنَا مِنْهُمْ ثَلَاثَ فِرَقٍ - فِرْقَتَانِ لَهُمَا فِيهِ هُدًى:
(إِحْدَاهُمَا) : الْمُتَّقُونَ وَبُيِّنَ حَالُهُمْ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (٢: ٣) إِلَخْ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُدْعَوْنَ الْحَنِيفِيِّينَ، وَالْمُنْصِفُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ إِشْرَاقَ نُورِ الْحَقِّ لِيَهْتَدُوا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ شَيْخُنَا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ: التَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، وَوَصْفُهُ مَعَ ذَلِكَ بِعَظِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَالِغٌ حَدَّ الْعَظَمَةِ كَمًّا وَكَيْفًا، فَهُوَ شَدِيدُ الْإِيلَامِ وَطَوِيلُ الزَّمَانِ، وَهَلْ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْآخِرَةِ؟ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (٥: ٤١) فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمِنْ آيَاتٍ أُخْرَى: أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ، وَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ جَزَاؤُهُ الضَّنْكُ وَفَقْدُ الْعِزَّةِ وَالسُّلْطَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ فِي الْعُقْبَى.
وَهُنَا سَأَلَهُ سَائِلٌ: هَلِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنَا لَا أُحِبُّ أَنْ أَحْشُرَ الْمَسَائِلَ الْخِلَافِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، بَلْ أُحِبُّ أَنْ أُبَيِّنَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَفْهَمُهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَمَا كَانَ يَخْطُرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْهُمُ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ، عَلَى أَنَّ الِاتِّفَاقَ وَاقِعٌ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ بَلْ بَيْنَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ
بِالْمُحَالِ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَأَنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكِتَابِ وَتَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، فَمَا بَقِيَ مِنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ لَا يَمَسُّ نُصُوصَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١: ٤٢).
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
قَدَّمْنَا أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَأَقْسَامِ النَّاسِ بِإِزَائِهِ، وَذَكَرْنَا مِنْهُمْ ثَلَاثَ فِرَقٍ - فِرْقَتَانِ لَهُمَا فِيهِ هُدًى:
(إِحْدَاهُمَا) : الْمُتَّقُونَ وَبُيِّنَ حَالُهُمْ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (٢: ٣) إِلَخْ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُدْعَوْنَ الْحَنِيفِيِّينَ، وَالْمُنْصِفُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ إِشْرَاقَ نُورِ الْحَقِّ لِيَهْتَدُوا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
124
(الثَّانِيَةُ) : هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) (٢: ٤) إِلَخْ، وَهُمْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يُوجَدُ بِإِزَاءِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ طَائِفَتَانِ أُخْرَيَانِ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُمَا بِالْقُرْآنِ:
الْأُولَى مِنْهُمَا: هِيَ الْمَشْرُوحُ حَالُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (٢: ٦) إِلَخْ. وَهِيَ كَمَا قَدَّمْنَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: جَاحِدِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَمُعَانِدِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يُذْعِنُونَ.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا الْآنَ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِ الْفِرْقَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ فِرْقَةٌ مِنَ النَّاسِ تُوجَدُ فِي كُلِّ آنٍ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَيْسَتِ الْآيَاتُ كَمَا قِيلَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِهِمْ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٢: ٨) وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: " وَآمَنَّا بِكَ يَا مُحَمَّدُ " وَمَا كَانَ الْقُرْآنُ لِيَعْتَنِيَ بِأُولَئِكَ النَّفَرِ - الَّذِينَ
لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَرَضُوا - كُلَّ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، وَيُطِيلَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا أَطَالَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ سَائِرُ النَّاسِ.
نَعَمْ: إِنَّ الْآيَاتِ عَلَى عُمُومِهَا تَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ التَّأْوِيلِ تَنَاوُلًا أَوَّلِيًّا، وَتَصِفُ حَالَهُمْ وَصْفًا مُطَابِقًا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ عِبْرَةٌ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ لِمَنْ مَضَى وَلِمَنْ يَجِيءُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ كَانَ وَيَكُونُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَمِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى دِينٍ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ - مَعَ أَنَّ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ ذَلِكَ - لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَهُوَ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ قِبَلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الْإِعْجَازِ.
قَدْ يُقَالُ: كَانَ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ مَنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمُنَافِقِي الْيَهُودِ، فَلِمَ كَذَّبَهُمْ وَنَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ نَفْيًا مُطْلَقًا مُؤَكَّدًا بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي خَبَرِ " مَا " فَقَالَ: (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ بِدَاخِلِينَ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مَنْ نَفْيِ فِعْلِ الْإِيمَانِ الْمُطَابِقِ لِلَفْظِهِمْ وَالْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اعْتِقَادَهُمُ التَّقْلِيدِيَّ الضَّعِيفَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ، فَلَوْ حُصِّلَ مَا فِي صُدُورِهُمْ وَمُحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَعُرِفَتْ مَنَاشِئُ الْأَعْمَالِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، لَوُجِدَ أَنَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ كَصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ فَإِنَّمَا مَبْعَثُهُ رِئَاءُ النَّاسِ وَحُبُّ السُّمْعَةِ، وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ مُنْغَمِسُونَ فِي الشُّرُورِ، كَالْإِفْسَادِ وَالْكَذِبِ وَالْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالطَّمَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرَّذَائِلِ الَّتِي حَكَاهَا عَنْهُمُ الْكِتَابُ وَنَقَلَهَا رُوَاةُ السُّنَّةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَشْعُرَ الْمُؤْمِنُ بِعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مُطَّلِعٌ عَلَى سِرِّهِ وَإِعْلَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مُهَيْمِنٌ عَلَى
وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يُوجَدُ بِإِزَاءِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ طَائِفَتَانِ أُخْرَيَانِ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُمَا بِالْقُرْآنِ:
الْأُولَى مِنْهُمَا: هِيَ الْمَشْرُوحُ حَالُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (٢: ٦) إِلَخْ. وَهِيَ كَمَا قَدَّمْنَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: جَاحِدِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَمُعَانِدِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يُذْعِنُونَ.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا الْآنَ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِ الْفِرْقَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ فِرْقَةٌ مِنَ النَّاسِ تُوجَدُ فِي كُلِّ آنٍ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَيْسَتِ الْآيَاتُ كَمَا قِيلَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِهِمْ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٢: ٨) وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: " وَآمَنَّا بِكَ يَا مُحَمَّدُ " وَمَا كَانَ الْقُرْآنُ لِيَعْتَنِيَ بِأُولَئِكَ النَّفَرِ - الَّذِينَ
لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَرَضُوا - كُلَّ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، وَيُطِيلَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا أَطَالَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ سَائِرُ النَّاسِ.
نَعَمْ: إِنَّ الْآيَاتِ عَلَى عُمُومِهَا تَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ التَّأْوِيلِ تَنَاوُلًا أَوَّلِيًّا، وَتَصِفُ حَالَهُمْ وَصْفًا مُطَابِقًا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ عِبْرَةٌ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ لِمَنْ مَضَى وَلِمَنْ يَجِيءُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ كَانَ وَيَكُونُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَمِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى دِينٍ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ - مَعَ أَنَّ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ ذَلِكَ - لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَهُوَ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ قِبَلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الْإِعْجَازِ.
قَدْ يُقَالُ: كَانَ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ مَنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمُنَافِقِي الْيَهُودِ، فَلِمَ كَذَّبَهُمْ وَنَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ نَفْيًا مُطْلَقًا مُؤَكَّدًا بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي خَبَرِ " مَا " فَقَالَ: (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ بِدَاخِلِينَ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مَنْ نَفْيِ فِعْلِ الْإِيمَانِ الْمُطَابِقِ لِلَفْظِهِمْ وَالْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اعْتِقَادَهُمُ التَّقْلِيدِيَّ الضَّعِيفَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ، فَلَوْ حُصِّلَ مَا فِي صُدُورِهُمْ وَمُحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَعُرِفَتْ مَنَاشِئُ الْأَعْمَالِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، لَوُجِدَ أَنَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ كَصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ فَإِنَّمَا مَبْعَثُهُ رِئَاءُ النَّاسِ وَحُبُّ السُّمْعَةِ، وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ مُنْغَمِسُونَ فِي الشُّرُورِ، كَالْإِفْسَادِ وَالْكَذِبِ وَالْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالطَّمَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرَّذَائِلِ الَّتِي حَكَاهَا عَنْهُمُ الْكِتَابُ وَنَقَلَهَا رُوَاةُ السُّنَّةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَشْعُرَ الْمُؤْمِنُ بِعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مُطَّلِعٌ عَلَى سِرِّهِ وَإِعْلَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مُهَيْمِنٌ عَلَى
125
السَّرَائِرِ، وَعَالِمٌ بِمَا فِي الضَّمَائِرِ، فَيُرْضِيهِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. بَلْ كَانُوا يَكْتَفُونَ بِبَعْضِ ظَوَاهِرِ الْعِبَادَاتِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُرْضُونَ اللهَ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ:
(يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أَقُولُ: الْخَدْعُ: أَنْ تُوهِمَ غَيْرَكَ خِلَافَ مَا تُخْفِيهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ لَهُ لِتُنْزِلَهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: خَدَعَ الضَّبُّ إِذَا تَوَارَى فِي جُحْرِهِ، وَضَبٌّ خَادِعٌ، إِذَا أَوْهَمَ الصَّائِدَ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ،
وَأَصْلُهُ: الْإِخْفَاءُ.
هَذَا مَا حَرَّرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَقَدْ جَعَلَهُ الرَّاغِبُ أَعَمَّ، فَلَمْ يَعْتَبِرْ فِيمَا يُخْفِيهِ الْخَادِعُ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَمْتَنِعُ إِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُشَارَكَةِ (يُخَادِعُونَ) وَقَالُوا: إِنَّهُ مُحَالٌ عَلَى اللهِ وَغَيْرُ لَائِقٍ بِالْمُؤْمِنِينَ بَلْ يُسْتَقْبَحُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (٤: ١٤٢) وَلَمَّا كَانَ إِخْفَاءُ شَيْءٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى مُحَالًا فَسَّرُوا مُخَادَعَتَهُمْ لِلَّهِ هُنَا وَهُنَاكَ بِأَنَّهُ خِدَاعٌ فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَرَعَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجْزَوْنَ جَزَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ يَكُونُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، فَمُعَامَلَتُهُمُ الظَّاهِرَةُ غَيْرُ جَزَائِهِمُ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ عَمَلَهُمُ الظَّاهِرَ غَيْرُ كُفْرِهِمُ الْخَفِيِّ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ عَمَلَهُمْ خِدَاعٌ، وَمُقَابَلَةُ حَقِّ صُورَتِهِ صُورَةُ الْخِدَاعِ، وَلَكِنَّهُ لَا غِشَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ صَرِيحَةٌ فِي كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ فِعْلَ الْمُشَارَكَةِ هُنَا خَاصٌّ بِالْفَاعِلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِعْلُهُ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَصِيغَةُ " فَاعِلٍ " لَا تَطَّرِدُ فِيهَا الْمُشَارِكَةُ بِالْفِعْلِ كَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَقَدْ تَكُونُ مُقَدَّرَةً أَوْ بِاعْتِبَارِ الشَّأْنِ أَوِ الْقَصْدِ، وَمِنَ التَّكَلُّفِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مُخَادَعَتِهِمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُخَادَعَةِ اللهِ تَعَالَى.
وَقَالَ شَيْخُنَا: الْعَمَلُ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَصْدُقُهُ الْبَاطِنُ إِذَا قُصِدَ بِهِ إِرْضَاءُ آخَرَ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ: مُدَاجَاةً، وَمُدَارَاةً، وَمُخَادَعَةً، فَإِنْ كَانَ يُقْصَدُ بِهِ الْمُخَادَعَةُ فَظَاهِرٌ، وَإِلَّا فَيَكْفِي لِصِحَّةِ الْإِطْلَاقِ أَنَّ الْعَمَلَ عَمَلُ الْمُخَادِعِ لَا عَمَلُ الطَّائِعِ الْخَاضِعِ، وَهَذَا مُرَادُ الْقُرْآنِ مِنْ مُخَادَعَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ إِيمَانًا نَاقِصًا، لَمْ يَقْدُرُوا اللهَ فِيهِ حَقَّ قَدْرِهِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْصِدَ الْمُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى مُخَادَعَتَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِاللهِ ظَنُّوا بِهِ مَا يُسَوِّغُ وَصْفَهُمْ بِمَا ذَكَرَ عَنْهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أَقُولُ: وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا آنِفًا فِي صِيغَةِ " فَاعِلٍ " وَالْمُشَارَكَةُ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْخَادِعُونَ الْمَخْدُوعُونَ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ (يَخْدَعُونَ) نَصٌّ فِي أَنَّ مُخَادَعَتَهُمْ
(يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أَقُولُ: الْخَدْعُ: أَنْ تُوهِمَ غَيْرَكَ خِلَافَ مَا تُخْفِيهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ لَهُ لِتُنْزِلَهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: خَدَعَ الضَّبُّ إِذَا تَوَارَى فِي جُحْرِهِ، وَضَبٌّ خَادِعٌ، إِذَا أَوْهَمَ الصَّائِدَ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ،
وَأَصْلُهُ: الْإِخْفَاءُ.
هَذَا مَا حَرَّرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَقَدْ جَعَلَهُ الرَّاغِبُ أَعَمَّ، فَلَمْ يَعْتَبِرْ فِيمَا يُخْفِيهِ الْخَادِعُ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَمْتَنِعُ إِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُشَارَكَةِ (يُخَادِعُونَ) وَقَالُوا: إِنَّهُ مُحَالٌ عَلَى اللهِ وَغَيْرُ لَائِقٍ بِالْمُؤْمِنِينَ بَلْ يُسْتَقْبَحُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (٤: ١٤٢) وَلَمَّا كَانَ إِخْفَاءُ شَيْءٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى مُحَالًا فَسَّرُوا مُخَادَعَتَهُمْ لِلَّهِ هُنَا وَهُنَاكَ بِأَنَّهُ خِدَاعٌ فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَرَعَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجْزَوْنَ جَزَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ يَكُونُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، فَمُعَامَلَتُهُمُ الظَّاهِرَةُ غَيْرُ جَزَائِهِمُ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ عَمَلَهُمُ الظَّاهِرَ غَيْرُ كُفْرِهِمُ الْخَفِيِّ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ عَمَلَهُمْ خِدَاعٌ، وَمُقَابَلَةُ حَقِّ صُورَتِهِ صُورَةُ الْخِدَاعِ، وَلَكِنَّهُ لَا غِشَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ صَرِيحَةٌ فِي كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ فِعْلَ الْمُشَارَكَةِ هُنَا خَاصٌّ بِالْفَاعِلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِعْلُهُ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَصِيغَةُ " فَاعِلٍ " لَا تَطَّرِدُ فِيهَا الْمُشَارِكَةُ بِالْفِعْلِ كَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَقَدْ تَكُونُ مُقَدَّرَةً أَوْ بِاعْتِبَارِ الشَّأْنِ أَوِ الْقَصْدِ، وَمِنَ التَّكَلُّفِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مُخَادَعَتِهِمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُخَادَعَةِ اللهِ تَعَالَى.
وَقَالَ شَيْخُنَا: الْعَمَلُ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَصْدُقُهُ الْبَاطِنُ إِذَا قُصِدَ بِهِ إِرْضَاءُ آخَرَ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ: مُدَاجَاةً، وَمُدَارَاةً، وَمُخَادَعَةً، فَإِنْ كَانَ يُقْصَدُ بِهِ الْمُخَادَعَةُ فَظَاهِرٌ، وَإِلَّا فَيَكْفِي لِصِحَّةِ الْإِطْلَاقِ أَنَّ الْعَمَلَ عَمَلُ الْمُخَادِعِ لَا عَمَلُ الطَّائِعِ الْخَاضِعِ، وَهَذَا مُرَادُ الْقُرْآنِ مِنْ مُخَادَعَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ إِيمَانًا نَاقِصًا، لَمْ يَقْدُرُوا اللهَ فِيهِ حَقَّ قَدْرِهِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْصِدَ الْمُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى مُخَادَعَتَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِاللهِ ظَنُّوا بِهِ مَا يُسَوِّغُ وَصْفَهُمْ بِمَا ذَكَرَ عَنْهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أَقُولُ: وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا آنِفًا فِي صِيغَةِ " فَاعِلٍ " وَالْمُشَارَكَةُ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْخَادِعُونَ الْمَخْدُوعُونَ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ (يَخْدَعُونَ) نَصٌّ فِي أَنَّ مُخَادَعَتَهُمْ
126
لِلَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِيهِمَا، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا صُورِيَّةٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ: أَنَّ الْقَوْمَ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ عَمَلِهِمْ خَاصٌّ بِهِمْ، وَعَاقِبَتَهُ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ
وَحْدَهُمْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ فِيهَا مَا مِثَالُهُ:
إِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَصْغَى لِمُنَاجَاةِ سِرِّهِ يَجِدُ عِنْدَمَا يَهُمُّ بِعَمَلِ شَيْءٍ أَنَّ فِي قَلْبِهِ طَرِيقَيْنِ، وَفِي نَفْسِهِ خَصْمَيْنِ مُخْتَصِمَيْنِ، أَحَدُهُمَا: يَأْمُرُهُ بِالْعَمَلِ وَسُلُوكِ الطَّرِيقِ الْأَعْوَجِ، وَآخَرُ: يَنْهَاهُ عَنِ الْعِوَجِ وَيَأْمُرُهُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْمَنْهَجِ، وَلَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ بَاعِثُ الشَّرِّ، وَلَا يُجِيبُ دَاعِيَ السُّوءِ، إِلَّا إِذَا خَدَعَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهَا، وَصَرَفَهَا عَنِ الْحَقِّ وَزَيَّنَ لَهَا الْبَاطِلَ، وَهَذِهِ الشُّئُونُ النَّفْسِيَّةُ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ، تَكُونُ الْمُنَازَعَةُ ثُمَّ الْمُخَادَعَةُ ثُمَّ التَّرْجِيحُ وَيَمُرُّ ذَلِكَ كُلُّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَرُبَّمَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ بِفِكْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَمَا يَشْعُرُونَ) فَإِنَّ الشُّعُورَ هُوَ إِدْرَاكُ مَا خَفِيَ.
أَقُولُ: قَالَ الرَّاغِبُ بَعْدَ ذِكْرِ الشَّعْرِ - بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا - مِنْ مُفْرَدَاتِهِ وَشَعَرْتُ أَصَبْتُ الشَّعْرَ، وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ شَعَرْتُ كَذَا أَيْ عَلِمْتُ عِلْمًا هُوَ فِي الدِّقَّةِ كَإِصَابَةِ الشَّعْرِ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الشَّاعِرُ شَاعِرًا لِفِطْنَتِهِ وَدِقَّةِ مَعْرِفَتِهِ، فَالشِّعْرُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْعِلْمِ الدَّقِيقِ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْتَ شِعْرِي. وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْمَوْزُونِ الْمُقَفَّى مِنَ الْكَلَامِ اهـ.
أَقُولُ: وَيُنَاسِبُ هَذَا الشِّعَارُ - بِالْكَسْرِ - لِلْكِسَاءِ الْبَاطِنِ الَّذِي يَمَسُّ شَعْرَ الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ شَعَرَ بِهِ - كَنَصَرَ وَكَرُمَ - يَشْعُرُ شِعْرًا - بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ - وَشُعُورًا مَعْنَاهُ عَلِمَ بِهِ وَفَطَنَ لَهُ وَأَدْرَكَهُ، وَالْفِطْنَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ.
وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الشُّعُورَ إِدْرَاكُ الْمَشَاعِرِ أَيِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ إِدْرَاكُ مَا دَقَّ مِنْ حِسِّيٍّ وَعَقْلِيٍّ، فَلَا تَقُولُ: شَعَرْتُ بِحَلَاوَةِ الْعَسَلِ، وَبِصَوْتِ الصَّاعِقَةِ، وَبِأَلَمِ كَيَّةِ النَّارِ، وَإِنَّمَا تَقُولُ: أَشْعُرُ بِحَرَارَةِ مَا فِي بَدَنِي، وَبِمُلُوحَةٍ أَوْ مَرَارَةٍ فِي هَذَا الْمَاءِ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً، وَبِهَيْنَمَةٍ وَرَاءَ الْجِدَارِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَيْ إِدْرَاكُ مَا فِيهِ دِقَّةٌ وَخَفَاءٌ.
فَمَعْنَى نَفْيِ الشُّعُورِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي مُخَادَعَتِهِمُ اللهَ تَعَالَى: أَنَّهُمْ يَجْرُونَ فِي كَذِبِهِمْ وَتَلْبِيسِهِمْ وَرِيَائِهِمْ عَلَى مَا أَلِفُوا وَتَعَوَّدُوا، فَلَا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ وَلَا يُرَاقِبُونَ اللهَ فِيهِ، وَمَا كُلُّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، وَمَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ لَمْ يَتَرَبَّ عَلَى خَشْيَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ، وَلَا يُفَكِّرْ فِيمَا يُرْضِيهِ وَفِيمَا يُغْضِبُهُ، فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُخَادِعِ لَهُ
وَمَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا مُخَادَعَتُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَعْدَاءً وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ إِظْهَارِ عَدَاوَاتِهِمْ، فَأَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَقْصِدُونَ بِهَا إِرْضَاءَ الْمُؤْمِنِينَ كُلُّهَا خِدَاعٌ وَرِيَاءٌ.
وَحْدَهُمْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ فِيهَا مَا مِثَالُهُ:
إِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَصْغَى لِمُنَاجَاةِ سِرِّهِ يَجِدُ عِنْدَمَا يَهُمُّ بِعَمَلِ شَيْءٍ أَنَّ فِي قَلْبِهِ طَرِيقَيْنِ، وَفِي نَفْسِهِ خَصْمَيْنِ مُخْتَصِمَيْنِ، أَحَدُهُمَا: يَأْمُرُهُ بِالْعَمَلِ وَسُلُوكِ الطَّرِيقِ الْأَعْوَجِ، وَآخَرُ: يَنْهَاهُ عَنِ الْعِوَجِ وَيَأْمُرُهُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْمَنْهَجِ، وَلَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ بَاعِثُ الشَّرِّ، وَلَا يُجِيبُ دَاعِيَ السُّوءِ، إِلَّا إِذَا خَدَعَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهَا، وَصَرَفَهَا عَنِ الْحَقِّ وَزَيَّنَ لَهَا الْبَاطِلَ، وَهَذِهِ الشُّئُونُ النَّفْسِيَّةُ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ، تَكُونُ الْمُنَازَعَةُ ثُمَّ الْمُخَادَعَةُ ثُمَّ التَّرْجِيحُ وَيَمُرُّ ذَلِكَ كُلُّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَرُبَّمَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ بِفِكْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَمَا يَشْعُرُونَ) فَإِنَّ الشُّعُورَ هُوَ إِدْرَاكُ مَا خَفِيَ.
أَقُولُ: قَالَ الرَّاغِبُ بَعْدَ ذِكْرِ الشَّعْرِ - بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا - مِنْ مُفْرَدَاتِهِ وَشَعَرْتُ أَصَبْتُ الشَّعْرَ، وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ شَعَرْتُ كَذَا أَيْ عَلِمْتُ عِلْمًا هُوَ فِي الدِّقَّةِ كَإِصَابَةِ الشَّعْرِ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الشَّاعِرُ شَاعِرًا لِفِطْنَتِهِ وَدِقَّةِ مَعْرِفَتِهِ، فَالشِّعْرُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْعِلْمِ الدَّقِيقِ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْتَ شِعْرِي. وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْمَوْزُونِ الْمُقَفَّى مِنَ الْكَلَامِ اهـ.
أَقُولُ: وَيُنَاسِبُ هَذَا الشِّعَارُ - بِالْكَسْرِ - لِلْكِسَاءِ الْبَاطِنِ الَّذِي يَمَسُّ شَعْرَ الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ شَعَرَ بِهِ - كَنَصَرَ وَكَرُمَ - يَشْعُرُ شِعْرًا - بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ - وَشُعُورًا مَعْنَاهُ عَلِمَ بِهِ وَفَطَنَ لَهُ وَأَدْرَكَهُ، وَالْفِطْنَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ.
وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الشُّعُورَ إِدْرَاكُ الْمَشَاعِرِ أَيِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ إِدْرَاكُ مَا دَقَّ مِنْ حِسِّيٍّ وَعَقْلِيٍّ، فَلَا تَقُولُ: شَعَرْتُ بِحَلَاوَةِ الْعَسَلِ، وَبِصَوْتِ الصَّاعِقَةِ، وَبِأَلَمِ كَيَّةِ النَّارِ، وَإِنَّمَا تَقُولُ: أَشْعُرُ بِحَرَارَةِ مَا فِي بَدَنِي، وَبِمُلُوحَةٍ أَوْ مَرَارَةٍ فِي هَذَا الْمَاءِ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً، وَبِهَيْنَمَةٍ وَرَاءَ الْجِدَارِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَيْ إِدْرَاكُ مَا فِيهِ دِقَّةٌ وَخَفَاءٌ.
فَمَعْنَى نَفْيِ الشُّعُورِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي مُخَادَعَتِهِمُ اللهَ تَعَالَى: أَنَّهُمْ يَجْرُونَ فِي كَذِبِهِمْ وَتَلْبِيسِهِمْ وَرِيَائِهِمْ عَلَى مَا أَلِفُوا وَتَعَوَّدُوا، فَلَا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ وَلَا يُرَاقِبُونَ اللهَ فِيهِ، وَمَا كُلُّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، وَمَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ لَمْ يَتَرَبَّ عَلَى خَشْيَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ، وَلَا يُفَكِّرْ فِيمَا يُرْضِيهِ وَفِيمَا يُغْضِبُهُ، فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُخَادِعِ لَهُ
وَمَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا مُخَادَعَتُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَعْدَاءً وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ إِظْهَارِ عَدَاوَاتِهِمْ، فَأَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَقْصِدُونَ بِهَا إِرْضَاءَ الْمُؤْمِنِينَ كُلُّهَا خِدَاعٌ وَرِيَاءٌ.
127
وَقَدْ فَصَّلَ شَيْخُنَا سِرَّ مُخَادَعَتِهِمْ وَفَلْسَفَتَهَا بِبَيَانٍ عِلْمِيٍّ جَلِيٍّ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورُونَ إِذَا عَرَضَ زَاجِرُ الدِّينِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِهِمْ قَامَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُسَهِّلُ لَهُمْ أَمْرَهُ مِنْ أَمَلٍ فِي الْغُفْرَانِ، أَوْ تَأْوِيلٍ إِلَى غَيْرِ الْمُرَادِ، أَوْ تَحْرِيفٍ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْقَصْدَ مِنَ الْخِطَابِ، وَذَلِكَ بِمَا رَسَخَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ مَلَكَاتِ السُّوءِ، الْمُغَشَّاةِ بِصُوَرٍ مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُلَوِّنَةِ مِمَّا قَدْ يَتَجَلَّى لِلْأَعْيُنِ فِيمَا يُسَمُّونَهُ إِيمَانًا وَمَا هُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بِمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ خَادِعُونَ مَخْدُوعُونَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عُمِّيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ أَنْفُسِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمُرُّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ.
وَفَرْقٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ مَا تَسْتَحْضِرُهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَتَسْتَعْرِضُهُ عِنْدَمَا تَسْأَلُ عَنْهُ، وَمَا هُوَ رَاسِخٌ فِيهَا مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ، بِصَيْرُورَتِهِ مَلَكَةً فِي النَّفْسِ مُتَصَرِّفَةً فِي الْإِرَادَةِ، بَاعِثَةً لَهَا عَلَى الْعَمَلِ، فَمِنَ الْعُلُومِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي النَّفْسِ مُمْتَزِجٌ بِهَا (عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيَتْبَعُ امْتِزَاجَهُ هَذَا تَمَكُّنُ مَلِكَاتٍ أُخَرَ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَعْمَالُ، وَهِيَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ كَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَنْطَبِعُ فِي النَّفْسِ تَبَعًا لِلْعِلْمِ الَّذِي يُلَائِمُهَا) وَهُوَ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ الْأَعْمَالُ، وَرُبَّمَا يَغْفُلُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَلَا يُلَاحِظُهُ عِنْدَمَا يَعْمَلُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مُلَاحَظَةِ الْعَلَمِ وَاسْتِحْضَارِهِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ وَتَحَقُّقِهِ فِي نَفْسِهِ.
وَمِنَ الْعُلُومِ مَا يُلَاحِظُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ صُورَةٌ عِنْدَ النَّفْسِ تَسْتَحْضِرُهُ عِنْدَ الْمُنَاسَبَةِ وَيَغِيبُ عَنْهَا عِنْدَ عَدَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْهُ الْقَلْبُ وَلَمْ يَمْتَزِجْ بِالنَّفْسِ فَيَصِيرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهَا الرَّاسِخَةِ الَّتِي لَا تُزَايِلُهَا (وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ، كَعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الَّذِي يُحَصِّلُهُ طَلَبَةُ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ مَثَلًا، وَكَعِلْمِ مَزَايَا الْفَضِيلَةِ وَرَزَايَا الرَّذِيلَةِ الَّذِي يُخَزِّنُهُ طُلَّابُ عُلُومِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالنُّظَّارُ فِي كُتُبِ الْأَوَاخِرِ وَالْأَوَائِلِ، لِتَعْزِيزِ مَادَّةِ الْعِلْمِ، وَتَوْسِيعِ مَجَالِ الْقَوْلِ، وَتَوْفِيرِ الْقُدْرَةِ عَلَى حُسْنِ الْمَنْطِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الْعِلْمُ كَالْأَدَاةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنِ الْعَامِلِ، يَبْقَى فِي خِزَانَةِ الْخَيَالِ، تَسْتَحْضِرُهُ النَّفْسُ عِنْدَمَا تَدْفَعُهَا الشَّهْوَةُ إِلَى تَزْيِينِ
ظَاهِرِ الْمَقَالِ، لَا إِلَى تَحْسِينِ بَاطِنِ الْحَالِ، وَلَنْ يَكُونَ لِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْعِلْمِ أَدْنَى أَثَرٍ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ صَاحِبِهِ وَتَسْمِيَتُهُ عِلْمًا؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِهِ الْعَامِّ: " صُورَةٌ مِنَ الشَّيْءِ حَاضِرَةٌ عِنْدَ النَّفْسِ " وَعِنْدَ التَّدْقِيقِ لَا تَرْتَفِعُ بِهِ مَنْزِلَتُهُ إِلَى أَنْ يَنْدَرِجَ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ (الْحَقِيقِيِّ) فَاسْتِحْضَارُ هَذَا الْعِلْمِ كَاسْتِحْضَارِ الْكِتَابِ وَاللَّوْحِ وَإِدْرَاكِ مَا فِيهِ، ثُمَّ الذُّهُولِ عَنْهُ وَنِسْيَانِهِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ.
فَهَؤُلَاءِ - الَّذِينَ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُخَادِعُونَ اللهَ تَعَالَى - عِنْدَهُمْ عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ تَنْبَعِثُ عَنْهُ أَعْمَالُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ تَصْدِيقُهُمْ بِمَا فِي شَهَوَاتِهِمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِذَوَاتِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَ عِنْدَهُمُ اخْتِيَارَ مَا فِيهِ قَضَاؤُهَا وَالِانْصِبَابَ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا أَنْسَاهُمْ مَا كَانُوا خَزَّنُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ صُوَرِ الِاعْتِقَادَاتِ الدِّينِيَّةِ، فَأَبْعَدَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ، وَجَعَلَهُ رَسْمًا مَخْزُونًا فِي الْخَيَالِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْأَفْعَالِ، يَدْعُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ،
وَفَرْقٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ مَا تَسْتَحْضِرُهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَتَسْتَعْرِضُهُ عِنْدَمَا تَسْأَلُ عَنْهُ، وَمَا هُوَ رَاسِخٌ فِيهَا مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ، بِصَيْرُورَتِهِ مَلَكَةً فِي النَّفْسِ مُتَصَرِّفَةً فِي الْإِرَادَةِ، بَاعِثَةً لَهَا عَلَى الْعَمَلِ، فَمِنَ الْعُلُومِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي النَّفْسِ مُمْتَزِجٌ بِهَا (عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيَتْبَعُ امْتِزَاجَهُ هَذَا تَمَكُّنُ مَلِكَاتٍ أُخَرَ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَعْمَالُ، وَهِيَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ كَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَنْطَبِعُ فِي النَّفْسِ تَبَعًا لِلْعِلْمِ الَّذِي يُلَائِمُهَا) وَهُوَ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ الْأَعْمَالُ، وَرُبَّمَا يَغْفُلُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَلَا يُلَاحِظُهُ عِنْدَمَا يَعْمَلُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مُلَاحَظَةِ الْعَلَمِ وَاسْتِحْضَارِهِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ وَتَحَقُّقِهِ فِي نَفْسِهِ.
وَمِنَ الْعُلُومِ مَا يُلَاحِظُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ صُورَةٌ عِنْدَ النَّفْسِ تَسْتَحْضِرُهُ عِنْدَ الْمُنَاسَبَةِ وَيَغِيبُ عَنْهَا عِنْدَ عَدَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْهُ الْقَلْبُ وَلَمْ يَمْتَزِجْ بِالنَّفْسِ فَيَصِيرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهَا الرَّاسِخَةِ الَّتِي لَا تُزَايِلُهَا (وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ، كَعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الَّذِي يُحَصِّلُهُ طَلَبَةُ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ مَثَلًا، وَكَعِلْمِ مَزَايَا الْفَضِيلَةِ وَرَزَايَا الرَّذِيلَةِ الَّذِي يُخَزِّنُهُ طُلَّابُ عُلُومِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالنُّظَّارُ فِي كُتُبِ الْأَوَاخِرِ وَالْأَوَائِلِ، لِتَعْزِيزِ مَادَّةِ الْعِلْمِ، وَتَوْسِيعِ مَجَالِ الْقَوْلِ، وَتَوْفِيرِ الْقُدْرَةِ عَلَى حُسْنِ الْمَنْطِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الْعِلْمُ كَالْأَدَاةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنِ الْعَامِلِ، يَبْقَى فِي خِزَانَةِ الْخَيَالِ، تَسْتَحْضِرُهُ النَّفْسُ عِنْدَمَا تَدْفَعُهَا الشَّهْوَةُ إِلَى تَزْيِينِ
ظَاهِرِ الْمَقَالِ، لَا إِلَى تَحْسِينِ بَاطِنِ الْحَالِ، وَلَنْ يَكُونَ لِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْعِلْمِ أَدْنَى أَثَرٍ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ صَاحِبِهِ وَتَسْمِيَتُهُ عِلْمًا؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِهِ الْعَامِّ: " صُورَةٌ مِنَ الشَّيْءِ حَاضِرَةٌ عِنْدَ النَّفْسِ " وَعِنْدَ التَّدْقِيقِ لَا تَرْتَفِعُ بِهِ مَنْزِلَتُهُ إِلَى أَنْ يَنْدَرِجَ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ (الْحَقِيقِيِّ) فَاسْتِحْضَارُ هَذَا الْعِلْمِ كَاسْتِحْضَارِ الْكِتَابِ وَاللَّوْحِ وَإِدْرَاكِ مَا فِيهِ، ثُمَّ الذُّهُولِ عَنْهُ وَنِسْيَانِهِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ.
فَهَؤُلَاءِ - الَّذِينَ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُخَادِعُونَ اللهَ تَعَالَى - عِنْدَهُمْ عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ تَنْبَعِثُ عَنْهُ أَعْمَالُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ تَصْدِيقُهُمْ بِمَا فِي شَهَوَاتِهِمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِذَوَاتِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَ عِنْدَهُمُ اخْتِيَارَ مَا فِيهِ قَضَاؤُهَا وَالِانْصِبَابَ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا أَنْسَاهُمْ مَا كَانُوا خَزَّنُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ صُوَرِ الِاعْتِقَادَاتِ الدِّينِيَّةِ، فَأَبْعَدَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ، وَجَعَلَهُ رَسْمًا مَخْزُونًا فِي الْخَيَالِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْأَفْعَالِ، يَدْعُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ،
128
وَتُكَذِّبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ، وَلِذَلِكَ نَسَبَهُمْ إِلَى الدَّعْوَى الْقَوْلِيَّةِ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِمْ مَا قَالَ فِي ذَلِكَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (٢: ٣) فَإِنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَ إِيمَانَهُمْ وَقَفَّى عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَمَلِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ مَا الْإِيمَانُ الَّذِي يَعْتَدُّ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَظْهَرُ لِمَنْ يَقْرَأُ لِيُحَاسِبَ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَزِنُ إِيمَانَهُ وَأَعْمَالَهُ بِمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى إِيمَانِ مَنْ قَبْلَهُ وَأَعْمَالِهِمْ، لَا لِمَنْ يَقْرَؤُهُ عَلَى أَنَّهُ قِصَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ مَاتَ مَنْ يَحْكِي عَنْهُمْ، وَاسْتَثْنَى الْقَارِئُ نَفْسَهُ مِمَّنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا.
فَإِنْ كَانَ مَاتَ مَنْ كَانُوا سَبَبَ النُّزُولِ فَالْقُرْآنُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، يَنْطَبِقُ حُكْمُهُ وَيَحْكُمُ سُلْطَانُهُ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ (فَكُلٌّ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَعَ ذَلِكَ يَصْدُرُ فِي عَمَلِهِ عَنْ شَهَوَاتِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ إِيمَانُهُ عَنْ رُكُوبِ خَطِيئَاتِهِ، فَاعْتِقَادُهُ إِنَّمَا هُوَ خَيَالٌ، لَا يَعْلُو عَنْ لَفْظٍ فِي مَقَالٍ، وَدَعْوَى عِنْدَ جِدَالٍ، فَإِذَا رَكَنَ إِلَى هَذَا الْمُعْتَقَدِ فَهُوَ خَادِعٌ لِنَفْسِهِ مُخَادِعٌ لِرَبِّهِ، يَظُنُّ أَنَّ عَلَّامَ الْغُيُوبِ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا فِي الْقُلُوبِ).
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) عُهِدَ عِنْدَ الْعَرَبِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ، وَالْمَرَضُ هُوَ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْعُقُولِ فَيُضْعِفُ تَعَلُّقَهَا وَإِدْرَاكَهَا، وَالشَّكُّ وَالْوَهْمُ مِنْ أَعْرَاضِ هَذَا الْمَرَضِ، فَهُوَ ظُلْمَةٌ تَعْرِضُ لِلْعَقْلِ فَتَقِفُ بِشُعَاعِهِ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى مَا وَرَاءِ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ. وَهَذَا النُّفُوذُ: هُوَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ الَّذِي يَسُوقُ النَّفْسَ
إِلَى الْأَخْذِ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَدْ عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْ فَقْدِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) (٧: ١٧٩) وَرُبَّمَا كَانَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْوُجْدَانِ الَّذِي هُوَ السَّائِقُ إِلَى الْأَعْمَالِ (يَظْهَرُ لَكَ ذَلِكَ بِمَا تَجِدُهُ مِنَ اضْطِرَابِ قَلْبِكَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْخَوْفِ أَوِ اشْتِدَادِ الْفَرَحِ، فَإِنَّكَ تُحِسُّ بِزِيَادَةِ ضَرَبَاتِهِ وَشِدَّةِ نَبَضَاتِهِ) فَصُورَةُ الِاعْتِقَادِ إِذَا تَنَاوَلَهَا الْعَقْلُ مِنْ طَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَالتَّسْلِيمِ فَجَعَلَهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الدِّمَاغِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى الْقَلْبِ وَلَا تَأْثِيرٌ فِي الْوِجْدَانِ، وَاعْتِقَادٌ لَا يَصْحَبُهُ هَذَا السُّلْطَانُ وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ هَذَا التَّأْثِيرُ، لَا يَعْتَدُّ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا يَسْتَفِيدُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - فَمَنْ لَمْ يَطْرُقِ الْإِيمَانُ قَلَبَهُ بِقُوَّةِ الْبُرْهَانِ وَلَمْ يَحْلُ مَذَاقُهُ مِنْهُ فِي الْوُجْدَانِ، بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْمُصَرِّفَ لَهُ فِي أَعْمَالِهِ، لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ إِلَّا إِذَا تَمَرَّنَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَنْ فَهْمٍ وَإِخْلَاصٍ، حَتَّى يَحْدُثَ لِقَلْبِهِ الْوِجْدَانُ الصَّالِحُ، فَأَهْلُ الْيَقِينِ يَبْعَثُهُمْ يَقِينُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَهْلُ التَّقْلِيدِ تُلْحِقُهُمْ أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ بِأَهْلِ الْيَقِينِ فِي الِانْتِفَاعِ بِإِيمَانِهِمْ، وَهَذَا الْفَرِيقُ الَّذِي تَحْكِي عَنْهُ الْآيَاتُ وَتَصِفُهُ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ، قَدْ فَقَدَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَلْبِ إِلَّا بِهِمَا، فَمَنْ فَقَدَهُمَا مَرِضَ وَلَا يَلْبَثُ مَرَضُهُ أَنْ يَقْتُلَهُ.
فَإِنْ كَانَ مَاتَ مَنْ كَانُوا سَبَبَ النُّزُولِ فَالْقُرْآنُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، يَنْطَبِقُ حُكْمُهُ وَيَحْكُمُ سُلْطَانُهُ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ (فَكُلٌّ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَعَ ذَلِكَ يَصْدُرُ فِي عَمَلِهِ عَنْ شَهَوَاتِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ إِيمَانُهُ عَنْ رُكُوبِ خَطِيئَاتِهِ، فَاعْتِقَادُهُ إِنَّمَا هُوَ خَيَالٌ، لَا يَعْلُو عَنْ لَفْظٍ فِي مَقَالٍ، وَدَعْوَى عِنْدَ جِدَالٍ، فَإِذَا رَكَنَ إِلَى هَذَا الْمُعْتَقَدِ فَهُوَ خَادِعٌ لِنَفْسِهِ مُخَادِعٌ لِرَبِّهِ، يَظُنُّ أَنَّ عَلَّامَ الْغُيُوبِ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا فِي الْقُلُوبِ).
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) عُهِدَ عِنْدَ الْعَرَبِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ، وَالْمَرَضُ هُوَ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْعُقُولِ فَيُضْعِفُ تَعَلُّقَهَا وَإِدْرَاكَهَا، وَالشَّكُّ وَالْوَهْمُ مِنْ أَعْرَاضِ هَذَا الْمَرَضِ، فَهُوَ ظُلْمَةٌ تَعْرِضُ لِلْعَقْلِ فَتَقِفُ بِشُعَاعِهِ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى مَا وَرَاءِ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ. وَهَذَا النُّفُوذُ: هُوَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ الَّذِي يَسُوقُ النَّفْسَ
إِلَى الْأَخْذِ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَدْ عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْ فَقْدِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) (٧: ١٧٩) وَرُبَّمَا كَانَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْوُجْدَانِ الَّذِي هُوَ السَّائِقُ إِلَى الْأَعْمَالِ (يَظْهَرُ لَكَ ذَلِكَ بِمَا تَجِدُهُ مِنَ اضْطِرَابِ قَلْبِكَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْخَوْفِ أَوِ اشْتِدَادِ الْفَرَحِ، فَإِنَّكَ تُحِسُّ بِزِيَادَةِ ضَرَبَاتِهِ وَشِدَّةِ نَبَضَاتِهِ) فَصُورَةُ الِاعْتِقَادِ إِذَا تَنَاوَلَهَا الْعَقْلُ مِنْ طَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَالتَّسْلِيمِ فَجَعَلَهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الدِّمَاغِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى الْقَلْبِ وَلَا تَأْثِيرٌ فِي الْوِجْدَانِ، وَاعْتِقَادٌ لَا يَصْحَبُهُ هَذَا السُّلْطَانُ وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ هَذَا التَّأْثِيرُ، لَا يَعْتَدُّ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا يَسْتَفِيدُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - فَمَنْ لَمْ يَطْرُقِ الْإِيمَانُ قَلَبَهُ بِقُوَّةِ الْبُرْهَانِ وَلَمْ يَحْلُ مَذَاقُهُ مِنْهُ فِي الْوُجْدَانِ، بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْمُصَرِّفَ لَهُ فِي أَعْمَالِهِ، لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ إِلَّا إِذَا تَمَرَّنَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَنْ فَهْمٍ وَإِخْلَاصٍ، حَتَّى يَحْدُثَ لِقَلْبِهِ الْوِجْدَانُ الصَّالِحُ، فَأَهْلُ الْيَقِينِ يَبْعَثُهُمْ يَقِينُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَهْلُ التَّقْلِيدِ تُلْحِقُهُمْ أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ بِأَهْلِ الْيَقِينِ فِي الِانْتِفَاعِ بِإِيمَانِهِمْ، وَهَذَا الْفَرِيقُ الَّذِي تَحْكِي عَنْهُ الْآيَاتُ وَتَصِفُهُ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ، قَدْ فَقَدَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَلْبِ إِلَّا بِهِمَا، فَمَنْ فَقَدَهُمَا مَرِضَ وَلَا يَلْبَثُ مَرَضُهُ أَنْ يَقْتُلَهُ.
129
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: وَلِضَعْفِ الْعَقْلِ أَسْبَابٌ:
مِنْهَا: مَا هُوَ فِطْرِيٌّ كَمَا هُوَ حَالُ أَهْلِ الْبَلَهِ وَالْعَتَهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُكَلَّفُ صَاحِبُهُ وَلَا يُلَامُ.
وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ مِنْ فَسَادِ التَّرْبِيَةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا هُوَ حَالُ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ، وَإِنَّمَا يَكْتَفُونَ بِمَا عَلَيْهِ قَوْمُهُمْ مِنَ الْأَوْهَامِ وَالْخَيَالَاتِ، وَيَرَيْنُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا يَكْسِبُونَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ، وَلَا يَعْتَنُونَ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِنْ تَمْزِيقِ هَذِهِ الْحُجُبِ وَإِزَالَةِ هَذِهِ السُّحُبِ، لِلْوُقُوفِ عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ مُخَدِّرَاتِ الْعِرْفَانِ وَنُجُومِ الْفُرْقَانِ وَشُمُوسِ الْإِيمَانِ، بَلْ يَكْتَفُونَ بِمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٤٣: ٢٣) حَتَّى يَجِيءَ الْيَوْمُ الَّذِي يَقُولُونَ فِيهِ:
(رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ) (٣٣: ٦٧).
وَأَقُولُ: إِنَّ الْمَرَضَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: خُرُوجُ الْبَدَنِ عَنِ اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ وَصِحَّةِ أَعْضَائِهِ فَيَخْتَلُّ بِهِ بَعْضُ وَظَائِفِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَتَعْرِضُ الْآلَامُ لَهَا، وَيُطْلَقُ مَجَازًا
عَلَى اخْتِلَالِ مِزَاجِ النَّفْسِ، وَمَا يُخِلُّ بِكَمَالِهَا مِنْ نِفَاقٍ وَجَهْلٍ، وَارْتِيَابٍ وَشَكٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَاضْطِرَابِ حُكْمِ الْعَقْلِ وَفَسَادِ الْخَلْقِ، وَالْمَرَضُ هُنَا مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَخَصَّهُ شَيْخُنَا بِمُنَافِقِي الْيَهُودِ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَبْلَ مَجِيءِ النَّذِيرِ وَبَيَانِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ عِنْدَمَا كَانُوا فِي فَتْرَةٍ حَظُّهُمْ مِنَ الْكُتُبِ قِرَاءَةُ أَلْفَاظِهَا، وَمِنَ الْأَعْمَالِ إِقَامَةُ صُوَرِهَا.
(فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا) بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُنِيرُ بِبَعْثَةِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَوَجَدُوا مِنْهُ زَعْزَعَةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُمُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَأَبَوُا الْإِيمَانَ، وَنَبَوَا عَنِ الْقُرْآنِ (وَزَادَ تَمَسُّكُهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ حِرْصُهُمْ عَلَيْهِ) فَكَانَ شُعَاعُ النُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَمًى فِي أَعْيُنِهِمْ، وَمَرَضًا عَلَى مَرَضِهِمْ.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَيْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ فَوْقَ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ، وَ " أَلِيمٌ " صِيغَةُ فَعِيلٍ مِنْ أَلَمَ يَأْلَمُ فَهُوَ أَلِيمٌ، وُصِفَ بِهِ الْعَذَابُ نَفْسُهُ.
(بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (فِي دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِأَعْمَالِهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَالِهِمْ).
أَقُولُ: وَأَمَّا مَرَضُ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْعَرَبِ فَهُوَ الشَّكُّ فِي نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ النِّفَاقُ، وَعَنْ بَعْضِ تَلَامِيذِهِ: الرِّيَاءُ، وَحَسْبُكَ فِي زِيَادَةِ مَرَضِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) إِلَى قَوْلِهِ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (٩: ١٢٤ - ١٢٥).
أَقُولُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يَكْذِبُونَ) بِالتَّخْفِيفِ أَيْ بِسَبَبِ كَذِبِهِمْ،
مِنْهَا: مَا هُوَ فِطْرِيٌّ كَمَا هُوَ حَالُ أَهْلِ الْبَلَهِ وَالْعَتَهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُكَلَّفُ صَاحِبُهُ وَلَا يُلَامُ.
وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ مِنْ فَسَادِ التَّرْبِيَةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا هُوَ حَالُ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ، وَإِنَّمَا يَكْتَفُونَ بِمَا عَلَيْهِ قَوْمُهُمْ مِنَ الْأَوْهَامِ وَالْخَيَالَاتِ، وَيَرَيْنُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا يَكْسِبُونَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ، وَلَا يَعْتَنُونَ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِنْ تَمْزِيقِ هَذِهِ الْحُجُبِ وَإِزَالَةِ هَذِهِ السُّحُبِ، لِلْوُقُوفِ عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ مُخَدِّرَاتِ الْعِرْفَانِ وَنُجُومِ الْفُرْقَانِ وَشُمُوسِ الْإِيمَانِ، بَلْ يَكْتَفُونَ بِمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٤٣: ٢٣) حَتَّى يَجِيءَ الْيَوْمُ الَّذِي يَقُولُونَ فِيهِ:
(رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ) (٣٣: ٦٧).
وَأَقُولُ: إِنَّ الْمَرَضَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: خُرُوجُ الْبَدَنِ عَنِ اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ وَصِحَّةِ أَعْضَائِهِ فَيَخْتَلُّ بِهِ بَعْضُ وَظَائِفِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَتَعْرِضُ الْآلَامُ لَهَا، وَيُطْلَقُ مَجَازًا
عَلَى اخْتِلَالِ مِزَاجِ النَّفْسِ، وَمَا يُخِلُّ بِكَمَالِهَا مِنْ نِفَاقٍ وَجَهْلٍ، وَارْتِيَابٍ وَشَكٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَاضْطِرَابِ حُكْمِ الْعَقْلِ وَفَسَادِ الْخَلْقِ، وَالْمَرَضُ هُنَا مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَخَصَّهُ شَيْخُنَا بِمُنَافِقِي الْيَهُودِ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَبْلَ مَجِيءِ النَّذِيرِ وَبَيَانِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ عِنْدَمَا كَانُوا فِي فَتْرَةٍ حَظُّهُمْ مِنَ الْكُتُبِ قِرَاءَةُ أَلْفَاظِهَا، وَمِنَ الْأَعْمَالِ إِقَامَةُ صُوَرِهَا.
(فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا) بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُنِيرُ بِبَعْثَةِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَوَجَدُوا مِنْهُ زَعْزَعَةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُمُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَأَبَوُا الْإِيمَانَ، وَنَبَوَا عَنِ الْقُرْآنِ (وَزَادَ تَمَسُّكُهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ حِرْصُهُمْ عَلَيْهِ) فَكَانَ شُعَاعُ النُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَمًى فِي أَعْيُنِهِمْ، وَمَرَضًا عَلَى مَرَضِهِمْ.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَيْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ فَوْقَ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ، وَ " أَلِيمٌ " صِيغَةُ فَعِيلٍ مِنْ أَلَمَ يَأْلَمُ فَهُوَ أَلِيمٌ، وُصِفَ بِهِ الْعَذَابُ نَفْسُهُ.
(بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (فِي دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِأَعْمَالِهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَالِهِمْ).
أَقُولُ: وَأَمَّا مَرَضُ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْعَرَبِ فَهُوَ الشَّكُّ فِي نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ النِّفَاقُ، وَعَنْ بَعْضِ تَلَامِيذِهِ: الرِّيَاءُ، وَحَسْبُكَ فِي زِيَادَةِ مَرَضِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) إِلَى قَوْلِهِ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (٩: ١٢٤ - ١٢٥).
أَقُولُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يَكْذِبُونَ) بِالتَّخْفِيفِ أَيْ بِسَبَبِ كَذِبِهِمْ،
130
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (يُكَذِّبُونَ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْحِكْمَةُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ: إِثْبَاتُ جَمْعِهِمْ لِلرَّذِيلَتَيْنِ، أَيِ الْكَذِبِ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ وَتَكْذِيبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالثَّانِيَةُ سَبَبُ الْأُولَى، وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، وَالْعَذَابُ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِمَا مَعًا، أَيْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَعَلَى الْكَذِبِ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ وَهُوَ النِّفَاقُ، وَهَؤُلَاءِ فِي بَاطِنِهِمْ شَرٌّ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا عِنَادًا مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُكَذِّبُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا كَانُوا يَجْحَدُونَ جُحُودَ اسْتِكْبَارٍ، قَالَ تَعَالَى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦: ٣٣).
قَالَ شَيْخُنَا: وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ وَالْعَذَابُ فِيهَا مَقْرُونٌ بِالْكَذِبِ لَا بِالتَّكْذِيبِ. وَقَدْ يُقَالُ: لِمَ جُعِلَ الْعَذَابُ جَزَاءَ الْكَذِبِ دُونَ الْكُفْرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكُفْرَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ لَفْظُ الْكَذِبِ فِي التَّعْبِيرِ لِلتَّحْذِيرِ عَنْهُ، وَبَيَانِ فَظَاعَتِهِ وَعِظَمِ جُرْمِهِ، وَلِبَيَانِ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ مُشْتَمَلَاتِهِ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي غَايَاتِهِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ الْقُرْآنُ مِنْهُ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ أَسْوَأَ الْوَعِيدِ، وَمَا فَشَا الْكَذِبُ فِي قَوْمٍ إِلَّا فَشَتْ فِيهِمْ كُلُّ جَرِيمَةٍ وَكَبِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ دَنَاءَةِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتْرُكُ قَبِيحًا إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ عَمَلِهِ وَمِنْهُ. اهـ. بِالْمَعْنَى، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السُّؤَالَ لَا يَرِدُ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ)
تَنْطِقُ هَذِهِ الْآيَاتُ بِأَنَّ مَا عَلَيْهِ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْغُرُورِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ التَّقَالِيدِ قَدْ سُوِّلَ لَهُ الْبَاطِلُ وَزُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا، وَشُوِّهَ فِي نَظَرِهِ كُلُّ حَقٍّ لَمْ يَأْتِهِ عَلَى لِسَانِ رُؤَسَائِهِ وَمُقَلِّدِيهِ بِنَصِّهِ التَّفْصِيلِيِّ فَهُوَ يَرَاهُ قَبِيحًا، وَقَدْ صَوَّرَتِ الْآيَاتُ هَذَا الْغُرُورَ بِمَا حَكَتْهُ عَنْ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بِمَا تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مِنْ آمَنَ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَتُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَخْذِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ الَّذِي
قَالَ شَيْخُنَا: وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ وَالْعَذَابُ فِيهَا مَقْرُونٌ بِالْكَذِبِ لَا بِالتَّكْذِيبِ. وَقَدْ يُقَالُ: لِمَ جُعِلَ الْعَذَابُ جَزَاءَ الْكَذِبِ دُونَ الْكُفْرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكُفْرَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ لَفْظُ الْكَذِبِ فِي التَّعْبِيرِ لِلتَّحْذِيرِ عَنْهُ، وَبَيَانِ فَظَاعَتِهِ وَعِظَمِ جُرْمِهِ، وَلِبَيَانِ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ مُشْتَمَلَاتِهِ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي غَايَاتِهِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ الْقُرْآنُ مِنْهُ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ أَسْوَأَ الْوَعِيدِ، وَمَا فَشَا الْكَذِبُ فِي قَوْمٍ إِلَّا فَشَتْ فِيهِمْ كُلُّ جَرِيمَةٍ وَكَبِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ دَنَاءَةِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتْرُكُ قَبِيحًا إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ عَمَلِهِ وَمِنْهُ. اهـ. بِالْمَعْنَى، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السُّؤَالَ لَا يَرِدُ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ)
تَنْطِقُ هَذِهِ الْآيَاتُ بِأَنَّ مَا عَلَيْهِ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْغُرُورِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ التَّقَالِيدِ قَدْ سُوِّلَ لَهُ الْبَاطِلُ وَزُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا، وَشُوِّهَ فِي نَظَرِهِ كُلُّ حَقٍّ لَمْ يَأْتِهِ عَلَى لِسَانِ رُؤَسَائِهِ وَمُقَلِّدِيهِ بِنَصِّهِ التَّفْصِيلِيِّ فَهُوَ يَرَاهُ قَبِيحًا، وَقَدْ صَوَّرَتِ الْآيَاتُ هَذَا الْغُرُورَ بِمَا حَكَتْهُ عَنْ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بِمَا تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مِنْ آمَنَ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَتُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَخْذِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ الَّذِي
131
يَجْتَثُّ أُصُولَ الْفَسَادِ وَيَصْطَلِمُ جَرَاثِيمَ الْإِدَادِ، وَيُحْيِي مَا أَمَاتَتْهُ الْبِدَعُ مِنْ إِرْشَادِ الدِّينِ، وَيُقِيمُ مَا قَوَّضَتْهُ التَّقَالِيدُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ.
(قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) بِالتَّمَسُّكِ بِمَا اسْتَنْبَطَهُ الرُّؤَسَاءُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَحْبَارُ وَالْعَرْفَاءُ مِنْ تَعَالِيمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِسُنَّتِهِمْ، وَأَدْرَى بِطَرِيقَتِهِمْ، فَكَيْفَ نَدَعُ مَا تَلَقَّيْنَاهُ مِنْهُمْ وَنَذَرُ مَا يُؤْثِرُهُ آبَاؤُنَا وَشُيُوخُنَا عَنْهُمْ وَنَأْخُذُ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ وَطَارِفٍ لَيْسَ لَهُ تَلِيدٌ؟
هَكَذَا شَأْنُ كُلِّ مُفْسِدٍ يَدَّعِي أَنَّهُ مُصْلِحٌ فِي نَفْسِ إِفْسَادِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ إِفْسَادِهِ عَارِفًا أَنَّهُ مُضِلٌّ - وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ إِفْسَادُهُ لِغَيْرِهِ لِعَدَاوَةٍ مِنْهُ لَهُ - فَإِنَّمَا يَدَّعِي ذَلِكَ لِتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ مِنْ وَصْمَةِ الْإِفْسَادِ بِالتَّمْوِيهِ وَالْمُوَارَبَةِ، وَإِنْ كَانَ مَسُوقًا إِلَى الْإِفْسَادِ بِسُوءِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا مِيزَانَ فِيهِ لِمَعْرِفَةِ الْإِصْلَاحِ مِنَ الْإِفْسَادِ إِلَّا الثِّقَةُ بِالرُّؤَسَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، فَهُوَ يَدَّعِيهِ عَنِ اعْتِقَادٍ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَفْهَمَ غَيْرَ مَا تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَثَرُ تَقْلِيدِهِمْ وَالسَّيْرُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مُفْسِدًا لِلْأُمَّةِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ وَالْحَقِيقَةَ الْوَاقِعَةَ لَا قِيمَةَ لَهُمَا وَلَا اعْتِبَارَ فِي نَظَرِ الْمُقَلِّدِينَ، بَلْ هُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنَاشِئَ الْفَسَادِ وَمَصَادِرَ الْخَلَلِ وَلَا مَزَالِقَ الزَّلَلِ، لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا نَظَرَهُمُ الَّذِي يُمَيَّزُ ذَلِكَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُوقِعُوا غَيْرَهُمْ بِهَذِهِ الْمَهَالِكِ، بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْإِسْلَامِ الدَّاعِي إِلَى الْوَحْدَةِ وَالِالْتِئَامِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ دُعَاءً إِلَى الْفُرْقَةِ وَالِانْفِصَامِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْبَشَرِ أَوِ الْأَصْنَامِ، وَأَيُّ إِفْسَادٍ فِي الْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَعَنِ الِاعْتِصَامِ بِدِينٍ فِيهِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَالْأَرْضُ إِنَّمَا تَفْسُدُ وَتَصْلُحُ بِأَهْلِهَا؟
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:
(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) فَابْتَدَأَ الْكَلَامَ الْمُؤَكَّدَ لِإِثْبَاتِ إِفْسَادِهِمْ بِكَلِمَةِ " أَلَا " الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّنْبِيهُ وَالْإِيقَاظُ وَتَوْجِيهُ النَّظَرِ، وَتَدُلُّ عَلَى اهْتِمَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِمَا يَحْكِيهِ بَعْدَهَا.
(وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) بِأَنَّ هَذَا إِفْسَادٌ غَرَزَ فِي طَبَائِعِهِمْ بِمَا تَمَكَّنَ فِيهَا مِنَ الشُّبْهَةِ بِتَقْلِيدِ رُؤَسَائِهِمُ الَّذِينَ أُشْرِبُوا عَظَمَتَهُمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَانِدِينَ وَلَا مُرَائِينَ، وَأَنَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادٍ ضَعِيفٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْعَمَلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (يُخَادِعُونَ اللهَ).
وَإِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ فِي وَصْفِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ تُوجَدُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ - كَمَا قَدَّمْنَا - فَلْيُحَاسِبْ بِهَا نَفْسَهُ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقُرْآنَ إِمَامُهُ وَأَنَّ فِيهِ هُدًى لَهُ، فَإِنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ بِالْقَوْلِ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ وَيَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِهِ.
وَأَقُولُ الْآنَ: هَذِهِ جُمْلَةُ مَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ وَاضِعًا نُصْبَ عَيْنَيْهِ مُنَافِقِي الْيَهُودِ، وَلَا سِيَّمَا فُقَهَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ، وَشِدَّةُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فُقَهَاءِ السُّوءِ وَلَا سِيَّمَا فُقَهَاءِ عَصْرِنَا هَذَا، وَلِذَلِكَ نَبَّهَ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَشُمُولِهَا
(قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) بِالتَّمَسُّكِ بِمَا اسْتَنْبَطَهُ الرُّؤَسَاءُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَحْبَارُ وَالْعَرْفَاءُ مِنْ تَعَالِيمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِسُنَّتِهِمْ، وَأَدْرَى بِطَرِيقَتِهِمْ، فَكَيْفَ نَدَعُ مَا تَلَقَّيْنَاهُ مِنْهُمْ وَنَذَرُ مَا يُؤْثِرُهُ آبَاؤُنَا وَشُيُوخُنَا عَنْهُمْ وَنَأْخُذُ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ وَطَارِفٍ لَيْسَ لَهُ تَلِيدٌ؟
هَكَذَا شَأْنُ كُلِّ مُفْسِدٍ يَدَّعِي أَنَّهُ مُصْلِحٌ فِي نَفْسِ إِفْسَادِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ إِفْسَادِهِ عَارِفًا أَنَّهُ مُضِلٌّ - وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ إِفْسَادُهُ لِغَيْرِهِ لِعَدَاوَةٍ مِنْهُ لَهُ - فَإِنَّمَا يَدَّعِي ذَلِكَ لِتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ مِنْ وَصْمَةِ الْإِفْسَادِ بِالتَّمْوِيهِ وَالْمُوَارَبَةِ، وَإِنْ كَانَ مَسُوقًا إِلَى الْإِفْسَادِ بِسُوءِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا مِيزَانَ فِيهِ لِمَعْرِفَةِ الْإِصْلَاحِ مِنَ الْإِفْسَادِ إِلَّا الثِّقَةُ بِالرُّؤَسَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، فَهُوَ يَدَّعِيهِ عَنِ اعْتِقَادٍ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَفْهَمَ غَيْرَ مَا تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَثَرُ تَقْلِيدِهِمْ وَالسَّيْرُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مُفْسِدًا لِلْأُمَّةِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ وَالْحَقِيقَةَ الْوَاقِعَةَ لَا قِيمَةَ لَهُمَا وَلَا اعْتِبَارَ فِي نَظَرِ الْمُقَلِّدِينَ، بَلْ هُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنَاشِئَ الْفَسَادِ وَمَصَادِرَ الْخَلَلِ وَلَا مَزَالِقَ الزَّلَلِ، لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا نَظَرَهُمُ الَّذِي يُمَيَّزُ ذَلِكَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُوقِعُوا غَيْرَهُمْ بِهَذِهِ الْمَهَالِكِ، بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْإِسْلَامِ الدَّاعِي إِلَى الْوَحْدَةِ وَالِالْتِئَامِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ دُعَاءً إِلَى الْفُرْقَةِ وَالِانْفِصَامِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْبَشَرِ أَوِ الْأَصْنَامِ، وَأَيُّ إِفْسَادٍ فِي الْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَعَنِ الِاعْتِصَامِ بِدِينٍ فِيهِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَالْأَرْضُ إِنَّمَا تَفْسُدُ وَتَصْلُحُ بِأَهْلِهَا؟
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:
(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) فَابْتَدَأَ الْكَلَامَ الْمُؤَكَّدَ لِإِثْبَاتِ إِفْسَادِهِمْ بِكَلِمَةِ " أَلَا " الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّنْبِيهُ وَالْإِيقَاظُ وَتَوْجِيهُ النَّظَرِ، وَتَدُلُّ عَلَى اهْتِمَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِمَا يَحْكِيهِ بَعْدَهَا.
(وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) بِأَنَّ هَذَا إِفْسَادٌ غَرَزَ فِي طَبَائِعِهِمْ بِمَا تَمَكَّنَ فِيهَا مِنَ الشُّبْهَةِ بِتَقْلِيدِ رُؤَسَائِهِمُ الَّذِينَ أُشْرِبُوا عَظَمَتَهُمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَانِدِينَ وَلَا مُرَائِينَ، وَأَنَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادٍ ضَعِيفٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْعَمَلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (يُخَادِعُونَ اللهَ).
وَإِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ فِي وَصْفِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ تُوجَدُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ - كَمَا قَدَّمْنَا - فَلْيُحَاسِبْ بِهَا نَفْسَهُ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقُرْآنَ إِمَامُهُ وَأَنَّ فِيهِ هُدًى لَهُ، فَإِنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ بِالْقَوْلِ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ وَيَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِهِ.
وَأَقُولُ الْآنَ: هَذِهِ جُمْلَةُ مَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ وَاضِعًا نُصْبَ عَيْنَيْهِ مُنَافِقِي الْيَهُودِ، وَلَا سِيَّمَا فُقَهَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ، وَشِدَّةُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فُقَهَاءِ السُّوءِ وَلَا سِيَّمَا فُقَهَاءِ عَصْرِنَا هَذَا، وَلِذَلِكَ نَبَّهَ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَشُمُولِهَا
132
لَهُمْ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِنَفْيِ الرِّيَاءِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ مَا قَالُوا هُنَا،
وَهُوَ لَا يَنْفِي رِيَاءَهُمْ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَقَدْ كَانَ لِأُولَئِكَ الْأَحْبَارِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنَ الْإِفْسَادِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ، وَمِنْهُ إِغْرَاءُ الْمُشْرِكِينَ بِقِتَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدُهُمْ بِمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِفْسَادٌ كَبِيرٌ فِي الْأَرْضِ، وَكَانُوا يَسْتَبِيحُونَهُ بِأَنَّهُ تَوَسُّلٌ إِلَى حِفْظِ سُلْطَتِهِمْ وَرِيَاسَتِهِمُ الْمُهَدَّدَةِ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا كَتَبْتُ عَنْهُ رَأْيَهُ فِيمَنْ سَأَلَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ مَا ذُكِرَ وَأَجَابُوهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، هَلْ هُوَ اللهُ تَعَالَى أَوِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الْمُؤْمِنُونَ؟ وَهِيَ الِاحْتِمَالَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ - وَزَادَ بَعْضُهُمْ رَابِعًا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ سَأَلَ بَعْضًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَافِ الْحَالِ وَتَبَايُنِ الْآرَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (٥٩: ١٤) فَأَيُّ مَانِعٍ لِنَهْيِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَنْ نَكْثِ مَا عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِأَلَّا يُؤَلِّبُوا عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يُسَاعِدُوهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَقُولُوا لِلنَّاكِثِينَ الْمُفْسِدِينَ: إِنَّ الْحَرْبَ فَسَادٌ عَظِيمٌ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْنَا شَرُّهَا فَيَطِيرَ مِنْ شَرَرِهَا مَا نَحْتَرِقُ بِهِ، فَدَعُوا تَأْلِيبَ قَوْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ أَنْ يُجِيبَهُمْ أُولَئِكَ الْمُفْسِدُونَ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ:
(إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) بِمُسَاعَدَةِ قَوْمِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّنَا نَخْشَى مِنْهُ مَا لَا نَخْشَى مِنْهُمْ، فَقَدْ عِشْنَا مَعَهُمْ أَجْيَالًا لَمْ يُنَازِعْنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ فِي صِحَّةِ دِينِنَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَى شِرْكِهِمْ وَلَا يَحْتَقِرُونَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، بَلْ يَرَوْنَنَا فَوْقَهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِينَا أَوْلَادَهُ لِنُرَبِّيَهُمْ وَلَا يَكْرَهُونَ أَنْ نُلَقِّنَهُمْ دِينَنَا. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ: إِنَّنَا ضَلَلْنَا عَنْ دِينِنَا نَفْسِهِ، وَيَعِيبُنَا بِتَحْرِيفِ سَلَفِنَا وَخَلَفِنَا لِكِتَابِنَا، وَبِمَا كَانَ مِنْ مَخَازِي تَارِيخِنَا كَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَكْثِ الْعُهُودِ، وَأَكْلِ السُّحْتِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ الْغَلَبُ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمِهِ، لَا نَأْمَنُ أَنْ يُبْقِيَ لَنَا دِينَنَا وَمَكَانَتَنَا السَّامِيَةَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَإِنْ هُوَ حَفِظَ عَهْدَهُ لَنَا، وَلَمْ يَغْدِرْ فَيُقَاتِلْنَا فَكَيْفَ إِذَا هُوَ غَدَرَ بِنَا وَقَاتَلَنَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قَوْمِهِ؟.
هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْقُولِ مِمَّا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي السُّؤَالِ وَالسَّائِلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لَعَلَّهُ أَقْوَى.
وَهُوَ أَنَّ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ مَفْرُوضٌ وَفَرْضٌ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حَالِهِمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ جَوَانِحُهُمْ بِصِيغَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى أَسَالِيبِ الْكَلَامِ تَنْبِيهًا لِلْأَذْهَانِ، وَتَوْجِيهًا لَهَا إِلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعَانِي الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ يَسْتَعْمِلُهَا الْعُلَمَاءُ
فِي بَيَانِ مُهِمَّاتِ الْمَسَائِلِ وَحَلِّ عَوِيصِ الْمَشَاكِلِ، وَيَقُولُونَ: إِذَا قِيلَ كَذَا قُلْنَا كَذَا، وَإِنْ سُئِلْنَا عَنْ هَذَا أَجَبْنَا بِكَذَا، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأُسْلُوبِ فَالْبَلَاغَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِإِذَا عَمَّا كَانَ سَبَبُهُ قَوِيًّا مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يُسْكَتَ عَنْهُ، وَيُصَدَّرَ بِإِنْ إِذَا كَانَ سَبَبُهُ ضَعِيفًا وَلَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، فَيُجَابَ عَنْهُ احْتِيَاطًا.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فِي بَيَانِ حَالِ مُنَافِقِي الْيَهُودِ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ شَيْخِنَا - وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ جَعْلُهُ فِي بَيَانِ حَالِ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْعَرَبِ
وَهُوَ لَا يَنْفِي رِيَاءَهُمْ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَقَدْ كَانَ لِأُولَئِكَ الْأَحْبَارِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنَ الْإِفْسَادِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ، وَمِنْهُ إِغْرَاءُ الْمُشْرِكِينَ بِقِتَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدُهُمْ بِمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِفْسَادٌ كَبِيرٌ فِي الْأَرْضِ، وَكَانُوا يَسْتَبِيحُونَهُ بِأَنَّهُ تَوَسُّلٌ إِلَى حِفْظِ سُلْطَتِهِمْ وَرِيَاسَتِهِمُ الْمُهَدَّدَةِ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا كَتَبْتُ عَنْهُ رَأْيَهُ فِيمَنْ سَأَلَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ مَا ذُكِرَ وَأَجَابُوهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، هَلْ هُوَ اللهُ تَعَالَى أَوِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الْمُؤْمِنُونَ؟ وَهِيَ الِاحْتِمَالَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ - وَزَادَ بَعْضُهُمْ رَابِعًا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ سَأَلَ بَعْضًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَافِ الْحَالِ وَتَبَايُنِ الْآرَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (٥٩: ١٤) فَأَيُّ مَانِعٍ لِنَهْيِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَنْ نَكْثِ مَا عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِأَلَّا يُؤَلِّبُوا عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يُسَاعِدُوهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَقُولُوا لِلنَّاكِثِينَ الْمُفْسِدِينَ: إِنَّ الْحَرْبَ فَسَادٌ عَظِيمٌ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْنَا شَرُّهَا فَيَطِيرَ مِنْ شَرَرِهَا مَا نَحْتَرِقُ بِهِ، فَدَعُوا تَأْلِيبَ قَوْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ أَنْ يُجِيبَهُمْ أُولَئِكَ الْمُفْسِدُونَ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ:
(إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) بِمُسَاعَدَةِ قَوْمِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّنَا نَخْشَى مِنْهُ مَا لَا نَخْشَى مِنْهُمْ، فَقَدْ عِشْنَا مَعَهُمْ أَجْيَالًا لَمْ يُنَازِعْنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ فِي صِحَّةِ دِينِنَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَى شِرْكِهِمْ وَلَا يَحْتَقِرُونَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، بَلْ يَرَوْنَنَا فَوْقَهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِينَا أَوْلَادَهُ لِنُرَبِّيَهُمْ وَلَا يَكْرَهُونَ أَنْ نُلَقِّنَهُمْ دِينَنَا. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ: إِنَّنَا ضَلَلْنَا عَنْ دِينِنَا نَفْسِهِ، وَيَعِيبُنَا بِتَحْرِيفِ سَلَفِنَا وَخَلَفِنَا لِكِتَابِنَا، وَبِمَا كَانَ مِنْ مَخَازِي تَارِيخِنَا كَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَكْثِ الْعُهُودِ، وَأَكْلِ السُّحْتِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ الْغَلَبُ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمِهِ، لَا نَأْمَنُ أَنْ يُبْقِيَ لَنَا دِينَنَا وَمَكَانَتَنَا السَّامِيَةَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَإِنْ هُوَ حَفِظَ عَهْدَهُ لَنَا، وَلَمْ يَغْدِرْ فَيُقَاتِلْنَا فَكَيْفَ إِذَا هُوَ غَدَرَ بِنَا وَقَاتَلَنَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قَوْمِهِ؟.
هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْقُولِ مِمَّا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي السُّؤَالِ وَالسَّائِلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لَعَلَّهُ أَقْوَى.
وَهُوَ أَنَّ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ مَفْرُوضٌ وَفَرْضٌ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حَالِهِمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ جَوَانِحُهُمْ بِصِيغَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى أَسَالِيبِ الْكَلَامِ تَنْبِيهًا لِلْأَذْهَانِ، وَتَوْجِيهًا لَهَا إِلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعَانِي الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ يَسْتَعْمِلُهَا الْعُلَمَاءُ
فِي بَيَانِ مُهِمَّاتِ الْمَسَائِلِ وَحَلِّ عَوِيصِ الْمَشَاكِلِ، وَيَقُولُونَ: إِذَا قِيلَ كَذَا قُلْنَا كَذَا، وَإِنْ سُئِلْنَا عَنْ هَذَا أَجَبْنَا بِكَذَا، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأُسْلُوبِ فَالْبَلَاغَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِإِذَا عَمَّا كَانَ سَبَبُهُ قَوِيًّا مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يُسْكَتَ عَنْهُ، وَيُصَدَّرَ بِإِنْ إِذَا كَانَ سَبَبُهُ ضَعِيفًا وَلَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، فَيُجَابَ عَنْهُ احْتِيَاطًا.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فِي بَيَانِ حَالِ مُنَافِقِي الْيَهُودِ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ شَيْخِنَا - وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ جَعْلُهُ فِي بَيَانِ حَالِ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْعَرَبِ
133
كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ وَحِزْبِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِالتَّشْكِيكِ فِي الدِّينِ، وَبِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فَعَلُوا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ثُمَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ وَإِنْ كَانَتِ الْغَزْوَتَانِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَرُوِيَ تَفْسِيرُ إِفْسَادِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمَا قُلْنَاهُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ، وَدَعْوَاهُمْ: أَنَّ هَذَا إِصْلَاحٌ كَدَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ، وَكُلُّ مُفْسِدٍ وَضَالٍّ يُسَمِّي إِفْسَادَهُ وَضَلَالَهُ بِأَسْمَاءٍ حَسَنَةٍ، كَمَا يُسَمُّونَ الشِّرْكَ بِاللهِ فِي زَمَانِنَا بِدُعَاءِ غَيْرِهِ: تَوَسُّلًا...
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.
ثُمَّ صَوَّرَتِ الْآيَاتُ ذَلِكَ الْجَهْلَ وَالْغُرُورَ فِي الْفَرِيقَيْنِ بِصُورَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ تَشْوِيهًا مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ صُورَتُهُمْ فِي عَمَلِهِمْ، وَهَذِهِ صُورَتُهُمْ فِي جَوْهَرِ إِيمَانِهِمْ، وَهِيَ:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) الَّذِينَ تَعْتَقِدُونَ كَمَالَهُمْ وَتَرَوْنَ تَعْظِيمَهُمْ وَإِجْلَالَهُمْ: كَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَأَتْبَاعِهِمْ، الَّذِينَ كَانَ الْإِيمَانُ رَاسِخًا فِي جَنَابِهِمْ، وَمُؤَثِّرًا فِي وِجْدَانِهِمْ، وَمُصَرِّفًا لِأَبْدَانِهِمْ، أَوْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ عُلَمَائِكُمْ،
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) أَقُولُ: الْمُرَادُ بِالسَّفَهِ: الطَّيْشُ وَخِفَّةُ الْعَقْلِ وَضَعْفُ الرَّأْيِ وَمِنْ لَوَازِمِهِ سُوءُ التَّصَرُّفِ، وَمِنْهُ قِيلَ: زِمَامٌ سَفِيهٌ: كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ لِمَرَحِ النَّاقَةِ وَمُنَازَعَتِهَا إِيَّاهُ، وَثَوْبٌ سَفِيهٌ: رَدِيءُ النَّسْجِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي خِفَّةِ النَّفْسِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ فَقِيلَ: سَفِهَ نَفْسَهُ، وَيَعْنُونَ بِالسُّفَهَاءِ أَتْبَاعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَاقِفِينَ عِنْدَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، الْمُعْرِضِينَ عَنْ غَيْرِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ مِنَ الشَّهَادَةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ كَأَتْبَاعِ أُولَئِكَ
الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُمْ سَلَفُ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ، وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِمَا يَتَنَاقَلُونَهُ مِنْ سِيرَتِهِمْ فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) أَيْ وَحْدَهُمْ دُونَ مَنْ عَرَّضُوا بِهِمْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ سَلَفًا صَالِحًا تَرَكُوا الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ، زَعْمًا أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَدْيِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّهُ يَصْعُبُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اللَّحَاقُ بِهِ، وَاحْتِذَاءُ عَمَلِهِ، لِعُلُوِّهِ فِي الدَّرَجَةِ، وَبُعْدِهِ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَأَنَّ حَظَّهُمْ مِنْ سَلَفِهِمُ انْتِظَارُ شَفَاعَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَسِيرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَجْدَرُ بِلَقَبِ السَّفِيهِ، أَهُمْ أُولَئِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ لَهُمْ أُسْوَةٌ صَالِحَةٌ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ بِهَا وَهَذِهِ حَالُهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَقِيدَةِ وَقُبْحِ الْعَمَلِ؟
أَمْ مَنْ لَا سَلَفَ لَهُ إِلَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَقَلْبُهُ مَعَ ذَلِكَ مُطَمْئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَأَعْمَالُهُ تَشْهَدُ لَهُ بِالْإِحْسَانِ، كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ بِنُورِ الْإِسْلَامِ فَكَانُوا كَأَتْبَاعِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ، بَلْ رُبَّمَا سَبَقُوهُمْ بِالْفَضَائِلِ، وَزَادُوا عَلَيْهِمْ فِي الْفَوَاضِلِ؟ لَا شَكَّ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُفْسِدِينَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنْ سَلَفٍ صَالِحٍ، وَدِينٍ قَيِّمٍ، هُمُ السُّفَهَاءُ دُونَ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءِ.
(وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّ السَّفَهَ مَحْصُورٌ فِيهِمْ وَمَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا عِنْدُهُمْ شُعُورٌ مَا
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.
ثُمَّ صَوَّرَتِ الْآيَاتُ ذَلِكَ الْجَهْلَ وَالْغُرُورَ فِي الْفَرِيقَيْنِ بِصُورَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ تَشْوِيهًا مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ صُورَتُهُمْ فِي عَمَلِهِمْ، وَهَذِهِ صُورَتُهُمْ فِي جَوْهَرِ إِيمَانِهِمْ، وَهِيَ:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) الَّذِينَ تَعْتَقِدُونَ كَمَالَهُمْ وَتَرَوْنَ تَعْظِيمَهُمْ وَإِجْلَالَهُمْ: كَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَأَتْبَاعِهِمْ، الَّذِينَ كَانَ الْإِيمَانُ رَاسِخًا فِي جَنَابِهِمْ، وَمُؤَثِّرًا فِي وِجْدَانِهِمْ، وَمُصَرِّفًا لِأَبْدَانِهِمْ، أَوْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ عُلَمَائِكُمْ،
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) أَقُولُ: الْمُرَادُ بِالسَّفَهِ: الطَّيْشُ وَخِفَّةُ الْعَقْلِ وَضَعْفُ الرَّأْيِ وَمِنْ لَوَازِمِهِ سُوءُ التَّصَرُّفِ، وَمِنْهُ قِيلَ: زِمَامٌ سَفِيهٌ: كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ لِمَرَحِ النَّاقَةِ وَمُنَازَعَتِهَا إِيَّاهُ، وَثَوْبٌ سَفِيهٌ: رَدِيءُ النَّسْجِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي خِفَّةِ النَّفْسِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ فَقِيلَ: سَفِهَ نَفْسَهُ، وَيَعْنُونَ بِالسُّفَهَاءِ أَتْبَاعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَاقِفِينَ عِنْدَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، الْمُعْرِضِينَ عَنْ غَيْرِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ مِنَ الشَّهَادَةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ كَأَتْبَاعِ أُولَئِكَ
الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُمْ سَلَفُ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ، وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِمَا يَتَنَاقَلُونَهُ مِنْ سِيرَتِهِمْ فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) أَيْ وَحْدَهُمْ دُونَ مَنْ عَرَّضُوا بِهِمْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ سَلَفًا صَالِحًا تَرَكُوا الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ، زَعْمًا أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَدْيِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّهُ يَصْعُبُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اللَّحَاقُ بِهِ، وَاحْتِذَاءُ عَمَلِهِ، لِعُلُوِّهِ فِي الدَّرَجَةِ، وَبُعْدِهِ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَأَنَّ حَظَّهُمْ مِنْ سَلَفِهِمُ انْتِظَارُ شَفَاعَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَسِيرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَجْدَرُ بِلَقَبِ السَّفِيهِ، أَهُمْ أُولَئِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ لَهُمْ أُسْوَةٌ صَالِحَةٌ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ بِهَا وَهَذِهِ حَالُهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَقِيدَةِ وَقُبْحِ الْعَمَلِ؟
أَمْ مَنْ لَا سَلَفَ لَهُ إِلَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَقَلْبُهُ مَعَ ذَلِكَ مُطَمْئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَأَعْمَالُهُ تَشْهَدُ لَهُ بِالْإِحْسَانِ، كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ بِنُورِ الْإِسْلَامِ فَكَانُوا كَأَتْبَاعِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ، بَلْ رُبَّمَا سَبَقُوهُمْ بِالْفَضَائِلِ، وَزَادُوا عَلَيْهِمْ فِي الْفَوَاضِلِ؟ لَا شَكَّ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُفْسِدِينَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنْ سَلَفٍ صَالِحٍ، وَدِينٍ قَيِّمٍ، هُمُ السُّفَهَاءُ دُونَ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءِ.
(وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّ السَّفَهَ مَحْصُورٌ فِيهِمْ وَمَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا عِنْدُهُمْ شُعُورٌ مَا
134
بِأَنَّهُمْ رَكِبُوا هَوَاهُمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوا هَدْيَ سَلَفِهِمْ وَلَا هُدَاهُمْ، يَنْتَحِلُونَ لَهُ الْعِلَلَ الضَّعِيفَةَ وَيَتَمَحَّلُونَ لَهُ الْأَعْذَارَ السَّخِيفَةَ، فَهُوَ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الْعِلْمِ الَّذِي تَتَكَيَّفُ بِهِ النَّفْسُ، وَيَكْفِي فِي إِثْبَاتِ سَفَهِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ حُسْنَ حَالِ سَلَفِهِمْ، وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَقْتَدُونَ بِهِمْ وَلَا يَقْتَفُونَ أَثَرَهُمْ، وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ فِي نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْأَمَانِيِّ وَالتَّعِلَّاتِ، كَقَوْلِهِمْ: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (٣: ٢٤) وَقَوْلِهِمْ (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (٥: ١٨) وَشَعْبُهُ وَأَصْفِيَاؤُهُ، وَلَا يَصِحُّ نَفْيُ الشُّعُورِ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِرَافِ وَإِنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْعِلْمِ الْكَامِلِ الَّذِي يُزِيلُ الشُّبَهَ وَيَذْهَبُ بِالْعِلَلِ، وَيَبْعَثُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْعَمَلِ.
وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْإِسْلَامِ وَهُمْ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، يَعْتَقِدُونَ كَمَالَ سَلَفِهِمْ، وَلَا يَقْتَدُونَ بِهِمْ، وَإِنَّمَا يَطْمَعُونَ فِي سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِانْتِسَابِهِمْ إِلَى أُولَئِكَ السَّلَفِ الْعِظَامِ، وَلِكَوْنِهِمْ مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِشَهَادَةِ اللهِ فِي الْقِدَمِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا فَضُلَتْ سِوَاهَا
بِكَوْنِهَا أُمَّةً وَسَطًا تَقُومُ عَلَى جَادَّةِ الِاعْتِدَالِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَتَسْعَى فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (٢: ١٤٣) وَتَفْسِيرِ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٣: ١١٠) وَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، إِلَّا الْأَمَانِيُّ وَالتَّعِلَّاتُ.
وَأَزِيدُ فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي شَرَحْتُ بِهِ قَوْلَ شَيْخِنَا فِي الدَّرْسِ: تَذْكِيرُ هَؤُلَاءِ مَرْضَى الْقُلُوبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي هَذَا كَمَا اتَّبَعُوهُمْ فِي غَيْرِهِ ((شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ)) كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ - أَزْيَدُ فِيهِ تَذْكِيرَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢: ٧٨) وَقَوْلِهِ فِيهِمْ وَفِي أَفْضَلِ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (٤: ١٢٣) الْآيَاتِ.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ جَرَيَانَ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي مُنَافِقِي الْعَرَبِ أَظْهَرُ مِمَّا قَبْلَهُ - فَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابُهُ مِنْ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، كَانُوا أَبْعَدَ عَنِ الْإِيمَانِ وَأَدْنَى إِلَى مُخَادَعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُنَافِقِي الْيَهُودِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَوْمِهِمْ وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ سُفَهَاءَ الْأَحْلَامِ، فِي اتِّبَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ -، أَمَّا الْمُهَاجِرُونَ مِنْهُمْ، فَلِأَنَّهُمْ عَادَوْا قَوْمَهُمْ وَأَقَارِبَهُمْ وَهَجَرُوا وَطَنَهُمْ وَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ لِيَكُونُوا تَابِعِينَ لَهُ، وَأَمَّا الْأَنْصَارُ، فَلِأَنَّهُمْ شَارَكُوا الْمُهَاجِرِينَ فِي دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَكَوْنُ هَذَا مِنَ السَّفَهِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ بِهَذَا الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ - وَلِذَلِكَ نُفِيَ عَنْهُمُ الشُّعُورُ بِأَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ: مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى
وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْإِسْلَامِ وَهُمْ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، يَعْتَقِدُونَ كَمَالَ سَلَفِهِمْ، وَلَا يَقْتَدُونَ بِهِمْ، وَإِنَّمَا يَطْمَعُونَ فِي سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِانْتِسَابِهِمْ إِلَى أُولَئِكَ السَّلَفِ الْعِظَامِ، وَلِكَوْنِهِمْ مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِشَهَادَةِ اللهِ فِي الْقِدَمِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا فَضُلَتْ سِوَاهَا
بِكَوْنِهَا أُمَّةً وَسَطًا تَقُومُ عَلَى جَادَّةِ الِاعْتِدَالِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَتَسْعَى فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (٢: ١٤٣) وَتَفْسِيرِ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٣: ١١٠) وَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، إِلَّا الْأَمَانِيُّ وَالتَّعِلَّاتُ.
وَأَزِيدُ فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي شَرَحْتُ بِهِ قَوْلَ شَيْخِنَا فِي الدَّرْسِ: تَذْكِيرُ هَؤُلَاءِ مَرْضَى الْقُلُوبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي هَذَا كَمَا اتَّبَعُوهُمْ فِي غَيْرِهِ ((شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ)) كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ - أَزْيَدُ فِيهِ تَذْكِيرَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢: ٧٨) وَقَوْلِهِ فِيهِمْ وَفِي أَفْضَلِ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (٤: ١٢٣) الْآيَاتِ.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ جَرَيَانَ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي مُنَافِقِي الْعَرَبِ أَظْهَرُ مِمَّا قَبْلَهُ - فَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابُهُ مِنْ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، كَانُوا أَبْعَدَ عَنِ الْإِيمَانِ وَأَدْنَى إِلَى مُخَادَعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُنَافِقِي الْيَهُودِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَوْمِهِمْ وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ سُفَهَاءَ الْأَحْلَامِ، فِي اتِّبَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ -، أَمَّا الْمُهَاجِرُونَ مِنْهُمْ، فَلِأَنَّهُمْ عَادَوْا قَوْمَهُمْ وَأَقَارِبَهُمْ وَهَجَرُوا وَطَنَهُمْ وَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ لِيَكُونُوا تَابِعِينَ لَهُ، وَأَمَّا الْأَنْصَارُ، فَلِأَنَّهُمْ شَارَكُوا الْمُهَاجِرِينَ فِي دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَكَوْنُ هَذَا مِنَ السَّفَهِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ بِهَذَا الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ - وَلِذَلِكَ نُفِيَ عَنْهُمُ الشُّعُورُ بِأَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ: مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى
135
عَنْهُمْ فِي سُورَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) (٦٣: ٧).
هَذَا - وَإِنَّنَا أَشَرْنَا إِلَى نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي نَفْيِ الشُّعُورِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَنَفْيِ الْعِلْمِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَأَزِيدُ عَلَيْهِ فِي نُكْتَةِ نَفْيِ الْعِلْمِ الْآنَ مَا يُنَبِّهُ الْأَذْهَانَ إِلَى دِقَّةِ التَّعْبِيرِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَنَّ أَمْرَ الْإِيمَانِ لَا يَتَحَقَّقُ
إِلَّا بِالْعِلْمِ الْيَقِينِي، فَمَوْضُوعُهُ عِلْمِيٌّ، ثُمَّ إِنَّ ثَمَرَتَهُ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يُدْرِكُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَلِمَ حَقِيقَتَهُ، فَنُفِيَ عَنْهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ فِيمَا رَمَوْا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّفَاهِ بِشُبْهَةِ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا مَصْلَحَتَهُمْ وَمَصْلَحَةَ قَوْمِهِمُ الْأَنْصَارِ وَمَصْلَحَةَ أُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ سَبَبُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِكُنْهِ الْإِيمَانِ وَعَاقِبَتِهِ، وَمَنْ جَهِلَ الْمَلْزُومَ كَانَ بِلَوَازِمِهِ أَجْهَلَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ مَا الْإِيمَانُ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سُفَهَاءُ غَاوُونَ، أَوْ عُقَلَاءُ رَاشِدُونَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ، وَهُمْ جَاهِلُونَ بِهِ وَيَجْهَلُونَ أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَدَاءِ فِي الْآيَاتِ: مَا فِي اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ آخَرِ " السُّفَهَاءِ " وَأَوَّلِ " أَلَا " مِنْ قِرَاءَةِ تَحْقِيقِهِمَا بِالنُّطْقِ بِهِمَا مَعًا وَقِرَاءَتَيْ تَحْقِيقِ الْأُولَى وَتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ وَعَكْسِهِ، وَقِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ أَمْثَالُهَا مِنْ كُلِّ هَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَتَيْنِ.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)
الْآيَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي وَصْفِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ - الَّذِي قُلْنَا إِنَّهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ وَمِلَّةٍ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ - كَانَتْ عَامَّةً تَصَوِّرُ حَالَ أَفْرَادِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَكَانَ أُسْلُوبُهَا ظَاهِرًا فِي الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: (يُخَادِعُونَ) إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) كَذَا - (قَالُوا) كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) الْآيَةَ، فَهُوَ وَصْفٌ قَدْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا الصِّنْفِ مِمَّنْ كَانَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، جَاءَ بَعْدَ الْأَوْصَافِ الْعَامَّةِ وَحُكِيَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي،
هَذَا - وَإِنَّنَا أَشَرْنَا إِلَى نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي نَفْيِ الشُّعُورِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَنَفْيِ الْعِلْمِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَأَزِيدُ عَلَيْهِ فِي نُكْتَةِ نَفْيِ الْعِلْمِ الْآنَ مَا يُنَبِّهُ الْأَذْهَانَ إِلَى دِقَّةِ التَّعْبِيرِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَنَّ أَمْرَ الْإِيمَانِ لَا يَتَحَقَّقُ
إِلَّا بِالْعِلْمِ الْيَقِينِي، فَمَوْضُوعُهُ عِلْمِيٌّ، ثُمَّ إِنَّ ثَمَرَتَهُ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يُدْرِكُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَلِمَ حَقِيقَتَهُ، فَنُفِيَ عَنْهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ فِيمَا رَمَوْا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّفَاهِ بِشُبْهَةِ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا مَصْلَحَتَهُمْ وَمَصْلَحَةَ قَوْمِهِمُ الْأَنْصَارِ وَمَصْلَحَةَ أُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ سَبَبُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِكُنْهِ الْإِيمَانِ وَعَاقِبَتِهِ، وَمَنْ جَهِلَ الْمَلْزُومَ كَانَ بِلَوَازِمِهِ أَجْهَلَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ مَا الْإِيمَانُ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سُفَهَاءُ غَاوُونَ، أَوْ عُقَلَاءُ رَاشِدُونَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ، وَهُمْ جَاهِلُونَ بِهِ وَيَجْهَلُونَ أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَدَاءِ فِي الْآيَاتِ: مَا فِي اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ آخَرِ " السُّفَهَاءِ " وَأَوَّلِ " أَلَا " مِنْ قِرَاءَةِ تَحْقِيقِهِمَا بِالنُّطْقِ بِهِمَا مَعًا وَقِرَاءَتَيْ تَحْقِيقِ الْأُولَى وَتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ وَعَكْسِهِ، وَقِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ أَمْثَالُهَا مِنْ كُلِّ هَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَتَيْنِ.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)
الْآيَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي وَصْفِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ - الَّذِي قُلْنَا إِنَّهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ وَمِلَّةٍ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ - كَانَتْ عَامَّةً تَصَوِّرُ حَالَ أَفْرَادِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَكَانَ أُسْلُوبُهَا ظَاهِرًا فِي الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: (يُخَادِعُونَ) إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) كَذَا - (قَالُوا) كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) الْآيَةَ، فَهُوَ وَصْفٌ قَدْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا الصِّنْفِ مِمَّنْ كَانَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، جَاءَ بَعْدَ الْأَوْصَافِ الْعَامَّةِ وَحُكِيَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي،
136
لِيَكُونَ كَالتَّصْرِيحِ بِتَوْبِيخِ تِلْكَ الْفِئَةِ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، الَّتِي بَلَغَتْ مِنَ التَّهَتُّكِ فِي النِّفَاقِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَخْلَاقِ أَنْ تَظْهَرَ بِوَجْهَيْنِ، وَتَتَكَلَّمَ بِلِسَانَيْنِ، وَمَا بَلَغَ كُلُّ أَفْرَادِ الصِّنْفِ هَذَا الْمَبْلَغَ مِنَ الْفَسَادِ وَالضَّعْفِ.
وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَالَ بَعْضُ الْوَاهِمِينَ: إِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي مُنَافِقِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْنِيدُهُ فَلَا نُعِيدُهُ. عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِئَةَ أَيْضًا تُوجَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ يَكُونُ فِيهِ لِأَهْلِ الْحَقِّ قُوَّةٌ وَسُلْطَانٌ، وَالْحِكَايَةُ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَالْوَاقِعِ لَا تُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ " إِذَا " تَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَمَعْنَى الْفِعْلِ مُسْتَقْبَلٌ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَتْ صِيغَةُ الْمَاضِي لِتَوْبِيخِ أُولَئِكَ الْأَفْرَادِ وَإِيذَائِهِمْ بِأَنَّ بِضَاعَةَ النِّفَاقِ وَالْمُدَاجَاةِ لَا تَرُوجُ فِي سُوقِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهَا مُزْجَاةٌ، وَأَنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ مَرْدُودٌ إِلَيْهِمْ وَوَبَالَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ.
كَانَ أُولَئِكَ النَّفَرُ يُدْهِنُونَ فِي دِينِهِمْ، فَإِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِمَا أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
(وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) مِنْ دُعَاةِ الْفِتْنَةِ وَعُمَّالِ الْإِفْسَادِ وَأَنْصَارِ الْبَاطِلِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ بِمَا يُقِيمُونَ أَمَامَهُ مِنْ عَقَبَاتِ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ، وَمَا يُلْقُونَ فِيهِ مِنْ أَشْوَاكِ الْمَعَايِبِ وَتَضَارِيسِ الْمَذَامِّ، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) : إِنَّهُمُ الرُّؤَسَاءُ. وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَا، وَكَمْ مِنْ رَئِيسٍ مَغْمُولٍ، لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْخُمُولِ، لَا يَنْصُرُ اعْتِقَادَهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ فِيهِ رَشَادَهُ، وَفِي عِزَّتِهِ عِزَّهُ وَإِسْعَادَهُ، وَكَمْ مِنْ مَرْءُوسٍ شَدِيدِ الْعَزِيمَةِ قَوِيِّ الشَّكِيمَةِ يَكُونُ لَهُ فِي نَصْرِ مَلَّتِهِ، وَالْمُدَافَعَةِ عَنْ أُمَّتِهِ، مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الرُّؤَسَاءُ، وَلَا يَأْتِي عَلَى أَيْدِي الْأُمَرَاءِ.
وَلِلذُّبَابَةِ فِي الْجُرْحِ الْمُمِدِّ يَدٌ تَنَالُ مَا قَصَّرَتْ عَنْهُ يَدُ الْأَسَدِ
(قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) أَيْ إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى عَقِيدَتِكُمْ وَعَمَلِكُمْ، وَإِنَّمَا نَسْتَهْزِئُ بِالْمُسْلِمِينَ وَدِينِهِمْ، فَكَشَفَ الْقُرْآنُ عَنْ هَذَا التَّلَوُّنِ وَهَذِهِ الذَّبْذَبَةِ، وَقَابَلَهُمْ عَلَيْهَا بِمَا هَدَمَ بُنْيَانَهُمْ وَفَضَحَ بُهْتَانَهُمْ، فَقَالَ: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أَصْلُ الِاسْتِهْزَاءِ: الِاسْتِخْفَافُ وَعَدَمُ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ فِي النَّفْسِ وَإِنْ أَظْهَرَ الْمُسْتَخِفُّ الِاسْتِحْسَانَ وَالرِّضَا تَهَكُّمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْمُحَالُ بِذَاتِهِ يَصِحُّ إِطْلَاقُ لَازِمِهِ، وَالْمُسْتَهْزِئُ بِإِنْسَانٍ فِي نَحْوِ مَدْحٍ لِعِلْمِهِ وَاسْتِحْسَانٍ لِعَمَلِهِ مَعَ اعْتِقَادِ قُبْحِهِ غَيْرُ مُبَالٍ بِهِ وَلَا مُعْتَنٍ بِعِلْمِهِ وَلَا بِعَمَلِهِ، حَيْثُ لَمْ يُرْجِعْهُ عَنْهُ وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِرْسَالُ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ فِي عَمَلِهِ الْقَبِيحِ، فَمَعْنَى (
اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (أَنَّهُ يُمْهِلُهُمْ فَتَطُولُ عَلَيْهِمْ نِعْمَتُهُ، وَتُبْطِئُ عَنْهُمْ نِقْمَتُهُ) ثُمَّ يُسْقِطُ مِنْ أَقْدَارِهِمْ وَيَسْتَدْرِجُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَالَ بَعْضُ الْوَاهِمِينَ: إِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي مُنَافِقِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْنِيدُهُ فَلَا نُعِيدُهُ. عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِئَةَ أَيْضًا تُوجَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ يَكُونُ فِيهِ لِأَهْلِ الْحَقِّ قُوَّةٌ وَسُلْطَانٌ، وَالْحِكَايَةُ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَالْوَاقِعِ لَا تُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ " إِذَا " تَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَمَعْنَى الْفِعْلِ مُسْتَقْبَلٌ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَتْ صِيغَةُ الْمَاضِي لِتَوْبِيخِ أُولَئِكَ الْأَفْرَادِ وَإِيذَائِهِمْ بِأَنَّ بِضَاعَةَ النِّفَاقِ وَالْمُدَاجَاةِ لَا تَرُوجُ فِي سُوقِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهَا مُزْجَاةٌ، وَأَنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ مَرْدُودٌ إِلَيْهِمْ وَوَبَالَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ.
كَانَ أُولَئِكَ النَّفَرُ يُدْهِنُونَ فِي دِينِهِمْ، فَإِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِمَا أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
(وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) مِنْ دُعَاةِ الْفِتْنَةِ وَعُمَّالِ الْإِفْسَادِ وَأَنْصَارِ الْبَاطِلِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ بِمَا يُقِيمُونَ أَمَامَهُ مِنْ عَقَبَاتِ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ، وَمَا يُلْقُونَ فِيهِ مِنْ أَشْوَاكِ الْمَعَايِبِ وَتَضَارِيسِ الْمَذَامِّ، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) : إِنَّهُمُ الرُّؤَسَاءُ. وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَا، وَكَمْ مِنْ رَئِيسٍ مَغْمُولٍ، لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْخُمُولِ، لَا يَنْصُرُ اعْتِقَادَهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ فِيهِ رَشَادَهُ، وَفِي عِزَّتِهِ عِزَّهُ وَإِسْعَادَهُ، وَكَمْ مِنْ مَرْءُوسٍ شَدِيدِ الْعَزِيمَةِ قَوِيِّ الشَّكِيمَةِ يَكُونُ لَهُ فِي نَصْرِ مَلَّتِهِ، وَالْمُدَافَعَةِ عَنْ أُمَّتِهِ، مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الرُّؤَسَاءُ، وَلَا يَأْتِي عَلَى أَيْدِي الْأُمَرَاءِ.
وَلِلذُّبَابَةِ فِي الْجُرْحِ الْمُمِدِّ يَدٌ تَنَالُ مَا قَصَّرَتْ عَنْهُ يَدُ الْأَسَدِ
(قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) أَيْ إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى عَقِيدَتِكُمْ وَعَمَلِكُمْ، وَإِنَّمَا نَسْتَهْزِئُ بِالْمُسْلِمِينَ وَدِينِهِمْ، فَكَشَفَ الْقُرْآنُ عَنْ هَذَا التَّلَوُّنِ وَهَذِهِ الذَّبْذَبَةِ، وَقَابَلَهُمْ عَلَيْهَا بِمَا هَدَمَ بُنْيَانَهُمْ وَفَضَحَ بُهْتَانَهُمْ، فَقَالَ: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أَصْلُ الِاسْتِهْزَاءِ: الِاسْتِخْفَافُ وَعَدَمُ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ فِي النَّفْسِ وَإِنْ أَظْهَرَ الْمُسْتَخِفُّ الِاسْتِحْسَانَ وَالرِّضَا تَهَكُّمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْمُحَالُ بِذَاتِهِ يَصِحُّ إِطْلَاقُ لَازِمِهِ، وَالْمُسْتَهْزِئُ بِإِنْسَانٍ فِي نَحْوِ مَدْحٍ لِعِلْمِهِ وَاسْتِحْسَانٍ لِعَمَلِهِ مَعَ اعْتِقَادِ قُبْحِهِ غَيْرُ مُبَالٍ بِهِ وَلَا مُعْتَنٍ بِعِلْمِهِ وَلَا بِعَمَلِهِ، حَيْثُ لَمْ يُرْجِعْهُ عَنْهُ وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِرْسَالُ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ فِي عَمَلِهِ الْقَبِيحِ، فَمَعْنَى (
اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (أَنَّهُ يُمْهِلُهُمْ فَتَطُولُ عَلَيْهِمْ نِعْمَتُهُ، وَتُبْطِئُ عَنْهُمْ نِقْمَتُهُ) ثُمَّ يُسْقِطُ مِنْ أَقْدَارِهِمْ وَيَسْتَدْرِجُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
137
(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وَالْعَمَهُ: عَمَى الْقَلْبِ وَظُلْمَةُ الْبَصِيرَةِ، وَأَثَرُهُ الْحَيْرَةُ وَالِاضْطِرَابُ، وَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلصَّوَابِ.
أَقُولُ: هَذَا مُلَخَّصُ سِيَاقِ الدَّرْسِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَمَهُ: التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ مِنَ التَّحَيُّرِ، يُقَالُ: عَمَهَ فَهُوَ عَمِهٌ، وَعَامِهٌ، وَجَمْعُهُ: عُمُّهٌ (بِالتَّشْدِيدِ) اهـ.
وَالِاسْتِهْزَاءُ: فِعْلُ الْهَزْءِ - بِسُكُونِ الزَّايِ وَضَمِّهَا - وَقَصْدُهُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ اسْمٌ مَنْ هَزِئْتُ بِهِ وَمِنْهُ، وَفِي لُغَةٍ هَزَأْتُ، فَهُوَ مِنْ بَابَيْ تَعِبَ وَنَفَعَ - وَاسْتَهْزَأْتُ بِهِ، أَيِ اسْتَخْفَفْتُ بِهِ وَسَخِرْتُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالِاسْتِهْزَاءُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِخْفَافُ، يُقَالُ: هَزَأْتُ بِهِ وَاسْتَهْزَأْتُ بِمَعْنًى - كَأَجَبْتُ وَاسْتَجَبْتُ، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ، وَمِنَ الْهُزُؤِ: وَهُوَ الْقَتْلُ السَّرِيعُ، يُقَالُ: هَزَأَ فُلَانٌ إِذَا مَاتَ، وَنَاقَتُهُ تَهْزَأُ بِهِ، أَيْ تُسْرِعُ وَتَخِفُّ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْهَزْءُ مَزْحٌ فِي خُفْيَةٍ، وَقَدْ يُقَالُ لِمَا هُوَ كَالْمَزْحِ، ثُمَّ قَالَ: وَالِاسْتِهْزَاءُ ارْتِيَادُ الْهُزُؤِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ تَعَاطِي الْهُزُؤِ كَالِاسْتِجَابَةِ فِي كَوْنِهَا ارْتِيَادًا لِلْإِجَابَةِ وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَابَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ آيَاتٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ: وَالِاسْتِهْزَاءُ مِنَ اللهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنَ اللهِ اللهْوُ وَاللَّعِبُ - تَعَالَى الله عَنْهُ - وَقَوْلُهُ: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أَيْ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الْهُزُؤِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ أَمْهَلَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ أَخَذَهُمْ مُغَافَصَةً (أَيْ مُفَاجَأَةً عَلَى غِرَّةٍ) فَسَمَّى إِمْهَالَهُ إِيَّاهُمُ اسْتِهْزَاءً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمُ اغْتَرُّوا بِهِ اغْتِرَارَهُمْ بِالْهُزُؤِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالِاسْتِدْرَاجِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ اهـ.
وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ: إِنَّ مَعْنَاهُ يُجَازِيهِمْ بِالْعِقَابِ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ أَوْ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَهْزِئِ بِهِمْ (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) (٥٧: ١٣) الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) - إِلَى قَوْلِهِ - (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) (٨٣: ٢٩ - ٣٥) وَقِيلَ: إِنَّ اسْتِهْزَاءَهُ تَعَالَى بِهِمْ إِجْرَاؤُهُ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا مَرَّ فِي خِدَاعِهِ لَهُمْ.
وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعِصْيَانِ، مَأْخُوذٌ مِنْ طُغْيَانِ الْمَاءِ، وَهُوَ تَجَاوُزُ
فَيَضَانِهِ الْحَدَّ الْمَأْلُوفَ.
وَالْمَدُّ: الزِّيَادَةُ فِي الشَّيْءِ مُتَّصِلَةٌ بِهِ، يُقَالُ: مَدَّ الْبَحْرُ زَادَ وَارْتَفَعَ مَاؤُهُ وَانْبَسَطَ وَمَدَّهُ اللهُ، قَالَ تَعَالَى: (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) (٣١: ٢٧) وَمَدُّ الْبَحْرِ يُقَابِلُهُ الْجَزْرُ، وَهُوَ: انْحِسَارُ مَائِهِ عَنِ السَّاحِلِ وَنُقْصَانُ امْتِدَادِهِ، وَيُسَمَّى السَّيْلُ مَدًّا مِنْ قَبِيلِ التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ، وَمِنْهُ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَانِ، وَالْمَدَدُ - بِالتَّحْرِيكِ - لِلْجَيْشِ، يُقَالُ مَدَّهُ وَأَمَدَّهُ. قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا) (١٩: ٧٥) وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ
أَقُولُ: هَذَا مُلَخَّصُ سِيَاقِ الدَّرْسِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَمَهُ: التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ مِنَ التَّحَيُّرِ، يُقَالُ: عَمَهَ فَهُوَ عَمِهٌ، وَعَامِهٌ، وَجَمْعُهُ: عُمُّهٌ (بِالتَّشْدِيدِ) اهـ.
وَالِاسْتِهْزَاءُ: فِعْلُ الْهَزْءِ - بِسُكُونِ الزَّايِ وَضَمِّهَا - وَقَصْدُهُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ اسْمٌ مَنْ هَزِئْتُ بِهِ وَمِنْهُ، وَفِي لُغَةٍ هَزَأْتُ، فَهُوَ مِنْ بَابَيْ تَعِبَ وَنَفَعَ - وَاسْتَهْزَأْتُ بِهِ، أَيِ اسْتَخْفَفْتُ بِهِ وَسَخِرْتُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالِاسْتِهْزَاءُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِخْفَافُ، يُقَالُ: هَزَأْتُ بِهِ وَاسْتَهْزَأْتُ بِمَعْنًى - كَأَجَبْتُ وَاسْتَجَبْتُ، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ، وَمِنَ الْهُزُؤِ: وَهُوَ الْقَتْلُ السَّرِيعُ، يُقَالُ: هَزَأَ فُلَانٌ إِذَا مَاتَ، وَنَاقَتُهُ تَهْزَأُ بِهِ، أَيْ تُسْرِعُ وَتَخِفُّ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْهَزْءُ مَزْحٌ فِي خُفْيَةٍ، وَقَدْ يُقَالُ لِمَا هُوَ كَالْمَزْحِ، ثُمَّ قَالَ: وَالِاسْتِهْزَاءُ ارْتِيَادُ الْهُزُؤِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ تَعَاطِي الْهُزُؤِ كَالِاسْتِجَابَةِ فِي كَوْنِهَا ارْتِيَادًا لِلْإِجَابَةِ وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَابَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ آيَاتٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ: وَالِاسْتِهْزَاءُ مِنَ اللهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنَ اللهِ اللهْوُ وَاللَّعِبُ - تَعَالَى الله عَنْهُ - وَقَوْلُهُ: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أَيْ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الْهُزُؤِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ أَمْهَلَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ أَخَذَهُمْ مُغَافَصَةً (أَيْ مُفَاجَأَةً عَلَى غِرَّةٍ) فَسَمَّى إِمْهَالَهُ إِيَّاهُمُ اسْتِهْزَاءً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمُ اغْتَرُّوا بِهِ اغْتِرَارَهُمْ بِالْهُزُؤِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالِاسْتِدْرَاجِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ اهـ.
وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ: إِنَّ مَعْنَاهُ يُجَازِيهِمْ بِالْعِقَابِ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ أَوْ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَهْزِئِ بِهِمْ (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) (٥٧: ١٣) الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) - إِلَى قَوْلِهِ - (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) (٨٣: ٢٩ - ٣٥) وَقِيلَ: إِنَّ اسْتِهْزَاءَهُ تَعَالَى بِهِمْ إِجْرَاؤُهُ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا مَرَّ فِي خِدَاعِهِ لَهُمْ.
وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعِصْيَانِ، مَأْخُوذٌ مِنْ طُغْيَانِ الْمَاءِ، وَهُوَ تَجَاوُزُ
فَيَضَانِهِ الْحَدَّ الْمَأْلُوفَ.
وَالْمَدُّ: الزِّيَادَةُ فِي الشَّيْءِ مُتَّصِلَةٌ بِهِ، يُقَالُ: مَدَّ الْبَحْرُ زَادَ وَارْتَفَعَ مَاؤُهُ وَانْبَسَطَ وَمَدَّهُ اللهُ، قَالَ تَعَالَى: (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) (٣١: ٢٧) وَمَدُّ الْبَحْرِ يُقَابِلُهُ الْجَزْرُ، وَهُوَ: انْحِسَارُ مَائِهِ عَنِ السَّاحِلِ وَنُقْصَانُ امْتِدَادِهِ، وَيُسَمَّى السَّيْلُ مَدًّا مِنْ قَبِيلِ التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ، وَمِنْهُ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَانِ، وَالْمَدَدُ - بِالتَّحْرِيكِ - لِلْجَيْشِ، يُقَالُ مَدَّهُ وَأَمَدَّهُ. قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا) (١٩: ٧٥) وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ
قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٦: ١١٠) وَالْمَعْنَى: أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ هُوَ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ فِيهِمْ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنَتْ حَالَهُمُ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) إِلَخْ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ طُغْيَانَهُمْ وَعَمَهَهُمْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَلَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ بِخَلْقِ رَبِّهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقَدْ فَسَّرُوا (اشْتَرَوْا) بِاسْتَبْدَلُوا وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَصْلًا فِي الْمَعْنَى، وَكُلَّنَا نَعْتَقِدُ - وَالْحَقُّ مَا نَعْتَقِدُ - أَنَّ الْقُرْآنَ فِي أَعْلَى دَرَجِ الْبَلَاغَةِ لَا يَخْتَارُ لَفْظًا عَلَى لَفْظٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ، وَلَا يُرَجِّحَ أُسْلُوبًا عَلَى أُسْلُوبٍ يُمْكِنُ تَأْدِيَةُ الْمُرَادِ بِهِ إِلَّا لِحِكْمَةٍ فِي ذَلِكَ وَخُصُوصِيَّةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مَا اخْتَارَهُ وَرَجَّحَهُ، وَوَجْهُ اخْتِيَارِهِ ((اشْتَرَوْا)) عَلَى اسْتَبْدَلُوا أَنَّ الْأَوَّلَ أَخَصُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ لَا يَكُونُ شِرَاءً إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ يَقْصِدُهَا الْمُسْتَبْدَلُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَتِ الْفَائِدَةُ حَقِيقِيَّةً أَوْ وَهْمِيَّةً.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ الشِّرَاءَ يَكُونُ بَيْنَ مُتَبَايِعِينَ بِخِلَافِ الِاسْتِبْدَالِ، فَإِذَا أَخَذْتَ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِكَ بَدَلَ آخَرَ، يُقَالُ: إِنَّكَ اسْتَبْدَلْتَ ثَوْبًا بِثَوْبٍ، فَالْمَعْنَى الَّذِي تُؤَدِّيهِ الْآيَةُ: أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى لِفَائِدَةٍ لَهُمْ بِإِزَائِهَا يَعْتَقِدُونَ الْحُصُولَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ يُقْصَدُ بِهَا الرِّبْحُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الِاشْتِرَاءِ وَالشِّرَاءِ، وَمَثَلُهُمَا الْبَيْعُ وَالِابْتِيَاعُ، وَلَا يُؤَدِّيهِ مُطْلَقُ الِاسْتِبْدَالِ.
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ سَمَاوِيَّةٌ فِيهَا مَوَاعِظُ وَأَحْكَامٌ، وَفِيهَا بِشَارَةٌ بِأَنَّ اللهَ
يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَ التَّقَالِيدِ، وَأَغْلَالَ التَّقَيُّدِ بِإِرَادَةِ الْعَبِيدِ، وَيَرْعَى جَمِيعَ الْأُمَمِ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيُرْجِعُ لِلْعُقُولِ نِعْمَةُ الِاسْتِقْلَالِ، وَيَجْعَلُ إِرَادَةَ الْأَفْرَادِ هِيَ الْمُصَرِّفَةَ لِلْأَعْمَالِ فَكَانَ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ حَظٌّ مِنْ هِدَايَةِ الْعَقْلِ وَالْمَشَاعِرِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَالْكِتَابِ، وَلَكِنْ نَجَمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالْبِدَعُ، وَتَحَكَّمَتْ فِيهِمُ الْعَادَاتُ وَالتَّقَالِيدُ، وَعَلَا سُلْطَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى سُلْطَانِ الدِّينِ، فَضَلَّ الرُّؤَسَاءُ فِي فَهْمِهِ بِتَحْكِيمِ تَقَالِيدِهِمْ فِي أَحْكَامِهِ وَعَقَائِدِهِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، وَأَهْمَلَ الْمَرْءُوسُونَ الْعَقْلَ وَالنَّظَرَ فِي الْكِتَابِ بِحَظْرِ الرُّؤَسَاءِ وَأَثَرَتِهِمْ، فَكَانَ الْجَمِيعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَفِي فَهْمِ الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَا هِدَايَتَيْنِ مَمْنُوحَتَيْنِ لَهُمْ لِإِسْعَادِهِمْ، وَكَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ: لِلرُّؤَسَاءِ الْمَالُ وَالْجَاهُ وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّكْرِيمُ بِاسْمِ الدِّينِ، وَلِلْمَرْءُوسِينَ الِاسْتِعَانَةُ بِجَاهِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَرَفْعِ أَثْقَالِ التَّكَالِيفِ بِفَتَاوَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، هَكَذَا اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى - وَهُوَ الْعَقْلُ وَالدِّينُ - رَغْبَةً فِي الْحُطَامِ،
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ لَا يَكُونُ شِرَاءً إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ يَقْصِدُهَا الْمُسْتَبْدَلُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَتِ الْفَائِدَةُ حَقِيقِيَّةً أَوْ وَهْمِيَّةً.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ الشِّرَاءَ يَكُونُ بَيْنَ مُتَبَايِعِينَ بِخِلَافِ الِاسْتِبْدَالِ، فَإِذَا أَخَذْتَ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِكَ بَدَلَ آخَرَ، يُقَالُ: إِنَّكَ اسْتَبْدَلْتَ ثَوْبًا بِثَوْبٍ، فَالْمَعْنَى الَّذِي تُؤَدِّيهِ الْآيَةُ: أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى لِفَائِدَةٍ لَهُمْ بِإِزَائِهَا يَعْتَقِدُونَ الْحُصُولَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ يُقْصَدُ بِهَا الرِّبْحُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الِاشْتِرَاءِ وَالشِّرَاءِ، وَمَثَلُهُمَا الْبَيْعُ وَالِابْتِيَاعُ، وَلَا يُؤَدِّيهِ مُطْلَقُ الِاسْتِبْدَالِ.
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ سَمَاوِيَّةٌ فِيهَا مَوَاعِظُ وَأَحْكَامٌ، وَفِيهَا بِشَارَةٌ بِأَنَّ اللهَ
يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَ التَّقَالِيدِ، وَأَغْلَالَ التَّقَيُّدِ بِإِرَادَةِ الْعَبِيدِ، وَيَرْعَى جَمِيعَ الْأُمَمِ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيُرْجِعُ لِلْعُقُولِ نِعْمَةُ الِاسْتِقْلَالِ، وَيَجْعَلُ إِرَادَةَ الْأَفْرَادِ هِيَ الْمُصَرِّفَةَ لِلْأَعْمَالِ فَكَانَ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ حَظٌّ مِنْ هِدَايَةِ الْعَقْلِ وَالْمَشَاعِرِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَالْكِتَابِ، وَلَكِنْ نَجَمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالْبِدَعُ، وَتَحَكَّمَتْ فِيهِمُ الْعَادَاتُ وَالتَّقَالِيدُ، وَعَلَا سُلْطَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى سُلْطَانِ الدِّينِ، فَضَلَّ الرُّؤَسَاءُ فِي فَهْمِهِ بِتَحْكِيمِ تَقَالِيدِهِمْ فِي أَحْكَامِهِ وَعَقَائِدِهِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، وَأَهْمَلَ الْمَرْءُوسُونَ الْعَقْلَ وَالنَّظَرَ فِي الْكِتَابِ بِحَظْرِ الرُّؤَسَاءِ وَأَثَرَتِهِمْ، فَكَانَ الْجَمِيعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَفِي فَهْمِ الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَا هِدَايَتَيْنِ مَمْنُوحَتَيْنِ لَهُمْ لِإِسْعَادِهِمْ، وَكَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ: لِلرُّؤَسَاءِ الْمَالُ وَالْجَاهُ وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّكْرِيمُ بِاسْمِ الدِّينِ، وَلِلْمَرْءُوسِينَ الِاسْتِعَانَةُ بِجَاهِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَرَفْعِ أَثْقَالِ التَّكَالِيفِ بِفَتَاوَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، هَكَذَا اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى - وَهُوَ الْعَقْلُ وَالدِّينُ - رَغْبَةً فِي الْحُطَامِ،
139
وَطَمَعًا فِي الْجَاهِ الْكَاذِبِ (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) فِي الدُّنْيَا، إِذَ لَمْ تُثْمِرْ لَهُمْ ثَمَرَةً حَقِيقِيَّةً، بَلْ خَسِرُوا وَخَابُوا بِإِهْمَالِهِمُ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا تَقُومُ الْمَصَالِحُ وَلَا تُحْفَظُ الْمَنَافِعُ إِلَّا بِهِ، وَإِسْنَادُ الرِّبْحِ إِلَى التِّجَارَةِ عَرَبِيٌّ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ: هُوَ النَّمَاءُ فِي التَّجْرِ، وَهَذِهِ الْمُعَاوَضَةُ هِيَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُثْمِرَ الرِّبْحَ، فَإِسْنَادُهُ إِلَيْهَا نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ (كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يَكُنْ نَمَاءٌ فِي تِجَارَتِهِمْ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ - الْمَعْرُوفَ مِنْ أَنَّ إِسْنَادَ الرِّبْحِ إِلَى التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ وَالْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْعِبَارَةَ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ - تَأْوِيلٌ يَتَّفِقُ مَعَ الْبَلَاغَةِ وَلَا يُنَافِيهَا، وَلَا زَالَ الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُزَيِّنُ الْبُلَغَاءُ بِهِ كَلَامَهُمْ، وَيُبَلِّغُونَ بِهِ مَا يَشَاءُونَ مِنْ تَفْخِيمِ مَعَانِيهِمْ).
(وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) فِي دِينِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَفْهَمُوهُ حَقَّ فَهْمِهِ، أَوْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ، لِأَنَّهُمْ بَاعُوا فِيهَا مَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ بِظُلُمَاتِ التَّقَالِيدِ وَضَلَالَاتِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الَّتِي زَجُّوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، أَوْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي طَوْرٍ مِنَ الْأَطْوَارِ وَلَا مَسَّ الرُّشْدُ قُلُوبَهُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُمْ نَشَئُوا عَلَى التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ قَطُّ فِي فَهْمِ
أَسْرَارِهِ وَاقْتِبَاسِ أَنْوَارِهِ، وَلَا يَذْهَبْنَ الْوَهْمُ إِلَى أَنَّ اشْتِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ، ثُمَّ تَرَكُوا الْهُدَى لِلضَّلَالَةِ، فَيَتَنَاقَضَ أَوَّلُ الْآيَةِ مِنْ آخِرِهَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ مُنِحَ الْهُدَى يَأْخُذُ بِهِ فَيَكُونُ مُهْتَدِيًا، وَهَؤُلَاءِ حُمِّلُوهُ فَبَاعُوهُ وَلَمْ يَحْمِلُوهُ، وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الِاشْتِرَاءِ، وَيُشْبِهُهُ الِاسْتِحْبَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (٤١: ١٧) وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَدَاءِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ (الْهُدَى) بِالْإِمَالَةِ، أَيْ جَعْلِ مَدِّهَا بَيْنَ الْأَلِفِ وَالْيَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَعَدَمُ الْإِمَالَةِ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَهِيَ الْفُصْحَى، وَلَمَّا كَانَ يَعْسُرُ عَلَى لِسَانِ مَنِ اعْتَادَهَا تَرْكُهَا أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِهَا فِيمَا أَقْرَأَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)
أَقُولُ: الْمَثَلُ بِفُتْحَتَيْنِ وَالْمِثْلُ بِالْكَسْرِ، وَالْمَثِيلُ كَالشَّبَهِ وَالشِّبْهِ وَالشَّبِيهِ وَزْنًا وَمَعْنًى فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مِنْ مَثُلَ الشَّيْءُ مُثُولًا إِذَا انْتَصَبَ بَارِزًا فَهُوَ مَاثِلٌ، وَمَثَلُ الشَّيْءِ - بِالتَّحْرِيكِ - صِفَتُهُ الَّتِي تُوَضِّحُهُ وَتَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، أَوْ مَا يُرَادُ بَيَانُهُ مِنْ نُعُوتِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَيَكُونُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَأَبْلَغُهُ: تَمْثِيلُ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ بِالصُّوَرِ الْحِسِّيَّةِ وَعَكْسُهُ، وَمِنْهُ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ وَتُسَمَّى الْأَمْثَالَ السَّائِرَةَ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ: (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) وَمِنْهُ مَا يُسَمِّيهِ
(وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) فِي دِينِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَفْهَمُوهُ حَقَّ فَهْمِهِ، أَوْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ، لِأَنَّهُمْ بَاعُوا فِيهَا مَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ بِظُلُمَاتِ التَّقَالِيدِ وَضَلَالَاتِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الَّتِي زَجُّوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، أَوْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي طَوْرٍ مِنَ الْأَطْوَارِ وَلَا مَسَّ الرُّشْدُ قُلُوبَهُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُمْ نَشَئُوا عَلَى التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ قَطُّ فِي فَهْمِ
أَسْرَارِهِ وَاقْتِبَاسِ أَنْوَارِهِ، وَلَا يَذْهَبْنَ الْوَهْمُ إِلَى أَنَّ اشْتِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ، ثُمَّ تَرَكُوا الْهُدَى لِلضَّلَالَةِ، فَيَتَنَاقَضَ أَوَّلُ الْآيَةِ مِنْ آخِرِهَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ مُنِحَ الْهُدَى يَأْخُذُ بِهِ فَيَكُونُ مُهْتَدِيًا، وَهَؤُلَاءِ حُمِّلُوهُ فَبَاعُوهُ وَلَمْ يَحْمِلُوهُ، وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الِاشْتِرَاءِ، وَيُشْبِهُهُ الِاسْتِحْبَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (٤١: ١٧) وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَدَاءِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ (الْهُدَى) بِالْإِمَالَةِ، أَيْ جَعْلِ مَدِّهَا بَيْنَ الْأَلِفِ وَالْيَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَعَدَمُ الْإِمَالَةِ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَهِيَ الْفُصْحَى، وَلَمَّا كَانَ يَعْسُرُ عَلَى لِسَانِ مَنِ اعْتَادَهَا تَرْكُهَا أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِهَا فِيمَا أَقْرَأَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)
أَقُولُ: الْمَثَلُ بِفُتْحَتَيْنِ وَالْمِثْلُ بِالْكَسْرِ، وَالْمَثِيلُ كَالشَّبَهِ وَالشِّبْهِ وَالشَّبِيهِ وَزْنًا وَمَعْنًى فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مِنْ مَثُلَ الشَّيْءُ مُثُولًا إِذَا انْتَصَبَ بَارِزًا فَهُوَ مَاثِلٌ، وَمَثَلُ الشَّيْءِ - بِالتَّحْرِيكِ - صِفَتُهُ الَّتِي تُوَضِّحُهُ وَتَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، أَوْ مَا يُرَادُ بَيَانُهُ مِنْ نُعُوتِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَيَكُونُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَأَبْلَغُهُ: تَمْثِيلُ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ بِالصُّوَرِ الْحِسِّيَّةِ وَعَكْسُهُ، وَمِنْهُ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ وَتُسَمَّى الْأَمْثَالَ السَّائِرَةَ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ: (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) وَمِنْهُ مَا يُسَمِّيهِ
140
الْبَيَانِيُّونَ الِاسْتِعَارَةَ التَّمْثِيلِيَّةَ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمَجَازِ، وَالتَّمْثِيلُ: أَمْثَلُ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ وَأَشَدُّهَا تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ وَإِقْنَاعًا لِلْعَقْلِ، قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (٢٩: ٤٣) وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ وَفَّاهُ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ الْمُقْنِعِ إِلَّا إِمَامَهُمُ الشَّيْخَ عَبَدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ فِي كِتَابِهِ (أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ) وَهَاكَ مَا كُنْتُ كَتَبْتُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمَثَلِ ثُمَّ مَا بَعْدَهُ إِجْمَالًا ثُمَّ تَفْصِيلًا، مُقْتَبِسًا مَعَانِيهِ مِنْ دُرُوسِ أُسْتَاذِنَا الْإِمَامِ:
هَذَا مَثَلٌ مِنْ مَثَلَيْنِ ضَرَبَهُمَا اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِلصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ النَّاسِ: الَّذِينَ قَرَعَ الْقُرْآنُ أَبْوَابَ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِهِ أَنْ
قَفَّى عَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فِي شَرِّ فِرْقَةٍ وَأَطْوَارِهِمْ بِضَرْبِ الْمَثَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ تَجَلِّي الْمَعْنَى فِي أَتَمِّ مَجَالِيهِ، وَتَأَثُّرُ النُّفُوسِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ، نَاهِيكَ بِمَا فِي التَّنَقُّلِ فِي الْأَسَالِيبِ مِنْ تَوْجِيهِ الذِّهْنِ إِلَى سَابِقِ الْقَوْلِ وَدَعْوَةِ الْفِكْرِ إِلَى مُرَاجَعَةِ مَا مَضَى مِنْهُ، وَلَوْلَا أَنَّ بَلَاءَ هَذَا الصِّنْفِ عَظِيمٌ، وَدَاءَهُ دَفِينٌ، وَعِلَاجَهُ مُتَعَسِّرٌ - لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الدَّوَاءِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الصِّحَّةُ وَنِعْمَةُ الْعَافِيَةِ - لِمَا كَانَ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَلَا مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يُعْنَى بِشَأْنِهِ كُلَّ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي تَزْيِيفِ رَأْيِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الشِّرْذِمَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ.
ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى لِهَذَا الصِّنْفِ فِي مَجْمُوعِهِ مَثَلَيْنِ، وَيُنْبِئَانِ بِانْقِسَامِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ، خِلَافًا لِمَا فِي أَكْثَرِ التَّفَاسِيرِ فِي أَنَّ الْمَثَلَيْنِ لِفَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَمَوْضُوعَهُمَا وَاحِدٌ.
(الْأَوَّلُ) : مَنْ آتَاهُمُ اللهُ دِينًا وَهِدَايَةً عَمِلَ بِهَا سَلَفُهُمْ فَجَنَوْا ثَمَرَهَا، وَصَلَحَ حَالُهُمْ بِهَا أَيَّامَ كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، آخِذِينَ بِإِرْشَادِ الْوَحْيِ، وَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَكِنَّهُمُ انْحَرَفُوا عَنْ سُنَنِ سَلَفِهِمْ فِي الْأَخْذِ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي حَقَائِقِ مَا جَاءَهُمْ بَلْ ظَنُّوا أَنَّ مَا كَانَ عِنْدَ سَلَفِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ وَسَعَادَةٍ إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا خُصُّوا بِهِ، أَوْ خَيْرًا سِيقَ إِلَيْهِمْ، لِظَاهِرِ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ امْتَازُوا بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ بِدِينِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَمْ يُخَالِطْ سَرَائِرَهُمْ، وَلَمْ تَصْلُحْ بِهِ ضَمَائِرُهُمْ، فَأَخَذُوا بِتَقَالِيدَ وَعَادَاتٍ لَمْ تَدَعْ فِي نُفُوسِهِمْ مَجَالًا لِغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا قَطُّ فِي كَوْنِهِمْ أَحْرَى بِالتَّمَتُّعِ بِتِلْكَ السَّعَادَةِ وَالسِّيَادَةِ مِنْ سَلَفِهِمْ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَوْجُودِ أَيْسَرُ مِنْ إِيجَادِ الْمَفْقُودِ، بَلْ لَمْ يُبِيحُوا لِأَنْفُسِهِمْ فَهُمَ الْكِتَابِ الَّذِي اقْتَدَى مِنْ قَبْلِهِمْ بِمَا فِيهِ شُمُوسُ الْعِرْفَانِ وَنُجُومُ الْفُرْقَانِ، لِزَعْمِهِمْ: أَنَّ فَهْمَهُ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ، يُؤْخَذُ بِأَقْوَالِهِمْ مَا وَجَدُوا، وَبِكُتُبِهِمْ إِذَا فَقَدُوا.
فَمَثَلُ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الصِّنْفِ الْمَخْذُولِ - فِي فَقْدِهِ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ، وَحِرْمَانِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا بِالْمَرَّةِ، وَانْطِمَاسِ الْآثَارِ دُونَهَا عِنْدَهُ - مَثَلُ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا إِلَخْ.
وَالْوَجْهُ فِي التَّمْثِيلِ: أَنَّ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِكِتَابٍ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ قَدْ طَلَبَ بِذَلِكَ الْإِيمَانِ أَنْ تُوقَدَ لَهُ نَارٌ يَهْتَدِي بِهَا فِي الشُّبَهَاتِ، وَيَسْتَضِيئُ
بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الرِّيَبِ وَالْمُشْكِلَاتِ، وَيُبْصِرُ عَلَى ضَوْئِهَا مَا قَدْ يَهْجُمُ عَلَيْهِ مِنْ مُفْتَرِسَةِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ بِمَا أُودِعَتْهُ مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَكَادَ بِالنَّظَرِ فِيهَا يَمْشِي عَلَى هِدَايَةٍ وَسَدَادٍ هَجَمَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ظُلْمَةُ
هَذَا مَثَلٌ مِنْ مَثَلَيْنِ ضَرَبَهُمَا اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِلصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ النَّاسِ: الَّذِينَ قَرَعَ الْقُرْآنُ أَبْوَابَ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِهِ أَنْ
قَفَّى عَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فِي شَرِّ فِرْقَةٍ وَأَطْوَارِهِمْ بِضَرْبِ الْمَثَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ تَجَلِّي الْمَعْنَى فِي أَتَمِّ مَجَالِيهِ، وَتَأَثُّرُ النُّفُوسِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ، نَاهِيكَ بِمَا فِي التَّنَقُّلِ فِي الْأَسَالِيبِ مِنْ تَوْجِيهِ الذِّهْنِ إِلَى سَابِقِ الْقَوْلِ وَدَعْوَةِ الْفِكْرِ إِلَى مُرَاجَعَةِ مَا مَضَى مِنْهُ، وَلَوْلَا أَنَّ بَلَاءَ هَذَا الصِّنْفِ عَظِيمٌ، وَدَاءَهُ دَفِينٌ، وَعِلَاجَهُ مُتَعَسِّرٌ - لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الدَّوَاءِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الصِّحَّةُ وَنِعْمَةُ الْعَافِيَةِ - لِمَا كَانَ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَلَا مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يُعْنَى بِشَأْنِهِ كُلَّ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي تَزْيِيفِ رَأْيِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الشِّرْذِمَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ.
ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى لِهَذَا الصِّنْفِ فِي مَجْمُوعِهِ مَثَلَيْنِ، وَيُنْبِئَانِ بِانْقِسَامِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ، خِلَافًا لِمَا فِي أَكْثَرِ التَّفَاسِيرِ فِي أَنَّ الْمَثَلَيْنِ لِفَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَمَوْضُوعَهُمَا وَاحِدٌ.
(الْأَوَّلُ) : مَنْ آتَاهُمُ اللهُ دِينًا وَهِدَايَةً عَمِلَ بِهَا سَلَفُهُمْ فَجَنَوْا ثَمَرَهَا، وَصَلَحَ حَالُهُمْ بِهَا أَيَّامَ كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، آخِذِينَ بِإِرْشَادِ الْوَحْيِ، وَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَكِنَّهُمُ انْحَرَفُوا عَنْ سُنَنِ سَلَفِهِمْ فِي الْأَخْذِ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي حَقَائِقِ مَا جَاءَهُمْ بَلْ ظَنُّوا أَنَّ مَا كَانَ عِنْدَ سَلَفِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ وَسَعَادَةٍ إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا خُصُّوا بِهِ، أَوْ خَيْرًا سِيقَ إِلَيْهِمْ، لِظَاهِرِ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ امْتَازُوا بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ بِدِينِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَمْ يُخَالِطْ سَرَائِرَهُمْ، وَلَمْ تَصْلُحْ بِهِ ضَمَائِرُهُمْ، فَأَخَذُوا بِتَقَالِيدَ وَعَادَاتٍ لَمْ تَدَعْ فِي نُفُوسِهِمْ مَجَالًا لِغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا قَطُّ فِي كَوْنِهِمْ أَحْرَى بِالتَّمَتُّعِ بِتِلْكَ السَّعَادَةِ وَالسِّيَادَةِ مِنْ سَلَفِهِمْ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَوْجُودِ أَيْسَرُ مِنْ إِيجَادِ الْمَفْقُودِ، بَلْ لَمْ يُبِيحُوا لِأَنْفُسِهِمْ فَهُمَ الْكِتَابِ الَّذِي اقْتَدَى مِنْ قَبْلِهِمْ بِمَا فِيهِ شُمُوسُ الْعِرْفَانِ وَنُجُومُ الْفُرْقَانِ، لِزَعْمِهِمْ: أَنَّ فَهْمَهُ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ، يُؤْخَذُ بِأَقْوَالِهِمْ مَا وَجَدُوا، وَبِكُتُبِهِمْ إِذَا فَقَدُوا.
فَمَثَلُ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الصِّنْفِ الْمَخْذُولِ - فِي فَقْدِهِ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ، وَحِرْمَانِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا بِالْمَرَّةِ، وَانْطِمَاسِ الْآثَارِ دُونَهَا عِنْدَهُ - مَثَلُ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا إِلَخْ.
وَالْوَجْهُ فِي التَّمْثِيلِ: أَنَّ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِكِتَابٍ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ قَدْ طَلَبَ بِذَلِكَ الْإِيمَانِ أَنْ تُوقَدَ لَهُ نَارٌ يَهْتَدِي بِهَا فِي الشُّبَهَاتِ، وَيَسْتَضِيئُ
بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الرِّيَبِ وَالْمُشْكِلَاتِ، وَيُبْصِرُ عَلَى ضَوْئِهَا مَا قَدْ يَهْجُمُ عَلَيْهِ مِنْ مُفْتَرِسَةِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ بِمَا أُودِعَتْهُ مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَكَادَ بِالنَّظَرِ فِيهَا يَمْشِي عَلَى هِدَايَةٍ وَسَدَادٍ هَجَمَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ظُلْمَةُ
141
التَّقْلِيدِ الْخَبِيثِ، وَعَصَبَ عَيْنَيْهِ شَيْطَانُ الْغُرُورِ، فَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ النُّورُ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ جَوُّ الضَّلَالَةِ بَلْ طَفِئَ فِيهِ نُورُ الْفِطْرَةِ، وَتَعَطَّلَتْ قُوَى الشُّعُورِ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ.
وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي فَقَدْ ضَرَبَ اللهُ لَهُ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) إِلَخْ، وَهُوَ الَّذِي بَقِيَ لَهُ بَصِيصٌ مِنَ النُّورِ، فَلَهُ نَظَرَاتٌ تَرْمِي إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ أَحْيَانًا، وَلِمَعَانِي التَّنْزِيلِ لَمَعَانٌ يَسْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَيَأْتَلِقُ فِي نَظَرِهِ الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ عِنْدَمَا تُحَرِّكُهُ الْفِطْرَةُ، أَوْ تَدْفَعُهُ الْحَوَادِثُ لِلنَّظَرِ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْبِدَعِ فِي ظُلُمَاتٍ حَوَالِكَ، وَمِنَ الْخَبْطِ فِيهَا عَلَى حَالٍ لَا تَخْلُو مِنَ الْمَهَالِكِ، وَهُوَ فِي تَخَبُّطِهِ يَسْمَعُ قَوَارِعَ الْإِنْذَارِ الْإِلَهِيِّ وَيَبْرُقُ فِي عَيْنَيْهِ نُورُ الْهِدَايَةِ، فَإِذَا أَضَاءَ لَهُ ذَلِكَ الْبَرْقُ السَّمَاوِيُّ سَارَ، وَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهُ بِشُبَهِ الضَّلَالَاتِ الْغَرَّارَةِ قَامَ وَتَحَيَّرَ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَيُعْرِضُ عَنْ سَمَاعِ نُذُرِ الْكِتَابِ وَدُعَاةِ الْحَقِّ كَمَنْ يَضَعُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ إِرْشَادَ الْمُرْشِدِ، وَلَا نُصْحَ النَّاصِحِ، يَخَافُ مِنْ تِلْكَ الْقَوَارِعِ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَمِنْ صَوَاعِقِ النُّذُرِ أَنْ تُهْلِكَهُ.
هَذَا هُوَ شَأْنُ فَرِيقَيْ هَذَا الصِّنْفِ بِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْمَثَلَانِ إِجْمَالًا، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ تَفْصِيلُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ لَفْظَ " الَّذِي " فِي الْجَمْعِ كَلَفْظَيْ " مَا " وَ " مِنْ " وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) (٩: ٦٩) وَإِنْ شَاعَ فِي " الَّذِي " الْإِفْرَادُ؛ لِأَنَّ لَهُ جَمْعًا، وَقَدْ رُوعِيَ فِي قَوْلِهِ " اسْتَوْقَدَ " لَفْظُهُ، وَفِي قَوْلِهِ: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) مَعْنَاهُ، وَالْفَصِيحُ فِيهِ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ أَوَّلًا، وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى آخِرًا. وَالتَّفَنُّنُ فِي إِرْجَاعِ الضَّمَائِرِ مُتَفَرِّعَةً ضَرْبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْبُلَغَاءِ يُقَرِّرُ الْمَعْنَى فِي الذِّهْنِ وَيَهَبُهُ فَضْلَ تَمَكُّنٍ وَتَأْكِيدٍ بِمَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنَ الرَّوِيَّةِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعَانِي الْمُخْتَلِفَاتِ.
أَقُولُ: اسْتَوْقَدَ النَّارَ: طَلَبَ وَقُودَهَا بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ بِمَعْنَى أَوْقَدَهَا وَيَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ طَلَبَ بِإِضْرَامِهَا وَإِيرَائِهَا أَنْ تَقِدَ، يُقَالُ: وَقَدَتِ النَّارُ تَقِدُ وَتَوَقَّدَتْ وَاتَّقَدَتْ وَاسْتَوْقَدَتْ - لَازِمٌ - وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي مُنَافِقِي الْيَهُودِ قَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا بِالْإِجْمَالِ، - وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ - وَأَمَّا مُنَافِقُو الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ سُورَتِهِمْ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) (٦٣: ٣) الْآيَةَ. فَيُقَالُ فِيهِمْ: مَثَلُهُمْ وَصِفَتُهُمْ فِي إِسْلَامِهِمْ أَوَّلًا وَكُفْرِهِمْ آخِرًا كَمَثَلِ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ أَوْقَدَ نَارًا لِيَنْتَفِعَ بِهَا فِي لَيْلَةٍ حَالِكَةِ الظَّلَامِ، وَيُبْصِرُ مَا حَوْلَهُ مِمَّا عَسَاهُ يَضُرُّهُ لِيَتَّقِيَهُ أَوْ يَنْفَعَهُ لِيَجْتَنِيَهُ (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) يُقَالُ: ضَاءَتِ النَّارُ وَالشَّمْسُ وَأَضَاءَتْ - لَازِمٌ - وَيُقَالُ: ضَاءَ الْمَكَانُ وَأَضَاءَتْهُ النَّارُ، أَيْ أَظْهَرَتْهُ بِضَوْئِهَا، قَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
وَأَنْتَ لَمَّا ظَهَرْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْ ضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ
وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي فَقَدْ ضَرَبَ اللهُ لَهُ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) إِلَخْ، وَهُوَ الَّذِي بَقِيَ لَهُ بَصِيصٌ مِنَ النُّورِ، فَلَهُ نَظَرَاتٌ تَرْمِي إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ أَحْيَانًا، وَلِمَعَانِي التَّنْزِيلِ لَمَعَانٌ يَسْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَيَأْتَلِقُ فِي نَظَرِهِ الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ عِنْدَمَا تُحَرِّكُهُ الْفِطْرَةُ، أَوْ تَدْفَعُهُ الْحَوَادِثُ لِلنَّظَرِ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْبِدَعِ فِي ظُلُمَاتٍ حَوَالِكَ، وَمِنَ الْخَبْطِ فِيهَا عَلَى حَالٍ لَا تَخْلُو مِنَ الْمَهَالِكِ، وَهُوَ فِي تَخَبُّطِهِ يَسْمَعُ قَوَارِعَ الْإِنْذَارِ الْإِلَهِيِّ وَيَبْرُقُ فِي عَيْنَيْهِ نُورُ الْهِدَايَةِ، فَإِذَا أَضَاءَ لَهُ ذَلِكَ الْبَرْقُ السَّمَاوِيُّ سَارَ، وَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهُ بِشُبَهِ الضَّلَالَاتِ الْغَرَّارَةِ قَامَ وَتَحَيَّرَ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَيُعْرِضُ عَنْ سَمَاعِ نُذُرِ الْكِتَابِ وَدُعَاةِ الْحَقِّ كَمَنْ يَضَعُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ إِرْشَادَ الْمُرْشِدِ، وَلَا نُصْحَ النَّاصِحِ، يَخَافُ مِنْ تِلْكَ الْقَوَارِعِ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَمِنْ صَوَاعِقِ النُّذُرِ أَنْ تُهْلِكَهُ.
هَذَا هُوَ شَأْنُ فَرِيقَيْ هَذَا الصِّنْفِ بِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْمَثَلَانِ إِجْمَالًا، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ تَفْصِيلُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ لَفْظَ " الَّذِي " فِي الْجَمْعِ كَلَفْظَيْ " مَا " وَ " مِنْ " وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) (٩: ٦٩) وَإِنْ شَاعَ فِي " الَّذِي " الْإِفْرَادُ؛ لِأَنَّ لَهُ جَمْعًا، وَقَدْ رُوعِيَ فِي قَوْلِهِ " اسْتَوْقَدَ " لَفْظُهُ، وَفِي قَوْلِهِ: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) مَعْنَاهُ، وَالْفَصِيحُ فِيهِ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ أَوَّلًا، وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى آخِرًا. وَالتَّفَنُّنُ فِي إِرْجَاعِ الضَّمَائِرِ مُتَفَرِّعَةً ضَرْبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْبُلَغَاءِ يُقَرِّرُ الْمَعْنَى فِي الذِّهْنِ وَيَهَبُهُ فَضْلَ تَمَكُّنٍ وَتَأْكِيدٍ بِمَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنَ الرَّوِيَّةِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعَانِي الْمُخْتَلِفَاتِ.
أَقُولُ: اسْتَوْقَدَ النَّارَ: طَلَبَ وَقُودَهَا بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ بِمَعْنَى أَوْقَدَهَا وَيَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ طَلَبَ بِإِضْرَامِهَا وَإِيرَائِهَا أَنْ تَقِدَ، يُقَالُ: وَقَدَتِ النَّارُ تَقِدُ وَتَوَقَّدَتْ وَاتَّقَدَتْ وَاسْتَوْقَدَتْ - لَازِمٌ - وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي مُنَافِقِي الْيَهُودِ قَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا بِالْإِجْمَالِ، - وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ - وَأَمَّا مُنَافِقُو الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ سُورَتِهِمْ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) (٦٣: ٣) الْآيَةَ. فَيُقَالُ فِيهِمْ: مَثَلُهُمْ وَصِفَتُهُمْ فِي إِسْلَامِهِمْ أَوَّلًا وَكُفْرِهِمْ آخِرًا كَمَثَلِ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ أَوْقَدَ نَارًا لِيَنْتَفِعَ بِهَا فِي لَيْلَةٍ حَالِكَةِ الظَّلَامِ، وَيُبْصِرُ مَا حَوْلَهُ مِمَّا عَسَاهُ يَضُرُّهُ لِيَتَّقِيَهُ أَوْ يَنْفَعَهُ لِيَجْتَنِيَهُ (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) يُقَالُ: ضَاءَتِ النَّارُ وَالشَّمْسُ وَأَضَاءَتْ - لَازِمٌ - وَيُقَالُ: ضَاءَ الْمَكَانُ وَأَضَاءَتْهُ النَّارُ، أَيْ أَظْهَرَتْهُ بِضَوْئِهَا، قَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
وَأَنْتَ لَمَّا ظَهَرْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْ ضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ
142
وَالْمَعْنَى الْمُتَبَادَرُ: فَلَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَشْيَاءِ وَتَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهَا (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) بِإِطْفَاءِ نَارِهِمْ بِنَحْوِ مَطَرٍ شَدِيدٍ نَزَلَ عَلَيْهَا، أَوْ عَاصِفٍ مِنَ الرِّيحِ جَرَفَهَا وَبَدَّدَهَا، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَثَلِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَضْرُوبِ فِيهِمُ الْمَثَلُ مِنَ الْعَرَبِ، فَالنُّورُ نُورُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَضَاءَ قُلُوبَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (٣٩: ٢٢) وَذَهَابُهُ فِي الدُّنْيَا مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ أَوِ الْجَزْمِ بِالْكُفْرِ حَتَّى لَمْ يَعُودُوا يُدْرِكُونَ مَنَافِعَهُ وَفَضَائِلَهُ، وَأَمَّا ذَهَابُهُ بَعْدَهَا فَأَوَّلُهُ الْمَوْتُ، فَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَرَى بِالْمَوْتِ أَوْ قُبَيْلَ خُرُوجِ رُوحِهِ مَنْزِلَتَهُ بَعْدَهَا، وَبَعْدَهُ ظُلْمَةُ الْقَبْرِ أَيْ حَيَاةُ الْبَرْزَخِ، وَبَعْدَهَا مَوْقِفُ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٥٧: ١٣ - ١٤) إِلَخْ. الْآيَةِ التَّالِيَةِ (١٥)، وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَصْدَقُ بَيَانٍ لِلْمُرَادِ مِنْ ذَهَابِ اللهِ بِنُورِهِمْ، وَكَوْنِهِ لَيْسَ إِجْبَارًا لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا عِبَارَةً عَنْ سَلْبِهِمُ التَّمَكُّنَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْبِيرٌ عَنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَاقِبَةِ فِتْنَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ إِلَخْ.
وَقَالَ شَيْخُنَا فِي تَطْبِيقِ الْمَثَلِ عَلَى الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا مَعْنَاهُ: اسْتَوْقَدُوا بِفِطْرَتِهِمُ السَّلِيمَةِ نَارَ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِتَصْدِيقِهِمْ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمْ بُرُوقُهَا وَوَضَحَ لَهُمْ طَرِيقُهَا، فَاجَأَتْهُمُ التَّقَالِيدُ الْمَوْرُوثَةُ، وَبَاغَتَتْهُمُ الْعَادَاتُ الْمَأْلُوفَةُ، وَشَغَلَهُمْ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، وَمَا يَتَوَقَّعُونَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا مِنَ الْمَصَارِعِ وَالْمَفَاسِدِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِذَلِكَ الضَّوْءِ عَلَى سُلُوكِ ذَلِكَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ نَهَارِهِ الْمُشْرِقِ وَظُلُمَاتِ لَيْلِهَا الْبَهِيمِ، بَلِ اسْتَبْدَلُوا هَذَا الدَّيْجُورَ بِذَلِكَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى ذَهَابِ نُورِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) وَلَمْ يُقَلْ: ذَهَبَ نُورُهُمْ، أَوْ أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ، لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ مَعَهُمْ بِمَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ عِنْدَمَا اسْتَوْقَدُوا النَّارَ فَأَضَاءَتْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَائِمِينَ عَلَى سَبِيلِ فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا، مُعْتَقِدِينَ صِحَّةَ شَرِيعَتِهِ الَّتِي دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا، وَبِأَنَّهُ تَخَلَّى عَنْهُمْ عِنْدَمَا نَكَبُوا عَنْ تِلْكَ السَّبِيلِ، وَعَافُوا ذَلِكَ الْمَوْرِدَ السَّلْسَبِيلَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَوْقِدَ الْمُسْتَرْشِدَ تَكُونُ لَهُ حَالَةٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى مَرْضِيَةٌ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَقَصْدِ اتِّبَاعِ هُدَاهُ، وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهِ الَّذِي وَهَبَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ وَذَهَبَ بِنُورِهِ، وَإِذَا ذَهَبَ النُّورُ لَا يَبْقَى إِلَّا الظُّلْمَةُ، وَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي ظُلْمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ التَّقَالِيدِ الَّتِي فُتِنُوا بِهَا، وَبِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ الَّتِي أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ:
وَقَالَ شَيْخُنَا فِي تَطْبِيقِ الْمَثَلِ عَلَى الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا مَعْنَاهُ: اسْتَوْقَدُوا بِفِطْرَتِهِمُ السَّلِيمَةِ نَارَ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِتَصْدِيقِهِمْ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمْ بُرُوقُهَا وَوَضَحَ لَهُمْ طَرِيقُهَا، فَاجَأَتْهُمُ التَّقَالِيدُ الْمَوْرُوثَةُ، وَبَاغَتَتْهُمُ الْعَادَاتُ الْمَأْلُوفَةُ، وَشَغَلَهُمْ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، وَمَا يَتَوَقَّعُونَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا مِنَ الْمَصَارِعِ وَالْمَفَاسِدِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِذَلِكَ الضَّوْءِ عَلَى سُلُوكِ ذَلِكَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ نَهَارِهِ الْمُشْرِقِ وَظُلُمَاتِ لَيْلِهَا الْبَهِيمِ، بَلِ اسْتَبْدَلُوا هَذَا الدَّيْجُورَ بِذَلِكَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى ذَهَابِ نُورِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) وَلَمْ يُقَلْ: ذَهَبَ نُورُهُمْ، أَوْ أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ، لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ مَعَهُمْ بِمَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ عِنْدَمَا اسْتَوْقَدُوا النَّارَ فَأَضَاءَتْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَائِمِينَ عَلَى سَبِيلِ فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا، مُعْتَقِدِينَ صِحَّةَ شَرِيعَتِهِ الَّتِي دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا، وَبِأَنَّهُ تَخَلَّى عَنْهُمْ عِنْدَمَا نَكَبُوا عَنْ تِلْكَ السَّبِيلِ، وَعَافُوا ذَلِكَ الْمَوْرِدَ السَّلْسَبِيلَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَوْقِدَ الْمُسْتَرْشِدَ تَكُونُ لَهُ حَالَةٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى مَرْضِيَةٌ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَقَصْدِ اتِّبَاعِ هُدَاهُ، وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهِ الَّذِي وَهَبَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ وَذَهَبَ بِنُورِهِ، وَإِذَا ذَهَبَ النُّورُ لَا يَبْقَى إِلَّا الظُّلْمَةُ، وَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي ظُلْمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ التَّقَالِيدِ الَّتِي فُتِنُوا بِهَا، وَبِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ الَّتِي أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ:
143
(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ) شَيْئًا. حَذَفَ مَفْعُولَ يُبْصِرُونَ إِيذَانًا بِالْعُمُومِ، أَيْ لَا يُبْصِرُونَ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِ الْهِدَايَةِ وَلَا يَرَوْنَ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِهَا لِأَنَّهُ صَرَفَ عِنَايَتَهُ عَنْهُمْ بِتَرْكِهِمْ سُنَّتَهُ وَإِهْمَالِهِمْ هِدَايَتَهُ وَوَكَلَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَا وَيْلَ مَنْ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ وَحَرَمَهُ تَوْفِيقَهُ، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ.
هَذَا الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِفَرِيقٍ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ جَمِيعَ أَبْوَابِ الْهِدَايَةِ فَلَا يَثِقُ بِعُقَلِهِ وَلَا بِحَوَاسِّهِ وَلَا بِوِجْدَانِهِ إِذَا خَالَفَتْ تَقَالِيدَهُ، وَعَدَمُ الْإِبْصَارِ بِذَهَابِ النُّورِ غَيْرُ كَافٍ لِتَمْثِيلِ هَذَا الْيَأْسِ وَالْحِرْمَانِ لِجَوَازِ أَنْ يَلُوحَ بَارِقٌ أَوْ يَذَرَ شَارِقٌ أَوْ يَصِيحَ طَارِقٌ، فَتَكُونَ الْهِدَايَةُ وَتَنْكَشِفَ الْغَوَايَةُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أَيْ أَنَّهُمْ فَقَدُوا مَنْفَعَةَ السَّمْعِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى النَّفْسِ مَا يُلْقِيهِ
الْمُرْشِدُونَ إِلَيْهَا مِنَ الْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ، وَالدَّلَائِلِ النَّاصِعَةِ، فَلَا يُصِيخُونَ إِلَى وَعْظِ وَاعِظٍ، وَلَا يُصْغُونَ لِتَنْبِيهِ مُنَبِّهٍ ((فَمَا أَضْيَعَ الْبُرْهَانَ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ)) بَلْ لَا يَسْمَعُونَ وَإِنْ أَصَاخُوا، وَلَا يَفْقَهُونَ وَإِنْ سَمِعُوا، فَكَأَنَّهُمْ صُمٌّ لَمْ يَسْمَعُوا وَفَقَدُوا مَنْفَعَةَ الِاسْتِرْشَادِ بِالْقَوْلِ وَطَلَبِ الْحِكْمَةِ مِنْ مَعَاهِدِهَا، فَلَا يَسْأَلُونَ بَيَانًا، وَلَا يَطْلُبُونَ بُرْهَانًا، وَفَقَدُوا خَيْرَ مَنَافِعِ الْإِبْصَارِ وَهُوَ نَظَرُ الِاسْتِفَادَةِ وَالِاعْتِبَارِ، فَلَا يَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ فَيَنْزَجِرُوا، وَلَا يُبْصِرُونَ مَا تَنْقَلِبُ بِهِ أَحْوَالُ الْأُمَمِ فَيَعْتَبِرُوا، (فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ ظُلُمَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَفَقَدَ فِيهَا جَمِيعَ حَوَاسِّهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتًا يَهْتَدِي بِهِ، وَلَا أَنْ يَصِيحَ هُوَ لِيُنْقِذَهُ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَلَا أَنْ يَرَى بَارِقًا يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ، فَهُوَ لَا يَرْجِعُ مِنْ تِيهِهِ بَلْ يَظَلُّ يَعُمُّهُ فِي الظُّلُمَاتِ حَتَّى يَفْتَرِسَهُ سَبُعٌ ضَارٍ، أَوْ يَصِلَ إِلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَيَنْهَارَ بِهِ فِي شَرِّ قَرَارِهِ (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
هَذَا الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِفَرِيقٍ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ جَمِيعَ أَبْوَابِ الْهِدَايَةِ فَلَا يَثِقُ بِعُقَلِهِ وَلَا بِحَوَاسِّهِ وَلَا بِوِجْدَانِهِ إِذَا خَالَفَتْ تَقَالِيدَهُ، وَعَدَمُ الْإِبْصَارِ بِذَهَابِ النُّورِ غَيْرُ كَافٍ لِتَمْثِيلِ هَذَا الْيَأْسِ وَالْحِرْمَانِ لِجَوَازِ أَنْ يَلُوحَ بَارِقٌ أَوْ يَذَرَ شَارِقٌ أَوْ يَصِيحَ طَارِقٌ، فَتَكُونَ الْهِدَايَةُ وَتَنْكَشِفَ الْغَوَايَةُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أَيْ أَنَّهُمْ فَقَدُوا مَنْفَعَةَ السَّمْعِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى النَّفْسِ مَا يُلْقِيهِ
الْمُرْشِدُونَ إِلَيْهَا مِنَ الْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ، وَالدَّلَائِلِ النَّاصِعَةِ، فَلَا يُصِيخُونَ إِلَى وَعْظِ وَاعِظٍ، وَلَا يُصْغُونَ لِتَنْبِيهِ مُنَبِّهٍ ((فَمَا أَضْيَعَ الْبُرْهَانَ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ)) بَلْ لَا يَسْمَعُونَ وَإِنْ أَصَاخُوا، وَلَا يَفْقَهُونَ وَإِنْ سَمِعُوا، فَكَأَنَّهُمْ صُمٌّ لَمْ يَسْمَعُوا وَفَقَدُوا مَنْفَعَةَ الِاسْتِرْشَادِ بِالْقَوْلِ وَطَلَبِ الْحِكْمَةِ مِنْ مَعَاهِدِهَا، فَلَا يَسْأَلُونَ بَيَانًا، وَلَا يَطْلُبُونَ بُرْهَانًا، وَفَقَدُوا خَيْرَ مَنَافِعِ الْإِبْصَارِ وَهُوَ نَظَرُ الِاسْتِفَادَةِ وَالِاعْتِبَارِ، فَلَا يَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ فَيَنْزَجِرُوا، وَلَا يُبْصِرُونَ مَا تَنْقَلِبُ بِهِ أَحْوَالُ الْأُمَمِ فَيَعْتَبِرُوا، (فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ ظُلُمَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَفَقَدَ فِيهَا جَمِيعَ حَوَاسِّهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتًا يَهْتَدِي بِهِ، وَلَا أَنْ يَصِيحَ هُوَ لِيُنْقِذَهُ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَلَا أَنْ يَرَى بَارِقًا يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ، فَهُوَ لَا يَرْجِعُ مِنْ تِيهِهِ بَلْ يَظَلُّ يَعُمُّهُ فِي الظُّلُمَاتِ حَتَّى يَفْتَرِسَهُ سَبُعٌ ضَارٍ، أَوْ يَصِلَ إِلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَيَنْهَارَ بِهِ فِي شَرِّ قَرَارِهِ (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
144
هَذَا هُوَ مَثَلُ الْفَرِيقِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ، الَّذِي كَانَ أَفْرَادُهُ وَلَا يَزَالُونَ فِتْنَةً لِلْبَشَرِ، وَمَرَضًا فِي الْأُمَمِ وَحُجَّةً عَلَى الدِّينِ، لِأَنَّهُمْ بِغُرُورِهِمْ بِتَقَالِيدِهِمُ الَّتِي اكْتَفَوْا بِهَا مِنْ دِينِهِمُ الْمَوْرُوثِ، يَعْبَثُونَ بِعُقُولِهِمْ، وَيَلْهُونَ بِخَيَالَاتِهِمْ، وَيَجْنُونَ عَلَى مَشَاعِرِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ فَيُضَعِّفُونَهَا، وَيُصَارِعُونَ الْفِطْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ فَيَصْرَعُونَهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ كَالْجَمَادَاتِ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، وَيَأْلَفُ الْبَعْضُ الْآخَرُ الظُّلْمَةَ بِطُولِ التَّقْلِيدِ، وَيَكُونُ أَفْرَادُهُ فِي نُورِ الْبُرْهَانِ كَالْخَفَافِيشِ فِي نُورِ الشَّمْسِ وَلَكِنَّهُمْ أَمْثَلُ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَوَّلُ؛
لِأَنَّ فِيهِمْ بَقِيَّةً مِنَ الرَّجَاءِ وَرَمَقًا مِنَ الْحَيَاةِ، يُوَجِّهُهُمْ إِلَى الِاقْتِبَاسِ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ كُلَّمَا أَضَاءَتْ لَهُمْ بُرُوقُهَا، وَالْمَشْيِ فِي الْجَادَّةِ كُلَّمَا اسْتَبَانُوا طَرِيقَهَا، وَلَكِنْ تَحُولُ دُونَ ذَلِكَ ظُلُمَاتُ التَّقَالِيدِ الْعَارِضَةُ، وَتَقِفُ فِي السَّبِيلِ عَقَبَاتُ الْبِدَعِ الْمُعَارِضَةُ، وَقَدْ يُعِدُّهُمْ لِاسْتِمَاعِ قَوَارِعِ الْآيَاتِ الَّتِي تُنْذِرُهُمْ بِمَا حَرَّفُوا، وَصَوَادِعِ الْحُجَجِ الَّتِي تُبَيِّنُ لَهُمْ كَيْفَ انْحَرَفُوا، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْهَا إِلَّا أَنَّهَا تُزْعِجُهُمْ إِلَى تَرْكِ مَا صَنَّفُوا وَأَلَّفُوا، وَهَجْرِ مَا أَحَبُّوا وَأَلِفُوا، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِسُنَّةِ الْآبَاءِ، وَقِلَّةِ الِاحْتِفَالِ بِعَظَمَةِ الرُّؤَسَاءِ، فَهُمْ يَتَرَاوَحُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَحُودِ وَأَهْلِ الْيَقِينِ (لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ)، وَلَا يَنْقَطِعُ مِنْهُمُ الْأَمَلُ، حَتَّى يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَجَلُ.
أَلَا تَرَاهُمْ عِنْدَمَا يَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَ سِيرَتِهِمْ، وَالْتِوَاءَ طَرِيقَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي النَّعْيِ عَلَى أَمْثَالِهِمْ، وَحِكَايَةِ مَا لَمْ يَرْضَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (٤٣: ٢٢) إِلَخْ: وَقَوْلِهِ فِي بَيَانِ نَدَمِهِمْ عَلَى التَّقْلِيدِ، عِنْدَمَا يَحُلُّ بِهِمُ الْوَعِيدُ: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ) (٣٣: ٦٧) يَأْخُذُهُمُ الزِّلْزَالُ، وَيَتَوَلَّاهُمُ الِاضْطِرَابُ وَالْقَلَقُ، وَتَنْشَقُّ لَهُمُ الظُّلْمَةُ عَنْ فَلَقٍ، وَيَلْمَعُ فِي نُفُوسِهِمْ نُورُ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ فَيَمْشُونَ فِيهِ خُطُوَاتٍ، ثُمَّ تُحِيطُ بِهِمُ الظُّلُمَاتُ وَيَنْقَطِعُ بِهِمُ الطَّرِيقُ كَمَا أَلْمَعْنَا آنِفًا، وَأَسْبَابُ غَلَبَةِ الظُّلُمَاتِ عَلَى النُّورِ: هِيَ مُوَافَقَةُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَالْإِخْلَادُ إِلَى الْهَوَى، وَتَفْضِيلُ عَرَضِ هَذَا الْأَدْنَى، وَانْتِظَارُ الْمَغْفِرَةِ وَلَوْ بِمَا تَأَوَّلُوهُ فِي مَعْنَى الشَّفَاعَةِ، وَتَمَنِّي الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ بِضَاعَةٍ (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) (٧: ١٦٩) بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مَدْرُوسٌ بِجَدَلِيَّاتِ النَّحْوِ وَالْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ دَارِسُ الصُّوَى وَالْأَعْلَامِ الْمَنْصُوبَةِ لِهِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَحْلَامِ، وَمَقْرُوءٌ بِالتَّجْوِيدِ وَالْأَنْغَامِ، وَلَكِنَّهُ مَتْرُوكُ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ، يَقْرَءُونَهُ لِكَسْبِ الْحُطَامِ لَا لِمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَلَا يَتْلُونَهُ لِإِصْلَاحِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَغْذِيَةِ الْإِيمَانِ، وَيَكْتُبُونَهُ لِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ مِنَ الْأَسْقَامِ
لِأَنَّ فِيهِمْ بَقِيَّةً مِنَ الرَّجَاءِ وَرَمَقًا مِنَ الْحَيَاةِ، يُوَجِّهُهُمْ إِلَى الِاقْتِبَاسِ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ كُلَّمَا أَضَاءَتْ لَهُمْ بُرُوقُهَا، وَالْمَشْيِ فِي الْجَادَّةِ كُلَّمَا اسْتَبَانُوا طَرِيقَهَا، وَلَكِنْ تَحُولُ دُونَ ذَلِكَ ظُلُمَاتُ التَّقَالِيدِ الْعَارِضَةُ، وَتَقِفُ فِي السَّبِيلِ عَقَبَاتُ الْبِدَعِ الْمُعَارِضَةُ، وَقَدْ يُعِدُّهُمْ لِاسْتِمَاعِ قَوَارِعِ الْآيَاتِ الَّتِي تُنْذِرُهُمْ بِمَا حَرَّفُوا، وَصَوَادِعِ الْحُجَجِ الَّتِي تُبَيِّنُ لَهُمْ كَيْفَ انْحَرَفُوا، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْهَا إِلَّا أَنَّهَا تُزْعِجُهُمْ إِلَى تَرْكِ مَا صَنَّفُوا وَأَلَّفُوا، وَهَجْرِ مَا أَحَبُّوا وَأَلِفُوا، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِسُنَّةِ الْآبَاءِ، وَقِلَّةِ الِاحْتِفَالِ بِعَظَمَةِ الرُّؤَسَاءِ، فَهُمْ يَتَرَاوَحُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَحُودِ وَأَهْلِ الْيَقِينِ (لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ)، وَلَا يَنْقَطِعُ مِنْهُمُ الْأَمَلُ، حَتَّى يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَجَلُ.
أَلَا تَرَاهُمْ عِنْدَمَا يَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَ سِيرَتِهِمْ، وَالْتِوَاءَ طَرِيقَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي النَّعْيِ عَلَى أَمْثَالِهِمْ، وَحِكَايَةِ مَا لَمْ يَرْضَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (٤٣: ٢٢) إِلَخْ: وَقَوْلِهِ فِي بَيَانِ نَدَمِهِمْ عَلَى التَّقْلِيدِ، عِنْدَمَا يَحُلُّ بِهِمُ الْوَعِيدُ: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ) (٣٣: ٦٧) يَأْخُذُهُمُ الزِّلْزَالُ، وَيَتَوَلَّاهُمُ الِاضْطِرَابُ وَالْقَلَقُ، وَتَنْشَقُّ لَهُمُ الظُّلْمَةُ عَنْ فَلَقٍ، وَيَلْمَعُ فِي نُفُوسِهِمْ نُورُ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ فَيَمْشُونَ فِيهِ خُطُوَاتٍ، ثُمَّ تُحِيطُ بِهِمُ الظُّلُمَاتُ وَيَنْقَطِعُ بِهِمُ الطَّرِيقُ كَمَا أَلْمَعْنَا آنِفًا، وَأَسْبَابُ غَلَبَةِ الظُّلُمَاتِ عَلَى النُّورِ: هِيَ مُوَافَقَةُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَالْإِخْلَادُ إِلَى الْهَوَى، وَتَفْضِيلُ عَرَضِ هَذَا الْأَدْنَى، وَانْتِظَارُ الْمَغْفِرَةِ وَلَوْ بِمَا تَأَوَّلُوهُ فِي مَعْنَى الشَّفَاعَةِ، وَتَمَنِّي الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ بِضَاعَةٍ (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) (٧: ١٦٩) بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مَدْرُوسٌ بِجَدَلِيَّاتِ النَّحْوِ وَالْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ دَارِسُ الصُّوَى وَالْأَعْلَامِ الْمَنْصُوبَةِ لِهِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَحْلَامِ، وَمَقْرُوءٌ بِالتَّجْوِيدِ وَالْأَنْغَامِ، وَلَكِنَّهُ مَتْرُوكُ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ، يَقْرَءُونَهُ لِكَسْبِ الْحُطَامِ لَا لِمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَلَا يَتْلُونَهُ لِإِصْلَاحِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَغْذِيَةِ الْإِيمَانِ، وَيَكْتُبُونَهُ لِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ مِنَ الْأَسْقَامِ
145
لَا لِشِفَاءِ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الْأَوْهَامِ وَالْآثَامِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَنْصَارٌ يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَهُدَاةٌ يَعْتَصِمُونَ بِهِ وَيُعَوِّلُونَ عَلَيْهِ، لَتَبَدَّدَتِ الظُّلُمَاتُ أَمَامَ الْأَنْوَارِ، وَمَحَتْ آيَةَ اللَّيْلِ آيَةُ النَّهَارِ.
تِلْكَ الْإِرْشَادَاتُ الْإِلَهِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَطَرِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَالزِّلْزَالُ وَالِاضْطِرَابُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّعْدِ، وَاسْتِبَانَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَلْمَعُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ كَالْبَرْقِ، وَالْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْخَوْفِ مِنْ ذَمِّ الْجَمَاهِيرِ عِنْدَ الْعَمَلِ بِمَا يُخَالِفُهُمْ كَالظُّلُمَاتِ الَّتِي تَصُدُّ عَنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ بَلْ تُعَمِّيهِ عَلَى طَالِبِهِ وَتَحْجُبُهُ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي تَمْثِيلِ حَالِ هَذَا الْفَرِيقِ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ قَوْمٍ نَزَلَ بِهِمْ صَيِّبٌ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّيِّبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَمْلِكُونَ دَفْعَهُ وَلَيْسَ مِلَاكُهُ فِي أَيْدِيهِمْ، وَمِنَ الْمَعْهُودِ عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ التَّعْبِيرُ عَمَّا يُلِمُّ بِالنَّاسِ مِمَّا لَا دَافِعَ لَهُ بِأَنَّهُ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. وَلَا جَرَمَ أَنَّ تِلْكَ السَّوَانِحَ الَّتِي تَسْنَحُ فِي الْأَفْكَارِ، وَالْإِلْهَامَاتِ الْإِلَهِيَّةَ لِأَصْحَابِ الْفِطْرَةِ الذَّكِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْ أَثَرِهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمَثَلُ وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، هِيَ أَمْرٌ وَهَبِيٌّ وَاقِعٌ مَالَهُ مِنْ دَافِعٍ.
قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الصَّيِّبِ: (فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) الظُّلُمَاتُ: هِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ السُّحُبِ وَظُلْمَةُ الصَّيِّبِ نَفْسِهِ، وَالرَّعْدُ: هُوَ الصَّوْتُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُسْمَعُ فِي السَّحَابِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ أَحْيَانًا، وَالْبَرْقُ: هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي يَلْمَعُ فِي السَّحَابِ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يَلْمَعُ مِنَ الْأُفُقِ حَيْثُ لَا سَحَابَ، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ: إِنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ أَوْ صَوْتُهُ، وَالْبَرْقَ سَوْطُهُ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ، كَأَنَّ الْمَلَكَ جِسْمٌ مَادِّيٌّ؛ لِأَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ بِالْآذَانِ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ، وَكَأَنَّ السَّحَابَ حِمَارٌ بَلِيدٌ لَا يَسِيرُ إِلَّا إِذَا زُجِرَ بِالصُّرَاخِ الشَّدِيدِ وَالضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَفْهَمُهُ الْعَرَبُ مِنَ اللَّفْظَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْأَلْفَاظِ عَنْ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا صُرِفَتْ عَنْ مَعَانٍ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْوَاضِعُونَ وَالْمُتَكَلِّمُونَ إِلَى مَعَانٍ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى وَمَنْ أَعْلَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهَا بِالْوَحْيِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ وَلِعُوا بِحَشْوِ تَفَاسِيرِهِمْ بِالْمَوْضُوعَاتِ الَّتِي نَصَّ الْمُحَدِّثُونَ عَلَى كَذِبِهَا، كَمَا وَلِعُوا بِحَشْوِهَا بِالْقِصَصِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي تَلَقَّفُوهَا مِنْ أَفْوَاهِ الْيَهُودِ وَأَلْصَقُوهَا بِالْقُرْآنِ لِتَكُونَ بَيَانًا لَهُ وَتَفْسِيرًا، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْوَحْيِ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلْحَاقُ شَيْءٍ بِالْوَحْيِ غَيْرَ مَا تَدُلُّ
عَلَيْهِ أَلْفَاظُهُ وَأَسَالِيبُهُ، إِلَّا مَا ثَبَتَ بِالْوَحْيِ عَنِ الْمَعْصُومِ الَّذِي جَاءَ بِهِ ثُبُوتًا لَا يُخَالِطُهُ الرَّيْبُ.
أَقُولُ: هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ فِي الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ رَدًّا عَلَى الْجَلَالِ فِيمَا تَبِعَ فِيهِ مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَلَا يَصَحُّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمْثِلَةُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ سُؤَالِ الْيَهُودِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ رَأَيْنَا السُّيُوطِيَّ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ هَذِهِ
تِلْكَ الْإِرْشَادَاتُ الْإِلَهِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَطَرِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَالزِّلْزَالُ وَالِاضْطِرَابُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّعْدِ، وَاسْتِبَانَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَلْمَعُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ كَالْبَرْقِ، وَالْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْخَوْفِ مِنْ ذَمِّ الْجَمَاهِيرِ عِنْدَ الْعَمَلِ بِمَا يُخَالِفُهُمْ كَالظُّلُمَاتِ الَّتِي تَصُدُّ عَنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ بَلْ تُعَمِّيهِ عَلَى طَالِبِهِ وَتَحْجُبُهُ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي تَمْثِيلِ حَالِ هَذَا الْفَرِيقِ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ قَوْمٍ نَزَلَ بِهِمْ صَيِّبٌ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّيِّبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَمْلِكُونَ دَفْعَهُ وَلَيْسَ مِلَاكُهُ فِي أَيْدِيهِمْ، وَمِنَ الْمَعْهُودِ عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ التَّعْبِيرُ عَمَّا يُلِمُّ بِالنَّاسِ مِمَّا لَا دَافِعَ لَهُ بِأَنَّهُ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. وَلَا جَرَمَ أَنَّ تِلْكَ السَّوَانِحَ الَّتِي تَسْنَحُ فِي الْأَفْكَارِ، وَالْإِلْهَامَاتِ الْإِلَهِيَّةَ لِأَصْحَابِ الْفِطْرَةِ الذَّكِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْ أَثَرِهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمَثَلُ وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، هِيَ أَمْرٌ وَهَبِيٌّ وَاقِعٌ مَالَهُ مِنْ دَافِعٍ.
قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الصَّيِّبِ: (فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) الظُّلُمَاتُ: هِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ السُّحُبِ وَظُلْمَةُ الصَّيِّبِ نَفْسِهِ، وَالرَّعْدُ: هُوَ الصَّوْتُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُسْمَعُ فِي السَّحَابِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ أَحْيَانًا، وَالْبَرْقُ: هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي يَلْمَعُ فِي السَّحَابِ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يَلْمَعُ مِنَ الْأُفُقِ حَيْثُ لَا سَحَابَ، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ: إِنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ أَوْ صَوْتُهُ، وَالْبَرْقَ سَوْطُهُ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ، كَأَنَّ الْمَلَكَ جِسْمٌ مَادِّيٌّ؛ لِأَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ بِالْآذَانِ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ، وَكَأَنَّ السَّحَابَ حِمَارٌ بَلِيدٌ لَا يَسِيرُ إِلَّا إِذَا زُجِرَ بِالصُّرَاخِ الشَّدِيدِ وَالضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَفْهَمُهُ الْعَرَبُ مِنَ اللَّفْظَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْأَلْفَاظِ عَنْ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا صُرِفَتْ عَنْ مَعَانٍ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْوَاضِعُونَ وَالْمُتَكَلِّمُونَ إِلَى مَعَانٍ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى وَمَنْ أَعْلَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهَا بِالْوَحْيِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ وَلِعُوا بِحَشْوِ تَفَاسِيرِهِمْ بِالْمَوْضُوعَاتِ الَّتِي نَصَّ الْمُحَدِّثُونَ عَلَى كَذِبِهَا، كَمَا وَلِعُوا بِحَشْوِهَا بِالْقِصَصِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي تَلَقَّفُوهَا مِنْ أَفْوَاهِ الْيَهُودِ وَأَلْصَقُوهَا بِالْقُرْآنِ لِتَكُونَ بَيَانًا لَهُ وَتَفْسِيرًا، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْوَحْيِ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلْحَاقُ شَيْءٍ بِالْوَحْيِ غَيْرَ مَا تَدُلُّ
عَلَيْهِ أَلْفَاظُهُ وَأَسَالِيبُهُ، إِلَّا مَا ثَبَتَ بِالْوَحْيِ عَنِ الْمَعْصُومِ الَّذِي جَاءَ بِهِ ثُبُوتًا لَا يُخَالِطُهُ الرَّيْبُ.
أَقُولُ: هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ فِي الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ رَدًّا عَلَى الْجَلَالِ فِيمَا تَبِعَ فِيهِ مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَلَا يَصَحُّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمْثِلَةُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ سُؤَالِ الْيَهُودِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ رَأَيْنَا السُّيُوطِيَّ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ هَذِهِ
146
الرِّوَايَاتِ شَيْئًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِهِ (الدُّرُّ الْمَنْثُورُ) الْمُخَصَّصُ لِنَقْلِ الْمَأْثُورِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَكَأَنَّ هَذَا عَدَّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ فِيهِ، وَفَسَّرَهُمَا الْبَغَوِيُّ بِمَفْهُومِهِمَا اللُّغَوِيِّ، فَقَالَ فِي الرَّعْدِ: هُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ وَفِي الْبَرْقِ: هُوَ النَّارُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الرَّعْدُ اسْمُ مَلَكٍ يَسُوقُ السَّحَابَ. وَالْبَرْقُ: لَمَعَانُ سَوْطٍ مِنْ نُورٍ يَزْجُرُ بِهِ الْمَلَكُ السَّحَابَ.
وَقِيلَ: الصَّوْتُ زُجْرُ السَّحَابِ، وَقِيلَ: تَسْبِيحُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: الرَّعْدُ نُطْقُ الْمَلِكِ وَالْبَرْقُ ضَحِكُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّعْدُ اسْمُ الْمَلَكِ وَيُقَالُ لِصَوْتِهِ أَيْضًا رَعْدٌ، وَالْبَرْقُ اسْمُ مَلَكٍ يَسُوقُ السَّحَابَ، وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: الرَّعْدُ مَلَكٌ يُزْجِي السُّحُبَ فَإِذَا تَبَدَّدَتْ ضَمَّهَا، فَإِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ طَارَتْ مِنْ فِيهِ النَّارُ فَهِيَ الصَّوَاعِقُ، وَقِيلَ: الرَّعْدُ انْخِرَاقُ الرِّيحِ بَيْنَ السَّحَابِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. اهـ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ؛ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ عِنْدَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِيمَا يَظْهَرُ.
أَقُولُ: وَلَا شَكَّ عِنْدِي فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا مِمَّا كَانَ يُذِيعُهُ مِثْلُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، وَلَوْ صَحَّ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ بِسَمَاعٍ صَحِيحٍ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَمَا وَقَعَ فِيهِ مِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ، وَلَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَالْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَظَاهِرَ الْكَوْنِيَّةَ تَقَعُ بِفِعْلِ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِالسَّحَابِ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ شَيْءٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُمْ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ إِلَّا إِذَا تَمَثَّلُوا لِنَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ أَوِ الْإِرْهَاصِ، كَتَمَثُّلِ الرُّوحِ لِلسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ -، وَرُؤْيَةِ الصَّحَابَةِ لِجِبْرِيلَ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصُورَةِ رَجُلٍ يَسْأَلُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْبَرْقُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ لَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ.
وَقَوْلُ الْبَغَوِيِّ: وَقِيلَ: الرَّعْدُ انْخِرَاقُ الرِّيحِ بَيْنَ السَّحَابِ، يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ
فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ الَّذِي اغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالرَّعْدُ صَوْتٌ يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ سَبَبَهُ اضْطِرَابُ أَجْرَامِ السَّحَابِ وَاصْطِكَاكُهَا إِذَا حَدَتْهَا الرِّيحُ مِنَ الِارْتِعَادِ. اهـ.
وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَالسَّحَابُ: بُخَارٌ لَا يُحْدِثُ اضْطِرَابُهُ صَوْتًا.
وَقَالَ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الصَّيِّبِ: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) الصَّاعِقَةُ هِيَ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَيَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ، وَهِيَ مَا يَنْزِلُ فِي أَثْنَاءِ الْمَطَرِ وَالْبَرْقِ وَالرَّعْدِ فَيَصْعَقُ مَا يَنْزِلُ بِهِ، بِأَنْ يَهْلِكَ أَوْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ، وَمَا تَفْسِيرُنَا لِلْبَرْقِ وَالرَّعْدِ وَالصَّاعِقَةِ مَعَ كَوْنِهَا مَعْرُوفَةً لِكُلِّ النَّاسِ إِلَّا لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ صَرَفُوا أَفْهَامَهُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ (أَرِسْطُو) حَكِيمِ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ أَنَّ تَلَامِيذَهُ سَأَلُوهُ عَنْ تَعْرِيفِ الْحَرَكَةِ، فَقَامَ وَمَشَى، وَمَا أَنْطَقَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا عَلَى بَدَاهَتِهَا إِلَّا أَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَسْمَعُوا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ أَقْوَالًا فِي الْأُمُورِ الْجَلِيَّةِ تَجْعَلُهَا غَامِضَةً خَفِيَّةً.
وَقِيلَ: الصَّوْتُ زُجْرُ السَّحَابِ، وَقِيلَ: تَسْبِيحُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: الرَّعْدُ نُطْقُ الْمَلِكِ وَالْبَرْقُ ضَحِكُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّعْدُ اسْمُ الْمَلَكِ وَيُقَالُ لِصَوْتِهِ أَيْضًا رَعْدٌ، وَالْبَرْقُ اسْمُ مَلَكٍ يَسُوقُ السَّحَابَ، وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: الرَّعْدُ مَلَكٌ يُزْجِي السُّحُبَ فَإِذَا تَبَدَّدَتْ ضَمَّهَا، فَإِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ طَارَتْ مِنْ فِيهِ النَّارُ فَهِيَ الصَّوَاعِقُ، وَقِيلَ: الرَّعْدُ انْخِرَاقُ الرِّيحِ بَيْنَ السَّحَابِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. اهـ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ؛ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ عِنْدَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِيمَا يَظْهَرُ.
أَقُولُ: وَلَا شَكَّ عِنْدِي فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا مِمَّا كَانَ يُذِيعُهُ مِثْلُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، وَلَوْ صَحَّ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ بِسَمَاعٍ صَحِيحٍ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَمَا وَقَعَ فِيهِ مِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ، وَلَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَالْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَظَاهِرَ الْكَوْنِيَّةَ تَقَعُ بِفِعْلِ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِالسَّحَابِ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ شَيْءٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُمْ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ إِلَّا إِذَا تَمَثَّلُوا لِنَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ أَوِ الْإِرْهَاصِ، كَتَمَثُّلِ الرُّوحِ لِلسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ -، وَرُؤْيَةِ الصَّحَابَةِ لِجِبْرِيلَ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصُورَةِ رَجُلٍ يَسْأَلُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْبَرْقُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ لَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ.
وَقَوْلُ الْبَغَوِيِّ: وَقِيلَ: الرَّعْدُ انْخِرَاقُ الرِّيحِ بَيْنَ السَّحَابِ، يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ
فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ الَّذِي اغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالرَّعْدُ صَوْتٌ يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ سَبَبَهُ اضْطِرَابُ أَجْرَامِ السَّحَابِ وَاصْطِكَاكُهَا إِذَا حَدَتْهَا الرِّيحُ مِنَ الِارْتِعَادِ. اهـ.
وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَالسَّحَابُ: بُخَارٌ لَا يُحْدِثُ اضْطِرَابُهُ صَوْتًا.
وَقَالَ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الصَّيِّبِ: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) الصَّاعِقَةُ هِيَ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَيَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ، وَهِيَ مَا يَنْزِلُ فِي أَثْنَاءِ الْمَطَرِ وَالْبَرْقِ وَالرَّعْدِ فَيَصْعَقُ مَا يَنْزِلُ بِهِ، بِأَنْ يَهْلِكَ أَوْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ، وَمَا تَفْسِيرُنَا لِلْبَرْقِ وَالرَّعْدِ وَالصَّاعِقَةِ مَعَ كَوْنِهَا مَعْرُوفَةً لِكُلِّ النَّاسِ إِلَّا لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ صَرَفُوا أَفْهَامَهُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ (أَرِسْطُو) حَكِيمِ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ أَنَّ تَلَامِيذَهُ سَأَلُوهُ عَنْ تَعْرِيفِ الْحَرَكَةِ، فَقَامَ وَمَشَى، وَمَا أَنْطَقَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا عَلَى بَدَاهَتِهَا إِلَّا أَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَسْمَعُوا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ أَقْوَالًا فِي الْأُمُورِ الْجَلِيَّةِ تَجْعَلُهَا غَامِضَةً خَفِيَّةً.
147
أَمَّا حَقِيقَةُ الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ وَالصَّاعِقَةِ وَأَسْبَابُ حُدُوثِهَا فَلَيْسَ مِنْ مَبَاحِثِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الطَّبِيعَةِ - أَيِ الْخَلِيقَةِ - وَحَوَادِثِ الْجَوِّ الَّتِي فِي اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ مَعْرِفَتُهَا بِاجْتِهَادِهِمْ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَحْيِ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ الظَّوَاهِرُ الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَصَرْفِ الْعَقْلِ إِلَى الْبَحْثِ الَّذِي يَقْوَى بِهِ الْفَهْمُ وَالدِّينُ، وَالْعِلْمُ بِالْكَوْنِ يَنْمَى وَيَضْعُفُ فِي النَّاسِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ. فَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَعْتَقِدُونَ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ أَنَّ الصَّوَاعِقَ تَحْدُثُ مِنْ أَجْسَامٍ مَادِّيَّةٍ، لِمَا كَانَ يَشُمُّونَهُ فِي مَحَلِّ نُزُولِهَا مِنْ رَائِحَةِ الْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ، وَرَجَعُوا عَنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ فِي زَمَنٍ آخَرَ مُلَاحِظِينَ أَنَّ تِلْكَ الرَّائِحَةَ لَا تَكُونُ دَائِمًا فِي مَحَلِّ الصَّاعِقَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ فِي الْكَوْنِ سَيَّالًا يُسَمُّونَهُ الْكَهْرَبَاءَ، مِنْ آثَارِهِ مَا تَرَوْنَ مِنَ التِّلِغْرَافِ وَالتِّلِيفُونِ وَالتُّرَامْوَايْ، وَهَذِهِ الْأَضْوَاءُ السَّاطِعَةُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ، مِنْ غَيْرِ شُمُوعٍ وَلَا زَيْتٍ وَلَا ذُبَالٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّصَالِ سِلْكَيْنِ دَقِيقَيْنِ كَالْخُيُوطِ الَّتِي تُخَاطُ بِهَا الثِّيَابُ، أَحَدُهُمَا: يَحْمِلُ أَوْ يُوَصِّلُ السَّيَّالَ الْكَهْرَبَائِيَّ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْمُوجَبَ، وَالْآخَرُ: يُوَصِّلُ السَّيَّالِ الْمُسَمَّى بِالسَّالِبِ، وَبِاتِّصَالُ السِّلْكَيْنِ يَتَوَلَّدُ النُّورُ مِنْ تَلَاقِي السَّيَّالَيْنِ، وَبِانْقِطَاعِهِمَا أَوِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا يَنْفَصِلُ السَّيَّالَانِ، فَيَنْقَطِعُ الضَّوْءُ مِنَ الْمَصَابِيحِ وَالْحَرَكَةِ مِنَ الْآلَاتِ،
وَالْكَهْرَبَائِيَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالْبَرْقُ فِي السَّحَابِ يَتَوَلَّدُ مِنَ اتِّصَالِ نَوْعَيْهَا: الْمُوجَبِ، وَالسَّالِبِ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَتَوَلَّدُ فِي الْأَرْضِ بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَقَدِ اسْتَنْزَلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ قَبَسَ الصَّاعِقَةِ مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالصَّاعِقَةُ مِنْ أَثَرِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَهِيَ تَفْرِيغُ السَّحَابِ طَائِفَةً مِنْهَا فِي مَكَانٍ لِجَاذِبٍ فِي الْأَرْضِ يَجْذِبُهُ، وَكَثِيرًا مَا حَصَلَ الصَّعْقُ لِعُمَّالِ التِّلِغْرَافِ، لِمَا بَيْنَ السَّحَابِ وَالْأَسْلَاكِ مِنَ الْجَاذِبِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ بِالسَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ لِلصَّوَاعِقِ هَدَاهُمْ إِلَى حِفْظِ الْأَبْنِيَةِ الشَّاهِقَةِ مِنْهَا بِاتِّخَاذِ الْقَضِيبِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُسَمَّى قَضِيبَ الصَّاعِقَةِ، فَلَا تَنْزِلُ الصَّوَاعِقُ عَلَى بِنَاءٍ رُفِعَ فَوْقَهُ هَذَا الْقَضِيبُ، وَلَا مَجَالَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلتَّطْوِيلِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُطْلَبُ مِنْ فُنُونِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا، فَلْنَعُدْ إِلَى بَيَانِ الْمَثَلِ.
اسْتَحْضِرْ حَالَ قَوْمٍ مُشَاةٍ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ نَزَلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا أَقْبَلَ ظَلَامُ اللَّيْلِ صَيِّبٌ مِنَ السَّمَاءِ قَصَفَتْ رُعُودُهُ، وَلَمَعَتْ بُرُوقُهُ، وَتَصَوَّرْ كَيْفَ يَهْوُونَ بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى آذَانِهِمْ كُلَّمَا حَدَثَ قَاصِفٌ مِنَ الرَّعْدِ لِيَدْفَعُوا شِدَّةَ وَقْعِهِ بِسَدِّ مَنَافِذِ السَّمْعِ بِرُءُوسِ الْأَنَامِلِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأَنَامِلِ بِالْأَصَابِعِ هَذَا التَّعْبِيرَ الْمَجَازِيَّ اللَّطِيفَ لِلْإِشْعَارِ بِشِدَّةِ عِنَايَتِهِمْ بِسَدِّ آذَانِهِمْ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي إِدْخَالِ أَنَامِلِهِمْ فِي صَمَالِيخِهَا، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحَاوِلُ بِمَا دَهَمَهُ مِنَ الْخَوْفِ أَنْ يَغْرِسَ إِصْبَعَهُ كُلَّهَا فِي أُذُنِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلصَّوْتِ مَنْفَذٌ إِلَى سَمْعِهِ، لِمَا يَحْذَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمَوْتِ الزُّؤَامِ، وَمُعَاجَلَةِ الْحِمَامِ، وَهَذَا هُوَ الْجُبْنُ الْخَالِعُ، وَمُنْتَهَى حُدُودِ الْحَمَاقَةِ؛ لِأَنَّ سَدَّ الْآذَانِ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ
وَالْكَهْرَبَائِيَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالْبَرْقُ فِي السَّحَابِ يَتَوَلَّدُ مِنَ اتِّصَالِ نَوْعَيْهَا: الْمُوجَبِ، وَالسَّالِبِ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَتَوَلَّدُ فِي الْأَرْضِ بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَقَدِ اسْتَنْزَلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ قَبَسَ الصَّاعِقَةِ مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالصَّاعِقَةُ مِنْ أَثَرِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَهِيَ تَفْرِيغُ السَّحَابِ طَائِفَةً مِنْهَا فِي مَكَانٍ لِجَاذِبٍ فِي الْأَرْضِ يَجْذِبُهُ، وَكَثِيرًا مَا حَصَلَ الصَّعْقُ لِعُمَّالِ التِّلِغْرَافِ، لِمَا بَيْنَ السَّحَابِ وَالْأَسْلَاكِ مِنَ الْجَاذِبِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ بِالسَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ لِلصَّوَاعِقِ هَدَاهُمْ إِلَى حِفْظِ الْأَبْنِيَةِ الشَّاهِقَةِ مِنْهَا بِاتِّخَاذِ الْقَضِيبِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُسَمَّى قَضِيبَ الصَّاعِقَةِ، فَلَا تَنْزِلُ الصَّوَاعِقُ عَلَى بِنَاءٍ رُفِعَ فَوْقَهُ هَذَا الْقَضِيبُ، وَلَا مَجَالَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلتَّطْوِيلِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُطْلَبُ مِنْ فُنُونِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا، فَلْنَعُدْ إِلَى بَيَانِ الْمَثَلِ.
اسْتَحْضِرْ حَالَ قَوْمٍ مُشَاةٍ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ نَزَلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا أَقْبَلَ ظَلَامُ اللَّيْلِ صَيِّبٌ مِنَ السَّمَاءِ قَصَفَتْ رُعُودُهُ، وَلَمَعَتْ بُرُوقُهُ، وَتَصَوَّرْ كَيْفَ يَهْوُونَ بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى آذَانِهِمْ كُلَّمَا حَدَثَ قَاصِفٌ مِنَ الرَّعْدِ لِيَدْفَعُوا شِدَّةَ وَقْعِهِ بِسَدِّ مَنَافِذِ السَّمْعِ بِرُءُوسِ الْأَنَامِلِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأَنَامِلِ بِالْأَصَابِعِ هَذَا التَّعْبِيرَ الْمَجَازِيَّ اللَّطِيفَ لِلْإِشْعَارِ بِشِدَّةِ عِنَايَتِهِمْ بِسَدِّ آذَانِهِمْ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي إِدْخَالِ أَنَامِلِهِمْ فِي صَمَالِيخِهَا، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحَاوِلُ بِمَا دَهَمَهُ مِنَ الْخَوْفِ أَنْ يَغْرِسَ إِصْبَعَهُ كُلَّهَا فِي أُذُنِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلصَّوْتِ مَنْفَذٌ إِلَى سَمْعِهِ، لِمَا يَحْذَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمَوْتِ الزُّؤَامِ، وَمُعَاجَلَةِ الْحِمَامِ، وَهَذَا هُوَ الْجُبْنُ الْخَالِعُ، وَمُنْتَهَى حُدُودِ الْحَمَاقَةِ؛ لِأَنَّ سَدَّ الْآذَانِ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ
148
مِنْ أَخْذِ الصَّاعِقَةِ وَنُزُولِ الْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ: فَقْدُ الْحَيَاةِ بِمُفَارَقَةِ الرَّوْحِ لِلْبَدَنِ، وَخَلْقُ اللهِ لَهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْدِيرِهِ، أَوْ عَنْ قَبْضِهِ لِلرُّوحِ وَتَوَفِّيهِ لِلنَّفْسِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) يُرْشِدُنَا فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ الْمَثَلِ وَتَقْرِيرِهِ إِلَى حَالِ مَنْ ضُرِبَ فِيهِمُ الْمَثَلُ لِئَلَّا يُذْهِلَنَا مَا نَتَصَوَّرُهُ مَنْ حَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ عَنْ حَالِ الْمُشَبَّهِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ، وَهُوَ أَنَّ التَّصَامُمَ وَالْهُرُوبَ مِنْ سَمَاعِ آيَاتِ الْحَقِّ، وَالْحَذَرَ مِنْ صَوَاعِقِ بَرَاهِينِهِ السَّاطِعَةِ أَنْ تَذْهَبَ بِتَقَالِيدِهِمُ الَّتِي يَرَوْنَ حَيَاتَهُمُ الْمَلِيَّةَ مُرْتَبِطَةً بِهَا لَا يُفِيدُهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُحِيطٌ بِهِمْ، وَمُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَعَالَمٌ بِمَا فِي
ضَمَائِرِهِمْ، وَقَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا، وَفِي أَيِّ طَرِيقٍ سَلَكُوا، فَلَا يَهْرُبُونَ مِنْ بُرْهَانٍ إِلَّا وَيُفَاجِئُهُمْ بِرِهَانٌ آخَرُ، كَالْغَرِيقِ يَدْفَعُهُ مَوْجٌ وَيَتَلَقَّاهُ مَوْجٌ حَتَّى يَقْذِفَ بِهِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ، أَوْ يَدْفَعُهُ إِلَى هَاوِيَةِ الْعَدَمِ، وَلِهَذَا قَالَ: (مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) وَلَمْ يَقُلْ: مُحِيطٌ بِهِمْ، أَقُولُ: فَوَضْعُ الِاسْمِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا كَذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ يَرِدُ فِي أَمْثَالِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْإِحَاطَةِ هُنَا إِحَاطَةُ الْقُدْرَةِ. فَمَنْ لَمْ يُمِتْهُ بِأَخْذِ الصَّاعِقَةِ أَمَاتَهُ بِغَيْرِهَا، تَنَوَّعَتِ الْأَسْبَابُ وَالْمَوْتُ وَاحِدٌ. وَالْمُحِيطُ بِالشَّيْءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفُوتَهُ وَيَنْفَلِتَ مِنْ قَبْضَتِهِ.
(يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) إِذَا لَمَعَ الْبَرْقُ بِشِدَّةٍ مُفَاجِئًا مَنْ هُوَ فِي ظُلْمَةٍ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي بَصَرِهِ تَأْثِيرًا يَكَادُ يَخْطَفُهُ، وَالْخَطْفُ: هُوَ الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ جُزْءًا مِنَ الطَّرِيقِ فَيَمْشِي فِيهِ خُطُوَاتٍ ثُمَّ يَعْتَكِرُ عَلَيْهِ الظَّلَامُ وَتَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ الْمَخَاوِفُ وَالْأَوْهَامُ فَيَقِفُ فِي مَكَانِهِ، أَوْ يَعُودُ الْبَرْقُ إِلَى لَمَعَانِهِ، وَيُحَاكِي هَذَا مِنْ حَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِمْ أَنَّهُ عِنْدَ مَا يَدْعُوهُمُ الدَّاعِي إِلَى أَصْلِ الدِّينِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ سَبَبَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ الْمُبِينِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةَ، وَيُقِيمُ لَهُمُ الْحُجَجَ الْقَيِّمَةَ عَلَى أَنَّهُمْ تَنْكَبُّوا الصِّرَاطَ السَّوِيَّ وَأُصِيبُوا بِالدَّاءِ الدَّوِيِّ، يَظْهَرُ لَهُمُ الْحَقُّ فَيَعْزِمُونَ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَتَسِيرُ أَفْكَارُهُمْ فِي نُورِهِ بَعْضَ خُطُوَاتٍ، وَلَكِنْ لَا يَعْتِمُونَ أَنْ تَعَوُدَ إِلَيْهِمْ عَتَمَةُ التَّقْلِيدِ وَظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ، وَغُبْسَةُ الْأَهْوَاءِ وَالشُّبَهَاتِ. فَتُقَيِّدُ الْفِكْرَ وَإِنْ لَمْ تُقِفْ سَيْرَهُ وَإِنَّمَا تَعُودُ بِهِ إِلَى الْحَيْرَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ ثُمَّ يَتَكَرَّرُ النَّظَرُ فِي تَضَاعِيفِهَا بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ وَالْإِلْمَامِ. وَفِيهِ: أَنَّهُمْ عَلَى سُوءِ الْحَالِ وَخَطَرِ الْمَآلِ لَمْ تَنْقَطِعْ مِنْهُمُ الْآمَالُ، كَمَا انْقَطَعَتْ مِنْ أَصْحَابِ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) حَتَّى لَا يَنْجَعَ فِيهِمْ وَعْظُ وَاعِظٍ، وَلَا تُفِيدَهُمْ هِدَايَةُ هَادٍ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ ذَهَبَ بِنُورِهِمْ كَمَا ذَهَبَ بِنُورِ أُولَئِكَ وَسَلَبَهُمْ كُلَّ أَنْوَاعِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ فَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ) إِلَخْ رُجُوعٌ إِلَى بَيَانِ حَالِ مَنْ ضُرِبَ فِيهِمُ الْمَثَلُ لَا مِنْ تَتِمَّةِ الْمَثَلِ، وَقَدْ
كَنَّى عَنْهُمْ بِالضَّمِيرِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَثَلَ قَدْ تَمَّ بَعْدَ مَا ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) بِالْوَصْفِ الَّذِي اقْتَضَى التَّمْثِيلَ، هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُنَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ تَتِمَّةً لِلْمَثَلِ نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ مَنْ ضُرِبَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) يُرْشِدُنَا فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ الْمَثَلِ وَتَقْرِيرِهِ إِلَى حَالِ مَنْ ضُرِبَ فِيهِمُ الْمَثَلُ لِئَلَّا يُذْهِلَنَا مَا نَتَصَوَّرُهُ مَنْ حَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ عَنْ حَالِ الْمُشَبَّهِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ، وَهُوَ أَنَّ التَّصَامُمَ وَالْهُرُوبَ مِنْ سَمَاعِ آيَاتِ الْحَقِّ، وَالْحَذَرَ مِنْ صَوَاعِقِ بَرَاهِينِهِ السَّاطِعَةِ أَنْ تَذْهَبَ بِتَقَالِيدِهِمُ الَّتِي يَرَوْنَ حَيَاتَهُمُ الْمَلِيَّةَ مُرْتَبِطَةً بِهَا لَا يُفِيدُهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُحِيطٌ بِهِمْ، وَمُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَعَالَمٌ بِمَا فِي
ضَمَائِرِهِمْ، وَقَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا، وَفِي أَيِّ طَرِيقٍ سَلَكُوا، فَلَا يَهْرُبُونَ مِنْ بُرْهَانٍ إِلَّا وَيُفَاجِئُهُمْ بِرِهَانٌ آخَرُ، كَالْغَرِيقِ يَدْفَعُهُ مَوْجٌ وَيَتَلَقَّاهُ مَوْجٌ حَتَّى يَقْذِفَ بِهِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ، أَوْ يَدْفَعُهُ إِلَى هَاوِيَةِ الْعَدَمِ، وَلِهَذَا قَالَ: (مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) وَلَمْ يَقُلْ: مُحِيطٌ بِهِمْ، أَقُولُ: فَوَضْعُ الِاسْمِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا كَذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ يَرِدُ فِي أَمْثَالِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْإِحَاطَةِ هُنَا إِحَاطَةُ الْقُدْرَةِ. فَمَنْ لَمْ يُمِتْهُ بِأَخْذِ الصَّاعِقَةِ أَمَاتَهُ بِغَيْرِهَا، تَنَوَّعَتِ الْأَسْبَابُ وَالْمَوْتُ وَاحِدٌ. وَالْمُحِيطُ بِالشَّيْءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفُوتَهُ وَيَنْفَلِتَ مِنْ قَبْضَتِهِ.
(يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) إِذَا لَمَعَ الْبَرْقُ بِشِدَّةٍ مُفَاجِئًا مَنْ هُوَ فِي ظُلْمَةٍ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي بَصَرِهِ تَأْثِيرًا يَكَادُ يَخْطَفُهُ، وَالْخَطْفُ: هُوَ الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ جُزْءًا مِنَ الطَّرِيقِ فَيَمْشِي فِيهِ خُطُوَاتٍ ثُمَّ يَعْتَكِرُ عَلَيْهِ الظَّلَامُ وَتَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ الْمَخَاوِفُ وَالْأَوْهَامُ فَيَقِفُ فِي مَكَانِهِ، أَوْ يَعُودُ الْبَرْقُ إِلَى لَمَعَانِهِ، وَيُحَاكِي هَذَا مِنْ حَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِمْ أَنَّهُ عِنْدَ مَا يَدْعُوهُمُ الدَّاعِي إِلَى أَصْلِ الدِّينِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ سَبَبَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ الْمُبِينِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةَ، وَيُقِيمُ لَهُمُ الْحُجَجَ الْقَيِّمَةَ عَلَى أَنَّهُمْ تَنْكَبُّوا الصِّرَاطَ السَّوِيَّ وَأُصِيبُوا بِالدَّاءِ الدَّوِيِّ، يَظْهَرُ لَهُمُ الْحَقُّ فَيَعْزِمُونَ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَتَسِيرُ أَفْكَارُهُمْ فِي نُورِهِ بَعْضَ خُطُوَاتٍ، وَلَكِنْ لَا يَعْتِمُونَ أَنْ تَعَوُدَ إِلَيْهِمْ عَتَمَةُ التَّقْلِيدِ وَظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ، وَغُبْسَةُ الْأَهْوَاءِ وَالشُّبَهَاتِ. فَتُقَيِّدُ الْفِكْرَ وَإِنْ لَمْ تُقِفْ سَيْرَهُ وَإِنَّمَا تَعُودُ بِهِ إِلَى الْحَيْرَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ ثُمَّ يَتَكَرَّرُ النَّظَرُ فِي تَضَاعِيفِهَا بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ وَالْإِلْمَامِ. وَفِيهِ: أَنَّهُمْ عَلَى سُوءِ الْحَالِ وَخَطَرِ الْمَآلِ لَمْ تَنْقَطِعْ مِنْهُمُ الْآمَالُ، كَمَا انْقَطَعَتْ مِنْ أَصْحَابِ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) حَتَّى لَا يَنْجَعَ فِيهِمْ وَعْظُ وَاعِظٍ، وَلَا تُفِيدَهُمْ هِدَايَةُ هَادٍ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ ذَهَبَ بِنُورِهِمْ كَمَا ذَهَبَ بِنُورِ أُولَئِكَ وَسَلَبَهُمْ كُلَّ أَنْوَاعِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ فَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ) إِلَخْ رُجُوعٌ إِلَى بَيَانِ حَالِ مَنْ ضُرِبَ فِيهِمُ الْمَثَلُ لَا مِنْ تَتِمَّةِ الْمَثَلِ، وَقَدْ
كَنَّى عَنْهُمْ بِالضَّمِيرِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَثَلَ قَدْ تَمَّ بَعْدَ مَا ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) بِالْوَصْفِ الَّذِي اقْتَضَى التَّمْثِيلَ، هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُنَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ تَتِمَّةً لِلْمَثَلِ نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ مَنْ ضُرِبَ
149
فِيهِمُ الْمَثَلُ، عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ لَا يُنَافِي الْآخَرَ، وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يَمْنَعُ الْجَمْعَ، فَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمُ الظَّاهِرَةِ، كَمَا ذَهَبَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمُ الْبَاطِنَةِ اهـ.
وَهُوَ خَطَأٌ بَيَانِيٌّ فَإِنَّ الْبَاطِنَةَ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الظَّاهِرَةِ بِأُسْلُوبِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ الِاسْتِعَارَةُ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ جَعَلَهُ شَيْخُنَا فِي صِنْفٍ مِنْهُمْ غَيْرِ الْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وَكَلَامُهُ أَظْهَرُ.
(إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لَيْسَ عِنْدِي عَنْ أُسْتَاذِنَا شَيْءٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَمَعْنَاهَا وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ " قَدِيرٌ " بِمَعْنَى قَادِرٍ، وَمِثْلُهُ كُلُّ صِيغَةِ مُبَالَغَةٍ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَلَامِ، لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ فِي الْإِفْهَامِ، فَقَوْلُهُ: " عَلَّامُ الْغُيُوبِ " أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: " عَالِمُ الْغَيْبِ " وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَوْقِعٌ، وَهَاهُنَا لَمَّا هَدَّدَ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَذْهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لَذَهَبَ بِهَا، عَلَّلَهُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ تَعَلُّقَ مَشِيئَتِهِ يَتَّصِلُ بِهِ تَعَلَّقُ قُدْرَتِهِ، فَمَا شَاءَ كَانَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَتَأْثِيرُ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبِّبَاتِهَا مَنُوطٌ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى.
(تَنْبِيهٌ صَادِعٌ فِي تَطْبِيقِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا هُوَ وَاقِعٌ)
(وَظُهُورُ مَعَانِي الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلْمُنَافِقِينَ، فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعَامَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) عَقَّبَ الْأُسْتَاذُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِتَنْبِيهٍ ارْتَاعَ لَهُ الْخَامِلُ وَالنَّبِيهُ، ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ هَادٍ وَمُرْشِدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ مَعَانِيَهُ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ، فَلَا يَعِدُ وَيُوعِدُ وَيَعِظُ وَيُرْشِدُ أَشْخَاصًا مَخْصُوصِينَ، وَإِنَّمَا نِيطَ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ وَتَبْشِيرُهُ وَإِنْذَارُهُ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ بِقَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ كَانَتْ مُنْطَبِقَةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذِ الْقُرْآنَ إِمَامًا وَهَادِيًا، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ عَقْلَهُ وَمَشَاعِرَهُ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ بَلِ اكْتَفَى
عَنْ ذَلِكَ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِ وَمُعَاصِرِيهِ فِي كُلِّ مَا هُمْ فِيهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ بَعْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ مَا مَعْنَاهُ:
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
وَهُوَ خَطَأٌ بَيَانِيٌّ فَإِنَّ الْبَاطِنَةَ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الظَّاهِرَةِ بِأُسْلُوبِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ الِاسْتِعَارَةُ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ جَعَلَهُ شَيْخُنَا فِي صِنْفٍ مِنْهُمْ غَيْرِ الْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وَكَلَامُهُ أَظْهَرُ.
(إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لَيْسَ عِنْدِي عَنْ أُسْتَاذِنَا شَيْءٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَمَعْنَاهَا وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ " قَدِيرٌ " بِمَعْنَى قَادِرٍ، وَمِثْلُهُ كُلُّ صِيغَةِ مُبَالَغَةٍ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَلَامِ، لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ فِي الْإِفْهَامِ، فَقَوْلُهُ: " عَلَّامُ الْغُيُوبِ " أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: " عَالِمُ الْغَيْبِ " وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَوْقِعٌ، وَهَاهُنَا لَمَّا هَدَّدَ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَذْهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لَذَهَبَ بِهَا، عَلَّلَهُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ تَعَلُّقَ مَشِيئَتِهِ يَتَّصِلُ بِهِ تَعَلَّقُ قُدْرَتِهِ، فَمَا شَاءَ كَانَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَتَأْثِيرُ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبِّبَاتِهَا مَنُوطٌ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى.
(تَنْبِيهٌ صَادِعٌ فِي تَطْبِيقِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا هُوَ وَاقِعٌ)
(وَظُهُورُ مَعَانِي الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلْمُنَافِقِينَ، فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعَامَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) عَقَّبَ الْأُسْتَاذُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِتَنْبِيهٍ ارْتَاعَ لَهُ الْخَامِلُ وَالنَّبِيهُ، ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ هَادٍ وَمُرْشِدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ مَعَانِيَهُ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ، فَلَا يَعِدُ وَيُوعِدُ وَيَعِظُ وَيُرْشِدُ أَشْخَاصًا مَخْصُوصِينَ، وَإِنَّمَا نِيطَ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ وَتَبْشِيرُهُ وَإِنْذَارُهُ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ بِقَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ كَانَتْ مُنْطَبِقَةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذِ الْقُرْآنَ إِمَامًا وَهَادِيًا، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ عَقْلَهُ وَمَشَاعِرَهُ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ بَلِ اكْتَفَى
عَنْ ذَلِكَ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِ وَمُعَاصِرِيهِ فِي كُلِّ مَا هُمْ فِيهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ بَعْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ مَا مَعْنَاهُ:
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
150
فِي النَّاسِ الْمُنَادُونَ هُنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الْقَلْبَ وَيَصْرِفُ النَّفْسَ فِي الْأَعْمَالِ، وَهُوَ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُمْ آخِذُونَ بِتَقَالِيدَ ظَاهِرِيَّةٍ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ الْأَثَرُ الصَّالِحُ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَهُمْ يُخَادِعُونَ اللهَ تَعَالَى بِالتَّلَبُّسِ بِبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَ ((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)) وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا لَا يَزَالُ فِي الصِّنْفِ الرَّابِعِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَشَرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) :- وَهُوَ الرَّاجِحُ - أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي أَصْنَافِ النَّاسِ هَذَا الصِّنْفَ الَّذِي احْتَقَرَ أَفْرَادُهُ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَاسْتَعْظَمُوهَا وَأَكْبَرُوهَا عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، فَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَجَلِّ الْمَزَايَا الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَجَّلُوا سَلَفَهُمْ حَتَّى رَفَعُوهُمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، خَاطَبَ النَّاسَ عَامَّةً بِأَنْ يَعْبُدُوهُ مُلَاحَظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَالِقِيَّةِ الَّتِي تَشْمَلُهُمْ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ السَّلَفِ، فَتَنْظِمُهُمْ جَمِيعًا فِي سِلْكِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْخَالِقِ تَعَالَى شَأْنُهُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ الصِّنْفُ الْخَاسِرُ الْكَفُورُ بِنِعَمِ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، بَلِ اكْتَفَوْا بِتَقْلِيدِ بَعْضِ
رُؤَسَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى فَهْمِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى غَيْرُهُمْ، كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَخَاطَبَ بِهَا نَفَرًا مَعْدُودِينَ فِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ وَلَمْ يَجْعَلْهُ هِدَايَةً عَامَّةً لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا أَلْزَمَ سَائِرَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ الِاكْتِفَاءَ بِاتِّبَاعِ أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِ أَتْبَاعِهِمْ وَهَلُمَّ جَرَّا، ثُمَّ تَرَكُوا أَتْبَاعَهُمُ اتِّكَالًا عَلَى شَفَاعَتِهِمْ، وَاكْتِفَاءً بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ، وَزَعْمًا أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُمْ مَا لَا يُعْطِي مِثْلَهُ لِأَحَدٍ سِوَاهُمْ وَإِنْ عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ، تَعَالَى الله عَنِ الظُّلْمِ وَالْمُحَابَاةِ، وَهُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي وَذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
هَذَا النِّدَاءُ الْإِلَهِيُّ الْمُشْعِرُ بِأَنَّ نِسْبَةَ النَّاسِ الْأَوَّلِينَ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَنِسْبَةِ الْآخَرِينَ وَاحِدَةٌ، هُوَ الْخَالِقُ وَهُمُ الْمَخْلُوقُونَ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِهَا أَجْمَعُونَ، حُجَّةٌ عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّةِ ذَلِكَ الصِّنْفِ مِنْ قَبْلِنَا.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الْقَلْبَ وَيَصْرِفُ النَّفْسَ فِي الْأَعْمَالِ، وَهُوَ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُمْ آخِذُونَ بِتَقَالِيدَ ظَاهِرِيَّةٍ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ الْأَثَرُ الصَّالِحُ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَهُمْ يُخَادِعُونَ اللهَ تَعَالَى بِالتَّلَبُّسِ بِبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَ ((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)) وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا لَا يَزَالُ فِي الصِّنْفِ الرَّابِعِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَشَرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) :- وَهُوَ الرَّاجِحُ - أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي أَصْنَافِ النَّاسِ هَذَا الصِّنْفَ الَّذِي احْتَقَرَ أَفْرَادُهُ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَاسْتَعْظَمُوهَا وَأَكْبَرُوهَا عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، فَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَجَلِّ الْمَزَايَا الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَجَّلُوا سَلَفَهُمْ حَتَّى رَفَعُوهُمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، خَاطَبَ النَّاسَ عَامَّةً بِأَنْ يَعْبُدُوهُ مُلَاحَظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَالِقِيَّةِ الَّتِي تَشْمَلُهُمْ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ السَّلَفِ، فَتَنْظِمُهُمْ جَمِيعًا فِي سِلْكِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْخَالِقِ تَعَالَى شَأْنُهُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ الصِّنْفُ الْخَاسِرُ الْكَفُورُ بِنِعَمِ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، بَلِ اكْتَفَوْا بِتَقْلِيدِ بَعْضِ
رُؤَسَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى فَهْمِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى غَيْرُهُمْ، كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَخَاطَبَ بِهَا نَفَرًا مَعْدُودِينَ فِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ وَلَمْ يَجْعَلْهُ هِدَايَةً عَامَّةً لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا أَلْزَمَ سَائِرَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ الِاكْتِفَاءَ بِاتِّبَاعِ أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِ أَتْبَاعِهِمْ وَهَلُمَّ جَرَّا، ثُمَّ تَرَكُوا أَتْبَاعَهُمُ اتِّكَالًا عَلَى شَفَاعَتِهِمْ، وَاكْتِفَاءً بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ، وَزَعْمًا أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُمْ مَا لَا يُعْطِي مِثْلَهُ لِأَحَدٍ سِوَاهُمْ وَإِنْ عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ، تَعَالَى الله عَنِ الظُّلْمِ وَالْمُحَابَاةِ، وَهُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي وَذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
هَذَا النِّدَاءُ الْإِلَهِيُّ الْمُشْعِرُ بِأَنَّ نِسْبَةَ النَّاسِ الْأَوَّلِينَ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَنِسْبَةِ الْآخَرِينَ وَاحِدَةٌ، هُوَ الْخَالِقُ وَهُمُ الْمَخْلُوقُونَ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِهَا أَجْمَعُونَ، حُجَّةٌ عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّةِ ذَلِكَ الصِّنْفِ مِنْ قَبْلِنَا.
151
(قَالَ شَيْخُنَا) : وَأَخُصُّ طُلَّابَ عُلُومِ الدِّينِ بِالذِّكْرِ، فَيَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يُوَجِّهَ نَفْسَهُ إِلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَيَحْمِلَهَا عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ، فَإِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ تَظْهَرُ عَلَيْهِ آدَابُ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: ((أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي)) وَإِنَّمَا كَانَ أَدَبَهُ الْقُرْآنُ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِهَذَا حَقَّ الِاشْتِغَالِ، وَصَلَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَمْرَاضِ
الْمُسْلِمِينَ الْحَاضِرَةِ، وَمَنَابِعِ الْبِدَعِ الَّتِي فَشَتْ فِيهِمْ، وَمَثَارَاتِ الْفِتَنِ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ، وَيَعْرِفُ عِلَاجَ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْقُرْآنِ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَتَلَقَّى عِلْمًا، إِلَّا مَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْفَهْمِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ مَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَهُ الْقُرْآنُ فَيَجِدُهُ مِرْآتَهُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مُبْعِدٌ عَنْهُ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْقُرْآنِ هُوَ عَيْنُ الْبُعْدِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ.
كُلُّ مَا أَمَرَنَا بِهِ الْقُرْآنُ وَأَرْشَدَنَا إِلَى النَّظَرِ فِيهِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ اشْتِغَالٌ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا قَالَ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فَذَلِكَ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي خَلْقِنَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ، وَيَنْبَغِي لَنَا الْبَحْثُ عَنْهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:
(وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (٥١: ٢٠، ٢١) وَإِلَى الِاعْتِبَارِ بِتَارِيخِ مَنْ قَبْلَنَا، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) (٣٠: ٤٢) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
لَا يَتَّعِظُ الْإِنْسَانُ بِالْقُرْآنِ فَتَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ بِوَعْدِهِ، وَتَخْشَعَ لِوَعِيدِهِ، إِلَّا إِذَا عَرَفَ مَعَانِيَهُ، وَذَاقَ حَلَاوَةَ أَسَالِيبِهِ، وَلَا يَأْتِي هَذَا إِلَّا بِمُزَاوَلَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ مَعَ النَّظَرِ فِي بَعْضِ النَّحْوِ، كَنَحْوِ ابْنِ هِشَامٍ وَبَعْضِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ كَبَلَاغَةِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لَهُ ذَوْقٌ
الْمُسْلِمِينَ الْحَاضِرَةِ، وَمَنَابِعِ الْبِدَعِ الَّتِي فَشَتْ فِيهِمْ، وَمَثَارَاتِ الْفِتَنِ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ، وَيَعْرِفُ عِلَاجَ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْقُرْآنِ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَتَلَقَّى عِلْمًا، إِلَّا مَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْفَهْمِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ مَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَهُ الْقُرْآنُ فَيَجِدُهُ مِرْآتَهُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مُبْعِدٌ عَنْهُ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْقُرْآنِ هُوَ عَيْنُ الْبُعْدِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ.
كُلُّ مَا أَمَرَنَا بِهِ الْقُرْآنُ وَأَرْشَدَنَا إِلَى النَّظَرِ فِيهِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ اشْتِغَالٌ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا قَالَ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فَذَلِكَ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي خَلْقِنَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ، وَيَنْبَغِي لَنَا الْبَحْثُ عَنْهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:
(وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (٥١: ٢٠، ٢١) وَإِلَى الِاعْتِبَارِ بِتَارِيخِ مَنْ قَبْلَنَا، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) (٣٠: ٤٢) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
لَا يَتَّعِظُ الْإِنْسَانُ بِالْقُرْآنِ فَتَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ بِوَعْدِهِ، وَتَخْشَعَ لِوَعِيدِهِ، إِلَّا إِذَا عَرَفَ مَعَانِيَهُ، وَذَاقَ حَلَاوَةَ أَسَالِيبِهِ، وَلَا يَأْتِي هَذَا إِلَّا بِمُزَاوَلَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ مَعَ النَّظَرِ فِي بَعْضِ النَّحْوِ، كَنَحْوِ ابْنِ هِشَامٍ وَبَعْضِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ كَبَلَاغَةِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لَهُ ذَوْقٌ
152
فِي فَهْمِ اللُّغَةِ يُؤَهِّلُهُ لِفَهْمِ الْقُرْآنِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْهَمَ شَيْئًا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ بِدُونِ أَنْ يُمَارِسَ الْبَلَاغَةَ بِنَفْسِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُبْطِلٌ.
فَهَلْ يَصْلُحُ لِمُسْلِمٍ بَلَغَ وَرَشَدَ وَطَلَبَ الْعِلْمَ أَلَّا يَجْعَلَ الْقُرْآنَ إِمَامَهُ وَيَتَّخِذَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، وَيَهْتَدِي بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبِدَعِ؟.
أَمَامَنَا عَقَبَتَانِ كَئُودَانِ لَا نَرْتَقِي عَمَّا نَحْنُ فِيهِ إِلَّا بِاقْتِحَامِهِمَا، وَهُمَا الْكَسَلُ وَتَسْجِيلُ الْقُصُورِ عَلَى أَنْفُسِنَا بِجَهْلِ قِيمَةِ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا. وَصَاحِبُ هَاتَيْنِ الْخُلَّتَيْنِ يَمْقُتُ كُلَّ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى الْخَيْرِ وَيَهْدِيهِ لِلْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ يُكَلِّفُهُ ضِدَّ طَبْعِهِ، فَلَا يَرَى مَهْرَبًا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِضَلَالِهِ وَغَيِّهِ، إِلَّا بِالْقَدْحِ فِي مُرْشِدِهِ وَنَاصِحِهِ.
عَلَى كُلٍّ مِنَّا أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْظُرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَيَزِنَ بِهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ. فَإِنْ رَجَحَ بِهِ مِيزَانُهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ حَقِيقِيٌّ فَلْيَحْمَدِ اللهَ تَعَالَى. وَإِلَّا فَلْيَسْعَ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الرُّجْحَانُ.
لَا بُدَّ لَنَا مِنَ النَّظَرِ الطَّوِيلِ وَالْفِكْرِ الْقَوِيمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَمَنْ لَمْ يَتَفَكَّرْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْحَقِّ.
وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ فَهُوَ ضَالٌّ. فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ!
هَذَا مَا تَذَكَّرْنَاهُ مِنَ التَّنْبِيهِ الَّذِي قُلْنَا إِنَّ الْأُسْتَاذَ قَفَّى بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي صِنْفَيِ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ بِإِزَاءِ الْقُرْآنِ، وَوَصَلَ بِهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) الْآيَاتِ. وَهَاكَ تَفْسِيرَهَا بِالتَّفْصِيلِ.
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ كِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ حَقًّا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْنَافَ الْبَشَرِ تُجَاهَهُ مِنَ الْمُهْتَدِينَ بِهِ بِالْقُوَّةِ وَبِالْفِعْلِ، وَمِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْهُدَى، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَفِيهِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُتَفَاوِتُونَ، مِنْهُمُ الْمُسْتَعِدُّ لِلْإِخْلَاصِ فِي الْإِيمَانِ وَمَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لَهُ، وَحِكْمَةُ بَيَانِ حَالِ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا حُجَّةً عَلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
بَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَاتُ الْأَرْبَعُ بَعْدَهَا مُصَرِّحَاتٍ بِدَعْوَةِ جَمِيعِ النَّاسِ إِلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى الْحَقِّ بِبَيَانِ أُصُولِهِ وَأُسُسِهِ وَهِيَ:
(١) تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. مَعَ مُلَاحَظَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ.
(٢) الْقُرْآنُ آيَتُهُ الْكُبْرَى وَدِينُهُ التَّفْصِيلِيُّ.
(٣) نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُرْسَلِ بِهَذَا الْقُرْآنِ.
(٤) الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ بِالنَّارِ. وَعَلَى الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ بِالْجَنَّةِ.
فَهَلْ يَصْلُحُ لِمُسْلِمٍ بَلَغَ وَرَشَدَ وَطَلَبَ الْعِلْمَ أَلَّا يَجْعَلَ الْقُرْآنَ إِمَامَهُ وَيَتَّخِذَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، وَيَهْتَدِي بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبِدَعِ؟.
أَمَامَنَا عَقَبَتَانِ كَئُودَانِ لَا نَرْتَقِي عَمَّا نَحْنُ فِيهِ إِلَّا بِاقْتِحَامِهِمَا، وَهُمَا الْكَسَلُ وَتَسْجِيلُ الْقُصُورِ عَلَى أَنْفُسِنَا بِجَهْلِ قِيمَةِ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا. وَصَاحِبُ هَاتَيْنِ الْخُلَّتَيْنِ يَمْقُتُ كُلَّ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى الْخَيْرِ وَيَهْدِيهِ لِلْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ يُكَلِّفُهُ ضِدَّ طَبْعِهِ، فَلَا يَرَى مَهْرَبًا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِضَلَالِهِ وَغَيِّهِ، إِلَّا بِالْقَدْحِ فِي مُرْشِدِهِ وَنَاصِحِهِ.
عَلَى كُلٍّ مِنَّا أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْظُرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَيَزِنَ بِهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ. فَإِنْ رَجَحَ بِهِ مِيزَانُهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ حَقِيقِيٌّ فَلْيَحْمَدِ اللهَ تَعَالَى. وَإِلَّا فَلْيَسْعَ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الرُّجْحَانُ.
لَا بُدَّ لَنَا مِنَ النَّظَرِ الطَّوِيلِ وَالْفِكْرِ الْقَوِيمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَمَنْ لَمْ يَتَفَكَّرْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْحَقِّ.
وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ فَهُوَ ضَالٌّ. فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ!
هَذَا مَا تَذَكَّرْنَاهُ مِنَ التَّنْبِيهِ الَّذِي قُلْنَا إِنَّ الْأُسْتَاذَ قَفَّى بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي صِنْفَيِ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ بِإِزَاءِ الْقُرْآنِ، وَوَصَلَ بِهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) الْآيَاتِ. وَهَاكَ تَفْسِيرَهَا بِالتَّفْصِيلِ.
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ كِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ حَقًّا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْنَافَ الْبَشَرِ تُجَاهَهُ مِنَ الْمُهْتَدِينَ بِهِ بِالْقُوَّةِ وَبِالْفِعْلِ، وَمِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْهُدَى، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَفِيهِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُتَفَاوِتُونَ، مِنْهُمُ الْمُسْتَعِدُّ لِلْإِخْلَاصِ فِي الْإِيمَانِ وَمَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لَهُ، وَحِكْمَةُ بَيَانِ حَالِ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا حُجَّةً عَلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
بَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَاتُ الْأَرْبَعُ بَعْدَهَا مُصَرِّحَاتٍ بِدَعْوَةِ جَمِيعِ النَّاسِ إِلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى الْحَقِّ بِبَيَانِ أُصُولِهِ وَأُسُسِهِ وَهِيَ:
(١) تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. مَعَ مُلَاحَظَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ.
(٢) الْقُرْآنُ آيَتُهُ الْكُبْرَى وَدِينُهُ التَّفْصِيلِيُّ.
(٣) نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُرْسَلِ بِهَذَا الْقُرْآنِ.
(٤) الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ بِالنَّارِ. وَعَلَى الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ بِالْجَنَّةِ.
153
تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمَعْنَى الرَّبِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَبَدْءُ الدَّعْوَةِ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ سُنَّةُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١٦: ٣٦) فَكَانَ كُلُّ رَسُولٍ يَبْدَأُ دَعْوَتَهُ بِقَوْلِهِ: (يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْأُمَمِ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ خَالِقَ الْخَلْقِ، هُوَ رَبُّهُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ كُفْرُهُمُ الْأَعْظَمُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْعِبَادَةِ الْأَعْظَمِ فِي وِجْدَانِ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَبِغَيْرِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، كَالتَّقَرُّبِ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالنُّذُورِ وَذَبْحِ الْقَرَابِينَ أَوِ الطَّوَافِ وَالتَّمَسُّحِ بِهِ إِنْ كَانَ جِسْمًا أَوْ تِمْثَالًا لِمَلِكٍ أَوْ بَشَرٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ قَبْرًا لِإِنْسَانٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنْكِرُ الْبَعْثَ أَيْضًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِالدَّعْوَةِ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ فِي ضِمْنِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالْعَرَبُ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا يُؤْمِنُونَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ إِمَّا بِدُعَائِهِ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَإِمَّا بِجَعْلِهِ شَارِعًا يَتْبَعُونَهُ فِيمَا يُصْدِرُهُ مِنْ أَحْكَامِ التَّعَبُّدِ أَوِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ - لَمَّا كَانُوا كَذَلِكَ، احْتَجَّ عَلَى دَعْوَتِهِمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى بِالتَّعْبِيرِ بِلَفْظِ " رَبٍّ " مُضَافًا إِلَيْهِمْ فَقَالَ: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) وَوَصَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ وَالرِّزْقُ فَقَالَ: (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ - أَيْ إِذَا كَانَ رَبُّكُمْ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لِرِزْقِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ، فَيَجِبُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ فَتَجْعَلُونَهُ مُسَاوِيًا لَهُ، وَتُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَفْضِيلًا مَنْ نَوْعِ تَفْضِيلِ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَالرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ. وَهَاكَ تَفْصِيلَ ذَلِكَ بِمَا كَتَبْتُهُ مِنْ سِيَاقِ دَرْسِ شَيْخِنَا مُفَصِّلًا لَهُ تَفْصِيلًا:
يَقُولُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ) الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِاللهِ قَوْلًا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ يَمَسَّ الْإِيمَانُ الْحَقُّ سَوَادَ قُلُوبِهِمْ، وَلَا كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، وَيَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَمْ يَسْتَعِدُّوا لَهُ بِتَهْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَأْتُونَ بِبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ بِحُكْمِ الْعَادَاتِ الْمَوْرُوثَةِ. وَقُلُوبُهُمْ مَشْغُولَةٌ عَنِ اللهِ الَّذِي لَا تُفِيدُ الْعِبَادَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَالشُّعُورِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، فَهُمْ يُخَادِعُونَ اللهَ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا، وَالصُّوَرِ الَّتِي لَا رُوحَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَخْدَعُونَ فِي
الْحَقِيقَةِ أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ هَذِهِ لَا تُفِيدُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَزَّةٌ وَسَعَادَةٌ وَلَا تُنْجِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَيَا أَيُّهَا النَّاسُ الَّذِينَ لَمْ يُرْزَءُوا بِهَذَا الْخِذْلَانِ، وَلَمْ يُبْتَلَوْا بِهَذَا الِافْتِتَانِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) جَمِيعًا عِبَادَةَ خُشُوعٍ وَإِخْلَاصٍ وَأَدَبٍ وَحُضُورٍ، كَأَنَّكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَتَرَوْنَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا تَرَوْنَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكُمْ، وَيَنْظُرُ دَائِمًا إِلَى مَحَلِّ الْإِخْلَاصِ مِنْكُمْ وَهُوَ قُلُوبُكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى إِشْعَارِ نُفُوسِكُمْ هَذَا الْخُشُوعَ وَالْحُضُورَ
يَقُولُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ) الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِاللهِ قَوْلًا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ يَمَسَّ الْإِيمَانُ الْحَقُّ سَوَادَ قُلُوبِهِمْ، وَلَا كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، وَيَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَمْ يَسْتَعِدُّوا لَهُ بِتَهْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَأْتُونَ بِبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ بِحُكْمِ الْعَادَاتِ الْمَوْرُوثَةِ. وَقُلُوبُهُمْ مَشْغُولَةٌ عَنِ اللهِ الَّذِي لَا تُفِيدُ الْعِبَادَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَالشُّعُورِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، فَهُمْ يُخَادِعُونَ اللهَ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا، وَالصُّوَرِ الَّتِي لَا رُوحَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَخْدَعُونَ فِي
الْحَقِيقَةِ أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ هَذِهِ لَا تُفِيدُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَزَّةٌ وَسَعَادَةٌ وَلَا تُنْجِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَيَا أَيُّهَا النَّاسُ الَّذِينَ لَمْ يُرْزَءُوا بِهَذَا الْخِذْلَانِ، وَلَمْ يُبْتَلَوْا بِهَذَا الِافْتِتَانِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) جَمِيعًا عِبَادَةَ خُشُوعٍ وَإِخْلَاصٍ وَأَدَبٍ وَحُضُورٍ، كَأَنَّكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَتَرَوْنَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا تَرَوْنَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكُمْ، وَيَنْظُرُ دَائِمًا إِلَى مَحَلِّ الْإِخْلَاصِ مِنْكُمْ وَهُوَ قُلُوبُكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى إِشْعَارِ نُفُوسِكُمْ هَذَا الْخُشُوعَ وَالْحُضُورَ
154
وَالْإِخْلَاصَ فِي الْعِبَادَةِ بِاسْتِحْضَارِ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ، فَإِنَّهُ هُوَ رَبُّكُمُ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٦: ٧٨) وَغَذَّاكُمْ بِنِعَمِهِ، وَنَمَّاكُمْ بِكَرَمِهِ، كَمَا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِسَلَفِكُمُ الصَّالِحِ فَشَكَرُوهُ وَعَبَدُوهُ وَحْدَهُ مُقِرِّينَ بِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ، وَمُعَظِّمِينَ لِهَذِهِ الْمِنَّةِ، فَلْيَدَعْ ذَلِكَ الصِّنْفُ احْتِقَارَ النِّعَمِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَى تَعْظِيمِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى السَّلَفِ فَقَطْ. فَإِنَّ هَذَا الرَّبَّ الْعَظِيمَ (الَّذِي خَلَقَكُمْ) وَ (خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قَدْ رَبَّاكُمْ كَمَا رَبَّى سَلَفَكُمْ، وَوَهَبَكُمْ مِنَ الْهِدَايَاتِ مِثْلَمَا وَهَبَهُمْ، فَمَنْ شَكَرَ مِنْهُمْ وَمِنْكُمْ زَادَهُ نِعَمًا، وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ النِّعَمِ جَعَلَهَا عَلَيْهِ نِقَمًا، لِيَكُونَ عِبْرَةً وَمَثَلًا لِلْآخَرِينَ، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِالْعَالَمِينَ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ فَقَالَ: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (١٤: ٧) وَفِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ أَنَابَ.
هَكَذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَرْشَدَهُمْ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ سَاوَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ إِلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالْعَمَلِ وَقَدَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ قَدْرَهَا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ النِّعَمِ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِالشُّكْرِ - وَهِيَ مَا عَدَا النُّبُوَّةَ - مَقْدُورَةٌ لَهُمْ، كَمَا كَانَتْ مَقْدُورَةً لِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِذَا زَادُوا عَلَى سَلَفِهِمْ شُكْرًا يُزَادُونَ نِعَمًا، وَمَا الشُّكْرُ إِلَّا اسْتِعْمَالُ الْمَوَاهِبِ وَالنِّعَمِ فِيمَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ، فَالَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى فَهْمِ الدِّينِ بِأَنْفُسِنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ عُقُولَنَا وَأَفْهَامَنَا ضَعِيفَةٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ آبَائِنَا؛ لِأَنَّ عُقُولَهُمْ كَانَتْ أَقْوَى، وَكَانُوا عَلَى فَهْمِ الدِّينِ أَقْدَرَ، بَلْ لَا يُمْكِنُ
أَنْ يَفْهَمُهُ غَيْرُهُمْ، أُولَئِكَ كَافِرُونَ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ، وَغَيْرُ مُهْتَدِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ النَّاطِقَةِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ وَسِعَةِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ زُلْفَى بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُمُ الْوَسَائِلُ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، أَوْ لِأَجْلِ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ عِنْدَهُ لِيَنَالُوا جَزَاءَ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْعَمَلِ بِهِ وَاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ - قَدِ احْتَقَرُوا نِعَمَ اللهِ تَعَالَى وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يَبْغُونَ أَنْ يَنَالُوا بِأَشْخَاصِهِمْ مَا حَكَمَ اللهُ بِأَنْ يَطْلُبَهُ النَّاسُ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَجَعَلُوا هَؤُلَاءِ الْأَنْدَادَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ يُغْنُونَهُمْ عَنْ شَرِيعَتِهِ، شَعَرُوا بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يَشْعُرُوا.
يَقُولُ تَعَالَى لِجَمِيعِ عِبَادِهِ مَا مَعْنَاهُ: اعْبُدُونِي مُلَاحِظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ الَّتِي تُؤَهِّلُكُمْ لِلسَّعَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فَإِنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هِيَ الَّتِي تُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوَى، وَيُرْجَى بِهَا بُلُوغُ الْكَمَالِ الْقُصْوَى.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: الشَّائِعُ أَنَّ " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي فِي ذَاتِهَا، وَإِذَا وَقَعَتْ فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى يَكُونُ مَعْنَاهَا التَّحْقِيقُ، وَغَرَضُ الْقَائِلِينَ بِهَذَا تَنْزِيهُ اللهِ سُبْحَانَهُ عَنِ التَّرَجِّي بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ
هَكَذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَرْشَدَهُمْ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ سَاوَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ إِلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالْعَمَلِ وَقَدَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ قَدْرَهَا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ النِّعَمِ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِالشُّكْرِ - وَهِيَ مَا عَدَا النُّبُوَّةَ - مَقْدُورَةٌ لَهُمْ، كَمَا كَانَتْ مَقْدُورَةً لِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِذَا زَادُوا عَلَى سَلَفِهِمْ شُكْرًا يُزَادُونَ نِعَمًا، وَمَا الشُّكْرُ إِلَّا اسْتِعْمَالُ الْمَوَاهِبِ وَالنِّعَمِ فِيمَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ، فَالَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى فَهْمِ الدِّينِ بِأَنْفُسِنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ عُقُولَنَا وَأَفْهَامَنَا ضَعِيفَةٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ آبَائِنَا؛ لِأَنَّ عُقُولَهُمْ كَانَتْ أَقْوَى، وَكَانُوا عَلَى فَهْمِ الدِّينِ أَقْدَرَ، بَلْ لَا يُمْكِنُ
أَنْ يَفْهَمُهُ غَيْرُهُمْ، أُولَئِكَ كَافِرُونَ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ، وَغَيْرُ مُهْتَدِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ النَّاطِقَةِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ وَسِعَةِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ زُلْفَى بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُمُ الْوَسَائِلُ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، أَوْ لِأَجْلِ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ عِنْدَهُ لِيَنَالُوا جَزَاءَ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْعَمَلِ بِهِ وَاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ - قَدِ احْتَقَرُوا نِعَمَ اللهِ تَعَالَى وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يَبْغُونَ أَنْ يَنَالُوا بِأَشْخَاصِهِمْ مَا حَكَمَ اللهُ بِأَنْ يَطْلُبَهُ النَّاسُ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَجَعَلُوا هَؤُلَاءِ الْأَنْدَادَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ يُغْنُونَهُمْ عَنْ شَرِيعَتِهِ، شَعَرُوا بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يَشْعُرُوا.
يَقُولُ تَعَالَى لِجَمِيعِ عِبَادِهِ مَا مَعْنَاهُ: اعْبُدُونِي مُلَاحِظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ الَّتِي تُؤَهِّلُكُمْ لِلسَّعَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فَإِنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هِيَ الَّتِي تُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوَى، وَيُرْجَى بِهَا بُلُوغُ الْكَمَالِ الْقُصْوَى.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: الشَّائِعُ أَنَّ " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي فِي ذَاتِهَا، وَإِذَا وَقَعَتْ فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى يَكُونُ مَعْنَاهَا التَّحْقِيقُ، وَغَرَضُ الْقَائِلِينَ بِهَذَا تَنْزِيهُ اللهِ سُبْحَانَهُ عَنِ التَّرَجِّي بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ
155
الْآتِي، وَلَكِنَّهُ رَمْيٌ لِلْكَلَامِ بِدُونِ بَيَانٍ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي وَلَكِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ لِلشَّيْءِ وَفِي هَذَا مَعْنَى التَّرَجِّي، فَحَيْثُ وَقَعَتْ " لَعَلَّ " فِي الْقُرْآنِ فَالْمُرَادُ بِهَا هَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرُ كَمَا فَسَّرْنَاهُمَا بِهِ آنِفًا، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ التَّحْقِيقَ (لِأَنَّ الْإِعْدَادَ بِمَا تَأْتِي " لَعَلَّ " بَعْدَهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا رِيبَةَ فِيهِ) فَإِنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ مُلَاحَظَةِ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ إِلَخْ مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، تَطْبَعُ فِي النَّفْسِ مَلَكَةَ خَشْيَةِ اللهِ وَتَعْظِيمَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ، وَتُعْلِي هِمَّةَ الْعَابِدِ وَتُقَوِّي عَزِيمَتَهُ وَإِرَادَتَهُ، فَتَزْكُو نَفْسُهُ وَتَنْفِرُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَتَأْلَفُ الطَّاعَاتِ وَالْفَضَائِلَ، وَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّجَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّاسِ فَالْإِعْدَادُ فِيهِ ظَاهِرٌ وَمُتَحَقِّقٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّقْوَى لَمَا اتَّقَاهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
وَمَعْنَى التَّرَجِّي فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: تَوَقُّعُ حُصُولِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ بِحُصُولِ سَبَبِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الِاسْتِعْدَادُ كَسْبِيًّا أَوْ طَبِيعِيًّا فَاسْتَعْمَلْنَا " لَعَلَّ " الْمُعَبِّرَةَ عَنِ التَّوَقُّعِ فِي سَبَبِهِ وَهُوَ الِاسْتِعْدَادُ أَوِ الْإِعْدَادُ الَّذِي هُوَ جَعْلُ الْمَرْءِ مُسْتَعِدًّا،
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسَبَّبِ بِلَفْظِ السَّبَبِ شَائِعٌ فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ، وَقَدْ عَدُّوا التَّرَجِّيَ وَالتَّمَنِّيَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَصِيَغُهُمَا صِيَغُ إِنْشَاءٍ فَقَطْ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِعْدَادِ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّرَجِّيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مَأْمُولًا بِمَا يُذْكَرُ مِنْ سَبَبِهِ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لِذَاتِهِ بَلْ يَتْبَعُ قُوَّةَ أَسْبَابِهِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْمُتَكَلِّمِ، وَتَارَةً بِالْمُخَاطَبِ، وَتَارَةً بِالْمُتَكَلَّمِ عَنْهُ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِمَا، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (٦٥: ١) وَقَوْلَهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ مُوسَى: (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) (٢٦: ٤٠) وَقَوْلَهُ: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) (٤٠: ٣٦) إِلَخْ. وَقَوْلَهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (٢٠: ٤٤) وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا مَقْطُوعٌ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ عِنْدَ اللهِ، وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِمُوسَى وَهَارُونَ أَيْ (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) رَاجِينَ بِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى لَا قَوْلًا غَلِيظًا مُنَفِّرًا. وَتَأْتِي " لَعَلَّ " لِلْإِشْفَاقِ وَإِفَادَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ أَمْرٍ وَقَعَتْ أَسْبَابُهُ فَكَانَ بِهَا مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) (١٨: ٦) الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) (١١: ١٢) الْآيَةَ.
لَمَّا ذَكَّرَ اللهُ عِبَادَهُ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّقْوَى وَعَدَمَ إِطْرَاءِ السَّلَفِ بِرَفْعِهِمْ إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا وَقَعَ مِنَ الَّذِينَ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (٩: ٣١) ذَكَّرَهُمْ ثَانِيًا بِبَعْضِ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَقَالَ: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا) بِمَا مَهَّدَهَا وَجَعَلَهَا صَالِحَةً لِلِافْتِرَاشِ وَالْإِقَامَةِ عَلَيْهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهَا، أَيْ فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى جَلَائِلِ الْفِعَالِ، الْعَظِيمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَالْإِجْلَالَ.
الْمُنْعِمُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ، الْجَدِيرُ بِأَعْلَى مَرَاتِبِ الشُّكْرِ، جَعَلَ الْأَرْضَ بِقُدْرَتِهِ فِرَاشًا لِأَجْلِ مَنْفَعَتِكُمْ
وَمَعْنَى التَّرَجِّي فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: تَوَقُّعُ حُصُولِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ بِحُصُولِ سَبَبِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الِاسْتِعْدَادُ كَسْبِيًّا أَوْ طَبِيعِيًّا فَاسْتَعْمَلْنَا " لَعَلَّ " الْمُعَبِّرَةَ عَنِ التَّوَقُّعِ فِي سَبَبِهِ وَهُوَ الِاسْتِعْدَادُ أَوِ الْإِعْدَادُ الَّذِي هُوَ جَعْلُ الْمَرْءِ مُسْتَعِدًّا،
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسَبَّبِ بِلَفْظِ السَّبَبِ شَائِعٌ فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ، وَقَدْ عَدُّوا التَّرَجِّيَ وَالتَّمَنِّيَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَصِيَغُهُمَا صِيَغُ إِنْشَاءٍ فَقَطْ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِعْدَادِ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّرَجِّيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مَأْمُولًا بِمَا يُذْكَرُ مِنْ سَبَبِهِ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لِذَاتِهِ بَلْ يَتْبَعُ قُوَّةَ أَسْبَابِهِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْمُتَكَلِّمِ، وَتَارَةً بِالْمُخَاطَبِ، وَتَارَةً بِالْمُتَكَلَّمِ عَنْهُ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِمَا، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (٦٥: ١) وَقَوْلَهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ مُوسَى: (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) (٢٦: ٤٠) وَقَوْلَهُ: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) (٤٠: ٣٦) إِلَخْ. وَقَوْلَهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (٢٠: ٤٤) وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا مَقْطُوعٌ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ عِنْدَ اللهِ، وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِمُوسَى وَهَارُونَ أَيْ (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) رَاجِينَ بِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى لَا قَوْلًا غَلِيظًا مُنَفِّرًا. وَتَأْتِي " لَعَلَّ " لِلْإِشْفَاقِ وَإِفَادَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ أَمْرٍ وَقَعَتْ أَسْبَابُهُ فَكَانَ بِهَا مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) (١٨: ٦) الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) (١١: ١٢) الْآيَةَ.
لَمَّا ذَكَّرَ اللهُ عِبَادَهُ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّقْوَى وَعَدَمَ إِطْرَاءِ السَّلَفِ بِرَفْعِهِمْ إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا وَقَعَ مِنَ الَّذِينَ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (٩: ٣١) ذَكَّرَهُمْ ثَانِيًا بِبَعْضِ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَقَالَ: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا) بِمَا مَهَّدَهَا وَجَعَلَهَا صَالِحَةً لِلِافْتِرَاشِ وَالْإِقَامَةِ عَلَيْهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهَا، أَيْ فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى جَلَائِلِ الْفِعَالِ، الْعَظِيمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَالْإِجْلَالَ.
الْمُنْعِمُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ، الْجَدِيرُ بِأَعْلَى مَرَاتِبِ الشُّكْرِ، جَعَلَ الْأَرْضَ بِقُدْرَتِهِ فِرَاشًا لِأَجْلِ مَنْفَعَتِكُمْ
156
(وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) مُتَمَاسِكًا لِكَيْلَا تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَتَسْحَقَكُمْ. السَّمَاءُ: مَجْمُوعُ مَا فَوْقَنَا مِنَ الْعَالَمِ.
وَالْبِنَاءُ: وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ بِحَيْثُ يَتَكَوَّنُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بِصُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ كَوَّنَ اللهُ السَّمَاءَ بِنِظَامٍ كَنِظَامِ الْبِنَاءِ، وَسَوَّى أَجْرَامَهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمُشَاهَدَةِ وَأَمْسَكَهَا بِسُنَّةِ الْجَاذِبِيَّةِ فَلَا تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَصْطَدِمُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، إِلَّا إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْوَعِيدِ
وَبَطَلَ نِظَامُ هَذَا الْعَالَمِ لِيَعُودَ فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، وَالْوَاجِبُ مُلَاحَظَتُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، هُوَ تَصَوُّرُ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَسَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.
ثُمَّ بَعْدَ أَنِ امْتَنَّ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْفِرَاشِ وَالْمِهَادِ، وَنِعْمَةِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ كَالْبِنَاءِ، ذَكَرَ نِعْمَةَ الْإِمْدَادِ، الَّذِي تُحْفَظُ بِهِ هَذِهِ الْأَجْسَادُ، وَهِيَ مَادَّةُ الْغِذَاءِ، الَّتِي بِهَا النُّمُوُّ وَالْبَقَاءُ، فَقَالَ: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) الثَّمَرَاتُ: مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّبَاتِ نَجْمًا كَانَ أَوْ شَجَرًا، يُصْلِحُ الزَّارِعُ وَالْغَارِسُ الْأَرْضَ، وَيَبْذُرُ الْبَذْرَ، وَيَغْرِسُ الْفَسِيلَ، وَيَتَعَاهَدُ ذَلِكَ بِالسَّقْيِ وَالْعَزْقِ، فَيَكُونُ لَهُ كَسْبٌ فِي رِزْقِهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ كَسْبٌ فِي إِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي يُسْقَى بِهِ، وَلَا فِي تَغْذِيَةِ النَّبَاتِ بِمَاءِ الْمَطَرِ أَوِ النَّهْرِ الْمُجْتَمِعِ مِنَ الْمَطَرِ، وَبِأَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَعَنَاصِرِهَا الْأُخَرِ، وَلَا فِي تَوَلُّدِ خَلَايَاهُ الَّتِي بِهَا نُمُوُّهُ وَلَا فِي إِثْمَارِهِ إِذَا أَثْمَرَ، إِنَّمَا كُلُّ ذَلِكَ بِيَدِ اللهِ الْقَدِيرِ. فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ لِنَزْدَادَ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِجْلَالًا فَلَا نَعْبُدَ مَعَهُ أَحَدًا.
وَبَعْدَ أَنْ عَرَّفْنَا اللهَ تَعَالَى بِأَنْفُسِنَا، وَبِنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا وَعَلَى سَلَفِنَا. وَبَعْدَ أَنْ عَرَفْنَا ذَاتَهُ الْكَرِيمَةَ بِآثَارِ رَحِمْتِهِ وَمِنَنِهِ الْعَظِيمَةِ، وَصِرْنَا جَدِيرِينَ بِأَنْ نَعْرِفَ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدٌ فَلَا يُعْبَدُ وَأَنَّ الرَّبَّ رَبٌّ فَلَا يُشْرَكُ بِهِ وَلَا يُجْحَدُ، قَالَ تَفْرِيعًا وَتَرْتِيبًا عَلَى مَا سَبَقَ: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) مِنْ سَلَفِكُمُ الْمَخْلُوقِينَ مِثْلَكُمْ تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ وَهُوَ كُلُّ مَا تَعْجِزُونَ عَنْهُ وَلَا يَصِلُ كَسْبُكُمْ إِلَيْهِ، لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ فِي الْخَلْقِ وَالْعُبُودِيَّةِ مِثْلُكُمْ.
الْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ، وَفُسِّرَ بِالشَّرِيكِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْمُضَارِعُ وَالْكُفْءُ يُقَالُ: فُلَانٌ نِدُّ فُلَانٍ وَمِنْ أَنْدَادِ فُلَانٍ، أَيْ يُضَارِعُهُ وَيُمَاثِلُهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الشُّئُونِ. وَالْأَنْدَادُ الَّذِينَ اتُّخِذُوا فِي جَانِبِ اللهِ هُمُ الَّذِينَ خَضَعَ النَّاسُ لَهُمْ وَصَمَدُوا إِلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْحَاجَاتِ، لِمَعْنًى يَعْتَقِدُهُ فِيهِمُ الْخَاضِعُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِتَرْكِ الْأَنْدَادِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَالْعَرَبُ كَانَتْ تُسَمِّي ذَلِكَ الْخُضُوعَ وَالصُّمُودَ عِبَادَةً، إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ وَحْيٌ يَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ فَيَتَحَامَوْا هَذَا اللَّفْظَ " الْعِبَادَةَ " وَيَسْتَبْدِلُوا بِهِ لَفْظَ التَّعْظِيمِ أَوِ التَّوَسُّلِ مَثَلًا تَأْوِيلًا لِظَاهِرِ نَصِّ التَّنْزِيلِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَنْدَادًا وَأَرْبَابًا فَكَانُوا يُؤَوِّلُونَ فَلَا يُسَمُّونَ
هَذَا الِاتِّخَاذَ عِبَادَةً وَلَا أُولَئِكَ الْمُعَظَّمِينَ آلِهَةً أَوْ أَنْدَادًا أَوْ أَرْبَابًا.
وَفَرْقٌ بَيْنَ الِاتِّخَاذِ بِالْفِعْلِ وَالتَّسْمِيَةِ بِالْقَوْلِ. وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللهُ، وَلَا رَازِقَ إِلَّا اللهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُسَمُّونَ دُعَاءَهُمْ غَيْرَ اللهِ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ تَوَسُّلًا وَاسْتِشْفَاعًا، وَيُسَمُّونَ تَشْرِيعَهُمْ
وَالْبِنَاءُ: وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ بِحَيْثُ يَتَكَوَّنُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بِصُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ كَوَّنَ اللهُ السَّمَاءَ بِنِظَامٍ كَنِظَامِ الْبِنَاءِ، وَسَوَّى أَجْرَامَهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمُشَاهَدَةِ وَأَمْسَكَهَا بِسُنَّةِ الْجَاذِبِيَّةِ فَلَا تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَصْطَدِمُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، إِلَّا إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْوَعِيدِ
وَبَطَلَ نِظَامُ هَذَا الْعَالَمِ لِيَعُودَ فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، وَالْوَاجِبُ مُلَاحَظَتُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، هُوَ تَصَوُّرُ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَسَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.
ثُمَّ بَعْدَ أَنِ امْتَنَّ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْفِرَاشِ وَالْمِهَادِ، وَنِعْمَةِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ كَالْبِنَاءِ، ذَكَرَ نِعْمَةَ الْإِمْدَادِ، الَّذِي تُحْفَظُ بِهِ هَذِهِ الْأَجْسَادُ، وَهِيَ مَادَّةُ الْغِذَاءِ، الَّتِي بِهَا النُّمُوُّ وَالْبَقَاءُ، فَقَالَ: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) الثَّمَرَاتُ: مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّبَاتِ نَجْمًا كَانَ أَوْ شَجَرًا، يُصْلِحُ الزَّارِعُ وَالْغَارِسُ الْأَرْضَ، وَيَبْذُرُ الْبَذْرَ، وَيَغْرِسُ الْفَسِيلَ، وَيَتَعَاهَدُ ذَلِكَ بِالسَّقْيِ وَالْعَزْقِ، فَيَكُونُ لَهُ كَسْبٌ فِي رِزْقِهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ كَسْبٌ فِي إِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي يُسْقَى بِهِ، وَلَا فِي تَغْذِيَةِ النَّبَاتِ بِمَاءِ الْمَطَرِ أَوِ النَّهْرِ الْمُجْتَمِعِ مِنَ الْمَطَرِ، وَبِأَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَعَنَاصِرِهَا الْأُخَرِ، وَلَا فِي تَوَلُّدِ خَلَايَاهُ الَّتِي بِهَا نُمُوُّهُ وَلَا فِي إِثْمَارِهِ إِذَا أَثْمَرَ، إِنَّمَا كُلُّ ذَلِكَ بِيَدِ اللهِ الْقَدِيرِ. فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ لِنَزْدَادَ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِجْلَالًا فَلَا نَعْبُدَ مَعَهُ أَحَدًا.
وَبَعْدَ أَنْ عَرَّفْنَا اللهَ تَعَالَى بِأَنْفُسِنَا، وَبِنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا وَعَلَى سَلَفِنَا. وَبَعْدَ أَنْ عَرَفْنَا ذَاتَهُ الْكَرِيمَةَ بِآثَارِ رَحِمْتِهِ وَمِنَنِهِ الْعَظِيمَةِ، وَصِرْنَا جَدِيرِينَ بِأَنْ نَعْرِفَ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدٌ فَلَا يُعْبَدُ وَأَنَّ الرَّبَّ رَبٌّ فَلَا يُشْرَكُ بِهِ وَلَا يُجْحَدُ، قَالَ تَفْرِيعًا وَتَرْتِيبًا عَلَى مَا سَبَقَ: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) مِنْ سَلَفِكُمُ الْمَخْلُوقِينَ مِثْلَكُمْ تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ وَهُوَ كُلُّ مَا تَعْجِزُونَ عَنْهُ وَلَا يَصِلُ كَسْبُكُمْ إِلَيْهِ، لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ فِي الْخَلْقِ وَالْعُبُودِيَّةِ مِثْلُكُمْ.
الْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ، وَفُسِّرَ بِالشَّرِيكِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْمُضَارِعُ وَالْكُفْءُ يُقَالُ: فُلَانٌ نِدُّ فُلَانٍ وَمِنْ أَنْدَادِ فُلَانٍ، أَيْ يُضَارِعُهُ وَيُمَاثِلُهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الشُّئُونِ. وَالْأَنْدَادُ الَّذِينَ اتُّخِذُوا فِي جَانِبِ اللهِ هُمُ الَّذِينَ خَضَعَ النَّاسُ لَهُمْ وَصَمَدُوا إِلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْحَاجَاتِ، لِمَعْنًى يَعْتَقِدُهُ فِيهِمُ الْخَاضِعُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِتَرْكِ الْأَنْدَادِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَالْعَرَبُ كَانَتْ تُسَمِّي ذَلِكَ الْخُضُوعَ وَالصُّمُودَ عِبَادَةً، إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ وَحْيٌ يَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ فَيَتَحَامَوْا هَذَا اللَّفْظَ " الْعِبَادَةَ " وَيَسْتَبْدِلُوا بِهِ لَفْظَ التَّعْظِيمِ أَوِ التَّوَسُّلِ مَثَلًا تَأْوِيلًا لِظَاهِرِ نَصِّ التَّنْزِيلِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَنْدَادًا وَأَرْبَابًا فَكَانُوا يُؤَوِّلُونَ فَلَا يُسَمُّونَ
هَذَا الِاتِّخَاذَ عِبَادَةً وَلَا أُولَئِكَ الْمُعَظَّمِينَ آلِهَةً أَوْ أَنْدَادًا أَوْ أَرْبَابًا.
وَفَرْقٌ بَيْنَ الِاتِّخَاذِ بِالْفِعْلِ وَالتَّسْمِيَةِ بِالْقَوْلِ. وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللهُ، وَلَا رَازِقَ إِلَّا اللهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُسَمُّونَ دُعَاءَهُمْ غَيْرَ اللهِ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ تَوَسُّلًا وَاسْتِشْفَاعًا، وَيُسَمُّونَ تَشْرِيعَهُمْ
157
لَهُمُ الْعِبَادَاتِ وَتَحْلِيلَهُمْ لَهُمُ الْمُنْكَرَاتِ، وَتَحْرِيمَهُمْ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ، فِقْهًا وَاسْتِنْبَاطًا مِنَ التَّوْرَاةِ، إِلَّا أَنَّ مِنَ النَّصَارَى مَنْ لَا يَتَحَامَوْنَ التَّصْرِيحَ بِعِبَادَةِ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ وَبَعْضِ الْقِدِّيسِينَ اسْتِعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ.
وَصُوَرُ الْعِبَادَةِ تَخْتَلِفُ عِنْدَ الْأُمَمِ اخْتِلَافًا عَظِيمًا، وَأَعْلَاهَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْكَانُ الْخَمْسَةُ وَالدُّعَاءُ. وَقَالُوا: كُلُّ عَمَلٍ مَحْظُورٍ تَحْسُنُ فِيهِ النِّيَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ عِبَادَةٌ، كَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَجْعَلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ عِبَادَةً هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِ، وَلَهَا عِنْدُ أَهْلِ الْكِتَابِ صُوَرٌ أُخْرَى، وَالْمُؤَوِّلُونَ يَخُصُّونَ هَذِهِ الصُّوَرَ بِاللهِ تَعَالَى، وَإِذَا ابْتَدَعُوا صُورَةً فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ يُسَمُّونَهَا بَاسِمٍ آخَرَ يَسْتَحِلُّونَهَا بَلْ يَسْتَحِبُّونَهَا بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ بِالتَّسْمِيَةِ أَوِ التَّأْوِيلِ عَنْ حَيِّزِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا كَمَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (٩: ٣١) وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ سِوَى التَّوَسُّلِ بِهِمْ وَالْأَخْذِ فِي الدِّينِ بِقَوْلِهِمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ بِدُونِ فَهْمٍ لِمَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ الْوَحْيِ، كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقُدَمَاءُ الْفُرْسِ جَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، فَقَالُوا: إِنَّ لِلْخَيْرِ إِلَهًا هُوَ الْإِلَهُ الْأَوَّلُ. وَإِنَّ لِلشَّرِّ إِلَهًا يُضَادُّهُ، وَلَيْسَ النَّهْيُ فِي الْآيَةِ عَنْ هَذَا النِّدِّ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يَدِينُونَ بِهِ كَمَا قُلْنَا وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ.
لِذَلِكَ وَصَلَ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ لِأَنَّكُمْ إِذَا سُئِلْتُمْ: مَنْ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ؟ تَقُولُونَ اللهُ، وَإِذَا سُئِلْتُمْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ تَقُولُونَ: اللهُ. فَلِمَاذَا تَسْتَغِيثُونَ إِذَنْ بِغَيْرِ اللهِ وَتَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتُمْ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَادَّعَيْتُمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُكُمْ عِنْدَ اللهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ جَاءَكُمْ أَنَّ التَّقَرُّبَ وَالتَّوَسُّلَ إِلَى اللهِ يَكُونُ بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ حَتَّى قُلْتُمْ: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ) (٣٩: ٣).
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ وَسَائِطَكُمْ وَشُفَعَاءَكُمْ،
وَأَعَدَّكُمْ جَمِيعًا لِلتَّقْوَى الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَسَاوَى بَيْنَكُمْ فِي أَنْوَاعِ الْمَوَاهِبِ إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - بِالْوَحْيِ لِيُعَلِّمُوكُمْ مَا أَخْطَأَ نَظَرُكُمْ وَرَأْيُكُمْ فِيهِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَهْتَدُوا بِمَا جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّ صَدَّ الْمَرْءُوسِينَ عَنْ تَرْكِ تَقَالِيدِهِمْ وَاتِّبَاعِ الْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهِ وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهُ خَوَّفَهُمُ الرُّؤَسَاءَ.
فَقَدْ آثَرُوا رُؤَسَاءَهُمْ عَلَى اللهِ وَجَعَلُوهُمْ لَهُ أَنْدَادًا، وَإِنَّ صَدَّ الرُّؤَسَاءِ عَنْ هَذَا الِاتِّبَاعِ تَوَقُّعُ زَوَالِ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَاهِ لَدَى الْمَرْءُوسِينَ فَقَدِ اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا، فَالنِّدُّ: هُوَ الْمُكَافِئُ وَالْمِثْلُ، وَأَنْتُمْ بِتَرْكِكُمُ الْحَقَّ لِخَوْفِهِمْ وَرَجَائِهِمْ تُفَضِّلُونَهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَتَجْعَلُونَهُ أَقَلَّ الْأَنْدَادِ تَعْظِيمًا، فَفِرُّوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - إِلَى اللهِ، وَلَا تَخَافُوا غَيْرَهُ وَلَا تَرْجُوا سِوَاهُ، فَعَارٌ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ اللهَ أَنْ يُؤْثِرَ رِضَاءَ أَحَدٍ عَلَى رِضَاهُ، لَا فَرْقَ بَيْنَ رَئِيسٍ وَمَرْءُوسٍ، وَتَابِعٍ وَمَتْبُوعٍ، بَلْ هَذَا لَا يَقَعُ مِنْ مُؤْمِنٍ حَقِيقِيٍّ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣: ١٧٥).
وَصُوَرُ الْعِبَادَةِ تَخْتَلِفُ عِنْدَ الْأُمَمِ اخْتِلَافًا عَظِيمًا، وَأَعْلَاهَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْكَانُ الْخَمْسَةُ وَالدُّعَاءُ. وَقَالُوا: كُلُّ عَمَلٍ مَحْظُورٍ تَحْسُنُ فِيهِ النِّيَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ عِبَادَةٌ، كَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَجْعَلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ عِبَادَةً هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِ، وَلَهَا عِنْدُ أَهْلِ الْكِتَابِ صُوَرٌ أُخْرَى، وَالْمُؤَوِّلُونَ يَخُصُّونَ هَذِهِ الصُّوَرَ بِاللهِ تَعَالَى، وَإِذَا ابْتَدَعُوا صُورَةً فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ يُسَمُّونَهَا بَاسِمٍ آخَرَ يَسْتَحِلُّونَهَا بَلْ يَسْتَحِبُّونَهَا بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ بِالتَّسْمِيَةِ أَوِ التَّأْوِيلِ عَنْ حَيِّزِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا كَمَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (٩: ٣١) وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ سِوَى التَّوَسُّلِ بِهِمْ وَالْأَخْذِ فِي الدِّينِ بِقَوْلِهِمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ بِدُونِ فَهْمٍ لِمَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ الْوَحْيِ، كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقُدَمَاءُ الْفُرْسِ جَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، فَقَالُوا: إِنَّ لِلْخَيْرِ إِلَهًا هُوَ الْإِلَهُ الْأَوَّلُ. وَإِنَّ لِلشَّرِّ إِلَهًا يُضَادُّهُ، وَلَيْسَ النَّهْيُ فِي الْآيَةِ عَنْ هَذَا النِّدِّ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يَدِينُونَ بِهِ كَمَا قُلْنَا وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ.
لِذَلِكَ وَصَلَ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ لِأَنَّكُمْ إِذَا سُئِلْتُمْ: مَنْ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ؟ تَقُولُونَ اللهُ، وَإِذَا سُئِلْتُمْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ تَقُولُونَ: اللهُ. فَلِمَاذَا تَسْتَغِيثُونَ إِذَنْ بِغَيْرِ اللهِ وَتَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتُمْ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَادَّعَيْتُمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُكُمْ عِنْدَ اللهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ جَاءَكُمْ أَنَّ التَّقَرُّبَ وَالتَّوَسُّلَ إِلَى اللهِ يَكُونُ بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ حَتَّى قُلْتُمْ: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ) (٣٩: ٣).
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ وَسَائِطَكُمْ وَشُفَعَاءَكُمْ،
وَأَعَدَّكُمْ جَمِيعًا لِلتَّقْوَى الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَسَاوَى بَيْنَكُمْ فِي أَنْوَاعِ الْمَوَاهِبِ إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - بِالْوَحْيِ لِيُعَلِّمُوكُمْ مَا أَخْطَأَ نَظَرُكُمْ وَرَأْيُكُمْ فِيهِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَهْتَدُوا بِمَا جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّ صَدَّ الْمَرْءُوسِينَ عَنْ تَرْكِ تَقَالِيدِهِمْ وَاتِّبَاعِ الْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهِ وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهُ خَوَّفَهُمُ الرُّؤَسَاءَ.
فَقَدْ آثَرُوا رُؤَسَاءَهُمْ عَلَى اللهِ وَجَعَلُوهُمْ لَهُ أَنْدَادًا، وَإِنَّ صَدَّ الرُّؤَسَاءِ عَنْ هَذَا الِاتِّبَاعِ تَوَقُّعُ زَوَالِ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَاهِ لَدَى الْمَرْءُوسِينَ فَقَدِ اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا، فَالنِّدُّ: هُوَ الْمُكَافِئُ وَالْمِثْلُ، وَأَنْتُمْ بِتَرْكِكُمُ الْحَقَّ لِخَوْفِهِمْ وَرَجَائِهِمْ تُفَضِّلُونَهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَتَجْعَلُونَهُ أَقَلَّ الْأَنْدَادِ تَعْظِيمًا، فَفِرُّوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - إِلَى اللهِ، وَلَا تَخَافُوا غَيْرَهُ وَلَا تَرْجُوا سِوَاهُ، فَعَارٌ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ اللهَ أَنْ يُؤْثِرَ رِضَاءَ أَحَدٍ عَلَى رِضَاهُ، لَا فَرْقَ بَيْنَ رَئِيسٍ وَمَرْءُوسٍ، وَتَابِعٍ وَمَتْبُوعٍ، بَلْ هَذَا لَا يَقَعُ مِنْ مُؤْمِنٍ حَقِيقِيٍّ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣: ١٧٥).
158
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)
قُلْنَا: إِنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَتَفْصِيلِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْإِيمَانِ بِهِ، وَعَدَمِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَالْآيَاتُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَحَبَّاتٍ مِنَ الْجَوْهَرِ نُظِمَتْ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ وَعَلَامَاتِهِمْ، وَبَيْنَ خَصَائِصِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، وَذَكَرَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَى عَنْ جَلِيَّةِ الْحَقِّ الْمُبِينِ وَمَا رُزِئُوا بِهِ مِنَ الصَّمَمِ الْمَعْنَوِيِّ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنَ الْبُكْمِ بِالنِّسْبَةِ لِقَوْلِ الْحَقِّ أَوْ سُؤَالِ الْمُرْشِدِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ فَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، وَذَكَرَ فِرَقَهُمْ وَأَصْنَافَهُمْ، وَبَيَّنَ خَلَائِقَهُمْ وَأَوْصَافَهُمْ، وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ، وَنَضَلَهُمْ فِي مَيْدَانِ الْجِدَالِ بِسِهَامِ الْحُجَجِ النَّافِذَةِ وَسُيُوفِ
الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ تَحَدَّاهُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، وَيُنَاضِلُ عَنْهُ وَيُكَافِحُ دُونَهُ (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) فَقَالَ:
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أَيْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ - بَعْدَ أَنْ تَنْسَلُّوا مِنْ مَضَايِقِ الْوَسَاوِسِ، وَتَتَسَلَّلُوا مِنْ مَآزِقِ الْهَوَاجِسِ وَتَنْزِعُوا مَا طَوَّقَكُمْ بِهِ التَّقْلِيدُ مِنَ الْقَلَائِدِ، وَتَكْسِرُوا مَقَاطِرَ مَا وَرِثْتُمْ مِنَ الْعَوَائِدِ - أَنْ تُهْرَعُوا إِلَى الْحَقِّ فَتَطْلُبُوهُ بِبُرْهَانِهِ، وَأَنْ تُبَادِرُوا إِلَى مَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ فَتَأْخُذُوهُ بِرُبَّانِهِ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمُ الْحَقُّ بِذَاتِهِ، فَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ أَظْهَرِ آيَاتِهِ، وَهِيَ عَجْزُكُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ رَجُلٍ أُمِّيٍّ مِثْلِ الَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ، وَهُوَ عَبْدُنَا وَرَسُولُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ تُسَاوِي سُورَةً فِي هِدَايَتِهَا، وَتُضَارِعُهَا فِي أُسْلُوبِهَا وَبَلَاغَتِهَا - وَأَنْتُمْ فُرْسَانُ الْبَلَاغَةِ، وَعَصْرُكُمْ أَرْقَى عُصُورِ الْفَصَاحَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ كَثِيرُونَ مِنْكُمْ بِالسَّبْقِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ يُسَابِقُكُمْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْبُرْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَمَرَّنْ عَلَيْهِ أَوْ يَتَكَلَّفْهُ لِمُبَارَاةِ أَهْلِهِ - فَاعْلَمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَعْجَزَكُمْ بَعْدَ سَبْقِكُمْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِوَحْيٍ إِلَهِيٍّ، وَإِمْدَادٍ سَمَاوِيٍّ، لَمْ يَسْمُ عَقْلُهُ إِلَى عِلْمِهِ، وَلَا بَيَانُهُ إِلَى أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ.
قُلْنَا: إِنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَتَفْصِيلِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْإِيمَانِ بِهِ، وَعَدَمِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَالْآيَاتُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَحَبَّاتٍ مِنَ الْجَوْهَرِ نُظِمَتْ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ وَعَلَامَاتِهِمْ، وَبَيْنَ خَصَائِصِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، وَذَكَرَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَى عَنْ جَلِيَّةِ الْحَقِّ الْمُبِينِ وَمَا رُزِئُوا بِهِ مِنَ الصَّمَمِ الْمَعْنَوِيِّ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنَ الْبُكْمِ بِالنِّسْبَةِ لِقَوْلِ الْحَقِّ أَوْ سُؤَالِ الْمُرْشِدِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ فَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، وَذَكَرَ فِرَقَهُمْ وَأَصْنَافَهُمْ، وَبَيَّنَ خَلَائِقَهُمْ وَأَوْصَافَهُمْ، وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ، وَنَضَلَهُمْ فِي مَيْدَانِ الْجِدَالِ بِسِهَامِ الْحُجَجِ النَّافِذَةِ وَسُيُوفِ
الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ تَحَدَّاهُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، وَيُنَاضِلُ عَنْهُ وَيُكَافِحُ دُونَهُ (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) فَقَالَ:
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أَيْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ - بَعْدَ أَنْ تَنْسَلُّوا مِنْ مَضَايِقِ الْوَسَاوِسِ، وَتَتَسَلَّلُوا مِنْ مَآزِقِ الْهَوَاجِسِ وَتَنْزِعُوا مَا طَوَّقَكُمْ بِهِ التَّقْلِيدُ مِنَ الْقَلَائِدِ، وَتَكْسِرُوا مَقَاطِرَ مَا وَرِثْتُمْ مِنَ الْعَوَائِدِ - أَنْ تُهْرَعُوا إِلَى الْحَقِّ فَتَطْلُبُوهُ بِبُرْهَانِهِ، وَأَنْ تُبَادِرُوا إِلَى مَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ فَتَأْخُذُوهُ بِرُبَّانِهِ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمُ الْحَقُّ بِذَاتِهِ، فَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ أَظْهَرِ آيَاتِهِ، وَهِيَ عَجْزُكُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ رَجُلٍ أُمِّيٍّ مِثْلِ الَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ، وَهُوَ عَبْدُنَا وَرَسُولُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ تُسَاوِي سُورَةً فِي هِدَايَتِهَا، وَتُضَارِعُهَا فِي أُسْلُوبِهَا وَبَلَاغَتِهَا - وَأَنْتُمْ فُرْسَانُ الْبَلَاغَةِ، وَعَصْرُكُمْ أَرْقَى عُصُورِ الْفَصَاحَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ كَثِيرُونَ مِنْكُمْ بِالسَّبْقِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ يُسَابِقُكُمْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْبُرْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَمَرَّنْ عَلَيْهِ أَوْ يَتَكَلَّفْهُ لِمُبَارَاةِ أَهْلِهِ - فَاعْلَمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَعْجَزَكُمْ بَعْدَ سَبْقِكُمْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِوَحْيٍ إِلَهِيٍّ، وَإِمْدَادٍ سَمَاوِيٍّ، لَمْ يَسْمُ عَقْلُهُ إِلَى عِلْمِهِ، وَلَا بَيَانُهُ إِلَى أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ.
159
وَعَبَّرَ عَنْ كَوْنِ الرَّيْبِ بِـ ((إِنَّ)) لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِ هَذَا التَّنْزِيلِ أَنْ لَا يُرْتَابَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ ظَاهِرٌ بِذَاتِهِ، يَتَلَأْلَأُ نُورُهُ فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ، وَلَكِنْ:
وَالتَّنْزِيلُ: مِنْ مَادَّةِ النُّزُولِ كَالْإِنْزَالِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، إِلَّا أَنَّ صِيغَةَ ((التَّفْعِيلِ)) الدَّالَّةَ عَلَى التَّدْرِيجِ أَوِ التَّكْثِيرِ تُفِيدُ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ نُجُومًا مُتَفَرِّقَةً وَهُوَ الْوَاقِعُ، وَصِيغَةُ أَنْزَلَ لَا تُنَافِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ مِثْلِهِ) فِيهِ وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الضَّمِيرَ فِي ((مِثْلِهِ)) لِلْقُرْآنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (مِمَّا نَزَّلْنَا).
(وَالثَّانِي) أَنَّهُ لِعَبْدِنَا، قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ أَرْجَحُ، بِدَلِيلِ " مِنَ " الدَّاخِلَةِ عَلَى " مِثْلِهِ " الدَّالَّةِ عَلَى النُّشُوءِ، أَيْ فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُمَاثِلُ الرَّسُولَ بِالْأُمِّيَّةِ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ فَلْيَفْعَلْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ) الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ هُمْ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ، أَيِ ادْعُوا كُلَّ مَنْ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ لِيَشْهَدَ لَكُمْ (مِنْ دُونِ اللهِ) أَوِ ادْعُوَا كُلَّ أَحَدٍ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى لِيُؤَيِّدَ دَعْوَاكُمْ، كَمَا أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى دَعْوَةَ عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَانْظُرُوا هَلْ يُغْنِيكُمْ دُعَاؤُكُمْ شَيْئًا (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فِي دَعْوَاكُمْ (أَنَّ عِنْدَكُمْ فِيهِ رَيْبًا، وَإِنَّمَا يَصْدُقُ الْمُرْتَابُ فِي رَيْبِهِ إِذَا خَفِيَتِ الْحُجَّةُ، وَغَلَبَتِ الشُّبْهَةُ، وَكَانَ جَادًّا فِي النَّظَرِ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ صَدَقْتُمْ فِي أَنَّكُمْ مُرْتَابُونَ فَلَدَيْكُمْ مَا يُمَحِّصُ الْحَقَّ فَجِدُّوا فِي الْفِكْرِ، وَلَا تَتَوَانَوْا فِي النَّظَرِ، وَتَدَبَّرُوا هَذَا الْكِتَابَ، وَهَا هُوَ ذَا مَعْرُوضٌ عَلَيْكُمْ، وَائْتُوا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ هَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ، فَإِذَا أَمْكَنَ لَكُمْ ذَلِكَ فَلِخَاطِرِ الرَّيْبِ أَنْ يَمُرَّ بِنُفُوسِكُمْ، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ إِعْرَاضِكُمْ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ تَلْبِيَتِهِ؟).
(أَقُولُ) : هَذَا مُحَصِّلُ سِيَاقِ الْأُسْتَاذِ فِي الدَّرْسِ، وَقَدْ قَرَأَهُ بَعْدَ كِتَابَتِنَا لَهُ، وَكَتَبَ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ لِإِيضَاحِهِ بِخَطِّهِ بَعْدَ طَبْعِ التَّفْسِيرِ فِي الْمَنَارِ، وَتَرْجِيحُهُ كَوْنَ الضَّمِيرِ فِي مِثَالِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصٌّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْعَجْزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ الْأُمِّيِّينَ، وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ، لِمُوَافَقَةِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى فِي هَذَا التَّحَدِّي.
وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (١٧: ٨٨)
| إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ | فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ مِثْلِهِ) فِيهِ وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الضَّمِيرَ فِي ((مِثْلِهِ)) لِلْقُرْآنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (مِمَّا نَزَّلْنَا).
(وَالثَّانِي) أَنَّهُ لِعَبْدِنَا، قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ أَرْجَحُ، بِدَلِيلِ " مِنَ " الدَّاخِلَةِ عَلَى " مِثْلِهِ " الدَّالَّةِ عَلَى النُّشُوءِ، أَيْ فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُمَاثِلُ الرَّسُولَ بِالْأُمِّيَّةِ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ فَلْيَفْعَلْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ) الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ هُمْ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ، أَيِ ادْعُوا كُلَّ مَنْ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ لِيَشْهَدَ لَكُمْ (مِنْ دُونِ اللهِ) أَوِ ادْعُوَا كُلَّ أَحَدٍ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى لِيُؤَيِّدَ دَعْوَاكُمْ، كَمَا أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى دَعْوَةَ عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَانْظُرُوا هَلْ يُغْنِيكُمْ دُعَاؤُكُمْ شَيْئًا (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فِي دَعْوَاكُمْ (أَنَّ عِنْدَكُمْ فِيهِ رَيْبًا، وَإِنَّمَا يَصْدُقُ الْمُرْتَابُ فِي رَيْبِهِ إِذَا خَفِيَتِ الْحُجَّةُ، وَغَلَبَتِ الشُّبْهَةُ، وَكَانَ جَادًّا فِي النَّظَرِ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ صَدَقْتُمْ فِي أَنَّكُمْ مُرْتَابُونَ فَلَدَيْكُمْ مَا يُمَحِّصُ الْحَقَّ فَجِدُّوا فِي الْفِكْرِ، وَلَا تَتَوَانَوْا فِي النَّظَرِ، وَتَدَبَّرُوا هَذَا الْكِتَابَ، وَهَا هُوَ ذَا مَعْرُوضٌ عَلَيْكُمْ، وَائْتُوا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ هَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ، فَإِذَا أَمْكَنَ لَكُمْ ذَلِكَ فَلِخَاطِرِ الرَّيْبِ أَنْ يَمُرَّ بِنُفُوسِكُمْ، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ إِعْرَاضِكُمْ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ تَلْبِيَتِهِ؟).
(أَقُولُ) : هَذَا مُحَصِّلُ سِيَاقِ الْأُسْتَاذِ فِي الدَّرْسِ، وَقَدْ قَرَأَهُ بَعْدَ كِتَابَتِنَا لَهُ، وَكَتَبَ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ لِإِيضَاحِهِ بِخَطِّهِ بَعْدَ طَبْعِ التَّفْسِيرِ فِي الْمَنَارِ، وَتَرْجِيحُهُ كَوْنَ الضَّمِيرِ فِي مِثَالِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصٌّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْعَجْزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ الْأُمِّيِّينَ، وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ، لِمُوَافَقَةِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى فِي هَذَا التَّحَدِّي.
وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (١٧: ٨٨)
160
ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَهَا آيَةُ يُونُسَ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَائْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوَا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (١٠: ٣٨) ثُمَّ آيَةُ هُودٍ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَائْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ وَادْعُوَا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١١: ١٣) وَهَذِهِ السُّوَرُ الثَّلَاثُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ مُتَتَابِعَاتٍ كَمَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَلَكِنْ فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ يُونُسَ مَدَنِيَّةٌ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى هِيَ الْمُوَافَقَةُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِأُسْلُوبِهَا فَإِنَّهُ أُسْلُوبُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَحَدَّى النَّاسَ أَوَّلًا بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ فِي آيَةِ الْإِسْرَاءِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ هُودٍ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ يُونُسَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ مَعْقُولٌ لَوْ سَاعَدَ عَلَيْهِ تَارِيخُ النُّزُولِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّحَدِّيَ فِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَهُودٍ خَاصٌّ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْبَارِ كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عِلْمٌ بِهَا وَلَا قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) (١١: ٤٩) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ) (٢٨: ٤٤) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ ٤٦، وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عَقِبَ قِصَّةِ مَرْيَمَ: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (٣: ٤٤) الْآيَةَ.
وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرِيَاتٍ دُونَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، هُوَ إِرَادَةُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ بِأَسَالِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَإِزَالَةِ شُبْهَةٍ تَخْطُرُ بِالْبَالِ، بَلْ بَعْضُ النَّاسِ أَوْرَدَهَا عَلَى الْإِعْجَازِ بِالْبَلَاغَةِ وَالْأُسْلُوبِ، وَهِيَ أَنَّ الْجُمْلَةَ أَوِ السُّورَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقِصَّةِ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي اللُّغَةِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تُؤَدِّي الْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةٌ مِنْهَا يَنْتَهِي إِلَيْهَا حُسْنُ الْبَيَانِ، مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَفْظِيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ يَحِلُّ بِالْفَهْمِ أَوِ التَّأْثِيرِ الْمَطْلُوبِ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَعْجَزَ غَيْرَهُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّ تَأْلِيفَ الْكَلَامِ فِي اللُّغَةِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ. وَمِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي وَضَّحُوا بِهَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) قَالُوا إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَحْتَمِلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِضْعَةُ تَرَاكِيبَ أَفْصَحُهَا وَأَبْلَغُهَا وَأَسْلَمُهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْإِبْهَامِ تَرْكِيبُ
الْآيَةِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ عَبَّرَ عَنْ بَعْضِ الْمَعَانِي وَبَعْضِ الْقِصَصِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَالتَّحَدِّي بِمِثْلِهِ لَا يَظْهَرُ فِي قِصَّةٍ مُخْتَرَعَةٍ مُفْتَرَاةٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ وَتَرَاكِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَمَا نَرَى فِي سُورَةٍ فَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي هِدَايَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا وَأُسْلُوبِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ وَالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ،
دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١١: ١٣) وَهَذِهِ السُّوَرُ الثَّلَاثُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ مُتَتَابِعَاتٍ كَمَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَلَكِنْ فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ يُونُسَ مَدَنِيَّةٌ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى هِيَ الْمُوَافَقَةُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِأُسْلُوبِهَا فَإِنَّهُ أُسْلُوبُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَحَدَّى النَّاسَ أَوَّلًا بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ فِي آيَةِ الْإِسْرَاءِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ هُودٍ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ يُونُسَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ مَعْقُولٌ لَوْ سَاعَدَ عَلَيْهِ تَارِيخُ النُّزُولِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّحَدِّيَ فِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَهُودٍ خَاصٌّ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْبَارِ كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عِلْمٌ بِهَا وَلَا قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) (١١: ٤٩) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ) (٢٨: ٤٤) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ ٤٦، وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عَقِبَ قِصَّةِ مَرْيَمَ: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (٣: ٤٤) الْآيَةَ.
وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرِيَاتٍ دُونَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، هُوَ إِرَادَةُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ بِأَسَالِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَإِزَالَةِ شُبْهَةٍ تَخْطُرُ بِالْبَالِ، بَلْ بَعْضُ النَّاسِ أَوْرَدَهَا عَلَى الْإِعْجَازِ بِالْبَلَاغَةِ وَالْأُسْلُوبِ، وَهِيَ أَنَّ الْجُمْلَةَ أَوِ السُّورَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقِصَّةِ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي اللُّغَةِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تُؤَدِّي الْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةٌ مِنْهَا يَنْتَهِي إِلَيْهَا حُسْنُ الْبَيَانِ، مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَفْظِيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ يَحِلُّ بِالْفَهْمِ أَوِ التَّأْثِيرِ الْمَطْلُوبِ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَعْجَزَ غَيْرَهُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّ تَأْلِيفَ الْكَلَامِ فِي اللُّغَةِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ. وَمِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي وَضَّحُوا بِهَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) قَالُوا إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَحْتَمِلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِضْعَةُ تَرَاكِيبَ أَفْصَحُهَا وَأَبْلَغُهَا وَأَسْلَمُهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْإِبْهَامِ تَرْكِيبُ
الْآيَةِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ عَبَّرَ عَنْ بَعْضِ الْمَعَانِي وَبَعْضِ الْقِصَصِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَالتَّحَدِّي بِمِثْلِهِ لَا يَظْهَرُ فِي قِصَّةٍ مُخْتَرَعَةٍ مُفْتَرَاةٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ وَتَرَاكِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَمَا نَرَى فِي سُورَةٍ فَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي هِدَايَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا وَأُسْلُوبِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ وَالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ،
161
كَأَنَّهُ يَقُولُ أَدَعُ لَكُمْ مَا فِي سُورِ الْقَصَصِ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ، وَأَتَحَدَّاكُمْ أَنْتُمْ وَسَائِرَ الَّذِينَ تَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِعَانَةَ بِهِمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهَا، مَعَ السَّمَاحِ لَكُمْ بِجَعْلِهَا قَصَصًا مُفْتَرَاةً مِنْ حَيْثُ مَوْضُوعُهَا، فَإِنْ جِئْتُمْ بِهِ مِثْلَ سُوَرِهِ الْقَصَصِيَّةِ فِي سَائِرِ مَزَايَاهَا اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، فَأَنَا أَعْتَرِفُ لَكُمْ بِدَحْضِ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ.
وَأَمَّا اكْتِفَاؤُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ بَعْدَهَا بِالتَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ " افْتَرَاهُ " فَلِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِكَوْنِهَا مُفْتَرَاةً، لَا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ بِالْوَاحِدَةِ بَعْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْعَشْرِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ خَبَرُ الْغَيْبِ وَالْتِزَامُ الصِّدْقِ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِذَاتِهِ فِي جُمْلَتِهِ، وَالتَّحَدِّيَ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ فِي عَشْرِ سُورٍ مِثْلِهِ، وَبِسُورَةٍ مِثْلِهِ، كِلَاهُمَا ثَابِتٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَتِهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَلَمَّا كَانَ كُفَّارُ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الِاحْتِجَاجُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ هُمُ الْيَهُودُ - وَهُمْ يَعُدُّونَ أَخْبَارَ الرُّسُلِ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ - تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمِّيَّتِهِ، لِيَشْمَلَ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ مَعَ بَقَاءِ التَّحَدِّي الْمُطْلَقِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِ مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَيَأْتِي بَحْثُ وُجُوهِ هَذَا الْإِعْجَازِ قَرِيبًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) إِلَخْ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَتَجْتَثُّوا دَلِيلَهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَمَا أَنْتُمْ بِفَاعِلِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي طَاقَةِ الْمَخْلُوقِينَ، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ، الَّذِينَ يَجْحَدُونَ الْحَقَّ بَعْدَ الْبُرْهَانِ الْمُبِينِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَهِيَ مَقْصُودَةٌ هُنَا فِي ذَاتِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ تَقْوِيَةِ الدَّلِيلِ وَتَقْرِيرِ عَجْزِهِمْ بِمَا يُثِيرُ حَمِيَّتِهِمْ وَيُغْرِيهِمْ بِتَكَلُّفِ الْمُعَارَضَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِثْلُ هَذَا النَّفْيِ الِاسْتِقْبَالِيِّ الْمُؤَكَّدِ أَوِ الْمُؤَبَّدِ مِنْ عَاقِلٍ كَالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَمْرٍ مُمْكِنٍ عَقْلًا لَوْلَا أَنْ أَنْطَقَهُ اللهُ الَّذِي خَصَّهُ بِالْوَحْيِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَحَدٍ.
وَعَبَّرَ عَنْ نَفْيِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ بِـ " إِنِ " الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا يُشَكُّ فِي شَرْطِهِ، أَوْ يَجْزِمُ الْمُتَكَلِّمُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ هُنَا بِـ " إِذَا " لِأَنَّ الْمُحَقَّقَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّكِّ، وَلَكِنَّ الْقَوَاعِدَ الَّتِي تُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ قَدْ يُنْظَرُ فِيهَا إِلَى حَالِ الْمُخَاطَبِ لَا حَالِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُوَ مَا يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَبْلُغَهُ مِنْ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ وَيُودِعَهُ فِي ذِهْنِهِ، فَهَاهُنَا يُخَاطِبُ اللهُ الْمُرْتَابِينَ، وَالَّذِينَ هُمْ فِي جُحُودِهِمْ وَعِنَادِهِمْ كَالْوَاثِقِينَ الْمُوقِنِينَ، خِطَابًا يُؤْذِنُ أَوَّلُهُ بِأَنَّ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِمَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَازِمُهُ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ جَائِزَةٌ مِنْهُمْ، وَدَاخِلَةٌ فِي حُدُودِ إِمْكَانِهِمْ، خَاطَبَهُمْ بِهَذَا مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ حَالِهِمُ الَّتِي تُومِئُ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ، وَتُشِيرُ إِلَى إِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِالسُّورَةِ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى هَذَا الْإِيذَانِ
وَأَمَّا اكْتِفَاؤُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ بَعْدَهَا بِالتَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ " افْتَرَاهُ " فَلِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِكَوْنِهَا مُفْتَرَاةً، لَا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ بِالْوَاحِدَةِ بَعْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْعَشْرِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ خَبَرُ الْغَيْبِ وَالْتِزَامُ الصِّدْقِ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِذَاتِهِ فِي جُمْلَتِهِ، وَالتَّحَدِّيَ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ فِي عَشْرِ سُورٍ مِثْلِهِ، وَبِسُورَةٍ مِثْلِهِ، كِلَاهُمَا ثَابِتٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَتِهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَلَمَّا كَانَ كُفَّارُ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الِاحْتِجَاجُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ هُمُ الْيَهُودُ - وَهُمْ يَعُدُّونَ أَخْبَارَ الرُّسُلِ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ - تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمِّيَّتِهِ، لِيَشْمَلَ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ مَعَ بَقَاءِ التَّحَدِّي الْمُطْلَقِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِ مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَيَأْتِي بَحْثُ وُجُوهِ هَذَا الْإِعْجَازِ قَرِيبًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) إِلَخْ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَتَجْتَثُّوا دَلِيلَهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَمَا أَنْتُمْ بِفَاعِلِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي طَاقَةِ الْمَخْلُوقِينَ، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ، الَّذِينَ يَجْحَدُونَ الْحَقَّ بَعْدَ الْبُرْهَانِ الْمُبِينِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَهِيَ مَقْصُودَةٌ هُنَا فِي ذَاتِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ تَقْوِيَةِ الدَّلِيلِ وَتَقْرِيرِ عَجْزِهِمْ بِمَا يُثِيرُ حَمِيَّتِهِمْ وَيُغْرِيهِمْ بِتَكَلُّفِ الْمُعَارَضَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِثْلُ هَذَا النَّفْيِ الِاسْتِقْبَالِيِّ الْمُؤَكَّدِ أَوِ الْمُؤَبَّدِ مِنْ عَاقِلٍ كَالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَمْرٍ مُمْكِنٍ عَقْلًا لَوْلَا أَنْ أَنْطَقَهُ اللهُ الَّذِي خَصَّهُ بِالْوَحْيِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَحَدٍ.
وَعَبَّرَ عَنْ نَفْيِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ بِـ " إِنِ " الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا يُشَكُّ فِي شَرْطِهِ، أَوْ يَجْزِمُ الْمُتَكَلِّمُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ هُنَا بِـ " إِذَا " لِأَنَّ الْمُحَقَّقَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّكِّ، وَلَكِنَّ الْقَوَاعِدَ الَّتِي تُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ قَدْ يُنْظَرُ فِيهَا إِلَى حَالِ الْمُخَاطَبِ لَا حَالِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُوَ مَا يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَبْلُغَهُ مِنْ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ وَيُودِعَهُ فِي ذِهْنِهِ، فَهَاهُنَا يُخَاطِبُ اللهُ الْمُرْتَابِينَ، وَالَّذِينَ هُمْ فِي جُحُودِهِمْ وَعِنَادِهِمْ كَالْوَاثِقِينَ الْمُوقِنِينَ، خِطَابًا يُؤْذِنُ أَوَّلُهُ بِأَنَّ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِمَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَازِمُهُ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ جَائِزَةٌ مِنْهُمْ، وَدَاخِلَةٌ فِي حُدُودِ إِمْكَانِهِمْ، خَاطَبَهُمْ بِهَذَا مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ حَالِهِمُ الَّتِي تُومِئُ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ، وَتُشِيرُ إِلَى إِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِالسُّورَةِ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى هَذَا الْإِيذَانِ
162
بَلِ الْإِيهَامِ بِالنَّقْضِ بِلَا تَلَبُّثٍ وَلَا تَرَيُّثٍ، وَأَبْطَلَ مُرَاعَاةَ الظَّاهِرِ بَلْ حَوَّلَهَا إِلَى تَهَكُّمٍ بِالنَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ الَّذِي ذَهَبَ بِذَلِكَ الذَّمَاءِ، وَاسْتَبْدَلَ الْيَأْسَ بِالرَّجَاءِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ إِعْرَاضَكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، بَعْدَ سَمَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ، الَّذِي أَفَاضَ الْعُلُومَ عَلَى أُمِّيٍّ لَمْ يَتَرَبَّ فِي مَعَاهِدِ الْعِلْمِ، وَأَظْهَرَ مُعْجِزَاتِ الْبَلَاغَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ مِنْهُ التَّبْرِيزُ بِهَا فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّكُمْ تَدَّعُونَ اسْتِطَاعَةَ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَمَا أَنْتُمْ بِمُسْتَطِيعِينَ، وَلَوِ اسْتَعَنْتُمْ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا).
كَانَ يَتَحَدَّاهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ الصَّادِعَةِ الَّتِي تُثِيرُ النَّخْوَةَ، وَتُهَيِّجُ الْغَيْرَةَ مَعَ عُلُوِّ كَعْبِهِمْ فِي الْبَلَاغَةِ وَرُسُوخِ عِرْقِهِمْ فِي أَسَالِيبِهَا وَفُنُونِهَا، فِي عَصْرٍ ارْتَقَتْ فِيهِ دَوْلَةُ الْكَلَامِ ارْتِقَاءً لَمْ تَعْرِفْ مِثْلَهُ الْأَيَّامُ، حَتَّى كَانُوا يَتَبَارَوْنَ فِيهِ وَيَتَنَافَسُونَ، وَيُبَاهُونَ وَيُفَاخِرُونَ، وَيَعْقِدُونَ لِذَلِكَ الْمَجَامِعَ وَيُقِيمُونَ الْأَسْوَاقَ، ثُمَّ يَطِيرُونَ بِأَخْبَارِهَا فِي الْآفَاقِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَتَصَدَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِلْمُعَارَضَةِ، وَلَمْ يَنْهَضْ بَلِيغٌ
مِنْ مَصَاقِعِهِمْ إِلَى الْمُنَاهَضَةِ (أَقُولُ) بَلْ تَوَاتَرَ عَنْهُمْ مَا كَانَ ((مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِأَسَلَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَالْفَزَعِ إِلَى الْمُقَارَعَةِ بِأَسِنَّةٍ أَسَلِهِمْ)) وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ بِأَسْيَافِهِمْ، وَتَخْرِيبِ بُيُوتِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، أَفَلَمْ يَكُنِ الْأَجْدَرُ بِمَدَارِهِ قُرَيْشٍ وَفُحُولِهَا، غُرَرِ بَنِي مَعَدٍّ وَحُجُولِهَا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَأْلِيفِ سُورَةٍ بِبَلَاغَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَبَارَوْنَ فِيهَا بِسُوقِ عُكَاظَ وَغَيْرِهَا مِنْ مَجَامِعِ مُفَاخَرَاتِهِمْ، وَيُؤْثِرُوا هَذَا عَلَى سَوْقِ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْخَمِيسِ مِنْ صَنَادِيدِهِمْ إِلَى يَثْرِبَ لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ آمَنَ بِهِ " رَضِيَ اللهُ عَنْهُ " فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَوَرَاءَ الْخَنْدَقِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَطَاعًا لَهُمْ؟ وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِجِوَارِهِ فِي الْمَدِينَةِ فَأَمَّنَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا إِعَانَةَ مُشْرِكِي قَوْمِهِ عَلَيْهِ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى قِتَالِهِمْ، وَإِخْرَاجِ بَقِيَّةِ السَّيْفِ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يَرْتَقِي الْبَشَرُ إِلَيْهَا، وَهُوَ - تَعَالَى جَدُّهُ - الْعَالِمُ بِمَبْلَغِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَالْمَالِكُ لِأَعِنَّةِ قُدْرَتِهِمْ.
قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ: إِنَّنَا نَجِدُهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَلْتَزِمُونَ بِسَجْعِهِمْ وَإِرْسَالِهِمْ وَرَجَزِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، بَلْ جَاءَ عَلَى النَّمَطِ الْفِطْرِيِّ، وَالْأُسْلُوبِ الْعَادِيِّ الَّذِي يَتَسَنَّى لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَحْذُوَ مِثَالَهُ، وَلَكِنَّهُمْ عَجَزُوا فَلَمْ يَأْتُوا وَلَنْ يَأْتِيَ غَيْرُهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، ثُمَّ نُلَاحِظُ أَيْضًا: أَنَّ الْقُرْآنَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ قَدْ تَحَدَّى بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْعَرَبِ، عَلَى تَفَرُّقِ دِيَارِهِمْ، وَتَنَائِي أَقْطَارِهِمْ، وَأَرْسَلَ الرَّسُولُ إِلَى الْأَطْرَافِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَعَمَّتِ الدَّعْوَةُ
كَانَ يَتَحَدَّاهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ الصَّادِعَةِ الَّتِي تُثِيرُ النَّخْوَةَ، وَتُهَيِّجُ الْغَيْرَةَ مَعَ عُلُوِّ كَعْبِهِمْ فِي الْبَلَاغَةِ وَرُسُوخِ عِرْقِهِمْ فِي أَسَالِيبِهَا وَفُنُونِهَا، فِي عَصْرٍ ارْتَقَتْ فِيهِ دَوْلَةُ الْكَلَامِ ارْتِقَاءً لَمْ تَعْرِفْ مِثْلَهُ الْأَيَّامُ، حَتَّى كَانُوا يَتَبَارَوْنَ فِيهِ وَيَتَنَافَسُونَ، وَيُبَاهُونَ وَيُفَاخِرُونَ، وَيَعْقِدُونَ لِذَلِكَ الْمَجَامِعَ وَيُقِيمُونَ الْأَسْوَاقَ، ثُمَّ يَطِيرُونَ بِأَخْبَارِهَا فِي الْآفَاقِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَتَصَدَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِلْمُعَارَضَةِ، وَلَمْ يَنْهَضْ بَلِيغٌ
مِنْ مَصَاقِعِهِمْ إِلَى الْمُنَاهَضَةِ (أَقُولُ) بَلْ تَوَاتَرَ عَنْهُمْ مَا كَانَ ((مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِأَسَلَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَالْفَزَعِ إِلَى الْمُقَارَعَةِ بِأَسِنَّةٍ أَسَلِهِمْ)) وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ بِأَسْيَافِهِمْ، وَتَخْرِيبِ بُيُوتِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، أَفَلَمْ يَكُنِ الْأَجْدَرُ بِمَدَارِهِ قُرَيْشٍ وَفُحُولِهَا، غُرَرِ بَنِي مَعَدٍّ وَحُجُولِهَا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَأْلِيفِ سُورَةٍ بِبَلَاغَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَبَارَوْنَ فِيهَا بِسُوقِ عُكَاظَ وَغَيْرِهَا مِنْ مَجَامِعِ مُفَاخَرَاتِهِمْ، وَيُؤْثِرُوا هَذَا عَلَى سَوْقِ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْخَمِيسِ مِنْ صَنَادِيدِهِمْ إِلَى يَثْرِبَ لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ آمَنَ بِهِ " رَضِيَ اللهُ عَنْهُ " فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَوَرَاءَ الْخَنْدَقِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَطَاعًا لَهُمْ؟ وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِجِوَارِهِ فِي الْمَدِينَةِ فَأَمَّنَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا إِعَانَةَ مُشْرِكِي قَوْمِهِ عَلَيْهِ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى قِتَالِهِمْ، وَإِخْرَاجِ بَقِيَّةِ السَّيْفِ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يَرْتَقِي الْبَشَرُ إِلَيْهَا، وَهُوَ - تَعَالَى جَدُّهُ - الْعَالِمُ بِمَبْلَغِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَالْمَالِكُ لِأَعِنَّةِ قُدْرَتِهِمْ.
قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ: إِنَّنَا نَجِدُهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَلْتَزِمُونَ بِسَجْعِهِمْ وَإِرْسَالِهِمْ وَرَجَزِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، بَلْ جَاءَ عَلَى النَّمَطِ الْفِطْرِيِّ، وَالْأُسْلُوبِ الْعَادِيِّ الَّذِي يَتَسَنَّى لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَحْذُوَ مِثَالَهُ، وَلَكِنَّهُمْ عَجَزُوا فَلَمْ يَأْتُوا وَلَنْ يَأْتِيَ غَيْرُهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، ثُمَّ نُلَاحِظُ أَيْضًا: أَنَّ الْقُرْآنَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ قَدْ تَحَدَّى بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْعَرَبِ، عَلَى تَفَرُّقِ دِيَارِهِمْ، وَتَنَائِي أَقْطَارِهِمْ، وَأَرْسَلَ الرَّسُولُ إِلَى الْأَطْرَافِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَعَمَّتِ الدَّعْوَةُ
163
وَبَلَغَتْ مَبْلَغَهَا وَلَمْ يَنْبَرِ أَحَدٌ لِلْمُعَارَضَةِ كَمَا قُلْنَا، أَلَا يَدُلَّ هَذَا عَلَى نِهَايَةِ الْعَجْزِ وَعُمُومِهِ، وَإِحْسَاسِ كُلِّ بَلِيغٍ بِالضَّعِيفِ فِي نَفْسِهِ عَنِ الِانْبِرَاءِ لِمُبَارَاتِهِ، وَالتَّسَامِي لِمُحَاكَاتِهِ، وَعَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ فَوْقَ الْقَدْرِ، خَارِقًا لِمَا يَعْتَادُ مَنْ كَسْبِ الْبَشَرِ؟ بَلَى، وَإِنَّ لِهَذَا الْإِعْجَازِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ مُعْجِزًا بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَرْتَبَةٍ لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَيْهَا، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ جَاءَ عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَبِثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يُوصَفْ بِالْبَلَاغَةِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا أُخْرَى لِلْإِعْجَازِ يَنْطَوِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، مِنْهَا قَوْلُهُ هُنَا: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُخْبِرَ هُوَ اللهُ تَعَالَى، عَالَمُ الْغَيْبِ وَمَا يَكُونُ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنْ فَائِدَةِ هَذَا الْقَوْلِ فِي عَهْدِ نُزُولِهِ وَقَبْلَ ظُهُورِ تَأْوِيلِهِ: أَنَّ قَرْعَهُ لِسَمْعِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَقْتَضِي أَشَدَّ التَّحْرِيضِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الْعَجْزُ، وَيَقُومُ الْبُرْهَانُ بِالْإِعْجَازِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ، لَوْلَا مُكَابَرَةُ الْمُسْتَكْبِرِينَ لِوِجْدَانِهِمْ، وَجُحُودُ أَلْسِنَتِهِمْ لَمَا اسْتَيْقَنَتْهُ قُلُوبُهُمْ (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٢٧: ١٤) وَأَمَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَيَعْتَقِدُ الْخَوَارِقَ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى عَجْزِهِ وَيُبَادِرَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرِسَالَةِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَجْزِمَ بِذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى الْغَيْبِ، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.
قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ تَسْجِيلِ الْعَجْزِ عَلَيْهِمْ: (فَاتَّقُوا النَّارَ) وَهِيَ مَوْطِنُ عَذَابِ الْآخِرَةِ، نُؤْمِنُ بِهَا، وَلِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَلَا نَقُولُ إِنَّهَا شَبِيهَةٌ بِنَارِ الدُّنْيَا، وَلَا إِنَّهَا غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِهَا، وَإِنَّمَا نُثْبِتُ لَهَا جَمِيعَ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بِهَا كَقَوْلِهِ: (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) الْمُرَادُ بِالْحِجَارَةِ الْأَصْنَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وَلَا يَسْبِقَنَّ إِلَى الْفَهْمِ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ إِلَّا بِوُجُودِ النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ إِذْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونُوا وَقُودَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا وَالْوَقُودُ بِالْفَتْحِ مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ وَبِالضَّمِّ مَصْدَرٌ، وَقَدْ سُمِعَ الْمَصْدَرُ بِالْفَتْحِ أَيْضًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ " وَقُودِهَا " إِنَّ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ وَعِبَادَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَانْحِرَافِهِمْ عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ - وَالْحِجَارَةَ بِعِبَادَةِ النَّاسِ لَهَا - سَبَبَانِ فِي إِيجَادِ النَّارِ وَإِعْدَادِهَا لَهُمْ، فَبِذَلِكَ كَانُوا كَالْوَقُودِ الَّذِي تُضْرَمُ بِهِ النَّارُ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمُ السَّبَبِ وَهُوَ النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ الْحَصْرُ فِي جُمْلَةِ (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) فَإِنَّهَا اسْمِيَّةٌ مُعَرَّفَةُ الطَّرَفَيْنِ، وَخَصَّ الْحِجَارَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ الْمَعْبُودَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: الَّذِينَ لَا يُجِيبُونَ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَالَّذِينَ يَنْحَرِفُونَ عَنْ أُصُولِهَا بَعْدَ الْأَخْذِ بِهَا لِبِدَعٍ يَبْتَدِعُونَهَا، وَتَقَالِيدَ يُحْدِثُونَهَا،
وَتَأْوِيلَاتٍ يُلَفِّقُونَهَا، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أُعِدَّتْ وَهُيِّئَتِ النَّارُ لَهُمْ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْخُلُودَ فِيهَا، وَمَنْ وَرَدَهَا وُرُودًا وَانْتَهَى إِلَى مَوْطِنٍ آخَرَ فَذَلِكَ الْمَوْطِنُ هُوَ الَّذِي أُعِدَّ لَهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ الدُّنْيَا مَوْطِنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ أَهْلِهَا بِالتَّوْفِيقِ لِلتَّقْوَى، أَوِ النَّارَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا وَمِمَّا يُقَرِّبُ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنْ فَائِدَةِ هَذَا الْقَوْلِ فِي عَهْدِ نُزُولِهِ وَقَبْلَ ظُهُورِ تَأْوِيلِهِ: أَنَّ قَرْعَهُ لِسَمْعِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَقْتَضِي أَشَدَّ التَّحْرِيضِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الْعَجْزُ، وَيَقُومُ الْبُرْهَانُ بِالْإِعْجَازِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ، لَوْلَا مُكَابَرَةُ الْمُسْتَكْبِرِينَ لِوِجْدَانِهِمْ، وَجُحُودُ أَلْسِنَتِهِمْ لَمَا اسْتَيْقَنَتْهُ قُلُوبُهُمْ (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٢٧: ١٤) وَأَمَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَيَعْتَقِدُ الْخَوَارِقَ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى عَجْزِهِ وَيُبَادِرَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرِسَالَةِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَجْزِمَ بِذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى الْغَيْبِ، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.
قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ تَسْجِيلِ الْعَجْزِ عَلَيْهِمْ: (فَاتَّقُوا النَّارَ) وَهِيَ مَوْطِنُ عَذَابِ الْآخِرَةِ، نُؤْمِنُ بِهَا، وَلِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَلَا نَقُولُ إِنَّهَا شَبِيهَةٌ بِنَارِ الدُّنْيَا، وَلَا إِنَّهَا غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِهَا، وَإِنَّمَا نُثْبِتُ لَهَا جَمِيعَ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بِهَا كَقَوْلِهِ: (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) الْمُرَادُ بِالْحِجَارَةِ الْأَصْنَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وَلَا يَسْبِقَنَّ إِلَى الْفَهْمِ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ إِلَّا بِوُجُودِ النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ إِذْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونُوا وَقُودَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا وَالْوَقُودُ بِالْفَتْحِ مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ وَبِالضَّمِّ مَصْدَرٌ، وَقَدْ سُمِعَ الْمَصْدَرُ بِالْفَتْحِ أَيْضًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ " وَقُودِهَا " إِنَّ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ وَعِبَادَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَانْحِرَافِهِمْ عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ - وَالْحِجَارَةَ بِعِبَادَةِ النَّاسِ لَهَا - سَبَبَانِ فِي إِيجَادِ النَّارِ وَإِعْدَادِهَا لَهُمْ، فَبِذَلِكَ كَانُوا كَالْوَقُودِ الَّذِي تُضْرَمُ بِهِ النَّارُ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمُ السَّبَبِ وَهُوَ النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ الْحَصْرُ فِي جُمْلَةِ (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) فَإِنَّهَا اسْمِيَّةٌ مُعَرَّفَةُ الطَّرَفَيْنِ، وَخَصَّ الْحِجَارَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ الْمَعْبُودَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: الَّذِينَ لَا يُجِيبُونَ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَالَّذِينَ يَنْحَرِفُونَ عَنْ أُصُولِهَا بَعْدَ الْأَخْذِ بِهَا لِبِدَعٍ يَبْتَدِعُونَهَا، وَتَقَالِيدَ يُحْدِثُونَهَا،
وَتَأْوِيلَاتٍ يُلَفِّقُونَهَا، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أُعِدَّتْ وَهُيِّئَتِ النَّارُ لَهُمْ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْخُلُودَ فِيهَا، وَمَنْ وَرَدَهَا وُرُودًا وَانْتَهَى إِلَى مَوْطِنٍ آخَرَ فَذَلِكَ الْمَوْطِنُ هُوَ الَّذِي أُعِدَّ لَهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ الدُّنْيَا مَوْطِنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ أَهْلِهَا بِالتَّوْفِيقِ لِلتَّقْوَى، أَوِ النَّارَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا وَمِمَّا يُقَرِّبُ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
164
فَصْلٌ فِي تَحْقِيقِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ
بِمُنْتَهَى الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ: قَدْ ثَبَتَ بِالْفِعْلِ، وَتَوَاتَرَ فِيهِ النَّقْلُ، وَحَسْبُكَ مِنْهُ وُجُودُ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَصَاحِفِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا، وَوُجُودُ الْأُلُوفِ مِنْ حُفَّاظِهِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَهِيَ تَحْكِي لَنَا هَذِهِ الْآيَاتُ فِي التَّحَدِّي بِإِعْجَازِهِ، وَلَوْ وُجِدَ لَهُ مُعَارِضٌ أَتَى بِسُورَةٍ مِثْلِهِ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالتَّوَاتُرِ أَيْضًا، بَلْ لَكَانَتْ فِتْنَةً ارْتَدَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ إِعْجَازُهُ لِمَزَايَا فِيهِ تَعْلُو قُدْرَةَ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا وَحُكْمًا، وَبَيَانًا لِلْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، حَارَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ الضَّرُورَةِ فِي ظُهُورِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ إِعْجَازَهُ بِالصَّرْفَةِ، يَعْنُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَ قُدْرَةَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ عَنِ التَّوَجُّهِ لِمُعَارَضَتِهِ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهَا سَبِيلًا، ثُمَّ تَسَلْسَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ وَاسْتَمَرَّ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا، وَهَذَا رَأْيُ كَسُولٍ أَحَبَّ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ مِنْ عَنَاءِ الْبَحْثِ وَإِجَالَةِ قَدَحِ الْفِكْرِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلِلْبَاحِثِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ كُتِبَتْ فِيهَا فُصُولٌ وَأُلِّفَتْ فِيهَا رَسَائِلُ وَكُتُبٌ، وَقَدْ عَقَدْتُ هَذَا الْفَصْلَ عِنْدَ طَبْعِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِبَيَانِهَا وَإِيضَاحِهَا، لِمَا عَلِمْتُ مِنْ شِدَّةِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ إِلَيْهَا، دَعْ أَمْرَ دَعْوَةِ غَيْرِهِمْ أَوِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِهَا.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى النَّظْمِ الْغَرِيبِ وَالْوَزْنِ الْعَجِيبِ، وَالْأُسْلُوبِ الْمُخَالِفِ لِمَا اسْتَنْبَطَهُ الْبُلَغَاءُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَطَالِعِهِ وَفَوَاصِلِهِ وَمَقَاطِعِهِ، هَذِهِ عِبَارَتُهُمْ وَأَوْرَدُوا عَلَيْهَا شُبْهَتَيْنِ وَأَجَابُوا عَنْهُمَا، وَحَصَرُوا نَظْمَ الْكَلَامِ مَنْثُورَهُ مُرْسَلًا وَسَجْعًا، وَمَنْظُومَهُ قَصِيدًا وَرَجَزًا فِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ، لَا يُمْكِنُ عَدُّ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ
وَاحِدًا مِنْهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَكْبَرِ بُلَغَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَادَوْهُ اسْتِكْبَارًا، وَجَاحَدُوهُ اسْتِعْلَاءً وَاسْتِنْكَارًا، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ
بِمُنْتَهَى الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ: قَدْ ثَبَتَ بِالْفِعْلِ، وَتَوَاتَرَ فِيهِ النَّقْلُ، وَحَسْبُكَ مِنْهُ وُجُودُ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَصَاحِفِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا، وَوُجُودُ الْأُلُوفِ مِنْ حُفَّاظِهِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَهِيَ تَحْكِي لَنَا هَذِهِ الْآيَاتُ فِي التَّحَدِّي بِإِعْجَازِهِ، وَلَوْ وُجِدَ لَهُ مُعَارِضٌ أَتَى بِسُورَةٍ مِثْلِهِ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالتَّوَاتُرِ أَيْضًا، بَلْ لَكَانَتْ فِتْنَةً ارْتَدَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ إِعْجَازُهُ لِمَزَايَا فِيهِ تَعْلُو قُدْرَةَ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا وَحُكْمًا، وَبَيَانًا لِلْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، حَارَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ الضَّرُورَةِ فِي ظُهُورِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ إِعْجَازَهُ بِالصَّرْفَةِ، يَعْنُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَ قُدْرَةَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ عَنِ التَّوَجُّهِ لِمُعَارَضَتِهِ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهَا سَبِيلًا، ثُمَّ تَسَلْسَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ وَاسْتَمَرَّ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا، وَهَذَا رَأْيُ كَسُولٍ أَحَبَّ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ مِنْ عَنَاءِ الْبَحْثِ وَإِجَالَةِ قَدَحِ الْفِكْرِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلِلْبَاحِثِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ كُتِبَتْ فِيهَا فُصُولٌ وَأُلِّفَتْ فِيهَا رَسَائِلُ وَكُتُبٌ، وَقَدْ عَقَدْتُ هَذَا الْفَصْلَ عِنْدَ طَبْعِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِبَيَانِهَا وَإِيضَاحِهَا، لِمَا عَلِمْتُ مِنْ شِدَّةِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ إِلَيْهَا، دَعْ أَمْرَ دَعْوَةِ غَيْرِهِمْ أَوِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِهَا.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى النَّظْمِ الْغَرِيبِ وَالْوَزْنِ الْعَجِيبِ، وَالْأُسْلُوبِ الْمُخَالِفِ لِمَا اسْتَنْبَطَهُ الْبُلَغَاءُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَطَالِعِهِ وَفَوَاصِلِهِ وَمَقَاطِعِهِ، هَذِهِ عِبَارَتُهُمْ وَأَوْرَدُوا عَلَيْهَا شُبْهَتَيْنِ وَأَجَابُوا عَنْهُمَا، وَحَصَرُوا نَظْمَ الْكَلَامِ مَنْثُورَهُ مُرْسَلًا وَسَجْعًا، وَمَنْظُومَهُ قَصِيدًا وَرَجَزًا فِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ، لَا يُمْكِنُ عَدُّ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ
وَاحِدًا مِنْهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَكْبَرِ بُلَغَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَادَوْهُ اسْتِكْبَارًا، وَجَاحَدُوهُ اسْتِعْلَاءً وَاسْتِنْكَارًا، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ
165
بِالشِّعْرِ مِنِّي، لَا بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ هَذَا الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ لِحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لِطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لِمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ، قَالَ: وَاللهِ مَا يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قَالَ: فَدَعْنِي أُفَكِّرْ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، يَأْثَرُهُ عَنْ غَيْرِهِ)) وَكَانَ هَذَا سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) الْآيَاتِ.
وَلَعَمْرِي إِنَّ مَسْأَلَةَ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ لِإِحْدَى الْكُبَرِ، وَأَعْجَبُ الْعَجَائِبِ لِمَنْ فَكَّرَ وَأَبْصَرَ، وَلَمْ يُوَفِّهَا أَحَدٌ حَقَّهَا، عَلَى كَثْرَةِ مَا بَدَءُوا وَأَعَادُوا فِيهَا، وَمَا هُوَ بِنَظْمٍ وَاحِدٍ وَلَا بِأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِائَةٌ أَوْ أَكْثَرُ: الْقُرْآنُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً مُتَفَاوِتَةً فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، مِنَ السَّبْعِ الطُّوَلِ الَّتِي تَزِيدُ السُّورَةُ فِيهِ عَلَى الْمِائَةِ وَعَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْآيَاتِ، إِلَى السُّوَرِ الْمِئِينَ، إِلَى الْوُسْطَى مِنَ الْمُفَصَّلِ، إِلَى مَا دُونَهَا مِنَ الْعَشَرَاتِ فَالْآحَادِ كَالثَّلَاثِ الْآيَاتِ فَمَا فَوْقَهَا، وَكُلُّ سُورَةٍ مِنْهَا تُقْرَأُ بِالتَّرْتِيلِ الْمُشْبِهِ لِلتَّلْحِينِ، الْمُعِينِ عَلَى الْفَهْمِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْثِيرِ، عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْفَوَاصِلِ، وَتَفَاوُتِ آيَاتِهَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَمِنْهَا الْمُؤَلَّفُ مِنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْ كَلِمَتَيْنِ وَمِنْ ثَلَاثٍ، وَمِنْهَا الْمُؤَلَّفُ مِنْ سَطْرٍ أَوْ سَطْرَيْنِ أَوْ بِضْعَةِ أَسْطُرٍ، وَمِنْهَا الْمُتَّفِقُ فِي أَكْثَرِ الْفَوَاصِلِ أَوْ كُلِّهَا، وَمِنْهَا الْمُخْتَلِفُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا، وَهِيَ عَلَى مَا فِيهَا مُتَشَابِهٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهٍ فِي النَّظْمِ، مُتَشَابِهَةٌ كُلُّهَا فِي مَزْجِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ،
وَبَيَانِ الْبَعْثِ وَالْمَآلِ، وَدَارِ الْأَبْرَارِ وَدَارِ الْفُجَّارِ، وَالِاعْتِبَارِ بِقَصَصِ الرُّسُلِ وَالْأَقْوَامِ، وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ أَسَالِيبَ جَمِيعِ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ كَذَلِكَ، لَا يُشْبِهُ أُسْلُوبٌ مِنْهَا أُسْلُوبًا، وَلَا يَسْتَوِيَانِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا، فَمُجَرَّدُ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مُعْجِزًا (وَنَقُولُ) : مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَأَوْغَلَ فِي مَهَامِهِ الْغَفْلَةِ، فَمَهْمَا تَخْتَلِفْ مَنْظُومَاتُ الشُّعَرَاءِ فَلَنْ تَعْدُوَ بُحُورَ الشِّعْرِ الْمَنْقُولَةَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالتَّوْشِيحَاتِ وَالْأَزْجَالَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْمُوَلَّدِينَ، وَمَهْمَا تَخْتَلِفْ خُطَبُ الْخُطَبَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ مِنَ الْكُتَّابِ وَالْمُؤَلِّفِينَ فِي الْعُلُومِ وَالشَّرَائِعِ وَالْآدَابِ فَلَنْ تَعْدُوَ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي بَدَأَنَا الْقَوْلَ بِهَا، وَلَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ وَلَا تِلْكَ نَظْمَ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَلَا أَكْثَرِهَا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ نَظْمٌ وَأُسْلُوبٌ خَاصٌّ.
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُشْعِرَ سَمْعَكَ وَذَوْقَكَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ نَظْمِ الْكَلَامِ الْبَشَرِيِّ وَنَظْمِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، فَائْتِ بِقَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ يُسْمِعُكَ بَعْضَ أَشْعَارِ الْمُفْلِقِينَ، وَخَطَبَ الْمَصَاقِعِ الْمُفَوَّهِينَ،
وَلَعَمْرِي إِنَّ مَسْأَلَةَ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ لِإِحْدَى الْكُبَرِ، وَأَعْجَبُ الْعَجَائِبِ لِمَنْ فَكَّرَ وَأَبْصَرَ، وَلَمْ يُوَفِّهَا أَحَدٌ حَقَّهَا، عَلَى كَثْرَةِ مَا بَدَءُوا وَأَعَادُوا فِيهَا، وَمَا هُوَ بِنَظْمٍ وَاحِدٍ وَلَا بِأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِائَةٌ أَوْ أَكْثَرُ: الْقُرْآنُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً مُتَفَاوِتَةً فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، مِنَ السَّبْعِ الطُّوَلِ الَّتِي تَزِيدُ السُّورَةُ فِيهِ عَلَى الْمِائَةِ وَعَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْآيَاتِ، إِلَى السُّوَرِ الْمِئِينَ، إِلَى الْوُسْطَى مِنَ الْمُفَصَّلِ، إِلَى مَا دُونَهَا مِنَ الْعَشَرَاتِ فَالْآحَادِ كَالثَّلَاثِ الْآيَاتِ فَمَا فَوْقَهَا، وَكُلُّ سُورَةٍ مِنْهَا تُقْرَأُ بِالتَّرْتِيلِ الْمُشْبِهِ لِلتَّلْحِينِ، الْمُعِينِ عَلَى الْفَهْمِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْثِيرِ، عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْفَوَاصِلِ، وَتَفَاوُتِ آيَاتِهَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَمِنْهَا الْمُؤَلَّفُ مِنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْ كَلِمَتَيْنِ وَمِنْ ثَلَاثٍ، وَمِنْهَا الْمُؤَلَّفُ مِنْ سَطْرٍ أَوْ سَطْرَيْنِ أَوْ بِضْعَةِ أَسْطُرٍ، وَمِنْهَا الْمُتَّفِقُ فِي أَكْثَرِ الْفَوَاصِلِ أَوْ كُلِّهَا، وَمِنْهَا الْمُخْتَلِفُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا، وَهِيَ عَلَى مَا فِيهَا مُتَشَابِهٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهٍ فِي النَّظْمِ، مُتَشَابِهَةٌ كُلُّهَا فِي مَزْجِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ،
وَبَيَانِ الْبَعْثِ وَالْمَآلِ، وَدَارِ الْأَبْرَارِ وَدَارِ الْفُجَّارِ، وَالِاعْتِبَارِ بِقَصَصِ الرُّسُلِ وَالْأَقْوَامِ، وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ أَسَالِيبَ جَمِيعِ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ كَذَلِكَ، لَا يُشْبِهُ أُسْلُوبٌ مِنْهَا أُسْلُوبًا، وَلَا يَسْتَوِيَانِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا، فَمُجَرَّدُ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مُعْجِزًا (وَنَقُولُ) : مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَأَوْغَلَ فِي مَهَامِهِ الْغَفْلَةِ، فَمَهْمَا تَخْتَلِفْ مَنْظُومَاتُ الشُّعَرَاءِ فَلَنْ تَعْدُوَ بُحُورَ الشِّعْرِ الْمَنْقُولَةَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالتَّوْشِيحَاتِ وَالْأَزْجَالَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْمُوَلَّدِينَ، وَمَهْمَا تَخْتَلِفْ خُطَبُ الْخُطَبَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ مِنَ الْكُتَّابِ وَالْمُؤَلِّفِينَ فِي الْعُلُومِ وَالشَّرَائِعِ وَالْآدَابِ فَلَنْ تَعْدُوَ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي بَدَأَنَا الْقَوْلَ بِهَا، وَلَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ وَلَا تِلْكَ نَظْمَ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَلَا أَكْثَرِهَا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ نَظْمٌ وَأُسْلُوبٌ خَاصٌّ.
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُشْعِرَ سَمْعَكَ وَذَوْقَكَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ نَظْمِ الْكَلَامِ الْبَشَرِيِّ وَنَظْمِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، فَائْتِ بِقَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ يُسْمِعُكَ بَعْضَ أَشْعَارِ الْمُفْلِقِينَ، وَخَطَبَ الْمَصَاقِعِ الْمُفَوَّهِينَ،
166
الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ نَغَمٍ وَتَحْسِينٍ، ثُمَّ لِيَتْلُ عَلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضَ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْمُخْتَلِفَةِ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ كَسُورَةِ النَّجْمِ وَسُورَةِ الْقَمَرِ وَسُورَةِ الرَّحْمَنِ وَسُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَسُورَةِ الْحَدِيدِ - مَثَلًا - ثُمَّ حَكِّمْ ذَوْقَكَ وَوِجْدَانَكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهَا فِي أَنْفُسِهَا، ثُمَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ كُلٍّ مِنْهَا وَبَيْنَ كَلَامِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِ بُلَغَائِهِمْ، وَتَأْثِيرِ كُلٍّ مِنَ الْكَلَامَيْنِ فِي نَفْسِكَ بَعْدَ اخْتِلَافِ وَقْعِهِ فِي سَمْعِكَ.
بَلْ تَأَمَّلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُكَرَّرَةِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَجْلِ تَقْرِيرِهَا فِي الْأَنْفُسِ وَنَقْشِهَا فِي الْأَذْهَانِ، كَالِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَافَطِنْ لِاخْتِلَافِ النَّظْمِ وَالْأَسَالِيبِ فِيهَا، فَمِنَ الْمُخْتَصَرِ مَا فِي سُورِ الذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالْفَجْرِ، وَمِنَ الْمُطَوَّلِ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ وَطَهَ، لَعَلَّكَ إِنْ تَدَبَّرْتَ هَذَا تَشْعُرْ بِالْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَكَلَامِ الْخَالِقِ، وَتَحْكُمْ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْإِعْجَازِ حُكْمًا ضَرُورِيًّا وُجْدَانِيًّا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَإِنْ عَجَزْتَ عَنْ بَيَانِهِ بِقَوْلِكَ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ الْبَدِيعَةِ الَّتِي يُخَالِفُ بِهَا نَظْمُ الْقُرْآنِ نَظْمَ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ شِعْرٍ وَنَثْرٍ: أَنَّكَ تَرَى السُّوَرَ ذَاتَ النَّظْمِ الْخَاصِّ وَالْفَوَاصِلِ الْمُقَفَّاةِ تَأْتِي فِي بَعْضِهَا فَوَاصِلُ غَيْرُ مُقَفَّاةٍ، فَتَزِيدُهَا حُسْنًا وَجَمَالًا وَتَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ، وَتَأْتِي فِي بَعْضٍ آخَرَ آيَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ آيِهَا فِي فَوَاصِلِهَا وَزْنًا وَقَافِيَةً، فَتَرْفَعُ قَدْرَهَا وَتَكْسُوهَا جَلَالَةً وَتُكْسِبُهَا رَوْعَةً وَعَظَمَةً، وَتُجَدِّدُ مِنْ نَشَاطِ الْقَارِئِ وَتُرْهِفُ مَنْ سَمْعِ الْمُسْتَمِعِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْخُطَبَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ أَنْ يُحَاكُوا هَذَا النَّوْعَ مِنْ مَحَاسِنِهِ، وَإِنْ كَانُوا يَعْجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَةِ السُّورَةِ فِي جُمْلَتِهَا، أَوِ الصُّعُودِ إِلَى أُفُقِ بَلَاغَتِهَا، وَمِنْ أَعْجَبِ هَذِهِ السُّوَرِ أَوَائِلُ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ بَلِ الْمُفَصَّلُ كُلُّهُ. قَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْمَعْقُولُ أَنْ يُحْدِثَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي الْبَيَانِ فَوْقَ مَا أَحْدَثَهُ بِدَرَجَاتٍ.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ:
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : بَلَاغَتُهُ الَّتِي تَقَاصَرَتْ عَنْهَا بَلَاغَةُ سَائِرِ الْبُلَغَاءِ قَبْلَهُ وَفِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ بَعْضَ الشُّبَهِ عَلَى كَوْنِ بَلَاغَةِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْ قِصَارِ سُورِهِ بَلَغَتْ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَالْقَائِلُونَ بِهِ لَا يَحْصُرُونَ إِعْجَازَ كُلِّ سُورَةٍ فِيهِ، وَيَتَحَقَّقُ التَّحَدِّي عِنْدَهُمْ بِإِعْجَازِ بَعْضِ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ بِغَيْرِهِ، كَأَخْبَارِ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ الَّتِي هِيَ أَقْصَرُ سُوَرِهِ، عَلَى أَنَّ مُسَيْلِمَةَ تَصَدَّى لِمُعَارَضَتِهَا بِمُحَاكَاةِ فَوَاصِلِهَا، فَجَاءَ بِخِزْيٍ كَانَ حُجَّةً عَلَى عَجْزِهِ وَصِحَّةِ إِعْجَازِهَا.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْقَهُ سِرَّ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ وَيُمَارِي فِيمَا كَتَبَ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ مِنْ قَوَاعِدِهَا، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْإِحَالَةَ عَلَى الذَّوْقِ فِيهَا إِحَالَةٌ عَلَى مَجْهُولٍ، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَدْلُولٌ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ الْمَعْنَوِيَّ كَالْحِسِّيِّ خَاصٌّ بِصَاحِبِهِ
بَلْ تَأَمَّلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُكَرَّرَةِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَجْلِ تَقْرِيرِهَا فِي الْأَنْفُسِ وَنَقْشِهَا فِي الْأَذْهَانِ، كَالِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَافَطِنْ لِاخْتِلَافِ النَّظْمِ وَالْأَسَالِيبِ فِيهَا، فَمِنَ الْمُخْتَصَرِ مَا فِي سُورِ الذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالْفَجْرِ، وَمِنَ الْمُطَوَّلِ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ وَطَهَ، لَعَلَّكَ إِنْ تَدَبَّرْتَ هَذَا تَشْعُرْ بِالْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَكَلَامِ الْخَالِقِ، وَتَحْكُمْ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْإِعْجَازِ حُكْمًا ضَرُورِيًّا وُجْدَانِيًّا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَإِنْ عَجَزْتَ عَنْ بَيَانِهِ بِقَوْلِكَ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ الْبَدِيعَةِ الَّتِي يُخَالِفُ بِهَا نَظْمُ الْقُرْآنِ نَظْمَ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ شِعْرٍ وَنَثْرٍ: أَنَّكَ تَرَى السُّوَرَ ذَاتَ النَّظْمِ الْخَاصِّ وَالْفَوَاصِلِ الْمُقَفَّاةِ تَأْتِي فِي بَعْضِهَا فَوَاصِلُ غَيْرُ مُقَفَّاةٍ، فَتَزِيدُهَا حُسْنًا وَجَمَالًا وَتَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ، وَتَأْتِي فِي بَعْضٍ آخَرَ آيَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ آيِهَا فِي فَوَاصِلِهَا وَزْنًا وَقَافِيَةً، فَتَرْفَعُ قَدْرَهَا وَتَكْسُوهَا جَلَالَةً وَتُكْسِبُهَا رَوْعَةً وَعَظَمَةً، وَتُجَدِّدُ مِنْ نَشَاطِ الْقَارِئِ وَتُرْهِفُ مَنْ سَمْعِ الْمُسْتَمِعِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْخُطَبَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ أَنْ يُحَاكُوا هَذَا النَّوْعَ مِنْ مَحَاسِنِهِ، وَإِنْ كَانُوا يَعْجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَةِ السُّورَةِ فِي جُمْلَتِهَا، أَوِ الصُّعُودِ إِلَى أُفُقِ بَلَاغَتِهَا، وَمِنْ أَعْجَبِ هَذِهِ السُّوَرِ أَوَائِلُ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ بَلِ الْمُفَصَّلُ كُلُّهُ. قَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْمَعْقُولُ أَنْ يُحْدِثَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي الْبَيَانِ فَوْقَ مَا أَحْدَثَهُ بِدَرَجَاتٍ.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ:
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : بَلَاغَتُهُ الَّتِي تَقَاصَرَتْ عَنْهَا بَلَاغَةُ سَائِرِ الْبُلَغَاءِ قَبْلَهُ وَفِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ بَعْضَ الشُّبَهِ عَلَى كَوْنِ بَلَاغَةِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْ قِصَارِ سُورِهِ بَلَغَتْ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَالْقَائِلُونَ بِهِ لَا يَحْصُرُونَ إِعْجَازَ كُلِّ سُورَةٍ فِيهِ، وَيَتَحَقَّقُ التَّحَدِّي عِنْدَهُمْ بِإِعْجَازِ بَعْضِ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ بِغَيْرِهِ، كَأَخْبَارِ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ الَّتِي هِيَ أَقْصَرُ سُوَرِهِ، عَلَى أَنَّ مُسَيْلِمَةَ تَصَدَّى لِمُعَارَضَتِهَا بِمُحَاكَاةِ فَوَاصِلِهَا، فَجَاءَ بِخِزْيٍ كَانَ حُجَّةً عَلَى عَجْزِهِ وَصِحَّةِ إِعْجَازِهَا.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْقَهُ سِرَّ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ وَيُمَارِي فِيمَا كَتَبَ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ مِنْ قَوَاعِدِهَا، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْإِحَالَةَ عَلَى الذَّوْقِ فِيهَا إِحَالَةٌ عَلَى مَجْهُولٍ، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَدْلُولٌ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ الْمَعْنَوِيَّ كَالْحِسِّيِّ خَاصٌّ بِصَاحِبِهِ
167
مَنْ ذَاقَ عَرَفَ " وَسَبَبُ هَذَا جَهْلُهُمُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْفُصْحَى نَفْسَهَا، فَقَدْ مَرَّتِ الْقُرُونُ فِي إِثْرِ الْقُرُونِ عَلَى تَرْكِ النَّاسِ لِمُدَارَسَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْهَا، وَاسْتِظْهَارِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَاقْتِصَارِ مَدَارِسِ الْأَمْصَارِ عَلَى قِرَاءَةِ كُتُبِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، وَهِيَ أَدْنَى مَا وُضِعَ فِي فُنُونِهَا فَصَاحَةً وَبَيَانًا، وَأَشَدُّهَا عُجْمَةً وَتَعْقِيدًا، وَهِيَ الْكُتُبُ الَّتِي اقْتَصَرَ مُؤَلِّفُوهَا عَلَى
سَرْدِ الْقَوَاعِدِ بِعِبَارَةٍ فَنِّيَّةٍ دَقِيقَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ فَصَاحَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَنْ بَيَانِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْوَاضِعِينَ لِهَذِهِ الْفُنُونِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْقَرْنِ الْخَامِسِ، كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَابْنِ جِنِّيٍّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ، حَتَّى صَارَ أَوْسَعُ النَّاسِ عِلْمًا بِهَذِهِ الْفُنُونِ أَجْهَلَ قُرَّاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَا، وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْهَا، بَلْهُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، فَمَنْ يَقْرَأْ مِنْ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ إِلَّا مِثْلَ السَّمَرْقَنْدِيَّةِ وَشَرْحَيْ (جَوْهَرِ الْفُنُونِ) وَ (عُقُودِ الْجُمَانِ) فَشَرْحَيِ التَّلْخِيصِ لِلسَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَحَوَاشِيهَمَا لَا يُرْجَى أَنْ يَذُوقَ لِلْبَلَاغَةِ طَعْمًا، أَوْ يُقِيمَ لِلْبَيَانِ وَزْنًا، فَأَنَّى يَهْتَدِي إِلَى الْإِعْجَازِ بِهِمَا سَبِيلًا، أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؟ وَإِنَّمَا يُرْجَى هَذَا الذَّوْقُ لِمَنْ يَقْرَأُ أَسْرَارَ الْبَلَاغَةِ وَدَلَائِلَ الْإِعْجَازِ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، فَإِنَّهُمَا هُمَا الْكِتَابَانِ اللَّذَانِ يُحِيلَانِكَ فِي قَوَانِينِ الْبَلَاغَةِ عَلَى وِجْدَانِكَ، وَمَا تَجِدُ مِنْ أَثَرِ الْكَلَامِ فِي قَلْبِكَ وَجَنَانِكَ، فَتَرَى أَنَّ عِلْمَيِ الْبَيَانِ شُعْبَةٌ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُمَا يَشْهَدُ لَهَا الشُّعُورُ وَالْحِسُّ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مِنْ مَنْظُومِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمَنْثُورِهِ، وَاسْتِظْهَارِ بَعْضِهِ مَعَ فَهْمِهِ، كَمَا قَرَّرَ حَكِيمُنَا ابْنُ خَلْدُونَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عِلْمِ الْبَيَانِ مِنْ مُقَدِّمَتِهِ.
فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الْبَلَاغَةِ فَهْمًا وَأَدَاءً، وَالْقَوَانِينُ الْمَوْضُوعَةُ لَهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَنْبَطًا مِنْهَا، وَقَدْ عُكِسَتِ الْقَضِيَّةُ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى حَتَّى سَاغَ لِمُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ أَنْ يَقُولَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي تُقْرَأُ فِي مَدْرَسَةِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ وَأَمْثَالِهَا: إِنَّ قَوَاعِدَهَا تَقْلِيدِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِهَا تَفَاضُلُ الْكَلَامِ، إِذْ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ مُزَاوَلَةً لَهَا أَضْعَفَهُمْ بَيَانًا، وَأَشَدَّهُمْ عِيًّا وَفَهَاهَةً.
فَمَعْرِفَةُ مَكَانَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَحْكُمُهَا مِنَ الْجِهَةِ الْفَنِّيَّةِ وَالذَّوْقِيَّةِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ حَظًّا عَظِيمًا مِنْ مُخْتَارِ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ الْمَنْظُومِ وَالْمَنْثُورِ، مِنْ مُرْسَلٍ وَمَسْجُوعٍ، حَتَّى صَارَ مَلَكَةً لَهُ وَذَوْقًا، وَاسْتَعَانَ عَلَى فَهْمِ فَلْسَفَتِهِ بِمِثْلِ كِتَابَيْ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَالصِّنَاعَتَيْنِ لِأَبِي هِلَالٍ الْعَسْكَرِيِّ، وَالْخَصَائِصِ لِابْنِ جِنِّيٍّ، وَأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَمُغْنِي اللَّبِيبِ لِابْنِ هِشَامٍ، هَذِهِ مُقَدِّمَاتُ الْبَلَاغَةِ وَنَتِيجَتُهَا الْمَلَكَةُ وَلَهَا غَايَةٌ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا مِنَ التَّارِيخِ، وَهِيَ مَا كَانَ لِلْقُرْآنِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ فِيمَنْ حَذَقَهَا مِنَ الْأَعَاجِمِ أَيْضًا.
الْحَدُّ الصَّحِيحُ لِلْبَلَاغَةِ فِي الْكَلَامِ هِيَ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَا يُرِيدُ مِنْ نَفْسِ السَّامِعِ بِإِصَابَةِ
مَوْضِعِ الْإِقْنَاعِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالْوِجْدَانِ مِنَ النَّفْسِ (وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْقَلْبِ) وَلَمْ يُعْرَفْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ أَنَّ كَلَامًا قَارَبَ الْقُرْآنَ فِي قُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، فَهُوَ الَّذِي قَلَبَ
سَرْدِ الْقَوَاعِدِ بِعِبَارَةٍ فَنِّيَّةٍ دَقِيقَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ فَصَاحَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَنْ بَيَانِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْوَاضِعِينَ لِهَذِهِ الْفُنُونِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْقَرْنِ الْخَامِسِ، كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَابْنِ جِنِّيٍّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ، حَتَّى صَارَ أَوْسَعُ النَّاسِ عِلْمًا بِهَذِهِ الْفُنُونِ أَجْهَلَ قُرَّاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَا، وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْهَا، بَلْهُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، فَمَنْ يَقْرَأْ مِنْ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ إِلَّا مِثْلَ السَّمَرْقَنْدِيَّةِ وَشَرْحَيْ (جَوْهَرِ الْفُنُونِ) وَ (عُقُودِ الْجُمَانِ) فَشَرْحَيِ التَّلْخِيصِ لِلسَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَحَوَاشِيهَمَا لَا يُرْجَى أَنْ يَذُوقَ لِلْبَلَاغَةِ طَعْمًا، أَوْ يُقِيمَ لِلْبَيَانِ وَزْنًا، فَأَنَّى يَهْتَدِي إِلَى الْإِعْجَازِ بِهِمَا سَبِيلًا، أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؟ وَإِنَّمَا يُرْجَى هَذَا الذَّوْقُ لِمَنْ يَقْرَأُ أَسْرَارَ الْبَلَاغَةِ وَدَلَائِلَ الْإِعْجَازِ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، فَإِنَّهُمَا هُمَا الْكِتَابَانِ اللَّذَانِ يُحِيلَانِكَ فِي قَوَانِينِ الْبَلَاغَةِ عَلَى وِجْدَانِكَ، وَمَا تَجِدُ مِنْ أَثَرِ الْكَلَامِ فِي قَلْبِكَ وَجَنَانِكَ، فَتَرَى أَنَّ عِلْمَيِ الْبَيَانِ شُعْبَةٌ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُمَا يَشْهَدُ لَهَا الشُّعُورُ وَالْحِسُّ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مِنْ مَنْظُومِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمَنْثُورِهِ، وَاسْتِظْهَارِ بَعْضِهِ مَعَ فَهْمِهِ، كَمَا قَرَّرَ حَكِيمُنَا ابْنُ خَلْدُونَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عِلْمِ الْبَيَانِ مِنْ مُقَدِّمَتِهِ.
فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الْبَلَاغَةِ فَهْمًا وَأَدَاءً، وَالْقَوَانِينُ الْمَوْضُوعَةُ لَهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَنْبَطًا مِنْهَا، وَقَدْ عُكِسَتِ الْقَضِيَّةُ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى حَتَّى سَاغَ لِمُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ أَنْ يَقُولَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي تُقْرَأُ فِي مَدْرَسَةِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ وَأَمْثَالِهَا: إِنَّ قَوَاعِدَهَا تَقْلِيدِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِهَا تَفَاضُلُ الْكَلَامِ، إِذْ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ مُزَاوَلَةً لَهَا أَضْعَفَهُمْ بَيَانًا، وَأَشَدَّهُمْ عِيًّا وَفَهَاهَةً.
فَمَعْرِفَةُ مَكَانَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَحْكُمُهَا مِنَ الْجِهَةِ الْفَنِّيَّةِ وَالذَّوْقِيَّةِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ حَظًّا عَظِيمًا مِنْ مُخْتَارِ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ الْمَنْظُومِ وَالْمَنْثُورِ، مِنْ مُرْسَلٍ وَمَسْجُوعٍ، حَتَّى صَارَ مَلَكَةً لَهُ وَذَوْقًا، وَاسْتَعَانَ عَلَى فَهْمِ فَلْسَفَتِهِ بِمِثْلِ كِتَابَيْ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَالصِّنَاعَتَيْنِ لِأَبِي هِلَالٍ الْعَسْكَرِيِّ، وَالْخَصَائِصِ لِابْنِ جِنِّيٍّ، وَأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَمُغْنِي اللَّبِيبِ لِابْنِ هِشَامٍ، هَذِهِ مُقَدِّمَاتُ الْبَلَاغَةِ وَنَتِيجَتُهَا الْمَلَكَةُ وَلَهَا غَايَةٌ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا مِنَ التَّارِيخِ، وَهِيَ مَا كَانَ لِلْقُرْآنِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ فِيمَنْ حَذَقَهَا مِنَ الْأَعَاجِمِ أَيْضًا.
الْحَدُّ الصَّحِيحُ لِلْبَلَاغَةِ فِي الْكَلَامِ هِيَ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَا يُرِيدُ مِنْ نَفْسِ السَّامِعِ بِإِصَابَةِ
مَوْضِعِ الْإِقْنَاعِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالْوِجْدَانِ مِنَ النَّفْسِ (وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْقَلْبِ) وَلَمْ يُعْرَفْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ أَنَّ كَلَامًا قَارَبَ الْقُرْآنَ فِي قُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، فَهُوَ الَّذِي قَلَبَ
168
طِبَاعَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَحَوَّلَهَا عَنْ عَقَائِدِهَا وَتَقَالِيدِهَا، وَصَرَفَهَا عَنْ عَادَاتِهَا وَعَدَاوَاتِهَا، وَصَدَفَ بِهَا عَنْ أَثَرَتِهَا وَثَارَاتِهَا، وَبَدَّلَهَا بِأُمِّيَّتِهَا حِكْمَةً وَعِلْمًا، وَبِجَاهِلِيَّتِهَا أَدَبًا رَائِعًا وَحِلْمًا، وَأَلَّفَ مِنْ قَبَائِلِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ وَاحِدَةً سَادَتِ الْعَالَمَ بِعَقَائِدِهَا وَفَضَائِلِهَا وَعَدْلِهَا وَحَضَارَتِهَا، وَعُلُومِهَا وَفُنُونِهَا.
اهْتَدَى إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ إِعْجَازِ بَعْضِ حُكَمَاءِ أُورُبَّةَ مُسْتَنْبِطًا لَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَايَةِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيَّنَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤْتَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى مِنَ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ مُوَلَّهًا مُدَلَّهًا، خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا، فَيَفْعَلُ فِي جَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَوْقَ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ.
وَقَدْ رَأَيْنَا وَرُوِّيْنَا عَنْ بَعْضِ أُدَبَاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ إِلَى بَعْضِ بُيُوتِ مَعَارِفِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَيُمَتِّعُوا ذَوْقَهُمُ الْعَرَبِيَّ وَشُعُورَهُمُ الرُّوحَانِيَّ الْأَدَبِيَّ بِسَمَاعِ آيَاتِهِ الْمُعْجِزَةِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِنْصَافِ مِنْهُمْ بِهَذَا الْإِعْجَازِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، وَالْبَلَاغَةُ يَغُوصُ تَأْثِيرُهَا فِي أَعْمَاقِ الْقُلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي آخَرِ هَذَا الْبَحْثِ.
وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُورِدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَخَرَجْتُ عَنِ الِاخْتِصَارِ الَّذِي الْتَزَمْتُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى عَجَائِبِهَا فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ مَا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى الدِّقَّةُ فِي مَعَانِي مُفْرَدَاتِهِ، وَتَحْدِيدُ الْحَقَائِقِ فِي جُمَلِهِ، وَمَزْجُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي أُسْلُوبِهِ، وَلُطْفُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ آيَاتِهِ وَبَيْنَ سُوَرِهِ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا ضُرُوبُ إِيجَازِهِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا، وَكَثْرَةُ تَكْرَارِهِ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِعِبَارَاتٍ لَا يَمَلَّهَا قَارِئٌ وَلَا سَامِعٌ، وَقَدْ نَبَّهْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهَا. وَمِنَ الْعَجَبِ غَفْلَةُ أَكْثَرِ طُلَّابِ الْبَلَاغَةِ عَنْهَا.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِمَا فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ:
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ مِنْ مَاضٍ، كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ فِيهِ، وَمِنْ حَاضِرٍ فِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) (٣٠: ١ - ٥) الْآيَةَ، وَفِيهَا خَبَرَانِ عَنِ الْغَيْبِ ظَهَرَ صِدْقُهُمَا بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - رَاهَنَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى صِدْقِ الْخَبَرِ فَرَبِحَ الرِّهَانَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) (٤٨: ١٥)
اهْتَدَى إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ إِعْجَازِ بَعْضِ حُكَمَاءِ أُورُبَّةَ مُسْتَنْبِطًا لَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَايَةِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيَّنَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤْتَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى مِنَ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ مُوَلَّهًا مُدَلَّهًا، خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا، فَيَفْعَلُ فِي جَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَوْقَ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ.
وَقَدْ رَأَيْنَا وَرُوِّيْنَا عَنْ بَعْضِ أُدَبَاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ إِلَى بَعْضِ بُيُوتِ مَعَارِفِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَيُمَتِّعُوا ذَوْقَهُمُ الْعَرَبِيَّ وَشُعُورَهُمُ الرُّوحَانِيَّ الْأَدَبِيَّ بِسَمَاعِ آيَاتِهِ الْمُعْجِزَةِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِنْصَافِ مِنْهُمْ بِهَذَا الْإِعْجَازِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، وَالْبَلَاغَةُ يَغُوصُ تَأْثِيرُهَا فِي أَعْمَاقِ الْقُلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي آخَرِ هَذَا الْبَحْثِ.
وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُورِدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَخَرَجْتُ عَنِ الِاخْتِصَارِ الَّذِي الْتَزَمْتُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى عَجَائِبِهَا فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ مَا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى الدِّقَّةُ فِي مَعَانِي مُفْرَدَاتِهِ، وَتَحْدِيدُ الْحَقَائِقِ فِي جُمَلِهِ، وَمَزْجُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي أُسْلُوبِهِ، وَلُطْفُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ آيَاتِهِ وَبَيْنَ سُوَرِهِ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا ضُرُوبُ إِيجَازِهِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا، وَكَثْرَةُ تَكْرَارِهِ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِعِبَارَاتٍ لَا يَمَلَّهَا قَارِئٌ وَلَا سَامِعٌ، وَقَدْ نَبَّهْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهَا. وَمِنَ الْعَجَبِ غَفْلَةُ أَكْثَرِ طُلَّابِ الْبَلَاغَةِ عَنْهَا.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِمَا فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ:
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ مِنْ مَاضٍ، كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ فِيهِ، وَمِنْ حَاضِرٍ فِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) (٣٠: ١ - ٥) الْآيَةَ، وَفِيهَا خَبَرَانِ عَنِ الْغَيْبِ ظَهَرَ صِدْقُهُمَا بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - رَاهَنَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى صِدْقِ الْخَبَرِ فَرَبِحَ الرِّهَانَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) (٤٨: ١٥)
169
الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) (٤٨: ١٦) وَقَوْلِهِ: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) (٤٨: ٢٧) وَهَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَفِي غَيْرِهَا أَيْضًا، وَفِي سُورَةِ التَّوْبَةِ أَمْثَالُهَا مِنَ الْأَخْبَارِ عَمَّا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ وَعَمَّا سَيَقُولُونَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَمِنْ أَظْهَرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَعْدُهُ تَعَالَى بِحِفْظِ الْقُرْآنِ مِنَ النِّسْيَانِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (١٥: ٩) وَوَعَدُهُ بِحِفْظِ الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٥: ٦٧) دَعْ مَا تَكَرَّرَ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ مِنْ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ وَعِيدِهِ لِلْكَافِرِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (٢٤: ٥٥) وَكَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا يُنْجِزْ لَنَا وَعْدَهُ هَذَا كُلَّهُ، بَلْ بَعْضَهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِتْمَامِهِ بِسِيَادَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ حَتَّى أُورُبَّةَ الْمُعَادِيَةَ لَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) (٦: ٦٥) الْآيَةَ، أَنَّهُ قَالَ " إِنَّهَا نَبَأٌ غَيْبِيٌّ عَمَّنْ يَأْتِي بَعْدُ " بَلْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا، وَتَجِدُ بَيَانَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ ظُهُورُ مِصْدَاقِهَا فِي حَرْبِ الْأُمَمِ الْكُبْرَى الْأَخِيرَةِ.
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ بِالْغَيْبِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا وَكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ
عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، إِذْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهَا بِمَا يَصِحُّ بِالْمُصَادَفَةِ أَوِ الْقَرَائِنِ أَحْيَانًا مِنْ أَقْوَالِ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، فَإِنَّ كَذِبَ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ صِدْقِهِمْ - إِنْ صَحَّ تَسْمِيَةُ مَا يَتَّفِقُ لَهُمْ صِدْقًا مِنْهُمْ - وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يُحْصُونَ عَلَيْهِمْ أَقْوَالَهُمْ وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْ حِيَلِهِمْ وَتَلْبِيسَاتِهِمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ إِذَا اقْتَضَتْهُ الْحَالُ، كَتَشْنِيعِ أَبِي تَمَّامٍ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ عَمُورِيَةَ لَا تُفْتَحُ إِلَّا عِنْدَ نُضْجِ التِّينِ وَالْعِنَبِ، فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي مَطْلَعُهَا:
السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ
وَيَقُولُ فِيهَا:
وَقَدْ قُتِلَ فِي عَصْرِنَا وَزِيرٌ مِنْ وُزَرَاءِ مِصْرَ، فَوَجَدَ النَّاسُ فِي تَقْوِيمِ (نَتِيجَةِ) تِلْكَ السَّنَةِ لِأَحَدِ الْمُنَجِّمِينَ نَبَأً عَنْ قَتْلِهِ، وَمِنْ شَأْنِ هَذَا التَّقْوِيمِ أَنْ يَكُونَ طُبِعَ قُبَيْلَ دُخُولِ السَّنَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا، وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ فِي ذَلِكَ، فَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا التَّقْوِيمِ قَدْ طَبَعَ الْوَرَقَةَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا هَذَا النَّبَأُ بَعْدَ وُقُوعِ الْقَتْلِ، وَوَضَعَهَا فِيهِ مَوْضِعَ وَرَقَةٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا مِنْهُ فَأَحْرَقَهَا،
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ بِالْغَيْبِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا وَكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ
عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، إِذْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهَا بِمَا يَصِحُّ بِالْمُصَادَفَةِ أَوِ الْقَرَائِنِ أَحْيَانًا مِنْ أَقْوَالِ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، فَإِنَّ كَذِبَ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ صِدْقِهِمْ - إِنْ صَحَّ تَسْمِيَةُ مَا يَتَّفِقُ لَهُمْ صِدْقًا مِنْهُمْ - وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يُحْصُونَ عَلَيْهِمْ أَقْوَالَهُمْ وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْ حِيَلِهِمْ وَتَلْبِيسَاتِهِمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ إِذَا اقْتَضَتْهُ الْحَالُ، كَتَشْنِيعِ أَبِي تَمَّامٍ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ عَمُورِيَةَ لَا تُفْتَحُ إِلَّا عِنْدَ نُضْجِ التِّينِ وَالْعِنَبِ، فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي مَطْلَعُهَا:
السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ
وَيَقُولُ فِيهَا:
| سَبْعُونَ أَلْفًا كَآسَادِ الشَّرَى نَضِجَتْ | جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التِّينِ وَالْعِنَبِ |
170
وَلَكِنْ كَانَ قَدْ بِيعَ بَعْضُ النُّسَخِ مِنَ التَّقْوِيمِ فَوَجَدَ الْمُدَقِّقُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بَعْضَهَا، عَلَى أَنَّ دَأْبَ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ أَنْ يُعَبِّرُوا عَمَّا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ أَنْبَاءِ الْمُسْتَقْبَلِ بِآرَائِهِمْ وَبِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَأَخْبَارِ الصُّحُفِ الدَّوْرِيَّةِ بِرُمُوزٍ وَكِنَايَاتٍ وَإِشَارَاتٍ يُفَسِّرُونَ بِهَا الْوَقَائِعَ بِأَهْوَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوهَا تَحْتَمِلُ شَيْئًا مِنْهَا كَتَمُوهَا، وَتَعَذَّرَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَكْذِيبُهُمْ فِيهَا، وَأَمَّا مَا يَعْرِفُهُ الْفَلَكِيُّونَ بِالْحِسَابِ كَالْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ وَمَطَالِعِ الْكَوَاكِبِ وَمَغَارِبِهَا، فَلَيْسَ مِنَ التَّنْجِيمِ وَلَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ فِي شَيْءٍ.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِسَلَامَتِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ:
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) : سَلَامَتُهُ عَلَى طُولِهِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ، خِلَافًا لِجَمِيعِ كَلَامِ الْبَشَرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (٤: ٨٢) وَإِنَّنَا نَجِدُ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ يُصَنِّفُونَ الْكِتَابَ فَيُسَوِّدُونَ، ثُمَّ يُصَحِّحُونَ وَيُبَيِّضُونَ، ثُمَّ يَطْبَعُونَ وَيَنْشُرُونَ، ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ مِنَ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْأَغْلَاطِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا طَالَ الزَّمَانُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ قَدِ اسْتَخْرَجُوا مِنْهُ بَعْضَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، فَاضْطُرَّ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْهَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ دَفَعَ الْإِيرَادَ، وَأَظْهَرَ بُطْلَانَ الِانْتِقَادِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ تَقْلِيدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ سَدِيدًا (قُلْتُ) : إِذَا كَانَتْ عَيْنُ الرِّضَى مُتَّهَمَةً فَعَيْنُ السُّخْطِ أَوْلَى بِالتُّهْمَةِ، وَإِنَّنَا إِذَا لَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى كَلَامِ أَعْدَاءِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يَخْتَرِعُونَ التُّهَمَ أَوْ يُزَيِّنُونَهَا بِخِلَابَةِ الْقَوْلِ - وَلَا إِلَى الْمُقَلِّدِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - وَعَرَضْنَا مَا ذُكِرَ مِنْ ظَوَاهِرِ الِاخْتِلَافِ عَلَى فَرِيقِ الْمُسْتَدِلِّينَ الْمُسْتَقِلِّينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَعَارُضٌ حَقِيقِيٌّ مَعْنَوِيٌّ يُعَدُّ مَطْعَنًا صَحِيحًا فِيهِ، وَيَرَى النَّاظِرُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا وَفِي مِجَلَّتِنَا (الْمَنَارِ) بَيَانَ كُلِّ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْجَوَابِ الْمَعْقُولِ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِعْجَازِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي جُمْلَةِ الْقُرْآنِ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِنْهُ لَا فِي كُلِّ سُورَةٍ، فَإِنَّ سَلَامَةَ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ مِنْ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ أَمْرًا مُعْجِزًا يُتَحَدَّى بِهِ.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ:
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأُصُولِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَقَوَانِينِ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ وَقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ السِّيَاسِيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ الْمُوَافِقَةِ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَبِذَلِكَ يَفْضُلُ كُلَّ مَا سَبَقَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَمِنَ الشَّرَائِعِ الْوَضْعِيَّةِ، وَمِنَ الْآدَابِ الْفَلْسَفِيَّةِ، كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُنْصِفُونَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ، مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ الْأُمِّيِّ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ، حَتَّى
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِسَلَامَتِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ:
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) : سَلَامَتُهُ عَلَى طُولِهِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ، خِلَافًا لِجَمِيعِ كَلَامِ الْبَشَرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (٤: ٨٢) وَإِنَّنَا نَجِدُ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ يُصَنِّفُونَ الْكِتَابَ فَيُسَوِّدُونَ، ثُمَّ يُصَحِّحُونَ وَيُبَيِّضُونَ، ثُمَّ يَطْبَعُونَ وَيَنْشُرُونَ، ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ مِنَ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْأَغْلَاطِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا طَالَ الزَّمَانُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ قَدِ اسْتَخْرَجُوا مِنْهُ بَعْضَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، فَاضْطُرَّ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْهَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ دَفَعَ الْإِيرَادَ، وَأَظْهَرَ بُطْلَانَ الِانْتِقَادِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ تَقْلِيدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ سَدِيدًا (قُلْتُ) : إِذَا كَانَتْ عَيْنُ الرِّضَى مُتَّهَمَةً فَعَيْنُ السُّخْطِ أَوْلَى بِالتُّهْمَةِ، وَإِنَّنَا إِذَا لَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى كَلَامِ أَعْدَاءِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يَخْتَرِعُونَ التُّهَمَ أَوْ يُزَيِّنُونَهَا بِخِلَابَةِ الْقَوْلِ - وَلَا إِلَى الْمُقَلِّدِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - وَعَرَضْنَا مَا ذُكِرَ مِنْ ظَوَاهِرِ الِاخْتِلَافِ عَلَى فَرِيقِ الْمُسْتَدِلِّينَ الْمُسْتَقِلِّينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَعَارُضٌ حَقِيقِيٌّ مَعْنَوِيٌّ يُعَدُّ مَطْعَنًا صَحِيحًا فِيهِ، وَيَرَى النَّاظِرُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا وَفِي مِجَلَّتِنَا (الْمَنَارِ) بَيَانَ كُلِّ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْجَوَابِ الْمَعْقُولِ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِعْجَازِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي جُمْلَةِ الْقُرْآنِ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِنْهُ لَا فِي كُلِّ سُورَةٍ، فَإِنَّ سَلَامَةَ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ مِنْ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ أَمْرًا مُعْجِزًا يُتَحَدَّى بِهِ.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ:
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأُصُولِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَقَوَانِينِ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ وَقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ السِّيَاسِيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ الْمُوَافِقَةِ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَبِذَلِكَ يَفْضُلُ كُلَّ مَا سَبَقَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَمِنَ الشَّرَائِعِ الْوَضْعِيَّةِ، وَمِنَ الْآدَابِ الْفَلْسَفِيَّةِ، كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُنْصِفُونَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ، مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ الْأُمِّيِّ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ، حَتَّى
171
كَبَرَاءِ السِّيَاسِيِّينَ مِنْ خُصُومِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَلُورْدَ كُرُومَرَ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ بِمِصْرَ، فَإِنَّهُ شَهِدَ فِي تَقْرِيرِهِ السَّنَوِيِّ الْأَخِيرِ عَنْ مِصْرَ بِنَجَاحِ الْإِسْلَامِ الْبَاهِرِ فِي التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ دُونَ التَّشْرِيعِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، وَعَلَّلَ الْأَخِيرَ بِأَنَّ مَا وُضِعَ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوَافِقَ مَصَالِحَ جَمِيعِ النَّاسِ الْآنَ وَفِي كُلِّ آنٍ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ كِتَابًا سَأَلْتُهُ فِيهِ هَلْ يَعْنِي بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، أَمِ الْفِقْهَ الَّذِي وَضَعَهُ الْعُلَمَاءُ وَمَزَجُوا فِيهِ آرَاءَهُمْ بِمَا يَأْخُذُونَهُ عَنْهُمَا وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟. وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَأَنَا مُسْتَعِدٌّ لِإِظْهَارِ خَطَئِهِ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا قَالَ فِيهِ: " إِنَّنِي عَنَيْتُ بِمَا كَتَبْتُ مَجْمُوعَ الْقَوَانِينِ
الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الْفِقْهَ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، وَلَمْ أَعْنِ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ نَفْسَهُ " إِلَخْ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مَنْ أَظْهَرِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، فَإِنَّ عُلُومَ الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْغَيْبِيَّةِ وَالْآدَابِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ هِيَ أَعْلَى الْعُلُومِ، وَقَلَّمَا يَنْبُغُ فِيهَا مِنَ الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ لِدِرَاسَتِهَا السِّنِينَ الطِّوَالَ إِلَّا الْأَفْرَادُ الْقَلِيلُونَ، فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَا نَشَأَ فِي بَلَدِ عِلْمٍ وَتَشْرِيعٍ أَنْ يَأْتِيَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا تَحْقِيقًا وَكَمَالًا، وَيُؤَيِّدَهُ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ بَعْدَ أَنْ قَضَى ثُلْثَيْ عُمْرِهِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَمْ يَنْطِقْ بِقَاعِدَةٍ وَلَا أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهَا، وَلَا حَكَمَ بِفَرْعٍ مِنْ فُرُوعِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى؟.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِعَجْزِ الزَّمَانِ عَنْ إِبْطَالِ شَيْءٍ مِنْهُ:
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) : أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، وَيَصِفُ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَشَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَدَرَارِيهَا وَنُجُومَهَا وَالْأَرْضَ وَالْهَوَاءَ وَالسَّحَابَ وَالْمَاءَ مِنْ بِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَعُيُونٍ وَيَنَابِيعَ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِكَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، وَبَيَانٌ لِطَرِيقِ التَّشْرِيعِ السَّوِيِّ لِلْأُمَمِ، وَقَدْ حَفِظَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِيهِ بِكَلِمِهِ وَحُرُوفِهِ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنَيِّفٍ، ثُمَّ عَجَزَتْ هَذِهِ الْقُرُونُ الَّتِي ارْتَقَتْ فِيهَا جَمِيعُ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ أَنْ تَنْقُضَ بِنَاءَ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ، أَوْ تُبْطِلَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ، أَوْ تُكَذِّبَ خَبَرًا مِنْ أَخْبَارِهِ، وَهِيَ الَّتِي جَعَلَتْ فَلْسَفَةَ الْيُونَانِ دَكًّا، وَنَسَخَتْ شَرَائِعَ الْأُمَمِ نَسْخًا، وَتَرَكَتْ سَائِرَ عُلُومِ الْأَوَائِلِ قَاعًا صَفْصَفًا، وَوَضَعَتْ لِأَخْبَارِ التَّارِيخِ قَوَاعِدَ فَلْسَفِيَّةً، وَرَجَعَتْ فِي تَحْقِيقِهَا إِلَى مَا عَثَرَ عَلَيْهِ الْمُنَقِّبُونَ مِنَ الْآثَارِ الْعَادِيَّةِ، وَحَكَّمَتْ فِيهَا أُصُولَ الْعُمْرَانِ، وَمَا يُسَمُّونَهُ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ، بِحَيْثُ لَمْ تُبْقِ لِعُلَمَاءِ الْأَوَائِلِ كِتَابًا غَيْرَ مُدَعْثَرِ الْأَعْضَادِ سَاقِطِ الْعِمَادِ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَلَامَتِهِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ، فَتِلْكَ فِي الْمَاضِي، وَهَذِهِ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، ذَاكَ الِاخْتِلَافُ يَقَعُ مِنَ النَّاسِ بِقِلَّةِ الْعِرْفَانِ،
الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الْفِقْهَ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، وَلَمْ أَعْنِ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ نَفْسَهُ " إِلَخْ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مَنْ أَظْهَرِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، فَإِنَّ عُلُومَ الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْغَيْبِيَّةِ وَالْآدَابِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ هِيَ أَعْلَى الْعُلُومِ، وَقَلَّمَا يَنْبُغُ فِيهَا مِنَ الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ لِدِرَاسَتِهَا السِّنِينَ الطِّوَالَ إِلَّا الْأَفْرَادُ الْقَلِيلُونَ، فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَا نَشَأَ فِي بَلَدِ عِلْمٍ وَتَشْرِيعٍ أَنْ يَأْتِيَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا تَحْقِيقًا وَكَمَالًا، وَيُؤَيِّدَهُ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ بَعْدَ أَنْ قَضَى ثُلْثَيْ عُمْرِهِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَمْ يَنْطِقْ بِقَاعِدَةٍ وَلَا أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهَا، وَلَا حَكَمَ بِفَرْعٍ مِنْ فُرُوعِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى؟.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِعَجْزِ الزَّمَانِ عَنْ إِبْطَالِ شَيْءٍ مِنْهُ:
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) : أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، وَيَصِفُ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَشَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَدَرَارِيهَا وَنُجُومَهَا وَالْأَرْضَ وَالْهَوَاءَ وَالسَّحَابَ وَالْمَاءَ مِنْ بِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَعُيُونٍ وَيَنَابِيعَ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِكَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، وَبَيَانٌ لِطَرِيقِ التَّشْرِيعِ السَّوِيِّ لِلْأُمَمِ، وَقَدْ حَفِظَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِيهِ بِكَلِمِهِ وَحُرُوفِهِ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنَيِّفٍ، ثُمَّ عَجَزَتْ هَذِهِ الْقُرُونُ الَّتِي ارْتَقَتْ فِيهَا جَمِيعُ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ أَنْ تَنْقُضَ بِنَاءَ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ، أَوْ تُبْطِلَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ، أَوْ تُكَذِّبَ خَبَرًا مِنْ أَخْبَارِهِ، وَهِيَ الَّتِي جَعَلَتْ فَلْسَفَةَ الْيُونَانِ دَكًّا، وَنَسَخَتْ شَرَائِعَ الْأُمَمِ نَسْخًا، وَتَرَكَتْ سَائِرَ عُلُومِ الْأَوَائِلِ قَاعًا صَفْصَفًا، وَوَضَعَتْ لِأَخْبَارِ التَّارِيخِ قَوَاعِدَ فَلْسَفِيَّةً، وَرَجَعَتْ فِي تَحْقِيقِهَا إِلَى مَا عَثَرَ عَلَيْهِ الْمُنَقِّبُونَ مِنَ الْآثَارِ الْعَادِيَّةِ، وَحَكَّمَتْ فِيهَا أُصُولَ الْعُمْرَانِ، وَمَا يُسَمُّونَهُ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ، بِحَيْثُ لَمْ تُبْقِ لِعُلَمَاءِ الْأَوَائِلِ كِتَابًا غَيْرَ مُدَعْثَرِ الْأَعْضَادِ سَاقِطِ الْعِمَادِ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَلَامَتِهِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ، فَتِلْكَ فِي الْمَاضِي، وَهَذِهِ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، ذَاكَ الِاخْتِلَافُ يَقَعُ مِنَ النَّاسِ بِقِلَّةِ الْعِرْفَانِ،
172
وَبِضِعْفِ الْبَيَانِ، أَوْ بِمَا يَطْرَأُ عَلَى صَاحِبِهِ مِنَ الذُّهُولِ وَالنِّسْيَانِ، يُرِيدُ بَيَانَ شَيْءٍ فَيَخُونُهُ قَلَمُهُ وَلِسَانُهُ، وَيُعْوِزُهُ أَنْ يُحِيطَ بِأَطْرَافِهِ، وَأَنْ يُجَلِّيَهُ تَمَامَ التَّجَلِّي لِقَارِئِ كَلَامِهِ أَوْ سَامِعِهِ
ثُمَّ يَقُولُ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ عَلَى عِلْمٍ فَتُوَاتِيهِ الْعِبَارَةُ فَيُؤَدِّي الْمُرَادَ، فَيَخْتَلِفُ مَا أَبْدَأَ مَعَ مَا أَعَادَ، أَوْ يَقُولُ الْقَوْلَ ثُمَّ يَنْسَاهُ، فَيَأْتِي بِمَا يُخَالِفُهُ فِي مَعْنَاهُ، أَوْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَيَهْرِفُ بِمَا لَا يَعْرِفُ، وَذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْكَلَامِ وَضَعْفٌ فِي الْمُتَكَلِّمِ هُوَ مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ.
إِنَّ مَا يَأْخُذُهُ النَّاسُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ بِالتَّسْلِيمِ فِي زَمَانِهِمْ ثُمَّ يَظْهَرُ مَا يُبْطِلُ تِلْكَ الْمُسَلَّمَاتِ، وَيَنْقُصُ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ، لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي قَائِلِهِ، وَلَا ضَعْفًا فِي بَيَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعُهُ بَيَانَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْبَشَرُ. وَأَمَّا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْمَوْجُودَاتِ لِبَيَانِ الْعِبْرَةِ فِيهَا، أَوِ الْحَثِّ عَلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا، لَا لِبَيَانِ حَقِيقَتِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ صِفَاتِهَا الْفَنِّيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ فَنِّهَا، فَهُوَ لَا يُكَلَّفُ أَنْ يُبَيِّنَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ أَوْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِغَرَضِهِ مِنَ الْكَلَامِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَقَدْ يُنْتَقَدُ مِنْهُ هَذَا إِذَا كَانَ مِمَّا يَصْرِفُ السَّامِعَ عَنْ مُرَادِهِ مِنْهُ، أَوْ يُوجِبُ نَقْصًا فِي اسْتِفَادَتِهِ مِنْهُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الَّذِينَ يَعِظُونَ دَهْمَاءَ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ وَيَضْرِبُونَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَنِعَمِهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ وَالَّذِي لَا يُعَابُ فِيهِ مُخَالَفَتُهُ لِلْمَسَائِلِ الْفَنِّيَّةِ - وَقَدْ يُعَابُ فِيهِ تَكَلُّفُ مُوَافَقَتِهَا - جَاءَ مَعَ ذَلِكَ إِمَّا مُوَافِقًا وَإِمَّا غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَعَارِفِ أَهْلِ الْعَصْرِ الَّذِي خُوطِبَ أَهْلُهُ بِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْمَعَارِفِ كَانَتْ جَهْلًا، وَظَهَرَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا تَجَدَّدَ مِنَ الْعِلْمِ الْحَقِّ وَالتَّشْرِيعِ الْعَدْلِ أَوْ غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذِهِ تُعَدُّ لَهُ مَزِيَّةٌ خَارِقَةٌ لِلْمُعْتَادِ فِي الْبَشَرِ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْقُرْآنُ وَحْدَهُ، فَهُوَ كِتَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الْعَالَمِ الْكَوْنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، مَرَّتِ الْعُصُورُ وَتَقَلَّبَتْ أَحْوَالُ الْبَشَرِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ خَطَأٌ قَطْعِيٌّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، لِهَذَا صَحَّ أَنْ تُجْعَلَ سَلَامَتُهُ مِنْ هَذَا الْخَطَأِ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ لِلْبَشَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا تَحَدَّى لَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَجْزَ الْبَشَرُ عَنْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَظْهَرَ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ، فَادُّخِرَ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى أَهْلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الطَّاعِنِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعُلُومَ وَالْفُنُونَ الْعَصْرِيَّةَ، مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَفَلَكِيَّةٍ وَتَارِيخِيَّةٍ، قَدْ نَقَضَتْ بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي مَوْضُوعِهَا، وَأَنَّ التَّشْرِيعَ الْعَصْرِيَّ أَقْرَبُ إِلَى مَصَالِحِ الْبَشَرِ مِنْ تَشْرِيعِهِ.
قُلْتُ: إِنَّنَا قَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ فَأَلْفَيْنَا أَنَّ بَعْضَهَا جَاءَ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِمْ
أَوْ فَهْمِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْ جُمُودِ الْفُقَهَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، وَبَعْضَهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّضْلِيلِ، وَقَدْ رَدَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْهَا. وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالنَّقْضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ مِرَاءً ظَاهِرًا مَقْبُولًا، وَلَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ لَاضْطَرَبَ الْعَالَمُ لَهُ اضْطِرَابًا عَظِيمًا، كَمَا أَنَّ
ثُمَّ يَقُولُ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ عَلَى عِلْمٍ فَتُوَاتِيهِ الْعِبَارَةُ فَيُؤَدِّي الْمُرَادَ، فَيَخْتَلِفُ مَا أَبْدَأَ مَعَ مَا أَعَادَ، أَوْ يَقُولُ الْقَوْلَ ثُمَّ يَنْسَاهُ، فَيَأْتِي بِمَا يُخَالِفُهُ فِي مَعْنَاهُ، أَوْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَيَهْرِفُ بِمَا لَا يَعْرِفُ، وَذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْكَلَامِ وَضَعْفٌ فِي الْمُتَكَلِّمِ هُوَ مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ.
إِنَّ مَا يَأْخُذُهُ النَّاسُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ بِالتَّسْلِيمِ فِي زَمَانِهِمْ ثُمَّ يَظْهَرُ مَا يُبْطِلُ تِلْكَ الْمُسَلَّمَاتِ، وَيَنْقُصُ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ، لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي قَائِلِهِ، وَلَا ضَعْفًا فِي بَيَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعُهُ بَيَانَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْبَشَرُ. وَأَمَّا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْمَوْجُودَاتِ لِبَيَانِ الْعِبْرَةِ فِيهَا، أَوِ الْحَثِّ عَلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا، لَا لِبَيَانِ حَقِيقَتِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ صِفَاتِهَا الْفَنِّيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ فَنِّهَا، فَهُوَ لَا يُكَلَّفُ أَنْ يُبَيِّنَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ أَوْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِغَرَضِهِ مِنَ الْكَلَامِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَقَدْ يُنْتَقَدُ مِنْهُ هَذَا إِذَا كَانَ مِمَّا يَصْرِفُ السَّامِعَ عَنْ مُرَادِهِ مِنْهُ، أَوْ يُوجِبُ نَقْصًا فِي اسْتِفَادَتِهِ مِنْهُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الَّذِينَ يَعِظُونَ دَهْمَاءَ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ وَيَضْرِبُونَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَنِعَمِهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ وَالَّذِي لَا يُعَابُ فِيهِ مُخَالَفَتُهُ لِلْمَسَائِلِ الْفَنِّيَّةِ - وَقَدْ يُعَابُ فِيهِ تَكَلُّفُ مُوَافَقَتِهَا - جَاءَ مَعَ ذَلِكَ إِمَّا مُوَافِقًا وَإِمَّا غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَعَارِفِ أَهْلِ الْعَصْرِ الَّذِي خُوطِبَ أَهْلُهُ بِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْمَعَارِفِ كَانَتْ جَهْلًا، وَظَهَرَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا تَجَدَّدَ مِنَ الْعِلْمِ الْحَقِّ وَالتَّشْرِيعِ الْعَدْلِ أَوْ غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذِهِ تُعَدُّ لَهُ مَزِيَّةٌ خَارِقَةٌ لِلْمُعْتَادِ فِي الْبَشَرِ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْقُرْآنُ وَحْدَهُ، فَهُوَ كِتَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الْعَالَمِ الْكَوْنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، مَرَّتِ الْعُصُورُ وَتَقَلَّبَتْ أَحْوَالُ الْبَشَرِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ خَطَأٌ قَطْعِيٌّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، لِهَذَا صَحَّ أَنْ تُجْعَلَ سَلَامَتُهُ مِنْ هَذَا الْخَطَأِ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ لِلْبَشَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا تَحَدَّى لَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَجْزَ الْبَشَرُ عَنْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَظْهَرَ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ، فَادُّخِرَ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى أَهْلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الطَّاعِنِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعُلُومَ وَالْفُنُونَ الْعَصْرِيَّةَ، مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَفَلَكِيَّةٍ وَتَارِيخِيَّةٍ، قَدْ نَقَضَتْ بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي مَوْضُوعِهَا، وَأَنَّ التَّشْرِيعَ الْعَصْرِيَّ أَقْرَبُ إِلَى مَصَالِحِ الْبَشَرِ مِنْ تَشْرِيعِهِ.
قُلْتُ: إِنَّنَا قَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ فَأَلْفَيْنَا أَنَّ بَعْضَهَا جَاءَ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِمْ
أَوْ فَهْمِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْ جُمُودِ الْفُقَهَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، وَبَعْضَهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّضْلِيلِ، وَقَدْ رَدَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْهَا. وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالنَّقْضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ مِرَاءً ظَاهِرًا مَقْبُولًا، وَلَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ لَاضْطَرَبَ الْعَالَمُ لَهُ اضْطِرَابًا عَظِيمًا، كَمَا أَنَّ
173
الْعِبْرَةَ فِي التَّشْرِيعِ بِمَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّشْرِيعُ الْإِسْلَامِيُّ يَفْضُلُ التَّشْرِيعَ الْأُورُبِّيَّ الْمَادِّيَّ بِهَذَا وَيَسْبِقُهُ إِلَى السُّؤَالِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ كَهَنَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَدَّعُونَ مِثْلَكُمْ أَنَّ كُتُبَهُمُ الْمُقَدَّسَةَ سَالِمَةٌ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَمُخَالِفَةِ حَقَائِقِ الْوُجُودِ الثَّابِتَةِ وَيَتَكَلَّفُونَ مِثْلَكُمْ لِرَدِّ مَا يُورِدُهُ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ وَالْمُؤَرِّخُونَ مُخَالِفًا لِتِلْكَ الْكُتُبِ.
(قُلْتُ) :(إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ مُخَالَفَةِ كَلَامِ الْخَالِقِ لِكَلَامِ الْخَلْقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لَوْ بَقِيَتْ كَمَا أُنْزِلَتْ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ التَّارِيخِ بِالْقَطْعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ أَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَوَضَعَهَا فِي التَّابُوتِ (صُنْدُوقِ الْعَهْدِ) وَأَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحِفْظِهَا كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي آخِرِ سِفْرِ (تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ) قَدْ فُقِدَتْ مِنَ الْوُجُودِ عِنْدَمَا أَغَارَ الْبَابِلِيُّونَ عَلَى الْيَهُودِ وَأَحْرَقُوا هَيْكَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالتَّوْرَاةُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ يَرْجِعُ أَصْلُهَا إِلَى مَا كَتَبَهُ عِزْرَا الْكَاهِنُ بِأَمْرِ " ارتحشستا " مَلِكِ فَارِسَ الَّذِي أَذِنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعَوْدَةِ إِلَى أُورْشَلِيمَ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ كِتَابًا مِنْ شَرِيعَةِ الرَّبِّ وَشَرِيعَةِ الْمَلِكِ، وَلِذَلِكَ تَكْثُرُ فِيهَا الْأَلْفَاظُ الْبَابِلِيَّةُ كَثْرَةً فَاحِشَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَبَعْضِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُدَوَّنْ فِي عَصْرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ وَعَنِ الْحَوَارِيِّينَ كَمَا نُقِلَ الْقُرْآنُ تَوَاتُرًا بِالْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ، وَلَا كَنَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الَّتِي هِيَ قِصَصٌ مُخْتَصَرَةٌ لَهُ وَاشْتُهِرَتْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ، كَمَا ظَهَرَ عَشَرَاتٌ غَيْرُهَا، فَاعْتَمَدَ أَرْبَعَةً مِنْهَا رُؤَسَاءُ الْكَنِيسَةِ الَّتِي أَسَّسَهَا قُسْطَنْطِينُ مِلْكُ الرُّومِ الَّذِي تَنَصَّرَ تَنَصُّرًا سِيَاسِيًّا، وَأَدْخَلَ النَّصْرَانِيَّةَ فِي دَوْرٍ جَدِيدٍ مَمْزُوجٍ بِالْوَثَنِيَّةِ وَرَفَضُوا الْبَاقِيَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مُفَصَّلًا فِي الْآيَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّوْرَاةِ).
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ كَهَنَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَدَّعُونَ مِثْلَكُمْ أَنَّ كُتُبَهُمُ الْمُقَدَّسَةَ سَالِمَةٌ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَمُخَالِفَةِ حَقَائِقِ الْوُجُودِ الثَّابِتَةِ وَيَتَكَلَّفُونَ مِثْلَكُمْ لِرَدِّ مَا يُورِدُهُ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ وَالْمُؤَرِّخُونَ مُخَالِفًا لِتِلْكَ الْكُتُبِ.
(قُلْتُ) :(إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ مُخَالَفَةِ كَلَامِ الْخَالِقِ لِكَلَامِ الْخَلْقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لَوْ بَقِيَتْ كَمَا أُنْزِلَتْ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ التَّارِيخِ بِالْقَطْعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ أَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَوَضَعَهَا فِي التَّابُوتِ (صُنْدُوقِ الْعَهْدِ) وَأَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحِفْظِهَا كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي آخِرِ سِفْرِ (تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ) قَدْ فُقِدَتْ مِنَ الْوُجُودِ عِنْدَمَا أَغَارَ الْبَابِلِيُّونَ عَلَى الْيَهُودِ وَأَحْرَقُوا هَيْكَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالتَّوْرَاةُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ يَرْجِعُ أَصْلُهَا إِلَى مَا كَتَبَهُ عِزْرَا الْكَاهِنُ بِأَمْرِ " ارتحشستا " مَلِكِ فَارِسَ الَّذِي أَذِنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعَوْدَةِ إِلَى أُورْشَلِيمَ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ كِتَابًا مِنْ شَرِيعَةِ الرَّبِّ وَشَرِيعَةِ الْمَلِكِ، وَلِذَلِكَ تَكْثُرُ فِيهَا الْأَلْفَاظُ الْبَابِلِيَّةُ كَثْرَةً فَاحِشَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَبَعْضِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُدَوَّنْ فِي عَصْرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ وَعَنِ الْحَوَارِيِّينَ كَمَا نُقِلَ الْقُرْآنُ تَوَاتُرًا بِالْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ، وَلَا كَنَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الَّتِي هِيَ قِصَصٌ مُخْتَصَرَةٌ لَهُ وَاشْتُهِرَتْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ، كَمَا ظَهَرَ عَشَرَاتٌ غَيْرُهَا، فَاعْتَمَدَ أَرْبَعَةً مِنْهَا رُؤَسَاءُ الْكَنِيسَةِ الَّتِي أَسَّسَهَا قُسْطَنْطِينُ مِلْكُ الرُّومِ الَّذِي تَنَصَّرَ تَنَصُّرًا سِيَاسِيًّا، وَأَدْخَلَ النَّصْرَانِيَّةَ فِي دَوْرٍ جَدِيدٍ مَمْزُوجٍ بِالْوَثَنِيَّةِ وَرَفَضُوا الْبَاقِيَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مُفَصَّلًا فِي الْآيَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّوْرَاةِ).
174
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِتَحْقِيقِ مَسَائِلَ كَانَتْ مَجْهُولَةً لِلْبَشَرِ:
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) : اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَى تَحْقِيقِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي عَصْرِ نُزُولِهِ، ثُمَّ عُرِفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا انْكَشَفَ لِلْبَاحِثِينَ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ طَبِيعَةِ الْكَوْنِ وَتَارِيخِ الْبَشَرِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ السَّادِسِ مِنْ عَدَمِ نَقْضِ الْعُلُومِ لِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِ، وَلَا تَدْخُلُ فِي الْمُرَادِ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا اتِّصَالٌ بِقَصَصِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى كُلِّ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا، وَنُشِيرُ هُنَا إِلَى بَعْضِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَرْسَلَنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) (١٥: ٢٢) كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ: إِنَّهُ
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) : اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَى تَحْقِيقِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي عَصْرِ نُزُولِهِ، ثُمَّ عُرِفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا انْكَشَفَ لِلْبَاحِثِينَ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ طَبِيعَةِ الْكَوْنِ وَتَارِيخِ الْبَشَرِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ السَّادِسِ مِنْ عَدَمِ نَقْضِ الْعُلُومِ لِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِ، وَلَا تَدْخُلُ فِي الْمُرَادِ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا اتِّصَالٌ بِقَصَصِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى كُلِّ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا، وَنُشِيرُ هُنَا إِلَى بَعْضِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَرْسَلَنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) (١٥: ٢٢) كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ: إِنَّهُ
175
تَشْبِيهٌ لِتَأْثِيرِ الرِّيَاحِ الْبَارِدَةِ فِي السَّحَابِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِنُزُولِ الْمَطَرِ بِتَلْقِيحِ ذُكُورِ الْحَيَوَانِ لِإِنَاثِهِ، وَلَمَّا اهْتَدَى عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ إِلَى هَذَا وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِمَّا لَمْ يُسْبَقُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ صَرَّحَ بَعْضُ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الْقُرْآنِ مِنْهُمْ بِسَبْقِ الْعَرَبِ إِلَيْهِ. قَالَ مِسْتَرْ (أَجْنِيرِي) الْمُسْتَشْرِقُ الَّذِي كَانَ أُسْتَاذًا لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَدْرَسَةِ أُكْسُفُورْدَ فِي الْقَرْنِ الْمَاضِي: إِنَّ أَصْحَابَ الْإِبِلِ قَدْ عَرَفُوا أَنَّ الرِّيحَ تُلَقِّحُ الْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَهَا أَهْلُ أُورُبَّةَ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا. اهـ.
نَعَمْ إِنَّ أَهْلَ النَّخِيلِ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْرِفُونَ التَّلْقِيحَ إِذْ كَانُوا يَنْقُلُونَ بِأَيْدِيهِمُ اللَّقَاحَ مِنْ طَلْعِ ذُكُورِ النَّخْلِ إِلَى إِنَاثِهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرِّيَاحَ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْهَمِ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا مِنَ الْآيَةِ بَلْ حَمَلُوهَا عَلَى الْمَجَازِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (٢١: ٣٠) أَيْ أَكَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا مَادَّةً وَاحِدَةً فَفَتَقْنَاهُمَا وَخَلَقْنَا مِنْهَا هَذِهِ الْأَجْرَامَ السَّمَاوِيَّةَ الَّتِي تُظِلُّهُمْ، وَهَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي تُقِلُّهُمْ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ هِيَ الْمُبَيَّنَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (٤١: ١١) إِلَخْ.
وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ خَلْقُ كُلِّ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَهُوَ أَصْرَحُ فِي الْآيَةِ مِمَّا قَبْلَهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) (٥١: ٤٩) وَقَوْلُهُ: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (١٣: ٣) وَهَذِهِ السُّنَّةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي النَّبَاتِ
أَصْلٌ لِسُنَّةِ التَّلْقِيحِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّ الرِّيحَ تَنْقُلُ مَادَّةَ اللِّقَاحِ مِنَ الذَّكَرِ إِلَى الْأُنْثَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى
نَعَمْ إِنَّ أَهْلَ النَّخِيلِ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْرِفُونَ التَّلْقِيحَ إِذْ كَانُوا يَنْقُلُونَ بِأَيْدِيهِمُ اللَّقَاحَ مِنْ طَلْعِ ذُكُورِ النَّخْلِ إِلَى إِنَاثِهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرِّيَاحَ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْهَمِ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا مِنَ الْآيَةِ بَلْ حَمَلُوهَا عَلَى الْمَجَازِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (٢١: ٣٠) أَيْ أَكَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا مَادَّةً وَاحِدَةً فَفَتَقْنَاهُمَا وَخَلَقْنَا مِنْهَا هَذِهِ الْأَجْرَامَ السَّمَاوِيَّةَ الَّتِي تُظِلُّهُمْ، وَهَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي تُقِلُّهُمْ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ هِيَ الْمُبَيَّنَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (٤١: ١١) إِلَخْ.
وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ خَلْقُ كُلِّ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَهُوَ أَصْرَحُ فِي الْآيَةِ مِمَّا قَبْلَهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) (٥١: ٤٩) وَقَوْلُهُ: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (١٣: ٣) وَهَذِهِ السُّنَّةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي النَّبَاتِ
أَصْلٌ لِسُنَّةِ التَّلْقِيحِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّ الرِّيحَ تَنْقُلُ مَادَّةَ اللِّقَاحِ مِنَ الذَّكَرِ إِلَى الْأُنْثَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى
176
عِدَّةُ آيَاتٍ، أَعَمُّهَا وَأَغْرَبُهَا وَأَعْجَبُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) (٣٦: ٣٦).
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٥: ١٩) إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ أَكْبَرُ مِثَالٍ لِلْعَجَبِ بِهَذَا التَّعْبِيرِ (مَوْزُونٍ) فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْكَوْنِ الْأَخِصَّائِيِّينَ فِي عُلُومِ الْكِيمْيَاءِ وَالنَّبَاتِ قَدْ أَثْبَتُوا أَنَّ الْعَنَاصِرَ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا النَّبَاتُ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ مَقَادِيرَ مُعَيَّنَةٍ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ بِدِقَّةٍ غَرِيبَةٍ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا إِلَّا بِأَدَقِّ الْمَوَازِينِ الْمُقَدِّرَةِ مِنْ أَعْشَارِ الْغِرَامِ وَالْمِلِّيغِرَامِ، وَكَذَلِكَ نِسْبَةُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي كُلِّ نَبَاتٍ. أَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ (كُلِّ) الْمُضَافِ إِلَى لَفْظِ (شَيْءٍ) الَّذِي هُوَ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَوْصُوفِ بِالْمَوْزُونِ - تَحْقِيقٌ لِمَسَائِلَ عِلْمِيَّةٍ فَنِّيَّةٍ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا يَخْطُرُ بِبَالِ بَشَرٍ قَبْلَ هَذَا الْعَصْرِ، وَلَا يُمْكِنُ بَيَانُ مَعْنَاهَا بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا بِتَصْنِيفِ كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (٣٩: ٥) تَقُولُ الْعَرَبُ: كَارَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ إِذَا أَدَارَهَا وَلَفَّهَا، وَكَوَّرَهَا بِالتَّشْدِيدِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ وَتَكْثِيرٍ، فَالتَّكْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: إِدَارَةُ الشَّيْءِ عَلَى الْجِسْمِ الْمُسْتَدِيرِ كَالرَّأْسِ، فَتَكْوِيرُ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ، وَفِي بَيَانِ حَقِيقَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ فِي الْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) (٧: ٥٤).
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٦: ٣٨ - ٤٠) فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ.
وَمِنْهُ الْآيَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْوَارِدَةُ فِي خَرَابِ الْعَالِمِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَكَوْنِ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَارِعَةٍ تَقْرَعُ الْأَرْضَ قَرْعًا، وَتَصُخُّهَا فَتَرُجُّهَا رَجًّا، وَتَبُسُّ جِبَالَهَا بَسًّا فَتَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَحِينَئِذٍ تَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ لِبُطْلَانِ مَا بَيْنَهَا مِنْ سُنَّةِ التَّجَاذُبِ وَالْآيَاتُ فِي هَذَا - وَفِيمَا قَبْلَهُ - تَدُلُّ دَلَالَةً صَرِيحَةً عَلَى بُطْلَانِ مَا كَانَ يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الْيُونَانِ وَمُقَلِّدَتُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِ فِي الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَالنُّجُومِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ مَا تَقَرَّرَ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَفِي نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ، وَيَجِدُ الْقَارِئُ تَفْصِيلَ هَذَا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَعَارِفِ الَّتِي جَاءَتْ فِي سِيَاقِ بَيَانِ آيَاتِ اللهِ وَحِكَمِهِ كَانَتْ مَجْهُولَةً لِلْعَرَبِ أَوْ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ فِي الْغَالِبِ، حَتَّى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَهَا وَيُخْرِجُونَهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا، لِتُوَافِقَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ ظَوَاهِرَ وَتَقَالِيدَ أَوْ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْبَاطِلَةِ، فَإِظْهَارُ تَرَقِّي الْعِلْمِ لِحَقِيقَتِهَا الْمُبَيَّنَةِ فِيهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُوحًى بِهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى.
هَذِهِ أَمِثْلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْفُنُونِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي خَطَرَتْ بِالْبَالِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ وَلَا مُرَاجَعَةٍ إِلَّا لِإِعْدَادِ الْآيَاتِ وَالسُّورِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْزِيزِهَا بِبَعْضِ الْأَمِثْلَةِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٥: ١٩) إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ أَكْبَرُ مِثَالٍ لِلْعَجَبِ بِهَذَا التَّعْبِيرِ (مَوْزُونٍ) فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْكَوْنِ الْأَخِصَّائِيِّينَ فِي عُلُومِ الْكِيمْيَاءِ وَالنَّبَاتِ قَدْ أَثْبَتُوا أَنَّ الْعَنَاصِرَ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا النَّبَاتُ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ مَقَادِيرَ مُعَيَّنَةٍ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ بِدِقَّةٍ غَرِيبَةٍ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا إِلَّا بِأَدَقِّ الْمَوَازِينِ الْمُقَدِّرَةِ مِنْ أَعْشَارِ الْغِرَامِ وَالْمِلِّيغِرَامِ، وَكَذَلِكَ نِسْبَةُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي كُلِّ نَبَاتٍ. أَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ (كُلِّ) الْمُضَافِ إِلَى لَفْظِ (شَيْءٍ) الَّذِي هُوَ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَوْصُوفِ بِالْمَوْزُونِ - تَحْقِيقٌ لِمَسَائِلَ عِلْمِيَّةٍ فَنِّيَّةٍ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا يَخْطُرُ بِبَالِ بَشَرٍ قَبْلَ هَذَا الْعَصْرِ، وَلَا يُمْكِنُ بَيَانُ مَعْنَاهَا بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا بِتَصْنِيفِ كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (٣٩: ٥) تَقُولُ الْعَرَبُ: كَارَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ إِذَا أَدَارَهَا وَلَفَّهَا، وَكَوَّرَهَا بِالتَّشْدِيدِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ وَتَكْثِيرٍ، فَالتَّكْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: إِدَارَةُ الشَّيْءِ عَلَى الْجِسْمِ الْمُسْتَدِيرِ كَالرَّأْسِ، فَتَكْوِيرُ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ، وَفِي بَيَانِ حَقِيقَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ فِي الْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) (٧: ٥٤).
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٦: ٣٨ - ٤٠) فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ.
وَمِنْهُ الْآيَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْوَارِدَةُ فِي خَرَابِ الْعَالِمِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَكَوْنِ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَارِعَةٍ تَقْرَعُ الْأَرْضَ قَرْعًا، وَتَصُخُّهَا فَتَرُجُّهَا رَجًّا، وَتَبُسُّ جِبَالَهَا بَسًّا فَتَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَحِينَئِذٍ تَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ لِبُطْلَانِ مَا بَيْنَهَا مِنْ سُنَّةِ التَّجَاذُبِ وَالْآيَاتُ فِي هَذَا - وَفِيمَا قَبْلَهُ - تَدُلُّ دَلَالَةً صَرِيحَةً عَلَى بُطْلَانِ مَا كَانَ يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الْيُونَانِ وَمُقَلِّدَتُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِ فِي الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَالنُّجُومِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ مَا تَقَرَّرَ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَفِي نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ، وَيَجِدُ الْقَارِئُ تَفْصِيلَ هَذَا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَعَارِفِ الَّتِي جَاءَتْ فِي سِيَاقِ بَيَانِ آيَاتِ اللهِ وَحِكَمِهِ كَانَتْ مَجْهُولَةً لِلْعَرَبِ أَوْ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ فِي الْغَالِبِ، حَتَّى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَهَا وَيُخْرِجُونَهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا، لِتُوَافِقَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ ظَوَاهِرَ وَتَقَالِيدَ أَوْ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْبَاطِلَةِ، فَإِظْهَارُ تَرَقِّي الْعِلْمِ لِحَقِيقَتِهَا الْمُبَيَّنَةِ فِيهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُوحًى بِهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى.
هَذِهِ أَمِثْلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْفُنُونِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي خَطَرَتْ بِالْبَالِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ وَلَا مُرَاجَعَةٍ إِلَّا لِإِعْدَادِ الْآيَاتِ وَالسُّورِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْزِيزِهَا بِبَعْضِ الْأَمِثْلَةِ
177
الْخَاصَّةِ بِالتَّارِيخِ، وَلَيْسَ التَّارِيخُ - مِنْ حَيْثُ هُوَ تَارِيخٌ وَاحِدٌ - مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي تُطْلَبُ مِنَ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ بِقَصْدِ سَرْدِ حَوَادِثِ التَّارِيخِ، وَإِنَّمَا جَاءَ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ أُمَمِ الرُّسُلِ لِلْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ، وَبَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ، وَتَثْبِيتِ قَلْبِ خَاتَمِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْهُ لِبَيَانِ حَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ إِلَخْ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ كُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ بِدِقَّةِ التَّعْبِيرِ وَإِعْجَازِ الْبَيَانِ آيَاتٍ أُخْرَى تَظْهَرُ آنًا بَعْدَ آنٍ، دَالَّةً عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ الرَّحْمَنِ، فَكِتَابُهُ تَعَالَى مَظْهَرٌ لِقَوْلِهِ: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٥٥: ٢٩).
أَكْتَفِي مِنْ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي لَهُ عَلَاقَةٌ بِالتَّارِيخِ بِمَسْأَلَةٍ عَظِيمَةِ الشَّأْنِ تَشْتَمِلُ عَلَى شَوَاهِدَ كَثِيرَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ حُكْمُ الْقُرْآنِ الْحَقِّ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ اللَّذَيْنِ كَانَ يَدِينُ اللهُ تَعَالَى بِهِمَا أَعْظَمَ شُعُوبِ الْأَرْضِ مَكَانَةً فِي الْعَالِمِ وَأَوْسَعَهُمْ عِلْمًا وَحَضَارَةً، وَلَا يَزَالُ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ يُقَدِّسُونَهُمَا، مَعَ بَيَانِ بَعْضِهِمْ لِمَا نَقَضَ الْعِلْمُ مِنْهَا، وَكَذَا سَائِرُ الْكُتُبِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْ مَجْمُوعِهَا بِالْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ.
مَا هَذَا الْحُكْمُ الَّذِي صَدَرَ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ فِي حَيَاتِهِ سِفْرًا وَلَمْ يَكْتُبْ سَطْرًا، وَلَمْ يُحِطْ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ التَّارِيخِ خَبَرًا؟ مُلَخَّصُ هَذَا الْحُكْمِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ، وَنَسُوا نَصِيبًا وَحَظًّا مِنْهُ، فَلَمْ يَحْفَظُوهُ كُلَّهُ، وَلَمْ يُضَيِّعُوهُ كُلَّهُ، وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا مَا أُوتُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ تَحْرِيفًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا كَمَا يُفِيدُهُ الْإِطْلَاقُ وَأَنَّهُمْ غَلَوْا فِي دِينِهِمْ فَزَادُوا فِيهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللهُ، وَأَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي إِقَامَتِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَعَمِلُوا بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ مِنْهُ وَتَرَكُوا مَا يُخَالِفُهَا، كَمَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا مُبِينًا، وَالنَّصَارَى غَلَوْا فِيهَا غُلُوًّا عَظِيمًا، فَقَالُوا: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَالُوا: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) (٥: ٧٣) إِلَخْ مَا نَطَقَتْ بِهِ الْآيَاتُ الَّتِي يَجِدُ الْقَارِئُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا تَفْصِيلَهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا الْحَقِّ الْمُؤَيَّدِ بِالتَّارِيخِ الصَّحِيحِ، الَّذِي حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّا وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ الْمُصَدِّقِ لِلْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فِي حُكْمِهِ، الَّذِي كَانَ مَجْهُولًا بِتَفْصِيلِهِ عِنْدَ
وَقَدْ تَضَمَّنَ كُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ بِدِقَّةِ التَّعْبِيرِ وَإِعْجَازِ الْبَيَانِ آيَاتٍ أُخْرَى تَظْهَرُ آنًا بَعْدَ آنٍ، دَالَّةً عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ الرَّحْمَنِ، فَكِتَابُهُ تَعَالَى مَظْهَرٌ لِقَوْلِهِ: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٥٥: ٢٩).
أَكْتَفِي مِنْ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي لَهُ عَلَاقَةٌ بِالتَّارِيخِ بِمَسْأَلَةٍ عَظِيمَةِ الشَّأْنِ تَشْتَمِلُ عَلَى شَوَاهِدَ كَثِيرَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ حُكْمُ الْقُرْآنِ الْحَقِّ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ اللَّذَيْنِ كَانَ يَدِينُ اللهُ تَعَالَى بِهِمَا أَعْظَمَ شُعُوبِ الْأَرْضِ مَكَانَةً فِي الْعَالِمِ وَأَوْسَعَهُمْ عِلْمًا وَحَضَارَةً، وَلَا يَزَالُ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ يُقَدِّسُونَهُمَا، مَعَ بَيَانِ بَعْضِهِمْ لِمَا نَقَضَ الْعِلْمُ مِنْهَا، وَكَذَا سَائِرُ الْكُتُبِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْ مَجْمُوعِهَا بِالْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ.
مَا هَذَا الْحُكْمُ الَّذِي صَدَرَ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ فِي حَيَاتِهِ سِفْرًا وَلَمْ يَكْتُبْ سَطْرًا، وَلَمْ يُحِطْ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ التَّارِيخِ خَبَرًا؟ مُلَخَّصُ هَذَا الْحُكْمِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ، وَنَسُوا نَصِيبًا وَحَظًّا مِنْهُ، فَلَمْ يَحْفَظُوهُ كُلَّهُ، وَلَمْ يُضَيِّعُوهُ كُلَّهُ، وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا مَا أُوتُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ تَحْرِيفًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا كَمَا يُفِيدُهُ الْإِطْلَاقُ وَأَنَّهُمْ غَلَوْا فِي دِينِهِمْ فَزَادُوا فِيهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللهُ، وَأَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي إِقَامَتِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَعَمِلُوا بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ مِنْهُ وَتَرَكُوا مَا يُخَالِفُهَا، كَمَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا مُبِينًا، وَالنَّصَارَى غَلَوْا فِيهَا غُلُوًّا عَظِيمًا، فَقَالُوا: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَالُوا: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) (٥: ٧٣) إِلَخْ مَا نَطَقَتْ بِهِ الْآيَاتُ الَّتِي يَجِدُ الْقَارِئُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا تَفْصِيلَهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا الْحَقِّ الْمُؤَيَّدِ بِالتَّارِيخِ الصَّحِيحِ، الَّذِي حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّا وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ الْمُصَدِّقِ لِلْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فِي حُكْمِهِ، الَّذِي كَانَ مَجْهُولًا بِتَفْصِيلِهِ عِنْدَ
178
جَمِيعِ النَّاسِ، وَقَدْ قَامَ فِي هَذِهِ السِّنِينَ بَعْضُ كِبَارِ رِجَالِ الدِّينِ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ يَكْتُبُونَ فِي الْجَرَائِدِ مَا قَرَّرُوهُ فِي جَمْعِيَّاتِ الْكَنَائِسِ مِنْ أَنَّ الْإِنْجِيلَ لَا يُثْبِتُ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَقَدْ نَشَرْنَا بَعْضَ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ فِي الْجَرَائِدِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ مِنْ هَذِهِ التَّحْقِيقَاتِ، وَسَنَنْشُرُ غَيْرَهُ فِي مَجَلَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ (الْمَنَارِ).
وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّا بَيْنَ مُؤْمِنٍ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ الْمَسِيحِ، وَهُوَ أَنَّهُ بَشَرٌ مُمْتَازٌ بِرُوحٍ قُدُسِيَّةٍ مِنَ اللهِ وَنَبِيٌّ لَهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَبَيْنَ كَافِرٍ بِهِ. وَأَمَّا عَقِيدَةُ الْكَنِيسَةِ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ فَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي رِجَالِهَا وَعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي قِسِّيسٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكَاثُولِيكِ حَرَمَتْهُ الْكَنِيسَةُ وَأَخْرَجَتْهُ مِنْ طُغْمَةِ كَهَنَتِهَا أَنَّ كِبَارَ عُلَمَائِهَا مُوَحِّدُونَ كَالْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ ارْتِدَادِ الْعَوَامِّ لَصَرَّحُوا بِالتَّوْحِيدِ وَبِنَفْيِ التَّثْلِيثِ كَبَعْضِ قَسَاوِسَةِ الْبُرُوتِسْتَنْتِ.
وَلَا يَزَالُ الْمُوَحِّدُونَ يَكْثُرُونَ فِي أُورُبَّا وَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِيكَانِيَّةِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَيَقْرُبُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ (اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهُمْ سَوْفَ يَفْعَلُونَ).
فَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً عَاشَ مُعْظَمَهَا فِي عُزْلَةٍ عَنِ الْعَالَمِ وَعُلُومِهِ، رَعَى فِي أَوَائِلَهَا الْغَنَمَ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَشِعَابِهَا، وَاتَّجَرَ فِي أَثْنَائِهَا سِنِينَ قَلِيلَةً قَلَّمَا كَانَ يُعَاشِرُ فِيهَا أَحَدًا؟ وَهِيَ الَّتِي ظَلَّ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ مُرَادَ الْقُرْآنِ مِنْهَا بِالتَّحْقِيقِ وَالتَّفْصِيلِ حَتَّى بَعْدَ فَتْحِهِمْ لِلْعَالِمِ وَاطِّلَاعِهِمْ عَلَى عُلُومِهِ وَتَوَارِيخِهِ، إِلَى أَنْ وَصَلَ عِلْمُ التَّارِيخِ وَغَيْرُهُ إِلَى الدَّرَجَةِ الْمَعْرُوفَةِ!
كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَلَاحِدَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّ أَكْبَرَ الشُّبُهَاتِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ حُسْبَانُهَا مُقْتَبَسَةً مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَمِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْمَذَاهِبِ، بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَهَا مِنْ بَعْضِهِمْ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ بِالتِّجَارَةِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ مَا خَالَفَ تِلْكَ الْكُتُبَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ خَطَأً سَبَبُهُ عَدَمُ جَوْدَةِ الْحِفْظِ أَوْ خَطَأً مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ تَعَمُّدًا مِنْهُمْ لِغِشِّهِ، كَمَا غَشَّ بَعْضُ الْيَهُودِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِسْلَامَ خِدَاعًا بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ بِأَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ أَدْخَلُوهَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَكُتُبِ الْوَعْظِ وَالرَّقَائِقِ.
وَكَانَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى دَحْضِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى كُلَّ هَذِهِ الْقِصَصِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ أَوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَا فِي رِحْلَتِهِ مَعَ مَيْسَرَةَ مَوْلَى خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَهُوَ وَإِنْ كَانَ
وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّا بَيْنَ مُؤْمِنٍ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ الْمَسِيحِ، وَهُوَ أَنَّهُ بَشَرٌ مُمْتَازٌ بِرُوحٍ قُدُسِيَّةٍ مِنَ اللهِ وَنَبِيٌّ لَهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَبَيْنَ كَافِرٍ بِهِ. وَأَمَّا عَقِيدَةُ الْكَنِيسَةِ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ فَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي رِجَالِهَا وَعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي قِسِّيسٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكَاثُولِيكِ حَرَمَتْهُ الْكَنِيسَةُ وَأَخْرَجَتْهُ مِنْ طُغْمَةِ كَهَنَتِهَا أَنَّ كِبَارَ عُلَمَائِهَا مُوَحِّدُونَ كَالْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ ارْتِدَادِ الْعَوَامِّ لَصَرَّحُوا بِالتَّوْحِيدِ وَبِنَفْيِ التَّثْلِيثِ كَبَعْضِ قَسَاوِسَةِ الْبُرُوتِسْتَنْتِ.
وَلَا يَزَالُ الْمُوَحِّدُونَ يَكْثُرُونَ فِي أُورُبَّا وَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِيكَانِيَّةِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَيَقْرُبُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ (اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهُمْ سَوْفَ يَفْعَلُونَ).
فَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً عَاشَ مُعْظَمَهَا فِي عُزْلَةٍ عَنِ الْعَالَمِ وَعُلُومِهِ، رَعَى فِي أَوَائِلَهَا الْغَنَمَ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَشِعَابِهَا، وَاتَّجَرَ فِي أَثْنَائِهَا سِنِينَ قَلِيلَةً قَلَّمَا كَانَ يُعَاشِرُ فِيهَا أَحَدًا؟ وَهِيَ الَّتِي ظَلَّ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ مُرَادَ الْقُرْآنِ مِنْهَا بِالتَّحْقِيقِ وَالتَّفْصِيلِ حَتَّى بَعْدَ فَتْحِهِمْ لِلْعَالِمِ وَاطِّلَاعِهِمْ عَلَى عُلُومِهِ وَتَوَارِيخِهِ، إِلَى أَنْ وَصَلَ عِلْمُ التَّارِيخِ وَغَيْرُهُ إِلَى الدَّرَجَةِ الْمَعْرُوفَةِ!
كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَلَاحِدَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّ أَكْبَرَ الشُّبُهَاتِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ حُسْبَانُهَا مُقْتَبَسَةً مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَمِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْمَذَاهِبِ، بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَهَا مِنْ بَعْضِهِمْ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ بِالتِّجَارَةِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ مَا خَالَفَ تِلْكَ الْكُتُبَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ خَطَأً سَبَبُهُ عَدَمُ جَوْدَةِ الْحِفْظِ أَوْ خَطَأً مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ تَعَمُّدًا مِنْهُمْ لِغِشِّهِ، كَمَا غَشَّ بَعْضُ الْيَهُودِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِسْلَامَ خِدَاعًا بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ بِأَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ أَدْخَلُوهَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَكُتُبِ الْوَعْظِ وَالرَّقَائِقِ.
وَكَانَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى دَحْضِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى كُلَّ هَذِهِ الْقِصَصِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ أَوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَا فِي رِحْلَتِهِ مَعَ مَيْسَرَةَ مَوْلَى خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَهُوَ وَإِنْ كَانَ
179
فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ شَابًّا لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ دُونَ مَيْسَرَةَ وَسَائِرِ تُجَّارِ قُرَيْشٍ لِدِرَاسَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا أَيَّامًا فِي بَلْدَةِ (بُصْرَى) بَاعُوا وَاشْتَرَوْا وَعَادُوا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ فِيهَا أَخْبَارَ جَمِيعِ الرُّسُلِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، وَحَفِظَهَا مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ حِفْظًا، ثُمَّ لَخَّصَهَا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً تَقْرِيبًا فِي هَذِهِ السُّوَرِ، وَلَمْ يَجِدْ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَيْهِ شُبْهَةً فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا وُقُوفَهُ أَحْيَانًا عَلَى قَيْنٍ (حَدَّادٍ صَانِعٍ لِلسُّيُوفِ) رُومِيٍّ كَانَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُهُ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَفِيهِ نَزَلَ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦: ١٠٣) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى
أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ تَصْرِيحُ الْآيَاتِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا قَصَّتْهُ السُّوَرُ مِنْهَا وَلَا قَوْمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ خُصُومِهِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُكَذِّبَ أَوْ يُمَارِيَ فِي ذَلِكَ.
هَذَا وَإِنَّ مَا لَخَّصْنَاهُ هُنَا مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا يُثْبِتُ أَنَّهُ حُكْمٌ عَلِيٌّ نَزَلَ مِنْ فَوْقِ السَّمَاوَاتِ الْعُلَا، حُكْمُ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ الْمُهَيْمِنِ، وَأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ، وَتَحْقِيقَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ قَدْ أَثْبَتَ مَا أَثْبَتَهُ هَذَا الْحُكْمُ، وَقَدْ نَفَى مَا نَفَاهُ، أَلَيْسَ هَذَا أَنْصَعَ بُرْهَانٍ عَلَى كَوْنِهِ حُكْمَ اللهِ لَا حُكْمَ عَبْدِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؟ بَلَى وَاللهِ، ثُمَّ بَلَى وَاللهِ، ثُمَّ بَلَى وَاللهِ، وَلَا يُمَارِي فِي ذَلِكَ إِلَّا مُتَعَصِّبٌ أَضَلَّهُ اللهُ.
وَمَنْ قَرَأَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ثُمَّ قَرَأَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ يَرَى أَمْرًا آخَرَ، يَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَ صَفْوَةَ مَا فِيهِمَا مِنْ صِحَّةِ عَقِيدَةٍ، وَمِنْ أَدَبٍ وَفَضِيلَةٍ، وَمِنْ عِبْرَةٍ وَمَوْعِظَةٍ، وَمِنْ أُسْوَةٍ بِالْأَخْيَارِ حَسَنَةٍ، وَسَكَتَ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِمَا مِمَّا يُنَافِي ذَلِكَ وَيُخِلُّ بِهِ، أَوْ يَجْعَلُ أَفْضَلَ الْبَشَرِ قُدْوَةً سَيِّئَةً، وَصَرَّحَ بِنَقْضِ مَا طَرَأَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ نَزَعَاتِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، فَإِنْ فَرَضْنَا - تَنَزُّلًا - أَنَّ هَذَا مِنْ صُنْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ، أَفَلَا يَكُونُ بُرْهَانًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ فِي شَخْصِهِ أَرْقَى مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ عِلْمًا وَعَقْلًا وَهِدَايَةً وَإِرْشَادًا؟ بَلَى، وَلَكِنْ كَيْفَ يُعْقَلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ مُرْسَلِينَ، وَمُوحًى إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ أَوْ مُلْهَمِينَ؟ الْحَقُّ أَنَّ نَفْيَ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْتَضِي نَفْيَ النُّبُوَّةِ وَإِبْطَالَ الرِّسَالَةِ مِنْ أَصْلِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُعْقَلُ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ثُبُوتُ غَيْرِهَا بِالتَّبَعِ لِثُبُوتِهَا، وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْكَافِرِينَ بِالْوَحْيِ مِنَ الْبَاحِثَيْنِ الْمُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ يُفَضِّلُونَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَمِنْهُمُ الدُّكْتُورُ شِبْلِي شُمَيْل السُّورِيُّ الْمَشْهُورُ، فَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ قَوْلًا وَكِتَابَةً وَأَثْبَتَهُ نَظْمًا وَنَثْرًا.
وَقَدْ آنَ أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَشَارَكَهُمْ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ تَصْرِيحُ الْآيَاتِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا قَصَّتْهُ السُّوَرُ مِنْهَا وَلَا قَوْمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ خُصُومِهِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُكَذِّبَ أَوْ يُمَارِيَ فِي ذَلِكَ.
هَذَا وَإِنَّ مَا لَخَّصْنَاهُ هُنَا مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا يُثْبِتُ أَنَّهُ حُكْمٌ عَلِيٌّ نَزَلَ مِنْ فَوْقِ السَّمَاوَاتِ الْعُلَا، حُكْمُ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ الْمُهَيْمِنِ، وَأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ، وَتَحْقِيقَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ قَدْ أَثْبَتَ مَا أَثْبَتَهُ هَذَا الْحُكْمُ، وَقَدْ نَفَى مَا نَفَاهُ، أَلَيْسَ هَذَا أَنْصَعَ بُرْهَانٍ عَلَى كَوْنِهِ حُكْمَ اللهِ لَا حُكْمَ عَبْدِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؟ بَلَى وَاللهِ، ثُمَّ بَلَى وَاللهِ، ثُمَّ بَلَى وَاللهِ، وَلَا يُمَارِي فِي ذَلِكَ إِلَّا مُتَعَصِّبٌ أَضَلَّهُ اللهُ.
وَمَنْ قَرَأَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ثُمَّ قَرَأَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ يَرَى أَمْرًا آخَرَ، يَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَ صَفْوَةَ مَا فِيهِمَا مِنْ صِحَّةِ عَقِيدَةٍ، وَمِنْ أَدَبٍ وَفَضِيلَةٍ، وَمِنْ عِبْرَةٍ وَمَوْعِظَةٍ، وَمِنْ أُسْوَةٍ بِالْأَخْيَارِ حَسَنَةٍ، وَسَكَتَ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِمَا مِمَّا يُنَافِي ذَلِكَ وَيُخِلُّ بِهِ، أَوْ يَجْعَلُ أَفْضَلَ الْبَشَرِ قُدْوَةً سَيِّئَةً، وَصَرَّحَ بِنَقْضِ مَا طَرَأَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ نَزَعَاتِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، فَإِنْ فَرَضْنَا - تَنَزُّلًا - أَنَّ هَذَا مِنْ صُنْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ، أَفَلَا يَكُونُ بُرْهَانًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ فِي شَخْصِهِ أَرْقَى مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ عِلْمًا وَعَقْلًا وَهِدَايَةً وَإِرْشَادًا؟ بَلَى، وَلَكِنْ كَيْفَ يُعْقَلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ مُرْسَلِينَ، وَمُوحًى إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ أَوْ مُلْهَمِينَ؟ الْحَقُّ أَنَّ نَفْيَ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْتَضِي نَفْيَ النُّبُوَّةِ وَإِبْطَالَ الرِّسَالَةِ مِنْ أَصْلِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُعْقَلُ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ثُبُوتُ غَيْرِهَا بِالتَّبَعِ لِثُبُوتِهَا، وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْكَافِرِينَ بِالْوَحْيِ مِنَ الْبَاحِثَيْنِ الْمُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ يُفَضِّلُونَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَمِنْهُمُ الدُّكْتُورُ شِبْلِي شُمَيْل السُّورِيُّ الْمَشْهُورُ، فَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ قَوْلًا وَكِتَابَةً وَأَثْبَتَهُ نَظْمًا وَنَثْرًا.
وَقَدْ آنَ أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَشَارَكَهُمْ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
180
وَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(تَمْهِيدٌ) الْإِيمَانُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ يَنْبَنِي عَلَى الْإِيمَانِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، فَلَا يُخَاطَبُ بِإِثْبَاتِهَا وَالدَّلِيلِ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ الْعَالَمِ، وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ صَاحِبِ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أُودِعَ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا يُعْقَلُ هَذَا النِّظَامُ الْمُشَاهَدُ فِي الْعَالَمِ بِدُونِهِ - كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاضِعِهِ - وَلَكِنَّ الْكَثِيرِينَ يُخْطِئُونَ فِي فَهْمِ صِفَاتِهِ وَالْكَلَامِ فِي تَدْبِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِاخْتِلَافِ أَنْظَارِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَالَّذِينَ حُرِمُوا هَذَا الْإِيمَانَ قِسْمَانِ: هَمَجٌ مِنْ سُكَّانِ الْغَابَاتِ الْوَحْشِيَّةِ وَأَصْحَابُ شُبَهَاتٍ طَارِئَةٍ، وَمَثَلُ الْأَوَّلِ مَثَلُ الْخِدَاجِ الَّذِي يُولَدُ نَاقِصًا، وَمَثَلُ الثَّانِي مَثَلُ مَنْ يُصَابُ بِبَعْضِ مَشَاعِرِهِ أَوْ أَعْضَائِهِ، وَمَرَاكِزُ الْإِدْرَاكِ فِي الْمُخِّ يُصَابُ بَعْضُهَا بِالْمَرَضِ أَوِ الضِّعْفِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ بِكُفْرِ بَعْضِ الْمُتْقِنِينَ لِبَعْضِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، الَّذِينَ شَغَلَتْهُمُ الصَّنْعَةُ عَنِ الصَّانِعِ، كَمَا شَغَلَ حُبُّ لَيْلَى مَجْنُونَ بَنِي عَامِرٍ عَنْ شَخْصِهَا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا زَارَتْهُ فَلَمْ يَحْفَلْ بِهَا.
وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى يُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِنَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا كَسْبٍ، وَأَيَّدَهُمْ بِآيَاتٍ مِنْهُ دَانَتْ لَهَا عُقُولُ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْهِدَايَةِ، وَخَضَعَتْ قُلُوبُهُمْ فَآمَنُوا وَاهْتَدَوْا، وَكَانَتْ حَالُهُمُ الْبَشَرِيَّةُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى خَيْرًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ هُمْ وَآبَاؤُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ صَلَاحًا، وَقَدْ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى رُسُلًا إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ دَعَوْهَا إِلَى أُصُولِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢: ٦٢).
فَالرُّسُلُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي تَفْصِيلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالشَّرَائِعِ الْمُصْلِحَةِ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ أُمَمِهِمْ، وَقَدْ طَرَأَتْ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ بِدَعٌ وَثَنِيَّةٌ وَخُرَافِيَّةٌ وَضَاعَتْ أَكْثَرُ تَعَالِيمِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ. وَإِنَّمَا بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ صَالِحَةٌ مِنْهَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيهَا مِنَ الشَّوَائِبِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. وَكَذَلِكَ بَقِيَتْ فِي جَمِيعِ
الْأَدْيَانِ الْقَدِيمَةِ آثَارٌ تَارِيخِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا نَرَاهُ فِي تَارِيخِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْيُونَانِ وَوَثَنِيِّي الْهِنْدِ وَالْيَابَانِ وَالصِّينِ.
وَمِمَّا حُفِظَ مِنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُمْ بِالْإِخْبَارِ عَنْ بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ وَأَيَّدَ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ: كَمُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - أَجْمَعِينَ بِآيَاتٍ أُخْرَى مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَقَامَتْ بِهَا حُجَّتُهُمْ عَلَى النَّاسِ فَآمَنَ بِهَا الْمُسْتَعِدُّونَ، وَكَابَرَهَا الْمُعَانِدُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ، وَأَعْرَضَ عَنْهَا الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ.
(تَمْهِيدٌ) الْإِيمَانُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ يَنْبَنِي عَلَى الْإِيمَانِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، فَلَا يُخَاطَبُ بِإِثْبَاتِهَا وَالدَّلِيلِ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ الْعَالَمِ، وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ صَاحِبِ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أُودِعَ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا يُعْقَلُ هَذَا النِّظَامُ الْمُشَاهَدُ فِي الْعَالَمِ بِدُونِهِ - كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاضِعِهِ - وَلَكِنَّ الْكَثِيرِينَ يُخْطِئُونَ فِي فَهْمِ صِفَاتِهِ وَالْكَلَامِ فِي تَدْبِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِاخْتِلَافِ أَنْظَارِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَالَّذِينَ حُرِمُوا هَذَا الْإِيمَانَ قِسْمَانِ: هَمَجٌ مِنْ سُكَّانِ الْغَابَاتِ الْوَحْشِيَّةِ وَأَصْحَابُ شُبَهَاتٍ طَارِئَةٍ، وَمَثَلُ الْأَوَّلِ مَثَلُ الْخِدَاجِ الَّذِي يُولَدُ نَاقِصًا، وَمَثَلُ الثَّانِي مَثَلُ مَنْ يُصَابُ بِبَعْضِ مَشَاعِرِهِ أَوْ أَعْضَائِهِ، وَمَرَاكِزُ الْإِدْرَاكِ فِي الْمُخِّ يُصَابُ بَعْضُهَا بِالْمَرَضِ أَوِ الضِّعْفِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ بِكُفْرِ بَعْضِ الْمُتْقِنِينَ لِبَعْضِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، الَّذِينَ شَغَلَتْهُمُ الصَّنْعَةُ عَنِ الصَّانِعِ، كَمَا شَغَلَ حُبُّ لَيْلَى مَجْنُونَ بَنِي عَامِرٍ عَنْ شَخْصِهَا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا زَارَتْهُ فَلَمْ يَحْفَلْ بِهَا.
وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى يُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِنَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا كَسْبٍ، وَأَيَّدَهُمْ بِآيَاتٍ مِنْهُ دَانَتْ لَهَا عُقُولُ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْهِدَايَةِ، وَخَضَعَتْ قُلُوبُهُمْ فَآمَنُوا وَاهْتَدَوْا، وَكَانَتْ حَالُهُمُ الْبَشَرِيَّةُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى خَيْرًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ هُمْ وَآبَاؤُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ صَلَاحًا، وَقَدْ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى رُسُلًا إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ دَعَوْهَا إِلَى أُصُولِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢: ٦٢).
فَالرُّسُلُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي تَفْصِيلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالشَّرَائِعِ الْمُصْلِحَةِ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ أُمَمِهِمْ، وَقَدْ طَرَأَتْ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ بِدَعٌ وَثَنِيَّةٌ وَخُرَافِيَّةٌ وَضَاعَتْ أَكْثَرُ تَعَالِيمِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ. وَإِنَّمَا بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ صَالِحَةٌ مِنْهَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيهَا مِنَ الشَّوَائِبِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. وَكَذَلِكَ بَقِيَتْ فِي جَمِيعِ
الْأَدْيَانِ الْقَدِيمَةِ آثَارٌ تَارِيخِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا نَرَاهُ فِي تَارِيخِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْيُونَانِ وَوَثَنِيِّي الْهِنْدِ وَالْيَابَانِ وَالصِّينِ.
وَمِمَّا حُفِظَ مِنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُمْ بِالْإِخْبَارِ عَنْ بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ وَأَيَّدَ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ: كَمُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - أَجْمَعِينَ بِآيَاتٍ أُخْرَى مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَقَامَتْ بِهَا حُجَّتُهُمْ عَلَى النَّاسِ فَآمَنَ بِهَا الْمُسْتَعِدُّونَ، وَكَابَرَهَا الْمُعَانِدُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ، وَأَعْرَضَ عَنْهَا الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ.
181
(الْمَقْصِدُ) قَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى نُبُوَّةِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ وَرِسَالَتِهِ، أَيْ عَلَى كَوْنِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَحْيًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَرَجَّحَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهَا وَضْعِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنَّ تَأْيِيدَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بَعْدَ التَّحَدِّي بِهَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ((صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِّي)). وَمِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ فِي عَصْرِهِمْ وَبَعْدَ عَصْرِهِمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْأَذْكِيَاءِ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمُ اعْتِقَادًا اضْطِرَارِيًّا بِأَنَّ ظُهُورَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَيْدِيهِمْ عَقِبَ ادِّعَائِهِمْ مَا ادَّعَوْهُ، وَطَلَبِهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُصَدِّقَهُمْ، وَيُعْطِيَهُمْ آيَةً تَدُلُّ عَلَى تَصْدِيقِهِ إِيَّاهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ لِأَجْلِ تَصْدِيقِهِمْ، فَسَمِّ الدَّلَالَةَ عَقْلِيَّةً، أَوْ سَمِّهَا وَضْعِيَّةً، أَوِ اجْمَعْ بَيْنَ التَّسْمِيَتَيْنِ إِنْ شِئْتَ.
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ يُعْطِي كُلَّ رَسُولٍ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُنَاسِبُ حَالَ قَوْمِهِ وَأَهْلِ عَصْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ أَهْلَ عُلُومٍ رِيَاضِيَّةٍ وَطَبِيعِيَّةٍ وَأُولِي سِحْرٍ وَصِنَاعَةٍ، آتَى رَسُولَهُ مُوسَى آيَاتٍ كَانَ الْعُلَمَاءُ وَالسَّحَرَةُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ كَسْبِ مُوسَى وَلَا مِنْ صِنَاعَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ الرُّومَانِيُّونَ أُولِي السُّلْطَانِ فِي قَوْمِ عِيسَى وَالسِّيَادَةِ فِي بِلَادِهِمْ أَهْلَ عِلْمٍ وَاسِعٍ بِالطِّبِّ آتَاهُ مِنَ الْآيَاتِ إِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءَ الْمَيِّتِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ قَدِ ارْتَقَتْ فِي لُغَتِهَا فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً إِلَى دَرَجَةٍ لَمْ تَتَّفِقْ لِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ أَذْكِيَاءَهَا قَدْ وَجَّهُوا جَمِيعَ قُوَاهُمُ الْعَقْلِيَّةِ وَالْخَيَالِيَّةِ إِلَى إِتْقَانِهَا، جَعَلَ اللهُ تَعَالَى آيَةَ مُحَمَّدٍ الْكُبْرَى إِلَيْهِمْ كِتَابًا مُعْجِزًا لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ، فِي نَظْمِهِ
وَأُسْلُوبِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِهِ بِأَقْوَى مِمَّا قَامَتْ آيَاتُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَى قَوْمِهِمَا، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُجَّةِ الْقُرْآنِ مَا عَلِمْتَ.
وَالْحُقُّ الَّذِي يُقَالُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ مَا أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ رُسُلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ كَانَ مُنَاسِبًا لِحَالِ زَمَانِ كُلٍّ مِنْهُمْ وَأَهْلِهِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ شَاهَدَ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي عَهْدِهِ ثُمَّ عَلَى مَنْ صَدَّقَ الْمُخْبِرِينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ سِلْسِلَةَ النَّقْلِ سَتَنْقَطِعُ، وَأَنَّ ثِقَةَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهِ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ انْقِطَاعِ سِلْسِلَتِهِ سَتَضْعُفُ، وَأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الرِّسَالَةِ سَتُنْكَرُ، فَجَعَلَ الْآيَةَ الْكُبْرَى عَلَى إِثْبَاتِ رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عِلْمِيَّةً دَائِمَةً لَا تَنْقَطِعُ، وَهِيَ هَذَا الْكِتَابُ الْمُعْجِزُ لِلْخَلْقِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ السَّبْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا آيَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَكَانَ مُسْتَقِلًّا مُطْلَقًا مَنْ أَسْرِ النَّظَرِيَّاتِ الْمَادِّيَّةِ وَقُيُودِ التَّقْلِيدِ، إِذْ لَا يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ يُؤْمِنُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَصْدُرَ هَذَا الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ السَّنِيعِ مِنَ الْمَعَانِي، فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ وَالنَّظْمِ الْمَنِيعِ مِنَ الْمَبَانِي مِنْ رَجُلٍ أُمِّيٍّ وَلَا مُتَعَلِّمٍ أَيْضًا،
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ يُعْطِي كُلَّ رَسُولٍ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُنَاسِبُ حَالَ قَوْمِهِ وَأَهْلِ عَصْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ أَهْلَ عُلُومٍ رِيَاضِيَّةٍ وَطَبِيعِيَّةٍ وَأُولِي سِحْرٍ وَصِنَاعَةٍ، آتَى رَسُولَهُ مُوسَى آيَاتٍ كَانَ الْعُلَمَاءُ وَالسَّحَرَةُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ كَسْبِ مُوسَى وَلَا مِنْ صِنَاعَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ الرُّومَانِيُّونَ أُولِي السُّلْطَانِ فِي قَوْمِ عِيسَى وَالسِّيَادَةِ فِي بِلَادِهِمْ أَهْلَ عِلْمٍ وَاسِعٍ بِالطِّبِّ آتَاهُ مِنَ الْآيَاتِ إِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءَ الْمَيِّتِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ قَدِ ارْتَقَتْ فِي لُغَتِهَا فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً إِلَى دَرَجَةٍ لَمْ تَتَّفِقْ لِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ أَذْكِيَاءَهَا قَدْ وَجَّهُوا جَمِيعَ قُوَاهُمُ الْعَقْلِيَّةِ وَالْخَيَالِيَّةِ إِلَى إِتْقَانِهَا، جَعَلَ اللهُ تَعَالَى آيَةَ مُحَمَّدٍ الْكُبْرَى إِلَيْهِمْ كِتَابًا مُعْجِزًا لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ، فِي نَظْمِهِ
وَأُسْلُوبِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِهِ بِأَقْوَى مِمَّا قَامَتْ آيَاتُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَى قَوْمِهِمَا، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُجَّةِ الْقُرْآنِ مَا عَلِمْتَ.
وَالْحُقُّ الَّذِي يُقَالُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ مَا أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ رُسُلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ كَانَ مُنَاسِبًا لِحَالِ زَمَانِ كُلٍّ مِنْهُمْ وَأَهْلِهِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ شَاهَدَ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي عَهْدِهِ ثُمَّ عَلَى مَنْ صَدَّقَ الْمُخْبِرِينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ سِلْسِلَةَ النَّقْلِ سَتَنْقَطِعُ، وَأَنَّ ثِقَةَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهِ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ انْقِطَاعِ سِلْسِلَتِهِ سَتَضْعُفُ، وَأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الرِّسَالَةِ سَتُنْكَرُ، فَجَعَلَ الْآيَةَ الْكُبْرَى عَلَى إِثْبَاتِ رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عِلْمِيَّةً دَائِمَةً لَا تَنْقَطِعُ، وَهِيَ هَذَا الْكِتَابُ الْمُعْجِزُ لِلْخَلْقِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ السَّبْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا آيَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَكَانَ مُسْتَقِلًّا مُطْلَقًا مَنْ أَسْرِ النَّظَرِيَّاتِ الْمَادِّيَّةِ وَقُيُودِ التَّقْلِيدِ، إِذْ لَا يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ يُؤْمِنُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَصْدُرَ هَذَا الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ السَّنِيعِ مِنَ الْمَعَانِي، فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ وَالنَّظْمِ الْمَنِيعِ مِنَ الْمَبَانِي مِنْ رَجُلٍ أُمِّيٍّ وَلَا مُتَعَلِّمٍ أَيْضًا،
182
إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَحْيًا اخْتَصَّهُ بِهِ الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ -، نَاهِيكَ بِهِ وَقَدْ جَزَمَ بِعَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ، فَهَذَا التَّحَدِّي حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْمُتَحَدَّى بِهِ مَا هُوَ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ السَّبْعَةِ الثَّابِتَةِ لِلْقُرْآنِ حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي نَفْسِهَا، وَحُجَّةٌ أَنْهَضُ وَأَقْوَى بِاعْتِبَارِ أُمِّيَّةِ مَنْ جَاءَ بِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ تَمَحُّلُ الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِإِعْجَازِهِ فَهَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي جُمْلَتِهَا أَوْ فِي كُلٍّ مِنْهَا؟ كَلَّا.
سَبَقَ لَنَا أَنْ ضَرْبَنَا مَثَلًا لِنُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَجُلًا ادَّعَى فِي بِلَادٍ كَثُرَتْ فِيهَا الْأَمْرَاضُ أَنَّهُ طَبِيبٌ وَأَنَّ دَلِيلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا فِي عِلْمِ الطِّبِّ يُدَاوِي الْمَرْضَى بِمَا دَوَّنَهُ فِيهِ فَيَبْرَءُونَ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ الْبَارِعُونَ فَشَهِدُوا بِأَنَّهُ خَيْرُ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ عَمَلٍ، ثُمَّ عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدًا مِنَ الْمَرْضَى وَقَبِلُوا مَا وَصَفَهُ لَهُمْ مِنَ الْأَدْوِيَةِ فَبَرِءُوا مِنْ عِلَلِهِمْ، وَصَارُوا أَحْسَنَ النَّاسِ صِحَّةً، فَهَلْ يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى مَعَ هَذَيْنِ الْبُرْهَانَيْنِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ؟ كَلَّا. وَإِنَّ
الْعِلْمَ بِطِبِّ الْأَرْوَاحِ أَعْلَى وَأَعَزُّ مَنَالًا مِنَ الْعِلْمِ بِطِبِّ الْأَجْسَادِ، وَإِنَّ مُعَالَجَةَ أَمْرَاضِ الْأَخْلَاقِ وَأَدْوَاءِ الِاجْتِمَاعِ أَعْسَرُ مِنْ مُدَاوَاةِ أَعْضَاءِ الْأَفْرَادِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآدَابِ الْعَالِيَةِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَالَجَ بِهِ أُمَّةً عَرِيقَةً فِي الشِّقَاقِ وَحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، غَرِيقَةً فِي الْجَهْلِ وَالْأُمِّيَّةِ وَرَذَائِلِ الْوَثَنِيَّةِ، فَشُفِيَتْ وَاتَّحَدَتْ، وَتَعَلَّمَتِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَسَادَتِ الْأُمَمَ مِنْ بَدْوٍ وَحَضَرٍ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنَ الْعُلُومِ، وَلَمْ يَتَمَرَّسْ بِسِيَاسَةِ الشُّعُوبِ.
لَوِ اسْتَدَلَّ ذَلِكَ الطَّبِيبُ الْجَسَدَانِيُّ عَلَى صِحَّةِ دَعَوَاهُ بِعَمَلٍ غَرِيبٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ لِلنَّاسِ، وَلَكِنْ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالطِّبِّ لَأَمْكَنَ الْمِرَاءُ فِي صِحَّةِ دَعْوَاهُ، كَذَلِكَ شَأْنُ هَذَا النَّبِيِّ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، فَإِنَّ كِتَابَهُ الْعِلْمِيَّ الْمُؤَيَّدَ بِنَجَاحِ الْعَمَلِ بِهِ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ مِنْ جَعْلِ عَصَاهُ حَيَّةً أَوْ إِحْيَائِهِ مَيِّتًا. لِأَنَّ هَذَيْنِ عَلَى غَرَابَتِهِمَا لَيْسَا مِنْ مَوْضُوعِ الْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، كَمَا أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ مَوْضُوعِ الطِّبِّ، فَهُمَا إِنْ دَلَّا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَدَلَالَتُهُمَا لَيْسَتْ فِي أَنْفُسِهِمَا، وَالْإِتْيَانُ بِعَمَلٍ خَارِقٍ لِلْمَأْلُوفِ فِي الْعَادَةِ مَنْ سُنَنِ الْكَوْنِ هُوَ دُونَ الْإِتْيَانِ بِالْعُلُومِ الْعَالِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ، فَكَيْفَ بِالْإِتْيَانِ بِأَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ؟ فَكَيْفَ بِصَلَاحِ حَالِ مَنْ عَمِلُوا بِهَذِهِ الْعُلُومِ دِينًا وَدُنْيَا؟ فَالْقُرْآنُ إِذًا بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الطِّبِّ الرُّوحَانِيِّ الِاجْتِمَاعِيِّ وَحْيٌ مِنَ الرَّبِّ الْمُدَبِّرِ الْحَكِيمِ لَا يُمَارِي فِيهِ إِلَّا مُعَانِدٌ مُكَابِرٌ أَوْ مُقَلِّدٌ جَاهِلٌ.
سَبَقَ لَنَا أَنْ ضَرْبَنَا مَثَلًا لِنُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَجُلًا ادَّعَى فِي بِلَادٍ كَثُرَتْ فِيهَا الْأَمْرَاضُ أَنَّهُ طَبِيبٌ وَأَنَّ دَلِيلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا فِي عِلْمِ الطِّبِّ يُدَاوِي الْمَرْضَى بِمَا دَوَّنَهُ فِيهِ فَيَبْرَءُونَ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ الْبَارِعُونَ فَشَهِدُوا بِأَنَّهُ خَيْرُ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ عَمَلٍ، ثُمَّ عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدًا مِنَ الْمَرْضَى وَقَبِلُوا مَا وَصَفَهُ لَهُمْ مِنَ الْأَدْوِيَةِ فَبَرِءُوا مِنْ عِلَلِهِمْ، وَصَارُوا أَحْسَنَ النَّاسِ صِحَّةً، فَهَلْ يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى مَعَ هَذَيْنِ الْبُرْهَانَيْنِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ؟ كَلَّا. وَإِنَّ
الْعِلْمَ بِطِبِّ الْأَرْوَاحِ أَعْلَى وَأَعَزُّ مَنَالًا مِنَ الْعِلْمِ بِطِبِّ الْأَجْسَادِ، وَإِنَّ مُعَالَجَةَ أَمْرَاضِ الْأَخْلَاقِ وَأَدْوَاءِ الِاجْتِمَاعِ أَعْسَرُ مِنْ مُدَاوَاةِ أَعْضَاءِ الْأَفْرَادِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآدَابِ الْعَالِيَةِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَالَجَ بِهِ أُمَّةً عَرِيقَةً فِي الشِّقَاقِ وَحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، غَرِيقَةً فِي الْجَهْلِ وَالْأُمِّيَّةِ وَرَذَائِلِ الْوَثَنِيَّةِ، فَشُفِيَتْ وَاتَّحَدَتْ، وَتَعَلَّمَتِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَسَادَتِ الْأُمَمَ مِنْ بَدْوٍ وَحَضَرٍ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنَ الْعُلُومِ، وَلَمْ يَتَمَرَّسْ بِسِيَاسَةِ الشُّعُوبِ.
| كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةً | فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ |
183
أَمَّا الْمُكَابِرُونَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فَأَمْثَالُ رُؤَسَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّذِينَ ثَقُلَ عَلَى طِبَاعِهِمْ تَرْكُ رِيَاسَتِهِمْ، وَصَيْرُورَتُهُمْ أَتْبَاعًا مُسَاوِينَ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَوَالِيهِمْ، وَلَا يَخْلُو هَذَا الْعَصْرُ مِنْ أُنَاسٍ مِنْهُمْ. وَأَمَّا الْمُقَلِّدُونَ فَعَوَامُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي دَلِيلٍ وَلَوْ كَانَ حِسِّيًّا. وَكَذَلِكَ الْمَفْتُونُونَ بِبَعْضِ الشُّبَهَاتِ الْمَادِّيِّينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَعُلَمَاءِ الطَّبِيعَةِ الَّذِينَ قَلَّدُوهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي أَمْثَالِهِمْ:
عُمْيُ الْقُلُوبِ عَمُوا عَنْ كُلِّ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ تَقْلِيدًا
فَهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْخَالِقِ لَا كَلَامَ لَنَا مَعَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ نَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ أَوَّلًا فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ الْخَالِقِ وَصِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَسْتَبْعِدُونَ مَعْنَى الْوَحْيِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ.
الْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ: إِعْلَامٌ فِي خَفَاءٍ. وَوَحْيُ اللهِ تَعَالَى إِلَى أَنْبِيَائِهِ عِلْمٌ يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعَلُّمٍ مَنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَلَا اسْتِنْبَاطٍ مُقْتَرِنًا بِعِلْمٍ وُجْدَانِيٍّ ضَرُورِيٍّ بِأَنَّ الَّذِي أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الرَّبُّ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ يَتَمِثْلُ لَهُمْ فَيُلَقِّنُهُمْ ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ وَسَاطَةِ مَلَكٍ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ لِتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٢٦: ١٩٢ - ١٩٤) فَأَيُّ اسْتِحَالَةٍ أَوْ بُعْدٍ فِي هَذَا عِنْدَ مَنْ يُؤْمِنُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْمَخْلُوقِينَ؟
وَعَرَّفَهَ شَيْخُنَا فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ: ((بِأَنَّهُ عِرْفَانٌ يَجِدُهُ الشَّخْصُ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْأَوَّلُ بِصَوْتٍ يُتَمَثَّلُ لِسَمْعِهِ أَوْ بِغَيْرِ صَوْتٍ. (قَالَ) وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِلْهَامِ بِأَنَّ الْإِلْهَامَ وِجْدَانٌ تَسْتَيْقِنُهُ النَّفْسُ وَتَنْسَاقُ إِلَى مَا يَطْلُبُ عَلَى غَيْرِ شُعُورٍ مِنْهَا مِنْ أَيْنَ أَتَى، وَهُوَ أَشْبَهُ بِوِجْدَانِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحُزْنِ وَالسُّرُورِ))، ثُمَّ بَيَّنَ إِمْكَانَ هَذَا وَوُقُوعَهُ وَأَسْبَابَ شَكِّ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِ وَتَفْنِيدَ شُبُهَاتِهِمْ عَلَيْهِ بِمَا يُرَاجَعُ فِي الرِّسَالَةِ نَفْسِهَا.
وَأَمَّا تَمَثُّلُ الْمَلَكِ فَكَانُوا يَكْتَفُونَ فِي إِثْبَاتِهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ، وَنَقُولُ الْيَوْمَ: إِنَّ الْعُلُومَ الْكَوْنِيَّةَ لَمْ تُبْقِ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ غَرِيبًا إِلَّا وَقَرَّبَتْهُ إِلَى الْعَقْلِ، بَلْ وَإِلَى الْحِسِّ تَقْرِيبًا، بَلْ ظَهَرَ مِنَ الِاخْتِرَاعَاتِ الْمَادِّيَّةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا كَانَ يُعَدُّ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مُحَالًا فِي نَظَرِ الْعَقْلِ لَا غَرِيبًا فَقَطْ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ الْكِيمْيَائِيُّ يُحَلِّلُ الْأَجْسَامَ الْكَثِيفَةَ حَتَّى تَصِيرَ غَازَاتٍ لَا تُرَى مِنْ شِدَّةِ لُطْفِهَا، وَيُكَثِّفُ الْعَنَاصِرَ اللَّطِيفَةَ فَتَكُونُ كَالْجَامِدَةِ بِطَبْعِهَا، فَكَيْفَ يُسْتَغْرَبُ تَكْثِيفُ الْمَلَكِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنَ الْأَرْوَاحِ ذَاتِ الْمِرَّةِ وَالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ بِأَخْذِهِ مِنْ مَوَادِّ الْعَالَمِ الْمُنْبَثَّةِ فِيهِ هَيْكَلًا عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ مَثَلًا.
عُمْيُ الْقُلُوبِ عَمُوا عَنْ كُلِّ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ تَقْلِيدًا
فَهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْخَالِقِ لَا كَلَامَ لَنَا مَعَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ نَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ أَوَّلًا فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ الْخَالِقِ وَصِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَسْتَبْعِدُونَ مَعْنَى الْوَحْيِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ.
الْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ: إِعْلَامٌ فِي خَفَاءٍ. وَوَحْيُ اللهِ تَعَالَى إِلَى أَنْبِيَائِهِ عِلْمٌ يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعَلُّمٍ مَنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَلَا اسْتِنْبَاطٍ مُقْتَرِنًا بِعِلْمٍ وُجْدَانِيٍّ ضَرُورِيٍّ بِأَنَّ الَّذِي أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الرَّبُّ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ يَتَمِثْلُ لَهُمْ فَيُلَقِّنُهُمْ ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ وَسَاطَةِ مَلَكٍ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ لِتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٢٦: ١٩٢ - ١٩٤) فَأَيُّ اسْتِحَالَةٍ أَوْ بُعْدٍ فِي هَذَا عِنْدَ مَنْ يُؤْمِنُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْمَخْلُوقِينَ؟
وَعَرَّفَهَ شَيْخُنَا فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ: ((بِأَنَّهُ عِرْفَانٌ يَجِدُهُ الشَّخْصُ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْأَوَّلُ بِصَوْتٍ يُتَمَثَّلُ لِسَمْعِهِ أَوْ بِغَيْرِ صَوْتٍ. (قَالَ) وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِلْهَامِ بِأَنَّ الْإِلْهَامَ وِجْدَانٌ تَسْتَيْقِنُهُ النَّفْسُ وَتَنْسَاقُ إِلَى مَا يَطْلُبُ عَلَى غَيْرِ شُعُورٍ مِنْهَا مِنْ أَيْنَ أَتَى، وَهُوَ أَشْبَهُ بِوِجْدَانِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحُزْنِ وَالسُّرُورِ))، ثُمَّ بَيَّنَ إِمْكَانَ هَذَا وَوُقُوعَهُ وَأَسْبَابَ شَكِّ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِ وَتَفْنِيدَ شُبُهَاتِهِمْ عَلَيْهِ بِمَا يُرَاجَعُ فِي الرِّسَالَةِ نَفْسِهَا.
وَأَمَّا تَمَثُّلُ الْمَلَكِ فَكَانُوا يَكْتَفُونَ فِي إِثْبَاتِهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ، وَنَقُولُ الْيَوْمَ: إِنَّ الْعُلُومَ الْكَوْنِيَّةَ لَمْ تُبْقِ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ غَرِيبًا إِلَّا وَقَرَّبَتْهُ إِلَى الْعَقْلِ، بَلْ وَإِلَى الْحِسِّ تَقْرِيبًا، بَلْ ظَهَرَ مِنَ الِاخْتِرَاعَاتِ الْمَادِّيَّةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا كَانَ يُعَدُّ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مُحَالًا فِي نَظَرِ الْعَقْلِ لَا غَرِيبًا فَقَطْ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ الْكِيمْيَائِيُّ يُحَلِّلُ الْأَجْسَامَ الْكَثِيفَةَ حَتَّى تَصِيرَ غَازَاتٍ لَا تُرَى مِنْ شِدَّةِ لُطْفِهَا، وَيُكَثِّفُ الْعَنَاصِرَ اللَّطِيفَةَ فَتَكُونُ كَالْجَامِدَةِ بِطَبْعِهَا، فَكَيْفَ يُسْتَغْرَبُ تَكْثِيفُ الْمَلَكِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنَ الْأَرْوَاحِ ذَاتِ الْمِرَّةِ وَالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ بِأَخْذِهِ مِنْ مَوَادِّ الْعَالَمِ الْمُنْبَثَّةِ فِيهِ هَيْكَلًا عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ مَثَلًا.
184
دَعْ مُخْتَرَعَاتِ
الْكَهْرَبَاءِ الْعَجِيبَةَ الَّتِي لَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ إِلَّا وَفِيهَا نَظِيرٌ لَهُ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْحِسِّ، لَا مِنَ الْعَقْلِ وَحْدَهُ، وَهَلِ الْكَهْرَبَاءُ إِلَّا قُوَّةٌ مُسَخَّرَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ؟
وَدَعْ مَا يُثْبِتُهُ الْأُلُوفُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ كُلِّهَا مِنْ تَمَثُّلِ بَعْضِ أَرْوَاحِ الْبَشَرِ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي صُوَرٍ كَصُوَرِ الْأَجْسَادِ، وَهُوَ يُوَافِقُ الْمَأْثُورَ عِنْدَنَا عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي صِفَةِ الرُّوحِ، وَوَقَائِعُهُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ يُنْكِرُ مَا يُحْكَى مِنْ وُقُوعِ هَذَا لَا يُنْكِرُ إِمْكَانَهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا الرَّجَاءَ فِي ثُبُوتِهِ فِي يَوْمٍ مَا، بِحَيْثُ يُشَاهِدُهُ جَمِيعُ النَّاسِ.
خُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا) : مَا قِيلَ فِي دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَا مُوسَى، وَإِحْيَاءِ عِيسَى لِلْمَيِّتِ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا أَمْرٌ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ مِنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ صَاحِبُهُ عَلَى نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، فَكَانَ تَصْدِيقًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُ، وَتَكْذِيبًا وَخِذْلَانًا مِنْهُ تَعَالَى لِمَنْ كَذَّبَهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ الدَّلَالَةِ خَارِجٌ عَنْ مَوْضُوعِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ النَّظَرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : وَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْأَوَّلِ، مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَهُوَ أَنَّهَا هِدَايَةٌ عُلْيَا لِلْبَشَرِ، لَا تُغْنِيهِمْ عَنْهَا هِدَايَاتُ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَلَا هِدَايَةُ الْعَقْلِ، فَإِنَّ هَذِهِ هِدَايَاتٌ شَخْصِيَّةٌ فَرْدِيَّةٌ، وَتِلْكَ هِدَايَةٌ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي جُمْلَتِهِ، وَقَدِ اكْتَفَيْنَا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَادِ بِتَمْثِيلِهَا بِطِبِّ الْأَبْدَانِ لِيَفْهَمَهَا كُلُّ قَارِئٍ وَسَامِعٍ، وَإِنَّمَا يَفْهَمُهَا الْفَهْمَ التَّامَّ مِنْ طَرِيقِهِ الْعِلْمِيِّ مَنْ يَقِفُ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ آيَاتِ الْهِدَايَةِ وَكَوْنِهِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ كُلِّ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، عَلَى مَا فِي نَقْلِهِ مِنَ التَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ، وَمَا فِي نَقْلِهَا مِنَ الضَّعْفِ - وَمِنْ طَرِيقِهِ الْعَمَلِيِّ مَنْ عَرَفَ تَارِيخَ الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ الْقُرْآنِ فِي هِدَايَةِ الْعَرَبِ ثُمَّ هِدَايَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَعَرَفَ تَأْثِيرَ هِدَايَةِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ فِي أُمَمِهِمْ - عَلَى مَا بَيْنَ النَّقْلَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ أَيْضًا.
وَلَا يَمْتَرِي أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي كَوْنِ الْعِلْمِ الَّذِي مَوْضُوعُهُ هِدَايَةُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَنَقْلُهَا مِنْ حَالٍ دُنْيَوِيَّةٍ إِلَى حَالٍ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْهَا هُوَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ الَّتِي يَقِلُّ فِي النَّاسِ مَنْ يَحْذِقُهَا، وَيَكُونُ إِمَامًا مُبْرَزًا فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَ مَنْ يَتَدَارَسُونَهُ فِي الْكُتُبِ بِهِ أَعْسَرُ مَسْلَكًا، وَأَوْعَرُ طَرِيقًا، وَأَنَّ فَلَاحَ الْعَامِلِينَ بِهِ الْمُتَمَرِّسِينَ بِوَسَائِلِهِ قَلَّمَا يَتَّفِقُ إِلَّا
لِأَفْرَادٍ أُتِيحَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ وَنُفُوذِ الْحُكُومَاتِ مَا لَمْ يُتَحْ لِغَيْرِ
الْكَهْرَبَاءِ الْعَجِيبَةَ الَّتِي لَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ إِلَّا وَفِيهَا نَظِيرٌ لَهُ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْحِسِّ، لَا مِنَ الْعَقْلِ وَحْدَهُ، وَهَلِ الْكَهْرَبَاءُ إِلَّا قُوَّةٌ مُسَخَّرَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ؟
وَدَعْ مَا يُثْبِتُهُ الْأُلُوفُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ كُلِّهَا مِنْ تَمَثُّلِ بَعْضِ أَرْوَاحِ الْبَشَرِ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي صُوَرٍ كَصُوَرِ الْأَجْسَادِ، وَهُوَ يُوَافِقُ الْمَأْثُورَ عِنْدَنَا عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي صِفَةِ الرُّوحِ، وَوَقَائِعُهُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ يُنْكِرُ مَا يُحْكَى مِنْ وُقُوعِ هَذَا لَا يُنْكِرُ إِمْكَانَهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا الرَّجَاءَ فِي ثُبُوتِهِ فِي يَوْمٍ مَا، بِحَيْثُ يُشَاهِدُهُ جَمِيعُ النَّاسِ.
خُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا) : مَا قِيلَ فِي دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَا مُوسَى، وَإِحْيَاءِ عِيسَى لِلْمَيِّتِ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا أَمْرٌ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ مِنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ صَاحِبُهُ عَلَى نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، فَكَانَ تَصْدِيقًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُ، وَتَكْذِيبًا وَخِذْلَانًا مِنْهُ تَعَالَى لِمَنْ كَذَّبَهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ الدَّلَالَةِ خَارِجٌ عَنْ مَوْضُوعِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ النَّظَرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : وَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْأَوَّلِ، مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَهُوَ أَنَّهَا هِدَايَةٌ عُلْيَا لِلْبَشَرِ، لَا تُغْنِيهِمْ عَنْهَا هِدَايَاتُ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَلَا هِدَايَةُ الْعَقْلِ، فَإِنَّ هَذِهِ هِدَايَاتٌ شَخْصِيَّةٌ فَرْدِيَّةٌ، وَتِلْكَ هِدَايَةٌ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي جُمْلَتِهِ، وَقَدِ اكْتَفَيْنَا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَادِ بِتَمْثِيلِهَا بِطِبِّ الْأَبْدَانِ لِيَفْهَمَهَا كُلُّ قَارِئٍ وَسَامِعٍ، وَإِنَّمَا يَفْهَمُهَا الْفَهْمَ التَّامَّ مِنْ طَرِيقِهِ الْعِلْمِيِّ مَنْ يَقِفُ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ آيَاتِ الْهِدَايَةِ وَكَوْنِهِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ كُلِّ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، عَلَى مَا فِي نَقْلِهِ مِنَ التَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ، وَمَا فِي نَقْلِهَا مِنَ الضَّعْفِ - وَمِنْ طَرِيقِهِ الْعَمَلِيِّ مَنْ عَرَفَ تَارِيخَ الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ الْقُرْآنِ فِي هِدَايَةِ الْعَرَبِ ثُمَّ هِدَايَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَعَرَفَ تَأْثِيرَ هِدَايَةِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ فِي أُمَمِهِمْ - عَلَى مَا بَيْنَ النَّقْلَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ أَيْضًا.
وَلَا يَمْتَرِي أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي كَوْنِ الْعِلْمِ الَّذِي مَوْضُوعُهُ هِدَايَةُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَنَقْلُهَا مِنْ حَالٍ دُنْيَوِيَّةٍ إِلَى حَالٍ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْهَا هُوَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ الَّتِي يَقِلُّ فِي النَّاسِ مَنْ يَحْذِقُهَا، وَيَكُونُ إِمَامًا مُبْرَزًا فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَ مَنْ يَتَدَارَسُونَهُ فِي الْكُتُبِ بِهِ أَعْسَرُ مَسْلَكًا، وَأَوْعَرُ طَرِيقًا، وَأَنَّ فَلَاحَ الْعَامِلِينَ بِهِ الْمُتَمَرِّسِينَ بِوَسَائِلِهِ قَلَّمَا يَتَّفِقُ إِلَّا
لِأَفْرَادٍ أُتِيحَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ وَنُفُوذِ الْحُكُومَاتِ مَا لَمْ يُتَحْ لِغَيْرِ