تفسير سورة البقرة

تفسير آيات الأحكام للسايس
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب تفسير آيات الأحكام للسايس المعروف بـتفسير آيات الأحكام للسايس .
لمؤلفه محمد علي السايس .

من سورة البقرة
قال الله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)
السِّحْرَ: في اللغة: كل ما لطف مأخذه، وخفي سببه، ومنه سحره:
خدعه، والسحر الرئة. (الفتنة) : الاختبار والابتلاء، ومنه قولهم: فتنت الذهب في النار إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته. (والخلاق) : النصيب. شَرَوْا:
باعوا، قال الشاعر:
وشريت بردا ليتني... من بعد برد كنت هامه
قبل الخوض في تفسير الآية نذكر نبذة عن السحر: أله حقيقة أم لا؟ فنقول:
اختلف الناس في السحر، فذهب جمهور العلماء إلى أن للسحر حقيقة، وأنه تقتدر به النفوس البشرية على التأثير في عالم العناصر، إما بغير معين، أو بمعين من الأمور السماوية، ويرون أنّ النفوس الساحرة على ثلاث مراتب:
أولها: المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة ولا معين.
وثانيتها: بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر، أو خواصّ الأعداد.
وثالثها: تأثير القوى المتخيلة، فيعمد صاحب هذه المرتبة إلى القوة المتخيلة، فيلقي فيها أنواعا من الخيالات والصور، ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة، فينظر الراؤون كأنها في الخارج، وليس هناك شيء من ذلك، ويقولون: إن هذه المراتب تنال بالرياضة، ورياضة السحر بالتوجه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والعبادة، فهي لذلك وجهة وسجود لغير الله، والوجهة لغير الله كفر، فلهذا كان السحر كفرا، ويرون أن الساحر يقدر على الأفعال
23
الغريبة فيطير في الهواء، ويركب المكانس وغيرها يذهب بها إلى أماكن بعيدة، ويصوّر المرء بغير صورته.
ويرى المعتزلة وبعض أهل السنة أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو خداع وتمويه وتخيّل، وإلى هذا ذهب أبو جعفر الاستراباذي «١» من الشافعية، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وابن حزم الظاهري «٢» وطائفة. ويرون أنّ السحر بهذا المعنى ضروب.
فمن ضروبه كثير من التخيّلات التي مظهرها على خلاف حقائقها، كما يفعله بعض المشعوذين، من أنه يريك أنه ذبح عصفورا، ثم يريكه وقد طار بعد ذبحه وإبانة رأسه، وذلك لخفة حركته، والمذبوح غير الذي طار، لأنه يكون معه اثنان قد خبأ أحدهما- وهو المذبوح- وأظهر الآخر.
وكان سحر سحرة فرعون من هذا النوع. فقد قيل إن عصيهم كانت عصيا مجوفة، قد ملئت زئبقا وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا وملؤوها نارا. فلما طرحت عليها وحمي الزئبق حركها، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، وقد أخبر الله عن ذلك بقوله: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: ٦٦].
وضرب آخر، وهو ما يدعونه من حديث الجن والشياطين، وطاعتهم لهم بالرقى والعزائم ويتوصلون إلى ما يريدون من ذلك بتقدمة أمور، ومواطأة قوم، قد أعدوهم لذلك.
وعلى ذلك كان يجري أمر الكهان من العرب في الجاهلية، وكثير ممن يدّعون السحر يوكّلون أناسا بالاطلاع على أسرار الناس، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها، فيعتقدون فيهم أن الشياطين تخبرهم بالمغيبات.
ويقال: إنّ مخاريق الحلاج كانت كلها بالمواطأة، فكان يواطئ أقواما يضعون له خبزا ولحما، وفاكهة في مواضع بعينها، ثم يمشي مع أصحابه في البرية، ثم يأمر بحفر هذه المواضع، فيخرج ما خبّأ من الخبز واللحم والفاكهة، فيعدونها من الكرامات.
وضرب آخر من السحر: هو السعي بالنميمة والوشاية والإفساد من وجوه خفيّة لطيفة، كما حكي أنّ رجلا تزوّج امرأة على أخرى. فعظم ذلك على الأولى، فاستعانت برجل، فتوصل إلى أن قال للثانية: إن أردت أن تنغرس محبتك في قلب
(١) أحمد بن محمد من أصحاب ابن السريج وكبار الفقهاء والمدرسين، انظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي (٢/ ٢٣٧).
(٢) علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن صالح، الفارسي الأصل ثم الأندلسي القرطبي، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (١٨/ ١٨٤) ترجمة (٩٩).
24
الزوج فخذي موسى، فاقطعي ثلاث شعرات من لحيته مما يقارب الحلق، وألقى في روع الزوج أنّ هذه المرأة ستختانه بالقتل، فلما قرّبت الموسى منه لم يشك أن الأمر على ما قال الرجل من أنها قصدت قتله، فقام إليها وقتلها، وكان ذلك تفريقا بين المرء وزوجه.
فأنت ترى أنهم يرجعون السحر: إما إلى تمويه وخفة في اليد، وإما إلى مواطأة وإما إلى سعي ونميمة. ولا يرون الساحر يقدر على شيء مما يثبته له الآخرون من التأثير في الأجسام الأخرى، دون مماسّة. ومن قطع المسافات البعيدة في الزمن الوجيز. وقد قال أبو بكر الرازي: وحكمة كافية تبيّن لك أن هذا كله مخاريق وحيل لا حقيقة لما يدّعون لها. إنّ للساحر والمعزّم لو قدرا على ما يدّعيانه من النفع والضر من الوجوه التي يدّعون، وأمكنهما الطيران والعلم بالغيوب، وأخبار البلدان النائية، والخبيئات والسرقة والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرنا، لقدروا إلى إزالة الممالك، واستخراج الكنوز، والغلبة على البلدان بقتل الملوك، بحيث لا يبدؤوهم بمكروه. ولا ستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس.
فإذا لم يكن كذلك، وكان المدّعون لذلك أسوأ الناس حالا، وأظهرهم فقرا وإملاقا، علمت أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك. ورؤساء الحشو والجهّال من العامة من أسرع الناس إلى تصديق السحرة والمعزّمين، وأشدهم نكيرا على من جحدها، ويروون في ذلك أخبارا مفتعلة متخرّصة يعتقدون صحتها. كالحديث الذي يروونه أن امرأة أتت عائشة فقالت: إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت: وما سحرك؟ قالت: سرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر. فقالا لي: يا أمة الله! لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا. فأبيت. فقالا لي:
اذهبي فبولي على ذلك الرماد، فذهبت لأبول عليه، ففكرت في نفسي فقلت: لا فعلت، وجئت إليهما وقلت: قد فعلت. فقالا: ما رأيت؟ قلت لم أر شيئا، فقالا: ما فعلت، اذهبي فبولي عليه، فذهبت وفعلت، فرأيت كأنّ فارسا قد خرج من فرجي مقنّعا بالحديد حتى صعد إلى السماء، فجئتهما فأخبرتهما فقالا: ذلك إيمانك قد خرج عنك، وقد أحسنت السحر. فقالت: وما هو؟ فقالا: لا تريدين شيئا فتصورينه في وهمك إلا كان، فصورت في نفسي حبا من حنطة، فإذا إنا بالحب، فقلت له: انزرع، فانزرع.
فخرج من ساعته سنبلا. فقلت له: انطحن وانخبز، إلى آخر الأمر، حتى صار خبزا، وإني كنت لا أصوّر في نفسي شيئا إلا كان، فقالت لها عائشة: ليست لك توبة.
ويروي القصّاص والمحدثون الجهال مثل هذا للعامة فتصدقه، وتستعيده، وتسأله أن يحدثها بحديث ساحرة ابن هبيرة. فيقول لها: إن ابن هبيرة أخذ ساحرة فأقرّت له بالسحر، فدعا الفقهاء، فسألهم عن حكمها. فقالوا: القتل، فقال ابن
25
هبيرة: لست أقتلها إلا تغريقا. قال: فأخذ رحى البزار، فشدّها في رجلها، وقذفها في الفرات، فقامت فوق الماء مع الحجر، فجعلت تنحدر مع الماء، فخافوا أن تفوتهم، فقال ابن هبيرة: من يمسكها، وله كذا وكذا؟ فرغب رجل من السحرة كان حاضرا فيما بذله. فقال: أعطوني قدح زجاج فيه ماء، فجاؤوه به، فعقد على القدح، ومضى إلى الحجر، فشق الحجر بالقدح، فتقطّع الحجر قطعة قطعة، فغرقت الساحرة فيصدقونه.
ومن صدق هذا فليس يعرف النبوة، ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام من هذا النوع: وأنهم كانوا سحرة. وقال الله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: ٦٩] وقد أجازوا من سحر الساحر ما هو أعظم من هذا وأفظع. وذلك أنهم زعموا أن النبي عليه الصلاة والسلام سحر، وأن السّحر عمل فيه حتى
قال: «إنه يخيل إلي أني أقول الشيء وأفعله، ولم أقله ولم أفعله»
وأن امرأة يهودية سحرته في جفّ «١» طلعة نخل ذكر ومشط ومشاقة «٢»، حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته في جف طلعة، وهو تحت راعونة البئر «٣»، فاستخرج، وزال عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك العارض «٤». وقد قال الله تعالى مكذّبا للكفار فيما ادعوه من ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال جل من قائل:
وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الفرقان: ٨].
ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعّبا بالحشوية الطغام. واستجرارا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام، والقدح فيها. وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد.
والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم، وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: ٦٩] فصدّق هؤلاء من كذّبه الله، وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله.
وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها ظنا منها بأن ذلك يعمل في الأجساد قصدت به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فأطلع الله نبيّه على موضع سحرها، وأظهر جهلها. فيما ارتكبت وظنت. ليكون ذلك من دلائل نبوته، لا أنّ ذلك ضرّه وخلّط عليه أمره. ولم يقل كل الرواة: إنه اختلط عليه أمره، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث ولا أصل له.
والفرق بين معجزات الأنبياء عليهم السلام وبين ما ذكرنا من وجوه التخييلات،
(١) الجفّ: الغشاء الذي يكون على الطلع، انظر لسان العرب لابن منظور (٩/ ٢٨).
(٢) المشاقة: هي المشاطة، انظر لسان العرب لابن منظور (١٠/ ٣٤٥).
(٣) راعونة هو حجر يوضع على رأس البئر يقوم عليه المستقي. [.....]
(٤) رواه البخاري في الصحيح (٧/ ٣٨)، ٧٦- كتاب الطب، ٤٩- باب هل يستخرج السحر حديث رقم (٥٧٦٥) ومسلم في الصحيح (٤/ ١٧١٩)، ٣٩- كتاب السلام، ١٧- باب السحر حديث رقم (٤٣/ ٢١٨٩).
26
أن معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها، وبواطنها كظواهرها، وكلّما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها.
ولو جهد الخلق كلّهم على مضاهاتها ومقابلتها بأمثالها، ظهر عجزهم عنها.
ومخاريق السحرة وتخييلاتهم إنما هي ضرب من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها، وما يظهر منها على غير حقيقتها، يعرف ذلك بالتأمل والبحث، ومن شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره، ويأتي بمثل ما أظهره سواه «١» ا. هـ.
ولنرجع إلى تفسير الآية:
وَاتَّبَعُوا أي اليهود، قيل: الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: الذين في زمن سليمان عليه السلام، وقيل: أعم، لأنّ متبعي السحر من اليهود لم يزالوا من عهد سليمان إلى أن بعث الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
فأخبر الله عن اليهود أنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ أي تقرأ وتخبر عن ملك سليمان، قيل: على عهده، وقيل تكذب عليه، لأن الخبر إذا كان كذبا قيل: تلا عليه، وإن كان صادقا قيل: تلا عنه.
وكان كذبهم عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أنهم كانوا يزعمون أنّ سليمان كان ساحرا، وأنه ما سخّرت له الجن إلا بسحره.
قال محمد بن إسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا؟ والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ.
والمراد بالشياطين شياطين الإنس والجن، وقد برأ الله سليمان مما قذفوه به من السحر. فقال:
وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا بنسبة السحر إلى سليمان على وجه الكذب وجحدهم نبوته، ثم وصف الشياطين بقوله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ على وجه الإضرار، وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ.
قيل: هو عطف على ما تتلو الشياطين، أي اتبعوا هذا وذاك. وقد علم من هذا أن السحر أنزل على الملكين ببابل، وقد أنزله الله عليهما ليعرّفاه الناس، فيتحرّزوا من ضرره، لأن تعريف الشر حسن، ومعه يصحّ الاحتراز. وقد كان أهل بابل قوما صابئين، يعبدون الكواكب، ويسمّونها آلهة، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها، وكانت علومهم الحيل والنيرنجيات وأحكام النجوم، وكانت لهم رقىّ بالنبطية،
(١) أحكام القرآن للجصاص (١/ ٤٩- ٥٠).
27
فيها تعظيم الكواكب، ويزعمون أنهم بهذه الرقى يفعلون ما يشاؤون في غيرهم من غير مماسّة ولا ملامسة، وكانت السحرة تحتال بحيل تموّه على العامة إلى اعتقاد صحته، ومعتقد ذلك يكفر من وجوه:
أحدها: التصديق بوجوب تعظيم الكواكب وتسميتها آلهة.
ثانيها: الاعتقاد بأن الكواكب تقدر على الضرر والنفع.
ثالثها: أن السحرة تزعم أنها تقدر على معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فبعث الله ملكين يبيّنان للناس حقيقة ما يدّعون بطلانه، ويكشفان لهم عن وجوه الحيل التي يخدعون بها الناس، وينهيانهم عن العمل بها، يقولان إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فكانا يعلّمانهم للتحرّز لا للعمل، وما في ذلك بأس، قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: فلان لا يعرف الشر، قال: أجدر أن يقع فيه، وقد قيل:
عرفت الشرّ لا للشرّ... لكن لتوقّيه
ومن لا يعرف الش... رّ من النّاس يقع فيه
ثم قال: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وهذا ذم لمن يتعلم ليضرّ به، لا ليتوقى به، والتفريق بين المرء وزوجه بالسعاية والنميمة والوجوه الخفية التي من جنس ما ذكر في الحكاية المتقدمة.
وقد روي عن الحسن «١» أنه كان يقرأ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بكسر اللام، ويقول: كانا علجين أقلفين، يأمران بالسحر ويتمسكان به، وقيل: إن (ما) للجحد والمعنى: ولم ينزل على الملكين ببابل. وقيل: إنّ «ما أنزل» عطف على ملك سليمان، والمعنى: واتّبعوا ما تكذب به الشياطين على ملك سليمان، وما أنزل على الملكين، فكما كذبوا على ملك سليمان كذبوا أيضا على ما أنزل على الملكين، لا أنهما أنزلا ليعلّمان الناس السحر، ويكون قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما أي من السحر والكفر، لأن قوله: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يتضمن الكفر، فيرجع إليهما.
قوله: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) [الأعلى: ١٠، ١١] أي الذكرى.
وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ. معناه أن الملكين لا يعلمان ذلك أحدا، ومع ذلك لا يقتصران على ألا يعلماه حتى يبالغا في نهيه، فيقولان: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ وكل هذا للفرار من أنّ الله أنزل على الملكين السحر مع ذمه السحر والساحر، وقد علمت أنه أنزل عليهما ليعلم الناس حيل السحرة وخدعهم.
(١) الحسن بن يسار البصري، سيد التابعين، ولد في المدينة كان إماما توفي سنة (١١٠ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٢/ ٢٢٦).
28
وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ الإذن هنا: العلم دون الأمر، وقيل:
المراد بالإذن التخلية، قال الحسن: من شاء الله منعه، فلا يضره السحر، ومن شاء خلّى بينه وبينه فضرّه.
وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ لأنهم يقصدون به الشرّ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي لقد علم هؤلاء اليهود أنّ من استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ما له في الآخرة من نصيب.
وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي باعوها. ولعل قائلا يقول: إنّ الله أثبت لهم العلم مؤكدا بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ثم نفاه عنهم بقوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
والجواب: أنّ المراد لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنّهم غير عالمين. وقيل: إن العلم علمان: علمّ يقيني متسلط على النفس فلا تعلم إلا بمقتضاه، وعلم ليست له هذه السلطة على النفس، فتتصرف النفس على خلافه، والمنفي عنهم هو الأول، والمثبت لهم هو الثاني، فلا منافاة.
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) المثوبة: مصدر من قول القائل: أثبتك إثابة، وثوابا ومثوبة. وأصل ذلك ثاب الشيء بمعنى رجع. ثم يقال: أثبته إليك أي رجّعته ورددته، وكان معنى إثابة الرجل على الهدية وغيرها أن يرجع إليه منها بدلا، وأن يردّ عليه منها عوضا، ثم جعل كل معوّض غيره من عمله، أو هديته. أو يد سلفت منه إليه، مثيبا له: ومنه ثواب الله عباده على أعمالهم، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء حتى يرجع إليهم بدل عملهم الذي عملوه.
المعنى: ولو أنهم آمنوا بمحمد والقرآن، واتقوا ربهم فخافوا عقابه فأطاعوه بأداء فرائضه، وتجنبوا معاصيه، لكان جزاء الله إياهم، وثوابه لهم على إيمانه به وتقواهم خيرا لهم من السحر ومما اكتسبوا. ويقال في نفي العلم عنهم هنا كما قيل هناك.
وقد أجاز الزمخشري «١» أن تكون (لو) للتمني على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له. كأنه قيل: وليتهم آمنوا. ثم ابتدئ: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ.
وقال بعضهم: إن قوله تعالى لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ ليس هو الجواب، وإنما هو دالّ على الجواب، والجواب محذوف تقديره: لأثيبوا.
(١) انظر تفسير الكشاف للزمخشري (١/ ١٧٤).
29
وقد ذكر أهل الأخبار ونقلة المفسرين أخبارا في تفسير هذه الآية مؤداها أن هاروت وماروت أنزلا ليحكما بين الناس، وركبت فيهما الشهوة، فزنيا، وشربا الخمر، وكفرا، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فعلّقا ببابل يعلمان الناس السحر.
وهذه الأخبار لم يرد منها شيء صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هي من كتب اليهود ومن افترائهم، فكما افتروا على سليمان، كذلك افتروا على الملكين.
وهذه الأخبار قد انطوت على عدم عصمة الملائكة، وجلة العلماء على عصمتهم لقوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: ٦] وقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) [الأنبياء: ١٩، ٢٠] وغير ذلك من الآيات، ومما يدل على عدم صحة هذه الأخبار أن أصحابها يزعمون أن هاروت وماروت قد اختارا عذاب الدنيا فعلّقا ببابل، وأن امرأة في زمن السيدة عائشة رضي الله عنها قد ذهبت إليهما، وتعلمت منهما السحر، وجاءت تستفتي هل لها توبة؟ وبابل بلدة قديمة كانت في سواد الكوفة، وقيل: الكوفة على قول المفسرين، أو هي بلدة في الجانب الشرقي من نهر الفرات، بعيدة عنه على قول علماء التاريخ. وهذه الجهات ليست من الأماكن المجهولة التي لم تطرق، بل هي أماكن معروفة قد طرقها الناس في القديم والحديث، ولم يعثر أحد على هذين الملكين هناك.
وقد رأيت أن ما جاء في الآية من ذكرهما لا يلزم أن يحمل على ما جاء في هذه الأخبار، بل يصح أن يحمل على ما حملنا وحمله جملة من المفسرين عليه.
ما يؤخذ من الآية من الأحكام
يؤخذ من الآية أنّ عمل السحر كفر. لقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي: من السحر، وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أي بعمل السحر وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا أي به وبتعليمه وهاروت وماروت يقولان: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ. وهذا كله يدل على أنّ السحر كفر، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وذهب الشافعيّ إلى أن السحر معصية: إن قتل بها قتل. وإن أضرّ بها أدّب على قدر الضرر. والحق الأول لما تدل عليه الآية، ولأن السحر كلام يعظّم به غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير والكائنات.
واعلم أنه إذا جعل السحر ضربا واحدا، وكان كله تعظيما لغير الله، وكان فيه إسناد الحوادث للكواكب، جاز إطلاق القول بكفر الساحر، وهو قول الجمهور.
أما إذا كان السحر ضروبا، ومن ضروبه السعي بالنميمة والإفساد بالحيل- كما
30
هو قول الرازي والمعتزلة- فلا يصح القول بإطلاق الكفر على الساحر، لأنّ من يستعمل من ضروبه السعي بالنميمة لا يكفر بذلك. وقد فطنوا لذلك فلم يكفّروا من السحرة إلا من يعظّم الكواكب، ويسند الحوادث إليها، أو يزعم أنه يقدر على الخوارق للعادة، فيكفر لأنه يدعي أنه يقدر على مثل ما يكون للأنبياء من معجزات، وفي ذلك طعن في معجزاتهم. وسدّ لباب دلالة المعجزة على نبوتهم. أما من يستعمل في ضروبه الإفساد بالنميمة، أو خفّة اليد، دون ادعاء ما ذكر، فلا يكون بذلك كافرا. والآية محمولة على سحر أهل بابل، وهو كان تعظيما للكواكب كما تقدم.
وإذا كان السحر كفرا. كان المسلم إذا عمل السحر مرتدا بذلك، فيحكم عليه بالقتل،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بدّل دينه فاقتلوه» «١»
على هذا اتفق علماء الأمصار، ما عدا الشافعي ومن تبعه.
وقد استدلّ الأولون بما
روي عن ابن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال:
حدثنا ابن الأصبهاني قال: حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة بن جندب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حدّ الساحر ضربه بالسيف» «٢» وقد روي هذا عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين منهم: عمر، وعثمان، وعلي
، والروايات في ذلك كثيرة عن السلف الصالح.
ومالك رحمه الله راعى ذلك الأصل، وهو أنه يقتل لكفره، فإن كان مجاهرا به قتل. وماله فيء. وإن كان يخفيه أجراه مجرى الزنديق، فلم يقبل توبته، كما لم يقبل توبة الزنديق، ولم يقتل ساحر أهل الذمة، لأنه غير مستحق للقتل بكفره، لأننا قد أقررناه عليه، فلا يقتل إلا أن يضر بالمسلمين، فيكون ذلك عنده نقضا للعهد، فيقتل كما يقتل الحربي.
وأما أبو حنيفة رحمه الله فلم يراع ذلك الأصل دائما، فحكم على الساحر بالقتل سواء أكان مسلما أم ذميا، فلو كان قتل الساحر لكفره، لما قتل الذمي الساحر لأنه كافر أصلا، وقد أقررناه على كفره.
وقد علّل أصحابه لذلك فقالوا: الساحر جمع إلى كفره السعي في الأرض بالفساد، فأشبه المحارب، فلذلك قتل الساحر سواء أكان ذميا أم مسلما، فلم يفرق بين الساحر من أهل الذمة والمسلمين، كما لا يختلف حكم المحارب من أهل الذمة
(١) رواه البخاري في الصحيح (٤/ ٢٧)، ٥٦- كتاب الجهاد، ١٤٩- باب لا يعذب بعذاب الله حديث رقم (٣٠١٧).
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٤/ ٤٩)، في كتاب الحدود، باب ما جاء في قتل الساحر حديث رقم (١٤٦٠).
31
والإسلام فيما يستحقونه من حكم القتل، ولذلك لم تقتل المرأة الساحرة، لأن المرأة من المحاربين عندهم لا تقتل حدا. وإنما تقتل قودا.
وقد ذكروا وجها آخر في قتل الذمي الساحر، مع أننا أقررناه على كفره وهو:
أن الكفر الذي صار إليه بسحره لم نقره عليه، ولم نعطه الذمة عليه، إنما أقررناه على كفره الظاهر، ألا ترى أنه لو سألنا إقراره على السحر في نظير الجزية لم نجبه إليه.
ولا يظنّ ظانّ أن أبا حنيفة إنما يقتل الساحر لحرابته لا لكفره، لأنه لو كان كذلك لأجراه مجرى المحارب قاطع الطريق عنده، فلم يقتله إلا إذا قتل.
قال الله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
ما نَنْسَخْ (ما) شرطية، و (ننسخ) فعل الشرط. ونَأْتِ بِخَيْرٍ هو الجزاء.
والنسخ يطلق في اللغة بإطلاقين: يطلق تارة، ويراد منه الإبطال والإزالة، ومنه نسخت الشمس الظلّ، أزالته، ونسخت الريح آثار القوم أعدمتها. وقال تعالى: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ [الحج: ٥٢] أي يزيله ويبطله. ويقال تارة ويراد منه النقل والتحويل، ومنه نسخت الكتاب، أي نقلته من كتاب آخر، ومنه تناسخ الأرواح، وتناسخ القرون قرنا بعد قرن، وتناسخ المواريث.
ومنه قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) [الجاثية: ٢٩] وفي «صحيح مسلم» «١» لم تكن نبوة قط إلا تناسخت.
فأنت ترى أنه قد ورد النسخ بالمعنيين جميعا فقال الجمهور: إنه حقيقة في الأول مجاز في الثاني، وقال القفّال بالعكس، وزعم قوم الاشتراك، قال العضد «٢» في «شرحه لابن الحاجب» : ولا يتعلق بهذا النزاع غرض علمي.
وأما النسخ في اصطلاح الفقهاء والأصوليين فقد ذكروا له تعريفات كثيرة، نختار منها الآن ما اختاره ابن الحاجب «٣»، وندع التحقيق فيه إلى موضعه في الأصول فنقول:
(١) نسبه القرطبي في تفسيره، الجامع لأحكام القرآن، ط ٢، بيروت، دار الفكر، إلى صحيح مسلم (٢/ ٦٢).
(٢) عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، متكلم أصولي توفي (٧٥٧ هـ) انظر طبقات الشافعية للسبكي (٦/ ١٠٨). والأعلام للزركلي (٣/ ٢٩٥).
(٣) عثمان بن عمر بن أبي بكر، فقيه أصولي، توفي سنة (٦٤٦ هـ) انظر وفيات الأعيان (٣/ ٢٤٨).
والأعلام للزركلي (٤/ ٢١١).
32
النسخ: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فقولنا: (رفع الحكم الشرعي) يخرج المباح بحكم الأصل، فإنّ رفعه بدليل شرعي ليس بنسخ، وقولنا:
(بدليل شرعي) يخرج رفعه بالموت، والنوم، والغفلة، والجنون، فإنّ الرفع فيها من طريق العقل، وإن جاء الشرع موافقا له في مثل:
«رفع القلم عن ثلاث» «١».
وقولنا: (متأخر) يخرج نحو صلّ عند كل زوال إلى آخر الشهر، ونحو ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: ١٨٧] وقد لا يحتاج إلى مثل هذا، لأنّ الحكم لم يثبت إلا بآخر الكلام، فلا يقال: إنه رفع. والنسخ جائز عقلا بإجماع أهل الشرائع طرا، ولم يخالف في ذلك إلا اليهود، ثم هو واقع بإجماع المسلمين، لم يخالف فيه إلا أبو مسلم الأصفهاني «٢».
أما الجواز فأمر مفروغ منه، لأنّا نقطع به، لأنه لو وقع لم يترتب على فرض وقوعه محال، ولا معنى للجواز إلا هذا، ذلك بفرض أنّا لم نعتبر المصالح في التشريع، أما لو راعينا أنّ التشريع قائم على أساس المصالح، فالمصالح تختلف باختلاف الأوقات، فما يكون صالحا في وقت قد لا يكون صالحا في كل الأوقات، كشرب دواء في وقت دون وقت، فلا بد في أن تكون المصلحة في وقت تقتضي شرع حكم، ثم رفعه بعد ذلك الوقت، والأمثلة في ذلك كثيرة ومشاهدة. وأما الوقوع فقد حصل النسخ في الشرائع السابقة، وفي نفس شريعة اليهود، فإنه جاء في التوراة: أن آدم عليه السلام أمر بتزويج بناته من بنيه، وقد حرّم ذلك باتفاق.
وأما الرد على الأصفهاني، فقد أجمعت الأمة على أنّ شريعتنا ناسخة لما يخالفها من الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة، وقد وقع النسخ في نفس شريعتنا، فقد كانت القبلة في الصلاة أولا إلى بيت المقدس، ثم تحولت إلى الكعبة، وكانت الوصية للوالدين والأقربين واجبة، وقد نسخت بآيات المواريث،
وبالحديث «لا وصيّة لوارث» «٣»
وعدة المتوفى عنها زوجها كانت مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: ٢٤٠]. ثم نسخت بآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: ٢٣٤].
وإذا ثبت أن النسخ جائز وواقع فلنرجع إلى تفسير الآية. مِنْ آيَةٍ: تخصيص لما في اسم الشرط من العموم، آية مفرد وقع موقع الجمع، والمعنى: أي شيء من الآيات ننسخ، وهي في الأصل الدليل والعلامة، وشاع استعمالها في طائفة من القرآن معلومة
(١) رواه أبو داود في السنن (٤/ ١٣٠) في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق حديث رقم (٤٣٩٨).
(٢) محمد بن بحر توفي سنة ٣٢٢ هـ. من أهل أصفهان معتزلي كان عالما بالتفسير، انظر الأعلام للزركلي (٦/ ٥٠).
(٣) رواه الترمذي في السنن (٤/ ٣٣٧) في كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث حديث رقم (٢١٢٠).
33
البدء والنهاية، وقد شاع استعمالها في القرآن بالمعنى العام، وهو كثير.
وجوّزوا أن تكون (من) زائدة (وآية) حالا، قال أبو حيان «١» : وهو فاسد، لأنّ الحال لا يجر بمن «٢».
أو ننسها: ننس فعل مضارع من أنسى، وهو: إما من النسيان ضد الذكر والمعنى: أو ننسها أي نجعلك تنساها، وإما بمعنى الترك، فالمعنى: نأمر بتركها، يقال: أنسيته الشيء، أمرته بتركه، ونسيته تركته.
وقد أنكر بعضهم أن تحمل الآية على النسيان ضد الذكر، لأن هذا لم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلّم. ولا نسي قرآنا، وكيف هذا وقد تكفل الله جلّت قدرته بأن يقرئه فلا ينسى؟
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) [الأعلى: ٦].
ومن حملها عليه قال: إنه ينساها بعد نسخ لفظها، وإبعادها من القرآن من طريق الوحي إن شاء الله ذلك.
وقد قال ابن عطية «٣» : والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أراد الله أن ينساه جائز، وأما النسيان الذي هو آفة البشر فالنبي معصوم منه قبل التبليغ وبعده، حتى يحفظه بعض الصحابة، ومن هذا ما
روي أنه أسقط آية في الصلاة، فلما فرغ منها قال: «أفي القوم أبي» ؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: «فلم لم تذكّرني» قال:
خشيت أنها رفعت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لم ترفع، ولكني نسيتها» «٤»
اه كلام ابن عطية.
قرأ ابن عامر «٥» : ما نَنْسَخْ بضم النون وكسر السين. والباقون بفتحها، وتفسير الآية على قراءة ابن عامر يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون نسخ وأنسخ بمعنى واحد.
الثاني: أن يكون أنسخ بمعنى جعله ذا نسخ، كما في قول الحجاج أقبروا الرجل، بهمزة القطع. أي اجعلوه ذا قبر، ومنه قوله تعالى: ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) [عبس: ٢١] أي جعله ذا قبر.
(١) محمد بن يوسف بن علي، مفسّر نحوي، توفي سنة (٧٤٥ هـ). من كبار العلماء بالعربية والتفسير والحديث انظر الأعلام للزركلي (٧/ ١٥٢).
(٢) انظر تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (١/ ٣٤٣). [.....]
(٣) عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن الغرناطي مفسّر توفي سنة (٥٤٢ هـ) انظر قضاة الأندلس ص (١٠٩). والأعلام للزركلي (٣/ ٢٨٢).
(٤) رواه أحمد في المسند (٣/ ٤٠٧).
(٥) عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبي أحد القراء السبعة، وإمام أهل الشام توفي (١١٨ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٤/ ٩٥).
34
وقرأ ابن كثير «١» وأبو عمرو «٢» : ننسأها بفتح النون والهمزة، وهو مجزوم بالشرط، وهو من النسء بمعنى التأخير، ومنه قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: ٣٧] ومنه بيع النسيئة أي بيع الأجل،
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه النسء في الأجل، والزّيادة في الرّزق فليصل رحمه» «٣».
وقال الفخر الرازي: وقد جاء النسيان بمعنى الترك في قوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] أي فترك، وقال تعالى: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية: ٣٤] وقال تعالى: قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) [طه: ١٢٦].
نَأْتِ بِخَيْرٍ: جواب الشرط، والخبرية قد تكون بأن يكون البدل أخفّ في التكليف، وقد تكون برعاية المصلحة مع المشقة وكثرة الثواب
«أفضل الأعمال أحمزها» «٤»
أي أشقها، وقد تكون الخيرية بإسقاط التكليف لا إلى بدل، على رأي من أجازه. أَوْ مِثْلِها: في الحكم، والحكمة في مجيء البدل مثلا رعاية المصلحة بحسب الوقت، وذلك كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة، ومثال النسخ إلى أثقل نسخ حبس الزناة في البيوت «٥» إلى الجلد والرجم «٦»، ونسخ وجوب صوم يوم عاشوراء بوجوب صيام شهر رمضان، وفرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر «٧»، عند بعضهم. وأما النسخ إلى أخف فكنسخ عدة المتوفى عنها زوجها من حول إلى أربعة أشهر وعشر على رأي الجمهور.
أقسام النسخ
النسخ يكون بنسخ التلاوة مع بقاء الحكم كما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه
(١) عبد الله بن كثير الداري، إمام المكيين في القراءة توفي سنة (١٢٠ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٤/ ١١٥).
(٢) زبان بن عمار أبو عمرو بن العلاء مقرئ أهل البصرة توفي سنة (١٥٤ هـ) في الكوفة انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٤١).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (٧/ ٩٦)، ٧٨- كتاب الأدب، ١٢- باب من بسط له في الرزق حديث رقم (٥٩٨٦).
(٤) انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للعجلوني بيروت، دار الكتب العلمية (١/ ١٤١) حديث رقم (٤٥٩). حيث قال: قال ابن القيم: لا أصل له، وقال القاري معناه صحيح لما في الصحيحين عن عائشة: الأجر على قدر التعب.
(٥) كما في الآية (١٥) من سورة النساء.
(٦) كما في الآية (٢) من سورة النور.
(٧) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ٤٥)، ١٨- كتاب تقصير الصلاة، ٥- باب يقصر، إذا خرج حديث رقم (١٠٩٠) ومسلم في الصحيح (١/ ٤٧٨)، ٦- كتاب صلاة المسافرين، ١- باب صلاة المسافرين حديث رقم (١/ ٦٨٥).
35
قال: «كان فيما نزل من القرآن الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما» «١» وقد نسخت التلاوة وبقي الحكم.
وقد يكون النسخ للحكم مع بقاء التلاوة، وهو كثير. كآية الوصية، وآية العدة وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وقد يكون النسخ للحكم والتلاوة معا، كما روي عن عائشة رضي الله عنها «كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن ثم نسخ بخمس رضعات معلومات يحرّمن» «٢» والجزء الأول منسوخ الحكم والتلاوة، والجزء الثاني وهو الخمس منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية.
ثم إنّ الخلاف في أنّ القرآن ينسخ بغير بالقرآن، والخبر المتواتر بغير المتواتر أو لا؟
فقد منع الشافعي رضي الله عنه نسخ القرآن بغير القرآن مستدلا بهذه الآية نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها ودلالتها من وجوه:
الأول: أنه قال (نأت) وأسند الإتيان إلى نفسه، وهو لا يكون إلا إذا كان الناسخ قرآنا.
الثاني: أنه قال: (بخير) ولا يكون الناسخ خيرا إلا إذا كان قرآنا.
والثالث: أنه قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ويدخل في ذلك النسخ، بل إنما سيقت الآية له، فالنسخ لا بد أن يكون لله.
والرابع: وهو أقوى أدلته قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ إلى آخر الآية [النحل: ١٠١] حيث أسند التبديل إلى نفسه وجعله في الآيات.
وهو استدلال غير واضح، فإنّه لا معنى لأن يكون لفظ الآية خيرا من لفظ آية أخرى، إنما الخيرية تكون بين الأحكام، فيكون الحكم الناسخ خيرا من الحكم المنسوخ بحسب ما علم الله من اشتماله على مصالح العباد بحسب أوقاتها وملابساتها، وإذا كان الأمر كذلك فالمدار على أن يكون الحكم الناسخ خيرا، أيّا كان الناسخ قرآنا أو سنة، والكل من عند الله، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) [النجم: ٣].
على أنه قد وقع نسخ القرآن في آية الوصية
بحديث «لا وصية لوارث»
، وتمام البحث مستوفى في علم الأصول.
بقي أن يقال: إن تعريف النسخ الذي ذكرتموه لا يتناول نسخ التلاوة فنقول: إن التعبد بالتلاوة حكم من الأحكام.
(١) رواه مالك في الموطأ (٢/ ١٦٨).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ١٠٧٥)، ١٧- كتاب الرضاع، ٦- باب التحريم بخمس حديث رقم (٢٤/ ١٤٥٢).
36
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: ١٠٦] الاستفهام قيل: للتقرير، وقيل:
للإنكار، والمخاطب هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وخطابه خطاب لأمته، وقيل: لكل من بلغه هذا الخطاب على حد
«بشّر المشائين إلى المساجد» «١».
وقيل الخطاب لمن أنكر النسخ، والمراد الاستشهاد بعلم المخاطب بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ، والإتيان بما هو خير أو مماثل، لأنّ ذلك من جملة الأشياء الداخلة تحت قدرته تعالى، فمن علم أن الله صاحب القدرة التامة والسلطان الشامل. على قدرته على ذلك قطعا.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: ١٠٧] أي قد علمت أيّها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي، إيجادا، وإعداما، وأمرا، ونهيا، حسبما تقتضيه مشيئته، لا معارض لأمره، ولا معقب لحكمه، فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شيء من الأشياء؟
والكلام على هذا النحو بمثابة الدليل لما قبله في إفادة البيان، ولذلك ترك العطف.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة: ١٠٧] عطف على الجملة الواقعة خبرا، وفيه إشارة إلى دخول الأمة في الخطاب بقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ. و (من) الأولى ابتدائية، والثانية زائدة. والولي: المالك، والنصير: المعين. والفرق بينهما أن المالك قد لا يقدر على النصر، وقد يقدر ولا يفعل. والمعين قد لا يكون مالكا، بل قد يكون أجنبيا، فجمع بينهما لذلك. والمراد من الآية الاستشهاد على تعلق إرادة الله بما ذكر من الإتيان بما هو خير من المنسوخ أو بمثله. فإنّ مجرّد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصوله. وإنما الذي يستدعيه مع ذلك كونه وليا نصيرا. فمن علم أنه وليّه ونصيره، وأنه لا وليّ له ولا نصير سواه، يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير، فيفوّض أمره، ولا يخطر بباله ريبة في أمر النسخ وغيره أصلا.
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) [البقرة: ١٠٨] زعم بعضهم أنّ (أم) هنا متصلة. وقطع بعضهم بأنها منقطعة بناء على دخول الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الخطاب السابق، وعدم دخوله في هذا الخطاب، وذلك مخلّ بالاتصال، وذهب بعضهم إلى أنها لمجرد الاستفهام. والمراد عليه: أتريدون إلخ.
(١) رواه أبو داود في السنن (١/ ٢٢٢)، كتاب الصلاة، باب ما جاء في المشي إلى الصلاة حديث رقم (٥٦١)، والترمذي في الجامع الصحيح (١/ ٤٣٣) في كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل العشاء حديث رقم (٢٢١).
37
وعلى التقديرين الأولين المراد توصية المسلمين بالثقة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، وترك الاقتراح بعد رد ظن المشركين واليهود في النسخ، فكأنه قيل: لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن كاليهود في ترك الثقة بالآيات البينات، واقتراح غيرها، فتضلّوا، وتكفروا بعد الإيمان، وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة، حتى كأنّهم بصدد الإرادة، فنهوا عنها، فضلا عن السؤال.
هذا وقد ذكر بعض المفسرين «١» أنّ الصحابة اقترحوا على الرسول أشياء بعينها
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨] والذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من قبلكم... » الحديث «٢».
زعم بعضهم أن الخطاب فيها لليهود، وأن الآية نزلت فيهم حين سألوا أن ينزّل عليهم كتاب من السماء جملة كما نزلت التوراة على موسى جملة، ويكون الفعل المضارع مرادا منه الماضي. واختاره الإمام الرازي. قال: إنه الأصح. لأن السورة من أول قوله:
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: ٤٠] حكاية عن اليهود، ومحاجّة معهم، ولأنّ المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون متبدلا به الكفر بالإيمان.
وذهب قوم إلى أنها نزلت في أهل مكة، حين سألوا المصطفى أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن يوسّع لهم أرض مكة، وأن يفجّر الأنهار خلالها تفجيرا، ولا مانع من جعل الكل أسبابا.
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ جملة مستقلة مشتملة على حكم كليّ أخرجت مخرج النهي جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله: أَمْ تُرِيدُونَ.
و (سواء) بمعنى وسط أو مستو، والإضافة من إضافة الصفة للموصوف، والباء داخلة على العوض المتروك، نظيرها في قوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: ٦١].
وحاصل الآية: أن من يترك الثقة بالآيات البينات المنزلة بحسب المصالح، التي من جملتها الآيات الناسخات، التي ما جاءت إلا لمحض الخير، واقتراح غيرها، فقد حاد من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم، الموصل إلى معالم الحق والهدى.
هذا وقد زعم بعضهم أن (آية) في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ لا يراد منها
(١) انظر تفسير ابن جرير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (٦/ ١٣٩)، وتفسير ابن كثير المسمى تفسير القرآن العظيم (٢/ ٢٤٣). [.....]
(٢) رواه البخاري في الصحيح، ٩٦- كتاب الاعتصام، ١٠- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (٧٣١٩).
38
الآية القرآنية، بل المراد المعجزات الدّالّة على صدق الرسل، حيث يبدّل الله معجزة الرسول السابق بالمعجزة التي يأتي بها الرسول الذي بعده، وإنما لجأ إلى ذلك فرارا من تفسير الإنساء ونحوه، وتمشيا كما يزعم مع قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن علم ما ذكروه في أسباب النزول من أن الآية جاءت للتمهيد في تحويل القبلة، ونسخ التوجه إليها بالتوجه إلى الكعبة: علم أنه لا داعي إلى ما زعمه.
قال الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)
اختلف العلماء في نزول هذه الآية، فقال قوم: هي متقدمة في النزول على قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [البقرة: ١٤٢] وهو
مروي عن ابن عباس رضي الله عنه، ويؤيده ما رواه البخاري «١» عن البراء بن عازب قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ. فقال السفهاء من الناس، وهم اليهود: ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.
وذهب الزمخشري «٢» وغيره إلى أنّ هذه الآية متأخرة في النزول والتلاوة عن قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ... ويكون قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مستقبلا أريد به الإخبار بمغيّب يكون من اليهود عند نزول الأمر باستقبال الكعبة، ليكون ذلك معجزا بما فيه من الإخبار بالغيب، ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء، وتستعد له، فيكون أقل تأثيرا منه عند المفاجأة، وليكون الجواب حاضرا للرد عليهم عند ذلك، وهو قوله تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ أي كثيرا ما نرى تردّد وجهك في جهة السماء متشوّقا للوحي، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقع في قلبه، ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لما أن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد ويتّبع قبلتنا، ولأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وأدعى إلى إيمان العرب.
والظاهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسأل ذلك، بل كان ينتظره فقط، إذ لو وقع السؤال لكان الظاهر ذكره، وفي ذلك: دلالة على كمال أدبه عليه الصلاة والسلام، وقال
(١) سيأتي تخريجه لا حقا.
(٢) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (١/ ٩٨).
39
قتادة «١» والسدي وغيرهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله أن يحوّله إلى الكعبة، وعلى هذا يكون السؤال واقعا، وإنما لم يذكر، لأنّ تقلّب الوجه نحو السماء وهي قبلة الدعاء يشير إليه.
ولعل ذلك بعد حصول الإذن له بالدّعاء، لما أن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا من غير أن يأذن لهم فيه. وقد ورد في بعض الآثار أنه صلّى الله عليه وسلّم استأذن جبريل في أن يدعو الله، فأخبره جبريل أن الله قد أذن له، على أنه لا مانع من السؤال ابتداء لمصلحة ألهمها، ومنفعة دينية فهمها، ولا يتوقف ذلك على الاستئذان والإذان.
وليس في الآية ما يدل صريحا على أنه سأل أو لم يسأل، وقد أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» «٢» عن البراء بن عازب قال: صلينا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم أظهر الله علمه برغبة نبيه عليه الصلاة والسلام، فنزلت الآية قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ وقد يفهم من هذا أن السؤال لم يقع.
قال الزمخشري «٣» : إنّ (قد) هنا بمعنى (ربما) وهي للتكثير، وقال أبو حيان «٤» :
بل التكثير مستفاد من لفظ التقلّب، لأنه مطاوع التقليب، ومن نظر مرة أو ردد بصره مرتين أو ثلاثا لا يقال: إنه قلب، فلا يقال قلّب إلا حيث الترديد كثير. و (نرى) هنا بمعنى الماضي، وقد ذكر بعض النحاة أن (قد) تقلب المضارع ماضيا، ومنه ما هنا، ومنه قوله:
قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور: ٦٤] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر: ٩٧] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ [الأحزاب: ١٨] والمعنى قد رأينا إلخ.
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً أي لنمكنّنك من استقبالها، من قولك: وليته كذا إذا جعلته واليا له، والفاء لسببية ما قبلها في الذي بعدها.
تَرْضاها تحبها، وتميل إليها لأغراض صحيحة أضمرتها في نفسك تريد بها أن يجتمع الناس على قبلة واحدة، فتتحد قلوبهم، ويكون من وراء ذلك خير عظيم.
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الفاء لتفريع الأمر على الوعد السابق، والمعنى: فاصرف وجهك شطر المسجد الحرام، وإنما فسّرنا التولية هنا بمعنى الصرف، لأنّها بالمعنى السابق تكون متعدية إلى مفعولين، وهي هنا معدّاة إلى واحد.
(١) قتادة بن دعامة بن قتادة أبو الخطاب، السدوسي البصري، عالم بالحديث والتفسير توفي سنة (١١٨ هـ) مات بواسط في الطاعون، انظر الأعلام للزركلي (٥/ ١٨٩).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (١/ ١٨)، ٢- كتاب الإيمان، ٣١- باب الصلاة حديث رقم (٤٠)، ومسلم في الصحيح (١/ ٣٧٤)، ٥- كتاب المساجد، ٢- باب تحويل القبلة حديث رقم (١١/ ٥٢٥).
(٣) انظر الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في محاسن التأويل للزمخشري (١/ ٢٠١).
(٤) في تفسيره البحر المحيط (١/ ٤٢٧).
40
وشَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نحوه وقبله وتلقاؤه، وفي ذكر المسجد الحرام الذي هو محيط الكعبة دون الكعبة مع أنها القبلة لا المسجد على ما جاء مصرّحا به في الأحاديث إشارة إلى أنه يكفي للبعيد محاذاة جهة القبلة، قاله الألوسي.
وذكر غيره أن محاذاة الجهة مفهومة من قوله شطر المسجد، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ هذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من فَوَلِّ وَجْهَكَ.
والفائدة من ذكره- مع أن خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم خطاب لأمته- الاهتمام بشأن قبلة الكعبة، ودفع توهّم أنّ الكعبة قبلة المدينة وحدها، لأنّ الأمر بالصرف كان فيها، فربما فهم أن قبلة بيت المقدس لا تزال باقية. فدفعا لهذا الإيهام كان التصريح بعموم الحكم في عموم الأمكنة: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: ١٤٤] إن اليهود والنصارى بما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل في شأن النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، والبشارة به، وأنه سيصلي إلى القبلتين: بيت المقدس، وقبلة أبيه إبراهيم الذي أمر أن يتّبع ملّته، ليجزمون أن تحويل القبلة بترك التوجه إلى بيت المقدس والتوجه إلى الكعبة حق لا مرية فيه، وأن ذلك أمر ربهم، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ اعتراض بين الكلامين جيء به لوعد الفريقين ووعيدهم، وقرأ ابن عامر والكسائي «١» تعلمون بالتاء، فهو وعد للمؤمنين.
الأحكام
لا خلاف بين المسلمين أنّ استقبال القبلة لا بد منه في صحة الصلاة إلا ما جاء في الخوف والفزع، وفي صلاة النافلة على الدابة أو السفينة، فإن القبلة في الحال الأولى جهة أمنه، وفي الثانية قبلته حيث توجهت به دابته أو سفينته.
إنما الكلام في القبلة ما هي، أهي عين الكعبة: أم هي جهة الكعبة؟ بالأول قالت الشافعية. وبالثاني قال الحنفية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الكعبة قبلة من في المسجد، والمسجد قبلة من خارجه في مكة، ومكة قبلة سائر الأقطار، ونسبه الفخر الرازي وأبو حيان إلى المالكية، وقبل الكلام على مأخذ كلّ مذهب نحبّ أن نقول: إن المسجد الحرام قد أطلق تارة وأريد منه الكعبة فقط، وتارة أريد به المسجد وحوله معه، وقد يراد به مكة كلها. وقد يراد مكة مع الحرم حولها بكماله. وقد جاءت نصوص الشرع بهذه الإطلاقات الأربعة.
فمن الأول: قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
(١) علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي أبو الحسن، أحد القراء السبعة، ينتسب إلى مدرسة الكوفة بالنحو، توفي سنة (١٨٩) انظر الأعلام للزركلي (٤/ ٢٨٣).
41
ومن الثاني:
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» «١»
وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد... » «٢»
إلخ.
وأما الثالث: وهو مكة فقال المفسرون هو المراد في قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: ١] وكان الإسراء من دور مكة، وقول الله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: ١٩٦].
والإطلاق الرابع: دليله قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: ٢٨]، والشطر أيضا يطلق بإطلاقين: يطلق ويراد منه النصف وقد قاله الجبّائي والقاضي: أنه المراد هنا، لأن المراد الكعبة، والكعبة وسط المسجد. وقد فرّعوا عليه أن من كان خارج المسجد، وصلّى إلى جانب المسجد ولم يكن في منتصفه، فقد صلّى إلى غير الكعبة، فتكون صلاته باطلة لعدم الاستقبال. كذا نقل الفخر الرازي عنهما. ومستندهما في الذي رأيا أنه لو كان المراد من الشطر الجانب لم يكن لذكر الشطر فائدة، ولقيل فول وجهك المسجد الحرام، وقد قيل في رد هذا: إن الفائدة موجودة، وهي أنه لو قال: فولّ وجهك المسجد الحرام لزم تكليف ما لا يطاق، لأنّ من في أقصى المشرق أو المغرب لا يمكن أن يولّي وجهه المسجد، بخلاف ما إذا ذكر الشطر وأريد منه: الجانب.
بعد هذا نرجع إلى بيان الخلاف في القبلة:
قلنا إنّ المالكية يرون أن القبلة للمسامت هي الكعبة، ولغير المسامت الجهة، ويشهد لهم ما حكي في كتاب «شرح السنة» «٣» عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب».
وقال غيرهم: القبلة هي الكعبة، والدليل عليه ما
ورد في «الصحيحين» «٤» : عن
(١) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ١٠١٣)، ١٥- كتاب الحج، ٩٤- باب فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة حديث رقم (٥٠٩/ ١٣٩٥).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ٧١)، ٢٠- كتاب فضل الصلاة، ١- باب فضل الصلاة في مسجد مكة حديث رقم (١١٨٩)، ومسلم في الصحيح (٢/ ١٠١٤)، ١٥- كتاب الحج، ٩٥- باب لا تشد الرحال حديث رقم (٥١١/ ١٣٩٧).
(٣) انظر: شرح السنة للبغوي محمد الحسين بن مسعود (- ٥١٦ هـ) ط ١، بيروت، دار الكتب العلمية ١٩٩٢، (٢/ ١٠١).
(٤) رواه البخاري في الصحيح (١/ ١١٩)، ٨- كتاب الصلاة، ٣٠- باب قوله تعالى: (واتخذوا) حديث رقم (٣٩٨)، ومسلم في الصحيح كتاب الحج حديث رقم (٣٩٥).
42
ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد قال: «لما دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم البيت دعا في نواحيه كلّها ولم يصلّ حتى خرج منه، فلما خرج صلّى ركعتين في قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة».
قال القفال: وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة،
ففي خبر البراء بن عازب «ثم صرف إلى الكعبة؟ وكان يحبّ أن يتوجه إلى الكعبة» «١»
وفي خبر ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حوّل إلى الكعبة» «٢»
وفي خبر ثمامة: «جاء منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنادى: إنّ القبلة حوّلت إلى الكعبة» «٣»
، لا يتحصّل إلا إذا أصاب عينها، فالمشاهد لا بدّ له من إصابة العين، والغائب لا بد له من قصد الإصابة مع التوجه إلى الجهة.
والفريق الثاني: الحنفية «٤» والمالكية على ما هو منصوص عليه في كتبهم، يرون أن القبلة للمكي المشاهد إصابة العين، ولغير المشاهد الجهة فحسب.
حجة الشافعي رضي الله عنه القرآن والسنة والقياس:
أما القرآن: فظاهر الآية التي نحن بصددها. وذلك أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه. وجانب الشيء هو الذي يكون محاذيا له وواقعا في سمته.
وأما الحديث فما ورد من
حديث أسامة «أنه ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال:
هذه القبلة»

وهي جملة حاضرة للقبلة في الكعبة.
وأما القياس: فهو أنّ مبالغة النبي صلّى الله عليه وسلّم في تعظيم الكعبة بلغت مبلغا عظيما، والصلاة من أعظم شعائر الدين، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة يوجب مزيد الشرف، فوجب أن يكون مشروعا، وأيضا: كون الكعبة قبلة أمر معلوم، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك، ورعاية الاحتياط في الصلاة أمر واجب. فوجب توقيف صحّة الصلاة على استقبال عين الكعبة.
وأما الحنفية والمالكية، فقد احتجوا بأمور:
الأول ظاهر هذه الآية، فإنّ من استقبل الجانب الذي فيه المسجد الحرام، فقد ولّى وجهه شطر المسجد الحرام، سواء أصاب عين الكعبة أم لا، وهذا هو المأمور به، فوجب أن يخرج من العهدة.
(١) سبق تخريجه.
(٢) و (٣) الحديث رواه البخاري- في غير هذا اللفظ- في الصحيح (٥/ ١٧٨)، ٦٥- كتاب تفسير القرآن، ١٨- باب (٢٠٥١٩) (من حيث خرجت) حديث رقم (٤٤٩٣، ٤٤٩٤)، ومسلم في الصحيح (١/ ٣٧٥)، ٥- كتاب المساجد، ٢- باب تحويل القبلة حديث رقم (١٣/ ٥٢٦). [.....]
(٤) انظر الهداية شرح بداية المبتدي، للمرغيناني ط ١، بيروت، دار الكتب العلمية، ١٩٩٠ (١/ ٤٨).
43
الثاني
ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» «١».
الثالث فعل الصحابة. وهو من وجهين:
أحدهما: أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين للكعبة، لأنّ المدينة بينهما، فقيل لهم: ألا إنّ القبلة قد حوّلت إلى الكعبة، فاستداروا في الصلاة من غير طلب دليل على القبلة، ولم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام عملهم «٢». وسمي مسجدهم بذي القبلتين، ولا يعقل أن العين تستقبل عين الكعبة إلا بعد الوقوف على أدلة هندسية يطول النظر فيها، ولم يتعلّموها، ولا يمكن أن يدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وظلمة الليل.
والوجه الثاني: أنّ الناس من عهد النبي عليه السلام بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا مهندسا عند تسوية المحراب، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة.
الدليل الرابع من أدلة الحنفية القياس: هو أن محاذاة عين الكعبة لو كانت واجبة ولا سبيل إليها إلا بمعرفة الطرق الهندسية لوجب أن يكون تعلم الدلائل الهندسية واجبا، لأنه لا يتم الواجب إلا به، وما لا يتمّ الواجب إلا به واجب، ولكنّ تعلّم الدلائل الهندسية غير واجب، فعلمنا أنّ استقبال عين الكعبة غير واجب، هذا مجمل أدلة الأئمة رضوان الله عليهم، وأنت ترى أنه ربما كان لفظ الآية، وكون (الشطر) بمعنى الجهة شاهدين يرجّحان أدلة الحنفية والمالكية.
وكأنّ الشافعية أحسوا صعوبة التوجه إلى عين الكعبة خصوصا من غير المشاهد.
فقالوا: فرض المشاهد إصابة العين حسّا، وفرض غير المشاهد إصابته قصدا. وبعد أن نراهم يصرحون بذلك يكاد الخلاف عديم الفائدة، فإنّ الكل يعتقد أن التوجه إلى القبلة أيا كانت فيه شعور بقصد الكعبة.
هذا وقد انبنى على هذا الخلاف خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة، فمشى الحنفية على مذهبهم من أن القبلة الجهة، من قرار الأرض إلى عنان السماء، فأجازوا الصلاة فوقها مع الكراهية، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب، ومنع غيرهم من صحة الصلاة فوقها، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها، إنما يستقبل شيئا غيرها، وبقية الفروع تعرف في الفقه، فلا نطيل بذكرها، غير
(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٢/ ١٧١- ١٧٣) في كتاب الصلاة، باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة، حديث رقم (٣٤٢، ٣٤٣، ٢٤٤).
(٢) سبق تخريجه.
44
أن هناك فرعا واحدا نذكره لما له من العلاقة بتفسير الآية:
فهم بعضهم من قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن هذا يمتنع معه أن يوجه المصلّي نظره إلى موضع سجوده قائما، وإلى قدميه راكعا، وإلى أرنبة أنفه ساجدا، وإلى حجره جالسا، لأن هذا فيه توجّه إلى غير شطر المسجد الحرام، وأنت ترى أنه فهم عجيب، فإن الحنفية مثلا لم يقولوا هذا إلا بعد تحقق الاستقبال والتوجه شطر المسجد الحرام. وإنما قالوا ذلك منعا للمصلّي أن يتشاغل في الصلاة بغيرها إذا لم يحصر بصره في هذه الجهات التي عينوها لنظره.
قال الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
الصفا: جمع صفاة، وهي الصخرة الملساء، وقد يأتي واحدا ويجمع على صفىّ قال الراجز:
كأن متنيه من النّقي مواقع الطّير على الصّفي
المروة: الحصاة الصغيرة، وتجمع على مرو قال الشاعر «١» :
حتّى كأنّي للحوادث مروة بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع
وقد عنى الله تعالى بالصفا والمروة هنا الجبلين المسلمين بهذين الاسمين اللذين هما بمكة.
شعائر: جمع شعيرة: من الإشعار وهو الإعلام، أي هما من معالم الله التي جعلها للنّاس معلما ومشعرا يعبدونه عندهما.
الحج: القصد، وقيل هو: كثرة التردد، وقيل للحاج حاج: لأنه يأتي البيت قبل الذهاب إلى عرفة، ثم يعود إليه لطواف يوم النحر بعد الوقوف بعرفة. ثم ينصرف إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصدر، ففيه كثرة التردد.
الاعتمار الزيارة.
الجناح: في اللغة عبارة عن الميل كيفما كان، ولكنه خصّ بالميل إلى الإثم.
المعنى: إن الصفا والمروة أي هذين الجبلين من معالم الله التي جعلها معلما ومشعرا يعبده عباده عندهما بالدعاء، أو الذكر، أو السعي والطواف. فمن حج البيت الحرام أو اعتمره فلا إثم عليه أن يطوّف بهما.
(١) هو أبو ذؤيب الهذلي انظر المحرر الوجيز (١/ ٢٢٩).
45
ومن تطوّع بالحج والعمرة بعد أداء حجته الواجبة. فإنّ الله شاكر له على تطوّعه، مجاز به. عليم بقصده وإرادته. وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية:
١- أخرج ابن جرير «١» عن الشعبي «٢» أن وثنا كان في الجاهلية على الصفا يسمى إساف، ووثنا على المروة يسمّى نائلة، وكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين، فلما جاء الإسلام وكسّرت الأوثان. قال المسلمون: إن الصفا المروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر قال: فأنزل الله أنهما من الشعائر.
٢-
وروى ابن شهاب عن عروة قلت لعائشة رضي الله عنها: أرأيت قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فو الله ما على أحد جناح أن لا يطّوف بهما. قالت عائشة رضي الله عنها: بئسما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما تأولتها لكان: فلا جناح عليه إلا يطوف بهما، إنما كان هذا من الأنصار قبل أن يسلموا، يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلّ لمناة، يتحرج أنّ يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقالوا:
يا رسول الله إنا كنّا نتحرج أن نطوّف بالصفا والمروة. فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ... ثمّ سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بينهما
قال ابن شهاب: فذكرت ذلك لأبي بكر ابن عبد الرحمن، فقال: إنّه العلم، أي ما سمعت به «٣».
الأحكام
اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة على أقوال:
١- فقيل: إنه ركن، وبه قال الشافعي وأحمد، وهو مشهور مذهب مالك، فمن لم يسع كان عليه حج قابل.
٢- وقيل: ليس بركن، بل هو سنة. وبه قال أبو حنيفة، وهو قول في مذهب مالك، قال في «العتبية» «٤» يجزئ تاركه الدم.
٣- وقيل هو تطوع، ولا شيء على تاركه.
احتجّ من جعله ركنا بما
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يسعى ويقول: «اسعوا فإنّ الله كتب
(١) ابن جرير الطبري، جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٢٨).
(٢) عامر بن شراحيل الحميري من كبار التابعين توفي سنة (١٠٣) في الكوفة انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٢٥١).
(٣) رواه البخاري في الصحيح كتاب الحج باب وجوب الصفا والمروة حديث رقم (١٦٤٣).
(٤) مؤلف في فقه المالكية لمحمد بن أحمد العتيبي.
46
عليكم السعي» رواه الشافعي عن عبيد الله بن المزمل «١».
واحتج من لم يره ركنا:
بظاهر الآية، فقد رفعت الإثم عمّن تطوّف بهما، ووصف ذلك بالتطوع. فقال: وَمَنْ تَطَوَّعَ يعني بالتطوع بينهما، وبما
روي من حديث الشعبيّ عن عروة بن مضرّس الطائي قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمزدلفة، فقلت يا رسول الله جئت من جبل طيء، ما تركت جبلا إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «من صلّى معنا هذه الصلاة، ووقف معنا هذا الموقف، وقد أدرك عرفة قبل- ليلا أو نهارا- فقد تمّ حجه، وقضى تفثه» «٢»
، قالوا: فهذا يدل على أن السعي ليس بركن من وجهين:
أحدهما: إخباره بتمام حجته، وليس فيها السعي.
الثاني: أنه لو كان من أركانه لبيّنه للسائل، لعلمه بجهله الحكم، فإن قيل:
مقتضى ذلك ألا يكون الطواف بالبيت فرضا، فإنّه لم يذكره أيضا.
قيل: ظاهر اللفظ يقتضي ذلك، وإنما أثبتناه بدليل آخر.
والظاهر أن الآية لا تشهد لأحد المختلفين، لأننا علمنا السبب في أنها عرضت لرفع الجناح على من تطوّف بهما، وهو أنهم كانوا يتحرجون من السعي بينهما، لأنه كان عليهما في الجاهلية صنمان. وقالوا: كان يطاف بهما من أجل الوثنين.
فبيّن الله أنه يطاف بهما من أجل الله، وأنهما من شعائره، فلا يتحرجون من السعي بينهما، وقوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً كما يحتمل ومن تطوع بالتطوّف بهما، يحتمل: ومن تطوع بالزيادة على الفرض من التطوّف بهما، أو من الحج، فلم يبق من مستند في هذه المسألة إلا السنّة، وقد روي في ذلك آثار مختلفة، فيرجع إلى الترجيح بين هذه الآثار، بالسند والدلالة.
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
نزلت هذه الآية الكريمة في أهل الكتاب حين سئلوا من بعض الصحابة عمّا جاء في كتبهم في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم،
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذا سأل اليهود عمّا في «التوراة» من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم فكتموه إياه. فأنزل الله هذه الآية.
(١) رواه أحمد في المسند (٦/ ٤٢٢).
(٢) رواه أبو داود في السنن (٢/ ١٤٧)، كتاب المناسك، باب من يدرك عرفة، حديث رقم (١٩٥٠)، والترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ٢٣٨)، في كتاب الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام حديث رقم (٨٩١).
47
والكتمان: ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره، لأنّه ما لم يكن كذلك لا يعدّ كتمانا.
ولما كان ما أنزله الله من البينات والهدى ما أنزل إلا لخير الأمم، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم. وهم لن يصل إليهم الخير، ولن يهتدوا إذا كتم عنهم ما أنزل، وهم من أجل ذلك أحوج ما يكونون إلى إظهاره وتعليمه، شدّد الله النكير على الكاتمين، لما ينشأ عن هذا الكتمان من الضرر الجسيم، وتعطيل الكتب السماوية أن تؤتي الثمرة المرجوّة منها.
والمراد في قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى كل ما أنزله الله على الأنبياء من الكتب والوحي، ومن الدلائل التي تهتدي بها العقول في ظلمات الحيرة.
والآية عامة في كل كاتم ومكتوم يحتاج الناس إلى معرفته في أمر معاشهم ومعادهم. ولا عبرة بخصوص السبب الذي نزلت فيه.
أما قوله: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ فقد قيل: المراد بالكتاب «التوراة» و «الإنجيل»، والمكتوم ما جاء فيهما من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم والأحكام. وقيل: أراد بالمنزل الأول ما في كتب المتقدمين. والثاني القرآن.
واللعن في اللغة: الإبعاد مطلقا. ويطلق على الذم. وفي الشرع: الإبعاد من الثواب.
و (اللعنون) قد بينوا في آية أخرى هي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) [البقرة: ١٦١] وقد قيل المراد باللاعنين:
دوابّ الأرض وهوامها، فإنّها تقول: منعنا القطر من بني آدم، وقيل غير ذلك.
وأنت قد رأيت أن اللعن قد جاء مرتبا على الكتمان، فلا مانع من أن يراد باللاعنين كل من يلحقه أثر الكتمان، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠).
التوبة: عبارة عن الندم على فعل القبيح، لا لغرض سوى أنه قبيح، والإصلاح:
ضد الإفساد، والتبيين: الإظهار.
عني القرآن الكريم عناية خاصة بتشديد النكير على من يكتم العلم. فهذه الآية دالّة دلالة صريحة على أن الكتمان جرم عظيم: يستحقّ مرتكبه اللعن والإبعاد من رحمة الله، وذمّ الناس إياه، ومقتهم وغضبهم، وذكر في آية أخرى قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: ١٨٧] وقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: ١٧٤] وقال في الحث على بيان العلم وإن لم يذكر الوعيد: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا
48
فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
[التوبة: ١٢٢] وقد ورد في السنة ما لا يقلّ عن هذا روى شعبة عن قتادة في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال: فهذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم علما فليعلّمه، وإياكم وكتمان العلم. فإنّه هلكة،
وروى حجاج عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كتم علمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» «١».
وقد أشرنا آنفا إلى ما في الكتمان من تعطيل وظيفة الرّسالة، وإلحاق الضرر بالناس، ومن أجل ذلك كان الوزر كبيرا. والآية صريحة في أنّ الكتمان إفساد، وأنه لا يكفي من فاعله الندم على ما فعل من الكتمان، بل لا بد من الإصلاح والتبيين، وقد ذكروا أن الآية تدل على عدم جواز أخذ الأجر على التعليم، لأنها تدل على لزوم إظهار العلم، وترك كتمانه، ولن يستحق إنسان أجرا على عمل يلزمه أداؤه، وقد جاء هذا الحكم مصرّحا به في آية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: ١٧٤].
فثبت بذلك بطلان أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين، غير أن المتأخرين لما رأوا تهاون الناس، وعدم اكتراثهم لأمر التعليم الديني، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا، ورأوا أن ذلك يصرف الناس عن أن يعنوا بتعلم القرآن والعلوم الدينية فينعدم حفظة القرآن، وتضيع العلوم، وليس في الناس مع كثرة مشاغل الحياة ما يلجئهم إلى الانقطاع لهذه المهام أباحوا أخذ الأجور، بل حتمه بعضهم، وما هذه الحبوس «٢» والأرصاد التي حبسها الخيّرون إلا لتحقيق صيانة القرآن والعلوم الدينية، وسبيل لتنفيذ ما وعد الله به من حفظ القرآن في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) [الحجر: ٩].
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أصل الإهلال: رفع الصوت والجهر به. ومن ذلك قيل للملبي في حجة أو عمرة مهلّ لرفع صوته بالتلبية، ويقال: استهلّ الصبي، إذا صاح
(١) رواه أبو داود في السنن (٣/ ٣١٨)، كتاب العلم، باب كراهية منع العلم حديث رقم (٣٦٥٨)، والترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٢٩) في كتاب العلم باب ما جاء في كتمان العلم حديث رقم (٢٦٤٩).
(٢) أي الوقف.
49
عند ولادته، وكان العرب إذا أرادوا ذبح ما قربوه لأصنامهم سمّوا باسم أصنامهم، وجهروا بذلك، وجرى ذلك من أمرهم، حتى قيل لكل ذابح مهلّ. سمّى أو لم يسمّ، جهر أو لم يجهر. فمعنى وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ما ذبح لغير الله.
اضْطُرَّ افتعل، من الضرورة: أي حلت به الضرورة إلى أكل ما حرم.
المعنى: يا أيها الذين صدّقوا بالله: أطعموا من حلال الرزق الذي أحللناه لكم، فطاب بذلك التحليل، وكنتم حرمتموه على أنفسكم، ولم أحرمه عليكم: من البحائر، والسوائب، وما إليها، وأثنوا على الله من أجل النعم التي رزقكموها، وأحلّها لكم إن كنتم منقادين له، ومطيعين إياه.
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ. لم يحرّم عليكم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله، وما ذكر عليه اسم غير الله، فمن حلّت به ضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات، لا باغيا ولا عاديا، أي غير باغ بأكله ما حرّم عليه، ولا عاد في أكله، بألا تكون له مندوحة بوجود ما أحلّه الله، فلا تبعة عليه في الأكل، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لكم ما كان منكم في الجاهلية من تحريم ما لم يحرمه الله.
وقد ورد التحريم في هذه الآية مسندا إلى أعيان الميتة والدم إلخ. وقد اختلف في مثله: أيكون مجملا أم لا؟ فذهب الكرخي «١» إلى أنه يكون مجملا، وحجته فيه أنّ الأعيان ليست من فعل العبد، والتحريم لا يتعلّق إلا بما هو من فعله، فلا بدّ أن تقدّر فعلا، وليس بعض الأفعال أولى من بعض بالتقدير، فلذلك يكون مجملا.
وذهب غيره من العلماء إلى أنه لا يكون مجملا، لأنّ العرف يعيّن الفعل المراد فيما ورد من ذلك، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنّ الفعل المراد هنا هو الانتفاع، فيفيد حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل. ولذلك تجد كثيرا من العلماء يستدلّ بهذه الآية على حرمة وجوه من الانتفاع بها. والذي ينساق إليه الذهن أن الفعل المراد هنا هو الأكل، فالمعنى إنما حرّم عليكم أكل الميتة. بدليل أن الكلام فيه، ففي سابقه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وفي لاحقه فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ويدعم هذا ما
ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خبر شاة ميمونة «إنما حرم من الميتة أكلها» «٢»
فإذا وردت أحاديث تدلّ على حرمة وجوه أخرى من الانتفاع بالميتة كانت الحرمة مأخوذة من تلك الأحاديث لا من هذه الآية.
(١) عبيد الله بن الحسين بن دلّال، شيخ الحنفية ومفتي العراق أصيب في الفالج. توفي سنة (٣٤٠) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (١٢/ ٨٨) ترجمة (٣٠٨٥)
(٢) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٢٧٦)، ٣- كتاب الحيض، ٢٧- باب طهارة جلود الميتة حديث رقم (١٠٠/ ٣٦٣). [.....]
50
والآية تفيد الحصر، فظاهرها إثبات التحريم لما ذكر من الحيوان، ونفيه عما عداه ويؤكد ذلك ما جاء في آية الأنعام قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً [الأنعام: ١٤٥]، وهذا الظاهر تعارضه أحاديث كثيرة وردت في تحريم السباع، والطير، والحمر الإنسية، والبغال.
فقد ورد عن أبي ثعلبة الخشنيّ أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع» رواه البخاري ومسلم «١».
وروى مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكل كلّ ذي ناب من السّباع، وكلّ ذي مخلب من الطّير حرام» ذكره أبو داود «٢».
وروي عن جابر أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة، وأذن في لحوم الخيل» «٣».
الأحكام
ولما كان هذا التعارض بين ظاهر الآية وهذه الآثار اختلف الفقهاء اختلافا كثيرا فروي عن مالك أنه يكره لحوم السباع. والشافعي، وأبو حنيفة وأحمد يحرّمونها. وروي ذلك عن مالك أيضا، وجوز قوم أكل سباع الطير، وحرّمها آخرون.
وذهب الجمهور إلى تحريم الحمر الإنسية، وروي ذلك عن مالك، وروي عنه أيضا أنه يكرهها، وحرّم الجمهور البغال، وكرهها قوم، وهو مروي عنه.
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى تحريم الخيل، وذهب الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد: إلى إباحتها، فالذي يذهب إلى حل شيء مما ذكر يستند إلى الآية، ويذهب إلى عمومها، ويحمل الحديث على نهي الكراهة، أو يبطله لمكان معارضته للآية.
والذي يذهب إلى تحريم شيء مما ذكر يستند إلى الحديث الوارد في التحريم، وينسخ به الآية، أو يرى أنه لا معارضة، ويرى أن الحصر في هذه الآية وآية الأنعام إضافي، بالإضافة إلى ما كانوا يعتقدون حرمته من البحائر. والسوائب، وما إليها.
وكان مقتضى النظر أن من يذهب إلى أن الحصر في الآية حقيقي- ولم يشأ أن
(١) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٨٦)، ٧٢- كتاب الذبائح، ٢٩- باب أكل كل ذي ناب حديث رقم (٥٥٣٠) ومسلم في الصحيح (٣/ ١٥٣٣)، ٣٤- كتاب الصيد، ٣- باب تحريم أكل كل ذي ناب حديث رقم (١٢/ ١٩٣٢).
(٢) هذا الحديث رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٥٣٤)، ٣٤- كتاب الصيد، ٣- باب تحريم أكل كل ذي ناب حديث رقم (١٦/ ١٩٣٤).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٨٥)، ٧٢- كتاب الذبائح، ٢٨- باب لحوم الحمر الإنسية حديث رقم (٥٥٢٤)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٥٤١)، ٣٤- كتاب الصيد، ٦- باب في أكل لحوم الخيل حديث رقم (٣٦/ ١٩٤١).
51
ينسخها بحديث- أن يعمل ذلك في كل حديث يخالف هذه الآية، ويذهب إلى إباحة كل حيوان لم ترد بتحريمه، ولكنّا رأينا من يتمسك بالآية ويردّ بها حديثا يأخذ بحديث آخر، مع أن الآية تعارضه أيضا.
ولعل المالكية أقرب إلى مقتضى النظر، لأنه روي عنهم كراهة كثير مما ذكر تحريمه في هذه الأحاديث، وقد تضمنت الآية تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله:
فأما الميتة: فهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل، أو مقتولا بغير ذكاة. وكان العرب في الجاهلية يستبيحونها. فلما حرّمها الله جادلوا في ذلك فحاجّهم الله كما يرى في سورة الأنعام.
وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد تخصيص الميتة:
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أحلّت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان السمك والجراد، والدمان الكبد والطحال». ذكره الدارقطني.
وورد في «الصحيحين» «١» عن جابر بن عبد الله، أنه خرج مع أبي عبيدة بن الجراح يتلقى عيرا لقريش قال: وزودنا جرابا من تمر. فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه. فإذا هي دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة ميتة. ثم قال: بل نحن رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد اضطررتم، فكلوا.
قال فأقمنا عليه شهرا حتى سمنا. وذكر الحديث. قال: فلما قدمنا المدينة. أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرنا ذلك له. فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء. فتطعموننا؟» قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه. فأكله.
وروى مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في شأن البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» «٢».
فذهب الشافعية والحنفية إلى تخصيص الميتة في الآية بالحديث الأوّل، وأحلّوا السمك والجراد الميّتين بغير ذكاة. إلا أن الحنفية حرّموا الطافي من السمك. وأحلوا ما جزر عنه البحر، لورود حديث يخصّص هذا الحديث المتقدم وهو:
عن جابر بن
(١) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٧٧)، ٧٢- كتاب الذبائح، ١٢- باب قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ حديث رقم (٥٤٩٤) ومسلم في الصحيح (٣/ ١٥٣٥)، ٣٤- كتاب الصيد، ٤- باب إباحة ميتات البحر حديث رقم (١٧/ ١٩٣٥).
(٢) رواه أبو داود في السنن (١/ ٤٥)، كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر حديث رقم (٨٣)، والترمذي في الجامع الصحيح (١/ ١٠٠) في كتاب الطهارة باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور حديث رقم (٦٩).
52
عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه، وطفا، فلا تأكلوه» «١».
أما المالكية فقد رأوا أن
حديث «أحلت لنا ميتتان»
ضعيف، ومهما اختلفوا في جواز تخصيص القرآن بالسنة فقد اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف، ورأوا أن الحديث الثاني والثالث صحيحان، فخصّصوا بهما الكتاب، وأحلوا بهما السمك، وبقي الجراد الميت على تحريم الميتة، لأنه لم يصح فيه شيء عندهم.
ومن لا يجيز تخصيص القرآن بالسنة يرى أن الذي خصص ميتة السمك قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [المائدة: ٩٦] فأما صيده فهو ما أخذ بعلاج، وأما طعامه فهو ما وجد طافيا أو جزر عنه البحر.
وقد ذهب أبو حنيفة إلى تحريم الجنين الذي ذبحت أمّه وخرج ميتا استنادا إلى أنّه ميتة، وحرمت الآية الميتة، وقد خالفه في ذلك صاحباه والشافعيّ وأحمد، وذهبوا إلى حله، لأنه مذكى بذكاة أمه.
وذهب مالك إلى أنه إن تمّ خلقه ونبت شعره، أكل، وإلا لم يؤكل.
والحجة لهم ما ورد من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه»
وهو يفيد أن ذكاة أمه تنسحب عليه.
وقد قال من ينتصر لأبي حنيفة: إنّ الحديث كما يحتمل ما ذهبتم إليه، يحتمل معنى آخر، هو: أن ذكاته كذكاة أمه، فيكون على حدّ قوله:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ولكنّ عظم السّاق منك دقيق
وإذا احتمل ذلك فلا يخصّص الآية.
ويبعد هذا أنّ الحديث ورد في سياق سؤال،
فقد ورد عن أبي سعيد، أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الجنين يخرج ميتا، فقال: «إن شئتم فكلوه، إنّ ذكاته ذكاة أمّه» «٢».
وقد اختلف في الانتفاع بدهن الميتة في غير الأكل، كطلاء السفن ودبغ الجلود، فذهب الجمهور إلى تحريمه، واستدلوا بالآية، لأنهم يرون أن الفعل المقدر هو الانتفاع بأكل أو غيره، وبما
روي عن جابر، قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، أتاه أصحاب الصليب- وهو الودك الذي يستخرج من العظم- الذين يجمعون الأوداك، فقالوا: يا رسول الله، إنّا نجمع
(١) رواه أبو داود في السنن (٣/ ٣٧٠)، كتاب الأطعمة، باب في الطافي من السمك حديث رقم (٣٨١٥).
(٢) رواه أبو داود في السنن (٣/ ١٨)، في كتاب الأضاحي، باب ما جاء في ذكاة الجنين حديث رقم (٢٨٢٧)، والترمذي في الجامع الصحيح (٤/ ٦٠)، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في ذكاة الجنين حديث رقم (١٤٧٦).
53
هذه الأوداك، وهي من الميتة، وعكرها إنما هي للأدم والسفن؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قاتل الله اليهود، حرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها»
فنهاهم عن ذلك «١»، وهذا يفيد أن تحريم الله إياها على الإطلاق يفيد تحريم بيعها.
وقد ذهب عطاء إلى أنه يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، ولعل حجته أن الآية إنما هي في تحريم الأكل، بدليل سابقها، وأن حديث شاة ميمونة «٢» يعارض حديث جابر، فوجب أن يرجح، لأنه موافق لظاهر التنزيل.
وأما الدم فقد ورد هنا مطلقا، وورد في سورة الأنعام [١٤٥] مقيّدا بالمسفوح وحمل العلماء المطلق على المقيد، ولم يحرّموا منه إلا ما كان مسفوحا، وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لولا أن الله قال: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً لتتبّع الناس ما في العروق.
وقد ذهب الحنفية والشافعية إلى تخصيص الدم المحرم
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأحلت لنا ميتتان ودمان»
وذكر الكبد والطحال. والحق ما ذهب إليه مالك من أنه لا تخصيص لأن الكبد والطحال ليسا لحما ولا دما بالعيان والعرف.
وأما الخنزير فقد ذهب بعض الظاهرية إلى أن المحرم لحمه، لا شحمه، لأنّ الله قال: وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وقال الجمهور: إنّ شحمه حرام أيضا، وهو الصحيح، لأن اللحم يشمل الشحم.
فأما ما أهلّ به لغير الله. فقد نقل ابن جرير أن أهل التأويل اختلفوا فيه. فمنهم من قال: ما ذبح لغير الله. ونقله عن قتادة ومجاهد «٣» وابن عباس، ومنهم من قال:
ما ذكر عليه غير اسم الله، ونقله عن الربيع «٤» وابن زيد «٥».
وفيه خلاف آخر وهو: أهذا يشمل ذبائح النصارى التي ذكروا عليها اسم المسيح فتكون محرمة، أم لا يشملها فلا تكون محرمة، بل هو خاص بما ذكر عليه اسم الأصنام؟
بالأول قال أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والشافعي، ومالك، ونقل عنه الكراهة.
(١) رواه البخاري في الصحيح (٣/ ٥٤)، ٣٤- كتاب البيوع، ١٠٣- باب لا يذاب شحم الميتة حديث رقم (٢٢٢٤)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٢٠٧)، ٢٢- كتاب المساقاة، ١٣- باب تحريم بيع الخمر والميتة حديث رقم (٧١/ ١٥٨١).
(٢) سبق تخريجه.
(٣) مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي المقرئ المفسّر أخذ التفسير عن ابن عباس توفي (١٠٤ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٥/ ٢٧٨).
(٤) الربيع بن أنس بن زياد المروزي انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (٦/ ٣٧٩) ترجمة (٩١٠).
(٥) عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي القرشي توفي (٦٣ هـ)، انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠٧).
54
وبالثاني قال عطاء «١»، ومكحول «٢»، والحسن والشعبي، وسعيد بن المسيّب، وأشهب «٣» من المالكية.
وسبب اختلافهم: أنه وردت هذه الآية، ووردت الآية وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: ٥] وكلاهما يصح أن تخصّص الأخرى، فيصح أن يكون المعنى:
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ما لم يذكر اسم غير الله عليه، بدليل: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ويصحّ أن يقال: وما أهل به لغير الله إلا ما كان من أهل الكتاب. بدليل قوله: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ. فمن ذهب إلى الأول حرّم ذبيحة الكتابي إذا ذكر عليها اسم المسيح، ومن ذهب إلى الثاني أجازها، ويمكن أن يرجّح الثاني بأن الآية نزلت في تحريم ما كان تذبحه العرب لأوثانها، وتكون في معنى قوله: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: ٣].
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.
الباغي في اللغة: الطالب لخير أو لشر، وخص هنا بطالب الشر.
العادي: المجاوز ما يجوز إلى ما لا يجوز، وقد اختلف بالمراد بالباغي والعادي هنا: فذهب مجاهد وابن جبير «٤» إلى أن الباغي هنا: الخارج على الإمام، المفارق للجماعة. والعادي: قاطع السبيل. وقال قتادة والحسن وعكرمة «٥» : إنّ الباغي: آكل الميتة فوق الحاجة، والعادي: آكلها مع وجود غيرها. فعلى القول الأول: لا يجوز للخارج على الإمام ولا لقاطع السبيل إن اضطرا أن يأكلا من الميتة. ولكن يعترض على ذلك بأن بغي الباغي وعدوانه لا يبيحان له قتل نفسه بترك أكل المحرم عند الاضطرار.
وقد اختلفوا في المضطر، أيأكل من الميتة حتى يشبع. أم يأكل على قدر سد الرمق؟
ذهب مالك إلى الأول، لأن الضرورة ترفع التحريم فتعود الميتة مباحة. ومقدار الضرورة من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. وهو حينئذ لا يحمل قوله تعالى:
(١) ابن أسلم بن صفوان بن أبي رباح تابعي، ولد في اليمن وتوفي في مكة، انظر الأعلام للزركلي (٤/ ٢٣٥).
(٢) ابن أبي مسلم، أبو عبد الله، من حفاظ الحديث وتوفي بدمشق، انظر الأعلام للزركلي (٧/ ٢٨٤). [.....]
(٣) أشهب بن عبد العزيز القيسي العامري المصري، المالكي فقيه الديار المصرية، انظر الأعلام للزركلي (١/ ٣٣٣).
(٤) سعيد بن جبير الكوفي قتله الحجاج سنة (٩٥ هـ). تابعي وهو حبشي الأصل، انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٩٣).
(٥) ابن عبد الله البربري المدني مولى ابن عباس تابعي كان من أعلم الناس بالتفسير والمغازي، انظر الأعلام للزركلي (٤/ ٢٤٤).
55
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﲿ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠﰡ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ
غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ على أن المراد غير باغ في الأكل، ولا متعد حد الضرورة، بل يحمله على البغي والعدوان على الإمام.
وذهب غيره إلى الثاني، لأنّ الإباحة ضرورة، فتقدر بقدر الضرورة.
والحكمة في تحريم ما ذكر في الآية: أما الميتة فلا ستقذارها، ولما فيها من ضرر، لأنها إمّا أن تكون قد ماتت لمرض قد أفسد تركيبها. وجعلها لا تصلح للبقاء.
وإما لسبب طارئ.
فأما الأولى: فقد خبث لحمها. وتلوث بجراثيم المرض، فيخاف من عدواها ونقل مرضها إلى آكليها.
وأما الثانية: فلأنّ الموت الفجائي يقتضي بقاء المواد الضارّة في جسمها.
وأمّا الدم المسفوح، فلقذارته وضرره أيضا.
وأما لحم الخنزير، فلأن غذاءه من القاذورات والنجاسات، فيقذر لذلك ولأن فيه ضررا، فقد استكشف الأطباء أنّ لحم الخنزير يحمل جراثيم شديدة الفتك، ويظهر أيضا أن المتغذي من لحم الخنزير قد يكتسب من طباع ما يأكله، والخنزير فيه كثير من الطباع الخبيثة.
وأما ما أهل به لغير الله فتحريمه لحكمة مرجعها إلى صيانة الدين والتوحيد.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ فرض عليكم، كقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: ١٨٣] ومنه الصلوات المكتوبات، وقول الشاعر «١» :
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرّ الذّيول
الْقِصاصُ: أن يفعل به مثل ما فعل. من قولهم: اقتص أثر فلان إذا فعل مثل فعله. قال الله تعالى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً [الكهف: ٦٤].
الْقَتْلى: جمع قتيل، كالصرعى جمع صريع. وإنما يكون (فعلى) جمعا (لفعيل) إذا كان وصفا دالا على الزمانة.
العفو: يطلق في اللغة على معان المناسب منها هنا اثنان: العطاء والإسقاط، فمن الأول: جاد بالمال عفوا صفوا: أي مبذولا... ومن الثاني: وَاعْفُ عَنَّا [البقرة: ٢٨٦]
(١) الشاعر هو عمر بن أبي ربيعة.
56
و «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» واختلفوا في سبب نزول هذه الآية.
فروي عن قتادة أنه كان في أهل الجاهلية بغي وطاعة الشيطان، فكان الحي إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبد قوم آخرين عبدا لهم قالوا: لا نقتل به إلا حرّا، اعتزازا بأنفسهم على غيرهم، وإن قتلت لهم امرأة، قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، فأنزل الله هذه الآية. يخبره أن العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: ٤٥] وروي مثل ذلك عن الشعبي وجماعة من التابعين.
وروي عن السدي أنه قال في هذه الآية: اقتتل أهل ملتين من العرب أحدهما مسلم، والآخر معاهد في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبيد والنساء، على أن يؤدي الحر دية الحر، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى. فقاصهم بعضهم من بعض.
ويكون معنى الآية على الأول: يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم أن تقتصوا للقتيل من قاتله، ولا يبغينّ بعضكم على بعض. فإذا قتل الحرّ الحرّ فاقتلوه فقط، وإذا قتل العبد العبد فاقتلوه به. وإذا قتلت الأنثى الأنثى فاقتلوها بها: مثلا بمثل. ودعوا الظلم الذي كان بينكم، فلا تقتلوا بالحر أحرارا، ولا بالعبد حرا، ولا بالأنثى رجلا.
فمن ترك له شيء من القصاص إلى الدية. فليحسن الطالب في الطلب: من غير إرهاق ولا تعنيف، وليحسن المؤدي الأداء من غير مطل ولا تسويف، ذلك الذي شرعته من العفو إلى الدية تخفيف من ربكم ورحمة.
وقد كان محرّما على اليهود أخذ الدية، ولم يكن لأولياء المقتول إلا القصاص، فمن تجاوز بعد أخذ الدية وقتل القاتل، فله عذاب أليم، أو فمن تجاوز ما شرعته، وعاد إلى أمر الجاهلية فله عذاب أليم.
فإن قيل: إن صدر الآية يوجب القصاص، وعجزها يجيز العفو عنه إلى الدية.
فكيف يجمع بينهما؟ قيل: إن صدر الآية أوجب القصاص والمماثلة إذا أريد قتل القاتل، ومنع العدوان والظلم. فلا منافاة بين صدرها وعجزها.
وقد اختلف العلماء في نظم الآية وما يفهم منها. وبناء على ذلك اختلفوا فيما يؤخذ منها من الأحكام، فمن ذلك اختلافهم: أيقتل الحر بالعبد أم لا؟ أو يقتل المسلم بالذمي أم لا؟ فذهبت الحنفية إلى الأول، والمالكية والشافعية والحنابلة إلى الثاني، ونحن سنشير هنا إلى الأساس الذي بني عليه الخلاف.
الأساس الذي بني عليه الخلاف هو: أصدر الآية كلام مكتف بنفسه؟ أم هو غير
57
مكتف بنفسه، بل محتاج إلى العجز؟ ولا يتم الكلام إلى عند قوله: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ذهب الحنفية إلى الأول، والآخرون إلى الثاني.
قال الحنفية: إنّ الله أوجب قتل القاتل بصدر الآية. وهذا يعم كلّ قاتل: سواء كان حرا قتل عبدا أم غيره. وسواء كان مسلما قتل ذميا أم غيره.
وأما قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ فإنما هو بيان لما تقدّم ذكره على وجه التأكيد، وذكر الحال التي خرج عليها الكلام، وهي ما كان يفعله بعض القبائل، من أنهم يأبون أن يقتلوا في عبدهم إلا حرا، وفي امرأتهم إلا رجلا. على ما جاء في حديث الشعبي.
فأبطل ما كان من الظلم، وأكّد فرض القصاص على القاتل دون غيره، وإذا كان ذلك كذلك فليس في الآية دلالة على أنه لا يقتل الحر بالعبد، كما أنها لم تدل باتفاق على أنه لا يقتل الرجل بالمرأة، وكما أنها تدل على أنه لا يقتل العبد بالحر، ولا المرأة بالرجل باتفاق أيضا، فمناط الاستدلال عندهم: أن صدر الآية عامّ، وذكر الحر بالحر وما بعده ليس تقييدا، بل هو إبطال لما كانوا يفعلونه من الظلم.
وقالوا: في معنى الآية قوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء: ٣٣] فانتظم جميع المقتولين ظلما، عبيدا كانوا أو أحرارا، مسلمين أو ذميين، وجعل لوليهم سلطانا، وهو القود.
وقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: ٤٥] وهو عموم في إيجاب القصاص في سائر المقتولين، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ولم نجد ناسخا.
وقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: ١٩٤] وقوله:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: ١٢٦].
وقد جاءت السنة أيضا بما يفيد هذا العموم في العبيد،
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» «١»
فقال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم»
ولم يفرّق بين عبد وحرّ في ذلك.
فإن قيل: إن قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة: ١٧٨] يفيد أن الآية في المسلمين، قالوا: إنّ هذا حكم، وهذا حكم، وخصوص الثاني لا يفيد خصوص الأول.
قال الله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨] وهذا عموم في المطلّقة ثلاثا وما دونها، ثم عطف قوله تعالى: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
[البقرة: ٢٣١] وقوله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [البقرة: ٢٢٨].
(١) رواه أبو داود في السنن (٤/ ١٧٩)، كتاب الديات، باب إيقاد المسلم بالكافر حديث رقم (٤٥٣٠)، والنسائي في السنن (٧- ٨/ ٣٩٢) حديث رقم (٤٧٥٩).
58
وهذا خاصّ في المطلقة دون الثلاث، فخصوص هذا لم يبطل عموم اللفظ في الأول.
وقالت المالكية والشافعية: إن الكلام لا يتم عند قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وإنما ينقضي عند قوله: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فالله قد أوجب المساواة، ثم بيّن المساواة المعتبرة، فبيّن أن الحرّ يساويه الحرّ، والعبد يساويه العبد، والأنثى تساويها الأنثى، وقد كان التقسيم يوجب ألا يقتل الرجل بالمرأة، ولكن جاء الإجماع على أنّ الرجل يقتل بالمرأة.
فمناط الاستدلال عندهم أن الله أوجب المساواة والمماثلة في القتل، ثم جاء بالأصناف ليبين المساواة المعتبرة، فكأنه كتب أن يقتل القاتل إذا كان مساويا للمقتول في الحرية.
وإذا كان الحر لا يقتل بالعبد، فالمسلم لا يقتل بالذمي، لأن نقص العبد برقّه الذي هو من آثار الكفر، فلا يقتل به المسلم،
ويدل له صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» «١».
قالوا: وقد كان ظاهر الآية يفيد ألّا يقتل العبد بالحر، ولكنا نظرنا إلى المعنى، فرأينا أن العبد يقتل بالعبد، فأولى أن يقتل بالحر، وإذن فالآية قد جاءت لتبيّن من هم أقل في المساواة، فلا يقتل بهم من هو أعلى منهم، فلا ينافي ذلك أن يقتل الأنقص بالأزيد، ويعضّد هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أنه لا مساواة بين طرف الحر وطرف العبد، ولا يجري القصاص بينهما في الأطراف، فكذلك لا يجب أن يجري في الأنفس.
والعقل يميل إلى تأييد قول أبي حنيفة في هذه المسألة، لأنّ هذا التنويع والتقسيم الذي جعله الشافعية والمالكية بمثابة بيان المساواة المعتبرة قد أخرجوا منه طردا وعكسا الأنثى بالرجل، فذهبوا إلى أن الرجل يقتل بالأنثى، والأنثى تقتل بالرجل، وذهبوا إلى أن الحر لا يقتل بالعبد، ولكنهم أجازوا قتل العبد بالحر، فهذا كلّه يضعف مسلكهم في الآية.
أما مسلك أبي حنيفة فيها فليس فيه هذا الضعف، وحينئذ يكون العبد مساويا للحر، ويكون المسلم مساويا للذمي في الحرمة، محقون الدم على التأييد، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام.
ويعضّد هذا أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم في الحرمة، فإن سرقه مسلم قطع فيه، فإذا كان لماله حرمة مال المسلم فوجب أن يكون لدمه حرمة دم المسلم، إذ حرمة ماله إنما هي تبع لحرمة دمه، ويعضّد ما ذهب إليه أبو حنيفة من شرع قتل
(١) رواه ابن ماجه في السنن (٢/ ٨٨٨)، كتاب الديات، باب لا يقتل مسلم بكافر حديث رقم (٢٦٦٠).
59
المسلم بالذمي ما رواه الطحاوي عن محمد بن المنكدر، أن النبي عليه الصلاة والسلام أقاد مسلما بذمي،
وقال: «أنا أحق من وفّى بذمته» «١»
وقد روي عن عمر وعلي قتل المسلم بالذمي
وقال علي: إنّا أعطيناهم الذي أعطيناهم لتكون دماؤهم كدمائنا، ودياتهم كدياتنا.
وأما
حديث: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» «٢»
فله ضروب من التأويل أحسنها: أن رجلا من خزاعة قتل رجلا من هذيل بذحل «٣» الجاهلية.
فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا إنّ كلّ دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدميّ هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده»
يعني بالكافر الذي قتل في الجاهلية، فيكون ذلك تفسيرا
لقوله: «كلّ دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين»
ويكون
قوله: «ولا ذو عهد في عهده»
في معنى قوله: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [التوبة: ٤] وقد ذكر علماء الأصول تأويلات يمنعنا خوف الإطالة من ذكرها.
وآيات القصاص عامّة في كل قاتل قتل عمدا، ولكن وردت أحاديث تفيد تخصيصها، فمن ترجّحت عنده واشتهرت، خصص بها الآية.
فمن ذلك ما
روي عن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يقتل والد بولده».
وفي رواية عنه أيضا «لا يقاد الأب بابنه» «٤»
، وقد حكم بذلك عمر أمام جمع من الصحابة من غير نكير، فكان في منزلة الخبر المستفيض، فجاز أن يخصّص الآية، وقد أخذ به أبو حنيفة والشافعي.
وروي عن مالك أنه إذا ظهر منه قصد القتل كأن أضجعه وذبحه قتل به، وإن رماه بسلاح أدبا، أو خنقه لم يقتل به.
وقد اختلف العلماء: أتقتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قتله أم لا؟ فذهب أكثر فقهاء الأمصار: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور «٥» وغيرهم إلى أنه تقتل الجماعة بالواحد قلّت الجماعة، أو كثرت.
(١) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار ط ٢، بيروت، دار الكتب العلمية ١٩٨٧ (٣/ ١٩٥).
(٢) سبق تخريجه.
(٣) الذحل: الثأر، العداوة والحقد، انظر لسان العرب لابن منظور (١١/ ٢٥٦).
(٤) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٤/ ١٢)، كتاب الديات، باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه حديث رقم (١٤٠٠، ١٤٠١).
(٥) إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي، الفقيه صاحب الإمام الشافعي توفي (٢٤٠ هـ) انظر الأعلام للزركلي (١/ ٣٧).
60
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعا «١».
وقال داود «٢» وأهل الظاهر: لا تقتل الجماعة بالواحد، واستند إلى ظاهر الآية، لأنها شرطت المساواة والمماثلة، ولا مساواة بين واحد والجماعة. وإلى قوله:
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: ٤٥].
وجمهور الفقهاء نظروا إلى المعنى: وهو أنّ الشارع شرع القصاص لحفظ الأنفس، وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ولو علم الناس أن الجماعة لا تقتل بالواحد لتمالأ الأعداء على قتل عدوهم، وبلغوا مرادهم من قتله، ونجوا من القود بالاجتماع. والآية لا تدل على أن الجماعة لا تقتل بالواحد، لأنها جاءت في منع حميّة الجاهلية التي كانت تدعو القبيلة إلى أن تقتل بقتيلها من قتل ومن لم يقتل افتخارا، بل قد يؤخذ من الآية ما يدل للجمهور، لأن المراد بالقصاص قتل من قتل كائنا من كان، واحدا، أو جماعة.
وقد ذهب مالك والشافعي إلى أنّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ يقتضي المماثلة في كيفية القتل، فيقتص من القاتل على الصفة التي قتل بها. فمن قتل تغريقا، قتل تغريقا، ومن رضخ رأس إنسان بحجر فقتله، قتل برضخ رأسه بالحجر. واحتجوا
بحديث أنس «أنّ يهوديا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبيّ رأسه بحجر» «٣».
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المطلوب بالقصاص إتلاف نفس بنفس، والآية لا تقضي أكثر من ذلك. فعلى أيّ وجه قتله لم يقتل إلا بالسيف. واستدلوا
بحديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قود إلا بالسّيف» «٤»
وقالوا:
قد ورد عن عمران بن حصين وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن المثلة» «٥»
وقتله بما قتل به قد يؤدي إلى المثلة،
وقد ورد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة» «٦»
فأوجب عموم لفظه
(١) رواه البخاري في الصحيح (٨/ ٥٣)، ٨٨- كتاب الديات، ٢١- باب إذا أصاب قوم من رجل حديث رقم (٦٨٩٦).
(٢) داود بن علي بن خلف الأصبهاني أبو سليمان الملقب بالظاهري توفي (٢٧٠ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٢/ ٣٣٣).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢١٥)، ٦٨- كتاب الطلاق، ٢٤- باب الإشارة في الطلاق حديث رقم (٥٢٩٥)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٢٩٩)، ٢٨- كتاب القسامة، ٣- باب ثبوت القصاص في القتل حديث رقم (١٥/ ١٦٧٢). [.....]
(٤) رواه ابن ماجه في السنن (٢/ ٨٨٩)، كتاب الديات، باب لا قود إلا بالسيف حديث رقم (٢٦٦٧).
(٥) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٨٤)، ٧٢- كتاب الصيد، باب ما يكره من المثلة حديث رقم (٥٥١٦).
(٦) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٥٤٨)، ٣٤- كتاب الصيد، ١١- باب الأمر بإحسان الذبح حديث رقم (٥٧/ ١٩٥٥).
61
على من له قتل على جان، ورغب في القصاص أن يقتله بأحسن وجوه القتل.
وقالوا: إذا ثبت حديث أنس، كان منسوخا بالنهي عن المثلة، وحكي عن القاسم بن معن أنه حضر مع شريك بن عبد الله «١» عند بعض السلاطين، فقال: ما تقول فيمن رمى رجلا بسهم فقتله؟
قال: يرمى فيقتل، قال: فإن لم يمت بالرمية الأولى؟
قال: يرمى ثانية.
قال: أفتتّخذونه غرضا وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتّخذ شيء من الحيوان غرضا «٢» ؟ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ.
قد ذكرنا أن المناسب من معاني العفو هنا: الإسقاط، أو العطاء. فذهب الشافعي إلى أن المراد هنا الإسقاط، والمعنى: فأيّ قاتل ترك له من أخيه شيء من القصاص فاتبعه أيها القاتل، وأدّ إليه بإحسان، وبناء على ذلك يكون موجب القتل العمد عنده أحد أمرين: إمّا القصاص، وإما العفو إلى الدية، فأيهما اختار الولي أجبر الجاني عليه. وهو رواية أشهب عن مالك. وروي عن ابن عباس: العفو أن تقبل الدية في العمد. ونحوه عن قتادة، ومجاهد وعطاء، والسدي.
وذهب غيرهم إلى أن العفو العطاء، أي فمن أعطي له من أخيه شيء من المال فليتبعه بالمعروف، وليؤد إليه الجاني، وحينئذ لا يكون في الآية ما يدل على إلزام القاتل بالدية إذا رضيها الولي. وبناء على ذلك ذهبوا إلى أن موجب القتل العمد القصاص فقط. فإذا عفا الولي إلى الدية، ولم يقبل الجاني لم يجبر، وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة وهو رواية القاسم عن مالك.
ويدل للمذهب الأول ما
روي من أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إمّا أن يفدى وإما أن يقتل» «٣».
قال الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) بعد أن بيّن الله شرع القصاص ذكر الحكمة فيه، فقال: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ
(١) ابن الحارث النخعي فقيه، القاضي الكوفي أدرك زمن عمر بن عبد العزيز توفي سنة (١٧٧ هـ) في الكوفة، انظر الأعلام للزركلي (٣/ ١٦٣).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٥٤٩)، ٣٤- كتاب الصيد، ١٢- باب النهي عن صبر البهائم حديث رقم (٥٨/ ١٩٥٧)، ورواه الترمذي في الجامع الصحيح (٤/ ٦٠)، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية أكل المصبور حديث رقم (١٤٧٥).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (٨/ ٤٩)، ٨٨- كتاب الديات، ٨- باب من قتل له قتيل حديث رقم (٦٨٨٠) ومسلم في الصحيح (٢/ ٩٨٨)، ١٥- كتاب الحج، ٨٢- باب تحريم مكة وصيدها حديث رقم (٤٤٧/ ١٣٥٥).
62
أي ولكم يا أولي العقول فيما شرعت لكم من القصاص حياة وبقاء، لعلكم تتقون القصاص، فتنتهوا عن القتل.
وإنما كان في شرع القصاص حياة، لأنّ الناس إذا علموا أن من قتل يقتل كفّ بعضهم عن بعض. فإذا همّ أحد بقتل أخيه أوجس خيفة من القصاص، فكفّ عن القتل، فكان في ذلك حياة له وحياة لمن أراد قتله وحياة لغيرهما من الناس، فربما وقعت الفتنة بالقتل، فيقتل فيها خلق كثير، وشرع القصاص حاجز لذلك كله، وهذا على أنّ المراد بالقصاص شرع القصاص ويمكن أن يراد منه القصاص نفسه، ويكون المعنى أن في القصاص نفسه حياة، لأنّ القاتل إذا اقتصّ منه كان عبرة لغيره، فيرتدع من يهمّون بالقتل، فلا يقتلون ولا يقتلون، فكان القصاص سببا للحياة، وهناك وجه آخر ذكره السدي فقال: ولكم في القصاص حياة أي بقاء، لا يقتل إلا القاتل بجنايته.
وقد نقل الله بهذه الآية العقوبات من معنى إلى معنى سام جليل: فقد كانت العقوبات انتقاما في الأزمنة السالفة، ينتقم بها المجتمع من المجرمين، فجعل الله الغرض منها الاستصلاح وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ولم يقل انتقام، ولقد رقت قلوب قوم من رجال التشريع الوضعي!! فاستفظعوا قتل القاتل، ورحموه من القتل!! ولقد كان المقتول ظلما أولى برحمتهم وعطفهم، وإذا رحموا القاتل فمن يرحم المجتمع الذي يكثر فيه المجرمون الفسّاد، ولعمرنا إنهم نظروا نظرة ضيقة، ولو نظروا نظرة عامة شاملة لكانت رحمتهم هذه هي التي تدعوهم إلى القصاص والقسوة فيه، فإنّ من يرحم الناس يسعى لتقليل الشر عنهم، وكف عادية المعتدين.
فقسا ليزدجروا، ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
ولقد عبّرت العرب عن هذا المعنى بعبارات مختلفة، منها قولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقولهم: أكثروا القتل ليقلّ القتل، وأجود ما قالوه في ذلك قولهم:
القتل أنفى للقتل.
والنظم الكريم وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ قد فاق تلك بمراحل، ويدل على ذلك أمور:
١- أنها أخص.
٢- أن قولهم: القتل أنفى للقتل ظاهره أن القتل سبب في نفي القتل، وهو محال، بخلاف الآية، فإنّها جعلت القصاص، وهو نوع من القتل، فيه نوع من الحياة، بدليل التنكير، ولا إحالة في أن يكون نوع من القتل سببا لنوع من الحياة.
٣- أن القتل ظلما قتل، وليس نافيا للقتل، بل هو أدعى للقتل، فيكون ذلك مبطلا لظاهر عموم قولهم. وثمّ وجوه أخرى لم نشأ الإطالة بها.
63
قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) كُتِبَ عَلَيْكُمْ فرض عليكم.
الخير: ضد الشر، والمراد به هنا: المال، وقد ورد في القرآن كثيرا بمعنى المال، قال تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة: ٢٧٢] وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) [العاديات: ٨] إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: ٢٤].
الوصية: القول المبين لما يستأنف عمله. وهي هنا مخصوصة بما بعد الموت وهي كذلك في العرف.
المعروف: ضد المنكر، وليس المراد بقوله: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وقت حضور الموت ومعاينته، لأنّ هذا الوقت لا يعي فيه المرء ما يقول، بل المراد علامات الموت وأماراته، وذلك كالمرض المخوف.
وقد اختلف في ذلك المال الذي كتبت فيه الوصية. فقيل: هو الكثير، وقيل:
أيّ مال قليلا كان أو كثيرا. والأولون اختلفوا، فقيل: هو الكثير غير محدود.
وبعضهم حدّده. واختلفوا في التحديد، فعن ابن عباس: إذا ترك سبعمائة درهم، فلا يوصي، فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصى.
وعن قتادة: ألف درهم، وعن عائشة: أن رجلا قال لها: إني أريد أن أوصي.
قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: قال الله إِنْ تَرَكَ خَيْراً وإنّ هذا الشيء يسير، فاتركه لعيالك، فهو أفضل، والظاهر قول من قال: إن المراد المال مطلقا، قليلا، كان أو كثيرا. لأن اسم الخير يقع على قليل المال وكثيره، ولم يخصّ الله منه شيئا دون شيء.
وهذه الآية قد دلّت على وجوب الوصية، واختلف العلماء فيها: أهي منسوخة أم محكمة لم تنسخ؟ وجمهور العلماء على أنها منسوخة. قال الشافعي رضي الله عنه ما معناه: إن الله تعالى أنزل آية الوصية، وأنزل آية المواريث، فاحتمل أن تكون الوصية باقية مع الميراث، واحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصايا. وقد طلب العلماء ما يرجّح أحد الاحتمالين، فوجدوه في سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فقد روى عنه أصحاب المغازي أنه قال عام الفتح: «لا وصيّة لوارث» «١»
وهو وإن كان خبر آحاد إلا أن العلماء تلقته بالقبول، وأجمعت العامة على القول به.
(١) سبق تخريجه.
64
ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا: فذهب طاوس «١» وقوم معه: إلى أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين نسخت، وبقيت للقرابة غير الوارثين، فمن أوصى لغير قرابة لم تجز، وذهب غيرهم إلى أنها منسوخة في حقّ من يرث، وحق من لا يرث. وحجة الأولين: أن الوصية لمن يرث ومن لا يرث من الأقربين كانت واجبة بالآية، فنسخت منها الوصية للوارثين، وبقيت للأقربين غير الوارثين على الوجوب.
ويؤكد هذا
قوله عليه الصلاة والسلام: «ما حقّ امرئ مسلم له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» «٢»
. وحجة الآخرين ما
رواه الشافعي عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حكم في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم فأعتقهم عند الموت، فجزأهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة «٣»
فلو كانت الوصية واجبة للأقربين وإذا جعلت في غيرهم بطلت لما أجازها صلّى الله عليه وسلّم في العبدين، لأن عتقهما وصية لهما، وهما غير قريبين، وقد ذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أنّ آية الوصية محكمة غير منسوخة، نقل ذلك عنه الفخر الرازي، وقرر مذهبه بوجوه:
أولا: أنّ هذه الآية ليست مخالفة لآية المواريث، بل هي مقررة لها، والمعنى:
كتب ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: ١١] إذا كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين، والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليهم.
ثانيا: أنه لا منافاة بين ثبوت الوصية للأقرباء وثبوت الميراث، فالوصية عطية من حضره الموت، والميراث عطية من الله تعالى، فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.
ثالثا: لو قدّر حصول المنافاة بين آية الميراث وآية الوصية لكان يمكن جعل آية الميراث مخصّصة لآية الوصية لأن هذه الآية تفهم بعمومها أن الوصية واجبة لكلّ قريب، وآية المواريث أخرجت القريب الوارث، فبقيت آية الوصية مرادا بها القريب الذي لا يرث، إمّا لمانع من الإرث ككفر ورق، وإما لأنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوي الأرحام.
(١) طاوس بن كيسان الخولاني اليماني من أئمة التابعين توفي سنة (١٠٦ هـ) أصله من الفرس، انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٢٢٤).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٣/ ٢٤٥)، ٥٥- كتاب الوصايا، ١- باب الوصايا حديث رقم (٢٧٣٨)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٢٤٩)، ٢٥- كتاب الوصية حديث رقم (١/ ١٦٢٧).
(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٢٨٨)، ٢٧- كتاب الإيمان حديث رقم (٥٦/ ١٦٦٨).
65
وابن جرير الطبري ذهب في «تفسيره» «١» إلى هذا القول فقال في تفسير الآية: فرض عليكم أيها المؤمنون الوصيّة إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً والخير: المال لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الذين لا يرثون بِالْمَعْرُوفِ وهو الذي أذن الله فيه وأجازه في الوصية، ما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمّد الموصي ظلم ورثته حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يعني بذلك فرض عليكم هذا وأوجبه وجعله حقا واجبا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
فإن قال قائل: أو فرض على الرجل ذي المال أن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثون؟ قيل: نعم. وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من العلماء منهم: الضحّاك «٢» فقد كان يقول: من مات ولم يوص لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية، ومنهم مسروق «٣» فقد حضر رجلا فأوصى بأشياء لا تنبغي، فقال له مسروق: إن الله قسم بينكم فأحسن القسم، وإنه من يرغب برأيه عن رأي الله يضلّه، أوص لذي قرابتك ممن لا يرثك، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.
وقد ذهب القائلون بأنها منسوخة إلى أنها تندب، وتكون في ثلث ماله، ومعنى قوله: بِالْمَعْرُوفِ بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط،
وقد بيّنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله لمن أراد أن يوصي: «الثلث والثلث كثير» «٤»
وقد روي عنه عليه صلوات الله أنه قال: «إنّ الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في أعمالكم».
قال الله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) لما أوجب الله تعالى الوصية وجعلها حقا على المتقين، توعّد من غيّرها وبدّلها فقال: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي فمن غيّر ما أوصى به الموصي بعد ما سمع الوصية فليس على الموصي إثم، بل الإثم على مبدّل الوصية، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع للوصية، عليم بما أوصيتم به، فلا تخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها، وعلى ذلك يكون المنهي عن التغيير هو: الشاهد، فلا يكتم شهادة ولا يغيّرها، والوصي فلا يغير الوصية، ولا يحوّر فيها. والورثة فلا يمنعون من أوصي لهم من حقّهم.
وقيل: إنه هو الوصي، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يوصون للأباعد،
(١) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٦٨).
(٢) ابن مزاحم البلخي الخراساني، توفي (١٠٥ هـ) مفسر، كان يؤدب الأطفال انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٢١٥).
(٣) ابن الأجدع بن مالك الهمداني توفي (٦٣ هـ) تابعي، شهد حروب الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، انظر الأعلام للزركلي (٧/ ٢١٥).
(٤) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ١٠٢)، ٢٣- كتاب الجنائز، ٣٤- باب رثاء النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن خولة حديث رقم (١٢٩٥)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٢٥٠)، ٢٥- كتاب الوصية، ١- باب الوصية بالثلث حديث رقم (٥/ ١٦٢٨). [.....]
66
ويتركون ذوي القربى في ضنك وشدة، فنهاهم الله عن ذلك، وجعل الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، ثم أوعد الموصين الذين يخالفون ما أمر به. ويجعلونها في غير المواضع التي أمرهم بها، أو يوصون بغير معروف، كأن يعطوا الأغنياء من أقاربهم، ويتركوا الفقراء، وعلى هذا يكون الضمير في قوله: فَمَنْ بَدَّلَهُ راجعا إلى الحكم الذي علم من الآية السابقة.
أما على القول الأول فالضمير راجع إلى الوصية. وإنما أتى به مذكّرا والوصية مؤنثة نظرا إلى المعنى، فإنها بمعنى الإيصاء، كقوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [البقرة: ٢٧٥] أي وعظ، وقد دلت الآية على أن المرء لا يؤخذ بجريرة غيره. فالميت لا يؤخذ ببكاء أهله إلا أن يكون له دخل في البكاء، كأن يكون أوصى به.
ولذلك لا يعذّب الميت إذا أوصى ورثته بقضاء دينه، فقصّروا في القضاء، وهي في معنى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: ٤٦] لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: ٢٨٦].
هذا وقد طعن قوم في أحكام الوصية والميراث في الشريعة الإسلامية. وقالوا:
إنها لا تلين لرغبات المالكين، وقد تكون هذه الرغبات محترمة أما أنها لا تلين لرغبات المالكين فلأن الميراث قد فرضت فروضه، وعيّنت أنصباؤه، وليس لأحد أن يغيّر فيها، وقد منعت الوصية للوارث، فليس لأحد أن يوصي لوارثه.
وأما أن رغبة المالكين قد تكون محترمة فلأنه ربما أراد أن يوصي لوارث فيزيد نصيبه، لأنه يراه أبرّ به من غيره، أو لأنه أحوج، قالوا: والشريعة الإسلامية قد خالفت ما عند الأمم الأخرى من احترام رغبات المالكين. وقد تذرّعت أمة إسلامية بذلك فتركت أحكام الشريعة في الميراث والوصايا، واستبدلت بها القانون السويسري.
ونحن نرى أنه لا موجب لهذه الغارة على أحكام الشريعة، فقد نقلنا ما رواه الفخر الرازي من رأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية، وقد علمنا منه أن رأيه أن الوصية للوارث باقية لم تنسخ، ولا منافاة بينها وبين الميراث.
فالميراث عطية من الله، والوصية عطية من المالك للوارث، فإذا كانت هذه الأمة قد اضطرت لاحترام إرادة المالكين، ولم تبال بما يصحبها من جور غالبا.
ففي الشريعة الإسلامية متسع لهذا. فلنا الأخذ برأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية وهو يجيز الوصية للوارث، ويحترم رغبة المالكين. فمن شاء أن يوصي لابن بار، أو وارث أشد حاجة: فله ذلك عنده. وما دام في الشريعة غنى، فليس لهم أن يستبدلوا بها قانونا آخر. وإن الأخذ بقول من أقوالها مهما كان ضعيفا خير من الخروج عنها جملة.
67
قال الله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢) الجنف: الميل في الأمور، وأصله العدول عن الاستواء. والفرق بين الجنف والإثم هنا: أن الجنف الخطأ في الوصية من حيث لا يعلم، والإثم الجور عن عمد.
وقد اختلف في تأويل الآية. فقال بعضهم: إن معنى خافَ هنا علم، ولما توعّد الله من غيّر الوصية بيّن أن هذا الوعيد لمن غيّرها جورا.
أما من علم من الموصي الجور فلا إثم عليه في تغييرها إلى عدل وصلح، فبيّن الفرق بين التبديلين. فأوجب الإثم في الأول. ونفاه عن الثاني.
وقال بعضهم: إن خافَ هنا على معناها، والمراد: أن من حضر الموصي وهو يوصي فخاف منه الخطأ في وصيته، أو تعمّد الجور فيها فلا حرج عليه أن يصلح بين الموصي وبين ورثته: بأن يأمره بالعدل في وصيته. فلا يتعمد إضرار الورثة. ولا يحرم مستحقا، ويعطي غير مستحق: يفعل ذلك مشورة وإصلاحا، والضمير في قوله: بَيْنَهُمْ يعود على الموصى لهم، وهم وإن كانوا لم يذكروا، إلا أنهم علموا من قوله: مُوصٍ لأنّه يستلزم موصى لهم.
فإن قيل: هذا المصلح قد أتى بطاعة بإصلاحه يستحق عليها الثواب الجزيل. وكان المنتظر أن يقال: فله أجر. فكيف قيل: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وقيل: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ؟
فالجواب: أنه لما كان تبديلا، وقد أثّم الله المبدّلين، أراد أن يبين مخالفته للأول برفع الإثم عنه، لأنه ردّ الوصية إلى العدل.
وأما قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، كأنه قال: أنا الغفور الرحيم لمن أذنب وعصى فلأن أوصل الرحمة والمغفرة لهذا المصلح أولى.
أو يقال: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهذا الوصي الذي أوصى بما فيه جنف أو إثم إذا أصلحت وصيته. وهذه الآية تدل على جواز الصلح بين المتنازعين.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤).
الصِّيامُ: مصدر صام. كالقيام مصدر قام، وهو في اللغة: الإمساك عن الشيء، والترك له، ومنه قيل للصمت: صوم، لأنه إمساك عن الكلام، قال تعالى في
68
قصة مريم إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم: ٢٦] ومنه قولهم:
صامت الريح، إذا ركدت وسكنت، وصامت الفرس، إذا أمسكت عن العلف، قال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللّجما
وفي الشرع: هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، بنيّة من أهله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قيل: إن وجه الشبه هو وجوب الصوم، وقيل: مقداره، وقيل: كيفيته. من الكف عن الأكل والشرب، وقد ذكر القائلون بالأخيرين روايات تؤيد ما ذهبوا إليه، منها أنه كان المفروض على اليهود والنصارى صوم شهر رمضان هذا، الذي كلّف الله المسلمين بصومه، وزعموا أن اليهود تركت هذا الشهر إلى صوم يوم زعموا أنه الذي غرق فيه فرعون.
أما النصارى فقد صادفوا في رمضان حرّا شديدا، فحولوه إلى وقت لا يكون حرّا، ثم قالوا عند التحويل: نزيد فيه عشرا، ثم اشتكى ملكهم فزادوا سبعا، ثم اشتكى الملك الذي بعده فقال: ما بال هذه الثلاثة فتمّ لهم صوم خمسين يوما، وهناك روايات غير هذه، كلّها تفتقر إلى الإثبات وعلم حقيقة ما كتب على الذين من قبلنا، وما دام التشبيه لا يحتاج لأكثر من وجه من وجوه المماثلة، ونحن نقطع بأن من كان قبلنا قد أوجب الله عليهم الصيام، فما حاجتنا بالجري وراء أخبار تحتاج في إثباتها إلى عناء وجهد قد لا تصل بعدهما إلى ما يثبت المدعى؟
نحن لا ننكر هذه الأخبار، أو ما اشتملت عليه، بل نقول: إنها تفتقر إلى الإثبات، وفهم الآية غير متوقّف عليها، إذ يكفي في فهم الآية أن يكون الله قد كتب صوما ما على الذين من قبلنا، وتلك حقيقة يسلّم بها جميع أهل الأديان، وهم يتعبدون بها إلى اليوم، والمطّلعون على التاريخ القديم يقولون: إن التاريخ يدل على أنه لم تخل شريعة من الشرائع من فرض الصوم، وإنما اختلف الصوم في الأمم السابقة في ماهيته، وكيفيته، ومقداره، وما دام الله لم يبين لنا ماهية الصوم عند الذين من قبلنا وكيفيته ومقداره فما حاجتنا إلى البحث وراءه، ولو علم الله في بيانه خيرا لبينه؟
قال الزجاج «١» : إن كَما هنا في موضع نصب على المصدر، والمعنى:
فرض عليكم الصيام كفرضه على الذين من قبلكم. وقال أبو علي «٢» : هو صفة
(١) إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق عالم بالنحو واللغة ولد ومات في بغداد، انظر الأعلام للزركلي (١/ ٤٠).
(٢) الحسن بن أحمد الفارسي، أحد الأئمة في علم العربية توفي في بغداد سنة (٣٧٧ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٢/ ١٧٩).
69
لمصدر محذوف، أي كتابته مثل كتابته على الذين من قبلكم. وقيل: غير هذا.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ذكروا في معناها في هذا الموضع وجوها:
أحدها: أن الصوم يورث التقوى، لأنه يكسر الشهوة، ويقمع الهوى، ويردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوّن لذات الدنيا.
الثاني: أن المعنى: ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رجاؤكم في التقوى.
الثالث: أن المعنى: لعلكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات، وأنت ترى أن المعاني متقاربة.
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ منصوب على الظرفية، وقيل: غير هذا، وقد اختلف العلماء في هذه الأيام: أهي رمضان أم غيره؟ قيل: إنها غير رمضان، وأنه كان قد وجب صوم قبل رمضان، ثم نسخ بآية: شَهْرُ رَمَضانَ إلى قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: ١٨٥] وهو مذهب معاذ. وقتادة. وعطاء. ومرويّ عن ابن عباس، ثم اختلف هؤلاء، فقال عطاء: هي ثلاثة أيام من كل شهر، وقال قتادة: بل هي ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عاشوراء.
ثم إن هؤلاء اختلفوا أيضا. فقال بعضهم: إن هذا الصوم كان تطوعا، وقال بعضهم: بل واجبا، واتفقوا على أن هذا الصوم- على الخلاف في أنه تطوع أو فرض. وعلى الخلاف في مقداره- منسوخ بصوم رمضان، واستدلوا على صحة ما ذهبوا إليه بوجوه:
الأول: ما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنّ صوم رمضان نسخ كلّ صوم»
فدل هذا على أن صوما كان قبل رمضان ونسخ به.
الثاني: أن الله تعالى ذكر حكم المريض والمسافر هنا وذكره في آية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فلو لم تكن الآية الأولى منسوخة بالثانية لكان تكرارا ينزّه عنه القرآن.
الثالث: أنّ قوله تعالى هنا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ يدلّ على أن هذا الصوم واجب على التخيير، إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأعطى الفدية. وصوم رمضان واجب على التعيين. فواجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان. ذلك مبلغ ما قالوا في التدليل لمذهبهم.
وذهب أكثر المحققين إلى أن المراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان، وهو مذهب ابن عباس، والحسن، وأبي مسلم، وحاصله: أنّ الله سبحانه بيّن أولا أنه فرض علينا صوما كالذي فرضه على الذين من قبلنا، فاحتمل هذا أن يكون يوما، أو يومين، أو غير ذلك، فبيّنه بعض البيان بقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وكان ذلك أيضا
70
محتملا لأن يكون فوق ثلاثة أيام إلى أكثر من شهر، فبينه الله تعالى بقوله: شَهْرُ رَمَضانَ إلخ. وإذا كان ذلك يمكننا في فهم الآية فلا وجه لحملها على غيره، وإثبات النسخ فيه، وهو فوق ذلك خارج عن مدلول اللفظ.
أما ما تمسكتم به من
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صوم رمضان نسخ كلّ صوم»
فلم لا يجوز أن يراد: كلّ صوم كان في الشرائع السابقة؟ ومعروف أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، فليكن هو الناسخ. ولئن سلّم أن المراد كلّ صوم كان عندنا فأين انحصار أدلة الوجوب في هذه الآية؟ ولم لا يجوز أن يكون صوما قد ثبت بأدلة غير هذه؟
وأما قولكم: لو كان عين شهر رمضان لكان قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ... إلخ مكرّرا.
فلنا أن نقول: إن صوم رمضان ثبت في أول الأمر مخيّرا فيه المكلّف بين الصيام، وبين الفدية دون القضاء، فلما كان كذلك، ورخص للمسافر في الفطر، كان من الجائز أن يظنّ أن عليه الفدية دون القضاء، ويجوز أنه لا فدية عليه ولا قضاء لمكان العذر الذي يفارق به المقيم.
ولما لم يكن ذلك بعيدا، بيّن الله تعالى أن إفطار المريض والمسافر في الحكم خلاف التخيير في حق المقيم، فإنه يجب عليهما القضاء في عدة من أيام أخر، فلما نسخ الله ذلك عن المقيم الصحيح وألزمه بالصوم حتما، كان جائزا أن يظن أن انتقال الحكم من واسع إلى ضيق ربما يعم الكلّ فيساوي المريض والمسافر الصحيح المقيم. أو على الأقل يبقى حكم المريض والمسافر مجهولا: فكانت هناك حاجة إلى البيان، فجيء به لدفع هذه الحاجة، وحيث قد ذهبنا إلى القول بأن صوم رمضان كان في البدء مخيّرا، فلم تعد بنا حاجة إلى الاعتذار عن حجتهم الثالثة.
وأنت ترى أن الآية على القولين قد دخلها النسخ: أما الأول فظاهر، وأما الثاني، فلأنّه يقضي بأن صوم رمضان ثبت في البدء مخيّرا، ثم نسخ بالتعيين، ولعل الحكمة في شرعه هكذا سنة التدرج في التشريع.
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ المراد منه والله أعلم أن فرض الصيام في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المقيمين. فأما من كان مريضا أو مسافرا فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر.
وقد دلّت الآية على عظيم فضل الله، وسعة رحمته بعباده، فقد بيّن الله سبحانه في أول الآية أن شريعة الصيام فيكم لم تكن بدعا من الشرع، بل لكم فيها أسوة، فقد كانت مكتوبة على من قبلكم من الأمم، ثم بيّن فيها ثانيا: وجه الحكمة في إيجاب الصوم، وهو أنه سبب قوي في حصول التقوى، وثالثا: أنه لم يكلفنا بما يشق، بل
71
كلفنا أياما معدودات، وهي وإن قلّت فجزاؤها جزيل، ثم بيّن جل شأنه أنه خصّ هذه الأيام بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لمزيد الشرف ثم بين أن هذا التكليف خاصّ بمن قدر عليه، حيث أباح تأخيره لمن يشق عليه من المرضى والمسافرين إلى وقت يقدرون عليه فيه.
وقد اختلفوا في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال:
ذهب الحسن وابن سيرين «١» إلى أنّ المدار على تحقق وصف المرض، فأيّ مرض وأيّ سفر بالغين ما بلغا يترخّص بهما المسافر والمريض في الفطر في رمضان، وقد روي أنّ جماعة دخلوا على ابن سيرين فوجدوه يأكل، فاعتل بوجع إصبعه.
وذهب الأصم إلى أنّ المراد المريض والمسافر اللذان لا يقدران على الصوم مع المرض والسفر إلا بجهد ومشقة.
وذهب أكثر الفقهاء إلى أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادة في العلة، وهذا هو الذي يتقبله العقل بقبول حسن، فإن الحكمة التي من أجلها رخّص للمريض هي إرادة اليسر، ولا يراد اليسر إلا حيث يظنّ العسر، وإن من الأمراض ما يكون شفاؤه بالصوم، فكيف يباح الفطر لمن كان مرضه كذلك، ولم يكلفنا الله سبحانه إلا على حسب ما يكون في غالب الظن، فيكفي أن يظهر أن الصوم يكون سببا للمرض، أو يزيد في العلة، أما الإطلاق فيه أو التضييق فأمر يتنافى مع إرادة اليسر بالمكلفين.
وكذلك اختلفوا في السفر المبيح للفطر.
فقال داود الظاهري: الرخصة حاصلة في كل سفر، ولو كان فرسخا، وحجته أن الحكم علّق في الآية بكونه مسافرا، وهو مؤذن بعلية ما اشتق منه، فحيث تحقّق السفر تحقق الحكم وهو الرخصة، وقال: كل ما في الباب أنكم تروون خبرا آحاديا، وتخصيص عموم الكتاب بخبر الآحاد غير جائز.
وقال الأوزاعي: «٢» السفر المبيح للفطر مسافة يوم، وذلك لأن أقل من هذا قد يتفق للمقيم، وكأنه يعتبر في المسافر عدم التمكن من الرجوع إلى أهله في اليوم.
وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن السفر المبيح مقدّر بأربعة برد، كلّ بريد أربعة فراسخ، كل فرسخ مقدّر بثلاثة أميال بميل هاشم جد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي قدر أميال
(١) محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء، اشتهر بتعبير الرؤيا ينسب له كتاب تعبير الرؤيا، انظر الأعلام للزركلي (٦/ ١٥٤).
(٢) عبد الرحمن بن عمرو، إمام الشام ولد في بعلبك، سكن بيروت وتوفي بها، انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٣٢٠).
72
البادية، كل ميل اثنا عشر ألف قدم، كل قدم ثلث خطوة، وهو مذهب مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: لا يتحقق سفر يبيح الترخيص حتى يكون قدر ثلاث مراحل، قدرها أربعة وعشرون فرسخا، وهي مقدرة في كتب الحنفية بمسير ثلاثة أيام سيرا وسطا، وهو سير الإبل والأقدام في البر، وسير السفن الشراعية في البحر، ويكتفون بسير معظم اليوم، واحتج الشافعي بما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من ثلاث برد من مكة إلى عسفان «١».
وقد قال أهل اللغة: إن كل بريد أربعة فراسخ، فتكون ستة عشر فرسخا، وهو الذي قلنا.
واحتج أبو حنيفة: بأن قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يوجب الصوم، ولكنا تركناه في الثلاثة الأيام للإجماع على الرخصة فيها. أما فيما دونها فمختلف فيه، فوجب الصوم احتياطا.
واحتجوا أيضا
بقوله عليه الصلاة والسلام: «يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» «٢»
. ولا يكون كذلك حتى تكون مدة السفر ثلاثة أيام، لأن الشارع جعل علّة الامتداد إلى الثلاثة السفر، والرخص لا تعلم إلا من الشرع. وأما ما رويتم عن ابن عباس فلعله مذهبه واجتهاده، ولا نترك حديث رسول الله إلى مذهب أحد واجتهاده.
وأيضا ورد عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم اعتبار الثلاثة الأيام سفرا، ومن ذلك
حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وأنه نهى أن تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم» «٣».
نعم قد روي عن أبي سعيد «٤»، وأبي هريرة «٥» أخبار في هذا المعنى، تفيد من منعها السفر يومين، ولكنّهما روي عنهما أيضا النهي عن سفرها ثلاثة أيام، ويوما.
فلما كان هذا الاضطراب وللاحتياط في إسقاط الفرائض عوّلنا على حديث ابن عمر، لأنه متفق عليه، وروايات غيره مضطربة فتركناها، فتبين أن الثلاثة قد تعلّق بها حكم شرعي، وغيرها لم يعلّق به، فوجب تقديرها في إباحة الفطر.
(١) قال عنه الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح، انظر تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر العسقلاني ط ١، بيروت دار الكتب العلمية ١٩٩٨ (٢/ ١١٧).
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين حديث رقم (٩٥).
(٣) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٩٧٥)، ١٥- كتاب الحج، ٧٤- باب سفر المرأة حديث رقم (٤١٣/ ١٣٣٨).
(٤) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٩٧٦)، ١٥- كتاب الحج، ٧٤- باب سفر المرأة حديث رقم (٤١٦/ ٠٠٠).
(٥) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٩٧٧)، ١٥- كتاب الحج، ٧٤- باب سفر المرأة حديث رقم (٤١٩/ ١٣٣٩).
73
ثم إنّ العلماء قد اختلفوا في المسافر والمريض: ماذا يلزمهما في رمضان؟
ذهب جماعة من علماء الصحابة رضوان الله عليهم: إلى أن الواجب عليهما الفطر وصيام عدة من أيام أخر، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، حتى روي عنه:
أن المسافر إذا صام في السفر قضى في الحضر.
وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة، فإن شاء صام وإن شاء أفطر، وحجّة الأولين ظاهر
قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس من البرّ الصّيام في السّفر» «١»
وقوله عليه الصلاة والسلام: «الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر».
وأما الجمهور فقد قالوا: إن في الآية إضمارا تقديره: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر، فعليه عدّة من أيام أخر، وهو نظير قوله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ.. [البقرة: ٦٠] وقوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ إلى قوله: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: ١٩٦] التقدير في الأوّل (فضرب) فانفجرت، والثاني (فحلق) ففدية.
وأيضا
فقد روى أبو داود في «سننه» عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أفأصوم في السفر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «صم إن شئت، وأفطر إن شئت» «٢».
وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخبر المستفيض «٣»
أنه صام في السفر رواه ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء، وسلمة بن المحنّف.
وأما ما
روي من قوله: «ليس من البرّ الصّيام في السّفر»
فإنّه كلام خرج على حال مخصوصة، وذلك ما
رواه شعبة من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى رجلا يظلّل عليه والزّحام عليه شديد، فقال: «ليس من البر الصيام في السفر» «٤»
. فمن سمع وذكر الحديث ذكره مع سببه، وبعضهم اقتصر على ذكر الحديث.
(١) سيأتي تخريجه.
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ٢٩١)، ٣٠- كتاب الصوم، ٣٣- باب الصوم في السفر حديث رقم (١٩٤٣)، ومسلم في الصحيح (٢/ ٧٩٠)، ١٣- كتاب الصيام، ١٧- باب التخيير في الصوم حديث رقم (١٠٧/ ١١٢١) وأبو داود في السنن كتاب الصوم، باب الصوم حديث رقم (٢٤٠٢).
(٣) انظر ما رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٧٨٤- ٧٨٧)، ١٣- كتاب الصيام، ١٥- باب جواز الصوم والفطر حديث رقم (٨٨/ ١١١٣) و (٩٠/ ١١١٤) و (٩٣/ ١١١٦) و (٩٨/ ١١١٨).
(٤) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ٢٩٢)، ٣٠- كتاب الصوم، ٣٦- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (١٩٤٦)، ومسلم في الصحيح (٢/ ٧٨٦)، ١٣- كتاب الصيام، ١٥- باب جواز الصوم والفطر حديث رقم (٩٢/ ١١١٥).
74
وقد ذكر أبو سعيد الخدري في حديثه أنهم صاموا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في رمضان، ثم إنه قال لهم: «إنّكم قد دنوتم من عدوّكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا» «١»
فكانت عزيمة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أبو سعيد: ثم لقد رأيتني أصوم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك وبعد ذلك، وأما
حديث: «الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر»
فحديث مقطوع لا يثبت عند كثير من الناس.
والحنفية بعد ذلك يرون الصوم أفضل من الفطر. ويقول المالكية كذلك لمن قوي عليه.
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ: أي من كان منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فعليه صيام أيام أخر بعد ما أفطر، وهذا تأويل الجمهور، فكان المريض والمسافر عندهم واجبه الأصليّ الصوم، ويرخّص له في الفطر، فإذا أفطر فليقض أياما مكان الأيام التي أفطر فيها.
وأما غير الجمهور فتأويل الآية عندهم: فمن كان مريضا أو مسافرا فليفطر، والواجب عليه ابتداء صوم أيام أخر، وصيامه في رمضان لا يعتدّ به.
وأنت بعد الذي بينا من أدلة الطرفين إذا رجعت إلى النظم الكريم وجدت أنّ النظم قد شمل الخطاب فيه جميع المؤمنين كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ثم لمّا كان بعض الناس قد يكون له من العذر ما يقتضي التخفيف بيّن الله حال المعذورين بقوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وقال: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ على ما يأتي بيانه بعد، ثم قال: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
فهل تجد بعد هذا مسوّغا لأن تفهم من الآية أنّ الفطر واجب على من لا يضره الصوم من أصحاب الرّخص؟ ثم انظر إلى قوله تعالى في الآية التي بعد هذه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: ١٨٥] فإنّك لا بدّ فاهم منها أن الواجب الأصليّ على الناس جميعا في رمضان هو الصوم، وأن التأخر عنه ترخيص.
فهل إذا التزم العبد أن يقوم بما هو أشق عليه ولا يضرّه تحصيلا للثواب الكثير فنقول له: إن هذا لا يجزيك؟ ما نظن.
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ظاهر العبارة يفيد أنّ القادر على الصوم له أن يترك الصوم إلى الفدية ولا يلزمه القضاء. وقد تقدّم القول بأنّ بعض العلماء يرى أن هذه الآية من أولها منسوخة لهذا ولغيره، وبعضهم يرى أنه لا نسخ إلا في هذا الجزء، ويرى أن صوم رمضان كان قد شرع ابتداء على التخيير، ثم نسخ بقوله:
(١) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٧٨٩، ١٣- كتاب الصيام، ١٦- باب أجر المفطر في السفر حديث رقم (١٠٢/ ١١٢٠/ ١. [.....]
75
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وهذا كله على قراءة يُطِيقُونَهُ مضارع من الإطاقة. وسنعود إليها بعد الكلام على القراءات الأخرى. فقد قرئ يُطِيقُونَهُ بتشديد الياء بعد الطاء.
وقرئ يطوقونه بالواو بدل الياء، ومعناه: يجشّمونه، أي: يتحمّلونه بمشقة، وقالوا: المراد بهم الشيخ والشيخة الفانيان يفطران ويفديان ولا يقضيان.
والآية على هاتين القراءتين لا نسخ فيها أصلا فالناس ثلاثة أحوال:
١- الأصحاء المقيمون، ويلزمهم الصوم عينا في رمضان.
٢- والمرضى والمسافرون، ولهم الفطر إن أرادوا، وعليهم إن أفطروا أيام أخر.
٣- وقوم لا يقدرون على الصوم، وفيه ضرر، فهؤلاء يفدون.
ولنرجع إلى القراءة الأولى يُطِيقُونَهُ: لما كان الظاهر منها ما ذكرنا. قال بعض المفسرين: إن الآية على إضمار حرف النفي، وتقديره- والله أعلم- وعلى الذين لا يطيقونه فدية، وتكون الآية حينئذ في معنى القراءتين الأخريين.
ويرى بعضهم أن هذا في شأن المرضى والمسافرين فهم قسمان:
القسم الأول لا يقدر على الصيام، وهذا يجب عليه الفطر والقضاء في أيام يقدر على الصوم فيها.
والقسم الثاني يقدر على الصوم، فهؤلاء يرخّص لهم في الفطر لمكان السفر والمرض، وعليهم الفدية.
وقال بعضهم: إنّها نزلت في حق الشيخ الفاني، وتقريره من وجهين:
أحدهما: أن الوسع فوق الطاقة، فالوسع اسم للقدرة على الشيء مع السهولة، يقال: في وسع فلان أن يفعل كذا وفلان يسعه أن يفعل كذا إذا كان يقدر عليه مع السهولة. أمّا الطاقة فهي اسم للقدرة على الشيء مع الشدة والمشقة، يقال: فلان يطيق كذا، أي أنه آخر ما في طوقه وقدرته، فمعنى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الذين يقدرون عليه مع الشدة والمشقة، وعلى هذا فلا نسخ في الآية، وحكمها باق، قاله الفخر الرازي.
الوجه الثاني: حمل هذه القراءة على القراءة الشاذّة، وهو قريب من الأوّل، وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا، فقال جماعة منهم السدي: إنّها في الشيخ الهرم، أي الذي لا يرجى أن يأتي عليه في عمره أيام يقدر فيها على الصوم ويطعم لكل يوم مسكينا.
وقال آخرون: إنّها تتناول الشيخ الهرم والحامل والمرضع، سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، فقال: أيّ مرض أشدّ من الحمل؟ تفطر وتقضي.
ثم إنهم أجمعوا على أنّ الواجب على الشيخ الهرم الفدية، أما الحامل والمرضع
76
فقال الشافعي رضي الله عنه: عليهما الفدية مع القضاء. وقال أبو حنيفة: ليس عليهما إلا القضاء.
وحجة الشافعية أنهما داخلان في منطوق الآية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ لأنهما لا يطيقان فتجب عليهما الفدية.
وأبو حنيفة جعلهما في حكم المريض، انظر إلى قول الحسن البصري: أي مرض أشدّ من الحمل؟ يفطران ويقضيان، ثم قال أبو حنيفة: فرق بينهما وبين الشيخ الفاني، لأنه لا يمكن إيجاب القضاء عليه، لأنه إنما سقط عنه الصوم إلى الفدية لشيخوخته وزمانته، فلن يأتي عليه يوم يكون أقدر على الصوم من أيام رمضان التي أفطر فيها.
أما الحامل والمرضع فهما من أصحاب الأعذار الطارئة المنتظرة الزوال، فإن زال عذرهما فعليهما عدة من أيام أخر، وإن لم يزل كانا كالمريض الذي لم تزل علته، على أنهما لا يمكن إيجاب الفدية عليهما مع إيجاب القضاء، لأنّه يكون جمعا بين البدل والمبدل، وهو غير جائز، لأن الفدية بدل الصوم.
طَعامُ مِسْكِينٍ هو نصف صاع من برّ «١»، أو صاع «٢» من غيره عند أبي حنيفة، وليس عليه عنده غير ذلك، قال الثوري «٣» : يطعم، ولم يذكر مقدارا.
وروى المزني «٤» عن إمامه الشافعي أن الفدية مدّ، وقال ربيعة «٥» ومالك: لا أرى عليه الإطعام، وإن فعل فحسن.
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ اختلف في تأويله، قال بعضهم: معناه من تطوّع بالزيادة على مسكين واحد فهو خير له، وقال بعضهم: من تطوّع بالزيادة في مقدار الفدية على المسكين الذي أعطاه وقال الزهري «٦» : من تطوّع بالصيام مع الفدية فهو خير له.
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: ١٨٤] قيل: إنّه خطاب مع الذين
(١) البر: القمح.
(٢) الصاع: أربعة أمداد.
(٣) سفيان بن سعيد بن مسروق من مضر، أمير المؤمنين في الحديث، انظر الأعلام للزركلي (٣/ ١٠٤).
(٤) إسماعيل بن يحيى تلميذ الشافعي، وأحد المصنفين في مذهبه من أهل مصر، انظر الأعلام للزركلي (١/ ٣٢٩).
(٥) ربيعة بن فروخ المعروف بربيعة الرأي، فقيه من المدينة كان بصيرا بالرأي، انظر الأعلام للزركلي (٣/ ١٧).
(٦) محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري أول من دوّن الحديث تابعي من أهل المدينة، انظر الأعلام للزركلي (٧/ ٩٧).
77
يطيقونه ولا يصومونه، أي يتحملونه بمشقة، فهو خير لهم من الفدية. وقيل: إنه خطاب مع ذوي الأعذار من المرضى والمسافرين والشيوخ الفانين. قال الفخر الرازي: هو أولى لعموم اللفظ.
وقيل: آخر الآية معطوف على أوّلها، ويكون المعنى: كتب عليكم الصيام..
وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ما في الصيام من الحكم الإلهية، التي شرع من أجلها الصيام، وهي تعويد النفس الصبر والجوع، وعدم اتباع الهوى والشهوة والبرّ بالضعفاء ومواساة المحتاجين.
قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) الشهر: مأخوذ من الشهرة، يقال: شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا، إذا ظهر، وسمي الشهر شهرا لشهرة أمره، وذلك أن الناس بسبب حاجتهم إلى التوقيت في العبادات والمعاملات يحتاجون إلى معرفته. وسمي الهلال شهرا لشهرته وبيانه. بل قال بعضهم: إنما سمّي الشهر شهرا باسم الهلال.
رَمَضانَ هو المدة من الزمان بين شعبان وشوال، وقد قيل في سبب تسميته بذلك أقوال كثيرة، منها أنه مأخوذ من الرمض، وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس. وكانوا: يصومون فيه. فكان يكون قاسيا عليهم كقسوة أشعة الشمس المنعكسة عن الحجر الأبيض، وأقرب الأقوال ما قيل: إنهم لما نقلوا الأسماء عن اللغات القديمة سمّوها بحسب ما يقع لها من المناسبات التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر رمض الحر.
شَهْرُ رَمَضانَ خبر لمبتدأ محذوف بدل عن الأيام المعدودة في قوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وقيل: بل هو مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قيل: شهر رمضان المكتوب عليكم صومه. وقيل غير هذا.
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: بيان لمزية اختصاصه بالصوم فيه من بين الشهور، ومعنى أنزل القرآن فيه، وقد أنزل القرآن في غيره أيضا: أنه ابتدأ إنزاله في رمضان، والحوادث الجسام تؤرّخ وتنسب إلى أوّل أوقاتها.
وقيل: إنه نزل إلى سماء الدنيا جملة واحدة في رمضان لحكمة يعلمها الله، ثم
78
نزّل بعد ذلك منجّما. ولا منافاة بين إنزاله في رمضان، وإنزاله في ليلة القدر والليلة المباركة. لأنّ ليلة القدر والليلة المباركة كانتا في رمضان، وقيل: معنى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أنزل في شأنه القرآن.
والْقُرْآنُ اسم لكلام الله المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد اختلف في اشتقاقه، فقيل: إنه مشتق من القراءة: بل قد جاء بمعناها، كما في قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء: ٧٨].
وقيل: من القران، لأنّ آياته قد قرن بعضها ببعض. وقيل من القرء بمعنى الجمع. وقيل غير ذلك.
هُدىً لِلنَّاسِ: هاديا لهم بما اشتمل عليه من الحكم والمواعظ التي هي شفاء ورحمة، وهو منصوب على الحال، أي: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هاديا للناس إلى طريق الخير، ومبينا وكاشفا عن وجه الحق، بما اشتمل عليه من الآيات الواضحات، وفارقا بين الحق والباطل وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
قد يقال: ما الحكمة في إيراد وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ بعد قوله: هُدىً لِلنَّاسِ؟
وجوابه: أنه تعالى ذكر أولا أنه هدى للناس، ثم هذا الهدى نوعان: تارة يكون الهدى بينا واضحا تنساق إليه العقول انسياقا. وتارة لا يدركه إلا خواصّ الناس. ولا شك أن الأول أكثر فائدة، فكان ذكره بعد الأول للميزة الخاصة بعد الميزة العامة.
وهو على هذا في منتهى البلاغة.
وقيل في الجواب: إن المراد بالهدى الأول أصول الدين. والثاني فروعه.
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ قال بعضهم: إن الفاء هنا زائدة، لأنها إما للعطف وإما للجزاء وهما لا يصلحان هنا، فكانت زائدة كزيادتها في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة: ٨] وقال الفخر الرازي: ويمكن أن يقال: إن الفاء هنا ليست زائدة، بل هي للجزاء، فإنه تعالى لما بيّن كون رمضان مختصّا بالشرف العظيم، وهو إنزال القرآن فيه، وهو شرف لا يشاركه فيه سائر الشهور، فهو لذلك يناسبه أن يختص بهذه العبادة، ولذلك تقدّم وصفه بخاصة إنزال القرآن فيه، كأنه قيل:
وإذا كان رمضان مختصا بهذه الفضيلة فخصّوه أنتم بهذه العبادة.
شَهِدَ: حضر، والشهود الحضور. ثم هنا قولان:
أحدهما: أنّ مفعول شهد محذوف، لأن المعنى: فمن شهد البلد في الشهر بمعنى أنه لم يكن مسافرا. ويكون الشهر منصوبا على الظرفية.
79
والقول الثاني: أن مفعول شهد هو الشهر، والتقدير: فمن شهد الشهر وشاهده بعقله وبمعرفته فليصمه، وهو كما يقال شهدت عصر فلان وأدركته، وهو تفسير لا غبار عليه بعد أن تعرف أن خطابات الله جميعا تتوجّه إلى المكلفين، فلا عبرة بما قيل: إنه كالأول فيه مخالفة للظاهر لاحتياجه للتخصيص، إذ يقال: للصبي المجنون إنه أدرك الشهر، نعم هم مدركون، ولكنّهم لا يدخلون تحت قوله: مِنْكُمُ إذ إنّ كون كل خطابات الشارع متوجهة إلى من يأتي تكليفهم قد فرغ منه، فمثله مثل وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: ٤٣، ٨٣، ١١٠] على أنه على فرض دخول هؤلاء، فالآية تكون مخصوصة على هذا الوجه. وعلى الوجه الأول فيها تقدير محذوف.
وقد تقرر في الأصول أنه إذا تعارض التخصيص والإضمار، تعيّن المصير إلى التخصيص، وبدهي أن القول الأول يلزمه أن الآية لا توجب الصوم إلا على المقيم، فلا يكون صوم المسافر مسقطا للواجب، بل يكون الواجب في حقه الفطر، وهذا كلام قد نسب إلى الإمام علي- كرم الله وجهه- القول به. والجمهور يرون الآية عامة في المكلفين، وهي تشمل المسافر والمقيم، غير أن المسافر يترخّص بالفطر كالمريض، وعليهما عدة من أيام أخر.
هذا وظاهر الآية يفيد أن الصيام إنما يجب بشهود جميع الشهر، وذلك غير متأتّ، إذ إنّ شهود جميع الشهر لا يتأتّى إلا بعد انقضائه، وبعد انقضائه لا يتأتى لأحد أن يصوم ما مضى، فمن هنا قالوا: إنه يتعين أن يكون المعنى فمن شهد بعض الشهر فليصمه، غير أنهم اختلفوا، فقال بعضهم: المراد بالبعض أوّل الشهر. وهو منسوب للإمام علي، وعلى ما تقدم على مذهبه يلزم أن يكون الحكم في حق من كان مسافرا أوّل الشهر أنه لا يجب عليه صيام الشهر، بل يجب عليه الفطر.
ويرى الجمهور أن أيّ بعض يكفي في وجوب الصوم، غير أنهم اختلفوا، فالحنفية يرون أن صوم جميع الشهر يجب بشهود أيّ جزء منه، ويرى الشافعية أن شهود أي جزء موجب لصوم ذلك الجزء على الراجح من مذهبهم.
بعد هذا نقول: إنّ الأئمة رضوان الله عليهم قد اختلفوا فيمن جنّ في رمضان، ولا بد أن نعرض لهذا الخلاف فنقول: اتفقوا على أنّ من جنّ كلّ رمضان لا يجب عليه الصوم في الحال، لعدم إمكان توجّه الخطاب إليه حالا، واختلفوا فيه إذا أفاق بعد رمضان، قال المالكية وجماعة: إنه يقضي ما مضى ولو جنّ سنين. وقال غيرهم:
إنه لا قضاء عليه لما مضى، كالصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم.
80
وأما من كان مجنونا في رمضان، وأفاق بعضا منه، فالشافعية على أصحّ الأقوال عندهم أنه يصوم ما شهد فقط، ولا قضاء عليه لغيره، ومن أفاق في أثناء النهار اختلف في تكليفه بالقضاء عندهم.
وترى الحنفية أن شهود أي جزء من الشهر موجب صيامه كلّه.
وقد قالوا: إنّ الآية تشهد لهم، لأنّك قد علمت أنّ إجراءها على ظاهرها محال، فلا بدّ من تقديره البعض، فيكون المعنى عندهم فمن شهد بعض الشهر فليصمه جميعه.
فإن قيل لهم: لماذا قدّرتم البعض في الأول، ولم تقدروه في الثاني؟
قالوا: إنا لجأنا للإضمار للضرورة، والضرورة تقدّر بقدرها، وقد اندفعت بإضمار في الأول، مع بقاء الثاني على حاله.
ولكن لقائل أن يقول لهم: إن الضمير في قوله تعالى: فَلْيَصُمْهُ راجع إلى ما قبله، فإن كان ما قبله مراد منه الجميع، كان هو مرادا منه الجميع، وإن كان البعض كان مرادا منه البعض، أما إن أريد بالمرجع شيئا وبالضمير غيره فهو غير ظاهر.
وقد أورد على الحنفية ما يأتي: معقول أنه إذا أفاق أثناء الشهر أن نوجب عليه ما بقي في الشهر بعد ذلك، لكن غير معقول أن نوجب عليه صوم ما مضى، لأنّ شهود الجزء لا يتأتّى أن يكون سببا لصوم ما قبله، وإلا كنا قد كلفناه الصوم قبل وقته.
وقد أجابوا عن هذا بأنّا نوجب عليه قضاء الأيام الماضية لا صومها هي، وجائز إلزامه القضاء مع امتناع خطابه وقت الأداء، كالمغمى عليه والناسي والنائم.
وقد اختلف العلماء أيضا في الصبي يبلغ والكافر يسلم في بعض رمضان، فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك بن أنس في «الموطأ» وعبد الله بن حسن «١»، والليث «٢»، والشافعي: إنهما يصومان ما بقي، وليس عليهما قضاء ما مضى ولا اليوم الذي حصل فيه البلوغ والإسلام.
وقال ابن وهب «٣» عن مالك: أحبّ إليّ أن يقضياه.
وقال الأوزاعي في الغلام يبلغ في النصف من رمضان: إنه يقضي ما مضى، فإنه كان يطيق الصوم.
(١) أبو محمد المدني الهاشمي تابعي، من أهل المدينة، انظر الأعلام للزركلي (٤/ ٧٨).
(٢) الليث بن سعد أبو الحارث، فقيه مصر توفي (١٧٥ هـ) أصله من خراسان، انظر الأعلام للزركلي (٥/ ٢٤٨).
(٣) عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري القرشي توفي (١٩٦ هـ) في مصر انظر، الأعلام للزركلي (٤/ ١٤٤).
81
وقد علمت أن شرط التكليف بالصوم البلوغ والعقل والإسلام، والصبي والكافر لم يكونا مكلفين قبل البلوغ والإسلام. فلا معنى لإلزامهما به على أن الكافر إذا أسلم فهو معفى من التكاليف الماضية، قال الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: ٣٨].
ولعلك تقول: كيف يكون شهود الشهر؟ فنقول: إن شهوده يكون برؤية هلاله، أو بالعلم أنه قد رئي، ولا عبرة بالحساب وعلم النجوم عند الحنفية.
واعتمد بعضهم الحساب، وقد روي في ذلك أحاديث كثيرة، بعضها يؤيد هذا، وبعضها يؤيد هذا:
فقد روي عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الشهر تسع وعشرون، ولا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له» «١»
وكان ابن عمر إذا كان تسعا وعشرين نظر إليه، فإن رؤي فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب أصبح مفطرا، وإن لم ير وحال دون رؤيته سحاب أو قترة أصبح صائما، قال: وكان ابن عمر يفطر مع الناس، ولا يأخذ بهذا الحساب. فأنت ترى أنه قد اعتمد الرؤية، ولم يعتمد تقديره. وهذا هو الموافق لظاهر قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: ١٨٩].
وقد اختلفوا في معنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن غمّ عليكم فاقدروا»
فقال بعضهم: اعتبار منازل القمر فإن كان في موقع القمر- ولو لم يحل دونه سحاب وقتر لرئي- ولم ير، يحكم له بحكم الرؤية.
وقال آخرون: فاقدروا له «فعدوا شعبان ثلاثين يوما» وقد جاءت أحاديث بالصيغة الأخيرة «٢». ولو أوردناها لطال بنا القول، وموضعها علم الفقه، وكما يرجع إليه في هذا يرجع إليه في اعتبار اختلاف المطالع وعدمه في إلزام جميع المسلمين الصوم.
وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
قد تقدم شرح هذه الآية، غير أنهم قالوا: إن في الآية ما يدل على أنّ قضاء رمضان لا يجب فيه التتابع، وذلك لأن (عدة) جاء منكّرا غير معيّن، وذلك يقتضي جوازه مفرّقا، وأيضا فقد قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ والتيسير لا يكون بإلزامه أن يصوم كله دفعة. أيضا قال تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ فدل
(١) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٧٥٩)، ١٣- كتاب الصيام، ٢- باب وجوب صوم رمضان حديث رقم (٣/ ١٠٨٠).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ٢٨٠)، ١١- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا رأيتم الهلال حديث رقم (١٩٠٧).
82
على أن المراد في القضاء هو صوم العدة، ولو غير متتابعة، ولو كان التتابع مشروطا لبينه كما بينه في الكفارة.
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
بيّن الله تعالى فيما تقدم أنّ شرع الصيام لنا هو شرعة في الأمم، وأنا لم نكن بدعا فيه، وهو مع ذلك في زمن قليل أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ هي شهر رمضان، ومع ذلك فقد رخّص فيه لأولي الأعذار ومن لا يقدرون على صومه إلى عدة من أيام أخر، وإلى الفدية.
وفي هذه الآية يبيّن الله تعالى أنه فعل ذلك تيسيرا وتسهيلا علينا في التكاليف، فهو لم يكلفنا ما فيه إعنات لنا ومشقة علينا، فهل يجب في مقابلة ذلك إلا الشكر؟
وأصل اليسر في اللغة السهولة. معناه السهولة ومنه يقال للغني والسعة اليسار، لأنه يسهل به صعب من الأمور. والعسر ما يقابله.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ: علّة لمحذوف، وللعلماء في هذا المحذوف وجهان:
الأول: ما ذهب إليه الفرّاء «١» من أن التقدير: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فعل جملة ما ذكر، وهو الأمر بصوم العدة، وتعليم كيفية القضاء، والرخصة بإباحة الفطر. وذلك أن الله لما ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر عقبها ثلاثة ألفاظ، فقوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ علّة للأمر بمراعاة العدة، وقوله: وَلِتُكَبِّرُوا علّة تعليم كيفية القضاء، وقوله: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة الترخيص والتسهيل. والحذف في هذا نظير الحذف في قوله: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) [الأنعام: ٧٥] أي أريناه ليكون. وأنت ترى أن الفرّاء على هذا يقدّر المحذوف متأخرا، ويجعل العلل مرتبة على سبيل اللف.
والوجه الثاني: ما ذهب إليه الزجاج من أن التقدير: أن الذي تقدم ذكره من تكليف المقيم الصحيح، والرخصة للمريض، والمسافر، إنما هو لإكمال العدة، لأنه مع الطاقة يسهل عليه إكمال العدة، ومع الرخصة في المرض والسفر يسهل إكمال العدة بالقضاء، فلا يكون عسرا، فبيّن الله تعالى أنه كلّف الكل على وجه لا يكون إكمال العدة عسيرا، بل يكون سهلا يسيرا.
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ قيل: إن المراد منه التكبير ليلة الفطر. قال ابن عباس: حقّ على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا.
وروي عن الزهري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه كان يكبّر يوم الفطر إذا خرج إلى
(١) يحيى بن زياد، عالم الكوفة بالنحو واللغة والأدب توفي (٢٠٧ هـ)، انظر الوفيات (٦/ ١٧٦).
83
المصلّى، وإذا قضى الصلاة قطع التكبير» «١»
وقد روي ذلك عن كثير من الصحابة.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في التكبير يوم الفطر في الطريق إلى المصلّى، فروى المعلى «٢» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: يكبّر الذي يذهب إلى العيد يوم الأضحى.
ويجهر بالتكبير. ولا يكبّر يوم الفطر، وقال أبو يوسف يكبّر يومي عيد الأضحى والفطر.
وليس فيه شيء مؤقت لقوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ.
وقال الحسن بن زياد «٣» عن أبي حنيفة: إن التكبير في العيدين ليس بواجب في الطريق، ولا في المصلّى، وإنما التكبير الواجب في صلاة العيد.
وذكر الطحاوي «٤» أن ابن أبي عمران «٥» كان يحكي عن أصحاب أبي حنيفة جميعا أن السنة عندهم في يوم الفطر أن يكبّروا في الطريق إلى المصلّى، حتى يأتوه، ولم نكن نعرف ما حكاه المعلى عنهم.
وقال مالك والأوزاعي: يكبّر في خروجه إلى المصلّى في العيدين جميعا.
وقال الشافعي: أحبّ إظهار التكبير ليلة الفطر وليلة النحر.
وتكبير الله هو تعظيمه. والصيغة المأثورة فيه معروفة.
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على ما شرعت من الأحكام. وسهّلت لكم في أدائها.
قال الله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) قد ذكروا في سبب هذه الآية وجوها:
منها أنّ أعرابيا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أو بعيد فنناديه؟
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومنها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان في غزوة، وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا» «٦».
(١) قال الحافظ: مرسل، انظر تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر (٢/ ١٩٠).
(٢) معلى بن منصور الرازي، أبي منصب القضاء أيام المأمون، توفي (٢١١ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٧/ ٢٧١). [.....]
(٣) اللؤلؤي قاض وفقيه، من أصحاب أبي حنيفة توفي (٢٠٤ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٢/ ١٩١).
(٤) أحمد بن محمد بن سلام الأزدي، فقيه حنفي، مصري توفي (٣٢١ هـ) توفي في القاهرة، انظر الأعلام للزركلي (١/ ٢٠٦).
(٥) أحمد بن أبي عمران بن سلامة أبو عبد الله، أصله من الشام، انظر الأعلام للزركلي (١/ ١٨٩).
(٦) رواه البخاري في الصحيح (٤/ ١٩)، ٥٦- كتاب الجهاد، ٣١- باب ما يكره رفع الصوت حديث
84
ومنها ما روي عن قتادة أن الصحابة قالوا: كيف ندعو ربنا يا نبي الله؟ فأنزل الله هذه الآية «١».
ومنها ما روي أنه لما نزلت آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ فهموا منها تحريم الأكل بعد النوم، ثم إنهم أكلوا وندموا وتابوا وسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل يقبل الله تعالى توبتنا؟ فنزلت.
وليس المراد بالقريب هنا قرب المكان. بل المراد القرب بالعلم، وما تقتضيه إجابة الدعاء.
هذا وقد قال بعضهم: إنّ الدعاء لا فائدة فيه، وذلك أن الأمر الذي يصدر بشأنه الدعاء. إمّا أن يكون في علم الله واقعا أولا. فإن كان الأول فهو لا بد واقع، وإن كان الثاني فهو غير واقع لا محالة!! والجمهور من العقلاء على أن الدعاء أهم مقامات العبودية، والأدلة النقلية على ذلك كثيرة.
منها هذه الآية التي معنا. ومنها قوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] ولولا أنّ الدعاء فضله عظيم ما طلبه الله منا، بل إنّ الله تعالى بيّن في آية أخرى أنه إذا لم يسأل غضب، فقال: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) [الأنعام: ٤٣].
ومنها ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «الدعاء مخّ العبادة» «٢».
وعن النعمان بن بشير أنه عليه الصلاة والسلام قال: «الدعاء هو العبادة» «٣» وقرأ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠].
وأما ما قالوا: من أنه إن كان الأمر معلوم الوقوع فهو واقع إلخ: فنقول، إنما يكون ذلك لو علمت كيفية قضائه. أما وهما مغيّبان عنا، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد بين الرجاء والخوف. ولولا ذلك لما كان له فائدة، بل لما صحّ.
رقم (٢٩٩٢)، ومسلم في الصحيح (٤/ ٢٠٧٦)، ٤٨- كتاب الذكر، ١٣- باب استحباب خفض الصوت حديث رقم (٤٤/ ٢٧٠٤).
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٢/ ٩٣)،
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٤٢٥)، كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء حديث رقم (٣٣٧١).
(٣) رواه أبو داود في السنن (١/ ٥٤٩) في كتاب الصلاة، باب الدعاء حديث رقم (١٤٧٩)، والترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٤٢٦)، كتاب الدعوات باب ما جاء في فضل الدعاء حديث رقم (٣٣٧٢).
85
ثم إنّ الدعاء يقتضي أن يكون الداعي عارفا بربه تمام المعرفة، وأنه القادر على كل شيء، والقاهر فوق عباده. وهل العبادة إلا المعرفة؟
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي معناه فليطلبوا إجابتي لهم بأن يجيبوا ما دعوتهم إليه من العبادة أجبهم إلى ما يطلبون، والاستجابة هنا: عبارة عن الاستسلام والانقياد.
والإيمان: الإذعان القلبي، ولما كان العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوّته إلا بتقديم الطاعة؟ قدّم الله الأمر بالاستجابة اهتماما بشأنها.
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ يهتدون في أمر دينهم ودنياهم. ومعنى الآية: أنهم إذا استجابوا لي وآمنوا فقد اهتدوا، لأن الرشيد من كان كذلك.
قال الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) الرَّفَثُ أصله قول الفحش: أنشد الزجاج:
وربّ أسراب حجيج كظّم عن اللّغا ورفث التّكلّم
ويقال: رفث في كلامه، وأرفث: إذا تكلم بالقبيح. قال الله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: ١٩٧]. ثم نقل منه إلى ما كان منه بحضرة النساء مما ينم عن معنى الإفضاء، ثم جعل كناية عن معنى الجماع، وما يتعلق به.
هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ: شبه كلّا من الزوجين باللباس. لأنّ كلا منهما يستر الآخر، فكان منه بمثابة اللباس.
تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ يقال خانه يخونه خونا وخيانة إذا لم يف له، والسيف إذا نبا عن الضربة فقد خان، وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى شرّ. وخان الرجل الرجل إذا غدر به، أو لم يؤد إليه أمانته، وخائن العهد ناقضه، كما في قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً.. [الأنفال: ٥٨] قال صاحب «الكشاف» : والاختيان اسم من الخيانة، كالاكتساب اسم بمعنى الكسب، وفيه زيادة وشدة.
ذهب جمهور المفسرين إلى أنه في أول شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم كان الصوم عبارة عن الإمساك عن المفطرات نهارا، لا يقرب شيئا منها بعد النوم ولا بعد صلاة العشاء
86
الآخرة فإذا فعل شيئا منها بعد النوم أو بعد صلاة العشاء فقد ارتكب محرّما. ونسخ الله هذا الحكم بهذه الآية.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: ما كانت هذه الحرمة في شرعنا، بل كانت في شرع النصارى، والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان في شرع النصارى.
وقد استدل الجمهور لمذهبهم بوجوه:
منها: التمسك بالتشبيه في قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.
ومنها قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ فإنه يقتضي سابق الحرمة.
ومنها قوله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ وقوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فإنّ الأكل بعد النوم، وكذا الوقاع، لو لم يكن محرّما ما كان هناك معنى لتخوينهم أنفسهم، ولا لتوبة الله عليهم، ولا لعفوه، ثم إن قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ يقتضي أنّ المباشرة كانت محظورة، وأبيحت بقوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ.
وقد ردّ أبو مسلم هذه الحجج بما نجمله فيما يأتي:
سبق أنه قال: إن هذه الحرمة كانت في شرع النصارى، وقد فهم الصحابة بقاء الحكم، فكانوا يمتنعون من الأكل والوقاع بعد النوم وبعد الصلاة الأخيرة، فبيّن الله بهذه الآية أنه قد خفف عن هذه الأمة وعفا عنها، فلم يوجب عليها ما أوجبه على الأمم السابقة، وأذن لها في تناول ما كان محظورا في الأمم السابقة.
وأنت تعلم أن ذلك يتوقف إلى حد كبير على ثبوت أن يكون ذلك كان شريعة للنصارى، وهو ما لم يثبت بعد، ثم هو مع ذلك مخالف لظاهر قوله: تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وإن كان هو يتأوّلها بتنقيص شهواتها، بدليل إضافتها إلى النفس، وهو يقول: لو كان ذلك محرّما لكان خيانة للشرع لا للنفس، ولكن، أليست مخالفة أحكام الشرع خيانة للنفس، لأنّها تستوجب بها العذاب في الدنيا والآخرة.
ثم إنّ ظاهر قوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ مهما تأوله بالتخفيف، فإنه ظاهر في أنه لا يقال: خففت عن فلان إلا ما كان ثقيلا عليه.
نعم إنّ له أن يقول: إنّ من شأن هذا التكليف أن يكون ثقيلا علينا لو شرع، فإسقاطه عنا تخفيف.
ولكن نقول: هو احتمال، ولكن المتبادر خلافه، ونحن نقول بظاهر الآية لا بنصها.
ثم إنّ الأسباب التي ذكرت في نزول الآية تعاضد الذي ذهب إليه الجمهور:
منها ما
روي أنّ رجلا- وفي اسمه خلاف- من الأنصار جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عشية، وقد أجهده الصوم، فسأله الرسول عن سبب ضعفه فقال: يا رسول الله-
87
عملت في النخل نهاري أجمع، حتى أمسيت، فأتيت أهلي لتطعمني شيئا فأبطأت، فنمت، فأيقظوني وقد حرّم الأكل، فقام عمر فقال: يا رسول الله أعتذر إليك من مثله، رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء الآخرة فأتيت امرأتي، فقال عليه الصلاة والسلام: «لم تكن جديرا يا عمر» وقام رجال فاعترفوا بالذي صنعوا. فنزل قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «١»
أي الإفضاء إليهن.
ولَيْلَةَ نصب على الظرفية.
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي علم الله أنكم كنتم تسرّون بالمعصية في الجماع بعد العتمة، والأكل بعد النوم، وترتكبون المحرم من ذلك، ومن فعل ذلك فقد خان نفسه، وخان الله ورسوله.
وأنت ترى أن فهم الآية على هذا الوجه يفيد أنّ الجماع والأكل قد وقعا ولو من بعضهم، ويؤيده ما رويناه في سبب النزول.
وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه كان إذا صلّى العتمة ورقد حرم عليه الطعام والشراب، والجماع، وروى مثله الضحاك وابن أبي ليلى «٢».
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ أمر بفعل ما كان محظورا وقد قالوا: إنّ الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، والإباحة ظاهرة هنا، لأنه لا معنى لإيجاب المباشرة، المباشرة هنا المراد منها الجماع، وهي مشتقة من ملاصقة البشرة البشرة، ومنه ما
ورد من نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أن «يباشر الرجل الرجل، والمرأة المرأة» «٣»
وهو من أجل ذلك حقّه أن يتناول المباشرة غير الفاحشة، لكن سياق الآية وما يأتي بعد هذا قرينة على أنّ المراد هنا الجماع أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ والمراد منه الجماع، فكان الكلام فيه، وسنتكلم عليه عند قوله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ.
وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، قيل: هو الولد، وقيل: ليلة القدر، وقيل:
الرخصة. قال أبو بكر الرازي «٤» : فلما كان الكلّ محتملا فالأولى أن ينتظم اللفظ الكلّ، ويكون الكل مرادا حيث لا مانع، ويكون اللفظ منتظما لطلب ليلة القدر في رمضان، ولفعل الرخصة، وللولد، فإذا فعل العبد واحدا منها أو الكل قاصدا الثواب كان مأجورا على ما يقصده من ذلك.
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٢/ ٩١).
(٢) انظر تفسير الطبري المسمى جامع البيان (٢/ ٩٥- ٩٨).
(٣) رواه أحمد في المسند (١/ ٣٠٤).
(٤) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (١/ ٢٢٨).
88
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا: إطلاق من حظر، كما في قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: ١٠] وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: ٢] حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ المراد منه: حتى يستبين النهار من الليل، وذلك يكون بظهور الفجر الصادق، وقد روي أنّ رجالا منهم أخذوا اللفظ على ظاهره، وحملوه على حقيقة الخيط الأبيض والخيط الأسود، وتبيّن أحدهما من الآخر. قال: كما
روي عن عدي بن حاتم، لما نزلت: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ أخذت عقالا أبيض وعقالا أسود فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرته فلما أتبين، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك، وقال: «إنّ وسادك لعريض، إنما هو اللّيل والنّهار» «١».
وقال عثمان: إنما هو الليل وبياض النهار.
وقد استبعد الفخر الرازي هذه الرواية على رجل مثل عدي بن حاتم، فإنه يبعد على أي رجل أن يفهم من هذا اللفظ أنّ المراد الخيط الأسود حقيقة مع قوله: مِنَ الْفَجْرِ خصوصا، وقد كان هذا التعبير مألوفا عند العرب، وكان ذلك عندهم اسما لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية قبل الإسلام. قال أبو دؤاد الإيادي:
ولمّا أضاءت لنا ظلمة ولاح من الصّبح خيط أنارا
ووجه تشبيه الليل والنهار بالخيطين أن الصبح أول ما يستبين، وتنجاب ظلمة الليل، يبدو الصبح رفيعا كالخيط. وبمقدار ما يظهر من خيط الصبح ينجاب خيط من الليل الأسود.
وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يفيد تحديد مدة الصيام: من الفجر إلى غروب الشمس، كالذي
روي عن عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه قال: سمعت سمرة بن جندب يخطب وهو يقول: قال رسول الله: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق الذي هكذا، حتى يستطير» «٢».
وبهذا يتبين بطلان ما زعمه الأعمش من أن للصائم أن يأكل ويجامع بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس، وهو غريب جدا. يزعم في توجيهه أنه لما كان الليل بغروب
(١) رواه البخاري في الصحيح (٥/ ١٨٣)، ٦٥- كتاب تفسير القرآن، ٢٨- باب قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حديث رقم (٤٥٠٩) ومسلم في الصحيح (٢/ ٧٦٦)، ١٣- كتاب الصيام ٨- باب بيان أن الدخول في الصوم حديث رقم (٣٣/ ١٠٩٠).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٧٦٩)، ١٣- كتاب الصيام، ٨- باب بيان أن الدخول في الصوم حديث رقم (٤١/ ١٠٩٤) وأبو داود في السنن (٢/ ٢٩٠)، كتاب الصوم باب وقت السحور حديث رقم (٢٣٤٦). [.....]
89
القرص يكون النهار بطلوع القرص، ويزعم أن المراد من الخيط الأبيض النهار، ومن الخيط الأسود الليل. ولا ندري ما الحكمة إذا من اختيار لفظ الخيط، وهل النهار عند طلوع الشمس يقال: إن بياضه كالخيط الأبيض! إن هذا لعجيب حقا؟
وأعجب منه زعم من زعم أنّ المراد من الخيط الأبيض طلوع الفجر حقيقة، ولكنه يرى أنه لا يحل الفطر إلا بعد وجود عتمة الليل وظلمته وظهور النجوم، لأنه فهم من قوله: أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أن المراد الظلمة، وكأنّه لا يرى أن ما بين غروب الشمس ومجيء الظلمة من الليل.
والحمد لله، انقرضت هذه المذاهب، وانعقد الإجماع على عدم العمل بها، فإنّه على فرض أن الآية تحتمل ما زعموا، فقد جاء في بيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعمله وعمل أصحابه ما فصل به الليل عن النهار، واستبان به وضح الصبح من ظلمة الليل.
هذا وقد اختلف أهل العلم في حكم الشاكّ في الفجر، فذكر أبو يوسف في «الإملاء» أن أبا حنيفة قال: إن يدع الرجل السحور إذا شك في الفجر أحب إليّ، فإن تسحر فصومه تام وهو قولهم جميعا في «الأصل» وقال: إذا أكل فلا قضاء عليه.
وحكى محمد بن سماعة «١» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إن أكل وهو شاك قضى يوما مكانه، وقال أبو يوسف: ليس عليه في الشكّ قضاء.
وقال الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إنّه إن كان في موضع يستبين به الفجر، ويرى مطلعه من حيث يطلع، وليس هناك علّة، فليأكل ما لم يستبن له الفجر، وهو قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، وإن كان في موضع لا يرى فيه الفجر، أو كانت ليلة مقمرة، وهو شاك، فلا يأكل، وإن أكل فقد أساء، وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر طالع قضى، وإلّا لم يقض: وهذا قول زفر وأبي يوسف. قال أبو بكر الرازي «٢» : وبه نأخذ، وقال: ينبغي أن تكون رواية «الأصل» ورواية «الإملاء» في كراهيتهم الأكل مع الشك محمولتين على ما رواه الحسن بن زياد، لأنّه فسّر ما أجملوه، ولأنها موافقة لظاهر الكتاب.
وقد روي عن ابن عباس أنه بعث رجلين لينظرا له طلوع الفجر، فقال أحدهما:
طلع، وقال الآخر: لم يطلع، فقال: اختلفتما وأكل، وكذلك روي عن ابن عمر.
والأصل في ذلك أنّ الآية جعلت حلّ الأكل ملغيّا بالتبيّن، وهو حصول العلم الحقيقي، ومعلوم أنّ ذلك إنما يكون عند عدم وجود المانع من حصوله، وذلك إذا كان في مكان يستطيع معه التبيّن، أما إذا كان في ليلة مقمرة، أو غيم أو في موضع
(١) أحد تلاميذ أبي يوسف ومحمد، كتب النوادر عن محمد توفي (٢٣٣ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٦/ ١٥٣).
(٢) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (١/ ٢٣٠).
90
لا يستطيع معه تحصيل العلم الحقيقي فهو مأمور بالاحتياط للصوم، فالواجب عليه الإمساك استبراء لدينه.
روى الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير- ولا أسمع أحدا بعده- يقول:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» «١».
وقال: أكره أن يأكل وهو شاكّ، وإن أكل فعليه القضاء، وقال الشافعي: إن أكل شاكّا في الفجر فلا شيء عليه.
هذا والآية تدلّ على جواز الإصباح جنبا في الصوم، وأن الجنابة لا تنافي الصوم، لأنّها تفيد حلّ الأكل والشرب حتى الفجر، والجماع كذلك، فلو لزمه غسل من الجنابة قبل الفجر لما كان هناك حل إلى طلوع الفجر، وقد أمره الله بإتمامه صومه إلى الليل، فلو لم يكن الصوم صحيحا لما أمره بإتمامه، وقد أجمعوا على أن الغاية هنا لإسقاط ما بعدها، وهي كذلك في قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وقد دخلت الغاية في حكم ما قبلها في بعض النصوص، كقوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: ٤٣] وفي قوله: إِلَى الْمَرافِقِ وقوله: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: ٦] والمعوّل عليه في إثبات دخولها أو خروجها الدليل والقرينة.
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ مرتبط بما قبله في قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ والمعنى والله أعلم: افعلوا كل هذه الأشياء من المباشرة والأكل والشرب إلى الفجر، فإذا جاء الفجر فأمسكوا، وأتموا هذا الإمساك إلى الليل.
وقد أخذ الحنفية من هذه الآية لزوم ما شرع فيه من صوم التطوع، ووجه دلالتها عليه عندهم: أن لفظ الصيام عامّ يتناول كلّ صوم، فكل صوم شرع فيه لزمه إتمامه، لأنّ الله سبحانه أمر بإتمام الصوم إلى الليل، والأمر للوجوب، فإن لم يتمه لزمه قضاؤه.
وهكذا سبيل جميع النفل عندهم من الصّلاة والحجّ والصّيام يجب بالشّروع فيه، وعليه إعادته مطلقا، سواء كان معذورا أو غير معذور، وفصّل المالكية فقالوا: إن أبطله فعليه القضاء، وإن كان طرأ عليه ما يفسده فلا قضاء عليه.
(١) رواه البخاري في الصحيح (١/ ٢٢)، ٢- كتاب الإيمان، ٤٠- باب فضل من استبرأ لدينه حديث رقم (٥٢) ومسلم في الصحيح (٣/ ١٢١٩)، ٢٢- كتاب المساقاة، ٢٠- باب أخذ الحلال حديث رقم (١٠٧/ ١٥٩٩).
91
وقال الشافعية والحنابلة: إن أفسد ما دخل فيه من تطوّع فلا قضاء عليه إلا في حجّ النفل عند الحنابلة، فيجب إتمامه.
وقد استدل الحنفية بغير هذه الآية، فقالوا: قال الله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ [محمد: ٣٣] والنفل الذي شرع فيه عمل من الأعمال، فوجب عليه عدم إبطاله، فإذا بطل أو أبطله فقد ترك واجبا، ولا تبرأ ذمّته إلا بإعادته، وورد في السنة ما يؤيده، وهو ما
روى عبيد الله بن عمر، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين، فأهدي إلينا طعام، فأفطرنا، فسألت حفصة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اقضيا يوما مكانه» «١».
واستدلّ الشافعية ومن معهم بقوله تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة: ٩١]
وبقوله عليه الصلاة السلام: «الصّائم المتطوّع أمير نفسه» «٢»
، والمسألة خلافية كما ترى، والذي يهمّنا هو: هل في هذه الآية دلالة لأحد من المختلفين أو لا؟ يرى الحنفية أنّ لفظ الصيام يتناول كلّ صوم شرع فيه، وقد أمر بإتمامه، وبإبطاله فات الواجب، ولا يجبر إلا بالإعادة، وكون الآية وردت في صوم الفرض لا يغيّر من عموم اللفظ شيئا.
والذي يظهر أن الآية ليست بصدد بيان وجوب إتمام ما شرع فيه فرضا أو نفلا، بل بصدد تحديد الزمن الذي يحلّ فيه تناول المفطرات، والذي لا يحلّ، فقالت في الأول: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إلى قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ وقالت في الثاني: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي أنه بعد الفجر لا يحلّ لكم أن تتناولوا شيئا مما أحلّ لكم تناوله ليلا. ولا تعرّض فيها لنفل شرع فيه ثم فسد، ولا لفرض شرع فيه ثم فسد، بل لذلك حكم آخر يستفاد من دليل مستقل.
وقد فهم الحنفية من هذه الآية أيضا أن تبييت النية غير لازم، ووجهه عندهم أن لفظ (ثم) يفيد التراخي، والإجماع قائم على وجوب الإمساك من الفجر، ووجوب الإمساك من الفجر مدلول عليه بذكر الغاية إلى الْفَجْرِ، فإنّ معناه أن ما كان حلالا قبله يحرم بمجيئه، وذلك بالإمساك من الفجر، فإذا أمسكنا فعلينا الإتمام، والإتمام إنما يكون بقصد، فكأنّ النية التي هي القصد لم تطلب إلا بعد تحقّق الصيام، فكان ذلك دليلا على أنّ النية تكون بعد الصيام، فلا يلزم تبييتها، وهو المطلوب.
(١) رواه أبو داود في السنن (٢/ ٣٢٨) في كتاب الصوم باب من رأى عليه القضاء حديث رقم (٢٤٥٧).
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ١٠٩) في الصوم، باب ما جاء في إفطار الصائم حديث رقم (٧٣٢).
92
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ الآية تدلّ على التبييت، وذلك أن معنى أَتِمُّوا الصِّيامَ صيّروه تاما من الفجر، وهو لا يكون تاما من الفجر إلا بالنية، وهذا هو الظاهر، لأنّ إتمام الشيء لا يكون إلا لشيء قد شرع فيه، وهو هنا الصوم، وقد علمت أن الصوم لا يكون صوما إلا بالنية، تمييزا للعادة من العبادة، إذ قد يمسك الإنسان عن الأكل حمية، ثم لا يكون صوما، لأنه لم ينو، فإن كان هناك دليل غير الآية فهو الذي يدل على عدم تبييت النية.
وقد عرض المفسرون هنا لأحكام الصائم إذا نسي وأكل ماذا يكون؟ أيلزمه الإتمام، أم له الإفطار إلخ، أو يلزمه القضاء، أم لا؟ وترى أن كل ذلك يجب أن يبحث عنه في غير هذه الآية.
وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
الاعتكاف في اللغة: اللبث. قال تعالى: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الأنبياء: ٥٢] وقال الشاعر:
فباتت بنات الليل حولي عكّفا عكوف البواكي بينهنّ صريع
ثم زيد عليه في الشرع قيود: منها: العكوف في المسجد، ومنها: ترك الجماع، ومنها: نية التقرب إلى الله تعالى، فأما العكوف في المسجد فهو في حق الرجال فقط، وأما النساء فيعكفن في مصلّى البيت دفعا للفتنة، والمسجدية مستفادة من قوله تعالى:
وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ قاله أبو بكر الرازي «١» :
وقد وقع الاختلاف في المسجد الذي يكون فيه الاعتكاف: فقد روى إبراهيم النخعي «٢» أن حذيفة قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وروي عن علي رضي الله عنه: أنه لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقال جماعة منهم عبد الله بن مسعود، وعائشة، وإبراهيم، وسعيد بن جبير. وأبو جعفر «٣». وعروة بن الزبير: لا اعتكاف إلّا في مسجد جماعة.
فأنت ترى السلف قد أجمعوا على أنّ الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد على ما بينهم من الاختلاف في تعيين المسجد الذي يصحّ فيه الاعتكاف.
(١) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (١/ ٢٤٥).
(٢) إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران النخعي الفقيه الكوفي توفي (٩٦ هـ) مختفيا من الحجاج، انظر الأعلام للزركلي (١/ ٨٠).
(٣) هو محمد الباقر رضي الله عنه.
93
ولم يختلف فقهاء الأمصار في جواز الاعتكاف في المساجد التي تقام فيها الصلوات، وظاهر الآية التي معنا عدم التفرقة بين المساجد، إذ قال: وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ففهم منها أن الاعتكاف يكون في المساجد، وتعيين أحدها يحتاج إلى الدليل، وكذا تخصيصه بمسجد الجماعة يحتاج إلى الدليل.
وغاية ما يدل عليه
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» «١»
أنه يدلّ على تفضيل هذه الثلاثة عما عداها، أو عدم شدّ الرحال إلا إليها، وهل الاعتكاف لا يكون إلا بشدّ الرحال؟ وقد تقدّم القول بأنّ العكوف في المسجد إنما هو في حق الرجال.
وقد اختلف الفقهاء في معتكف النساء فذهب الحنفية وجماعة إلى أنه يكون في مسجد بيتها كما تقدم، وقال الشافعي: المسافر، والعبد، والمرأة يعتكفون حيث شاؤوا. والمدار في إثبات هذا أو غيره على السنة.
وقد اختلف الفقهاء أيضا في المدة التي تلزم في الاعتكاف: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والشافعي: له أن يعتكف يوما أو ما يشاء. وقد اختلفت الرواية عن الحنفية فيمن دخل ونوى الاعتكاف. هل يكون معتكفا أولا؟
في رواية: يكون معتكفا، وله أن يخرج متى شاء بعد أن يكون صائما في مقدار لبثه، وفي الرواية الأخرى: عليه أن يتمّه يوما، هكذا نقله أبو بكر الرازي «٢».
والمعروف عندهم في المتون والكتب أن الاعتكاف ثلاثة أقسام:
مندوب، وهو: يتحقق بمجرد النية.
وسنة، وهو: في العشر الأواخر من رمضان.
وواجب: ولا بد فيه من الصوم وهو: المنذور.
وقال مالك في رواية عنه: «لا اعتكاف في أقل من عشرة أيام، وعنه يوم وليلة»، قال أبو بكر الرازي: تقييد مدة الاعتكاف لا يصحّ إلا بتوقيف، أو اتفاق، وهما معدومان هنا، وقد اختلف السلف في أنه هل يلزم فيه الصوم أم لا؟
فروى عطاء عن ابن عباس وعائشة قالوا: المعتكف عليه الصوم. وقال سعيد بن المسيّب عن عائشة: من سنة المعتكف الصوم.
وعن عليّ قال: لا اعتكاف إلا بصوم.
وقال آخرون:
يصحّ بغير صوم، روي عن علي
، وعبد الله، وقتادة.
(١) سبق تخريجه.
(٢) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (١/ ٢٤٥).
94
هذا وقد اتفق العلماء على أنّ المراد من المباشرة في قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ الجماع، وتدخل الدواعي في الإباحة من طريق الأولوية.
وكذا اتفقوا هنا على أن المعتكف ممنوع من الجماع ما دام معتكفا.
واختلفوا في أن الدواعي لها حكم الجماع بالنسبة للمعتكف، فتكون حراما عليه، وتفسد الاعتكاف، أو ليس لها هذا الحكم؟
قال الشافعية ومن معهم بالأول، وذهب الحنفية إلى الثاني.
وقال الشافعية: إنّ الآية تشهد لنا، وذلك أن المباشرة حقيقة في وضع البشرة على البشرة، فيعمّ كل ما يتحقق فيه هذا المعنى، ولا يخرج عنه شيء إلا بدليل، وقد قام الدليل في قوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ من سبب النزول ومن قوله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ولم يقم الدليل هنا، فوجب أن يبقى اللفظ على عمومه، ومن هنا نقل ابن القاسم «١» عن مالك أنه إن قبّل امرأته فسد اعتكافه، وقال المزني عن الشافعي: إن باشر فسد اعتكافه.
وأما الحنفية فرأوا أن الآية الأولى قد أريد منها المباشرة بالجماع اتفاقا، والثانية ذكرت المباشرة أيضا، فيحتمل أن يكون المراد بها غير ما أريد بالأولى، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعمّ، فكان مجملا، وقد جاء عمل الصحابة مؤيدا لفهم معنى الجماع فحسب. نقل ذلك عن ابن عباس وغيره.
وقد روي عن الزهري، عن عروة، أن عائشة «كانت ترجّل رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو معتكف»
فكانت لا محالة تمسّ بدنه، فدلّ ذلك على أن المباشرة المجردة عن الشهوة لا تفسد الاعتكاف، ومن هنا أخذ الحنفية أنه إن باشر بغير جماع لا يفسد اعتكافه إلا إذا أنزل، وإن فعل بشهوة ولم ينزل فقد أساء «٢».
وهم يرون أيضا أنّ المباشرة الخالية عن الجماع لا تمنع من الصوم، فكذا لا تمنع الاعتكاف، هذا وقد ذكر المفسرون هنا أحكاما تتعلّق بالاعتكاف لا نرى لها تعلقا بالآية، فلم نشأ ذكرها.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
حدّ الشيء: مقطعه ومنتهاه. وحدّ الدار: ما يمنع غيرها من الدخول فيها.
وحدود الله: محدوداته ومقدّراته التي قدّرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة.
(١) عبد الرحمن بن القاسم بن خالد المصري، صحب الإمام مالك، وصنّف المدونة توفي (١٩١ هـ) في مصر، انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٣٢٣).
(٢) انظر كتاب أحكام القرآن للجصاص (١/ ٢٤٧).
95
وقد استشكل قوله بعد ذلك: فَلا تَقْرَبُوها، لأن الأشياء التي ترجع إليها الإشارة في قوله: تِلْكَ بعضها مباح، وبعضها محظور، فكيف جمعها في قوله:
فَلا تَقْرَبُوها؟
قيل في الجواب: المراد: لا تتعرّضوا لها بالتغيير، وقيل في الجواب: إنّ من كان في طاعة الله وعمل بشرائعه فهو متصرّف في حيّز الحق، فنهي عن أن يتعدّاه، لأنّ من تعدّاه وقع في حيز الضلال، ثم بولغ في ذلك. فنهي أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق وحيز الضلال، لئلا يداني الباطل فيقع فيه، فطلب منه أن يكون بعيدا عن الطرف، فهو على حد قوله عليه الصلاة والسلام: «إنّ لكلّ ملك حمى، وإنّ حمى الله محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» «١».
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي مثل هذا البيان الشافي يبيّن الله آياته ويوضحها ليتقي الناس الوقوع في خلافها، أو ليتقوا الله فيعملوا على حسب البيان الذي جاءهم.
قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨).
الباطل: الزائل الذاهب، والمراد منه غير وجه الحق.
المعنى: لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير وجه مشروع.
وأكل المال بالباطل ينتظم وجهين:
أحدهما: أخذه على وجه الظلم والسرقة والغصب، وما جرى مجراه. والآخر:
أخذه من جهة محظورة كالقمار وأجر الغناء، وسائر الوجوه التي حرّمها الشارع.
وقد انتظمت الآية تحريم كلّ هذه الوجوه، وهي كلّها داخلة تحت قوله تعالى:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ.
وقد كرّر الله هذا النهي في مواضع من القرآن، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النساء: ٢٩]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: ١٠] إلخ.
وليس المراد النهي عن خصوص الأكل، لأنّ غير الأكل من التصرفات كالأكل في هذا، ولكن لمّا كان المقصود الأعظم من المال هو الأكل ووقع التعارف فيمن ينفق ماله أنه أكله، فمن ثمّ عبّر الله عنه بالأكل.
(١) سبق تخريجه.
96
وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ، الإدلاء مأخوذ من أدلى الدلو إذا أرسلها في البئر للاستسقاء. قال الله تعالى: فَأَدْلى دَلْوَهُ [يوسف: ١٩] ثمّ جعل كلّ إلقاء قول أو فعل إدلاء. ومنه قيل للمحتج أدلى بحجته، كأنّه أرسلها ليحصل على مطلوبه، كمن ألقى دلوه في البئر.
والذي هنا من هذا المعنى، كأنه قيل: ولا تلقوا بالأموال إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون. وهو يشمل وجهين:
تقديم الأموال رشوة للحكام، ليقضوا لهم بأكل أموال الناس بالإثم، ورفع القضايا للحاكم ارتكانا على الحجة الداحضة، وذرابة اللسان، وشهادة الزور، وما شاكل ذلك من وجوه الباطل، وكل ذلك محرم بالآية الكريمة. فإنها تقضي بتحريم كل ما يرفع إلى الحاكم فيحكم به في الظاهر ليحلها، مع علم المحكوم له أنه غير مستحق له.
وفي المعنى الثاني- وهو رفع الأموال للحاكم ليقضي فيها ارتكانا على الحجة الداحضة- جاء
في الحديث الذي روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست». فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه، فمن قضيت له بحجة أراها فاقتطع بها قطعة ظلما، فإنما يقتطع قطعة من النار..» «١» وجاء في معنى هذا الحديث الآخر «إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ أحدكم يكون ألحن بحجّته..» «٢» الحديث.
وقد اتفقت الأئمة على هذا الحكم فيمن ادّعى حقا في يد رجل وأقام بيّنة فقضي له بها، حيث قالوا: إنه لا يجوز له أخذه، وإنّ حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه.
واختلفوا في حكم الحاكم بعقد أو فسخ عقد، بشهادة شهود إذا علم المحكوم له أنهم شهود زور. فقال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم ببينة بعقد، أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ، فهو نافذ، ويكون كعقد عقداه ابتداء بينهما، وإن كان الشهود شهود زور.
وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وغيرهم: ينفذ الحكم ظاهرا، ولا ينفذ باطنا، على معنى أنّ حكم الحاكم يمضي ظاهرا، ولا يسع من يعلم بطلانه أن يعمل به، وقال أبو يوسف: إذا قضى الحاكم بفرقة على هذا الوجه بين الزوجين لم يحل
(١) رواه أبو داود في السنن (٣/ ٢٩٢)، كتاب الأقضية، باب في قضاء القاضي حديث رقم (٣٥٨٣). [.....]
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٣/ ٢١٦)، ٥٢- كتاب الشهادات، ٢٧- باب من أقام البينة حديث رقم (٢٦٨٠) ومسلم في الصحيح (٣/ ١٣٣٧)، ٣٠- كتاب الأقضية، ٣- باب الحكم بالظاهر حديث رقم (٤/ ١٧١٣)،
97
للمرأة أن تتزوج، لأنها تعلم أنها لا تزال في عصمة الزوج، ولا يقربها الزوج احتراما لسلطة القضاء الظاهرة «١».
وقد قضى علي كرم الله وجهه بما يوافق رأي أبي حنيفة، حيث جاءه رجل ادعى زواجا على امرأة وهي تنكر، وجاء بشاهدين، فقالت: إني لم أتزوجه، فقال لها زوّجك الشاهدان
، وكذلك قصة لعان هلال بن أميّة مع امرأته، وقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالفرقة بينهما، وكان ذلك بعد أن
قال: «إن جاء الولد على صفة كذا فهو لهلال، وإن جاءت به على صفة كذا، فهو لشريك بن سمحاء» فجاءت به على الصفة المكروهة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» «٢».
واستيفاء الكلام على أدلة الطرفين وترجيح الراجح منها يطلب في موضع غير هذا.
والآية صريحة في أنّ الإثم على من أكل وهو يعلم أنه ظالم في الأكل، وأما غيره فلا إثم عليه.
قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) الهلال هو هذا الكوكب المخصوص المضيء ليلا، وإنما يسمّى هلالا لظهوره بعد خفائه، ومنه الإهلال بالحج لظهور الصوت بالتلبية، وقيل: بل إنما سمي هلالا، لأنّ الإهلال رفع الصوت، والناس عند ظهور الهلال يرفعون أصواتهم بذكره عند رؤيته.
وقد اختلف أهل اللغة في الوقت الذي يسمّى فيه هلالا، فمنهم من قال: يسمّى هلالا لليلتين من الشهر، ومنهم من قال: لثلاث، ثم يسمّى قمرا، ومنهم من قال:
يسمّى هلالا حتى يبهر ضوؤه سواد الليل، وذلك في الليلة السابعة.
روي في سبب نزول هذه الآية، أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم- وكانا من الأنصار- قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، لا يكون على حالة واحدة كالشمس، فنزلت هذه الآية «٣».
ويروى أيضا عن معاذ أن اليهود سألت عن الأهلة.
(١) انظر كتاب أحكام القرآن للجصاص (١/ ٢٥٣).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٥)، ٦٥- كتاب تفسير القرآن، ٢- باب (ويدرأ عنها العذاب) حديث رقم (٤٧٤٧).
(٣) قال السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (١/ ٢٠٣) : رواه ابن عساكر بسند ضعيف.
98
ولم يذكر في الآية تحديد المسئول عنه في الأهلة. أهو حقائقها، أم أحوالها؟
لكن الجواب ووروده بقوله: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ مشعر بأن السؤال كان عن الحكمة في تغيّرها، وقد جاء الخبر بأن السؤال كان عن هذا، فالخبر و «القرآن» متطابقان، وعلى هذا فلا مفارقة بين السؤال والجواب.
مَواقِيتُ جمع ميقات بمعنى الوقت. كالميعاد بمعنى الوعد، وقال بعضهم:
الميقات منتهى الوقت، قال الله تعالى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: ١٤٢].
والهلال ميقات الشهر. ومواضع الإحرام مواقيت، لأنها التي ينتهي عندها الحلّ.
وقد قال أبو بكر الرازي: إنّ هذه الآية تدل على جواز الإحرام بالحج في جميع شهور السنة، لأنّ الأهلة لفظ عامّ. وقد بيّن الله أنها مواقيت للحج، وهو استدلال غير ظاهر. لأننا قد بينّا أنّ المعنى أن الحكمة في تغيّر الأهلة بالزيادة والنقص أن يؤقت الناس بها في معاملاتهم وعباداتهم وحجهم، وليس الكلام في بيان ما يكون في الشهر من العبادات وغيرها «١».
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قيل: كان الناس من الأنصار إذا أهلّوا بالعمرة التزموا ألا يحول بينهم وبين السماء شيء، ويتحرّون في ذلك. حتى إن من أهلّ بالعمرة وبدت له حاجة في بيته لا يدخل إلى البيت من الباب خشية أن يحول السقف بين السماء وبينه. فنزلت هذه الآية «٢». وقيل غير ذلك.
وقيل: إنه مثل ضربه الله تعالى لهم بأن يأتوا البر من وجهه الذي أمر الله به، وليس هناك ما يمنع من إرادة الكل، فتكون الآية دالّة على أن إتيان البيوت من ظهورها ليس قربة إلى الله تعالى ولا هو من شرعه ولا ندب إليه، ويكون مع ذلك مثلا أرشدنا به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي أمرنا الله تعالى وَلكِنَّ الْبِرَّ برّ من اتقى محارم الله وَاتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه رجاء أن يكون في ذلك فلاح.
قال الله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
(١) انظر كتاب أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (١/ ٢٥٤).
(٢) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٢/ ١٠٩).
99
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرام إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا، فهي متصلة بما قبلها، لأنّ الآية السابقة بيّنت أنّ الأهلة مواقيت للنّاس والحج، والحج في أشهر هلالية مخصوصة، كان القتال فيها محرّما في الجاهلية.
ولم تختلف الأمة في أنّ القتال لم يكن مشروعا قبل الهجرة، بل كان محظورا بقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) [فصلت: ٣٤، ٣٥] وقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة: ١٣] وقوله: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] وقوله:
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) [المائدة: ٩٢] وقوله: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: ٦٣] وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ [النساء: ٧٧] وقوله: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) [الغاشية: ٢٢] وقوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: ٤٥] وقوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: ١٤].
فلما تحولوا للمدينة نسخ هذا كله بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: ٢٩].
وقد اختلف السلف في أول آية نزلت في الإذن بالقتال. فروي عن الربيع بن أنس وغيره أن أول آية نزلت في قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وروي عن جماعة من الصحابة: منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنّ أول آية نزلت في القتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج: ٣٩، ٤٠].
وقد أخرج الواحدي «١» من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صدّ عن البيت، ثم صالحه المشركون، على أن يرجع عامه ثم يأتي القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فلما كان العام المقبل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله هذه الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ الآية.
(١) أسباب النزول للإمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري صفحة (٤٩).
100
المعنى: يا أيها المؤمنون الذين يخافون أن يمنعهم مشركو مكة عن زيارة بيت الله والاعتمار فيه نكثا منهم للعهد، ويكرهون أن يدافعوا عن أنفسهم في الحرم وفي الشهر الحرام: اعلموا أنني قد أذنت لكم في القتال، وأنتم إذ تقاتلونهم فإنما تفعلون ذلك في سبيل الله للتمكّن من عبادته، وفوق ذلك فإنما تفعلون هذا مع من نكثوا عهد الصلح، فقاتلوا في هذه السبيل الشريفة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا بالقتال فتبدؤوهم، ولا في القتال فتقتلوا من لم يقاتل كالنساء والصبيان والشيوخ والمرضى الذين لا يستطيعون قتالا، أو من ألقى إليكم السلم وكفّ عن حربكم.
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.
الثقف: الأخذ والإدراك والظفر، يقال: ثقفه: أخذه أو وجده أو ظفر به، أو أدركه.
والمعنى: اقتلوا هؤلاء الذين يقاتلونكم في أي مكان تمكّنتم منهم، ولا يصدنّكم عنهم أنهم في أرض الحرم.
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أجلوهم عن مكة كما أجلوكم عنها، فقد كان المشركون يتربّصون بالمؤمنين الدوائر، حتى اضطرّ هؤلاء أن يخرجوا فرارا بأنفسهم ودينهم، ومع ذلك منعوهم من دخول مكة للعبادة. فماذا على المؤمنين الذين أوذوا في سبيل الله وأخرجوا من ديارهم إذا قابلوا العدوان بمثله؟ وهل يعيب أحد الدفاع عن النفس؟ كلا. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ٢٥١].
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ الفتنة في الأصل مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما في النار ليستخرج منهما الزغل، ثم استعملت الفتنة في كل اختبار، وهذا مبالغة في التحريض على المقاتلة، أي أنّ ما تفعلونه معهم من القتل في الحرم أقلّ مما يتصفون به من الفتنة.
ثم قيل: إن الفتنة هنا الكفر، وقيل: المراد بها ما كان يقع من المشركين من صنوف الإيذاء والإعنات، التي جعلت المؤمنين يفرّون بدينهم، ولولا ذلك لما أمكنهم البقاء على الدين مع الإقامة على الاضطهاد والعسف، وتقرير الآية التي معنا على هذا الوجه مطابق لقوله تعالى في آيات الحج أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج: ٣٩، ٤٠].
ومن فسّر الفتنة بالشرك ادّعى أن قوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ الآية ناسخ لما تقرّر في الآية الأولى من قتال المقاتلين فقط. ثم احتاج بعد هذا إلى أن يقول: وهذه الآية أيضا منسوخة بقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وهكذا ادعوا في هذه الآية نسخا متتاليا.
101
ولما كنا نرى أنه لا حاجة بنا في فهم هذه الآيات إلى القول بالنسخ، ولمّا لم يكن يعرف أن هذه الآيات مقترنة في النزول، أو مفصولة عن بعضها، وكنا نرى أنها جميعها إلى قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ملتئمة مع ما ذكرنا في سبب النزول، وكان القول بالنسخ على هذا الوجه قد يؤدي إلى القول بالنسخ قبل التمكن، وهو غير جائز عند البعض، كان من رأينا أنّ الأولى الذهاب إلى القول بعدم النسخ.
على أنه إذا كان الداعي إلى القول بالنسخ هو عموم شرع القتال بالنظر للمشركين فنحن نجده في قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: ٣٦] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: ١٢٣] وقوله:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: ٢٩] فليس هناك ما يدعو إلى تفكيك آيات هي متصلة ببعضها تمام الاتصال بغير موجب.
على أن الفخر الرازي يرى أن آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ مع تسليم أنها في وجوب قتال المقاتلين فقط لا يلزم أن تكون منسوخة بقوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ بفرض عموم هذه، لأنّ غاية ما يلزم أن يكون قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ دالا على قتال المقاتلين فحسب، من غير تعرّض لقتال غيرهم، وقوله:
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ يفيد تعميم الحكم بعد التخصيص، وذكر العامّ بعد الخاصّ يثبت زيادة حكم على حكم الخاصّ من غير أن ينسخه.
وأما قوله: وَلا تَعْتَدُوا فهذا يحتمل أن يكون معناه: ولا تبدءوا في الحرم، أو لا تعتدوا بقتال من وادعوكم، وألقوا إليكم السلم، وكان بينكم وبينهم عهد.
إلى أن قال: وتحقيق القول: إنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه الآية وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ زاد في التكليف، فأمر بالجهاد معهم، سواء أقاتلوا أو لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام.
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢).
روي عن مقاتل أنّ آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ منسوخة بقوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثم تلك منسوخة أيضا بقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ.
وقال الفخر الرازي: وهو ضعيف، أما أن قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ منسوخ فقد تقدم إبطاله. وأما قوله: إن هذه الآية منسوخة بقوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فهو تخصيص لا نسخ. وأما قوله: إنّ قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ
102
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
منسوخ بقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فهو خطأ أيضا، لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم باق لم ينسخ، فثبت أن قوله ضعيف، قال: ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متتاليات تكون كل واحدة منهما ناسخة للأخرى.
وقد تمسّك الحنفية بهذه الآية في عدم قتل الكافر اللاجئ للحرم ما دام لم يقاتل في الحرم.
ويحتجّ بعمومها فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم في أنه لا يقتل، لأن الآية لم تفرّق بين من قتل ومن لم يقتل في حظر قتل الجميع، فلزم بمضمون الآية ألا نقتل من وجدناه في الحرم، سواء كان قاتلا أو غير قاتل، إلا إذا قتل في الحرم، فإنه يقتل بقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: ٩٧] وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً والمسألة مبسوطة في كتب الفقه.
كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أي ما قدمناه من قتل الكافرين المقاتلين على ما وصفنا، وبشروطه التي ذكرنا.
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) أي فإن كفوا عن قتالكم، ورجعوا عن الكفر، فإنّ الله يغفر لهم ما تقدّم منهم ويرحمهم، كما في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: ٣٨].
وقد ذهب ابن عباس إلى أن معنى الآية: فإن انتهوا عن القتال.
وذهب الحسن إلى أن المعنى: فإن انتهوا عن الشرك، لأنه لا غفران لهم إلا إذا انتهوا عن الشرك إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ.
قال الله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) أي اقصدوا بقتالهم أن تزول الفتنة والكفر وأنواع الإيذاء والضرر التي تلحق المسلمين بوجودهم في مكة، وقد ورد
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يبقينّ في جزيرة العرب دينان» «١».
والحكمة في هذا تشير إليها الآية الكريمة حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ولو أنّ المسلمين ساروا على مقتضى هذه الحكمة في قواعد ملكهم التي أنشئوها في غير
(١) وبمعناه رواه البخاري (٥/ ١٥٩، ٦٤- كتاب المغازي، ٨٤- باب مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (٤٤٣١) ومسلم في الصحيح (٣/ ١٢٥٧)، ٢٥- كتاب الوصية، ٥- باب ترك الوصية حديث رقم (٢٠/ ١٦٣٧).
103
جزيرة العرب لكان الحال غير ما ترى اليوم، فإنّ المنع من أن يبقى في جزيرة العرب دينان إنما كان اجتثاثا لبذور الفتن، وأشد الفتن خطرا ما يكون في قواعد الملك.
أما قوله: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فالمعنى: أن يكون الله هو المعبود وحده، وكأنّ المعنى: وقاتلوهم حتى يزول الكفر، ويثبت الإسلام، ونظيره قوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: ١٦].
فَإِنِ انْتَهَوْا عما أوجب قتالهم فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون المعنى:
فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر، فإنّهم بإصرارهم على الكفر ظالمون لأنفسهم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣].
ولما كان القتل هنا جزاء العدوان صحّ إطلاق اسم العدوان عليه، كما قال:
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ.
ويحتمل أن يكون المعنى: أنهم إن انتهوا، واعتديتم عليهم بعد ذلك: كنتم ظالمين، فنسلط عليكم من يعتدي عليكم، ويكون المعنى طلب الكف عنهم بعد انتهائهم.
قال الله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤).
روي عن ابن عباس، والربيع بن أنس ومجاهد وقتادة والضحّاك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج عام الحديبية للعمرة، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، فصدّه أهل مكة عن ذلك، ثم صالحوه على أن ينصرف، ويعود في العام القابل، حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العام القابل: وهو في ذي القعدة سنة سبع، ودخل مكة واعتمر، فأنزل الله هذه الآية «١».
والمعنى: أنهم صدّوك في العام الفائت في هذا الشهر. فمنّ الله عليكم بالدخول إليها في هذا الشهر من هذا العام، فهذا الشهر بذاك الشهر.
وروي عن الحسن أن الكفار سمعوا أن الله تعالى نهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يقاتل في الأشهر الحرم، فأرادوا مقاتلته، لظنهم أنه يمتنع عن المقاتلة في هذه الأشهر الحرم، وذلك قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ
فأنزل الله هذه الآية لبيان الحكم في هذه الواقعة، فقال:
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ «٢» أي من استحل دمكم في الشهر الحرام فاستحلوا دمه فيه.
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٢/ ١١٤).
(٢) انظر ما ذكره الجصاص في كتابه أحكام القرآن (١/ ٢٦١)، والقرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (٢/ ٣٣٣).
104
وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ إن جرينا على ما روي عن ابن عباس يكون المراد بالحرمات:
الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام، والمعنى: أنهم لما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست، فقد عوّضكم الله عنها في سنة سبع.
وإن جرينا على ما روي عن الحسن فيكون المعنى: إن أقدموا على مقاتلتكم ولم يراعوا حرمة الأشهر الحرم فقاتلوهم. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ أي: فمن اعتدى عليكم فقابلوه باعتداء مثله وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالمعونة والنصر.
قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥).
لما كان الكلام في القتال: وهو كما يحتاج إلى الأنفس يحتاج إلى الأموال- وربما كان من عنده مال لا يقدر على النزال، وقد يكون الشجاع لا مال له- أمر الله الأغنياء أن ينفقوا في سبيل الله على الفقراء الذين لا يجدون ما يحملون أنفسهم عليه في القتال.
ويروى أنه لما نزل قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ قال رجل من الحاضرين: والله يا رسول الله ما لنا زاد، وليس أحد يطعمنا. فأمر عليه الصلاة والسلام أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدّقوا، ولا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة تحمل في سبيل الله. فنزلت الآية على وفق ما قال رسول الله.
والإنفاق: هو صرف المال في وجوه المصالح، ولذلك لا يقال للمضيّع إنه منفق، وإذا قيّد بكونه في سبيل الله فالمراد به في طريق الدين، لأن السبيل هي الطريق، وسبيل الله دينه.
فاللفظ يتناول كل القربات. من جهاد وحج وغير ذلك، إلا أنّ الأقرب حمل الآية على الانفاق في الجهاد، لأن الكلام فيه.
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قيل: الباء في قوله: بِأَيْدِيكُمْ زائدة، ويكون المعنى:
لا تلقوا أيديكم، وهو كقول القائل: أخذت القلم، وأخذت بالقلم، بمعنى واحد، وقيل: المراد بالأيدي الأنفس، والمعنى: لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وقد جاء استعمال اليد في النفس في قوله: ما قَدَّمَتْ يَداهُ [الكهف: ٥٧] فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠] وقال آخرون: إنّ في الكلام حذفا، والتقدير: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، والتهلكة: الهلاك، يقال: هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة.
105
وقال بعضهم: ولا أعلم مصدرا جاء في لغة العرب على تفعلة بضم العين إلا هذا، قال أبو علي: حكاه سيبويه «١» في التّبصرة وقال صاحب الكشاف «٢» : ويجوز أن يكون أصله التّهلكة بكسر اللام، كالتجربة، والتبصرة، فأبدلت الكسرة ضمة، كما جاء الجوار في الجوار.
ويعجبنا قول الفخر الرازي في هذا المقام: إني لأتعجب لهؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا من الشعر مجهولا يشهد لما أرادوا طاروا به فرحا، واتخذوه حجة قوية، أفلا يكون ورود هذا اللفظ في كلام الله المشهود له بأنه في أعلى درجات البلاغة- أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها؟
وقد اختلف المفسرون في المراد بالتهلكة هنا- فمنهم من قال: التهلكة ألا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم، فيستولي عليهم عدوّهم، ويهلكهم وهناك وجه آخر: وهو أن الله لما أمرهم بالإنفاق، وكان الرجل ربما استنفد ماله في مرضاة الله، وهذا قد يؤدي إلى هلاكه قال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أي لا تجهزوا على المال بالنفقة، بل أبقوا بعضه، وأنفقوا بعضه، وهو حينئذ في معنى قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) [الفرقان: ٦٧] وقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) [الإسراء: ٢٩].
وقيل بل هي نهي عن الإخلال بما يتطلبه الجهاد، فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب، وقيل غير هذا، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي وأحسنوا في الانفاق بأن تجعلوه وسطا لا إسراف فيه ولا تقتير.
قال الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ اختلف العلماء في إتمام الحج والعمرة ما هو؟
فقيل: أداؤهما، والإتيان بهما من غير أن يفعل في أثنائهما شيئا من المحظورات، وقد يجيء الإتمام بمعنى أصل الفعل، كما في قوله تعالى:
(١) عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي، عالم النحو، صنف كتابا سماه الكتاب، أخذ عن الخليل، انظر الأعلام للزركلي (٥/ ٨١).
(٢) انظر تفسير: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري (١/ ٢٣٨).
106
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ أي فعلها، وكما في قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي أدوه، وقد علمت ما فيه سابقا.
وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج لهما لا لغيرهما، وقيل: إتمامهما فعل كل واحد منهما منفردا، من غير تمتع ولا قران، قال ابن حبيب «١» : وقيل إتمامهما أن لا يستحل فيهما ما لا ينبغي. وقيل: إتمامهما أن يحرم لهما من دويرة أهله. وقيل:
أن ينفق في سفرهما الحلال الطيب.
وقد ذكر في أسباب النزول روايات كثيرة يرجع إليها هذا الخلاف، ويأخذ منها المختلفون ما يؤيّد مذهبهم، لا نريد الإطالة بذكرها، وقد اتفق العلماء على فرضية الحج، واختلفوا في العمرة، وذلك أن كثيرا من الآيات، بل كل الآيات التي طلب فيها الحجّ جاء ذكره فيها مجرّدا عن ذكر العمرة وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: ٩٧] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ [الحج: ٢٧].
والأحاديث الصحيحة التي بيّنت قواعد الإسلام لم يرد فيها ذكر العمرة، نعم جاء ذكر العمرة مع الحج عند بيان الكيفيات، كقوله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ إلى قوله:
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
فقال بعض العلماء: إنّ ذلك يقتضي أن لا يكونا سواء في الحكم، فالعمرة سنّة والحجّ فريضة.
وذهب جماعة إلى أنّ العمرة واجبة كالحجّ وبه أخذ الشافعيّ وأحمد وابن الجهم من المالكية، وهو مذهب علي، وابن عمر وابن عباس، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وغيرهم.
وقال مالك، والنخعي، وأبو حنيفة: (وروي عنه الوجوب) إن: العمرة سنة، وهو مذهب ابن مسعود وجابر بن عبد الله، ولنذكر طرفا من جملة ما استدل به الفريقان:
استدل الأولون: بما
روي في الصّحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لأصحابه «من كان معه هدي فليهلّ بحجّ وعمرة» «٢».
(١) عبد الملك بن حبيب بن سليمان أبو مروان القرطبي، صاحب كتاب الواضحة في الفقه، عالم الأندلس وفقيهها، زار مصر كان عالما بالتاريخ توفي بقرطبة، انظر الأعلام للزركلي (٤/ ١٥٧).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٨٧٠)، ١٥- كتاب الحج، ١٧، باب بيان وجوه الإحرام حديث رقم (١١١/ ١٢١١). [.....]
107
وفي الصّحيح أيضا قال صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة» «١».
وأخرج الدّارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الحجّ والعمرة فريضتان لا يضرّك بأيهما بدأت» «٢».
واستدلّ الآخرون:
بما أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحج جهاد والعمرة تطوّع» وأخرج ابن ماجه مثله «٣»
وأخرج الترمذي وصحّحه، عن جابر أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: «لا. وأن تعتمروا خير لكم» «٤»
، وأجاب هؤلاء عن الأحاديث التي صرّح فيها بلفظ الفريضة بأن ذلك بعد الشروع فيها، وهي حينئذ واجبة بلا خلاف، وهذا وإن كان فيه بعد، لكنه يجب المصير إليه جمعا بين الأدلة، قاله الشوكاني. وقال: وعلى هذا يحمل سائر ما فيه دلالة على وجوبها، كالذي أخرجه الشافعي في «الأم» : أنّ العمرة هي الحج الأصغر.
كذلك يجب حمل الأحاديث التي قرن فيها الحج والعمرة على أنهما من أفضل الأعمال، وأنهما كفارة لما بينهما «٥»، وأنهما يهدمان ما قبلهما ونحو ذلك اه.
وأما الآية التي معنا فالتعبير بالإتمام مشعر بأنهما كان قد شرع فيهما، وقد علمت سابقا أنّ آيات القتال كانت في صلح الحديبية، وأنهم كانوا شرعوا في العمرة وصدّوا عنها، ولذلك تسمّى العمرة التي وقعت في سنة سبع عمرة القضاء، فالتعبير بالإتمام ظاهر النكتة، لا يحتاج إلى الحمل على أصل الفعل.
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
الحصر: الحبس، قال أبو عبيدة «٦» والكسائي، والخليل: يقال أحصر بالمرض، وحصر بالعدو، وفي «المجمل» لابن فارس «٧» بالعكس، يقال: أحصر بالعدو وحصر
(١) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٨٨٦)، ١٥- كتاب الحج، ١٩- باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (١٤٧/ ٢١١٨).
(٢) سننه، ط ١، بيروت دار المعرفة ١٩٨٦ (٢/ ٢٨٤).
(٣) رواه ابن ماجه في السنن (٢/ ٩٩٥)، كتاب المناسك، باب العمرة حديث رقم (٢٩٨٩).
(٤) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ٢٧٠) في كتاب الحج باب ما جاء في العمرة حديث رقم (٩٣١).
(٥) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ٢٤٠)، ٢٦- كتاب العمرة، ١- باب العمرة حديث رقم (١٧٧٣).
(٦) معمر بن مثنى أبو عبيدة البصري النحوي، له مصنفات بلغت المائتين توفي سنة (٢٠٩ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٧/ ٢٧٢).
(٧) أحمد بن فارس القزويني اللغوي توفي (٣٩٥ هـ) في الري، انظر الأعلام للزركلي (١/ ١٩٣).
108
بالمرض، ورجّح الأول ابن العربي «١» وقال: رأي أكثر أهل اللغة «٢»، وقال الزجّاج:
إنّه كذلك عند جميع أهل اللغة. وقال الفرّاء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو، ووافقه على ذلك أبو عمرو الشيباني «٣».
وبسبب هذا الاختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه، فذهب الحنفية إلى أنّ المحصر من يصير ممنوعا من دخول مكة بعد الإحرام بمرض، أو عدوّ، أو غيره، وذهب الشافعية إلى أن الإحصار معناه: المنع بالعدو.
وقال الفخر الرازي: وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة فقهية، وهي أنهم اتفقوا على أنّ حكم الإحصار في الحصر بالعدو ثابت، وهل يثبت بالمرض وسائر الموانع أو لا؟
قال أبو حنيفة: يثبت، وقال الشافعي: لا يثبت، وحجة أبي حنيفة ظاهرة على مذهب أهل اللغة، وذلك لأن أهل اللغة رجلان:
أحدهم: الذي قال: الإحصار مختصّ بالمرض. فتكون الآية نصّا فيه.
والثاني: الذي قال: إنّ الإحصار اسم لمطلق الحبس، سواء كان حاصلا بسبب المرض، أو بسبب العدو. وحجة أبي حنيفة على هذا ظاهرة أيضا، لأنّ الله تعالى علّق الحكم على مسمّى الإحصار، وهو عام، فتناول الكل.
نعم إنّ هناك قولا ثالثا، وهو أن الإحصار في الحصر بالعدو. قال الفخر: وهو باطل باتفاق أهل اللغة، وبتقدير ثبوته. فنحن نقيس المرض على العدو بجامع الحرج، وهو قياس جلي، وقد استدل الشافعية لمذهبهم بوجوه منها أنّ رأينا وإن كان يخالف روايات أهل اللغة إلا أنه مرويّ عن ابن عباس، وابن عمر، وهما أولى، لأنّهما من أهل اللغة. وأدرى بتفسير «القرآن».
على أنا نقول: إنّ الحصر عبارة عن المنع، ولا يقال: إنّ الإنسان ممنوع عن كذا إلا إذا كان متمكّنا منه قادرا عليه، وذلك في العدو، لا في المرض، وأيضا أُحْصِرْتُمْ معناها: منعتم، والمنع لا بدّ له من مانع، ولا يسند الفعل إلى المرض عقلا، لأنّه مرض لا يبقى زمانين، فكيف يقال: إنه مانع؟ وأنت ترى أنهم في هذا يستعملون القياس في اللغة.
وقالوا أيضا إن الله تعالى قال في الآية: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
(١) هو محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي توفي (٥٤٣ هـ) في فاس، من حفاظ الحديث، انظر الأعلام للزركلي (٦/ ٢٣٠).
(٢) انظر أحكام القرآن لابن العربي ط ٢، بيروت، دار الفكر، ١٩٦٧ (١/ ١١٩- ١٢٤).
(٣) إسحاق بن مرار الشيباني بالولاء النحوي اللغوي سكن بغداد وتوفي فيها سنة (٢٠٦ هـ)، انظر الأعلام للزركلي (١/ ٢٩٦).
109
ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدو، لا في المرض، وقد أورد عليه أننا نمنع أن يكون الأمن قاصرا على الأمن من العدو، ولئن سلّم: فخصوص بعض أفراد العام بحكم ذكر في آخر الآية لا يذهب بعموم أولها في حكم غير هذا الخاص.
اسْتَيْسَرَ تيسر، كاستعظم تعظم، واستكبر تكبر.
الْهَدْيِ جمع هدية كما تقول: تمر وتمرة، وفي الهدي تشديد للياء وتخفيفها، والهدي ما يهدى إلى بيت الله عزّ وجلّ تقربا إلى الله، وقد روي عن علي، وابن عباس والحسن. وقتادة: الهدي أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس. وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وابن شبرمة «١»، غير أنه جعل البدن خاصة بالإبل، وهم جعلوها في الإبل والبقر، والخلاف في السن المجزئ يعرف في الفقه، ثم إن حقيقة الحج والعمرة معروفة في الفقه، وقد ذكر المفسّرون هنا أقسام الحج: الإفراد، والقران، والتمتع، وحقائقها أيضا معروفة في الفقه.
وقد اختلف العلماء في أيها أفضل؟ فقال الشافعي: أفضلها الإفراد، ثم التمتع ثم القرآن، وعنه: إنّ التمتع أفضل من الإفراد، وهو مروي عن مالك رضي الله عنه.
إن التمتع جاء ذكره في القران. ولم يجئ القران.
وللشافعي
قوله عليه الصلاة السلام: «القرآن رخصة» «٢»
ولأنّ في الإفراد زيادة التلبية والسفر، والحلق.
والحنفية احتجوا بما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «يا آل محمد! أهلّوا بحجّ وعمرة معا» «٣»
والذي يعنينا هو: هل في الآية ما يؤيّد واحدا من هذه المذاهب؟ ترى أن الآية ليس فيها ما يصلح حجة لواحد من الآراء. فليس فيها إلا الأمر بالإتمام، وهو لا يقتضي شيئا منها، فالمدار في إثبات المذاهب على السنة والترجيح فيها.
ثم إن الإحصار كما يكون عن الحج يكون عن العمرة، لأن الله تعالى يقول:
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ومعناه منعتم، وهو بإطلاقه ينصرف إلى المنع مما تقدم. والذي تقدم هو قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فيكون المنع منهما سواء.
وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ قد اختلف السلف في المكان الذي يذبح فيه
(١) عبد الله بن شبرمة، فقيه العراق، أبو شبرمة، قاضي الكوفة وكان شاعرا توفي سنة (١٤٤ هـ) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (٦/ ٥٠٠) ترجمة (٩٨٠).
(٢) قال الزيلعي: غريب جدا انظر نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعى (٣/ ١١٥).
(٣) رواه أحمد في المسند (٦/ ٢٩٨).
110
الهدي، فقال عبد الله بن مسعود وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين: هو الحرم، وهو مذهب الحنفية «١» والثوري.
وقال مالك والشافعي: محله الموضع الذي أحصر فيه، فيذبحه ويحل، وذلك أنّ معنى قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ لا تحلوا من إحرامكم حتى تعلموا أنّ الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله، والكلام في هذا المحل، لأنه يحتمل أن يراد منه الوقت الذي يذبح فيه، ويحتمل أن يراد منه الموضع.
فذهب الشافعية وأهل المدينة إلى أن المراد منه الوقت الذي يذبح فيه، إذا جاء في موضع الإحصار، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذبح فيه حيث أحصر في عام الحديبية.
وذهب الحنفية إلى أنه الحرم، لأن المحل وإن كان يحتمل الوقت، ومنه محلّ الدّين: أي وقته، غير أن الله تعالى يقول: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فلو كان هدي الإحصار يذبح في موضع الإحصار لكان الهدي بالغا محله، وحينئذ يكون قوله حتى يبلغ الهدي محله لاغيا.
وقد قال الله تعالى: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إلى أن قال:
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) [الحج: ٣٠- ٣٣] والظاهر أنّ ذلك في كل الهدايا بلا فرق. وكأنّ الآية بيان للإجمال في قوله: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فقد جعل الله محل الهدي البيت العتيق، فليس لأحد أن يجعله في غيره.
وأيضا فقد قال الله في جزاء الصيد: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: ٩٥] فبيّن أن الشرط في الهدي أن يكون على صفة بلوغ الكعبة، فلا يصح أن تغيّر هذه الصفة، كما لم يصح تغيير التتابع في صوم كفّارة الظهار. هذا مجمل أدلة الحنفية، وقد أجابوا عن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في عام الحديبية فقالوا: إن الذبح في طرف الحرم من جهة الحديبية.
والشافعية وأهل المدينة استدلوا بفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأيضا قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ يدلّ عليه، بل إنه لو كان الذبح في الحرم لما قال: مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي الحرم، فيكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد ذبح في الحل، لا في الحرم.
والحنفية يقولون: إنه يستحبّ أن يكون الذبح عند المروة بمنى، فلما منع المشركون الهدي أن يبلغ هذا المحل، كان الهدي معكوفا أن يبلغ المحل الأفضل، وإن كان الذبح واقعا في الحرم، هذا مجمل الأدلة والشبه من الفريقين.
ثم إنّ العلماء لم يختلفوا في أن هدي العمرة غير مؤقّت بزمن مخصوص، بل له أن يذبح
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١/ ١٩٦). [.....]
111
متى شاء، ويحل، واختلفوا في هدي الإحصار في الحج، فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: له أن يذبحه متى شاء ويحل. وقال أبو يوسف والثوري ومحمد: لا يذبحه قبل يوم النحر.
وجه الأولين أن قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عام في كل الأوقات متى حصل الإحصار، فتخصيصه بوقت إخراج للعام عن عمومه من غير دليل، وأيضا فإن الاتفاق حاصل بين الجميع أن حكم الإحصار بالعمرة لا توقيت فيه، وهو مستفاد من قوله:
وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وهذا دم إحصار وذلك دم إحصار الفرق تحكّم.
على أن المعقول في دم الإحصار أن لا يتوقت بزمن غير زمن الإحصار لما قد ينشأ عن بقاء الإحرام- حتى يجيء يوم النحر- من الضرر. نعم قد يعقل أن يختص ذبح دم الإحصار بالمكان لمعنى في المكان: كسد حاجة فقراء الحرم، أو ما شاكل ذلك، ولا نجد هذا المعنى في التخصيص بالزمان بعد وجود الإحصار وعدم التمكن من الوصول إلى الحرم.
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، المراد بالمرض هنا أدنى ما يصدق عليه اسم المرض. لأنّ المرض الشديد الذي يمنع من تمام النسك يثبت به الإحصار عند الحنفية، وهذا أحد الشبه التي للشافعية أن يستدلوا بها على أن المرض لا يثبت به الإحصار، لأنّه قد بيّن حكمه، هنا، وإن كان للحنفية أن يقولوا:
إنّ وجود الصوم بين هذه الأشياء التي جبر فيها دالّ على أن هذا حكم المرض اليسير الذي يقدر صاحبه على الصوم معه، وهذا لا نقول له تحلل بالهدي، بل عليه إتمام النسك، ثم إن قوله: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ مشير إليه.
وفي الآية حذف تقديره: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فحلق فالواجب فدية، وكأنّ هذا استثناء من قوله: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وعلى كل حال- فالمراد: بالمرض والأذى ما يحتاج معه إلى أن يفعل شيئا من محظورات الإحرام:
كلبس المخيط، أو تغطية الرأس، أو الحلق. ولم تبين الآية مقدار الصيام، ولا مقدار الصدقة، ولا مقدار النسك. وإنّما ذلك نجده في السّنّة وكتب الفقه.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الصوم ثلاثة أيام، وهو قول جماعة السلف: إلا ما يروى عن الحسن، وعكرمة: أن الصيام عشرة أيام كصوم التمتع، والعمدة في هذا الباب حديث كعب بن عجرة، وهو ما
روي عن عبد الله بن مغفّل أن كعب بن عجرة حدّثه «أنه خرج مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم محرما فقمّل رأسه ولحيته، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فدعا بحلاق فحلق رأسه»، وقال: «هل تجد نسكا» ؟ فقال: ما أقدر عليه، فأمره أن يصوم ثلاثة أيام، أو أن يطعم ستّة مساكين، لكل مسكين صاعا «١».
(١) انظر أحكام القرآن للجصاص (١/ ٢٨١).
112
واختلفت الروايات عنه في الصدقة، فمرّة روي عنه الصدقة بستة صيعان كما رأيت، على ستة مساكين، ومرة بثلاثة آصع «١»، على ستة مساكين، فاضطر الجمهور إلى الجمع بينهما، فحملوا رواية الثلاثة آصع، على طعام القمح، لأنه المعهود فيه في سائر الصدقات، وحملوا رواية الستة آصع على التمر، وأما النسك فلا خلاف أنه تجزئ فيه الشاة، وقد ورد في أخبار كعب بعضها: أنسك نسيكة، وبعضها: شاة، فهو إن شاء ذبح شاة وإن شاء ذبح بدنة.
ولا خلاف أنه مخيّر بين فعل أي واحد من الثلاثة، يفعل أيها شاء. لأنّ هذا ما تقضيه (أو) من التخيير.
فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
بهذه تعلّق الشافعية أيضا فيما ذهبوا إليه من الإحصار هو من العدو فحسب، وقال الحنفية: إن الأمن كما يكون من العدو يكون من غيره، ثم إنّ قوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ينتظم معنيين:
أحدهما: الإحلال، والمتعة بالنساء.
والآخر: جمع الحج والعمرة في أشهر الحج، ومعناه حينئذ: الارتفاق بهما، وترك إنشاء سفرين لهما.
وقد كانت العرب تكره العمرة في أشهر الحج، وتعدّها من أفجر الفجور. روي عن ابن عباس أنه قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفر. ويقولون: إذا برأ الدّبر وعفى الأثر، وانسلخ صفر، حلّت العمرة لمن اعتمر «٢».
فالمتعة بالحج تحتمل المعنيين:
استباحة التمتع بالنساء بالإحلال، والمعنى الثاني: الارتفاق بجمعهما في أشهر الحج، بعد أن كان ذلك ممنوعا.
وقد اختلف في قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
فقال ابن مسعود وعلقمة «٣» : هو عطف على قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
(١) رواه البخاري في الصحيح (٥/ ١٨٥)، ٦٥- كتاب تفسير القرآن، ٣٢- باب فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً حديث رقم (٤٥١٧)، ومسلم في الصحيح (٢/ ٨٥٩)، ١٥- كتاب الحج، ١٠- باب جواز حلق الرأس حديث رقم (٨٠/ ١٢٠١).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ١٨٥)، ٢٥- كتاب الحج، ٣٤- باب التمتع والإقران والإفراد بالحج حديث رقم (١٥٦٤).
(٣) علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي، أبو شبل، تابعي، كان فقيه العراق، انظر الأعلام للزركلي (٤/ ٢٤٨).
113
والمعنى: أنّ الحاجّ إذا أحصر فحلّ من إحرامه بهدي يذبحه: فعليه قضاء عمرة وحجة، فإن هو تمتع بهما، وجمع بينهما في أشهر الحج في سفر واحد: فعليه دم آخر للتمتع.
وإن اعتمر في أشهر الحج، ثم رجع إلى أهله. ثم حجّ من عامه، فلا دم عليه للتمتع.
قال عبد الله بن مسعود: هديان وسفر أو سفران وهدي، يعني أن من جمع بينهما في سفر واحد بعد الإحصار فعليه هديان: هدي الإحصار، وهدي التمتع، وإن فعلهما في سفرين فليس عليه إلا هدي الإحصار.
ويرى ابن عباس أنّ الآية تشمل كلّ جمع بينهما في سفر واحد. سواء أكان محصرا. أم لا. ويرى ابن مسعود أن الآية في المحصرين فقط. لمكان العطف، وإن كان الحكم واحدا فيمن جمع بينهما الإحصار، أو لغير الإحصار.
وقد روي عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم روايات ظاهرها اختلاف في إباحة التمتع، بمعنى جمع العمرة والحج في أشهر الحج:
فمن روي عنه النهي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه. وروي أن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل حدّث أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحّاك بن قيس عام حج معاوية وهما يتذاكران التمتع بالعمرة إلى الحج. فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى. قال سعد: بئسما قلت يا ابن أخي! فقال الضحّاك: فإن عمر قد نهى عنه. قال سعد: صنعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصنعناها معه.
وروي عن قتادة أنه قال سمعت جريّر بن كليب يقول: رأيت عثمان ينهى عن المتعة «١». وعلي يأمر بها، فأتيت عليّا، فقلت: إن بينكما لشرّا، أنت تأمر بها، وعثمان ينهى عنها! فقال: ما بيننا إلا خير. ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين «٢».
وقد روي عن عثمان وعمر- أنهما ما كانا يقصدان النهي، وإنما كانا يقصدان تفريق النسكين، من أجل أن تستمر عمارة البلد الحرام في غير أشهر الحج، وأن يدوم نفع الفقراء طول العام باختلاف الناس إلى الحرم في أشهر الحج بالحج، وفي غيرها بالعمرة.
(١) ذكره الجصاص في كتابه أحكام القرآن (١/ ٢٨٤).
(٢) المرجع نفسه (١/ ٢٨٥).
114
ولقد روي عن عمر رضي الله عنه اختيار المتعة على غيرها، فدلّ ذلك على أن النهي إنما كان لمعنى، خاصّ، لا لعدم الجواز.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
أي: فمن لم يجد الهدي- إما لعدم المال، أو لعدم الحيوان- صام ثلاثة أيام في الحج: وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر، وقيل: يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة. وقيل: ما بين أن يحرم إلى يوم عرفة. وقيل:
يصومها من أول عشر ذي الحجة، وقيل: ما دام بمكة، وقيل: غير ذلك.
وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ المراد بالرجوع الرجوع إلى الأهل، وقال أحمد، وإسحاق:
يجزئه أن يصوم في الطريق، ولا يتضيّق عليه الوجوب إلا بالرجوع إلى الوطن، وهو مذهب الشافعي.
وقال مالك: إذا رجع إلى منى فلا بأس أن يصوم.
وقال الشوكاني: والأول أرجح، فقد ثبت في «الصحيح» «١» من
حديث ابن عمر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله».
وإنما قال سبحانه: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ مع أنّ كلّ أحد يعلم أنّ الثلاثة والسبعة عشرة كاملة لدفع أن يتوهم متوهم أنه مخيّر بين الثلاثة في الحج، وبين السبعة إذا رجع إلى أهله، قاله الزجّاج.
وقال المبرد: إنما قال ذلك ليدلّ على انقضاء العدد، حتى لا يتوهّم بقاء شيء وراء السبعة، وقيل: هو توكيد، كما تقول كتبت بيدي، وقد جاء مثل هذا في كلام العرب، قال الشاعر «٢» :
ثلاث واثنتان فهنّ خمس وسادسة تميل إلى شمام
وكذا قول الآخر:
ثلاث بالغداء وذاك حسبي وستّ حين يدركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ريّي وشرب المرء فوق الريّ داء
وقوله: كامِلَةٌ توكيد آخر، لزيادة العناية بشأنها، حتى لا ينقص منها شيء.
(١) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ٢١٩)، ٢٥- كتاب الحج، ١٠٤- باب من ساق البدن حديث رقم (١٦٩١)، ومسلم في الصحيح (٢/ ٩٠١)، ١٥- كتاب الحج، ٢٤- باب وجوب الدم على المتمتع حديث رقم (١٧٤/ ١٢٢٧).
(٢) هو الفرزدق كما في زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (١/ ١٧٨).
115
ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل: الإشارة إلى التمتع، وعلى ذلك فلا تمتع للمكيّ، وإن فعل فعليه دم جناية لا يأكل منه، وهو منقول عن الحنفية.
وقيل الإشارة إلى حكم الصوم، وما إليه، وعلى هذا يكون للمكيّ تمتع، ولا يكون منه إلا الهدي، ونقل عن الشافعي. والمراد بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام: من لم يكن ساكنا في الحرم، ومن لم يكن ساكنا في المواقيت فما دونها فيه خلاف. قال عطاء ومكحول: حاضر المسجد الحرام هم من دون المواقيت إلى مكة، وهو مذهب الحنفية غير أنهم جعلوا من في المواقيت بمنزلة من دونها.
وقال ابن عباس، ومجاهد: هم أهل الحرم. وقال الحسن، وطاوس «١»، ونافع، وعبد الرحمن الأعرج «٢» : هم أهل مكة. وهو قول مالك. وقال الشافعي فيما رواه الجصاص عنه: هم من كان أهلهم دون ليلتين، وهم حينئذ أقرب إلى المواقيت، والأدلة تعرف في الفروع.
وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما فرضه عليكم في هذه الأحكام. وقيل: هو أمر بعموم التقوى، وتحذير من شدة عقاب الله سبحانه أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧).
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فيه حذف تقديره: وقت الحج أشهر معلومات، أي وقت أعمال الحج. وقيل: التقدير: الحج في أشهر معلومات، قال الشوكاني: وفيه أنه كان يلزم نصب الأشهر على نزع الخافض.
وقال الفراء: الْأَشْهُرُ رفع لأنّ معناه وقت الحج أشهر معلومات، وقيل:
التقدير الحجّ حجّ أشهر معلومات.
وقد اختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود، وابن عمر، وعطاء، والربيع، ومجاهد، والزهري: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وبه قال مالك.
وقال ابن عباس، والسدي، والشعبي، والنخعي هي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وروي أيضا عن مالك.
(١) طاوس بن كيسان الخولاني، من كبار التابعين أصله من الفرس، ولد في اليمن وتوفي حاجا، انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٢٢٤).
(٢) تابعي واسمه عبد الرحمن بن هرمز أبو داود، حافظ قارئ، مات سنة (١١٧ هـ) بالإسكندرية، انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٣٤٠).
116
وفائدة الخلاف تظهر فيمن أوقع شيئا من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال: إن ذا الحجة كله من أشهر الحج. قال: تم حجه، ولا يلزمه دم بالتأخير. ومن قال: إلى عشر ذي الحجة. قال: يلزمه دم بالتأخير. ذكره الشوكاني.
وقال أبو بكر الرازي: وقال قائلون: وجائز ألا يكون ذلك اختلافا في الحقيقة، وأن يكون مراد من قال: وذو الحجة أنه بعضه، لأنّ الحج لا محالة في بعض الأشهر، لا في جميعها، لأنّه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج.
وقالوا: ويحتمل أن يكون من تأوّله على ذي الحجة كله مراده أنّها لما كانت هذه هي أشهر الحج كان الاختيار عنده ألا يؤتى بالعمرة فيها، كما روي عن عمر وغيره من استحبابهم لفعل العمرة في غير أشهر الحج كما قدّمنا.
هذا وقد حكى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، لأنّ من لم يدرك عرفة حتى طلع فجر يوم النحر فقد فات حجّه.
بقي أنه كيف يقال للشهرين وبعض الثالث: إنها أشهر؟ نقول: إن اللغة لا تمنع من ذلك.
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «أيام منى ثلاثة»
وهي اثنان وبعض الثالث، ويقال: حججت عام كذا، والمراد بعضه.
وقال أبو بكر الرازي: ولقول من يقول: إنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة وجه آخر، وهو ينتظم القولين جميعا، وهو أنّ الآية سيقت لبيان أنّ هذه هي الأشهر التي يكون فيها الحج دون تبديل ولا تغيير، على نحو ما كان يفعله أهل الجاهلية من التغيير والتبديل. فكانوا يغيرون في أشهر الحج، فمعنى قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أن أعمال الحج تقع في هذه الأشهر، على مقتضى بيان السنة، دون ما كان يفعله أهل الجاهلية من تبديل الشهور وتأخير الحج، وتقديمه.
وقد اختلف السلف في إيقاع الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، فروى مقسم عن ابن عباس أنه قال: من سنة الحج ألا يحرم بالحج قبل أشهر الحج. وروي عن جابر أنه قال: لا يحرم الرجل بالحج قبل أشهر الحج، وروي مثله عن طاوس وعطاء، ومجاهد، وغيرهم، وقال عطاء: من أحرم بالحج قبل أشهر الحج فليجعلها عمرة.
وفي مقابل ذلك
روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال في قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ. وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ: إن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وروي عن إبراهيم النخعي وأبي نعيم جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وهو قول الحنفية، ومالك والثوري، والليث بن سعد. وقال الحسن بن صالح بن يحيّى «١» : إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج
(١) الهمداني الثوري الكوفي أبو عبد توفي (١٦٩ هـ) كان فقيها متكلما، انظر الأعلام للزركلي (٢/ ١٩٣).
117
يجعلها عمرة، وإذا أدركته أشهر الحج قبل أن يجعلها عمرة مضى في الحج وأجزأه.
وقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يهلّ بالحج قبل أشهر الحج، وهو قول أحمد والآية بظاهرها تشهد له، لأنّها قد جعلت وقت الحج هذه الأشهر المعلومات، والإحرام للعبادة عنه.
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ المعنى: فمن ألزم نفسه الحجّ بأن يحرم به.
وقد اختلف الفقهاء في العمل الذي يصير به المحرم محرما، فقال الشافعي: إنه يصير محرما بمجرد النية.
وقال الحنفية: لا يكون محرما حتى يلبّي. أو يسوق الهدي. وإثبات هذا أو هذا إنما يكون من السنّة، لأنّ الآية ليس فيها أزيد من أنّ من ألزم نفسه الحجّ فليترك الرفث والفسوق والجدال أما أن الإلزام يكون بماذا؟ فلم تتعرّض له الآية، فليلتمس بيانه من السنّة.
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ.
الرفث: تقدّم بيانه في آية الصوم والفسوق، والفسق: مصدران بمعنى واحد، وهو الخروج عن طاعة الله إلى المعصية، وهو وإن كان قد أطلق في بعض المواضع مرادا منه نوع خاص، إلا أنه اسم عامّ يجب أن يبقى على عمومه، لا يخرج منه شيء إلا ما يخرجه الدليل. والدليل هنا غير موجود.
والجدال «١» فعال من المجادلة، وأصله من الجدل الذي هو الفتل، يقال: زمام مجدول، مفتول، والجديل: الزمام، لأنه لا يكون إلا مفتولا، وسمّيت المخاصمة جدالا، لأنّ كلا من الخصمين يودّ لو يقدر على فتل صاحبه، وقد ذكر المفسّرون وجوها كثيرة في تفسير هذه الكلمات، وكلها تخرجها عن عمومها، وخيرها ما ذكره القاضي من أن المراد من الآية الحثّ والترغيب على الأخلاق الفاضلة، فهي خبر لفظا، نهي معنى، ويراد من الرفث: الجماع ومقدماته، وقول الفحش. ومن الفسوق جميع أنواع المعاصي، ومن الجدال جميع أنواع الخصام.
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ أعدوا عدتكم بسفركم لملاقاة ربّكم يوم العرض عليه، وتزوّدوا من التقوى، فإنّها خير زاد يبلغ بكم السلامة والعافية.
قال الأعشى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى ولا قيت بعد الموت من قد تزوّدا
(١) الجدال: المراء والخصومة انظر، لسان العرب لابن منظور (١١/ ١٠٥).
118
ندمت على ألا تكون كمثله وأنّك لم ترصد لما كان أرصدا
وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فإنّ الجدير بأصحاب العقول أن يتسلّحوا بالتقوى من مفرّهم إلى مقرّهم.
قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) لما كان الله تعالى قد منع الجدال في الحجّ، وكانت المعاملات التجارية تفضي إلى الجدال والمخاصمة، فكانت التجارة مظنّة المنع، وأيضا لما حظر لبس المخيط، والإنسان قد يكون شديد الحاجة، وكانت التجارة مظنّة الحظر، فمن أجل ذلك قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
وقد روى عطاء أن ابن مسعود وابن الزبير كانا يقرءان (أن تبتغوا فضلا من ربّكم في مواسم الحجّ) ومن هنا قال بعض المفسرين: الفضل هنا التجارة، ونظيره قوله تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: ٢٠].
وقد روي في سبب النزول عن ابن عباس «١» أنه قال: كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيام الحج، وإذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع والشراء بالكلية. وبالغوا في الاحتراز من الأعمال، إلى أن امتنعوا من إغاثة الملهوف، فأزال الله هذا الوهم، وبيّن أن لا جناح في التجارة.
هذا هو الذي حمل جمهور المفسرين على أن يذهبوا إلى أنّ المراد التجارة في أيام الحج.
وذهب أبو مسلم إلى أن المراد التجارة بعد انقضاء أعمال الحج، والتقدير عنده: فاتقون في كلّ أعمال الحج، ثم بعد ذلك لا جناح عليكم، وهو نظير قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: ١٠].
وظاهر الآية يأبى هذا، فإنه قال بعد هذه الآية: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ بالفاء، وهو يدل على أن ابتغاء الفضل سابق على ذلك، وقبل عرفات لم يتم الحجّ.
ثم إنهم اتفقوا على أن التجارة المباحة هي التي لا يترتب عليها نقصان في الطاعة ولا تشغله عن أعمال الحج. وأما تلك فهي غير مباحة.
(١) رواه البخاري في الصحيح (٥/ ١٨٦)، ٦٥- كتاب تفسير القرآن، ٣٤- باب لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ حديث رقم (٤٥١٩).
119
فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ.
الإفاضة: الاندفاع في السير بكثرة، منه: أفاض البعير بجرّته: ألقاها منبثة، وأفاض الأقداح في الميسر: جمعها، ثم ألقاها متفرقة. وإفاضة الماء من هذا.
والإفاضة في الحديث: الاندفاع فيه بكثرة، وتصرّف في وجوهه.
فمعنى قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ دفعتم أنفسكم بكثرة مِنْ عَرَفاتٍ جمع عرفة، هي اسم لموضع واحد، ولكنه لسعته، ووقوف الناس فيه جماعات وأفرادا، وموضع كل فرد وجماعة منه بالنسبة إليها في حجها عرفة، قيل له عرفات من أجل ذلك.
واليوم التاسع من ذي الحجة يقال له: يوم عرفة، لأنه يوم الوقوف بعرفة.
والوقوف بعرفة ركن، لا يدرك الحجّ إلا من أدركه، ولا نعلم خلافا بين العلماء في ذلك، إلا ما روي عن الحسن أنه قال: إنه واجب، من أدركه فقد أدّاه، ومن لا، فيكفيه الوقوف بجمع.
وفي الآية دلالة على أنّ الوقوف بعرفة لا بدّ منه، لأنه قد رتّب عليه الأمر بالذكر عند المشعر الحرام، وهو واجب مشروط بالإفاضة من عرفات، والإفاضة من عرفات تستدعي الوجود في عرفات، وما لا يتمّ الواجب ألا بوجوده فهو واجب، والمشعر الحرام المراد منه: المزدلفة. والوقوف بها قيل: سنة، وقيل: واجب. وعن علقمة وقتادة أنهما قالا: إن الوقوف بها ركن.
وقد اختلف في الذكر المطلوب عند المشعر الحرام، فقال بعضهم: المراد منه الجمع بين صلاة المغرب، وصلاة العشاء بمزدلفة، ولعل في
قوله صلّى الله عليه وسلّم لمن سأله أن يصلّي في الطريق «الصلاة أمامك» «١»
إشارة إليه.
وقال بعضهم: بل المراد الذكر باللسان: من التسبيح، والتحميد، والتهليل والتلبية، وقد ورد عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس وقال: كان الناس في هذه الليلة لا ينامون.
وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي واذكروه لهدايته إياكم، على حدّ قوله: كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ.
وقد قيل: إنه كرّر الأمر بذكر الله لأنّ الأمر الأوّل ذكر لساني، والآخر قلبي، ويحتمل أنه كرّر الأمر بالذكر للحث على مواصلة الذكر، كأنه قيل: واذكروه واذكروه، أي اذكروه ذكرا بعد ذكر، ويرجع في المعنى إلى قوله تعالى:
(١) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٩٣٤)، ١٥- كتاب الحج، ٤٧- باب الإفاضة من عرفات حديث رقم (٢٧٦/ ١٢٨٠). [.....]
120
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) [الأحزاب: ٤١] وقد قيل: إن المراد بالهداية: هدايتهم إلى سنة إبراهيم، وقيل: بل هي عامة.
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) الجمهور على أنّ المراد من هذه الإفاضة الإفاضة من عرفات، ويؤيدهم ما روي في أسباب النزول: من أنّ الآية أمر لقبيلة قريش، ومن دان دينها وهم الحمس، كانوا لا يتجاوزون المزدلفة، لأنّها من الحرم «١»، وعرفة في الحل، والحرم معظّم عندهم، وقصر الوقوف على عرفة ربما أشعر بمزيتها على الحرم، فأنزل الله هذه الآية ليقفوا حيث يقف الناس، ويفيضوا من حيث يفيضون، لا يشذّون عنهم.
وذهب الضّحاك إلى أن المأمور به هنا هو الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر.
وقد استشكل الفخر الرازي كلا من القولين:
أما الأول: فلأنّ قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يدل بظاهره على إفاضة غير الإفاضة المذكورة في قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ لأنها معطوفة عليها بثمّ، هي للترتيب، ولو كانت هي للعطف، لكان ذلك عطفا للشيء على نفسه.
وقد أجيب عنه بأجوبة كثيرة:
منها أن ثمّ بمعنى الواو.
ومنها أن ثمّ للترتيب الذكري.
ومنها أن ثُمَّ أَفِيضُوا معطوف على قوله: وَاتَّقُونِ، وقد أجاز بعضهم أن تكون هذه الآية متقدمة على تلك. ولكنه مجرد احتمال.
واستشكل قول الضحّاك بأن الذي ذهب إليه يتمشى إذا أريد بقوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ الزمان الذي يفيضون فيه، مِنْ حَيْثُ يأبى هذا، لأنها للمكان لا للزمان.
وقد أجاب عنه بأن التوقيت بالزمان كالتوقيت بالمكان، فلا يبعد استعارة اللفظ الدالّ على أحدهما للدلالة على الآخر وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال الله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠)
(١) رواه البخاري في الصحيح (٥/ ١٨٦)، ٦٥- كتاب تفسير، ٣٥- باب ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ حديث رقم (٤٥٢٠)، ومسلم في الصحيح (٢/ ٨٩٣)، ١٥- كتاب الحج، ٢١- باب في الوقوف حديث رقم (١٥١/ ١٢١٩).
121
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) لما كانت أعمال الحج كثيرة، وهي لا تخلو عن تقصير، أمرهم بالاستغفار، وقد يكون فيه إشارة إلى ترجيح أن الإفاضة المأمور بها هي من عرفات، على نحو ما ورد في سبب النزول، فكأنّ ما وقع من الحمس يؤاخذ عليه، فلذلك طلب منهم الاستغفار.
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. روى ابن عباس أنّ العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم يعدّ الواحد منهم أيام آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ويتناشدون فيها الأشعار. فلما أنعم الله عليهم بنعمة الإسلام أمرهم بأن يذكروه كذكرهم لآبائهم.
وروى القفال عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على راحلته القصواء يوم الفتح، يستلم الركن بمحجنه «١»، ثم حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد أيها الناس! إنّ الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها! إنما النّاس رجلان: برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هيّن على الله، والنّاس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، ثم تلا:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ.. [الحجرات: ١٣] ثم قال:
«أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم»
«٢».
والمراد من قضاء المناسك الفراغ منها، والمناسك جمع منسك، وهو مصدر، بمعنى النسك، أي العبادة، والمعنى فإذا فرغتم من عبادتكم التي أمرتم بها في الحج فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً.
اختلفوا في هذا الذكر المأمور به، فمنهم من حمله على الذكر على الذبيحة، ومنهم من حمله على الذكر الذي هو التكبير بعد الصّلاة في يوم النحر وأيام التشريق، لأنّه لم يعرف في هذه الأيام ذكر خاص إلا هذا الذكر. وقيل: بل كان القوم في الجاهلية اعتادوا ذكر مفاخرهم، وتعداد مناقبهم، وآبائهم، فأمرهم الله هذا ليحوّلهم عن هذه العادة القبيحة، وقيل غير هذا.
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً معناه: أنّ الأجدر بكم، وقد أنعم الله عليكم بشهود الحجّ أن تشتغلوا بذكر الله، لا بذكر آبائكم، يعني تتوفّروا على ذكره، كما كنتم تتوفرّون على ذكرهم، بل هذا أولى، لأن ذكركم وثناءكم على آبائكم قد يكون كذبا.
(١) عصا معوجة، انظر لسان العرب لابن منظور (١٣/ ١٠٨).
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٣٦٣)، كتاب التفسير باب ومن سورة الحجرات حديث رقم (٣٢٧٠).
122
وذهب أبو مسلم إلى أنه مثل في المداومة على ذكر الله، لأنه قد تركز في طبيعة الإنسان أن يذكر آباءه ولا ينساهم، وقوله: أَوْ أَشَدَّ معناه بل أشد.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢).
لما أمر الله تعالى بالذكر ذكر عقبه ما يكون من الناس في الدعاء، ليأخذوا بأحسن الأحوال، ويتركوا غيره، فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ.. الآية فقسّم الناس في الدعاء إلى قسمين:
قسم يقصر دعاءه على أمور الدنيا، والاستزادة من خيراتها، ويسكت عن الآخرة، وكأنّها لا تخطر له على بال، ولا يعنيه من أمورها شيء، ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ الخلاق: النصيب.
وقسم يحرص على طلب خيرى الدنيا والآخرة، وهؤلاء سيؤتيهم الله نصيبهم غير منقوص أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا.
وقد قيل: إن الإشارة في قوله: أُولئِكَ راجع إلى الفريقين: يعني الذين طلبوا الدنيا فقط، والذين طلبوهما معا.
وقيل: بل هو راجع للقسم الثاني فقط، والدليل عليه أن الله ذكر حكم الفريق الأول بقوله: ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.
قد يقال: كيف رجع قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا إلى الفريق الثاني، مع أنه مشعر بتحقير الجزاء؟
ويجاب عنه بأنّ المراد: لهم نصيب في الدنيا والآخرة يبتدئ من كسبهم، فمن لابتداء الغاية، لا للتبعيض، والكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله، وقد يكون نفعا، وقد يكون ضررا، وقد اختلف في المراد بالفريق المقصود بقوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فقيل: هم الكفار، كانوا يقولون إذا وقفوا: اللهم ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا، وما كانوا يطلبون التوبة والمغفرة، فأخبر الله أن من كان من هذا القبيل فلا خلاق له في الآخرة.
وقيل: هؤلاء قد يكونون مؤمنين، ولكنهم يسألون الله لدنياهم لا لأخراهم، وهو سؤال يعدّ ذنبا في هذه المواقف العظيمة، حيث يسألون فيها حطام الدنيا، ويعرضون عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة.
قيل: الحسنة في الدنيا عبارة عن: الصحة والأمن والكفاية والولد الصالح
123
والزوج الصالحة والنصرة على الأعداء. وأما الحسنة في الآخرة فهي: الفوز بالثواب، والخلاص من العقاب.
وبالجملة، فقوله: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً كلمة جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ حساب الله آت لا محالة، وما دام محقق الوقوع، فهو قريب سريع.
قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) وقد ورد الذكر في الحج في الأيام مرتين، فمرة في سورة البقرة بلفظ المعدودات، وهي الآية التي معنا وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ومرة في سورة الحج بلفظ معلومات في قوله: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [الحج: ٢٨] فذهب الشافعيّ رضي الله عنه إلى أنّ المعلومات هي العشرة الأوائل من ذي الحجة، آخرها النحر، وأما المعدودات فهي ثلاثة بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق.
وقد أكد القفّال هذا بما رواه في تفسيره أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر مناديا ينادي: «الحجّ عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحجّ. وأيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه» «١»
وهذا يدل على أن الأيام المعدودات هي: أيام التشريق.
قال الواحدي «٢» : أيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهذه الأيّام الثلاثة مع يوم النحر كلّها أيام نحر، وأيام رمي الجمار هذه الأيام الأربعة، وهي مع يوم عرفة أيام التكبير عقيب الصلوات على ما سنذكره، ثم إن المراد بالذكر في هذه الأيام الذكر عند الجمرات، والذكر أدبار الصلوات، لم يخالف أحد في ذلك، إنما الخلاف في بدء هذه الصلوات وانتهائها.
فقيل: إنها تبدأ من ظهر يوم النحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق، فتكون الصلوات التي يكبّر عقبها خمس عشرة صلاة، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، وبه قال مالك، والشافعي في أحد قوليه.
وعن الشافعي: أنه يبدأ بالتكبير من صلاة المغرب ليلة النحر، وعنه أنّه يبدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة، ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر، وهي رواية عن أبي حنيفة.
(١) رواه أبو داود في السنن (٢/ ١٤٧)، كتاب المناسك باب من لم يدرك عرفة حديث رقم (١٩٤٩)، والنسائي في السنن (٥- ٦/ ٢٩٢)، كتاب المناسك، باب فيمن لم يدرك الصبح في مزدلفة حديث رقم (٣٠٤٤)، والترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ٢٣٧)، كتاب الحج باب فيمن أدرك الإمام حديث رقم (٨٨٩).
(٢) علي بن أحمد بن محمد أبو الحسن الواحدي النيسابوري. مفسّر عالم بالأدب توفي سنة (٤٦٨ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٤/ ٢٥٥).
124
ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ
وعن الشافعي أيضا: أنه يبدأ التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة، وينقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، فتكون الصلوات ثلاثا وعشرين صلاة، وهو قول أكابر الصحابة: كعلي وعمر وابن مسعود، وابن عباس ومن الفقهاء: الثوري وأبو يوسف، ومحمد وأحمد وإسحاق، والمزني، وابن سريج «١»، وعليه عمل الناس في البلدان.
وروى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه صلّى الصّبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال:
«الله أكبر» ومدّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق.
وأمّا عدد التكبيرات فيعرف في الفقه فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى.
معناه: من تعجّل في الإتيان بالمطلوب في الثلاثة، بأن جعله في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخّر بأن أوقعهن في الثلاثة، بأن ترك رخصة التعجل، فلا إثم عليه.
وقيل: إن المعنى فَمَنْ تَعَجَّلَ بأن نفر من منى في اليوم الثاني فلا إثم عليه، ومن تأخر عن الثلاثة بأن بقي إلى الرابع فلا إثم عليه، وقد قيل غير هذا، فارجع إليه في الفقه إن شئت.
لِمَنِ اتَّقى المعنى: أنّ هذه المغفرة إنما تكون للمتقين الذين لم يلبسوا حجهم بالمظالم والمآثم، كما قال الله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: ٢٧].
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تأكيد للأمر بالتقوى، وحمل على التشديد فيه، والحشر: اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف. وذلك يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩) [الانفطار: ١٩].
قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
خَيْرٍ: المراد به هنا المال.
اليتيم: من فقد والده وهو صغير، فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم.
المسكين: من عجز عن كسب ما يكفيه، وسكن إلى الرضا بالقليل.
ابن السبيل: المسافر، وسمّي به لملازمته إياه، كما يقال للرجل الذي أتت عليه الدهور: ابن الأيام والليالي.
يقول الله تعالى: يسألك أصحابك يا محمد أي شيء ينفقونه من أموالهم في الصدقة؟ وعلى من ينفقون؟
(١) أحمد بن عمر بن سريج البغدادي أبو العباس من كبار فقهاء الشافعية ولد وتوفي في بغداد، انظر الأعلام للزركلي (١/ ١٨٥).
125
فقل لهم: ما أنفقتم من أموالكم فاجعلوه لآبائكم، وأمهاتكم وأقربائكم واليتامى منكم، الذين مات كافلهم، والمساكين الذين عجزوا عن الكسب والمسافرين الذين انقطعت بهم السبل وما تأتوا من خير فإنّ الله به عليم، فيجازيكم عليه. وقد اختلف في هذه الآية.
١- فقيل: إنها منسوخة بآية الزكاة إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التوبة: ٦٠].
٢- وقيل: إنها غير منسوخة، وهو الأولى وهي لبيان صدقة التطوع، فإنّه متى أمكن الجمع فلا نسخ.
وقد بينت الآية أنّ صدقة التطوع في الوالدين والأقربين أفضل، ويدل على ذلك ما
روي عن صدقة النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا معشر النّساء، تصدّقن ولو من حليّكنّ». فقالت زينب امرأة عبد الله بن مسعود لزوجها: أراك خفيف ذات اليد فإن أجزأت عنّي فيك صرفتها إليك، فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسألته فقالت: أتجزئ الصدقة على زوجي وأيتام في حجري؟ فقال لها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «نعم، ولك أجران:
أجر الصدقة وأجر القرابة»
«١».
وفي رواية: «زوجك وولدك أحقّ من تصدّقت عليه» «٢».
وروى النّسائي وغيره أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يد المعطي العليا. أباك، وأمّك وأختك، وأخاك، وأدناك أدناك» «٣».
وروى مسلم عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها» «٤».
قال قيل: إنهم سألوا عن المنفق، وأجيبوا ببيان المنفق عليهم، فلم يتطابقا؟
قيل: إن ذلك على أسلوب الحكيم. فقد سألوا عن شيء، وأجابهم عما هو أهم منه، وهو بيان مواطن الإنفاق، لأنّ الإنفاق لا يحدث الخير الذي يؤدي إليه حتى يصادف موقعه. قال الشاعر:
إنّ الصّنيعة لا تكون صنيعة حتّى يصاب بها طريق المصنع
(١) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ١٥٥)، ٢٤- كتاب الزكاة، ٤٨- باب الزكاة على الزوج حديث رقم (١٤٦٦)، ومسلم في الصحيح (٢/ ٦٩٤)، ١٢- كتاب الزكاة ١٤- باب فضل النفقة حديث رقم (٤٥/ ١٠٠٠).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ١٥٤)، ٢٤- كتاب الزكاة، ٤٤- باب الزكاة على الأقارب حديث رقم (٢/ ١٤٦).
(٣) رواه أحمد في المسند (٢/ ٢٢٦).
(٤) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٦٩٢)، ١٢- كتاب الزكاة، ١٣- باب الابتداء في النفقة حديث رقم (٤١/ ٩٩٧).
126
ومن نظر إلى أحوال مصر وجد الإحسان فيها فوضى، وما أحوجها إلى عمل ينتظم به الإحسان، ليقع موقعه، ويصيب أهله.
قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦).
كتب: فرض.
الكره بالضم: ما حمل الرجل نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه. والكره بالفتح: ما حمله عليه غيره، قال معاذ بن مسلم «١» الكره: المشقة، والكره: الإجبار، وقال بعضهم: الكره والكره لغتان بمعنى واحد، كالغسل والغسل، والضعف والضعف، وقيل: هو بفتح الكاف اسم، وبالضم مصدر. وهو إما على حذف مضاف. أي ذو كره، أو من باب الوصف بالمصدر مبالغة كقولها:
فإنّما هي إقبال وإدبار وقيل: إن المصدر أقيم مقام اسم المفعول.
المعنى: فرض عليكم أيها المسلمون قتال الكفار، وهو كره لكم، ولعلّكم تكرهون شيئا وهو خير لكم، ولعلكم تحبون شيئا وهو شرّ لكم، إذ هم يكرهون القتال وفيه الفتح والغنيمة والشهادة والقوة. ويحبون القعود، وفيه الذلّ والاستعباد، والله يعلم ما هو خير لكم مما هو شر لكم. فلا تكرهوا ما فرض عليكم من القتال. فإنّه يعلم أنه خير لكم في عاجلكم، ولا تحبوا القعود، فإنّه شر لكم، فإنّ الدنيا بنيت على التدافع، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه الله، وقد اختلف في الذين كتب عليهم القتال في هذه الآية:
١- قال الأوزاعي: نزلت في الصحابة، فهم الذين كتب عليهم الجهاد، وبه قال عطاء.
٢- وقال غيرهما: إنّ القتال قد كتب على جميع المسلمين، لكن تختلف الحال، فإن كان الإسلام ظاهرا فهو فرض على الكفاية، وإن كان العدو ظاهرا فهو فرض على الأعيان، حتّى يكشف الله ما بهم، وهذا هو الظاهر.
وقد روى البخاري عن مجاشع: قال أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم أنا وأخي، فقلت: بايعني على الهجرة، فقال: «مضت الهجرة لأهلها» «٢».
قلت: علام تبايعنا؟
(١) أبو مسلم الهرّاء النحوي أديب معمر، من أهل الكوفة، انظر الأعلام للزركلي (٧/ ٢٥٨).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٤/ ١١)، ٥٦- كتاب الجهاد، ١١٠- باب البيعة في الحرب حديث رقم (٢٩٦٢، ٢٩٦٣)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٤٨٧)، ٣٣- كتاب الإمارة حديث رقم (٨٣/ ١٨٦٣).
127
قال: على الإسلام، والجهاد.
وقد روي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة، وإذا استنفرتم فانفروا» «١».
قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨).
قِتالٍ بدل من الشهر.
كَبِيرٌ عظيم.
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مبتدأ وخبره أكبر عند الله.
وَكُفْرٌ بِهِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ عطف عليه. وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على سبيل الله.
وَالْفِتْنَةُ الشرك.
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ يرجع عنه.
حَبِطَتْ بطلت، وبطلانها ذهاب ثوابها.
ذكر في أسباب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث عبد الله بن جحش- وهو ابن عمته- في ثمانية من المهاجرين في رجب، مقفله من بدر الأولى، ليأتوه بأخبار قريش، ولم يأمرهم بقتال، فمضوا، حتى كانوا بنجران، فأضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلّفا يطلبانه، ومضى القوم حتّى نزلوا نخلة، فبينما هم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش فيهم عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل. وأشرف لهم عكّاشة بن محصن من أصحاب عبد الله بن جحش، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه حليقا قالوا: عمّار فليس عليكم منهم بأس، وأتمر بهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا:
لئن قتلتموهم لنقتلنهم في الشهر الحرام، ولئن تركتموهم ليدخلنّ في هذه الليلة الحرم، فليمتنعنّ منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الملك التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل،
(١) رواه البخاري في الصحيح (٣/ ١٤٨٨)، ٣٣- كتاب الإمارة، ٢٠- باب المبايعة بعد الفتح حديث رقم (٨٨/ ١٨٦٦).
128
واستاقوا العير، فقدموا بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لهم: «ما أمرتكم بالقتال في الشّهر الحرام» فوقّف رسول الله الأسيرين والعير، فسقط في أيديهم، وظنّوا أن قد هلكوا، وقالت قريش: قد سفك محمد الدم الحرام، وأخذ المال، وأسر الرّجال، واستحلّ الشهر الحرام، فنزل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ الآية، فأخذ النبي العير، وفدى الأسيرين «١».
وفي بعض الروايات أن قريشا لما بلغهم الخبر أرسلوا وفدا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أيحلّ القتال في الشهر الحرام فنزلت.
وقال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا.. الآية.
المعنى: يسألك يا محمد أصحابك عن القتال في الشهر الحرام، وهو رجب، قل: قتال فيه إثم كبير وصدّ قريش عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وكفرهم بالله، وإخراجكم من المسجد الحرام وأنتم أهله، كلّ أولئك أكبر إثما عند الله من قتل من قتلتم منهم وقد كانوا يفتنون المسلم عن دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند الله من القتل، أي أنكم أيها المسلمون ترتكبون أخفّ الضررين، وأهون الشرين، وتزيلون إثما كبيرا بما هو أقلّ منه.
وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا أي: هم مقيمون على الشر والمنكر، ومن يرجع منكم عن دينه، فيمت وهو كافر قبل أن يتوب، فهم الذين بطلت أعمالهم، وذهب ثوابها والأجر عليها، وهم أهل النار المخلّدون فيها، الماكثون فيها من غير أمد ولا نهاية.
إنّ الّذين صدّقوا بالله، والذين هاجروا مساكنة المشركين فيها في ديارهم، وكرهوا سلطان المشركين، فتحوّلوا عنه خوفا من أن يفتنهم المشركون، وحاربوهم في دين الله، أولئك يطمعون في رحمة الله، والله ساتر ذنوب عباده، ورحيم بهم، ومن المهاجرين عبد الله بن جحش وأصحابه، فنزلت هذه لتطمينهم.
وعلى الرواية الثانية- وهي أنّ وفدا من المشركين سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن القتال في الشهر الحرام- يكون المعنى: إن المشركين متناقضون، يتمسّكون بحرمة الشهر الحرام، ويفعلون ما هو أكبر من ذلك: من الصد عن سبيل الله، ومع الكفر به، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه والفتنة التي فتنوا بها بعض المسلمين عن دينهم أكبر إثما عند الله، فهم كمن يبصر القذاة في عين أخيه، ويغفل عن الخشبة المعترضة في عينه.
(١) ذكره الإمام الواحدي النيسابوري في كتابه أسباب النزول صفحة (٦٤). [.....]
129
الأحكام
دلت هذه الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام، وهل بقيت الحرمة أم نسخت؟
اختلف في ذلك المفسّرون: فذهب عطاء إلى أن هذه الآية لم تنسخ، وكان يحلف على ذلك، ولعلّ ذلك لأنّ الآية التي تأمر بالقتال عامة في الأزمنة، وهذه خاصة، والعام لا ينسخ الخاصّ.
وقال سائر العلماء: إنها منسوخة. وقد اختلف في الناسخ، فقيل: هو وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: ٣٦] وقيل: هو: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: ٢٩].
وإنما ذهب العلماء إلى نسخها، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم، ولو كان القتال فيهن حراما لما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ابن العربي:
والصحيح أن هذه الآية ردّ على المشركين حين أعظموا على النبي القتال في الشهر الحرام. فقال تعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ وهي الكفر في الشهر الحرام أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فإذا فعلتم ذلك كله في الشهر الحرام تعيّن قتالكم فيه.
المرتد
وأخذ الشافعي من قوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة كافرا، وذهب مالك إلى أن الردة نفسها محبطة للعمل اعتمادا على قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥].
ويظهر أثر الخلاف فيمن حجّ مسلما، ثم ارتد، ثم أسلم، فقال مالك: عليه الحجّ، لأنّ ردته أحبطت حجّه، وقال الشافعي: لا حجّ عليه، لأنّ حجه قد سبق، والردة لا تحبطه إلا إذا مات على كفره.
وقد رأى المالكية أنّ هذه الآية رتبت حكمين:
الحبوط. الخلود في النار، ومن شرط الخلود أن يموت على كفره، ولذلك شرطه.
أما آية لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ فهي في الردة فقط، وقد علّق الحبوط بمجرد الشرك، والخطاب وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم فهو مراد به أمته، لاستحالة الشرك عليه.
أما الشافعية فيرون أن آية لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ من باب التغليظ على النبي صلّى الله عليه وسلّم
130
كما غلظ على نسائه في قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: ٣٠].
قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩).
الخمر: مادة (خ م ر) تدل على الستر، ومنه خمار المرأة، لأنّه يستر رأسها.
وقولهم للضبع: خامري أم عامر: أي استتري.
وسميت الخمر خمرا لأنها تستر العقل، وهي ما أسكر من عصير العنب، أو ما أسكر من عصير العنب ومن غيره على الخلاف في ذلك.
الميسر: مفعل. من يسرت الشيء إذا جزّأته، ويطلق على الجزور، لأنّه موضع التجزئة، ويقال للجازر: ياسر، ويسر. ويقال للضاربين بالقداح المتقامرين على الجزور: يأسرون، لأنّهم أيضا جازرون إذا كانوا سببا لذلك، والميسر الذي ذكره الله وحرّمه هو ضرب القداح على أجزاء الجزور قمارا، ثم قد يقال للنّرد ميسر على طريق التشبيه، لأنّه يضرب عليها بفصين، كما يضرب على الجزور بالقداح، ولأنّه قمار، كما أن الميسر قمار، قال مجاهد: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالخرز.
الإثم: الذنب، وقد أثم بالكسر إثما. ومأثما، إذا وقع في الإثم، فهو آثم، وأثيم، وأثوم، المراد به هنا: كل ما ينقص من الدين عند من يشربها، وما فيها من إلقاء العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله.
المعنى: يسألك أصحابك يا محمد عن شرب الخمر، ولعب الميسر. قل:
فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ أما إثم الخمر، فإنّ الجماعة تشرب فتسكر، فتؤذي الناس، وتقع العداوة والبغضاء، أما إثم الميسر، فهو أن يقامر الرجل فيمنع الحقّ، ويظلم، فتقع العداوة والبغضاء.
وفيهما منافع للناس، أما منفعة الخمر، فهي الاتجار بها، وما يصلون إليه من اللذة والنشوة، وبسط يد البخيل، وتقوية قلب الجبان، كما قال حسان:
ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللّقاء
ومنفعة الميسر ما يصيبهم من أنصباء الجزور. وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور، إذا فلج الرجل منهم صاحبه نحره، ثم اقتسموه أعشارا على عدد القداح.
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضا، وإذا قامروا وقع بينهم الشر، كما قال تعالى:
131
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) [المائدة: ٩١].
سبب نزول هذه الآية: اختلف العلماء في سبب نزولها، فروى الترمذي «١» أن عمر رضي الله عنه قال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت الآية التي في البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ.. الآية فدعي عمر فقرئت عليه. فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت التي في النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣] فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه، ثم قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء. فنزلت التي في المائدة إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه، فقال: انتهينا انتهينا.
وروى ابن جرير «٢» عن زيد بن علي قال: أنزل الله عزّ وجلّ في الخمر ثلاث مرات، فأول ما أنزل قال الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما قال: فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك، حتى شرب رجلان، فدخلا في الصلاة، فجعلا يهجران كلاما، لا يدري عوف ما هو.
فأنزل الله عزّ وجلّ فيهما: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فشربها من شربها منهم وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتى شربها فيما زعم أبو القموص فجعل ينوح على قتلى بدر بأبيات منها:
تحيّي بالسّلامة أمّ عمرو وهل لك بعد رهطك من سلام ذريني أصطبح بكرا فإني رأيت الموت نقّب عن هشام وودّ بنو المغيرة لو فدوه بألف من رجال أو سوام قال: فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء فزعا يجر رداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا كان بيده ليضربه قال: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله، والله لا أطعمها أبدا، فأنزل الله تحريمها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة: ٩٠] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر بن الخطاب: انتهينا، انتهينا.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن آية البقرة لا تقتضي التحريم، ولذلك شربها بعض الصحابة بعد نزولها، كما هو ظاهر الروايات.
(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٢٣٦)، كتاب التفسير حديث رقم (٣٠٤٩).
(٢) رواه ابن جرير الطبري، جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٢١١).
132
وقال بعضهم: إنها تقتضي التحريم، لأنّ الله قال: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ: وقد حرم الله الإثم بقوله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ [الأعراف: ٣٣] وإنما شربها من شربها متأوّلا.
ما هي الخمر؟
اختلف العلماء فيما هي الخمر، فذهب مالك والشافعي، وأحمد، وأهل الحجاز وجمهور المحدّثين إلى أنها الشراب المسكر من عصير العنب وغيره، فالشراب المسكر من عصير التمر، والشعير، والبرّ خمر.
وقال العراقيون: أبو حنيفة، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى «١»، وشريك وابن شبرمة: الخمر من الشراب المسكر من عصير العنب فقط، أما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو الشعير فلا يسمّى خمرا، بل يسمّى نبيذا.
ولمّا ذهب الحجازيون إلى أن الخمر اسم لكل ما أسكر- سواء أكان من عصير العنب أم من التمر، أم من الشعير أم من غيره- كانت هذه كلّها حراما، بالآيات التي وردت في تحريم الخمر. وكانت كلّها سواء في التحريم، قليلها وكثيرها.
ولمّا ذهب الكوفيون إلى أن الخمر اسم لما اتّخذ من عصير العنب فقط- كان المحرم بالآيات ما يطلق عليه اسم الخمر، وهو المسكر من عصير العنب، أما ما اتخذ من غيرها- وهو المسمى نبيذا- فليس بداخل عندهم في تحريم الخمر، وقد بحثوا له عن حكم في السنة، فوجدوا أنّ القليل الذي لا يسكر من الأنبذة حلال، وأنّ المسكر منها هو الثالث دون الكأسين.
وقد استدل الحجازيون لمذهبهم بأنّ اللغة والشرع يدلّان على أنّ المسكر من الأنبذة يسمّى خمرا، أما اللغة فلأنّ الاشتقاق اللغوي يرجّحه. وهو أنها سمّيت خمرا لمخامرتها العقل، وهذه الأنبذة تخامر العقل، وهذا ضعيف، لأن اللغة لا تثبت قياسا.
وأما الشرع
فقد روى مسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام» «٢».
(١) عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، الفقيه الحافظ، قتل في وقعة الجماجم، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (٥/ ٢٤٥) ترجمة (٤٦٣).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٥٨٧)، ٣٦- كتاب الأشربة، ٧- باب بيان أن كل مسكر خمر حديث رقم (٧٣/ ٢٠٠٣).
133
وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخمر من هاتين الشّجرتين:
النخلة والعنبة»
«١».
وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ من العنب خمرا، وإنّ من العسل خمرا، ومن الزّبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا، وأنا أنهاكم عن كلّ مسكر» «٢».
فذلك جميعه يدل على أن الأنبذة تسمّى خمرا فتكون حراما، ويدل على حرمتها- قليلها وكثيرها- ما
روي عن عائشة أنها قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البتع وعن نبيذ العسل فقال صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ شراب أسكر فهو حرام» «٣» أخرجه البخاري
وما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» «٤».
وقد احتجّ العراقيون على أنّ الأنبذة لا تسمّى خمرا، ولا يسمّى خمرا إلا الشيء المشتدّ من ماء العنب باللغة وبالسنة أيضا.
أما السنة فما
روي عن أبي سعيد الخدري قال: أتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنشوان فقال له:
«أشربت خمرا؟» فقال: ما شربتها منذ حرّمها الله ورسوله. قال: «فما شربت؟» قال:
الخليطين. قال: فحرّم رسول الله الخليطين «٥»
. فنفى الشارب اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينكره عليه. قالوا: ولو كان ذلك يسمّى خمرا لما أقرّه عليه، إذ كان في نفي الاسم الذي علّق به حكم نفي الحكم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لا يقرّ أحدا على حظر مباح، أو إباحة محظور.
وقد روي عن أنس بن مالك يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخمر بعينها حرام، والسّكر من كلّ شراب» «٦».
وأما اللغة فقول أبي الأسود الدؤلي وهو حجة في اللغة:
دع الخمر تشربها الغواة فإنّني رأيت أخاها مغنيا بمكانها
(١) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٥٧٣) - كتاب الأشربة، ٤- باب بيان أن جميع ما ينبذ حديث رقم (١٣/ ١٩٨٥).
(٢) رواه أحمد في المسند (٤/ ٢٧٣)، وأبو داود في السنن (٣/ ٣٢٥)، كتاب الأشربة باب الخمر حديث رقم (٣٦٧٦)، والترمذي في الجامع الصحيح (٤/ ٢٦٢)، كتاب الأشربة، باب في الحبوب حديث رقم (١٨٧٣).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٣٠٢)، ٧٤- كتب الأشربة، ٤- باب الخمر من العسل حديث رقم (٥٥٨٥).
(٤) رواه أبو داود في السنن (٣/ ٣٢٦)، كتاب الأشربة باب النهي عن المسكر حديث رقم (٣٦٨١)، والترمذي في الجامع الصحيح (٤/ ٢٥٨)، كتاب الأشربة باب ما أسكر كثيره حديث رقم (١٨٦٥).
(٥) ذكره الجصاص في كتابه أحكام القرآن (١/ ٣٢٤).
(٦) رواه النسائي في السنن (٥- ٦/ ٧١٨)، كتاب الأشربة، باب الأخبار حديث رقم (٥٦٨٣).
134
فإن لا تكنه أو يكنها فإنّه أخوها غذته أمّه بلبانها
وقد ضعّفوا بعض أحاديث الحجازيين، وحملوا الأخرى على أنّ الأنبذة سمّيت خمرا فيها مجازا.
قالوا: يدلّ على أنه لا يحرم من الأنبذة إلا ما أسكر ما
أخرجه الطحاوي عن أبي موسى قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا ومعاذ إلى اليمن، فقلنا: يا رسول الله، إنّ بها شرابين يصنعان من البرّ والشّعير أحدهما يقال له: المزّ، والآخر يقال له: البتع فما نشرب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «اشربا ولا تسكرا» «١».
قالوا: ويدلّ من جهة النظر لما ذكرناه من أن قليل الأنبذة ليس بحرام أنّ الله ذكر في علّة تحريم الخمر قوله: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فوجب لهذه العلة ألا يحرم من المسكرات إلا القدر المسكر، لأنه هو الذي توجد فيه هذه العلة، ولكن انعقد الإجماع على تحريم قليل الخمر وكثيرها، فوجب أن يبقى قليل الأنبذة على الإباحة.
ونحن إذا تأملنا في أدلّة الفريقين ما ذكر منها وما لم يذكر ترجّح عندنا قول الحجازيين، لأنّ الصحابة لمّا سمعوا تحريم الخمر فهموا منه تحريم الأنبذة، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشّارع. وقد ثبت ذلك من حديث أنس «٢» قال: كنت ساقي القوم حين حرّمت الخمر في منزل أبي طلحة، وما كان خمرنا يومئذ إلا الفضيخ، فحين سمعوا تحريم الخمر أهرقوا الأواني وكسّروها، والفضيخ نقيع البسر.
وقد اتفقوا مع الحجازيين على أنّ الله حرم من عصير العنب الكثير للسّكر، والقليل، لأنّه ذريعة إلى الكثير، فوجب أن يكون كذلك في سائر الأنبذة، حيث لا فارق.
تحريم الميسر
قد ذكر الله الميسر مع الخمر هنا، كما ذكره معها في آية المائدة [٩٠]، فما قلناه في دلالة الآية على تحريم الخمر يقال أيضا في الميسر.
وقد ذكرنا أصل الميسر واشتقاقه، وأنه كان يطلق على ضرب القداح على أجزاء الجزور قمارا، ثم أطلق على النرد وكل ما فيه قمار. ونريد هنا أن نبيّن صفة الميسر عند العرب باختصار.
(١) انظر شرح معاني الآثار للطحاوي (٤/ ٢٢٠).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٥/ ٢٢٥)، ٦٥- كتاب التفسير، ١٠- باب قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ حديث رقم (٤٦١٧)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٥٧٠)، ٣٦- كتاب الأشربة، ١- باب تحريم الخمر حديث رقم (٣/ ١٩٨٠).
135
قد كانت للقداح التي يضربونها على الجزور عشرة، ذوات الحظوظ منها سبعة:
أسماؤها: الفذّ، التّوأم، الرّقيب، الحلس، النافس، المسبل، المعلّى.
والأغفال التي لا حظّ لها ثلاثة، وأسماؤها: السّفيح، المنيح، الوغد.
وكانت القداح ذوات الحظوظ مختلفة الحظوظ، فكان للفذ منها نصيب، وللتوأم نصيبان، وهكذا إلى السابع المعلّى، فله سبعة أنصباء وكانت على كل قدح منها علامة تدلّ عليه وعلى حظه، فعلى الفذّ فرض، وعلى التوأم فرضان، وهكذا.
والفرض: الحز.
وكان الأيسار سبعة على عدد القداح، لكلّ واحد قدح، وكانوا يضعون القداح في خريطة، ويجلجلونها فيها حتى تختلط، ثم يخرج واحد من فم الخريطة، فإن كان الذي خرج الفذّ فلصاحبه نصيب واحد يأخذه، ويعتزل القوم. ثم يجيل ثانية، حتّى منتهى أقسام الجزور. فالفائزون هم من خرجت قداحهم. والغارمون من لم تخرج قداحهم، وهم يغرّمون ثمن البعير على حسب نصيب القداح، وقد حرم الله ذلك.
وحرّم النرد وسائر أنواع القمار لما فيها من أكل أموال الناس بالباطل، ومن جلب العداوة والبغضاء، ومن تعويد المقامرين على الكسل. وانتظار الربح من القمار دون كدّ وعمل، ولأنّ المقامرين في قمارهم ليسوا ينتجون للأمة شيئا، فليس ربح الفائز منهم في مقابلة إخراج الموادّ الأولية، ولا صنعها، ولا نقلها، ولا توزيعها، ولا تأدية عمل من الأعمال التي تحتاج إليها الأمة وتستفيد منها، فهم حيوانات طفيلية تستفيد من دم المجموع ولا تفيده.
ولسنا ندري: أكان العرب في زمن التنزيل لا يطلقون اسم الميسر إلا على ما ذكرناه من ضرب القداح على أجزاء الجزور؟ فتكون الآية في ذلك فقط، ويكون تحريم ضروب القمار بالقياس. أم كان اسم الميسر يطلق على ذلك وعلى سائر ضروب القمار؟ فيكون تحريم ضروب القمار بالآيات التي حرّمت الميسر، وأيا ما كان فقد اتفق العلماء على تحريم ضروب القمار.
وقد روي عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا، فإنّها من الميسر» «١».
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لعب بالنّرد فقد عصى الله ورسوله» «٢».
وذكر العلماء أنّ المخاطرة من القمار، قال ابن عباس: المخاطرة قمار، وأنّ أهل
(١) ذكره الجصاص في كتابه أحكام القرآن (١/ ٣٢٩).
(٢) رواه أبو داود في السنن (٤/ ٣١٠)، كتاب الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد حديث رقم (٤٩٣٨). [.....]
136
الجاهلية كانوا يخاطرون على المال والزوجة، وقد كان ذلك مباحا، إلى أن ورد تحريمه، وقد خاطر أبو بكر المشركين حين نزلت الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) [الروم: ١، ٢]
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «زد في الخطر وأبعد في الأجل» «١»
. ثم حظر ذلك، ونسخ بتحريم القمار.
وقد رخّص في السبق في الدواب والنصال بشروط تطلب من كتب الفروع.
وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.
الْعَفْوَ في كلام العرب: الزيادة. ومن ذلك قوله تعالى: حَتَّى عَفَوْا [الأعراف: ٩٥] زادوا، ومنه قول الشاعر «٢» :
ولكنّا نعضّ السيف منّا بأسوق عافيات الشحم كوم
أي كثيرات الشحوم، والمراد بالعفو هنا: الفضل، أي ما فضل وزاد عن الحاجة، كقولهم: خذ ما عفا لك من أخيك، أي ما فضل عن جهده. قال ابن عباس: العفو: ما فضل عن أهلك، ونقل عن قتادة وعطاء وابن زيد.
المعنى: يسألك أصحابك: ماذا ينفقون؟ قل: أنفقوا ما فضل عن حاجتكم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، بهذا البيان العجيب الذي تقدّم من أول السورة من حججه، وبيناته، وفرائضه، وحدوده، وما فيه نجاتكم من عذابه: يبين لكم في سائر كتابه: آياته، وحججه، لتتفكّروا في الدنيا والآخرة، فتعلموا زوال الأولى وحقارتها، وبقاء الثانية وجلالها. وقد ورد في معنى الآية أحاديث كثيرة:
روى ابن جرير عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال يا رسول الله: خذ هذه مني صدقة، فو الله ما أصبحت أملك غيرها، فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فقال: «هاتها» مغضبا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره، ثم قال: «يجيء أحدكم بماله كلّه يتصدّق به، ويجلس يتكفّف الناس إنّما الصّدقة عن ظهر غنى» «٣».
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ارضخ من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تلام على كفاف» «٤».
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان أحدكم
(١) قال السيوطي: رواه أبو يعلى وابن عساكر انظر الدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي (٥/ ١٥٠).
(٢) لبيد بن أبي ربيعة، انظر تهذيب اللغة للأزهري (٣/ ٢٢٩).
(٣) رواه أبو داود في السنن (١/ ٥١)، كتاب الزكاة، باب الرجل يخرج ماله حديث رقم (١٦٧٣).
(٤) رواه مسلم (بغير هذا اللفظ) في الصحيح (٢/ ٧١٨)، ١٢- كتاب الزكاة، ٣٢- باب بيان أن اليد العليا خير من السفلى حديث رقم (٩٧/ ١٠٣٦).
137
فقيرا فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدّق على غيره» «١».
وقد زعم أناس أن هذه الآية منسوخة، نسختها الزكاة المفروضة، وكأنّهم ظنّوا أنّ الآية تدلّ على وجوب إنفاق ما فضل عن الأهل. والظاهر ما قاله الآخرون من أنها ثابتة الحكم، وليس في الآية ما يدل على وجوب إنفاق الفضل، بل الآية نزلت جوابا لمن سألوا ماذا ينفقون، فبيّن لهم فيه ما فيه لله رضا من الصدقات، وذكر لهم أنه لا يلزمهم أن ينفقوا الجهد في الصدقة.
قال الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) العنت: المشقة. عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [التوبة: ١٢٨] ما شق عليكم. وأعنته:
أي صيّره ذا مشقة.
روي في سبب نزول الآية أنّه لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: ١٠]، تحرّج النّاس عن مخالطتهم في الأموال، واعتزلوهم. فأنزل الله هذه الآية.
المعنى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ «٢».
يعني قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم، وإن تخالطوهم ولم تجانبوهم فهم إخوانكم في الدين، والأخ يخالط أخاه ويداخله، ولا حرج في ذلك، فكانت هذه الآية إذنا في المخالطة مع صحة القصد، لا مع قصد أن ينفع نفسه بهذه الخلطة، ويضرّ باليتيم، ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم بغير حق، فالله يعلم من خالطهم بقصد أكل أموالهم، وإفسادها عليهم ممن خالطهم، وكان قصده إصلاح أموالهم وتثميرها، ولو شاء الله لحرّم ما أحلّه لكم من مخالطة أموالكم بأموال اليتامى، فجهدكم وشقّ عليكم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ غالب يقدر أن يشقّ على عباده ويحرجهم حَكِيمٌ ولكنه لا يكلفهم إلا ما فيه طاقتهم.
الاحكام
دلت هذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح، فيجوز لولي اليتيم أن يبيع ماله، وأن يشتري له، وأن يقسم له، وأن يدفع مالا له لمن
(١) رواه مسلم (بغير هذا اللفظ) في الصحيح (٢/ ٦٩٢)، ١٢- كتاب الزكاة، ١٣- باب الابتداء في النفقة حديث رقم (٤١/ ٩٩٧).
(٢) رواه أبو داود في السنن (٣/ ٣٦)، كتاب الوصايا، باب المخالطة حديث رقم (٢٨٧١)، والنسائي في السنن (٥- ٦/ ٥٦٧)، كتاب الوصايا، باب ما للوصي حديث رقم (٣٦٧١).
138
يعمل فيه قراضا ومضاربة، وأن يعمل فيه الوليّ نفسه قراضا، وأن يخلط ماله بماله إذا كان ذلك صلاحا.
قال أبو بكر الرازي «١» : وقوله: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ يدل على أن لولي اليتيم أن يخالط اليتيم بنفسه في الصهر والمناكحة، وأن يزوّجه بنته، أو يزوج اليتيمة بعض ولده، فيكون قد خلط اليتامى بنفسه وعياله، واختلط هو بهم.
وإذا كانت الآية قد دلّت على جواز خلط مال اليتيم بماله في مقدار ما يظن أن اليتيم يأكله على ما روي عن ابن عباس: فقد دلّت على جواز المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار، فيخرج كلّ واحد منهم شيئا معلوما فيخلطونه ثم ينفقونه، وقد يختلف أكل الناس.
وقد دل قوله: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ على أن التجارة في مال اليتيم وتزويجه ليس بواجب على الوصي، لأنّ ظاهر اللفظ يدلّ على أنّ مراده الندب والإرشاد.
قال الله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) المعنى: ولا تتزوجوا أيها المؤمنون المشركات حتى يؤمن بالله وباليوم الآخر، ولأمة مؤمنة بالله ورسوله أفضل من حرّة مشركة وإن كرم أصلها، وإن أعجبتكم المشركة في الجمال والحسب والمال. ولا تزوّجوا المشركين من نسائكم المؤمنات حتى يؤمنوا بالله ورسوله، ولأن تزوجوهنّ من عبد مؤمن بالله ورسوله خير لكم من أن تزوجوهنّ من حر مشرك وإن أعجبكم في الحسب والنسب والشرف.
هؤلاء الذين حرّمت عليكم مناكحتهم من الرجال المشركين والنساء المشركات يدعونكم إلى العمل بما يودّي بكم إلى النار، فلا تخالطوهم، ولا تصاهروهم، إذ المصاهرة توجب المداخلة والنصيحة، وهؤلاء لا يألونكم خبالا، والله يدعو إلى العمل الذي يوجب الجنة وستر الذنوب بإعلامه إياكم السبيل الحق، ويوضّح حججه وأدلته للناس ليتذكّروا فيميّزوا بين الخير والشر.
وقد اختلف العلماء في هذه الآية، فذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يعمّ كلّ مشركة، سواء أكانت وثنية أم يهودية أم نصرانية، ولم ينسخ أو يخصّ منها شيء، فيكنّ جميعا قد حرّم على المسلم زواجهنّ.
وذهب بعضهم على أن المراد بالمشركات من لا كتاب لهنّ من المجوس
(١) أحكام القرآن للإمام الرازي (١/ ٣٣١).
139
والعرب دون الكتابيات، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركات عامّ في جميع من ذكرن، إلا أنه نسخ بقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: ٥].
وسبب الخلاف أنّ كلّ كافر بالحقيقة مشرك، ولذلك يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كره نكاح اليهودية والنصرانية، وقال: أيّ شرك أعظم ممّن يقول: عيسى الله، أو ولد الله؟ تعالى الله عمّا يقولون علوا كبيرا.
والعرف قد خصص المشرك بمن لا كتاب له من الوثنيين والمجوس. وقال الله:
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وقال: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ [البينة: ١] وقد ورد في سورة المائدة وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: ٥] فبعضهم حمل لفظ المشركات على عمومه، فحرّم كلّ مشركة ولو كتابية.
وزعم أنّ قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ مقيّد بقيد وهو إذا آمنّ، وبعضهم حمل المشركات على عمومه وقال: آية المائدة مخصّصة، وقال بعضهم: هي ناسخة، لأنّها أخرجت الكتابيات من الحرمة.
وبعضهم حمله على العرف الخاص، فقال: لا نسخ ولا تخصيص. وهذه الآية أفادت حكما، وهو حرمة نكاح الوثنيات والمجوسيات، وآية المائدة أفادت حكما آخر، وهو حلّ نكاح الكتابيات، فلم تتعارضا.
وممّن روي عنه القول بحرمة الكتابيات عمر بن الخطاب.
فقد أخرج ابن جرير «١» عن شهر بن حوشب. قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات كل ذات دين غير الإسلام
. وقال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: ٥].
وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب غضبا شديدا، حتى همّ بأن يسطو عليهما، فقالا: نحن نطلّق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب، فقال: لئن حلّ طلاقهنّ لقد حلّ نكاحهنّ، ولكن أنتزعن عنكما حقرة «٢» قمئة.
وقد قال ابن جرير بعد ذلك: وأما القول الذي روى شهر بن حوشب عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنه من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين
(١) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٢٢٢).
(٢) ذلة، انظر لسان العرب لابن منظور (٤/ ٢٠٧).
140
كانتا كتابيتين فقول لا معنى له، لمخالفته ما الأمة مجمعة على تحليله بكتاب الله- تعالى ذكره- وخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول بخلاف ذلك ما هو أصحّ منه إسنادا، وروى بسنده عن عمر:
المسلم يتزوج المسلمة، وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة رضي الله عنهما، نكاح اليهودية والنصرانية حذرا من أن يقتدي بهما الناس، فيزهدوا في المسلمات. أو غير ذلك من المعاني.
ورحم الله عمر بن الخطاب. فقد كان ينظر إلى مصالح المسلمين، نسائهم ورجالهم، ويسوسهم بالنظر والمصلحة، وما أحوجنا إلى مثل هذه السياسة، فإنّ كثيرا من الشباب المسلمين في مصر رغبوا عن الزواج من المحصنات المسلمات إلى الزواج بالكتابيات الأجنبيات.
قال الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) المحيض: هنا الحيض، كالمعيش: أي العيش. قال رؤبة:
إليك أشكو شدّة المعيش ومرّ أعوام نتفن ريشي
أَذىً الأذى ما يؤذي به من مكروه فيه، وسمي المحيض أذى لنتنه وقذره ونجاسته، وقال السدي وقتادة: أذى قذر.
سبب نزول هذه الآية:
قال قتادة: إنّ أهل الجاهلية كانوا لا تساكنهم حائض في بيت، ولا تؤاكلهم في إناء، فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية
، فحرّم فرجها ما دامت حائضا، وأحلّ ما سوى ذلك أن تصبغ رأسك. وتؤاكلك، وأن تضاجعك في فراشك إذا كان عليها إزار محتجزة به دونك «١».
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ اختلف أهل العلم فيما يجب على الرجل اعتزاله من المرأة وهي حائض على أقوال:
١- إن الذي يجب اعتزاله جميع بدن المرأة، وحجتهم في ذلك أن الله أمر باعتزال النساء، ولم يخصّص من ذلك شيئا دون شيء.
٢- الذي يجب اعتزاله موضع الأذى، وذلك مخرج الدم.
أخرج ابن جرير «٢» عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كلّ شيء إلا فرجها، وحجتها ما ثبت في الأخبار
(١) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان (٢/ ٢٢٤).
(٢) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٢٢٦).
141
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يباشر نساءه وهنّ حيّض «١». فعلم من ذلك أن الذي طلب اعتزاله بعض جسدها دون بعض.
ولما أجمعوا على حرمة الجماع، واختلفوا في غيره، أخذوا بالمجمع عليه، وتركوا المختلف فيه.
٣- إن الذي أمر باعتزاله ما بين السرة إلى الركبة، وله ما فوق ذلك ودونه.
وحجتهم ما ثبت عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تأتزر، ثم يباشرها «٢».
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
١- قال أبو حنيفة: يجب أن تؤتى المرأة إذا انقطع دم الحيض ولو لم تغتسل بالماء. إلا أنه إذا انقطع دمها لأكثر الحيض حلّت حينئذ، وإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحل حتّى يمضي وقت صلاة كامل.
٢- قال مالك، والزهري، والليث، وربيعة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا تحل حتى ينقطع الحيض، وتغتسل بالماء غسل الجنابة.
٣- يكفي في حلها أن تتوضأ للصّلاة. قاله طاوس، ومجاهد.
وسبب الخلاف بين الأولين أن الله قال: حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ الأولى بالتخفيف، والثانية بالتشديد، وطهر يستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان، وهو انقطاع دم الحيض. وأما تطهّر فيستعمل فيما يكتسبه الإنسان، وهو الاغتسال بالماء.
فحمل أبو حنيفة وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ على انقطاع دم الحيض، وقوله: فَإِذا تَطَهَّرْنَ على معنى: فإذا انقطع دم الحيض، فاستعمل المشدّد بمعنى المخفف.
وقالت المالكية بالعكس، إنه استعمل المخفّف بمعنى المشدّد، والمراد: ولا تقربوهن حتى يغتسلن بالماء، فإذا اغتسلن فأتوهنّ، بدليل قراءة بعضهم حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتشديد، وبدليل قوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أو يستعمل كل واحدة في معناها، ويؤخذ من مجموع الكلامين أنّ الله علّق الحلّ على شيئين:
انقطاع الدم. والتطهر بالماء، كقوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء: ٦]
(١) رواه البخاري في الصحيح (١/ ٩٠)، ٦- كتاب الحيض، ٦- باب مباشرة الحائض حديث رقم (٣٠٣)، ومسلم في الصحيح (١/ ٢٤٣)، ٣- كتاب الحيض، ١- باب مباشرة الحائض حديث رقم (٣/ ٢٩٤).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (١/ ٩٠)، ٦- كتاب مباشرة الحائض، ٦- باب مباشرة الحائض حديث رقم (٣٠٢)، ومسلم في الصحيح (١/ ٢٤٢)، ٣- كتاب الحيض، ١- باب مباشرة الحائض حديث رقم (١/ ٢٩٣).
142
فعلّق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين:
أحدهما: بلوغ النكاح.
والثاني: إيناس الرشد.
ورجع الحنفية ما ذهبوا إليه بأنّ استعمال المشدّد بمعنى المخفّف لا يحتاج إلى إضمار شيء. أما مذهب المالكية فيحتاج إلى إضمار (بالماء).
وقالوا على الثاني: إنّ ما ذهبتم إليه يخل بحكم الغاية، أمّا ما ذهبنا إليه فيحفظ حكم الغاية، ويقرها على أصلها، ويوافق ما يفهمه العرب من مثله، فإذا قلت: لا تعط زيدا حتى يدخل الدار، فإذا دخل الدار فأعطه درهما. كان المفهوم منه أن ما ذكر في الشرط هو المذكور في الغاية، وليس ذلك تجديد شرط زائد.
فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بالنكاح لا بالسفاح، وقيل: من حيث أحلّ لكم الإتيان لا صائمات ولا محرمات ولا معتكفات. وقيل: من حيث أمركم الله باعتزالهن، وهذا الأمر للإباحة. لا للوجوب، لأنّه بعد الحظر، وقد اختلف فيه، والحق أنه لا يقتضي الوجوب، وذهب ابن حزم إلى أنه يجب غشيانهن بعد الطهر.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.
محبة الله: هي إرادته ثواب العبد.
والتوبة: هي رجوع العبد عن حالة المعصية عن إتيان النساء في غير موضع الحرث، وقيل: هم الذين لا ينقضون التوبة، طهّروا أنفسهم بعدم الرّجوع إلى المعصية، والأول هو المنعطف على سابق الآية. المنتظم معها.
قال الله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) حَرْثٌ: الحرث في اللغة الزرع. وهو على حذف مضاف، أي موضع حرثكم، أو الحرث بمعنى المحترث والمزدرع وإنما كانت النساء محترثا ومزدرعا، لأنّهنّ مكان نبات الولد.
المعنى: نساؤكم مزدرع لكم، تثمر لكم الأولاد، فأتوا هذا المزدرع، أَنَّى شِئْتُمْ على أي وجه شئتم مقبلة، أو مدبرة مضطجعة أو قائمة أو منحرفة، بعد أن يكون المأتى في موضع الحرث.
وقد روى مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أو قفه عند كل آية، وأسأله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فقال ابن عباس: إنّ هذا الحيّ من قريش كانوا
143
يشرحون النساء بمكة، ويتلذذون بهنّ مقبلات ومدبرات. فلما قدموا المدينة تزوّجوا في الأنصار، فذهبوا يفعلون بهنّ كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك، وقلن: هذا شيء لم نكن نؤتى عليه: فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل في ذلك نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركة، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث، يقول: ائت الحرث حيث شئت «١».
و (أنّى) في كلام العرب للسؤال عن الوجوه والمذاهب، يقال: أنّى لك هذا المال، أي من أيّ الوجوه والمذاهب؟ فيقال: من وجه كذا وكذا، قال الله تعالى:
أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: ٣٧].
وقال الشاعر:
أنّى ومن أين نابك الطّرب من حيث لا صبوة ولا ريب
وقد تجرّد عن معنى الاستفهام ككيف، ويبقى لها معنى الوجوه والمذاهب، ولا يصحّ أن يفهم غير هذا، وقد وردت أحاديث تؤيّد هذا الفهم، وتبطل ما عداه، فقد ورد عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس، وقال: كنت آتي امرأتي في دبرها، وسمعت قول الله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فظننت أنّ ذلك لي حلال؟
فقال: يا لكع وإنما قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة، في أقبالهن. لا تعدو ذلك إلى غيره «٢».
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذي يأتي المرأة في دبرها هي اللوطية الصغرى» «٣».
وروى الإمام أحمد وأهل «السنن» أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمّد» «٤».
وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ الخير، والصالح من الأعمال، عدّة لكم يوم الحساب
(١) رواه أبو داود في السنن (٢/ ٢١٩)، كتاب النكاح، باب في جامع النكاح حديث رقم (٢١٦٤). [.....]
(٢) قال السيوطي: رواه عبد بن حميد، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي (١/ ٢٦٣).
(٣) قال السيوطي: رواه أبو داود الطيالسي وأحمد والبيهقي، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي (١/ ٢٦٣).
(٤) رواه أحمد في المسند (٢/ ٤٠٨)، وأبو داود في السنن (٣/ ٣٩٨)، كتاب الطب باب في الكاهن حديث رقم (٣٩٠٤) والترمذي في الجامع الصحيح (١/ ٢٤٣)، كتاب الطهارة باب كراهية إتيان الحائض حديث رقم (١٣٥).
144
وَاتَّقُوا اللَّهَ في معاصيه أن تقربوها، وفي حدوده أن تضيّعوها، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فيجازي المحسن بإحسانه. والمسيء بإساءته وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالفوز والكرامة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) عُرْضَةً- ع ر ض- يتصرّف على معان مرجعها إلى المنع، لأنّ كل شيء اعترض فقد منع. ويقال للحساب: عارض، لأنه منع من رؤية السماء والقمرين والكواكب.
وقد يقال: هذا عرضة لك، أي: عدّة، فتبتذله في كل ما يعنّ لك. قال الشاعر:
ولا تجعلوني عرضة للّوائم
وكان الرجل يحلف على أن لا يفعل بعض الخير: من صلة رحم، أو إصلاح بين الناس، أو إحسان، أو عبادة. ثم يقول: أخاف الله إن حنثت في يميني، فقيل:
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أي لا تجعلوا الله مجازا ومانعا لما حلفتم عليه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فيكون المراد بالأيمان المحلوف عليه، وسمّي يمينا لتلبّسه باليمين، ويكون أَنْ تَبَرُّوا بدلا من أيمانكم، ويكون حاصل المعنى:
ولا تجعلوا الله مانعا من البر والتقوى إذا حلفتم به. بل افعلوا البر والتقوى، وكفّروا عن أيمانكم ويكون هذا في معنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين، ورأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك» «١».
ومعنى الآية على المعنى الآخر (لعرضة) : ولا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم، تبتذلونه بكثرة الحلف به. ويكون أَنْ تَبَرُّوا علة للنهي، أي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لأنّ الحلّاف مجترئ على الله، غير معظّم له، فلا يكون برا متقيا، ولا يثق به الناس، فلا يدخلونه في وساطتهم، وإصلاح ذات بينهم، ويكون ذلك نهيا عن كثرة الحلف بالله، وابتذاله في الأيمان، قال الله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠) [القلم: ١٠] فذمّ كثرة الحلف.
قال الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) (اللغو) الساقط الذي لا يعتدّ به: كلاما كان أو غيره، أما وروده في الساقط من
(١) رواه البخاري في الصحيح (٧/ ٢٧٥)، ٨٣- كتاب الإيمان، ٣- باب حديث رقم (٦٦٢٢)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٢٧٣)، ٢٧- كتاب الأيمان، ٣- باب ندب من حلف يمينا حديث رقم (١٩/ ١٦٥٢).
145
الكلام فكقوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص: ٥٥] وقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) [الواقعة: ٢٥] وقوله: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) [الغاشية: ١١].
وأما وروده في الساقط من غير الكلام فكقول جرير:
يعدّ الناسبون بني تميم بيوت المجد أربعة كبارا
ويخرج منهم المرئي لغوا كما ألغيت في الدّية الحوارا
وكانوا يقولون لما لا يعتدّ به من أولاد الإبل: لغو.
وقد اختلف أهل التأويل في المراد من لغو اليمين الذي ذكر الله أنه لا يؤاخذنا به وما هي المؤاخذة، على أقوال:
١- إن اللغو في اليمين: ما يجري به اللسان من غير قصد الحلف، كقول القائل:
لا والله، بلى والله، وإن عدم المؤاخذة به هو عدم إيجاب الكفارة به، وهو قول:
عائشة، والشعبي، وعكرمة، والشافعي، وأحمد.
٢- إن لغو اليمين هو أن يحلف على شيء أنه كان فيظهر أنه لم يكن، أو شيء يعتقد أنه لم يكن فيظهر أنه كان. ومعنى عدم المؤاخذة به أنه لا يجب تكفيره، وهو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وأبي حنيفة، ومالك. وهؤلاء لا يوجبون الكفارة في اليمين التي يحلفها صاحبها على ظنّ فيتبين خلافه، ويوجبون الكفارة فيما يجري على اللسان من غير قصد، وأصحاب القول الأول بالعكس.
٣- أنه يمين الغضب.
٤- أنه اليمين على المعصية.
٥- أن دعاء الإنسان على نفسه كقوله: إن لم أفعل كذا فأصاب بكذا.
٦- أنه اليمين المكفرة.
٧- أنه يمين الناسي.
وهي كلها محتملة، ولعلّ أظهر الأقوال ما ذهب إليه الأولون، والحجة فيه: أن الله قسّم اليمين إلى قسمين: ما كسبه القلب، واللغو. وما كسب القلب: هو ما قصد إليه. وحيث جعل اللغو مقابله. فيعلم أنه هو الذي لم يقصد إليه وذلك هو ما قلناه من أنه هو ما يجري به اللسان من غير قصد إليه.
المعنى: لا يؤاخذكم الله بالأيمان التي تجري على ألسنتكم من غير قصد الحلف، ولكن يؤاخذكم بما قصدتم إليه، وعقدتم القلب عليه من الأيمان وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ولذلك لم يؤاخذهم بلغو اليمين، ولو شاء لآخذهم بها.
146
قال الله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) يُؤْلُونَ: يقسمون، والأليّة: الحلف، يقال: آلى يولي إيلاء وأليّة، قال كثيّر:
قليل الألايا حافظ ليمينه فإن سبقت منه الأليّة برّت
وإنّما عدّيت يؤلون بمن، وهي إنما تعدّى بعلى: إما لأنه ضمّن يؤلون معنى يعتزلون، وإمّا لأنّ في الكلام حذفا، وتقديره: للّذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم، فترك ذكر يعتزلون اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
التربص: النظر، أو التوقف.
فاؤُ رجعوا، من الفيء بمعنى الرجوع من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى:
حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: ٩] وقول الشاعر:
ففاءت ولم تقض الّذي أقبلت له ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا
ويقال للظّل بعد الزّوال: فيء، لأنّه رجع بعد أن تقلّص، وهاتان الآيتان في حكم الإيلاء، وهو أن يقسم الرجل على أن يعتزل امرأته، وذلك إضرار بالمرأة، لأنه يتركها معلقة، فلا هي مطلقة يجوز لها أن تجد زوجا، ولا هي ذات بعل تجد منه ما تجد النساء من بعولتهن.
وقد اختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون المرء بها موليا، فقال بعضهم: لا يكون موليا إلا إذا حلف على ترك غشيانها إضرارا بها، أما إذا حلف لا على وجه الإضرار فلا يكون موليا، ونسب هذا إلى علي رضي الله عنه، وابن عباس، وابن شهاب.
أخرج ابن جرير «١» عن أبي عطية أنه توفي أخوه، وترك ابنا له صغيرا، فقال أبو عطية لامرأته: أرضعيه، فقالت: إني أخشى أن تغيلهما. فحلف ألا يقربها حتى تفطمهما، ففعل حتى فطمتهما، فخرج ابن أخي أبي عطية إلى المجلس، فقالوا:
لحسن ما غذّي أبو عطية ابن أخيه، قال: كلا، زعمت أم عطية أني أغيلهما، فحلفت ألا أقربها حتى تفطمهما، فقالوا له: قد حرّمت عليك امرأتك، فذكرت ذلك لعلي رضي الله عنه فقال علي: إنما أردت الخير، وإنما الإيلاء في الغضب.
وقال آخرون: إنه يكون موليا سواء أحلف على ترك غشيانها إضرارا بها، أم لمصلحة.
قال الشعبي: كلّ يمين منعت جماعا حتى تمضي أربعة أشهر، فهي إيلاء.
(١) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٢٥٠).
147
أخرج ابن جرير «١» عن القعقاع قال: سألت الحسن عن رجل ترضع امرأته صبيا، فحلف ألا يطأها حتى تفطم ولدها، قال: ما أرى هذا بغضب، إنما الإيلاء في الغضب. قال: وقال ابن سيرين: ما أدري ما هذا الذي يحدّثون، إنما قال الله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ... إلى فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إذا مضت أربعة أشهر فليخطبها إن رغب فيها، فحجتهم أن الله قال: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ.. ولم يخصّص.
وحجة الأولين أنّ الله جعل مدّة الإيلاء مخرجا من سوء عشرة الرجل ومضارته، فإذا لم يكن الامتناع عن مضارة، بل عن قصد الصلاح والخير، لم يكن بذلك موليا، فلا يكون هناك معنى لضرب الأجل، فتخرج من مساءته، إذ لا مساءة، وذهب قوم إلى أن يمين الإيلاء ليست مقصورة على الحلف بترك الوطء، بل تكون بالحلف على غيره أيضا، كأن يحلف ليغضبنّها، أو ليسوءنّها، أو ليحرمنّها أو ليخاصمنّها: كل ذلك إيلاء.
أخرج ابن جرير «٢» عن أبي ذئب العامري أن رجلا من أهله قال لامرأته: إن كلمتك سنة فأنت طالق، واستفتى القاسم وسالما فقالا: إن كلمتها قبل سنة فهي طالق، وإن لم تكلمّها فهي طالق إذا مضت أربعة أشهر، ونقل ذلك عن الشعبي أيضا.
وحجة هؤلاء أن الله جعل مدة الإيلاء مخرجا للمرأة من سوء عشرة الرجل، وليست اليمين على ترك الوطء بأولى أن تكون من معاني سوء العشرة من اليمين على أن يضربها، أو لا يكلمها، لأنّ كل ذلك ضرر عليها وسوء عشرة.
وظاهر هذه الأقوال كلها أن الإيلاء لا بدّ فيه من اليمين، وقالت المالكية: إذا امتنع الرجل من الوطء قصد الإضرار من غير عذر، ولم يحلف، كان حكمه حكم المولي، لأنّ الإيلاء لم يرد لعينه، وإنما أريد لمعنى سوء العشرة والضرر، وهذا حاصل إذا ضارّها دون يمين.
وقد اختلف الفقهاء في الفيء الذي عناه الله بقوله: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال بعضهم: هو غشيان المرأة الذي امتنع عنه، لا فيئة له إلا ذلك، وإذا عرض عذر من مرض أو سفر، فلم يغش لذلك، ومضت مدة الإيلاء، بانت منه..
وقال آخرون: هو المراجعة باللسان، أو القلب في حال العذر، وفي غير حال العذر الغشيان.
وقال آخرون: هو المراجعة باللسان مقام الغشيان في حالة العذر، لأنّه لا يصير مضارا بترك الشيء إلا إذا كان قادرا على الإتيان به وتركه طواعية.
(١) المرجع نفسه (٢/ ٢٥١).
(٢) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٢٥١).
148
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) اختلف الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون في الطلاق الذي يكون عن ترك الفيء في الإيلاء، فقال بعضهم، وهو مذهب أبي حنيفة: إذا مضت الأربعة أشهر دون فيئة وقع الطلاق.
وقال آخرون وهو مذهب مالك: إن مضى الأجل لا يقع به طلاق، وإنما تقفه بعد أمام الحاكم: فإما فاء وإما طلق.
ومنشأ هذا الخلاف اختلافهم في تأويل الآية، فتأويلها عند الأولين لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ بترك الفيئة... فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
وتأويلها عند الآخرين لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ.. بعد انقضائها.. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧).
وقد شبّه الأولون مدة الإيلاء بالعدة الرجعية، وشبهوا الإيلاء بالطلاق الرجعي، وقد نقلوا أن الإيلاء كان طلاقا في الجاهلية، فأقره الشرع طلاقا، وزاد فيه الأجل.
وشبه الآخرون أجل الإيلاء بالأجل الذي يضرب في العنة، لأن اليمين على ترك الوطء ضرر حادث بالزوجة، فضرب للزوج مدة في رفعه، فإن رفعه وإلا رفعه الشرع عنها بالطلاق، كما يكون ذلك في كل ضرر يتعلّق بالوطء، كالعنة.
قال الله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) ذكر الله تعالى أحكام عدة الطلاق:
أولها: وجوب العدة، وإنما وجبت العدة ليستدلّ بها على براءة الرحم من الولد، فيؤمن اختلاط الأنساب، والعدة للمطلقة ثلاثة قروء.
وقد أخرج من حكم الآية المطلقات اللائي طلّقن قبل الدخول، فلم يجعل عليهنّ عدّة، قال الله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: ٤٩] والحوامل، فجعلت عدتهنّ وضع حملهن، قال: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: ٤].
وكذلك أخرج اللاتي يئسن من المحيض لصغر أو كبر، فجعلت عدتهن ثلاثة أشهر، قال: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق: ٤] فصارت العدة المذكورة في الآية التي هنا للنساء غير الحوامل المدخول بهن الممكنات المحيض.
149
والقروء: جمع قرء، ويطلق في كلام العرب على الطهر وعلى الحيض حقيقة، فهو من الأضداد.
وأصل القرء الاجتماع، وسمّي الحيض قرءا لاجتماع الدم في الرحم، وسمّي الطهر قرءا لاجتماع الدم في البدن.
وقد يطلق القرء أيضا على الوقت، لمجيء الشيء المعتاد مجيئة لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم. يقال: أقرأت حاجة فلان عندي، أي: جاء وقت قضائها، وأقرأ النجم، إذا جاء وقت أفوله، وأقرأت الريح: إذا هبت لوقتها، قال الهذلي «١» :
إذا هبّت لقارئها الرّياح أي هبت لوقتها، ولمّا كان الحيض معتادا مجيئه في وقت معلوم، سمّت العرب وقت مجيئة قرءا، ومن مجيء القرء بمعنى الحيض
قوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة بنت أبي حبيش «دعي الصّلاة أيام أقرائك» «٢»
. ومن مجيئه بمعنى الطهر قول الأعشى:
وفي كلّ عام أنت جاشم عزوة تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورّثة مجدا وفي الذّكر رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وقد اختلف في المراد من القروء في الآية، فذهب مالك والشافعي وابن عمر وزيد وعائشة والفقهاء السبعة «٣»، وربيعة وأحمد إلى أنها الأطهار.
وذهب علي وعمر وابن مسعود وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي: وابن أبي ليلى وابن شبرمة إلى أنّها الحيض.
وفائدة الخلاف أنه إذا طلّقها في طهر خرجت عن عدتها عند الأولين بمجيء الحيضة الثالثة، لأنّها يحتسب لها الطهر الذي طلقت فيه، ولا تخرج من عدتها إلا بانقضاء الحيضة الثانية عند الآخرين،
وقد روي عن عمر بن الخطاب وعلي أنهما قالا: لا تحل لزوجها الرجعة إليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة.
وقد احتجوا لترجيح المذهب الأول بأمور منها: أنه أثبت التاء في العدد (ثلاثة) فدل ذلك على أن المعدود مذكّر، وهو لا يكون مذكّرا إلا إذا كان المراد الطهر، وإذا كان المراد الحيضة كان مؤنثا. ومنها قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: ١] ومعناه: في وقت عدتهن، ولكنّ الطلاق في زمان الحيض منهيّ عنه، فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الحيض.
(١) مالك بن الحارث الهذلي، انظر زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (١/ ٢١٧).
(٢) رواه النسائي في السنن (١- ٢/ ١٣١)، كتاب الطهارة حديث رقم (٢١١).
(٣) وهم: سعيد، سليمان، أبو بكر، عبيد الله، عروة، القاسم، وخارجة.
150
وأجيب بأن معنى الآية: مستقبلات لعدتهن.
وقد احتجوا لترجيح المذهب الثاني بأمور: منها: أننا أجمعنا على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيضة، فكذا العدة تكون بالحيضة، لأن الغرض منها واحد. ومنها أن العدة شرعت لبراءة الرحم، والذي يدل على براءة الرحم إنّما هو الحيض لا الطهر.
ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدّتها حيضتان» «١»
ومن المعلوم أنّ عدة الأمة نصف عدة الحرة، فإذا اعتبرت عدّة الأمة بالحيض، كانت عدة الحرة كذلك.
والمسألة كما ترى محتملة، ولكنّ مذهب الفريق الثاني أرجح من جهة المعنى.
وقد زعم بعضهم أنّ قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ خبر في معنى الأمر، لئلا يلزم الكذب في خبره تعالى إذا لم تتربص بعض المطلقات.
وهذا غير لازم، لأنّ الله أخبر عن حكم الشرع، فإن وجدت امرأة لا تتربّص لم يكن ذلك حكما شرعيا.
وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
قيل: المراد بما خلق الله في أرحامهن الحيض، وقيل: الحمل. وقيل: هما معا. وهذا دليل على أن المرأة مؤتمنة على ما في رحمها، يقبل قولها فيه، لأنّه لا يعلم إلا من قبلها، وإنّما حرّم الله أن يكتمن ما في أرحامهنّ، لأنّه يتعلق بذلك حق الرجعة للرّجل، وعدم اختلاط الأنساب، وإذا لم تحافظ المرأة على ذلك، فربما حرمت الرجل من حقّه في الرجعة، وربما ادّعت انقضاء العدة وهي مشغولة الرّحم بالحمل من المطلّق، ثم تزوجت، فأدّى ذلك إلى اختلاط الأنساب.
ولعل قائلا يقول: إنّ ظاهر الآية أنّ الله شرط عدم حلّ الكتمان بكونهنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر، فإذا لم يكنّ كذلك، فهل يجوز لهنّ أن يكتمن؟
فنقول: إنّ هذا كقول القائل: إن كنت مؤمنا فلا تظلم، على معنى: إن كنت مؤمنا فإيماك يمنعك من الظلم. وكذلك هنا: إن الإيمان بالله واليوم الآخر ينبغي أن يمنع كتمانهنّ ما في أرحامهنّ، وهذا وعيد شديد.
والآية تدل على أن من ائتمن على شيء فلا يحلّ له أن يخون فيه، وهذا مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر.
(١) رواه أبو داود في الجامع الصحيح (٢/ ٢٣٠)، كتاب الطلاق، باب في سنة الطلاق حديث رقم (٢١٨٩)، والترمذي في الجامع الصحيح (١/ ٤٨٨)، كتاب الطلاق، باب ما جاء أن طلاق الأمة حديث رقم (١١٨٢)، وابن ماجه في السنن (١/ ٦٧٢)، كتاب الطلاق باب في طلاق الأمة حديث رقم (٢٠٨٠).
151
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً.
هذا هو الحكم الثاني من أحكام الطلاق، وهو ارتجاع الرجل المرأة ما دامت في عدتها.
وبعولة: جمع (بعل) وهو الزوج، ويطلق على المرأة: بعلة، وهما: بعلان، وهو في الأصل بمعنى السيد المالك، يقال: من بعل هذه الناقة؟ أي من ربّها؟
المعنى: وأزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة التربص إن أرادوا إصلاحا، لا مضارّة المرأة، وظاهر الآية أن الله يشترط في الرجعة إرادة الإصلاح، فإذا أراد المضارّة فليس له حقّ الرجعة، والأمر كذلك، ولكن لما كانت هذه الإرادة لا اطلاع لنا عليها عاملناه بظاهر أمره، وجعل الله ثلاث التطليقات علما عليها، ولو تحققنا من ذلك لطلقنا عليه.
وفيما بينه وبين نفسه لا يجوز له أن يراجع إن قصد الضرر لا الإصلاح.
وحق الرجعة مقصور على المطلقة طلاقا رجعيا.
واختلف العلماء فيها في مدة التربّص: أحكمها حكم الزوجة، أم ليست كذلك؟ فذهب أبو حنيفة إلى أنها حكمها حكم الزوجة، وذهب مالك إلى أنها ليست كالزوجة، وابتني على هذا الخلاف أنّ أبا حنيفة يجيز مباشرتها مدّة التربص، ومالك يمنعه قبل الرجعة.
ويظهر أن منشأ الخلاف اختلاف الفهم في هذه الآية، فقد سمّاه الله بعولة، وهذا يقتضي أنهن زوجات، وقال: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وهذا يقتضي أنهن لسن بزوجات، إذ الردّ إنما يكون لشيء قد انفصم، فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الرجعية زوجة، وفائدة الطلاق نقص العدد، وأولوا قوله: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فقالوا: إنّهن كن سائرات في طريق لو وصلن إلى نهايته لخرجن عن الزوجية، فالارتجاع ردّ لهنّ عن التمادي في ذلك الطريق.
والمالكية أوّلوا قوله: وَبُعُولَتُهُنَّ فقالوا: سماهم بعولة باعتبار ما كان ومعنى أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ردهن إلى الزوجية.
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.
هذه كلمة وجيزة بيّنت نظر الشارع إلى عقد الزواج، فليس الزواج في الشريعة الإسلامية عقد استرقاق وتمليك، إنما هو عقد يوجب على الزوج حقوقا للمرأة. كما يوجب على المرأة حقوقا للزوج، فما من حقّ للزوج على المرأة إلا وفي نظيره حق لها عليه، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ والمعروف ضد المنكر. ثم قال: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والدرجة المنزلة، وأصلها من درجت الشيء أي طويته، والدرجة قارعة الطريق، لأنّها تطوي منزلا بعد منزل، والدرجة المنزلة من منازل الطريق، ومنه
152
الدرجة التي يرتقى فيها، وهذه الدرجة التي جعلها الله للرجال على النساء هي ما أشار إليها بقوله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء: ٣٤].
ونحن نعلم أن كثيرا من الزنادقة الذين يريدون أن يفتنوا النساء عن دينهن، يأتون إليهن من جهة أن الإسلام غمط حقوقهنّ، وجعلهنّ إماء عند الرجال، ولو تأمّل نساء الإسلام في هذه الآية لرأين هذه المنزلة التي رفعهنّ الله إليها، ولم ترفعهن إليها الحضارات القديمة، ولا الحضارات الحديثة، ولعلمن أنّ هؤلاء مخادعون، يبغّضونهنّ في شريعة كانت شفيقة بالمرأة، بارّة بها، أعتقتها من رق العبودية، وفكّت عنها الأغلال والقيود التي كانت ترسف فيها في القديم، وأنّ شريعة هذا نظرها إلى المرأة لجديرة بأن تحترم وتقدّس من النساء جميعا، وإنما ذكر الله هنا أنّ لهن مثل الذي عليهنّ بالمعروف، وللرّجال عليهن درجة، ليبيّن أنه شرط في الرّجعة إرادة الإصلاح، لأنّ للمرأة حقوقا مثل ما عليها، وجعل للرّجل حقّ الرجعة لأنه يزيد عليها درجة.
ثم قال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فلا يغالبه من فرّط في حقوق الزواج، وهو حكيم فيما شرع، يعلم المصلحة، ويضع الأشياء في مواضعها.
قال الله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
أخرج ابن جرير الطبري «١»، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل يطلّق ما شاء، ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتّها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربك ولا تحلين مني، قالت له: كيف؟ قال:
أطلقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك.
قال: فنقلت ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل الله تعالى ذكره: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ الآية
. فعلى هذا تكون الآية نزلت لبيان عدد الطلاق الذي للرجل فيه الرجعة، والعدد الذي إذا انتهى إليه فلا رجعة له عليها، وقد كان أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزول هذه الآية لا حدّ للطلاق عندهم، وكان ذلك قد يؤدي إلى الإضرار بالمرأة، فتترك لا هي بذات زوج، ولا هي خليّة تحلّ للأزواج.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية لتعريف الناس سنّة طلاقهم، وكيف يطلّقون.
(١) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٢٧٦).
153
أخرج ابن جرير «١» عن عبد الله في قوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ قال: يطلقها بعد ما تطهر، من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلقها، وإلا تركها حتى تتمّ ثلاث حيض، وتبين منه به.
وعلى هذا يكون قد بيّن الله سنّة الطلاق في هذه الآية، وبين أنّ من سنته تفريق الطلاق ومنع الاجتماع، ولأنّه قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وهذا يقتضي أن يكون طلقتين مفرّقتين، لأنّها إن كانتا مجتمعتين، لم يكن مرتين. ويدل عليه أن الشارع قد طلب أن يسبّح المرء ويحمد ويكبر دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، ولا ينفعه إلا أن يفعل ذلك ثلاثا وثلاثين مرّة، ولا يكفيه أن يقول: سبحان الله ويتبعها بلفظ ثلاثا وثلاثين، وأنه إذا فعل ذلك يكون مسبحا مرة واحدة لا ثلاثا وثلاثين.
وقد ثبت أن الآية دلت على طلب التفريق في إيقاع الطلاق، فإذا خالف المطلّق وجمع الثلاث في لفظ واحد، فقد اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إنه لا يقع إلّا واحدة، قال الفخر الرازي: وهو الأقيس، لأن النهي يدلّ على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعي في إدخال تلك المفسدة في الوجود، وهذا غير جائز، فوجب أن يحكم بعدم الوقوع.
وقالت الأئمة الأربعة وغيرهم: تقع الثلاثة إما مع الحرمة، وإما مع الكراهة، على حسب اختلافهم في ذلك.
وقد استدلّ الأولون من السنة بما رواه أحمد ومسلم «٢» من حديث طاوس عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، قالوا: وإمضاء الثلاث إبطال للرخصة الشرعية والرفق المشار إليه بقوله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطلاق: ١].
وللأئمة أحاديث أخرى ذكرت في كتب السنة، واستقصاء الخلاف والأدلة في هذه المسألة يطلب من «نيل الأوطار» «٣» «وإعلام الموقعين» «٤» لابن القيم.
ومنشأ الخلاف في الطلاق- ما ذكرناه وما لم نذكره- الاختلاف في أسباب النزول وفي الآية هل هي متعلقة بما قبلها، أم مستقلة عنها؟ ونحن نجمل ذلك
(١) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٢٧٧).
(٢) رواه أحمد في المسند (١/ ٣١٤) ومسلم في الصحيح كتاب الطلاق حديث رقم (١٤٧٢). [.....]
(٣) نيل الأوطار للإمام ابن القيم الجوزية (٦/ ١٩٣- ١٩٨).
(٤) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم الجوزية (٣/ ٤١).
154
فنقول: إن الله قد عرّف الطلاق بأل، فذهب بعضهم إلى أن التعريف للعهد، أي الطلاق المشروع مرتان، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع، وهذا مروي عن الرافضة والحجاج بن أرطاة «١»، وعلى هذا تكون الآية مستقلة عما قبلها.
وقال بعضهم: معناه أنّ الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان، فتكون الآية مرتبطة بما قبلها، فالله لما ذكر أنّ بعولتهنّ أحقّ بردهنّ أراد أن يبيّن الطلاق الذي فيه الرجعة، وقال بعضهم: معناه الطلاق المسنون مرتان، وهذا مذهب مالك، وقال بعضهم: معناه الطلاق الجائز مرتان، وهذا مذهب أبي حنيفة.
والقول الأول يناسبه في سبب النزول ما روي عن عروة، وبقية الأقوال يناسبها في سبب النزول ما روي عن عبد الله.
ونحن نرى أن الطلاق هدم للأسرة، وتمزيق للمنزل، وضرره يتعدى إلى الأولاد. فإنّ الأولاد في حضن أمهاتهم يكونون موضعا للرعاية وحسن التربية.
بخلاف ما إذا كانوا في حضن أجنبية عنهم، والشريعة تنظر إليه هذا النظر. ويدل على هذا
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» «٢»
والشريعة أجازته مع هذا الضرر لدفع ضرر أشد، وتحصيل مصلحة أكثر. وهي التفريق بين متباغضين ليس من المصلحة الجمع بينهما، وقد أراد الشارع ألا يفرّق بالطّلاق بين متحابين من الخير أن يجتمعا، وألا يفرق به إلا بين متباغضين من الخير أن يفترقا، فجعل الطلاق المشروع مرتين متفرقتين في طهرين كما دلت على ذلك السنة، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلّق، وأمضى الطلاق، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر، ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الروية وهذه الأناة إلا متفرّقان طبعا، من الخير ألا يجتمعا.
وإذا كانت حكمة الطلاق ما ذكرناه سقط قول الناقمين على الشريعة من أنها لم تحترم عقد الزوجية، وتعطه ما يجب له من الحيطة والرعاية.
وليس عندنا من المراجع ما نعلم منه حقيقة مذهب الحجاج والرافضة. ونتبين أنهم يرون الذي سار في الطلاق على هذا السنن وطلق اثنتين، ثم لم يطلق الثالثة، وعاشر بإحسان قد بقيت له واحدة فقط، فإذا أراد أن يطلق لم تكن له إلا واحدة أم هم يرون أنّه قد هدم الطلاق، وإذا أراد أن يطلّق كان له الثلاث من جديد، وأنّ هذا شرع الطلاق، فلا يطلق إلا بهذه الصفة.
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
الإمساك خلاف الإطلاق، والتسريح الإرسال، وسرّح الماشية تسريحا إذا
(١) ابن ثور النخعي قاضي البصرة توفي (١٤٧ هـ) في خراسان، انظر الأعلام للزركلي (٢/ ١٦٨).
(٢) رواه أبو داود في السنن (٢/ ٢٢٦)، كتاب الطلاق باب كراهية الطلاق حديث رقم (٢١٧٨).
155
أرسلها إمساك بمعروف، إن وجد نفسه لا تطيق فراقها، أو رأى المصلحة في بقائها زوجة، وإما تسريح بإحسان إن أعطته تجربة هذه المرأة أنه لم يتعلّق بها قلبه، ورأى الفراق خيرا له، وتلك هي حكمة الرجعة، وجعل الطلاق مرتين، فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها، ولا يجد المرء لذة النعمة حتى يذوق طعم النّقمة، وما دام مع صاحبه لا يدري أتشقّ عليه الفرقة أم لا؟ فجعل الطلاق مرتين، وجعل له حق الرجعة، ليعلم أتشقّ عليه فرقتها أم لا؟ ولو جعل الطلاق مرّة واحدة لا رجعة فيها لوقع الناس في بلاء عظيم.
ومعنى الإمساك بمعروف أن يراجعها قصد المعاشرة الحسنة، لا قصد المضارّة، والتسريح بإحسان ألا يذكر عيوبها، وأن يحسن فراقها.
وقد اختلف في المراد بالتسريح، فقيل: هو أن يتركها دون مراجعة حتى تنقضي عدتها. وقيل: هو أن يطلّقها الثالثة.
وقد رجّح الأول بأنّ حمل الآية عليه يجعلها مستوفية للأقسام، لأنّ المطلّق اثنتين:
إما أن يراجع، وهو الإمساك بمعروف، وإما أن يطلق الثالثة وهو قوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ..: وإما أن يسكت فلا يطلّق الثالثة. ولا يراجع، وهو التسريح بإحسان.
ورجّح الثاني بما
روي أنه لما نزل قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قيل له صلّى الله عليه وسلّم فأين الثالثة؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: هو قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ
: ويكون قوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ إن طلقها الطلقة الثالثة المذكورة في قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
قال الله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
طلب الله عند تسريح المرأة أن يكون بإحسان، ونهى أن يأخذوا شيئا مما آتوهن من المهر أو غيره، ثم بيّن أنه لا يحل الأخذ إلا في حالة الخوف ألا يقيما حدود الله، فإذا حصل الخوف جاز للمرأة أن تفتدي، وجاز للرجل أن يأخذ، وطلاق المرأة على هذا الوجه هو المعروف عند العلماء بالخلع.
ذكر ابن جرير «١» أن ابن عباس قال: إنّ أول خلع كان في الإسلام أخت عبد الله بن أبي، أنّها أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقالت: يا رسول الله! لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا. إني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدّهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها.
(١) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٢٨٠).
156
قال زوجها: يا رسول الله! إني أعطيتها أفضل مالي حديقة، فلترد عليّ حديقتي.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما تقولين؟» قالت: نعم، وإن شاء زدته. قال: ففرّق بينهما
. وقيل:
إن هذه الآية نزلت في شأنهما. وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يجوز أخذ الفداء إلا إذا كان النشوز من قبلها.
وذهب آخرون إلى أن الذي يبيح أخذ الفداء أن يكون خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا، لكراهة كلّ منهما صحبة الآخر، والظاهر أنّ نشوزها كاف في جواز أخذ الفداء.
فإن قيل: إنّ الله علّق ذلك على خوف ألا يقيما حدود الله. قيل: إنها إذا نشزت خيف أن يعاملها الرجل بقسوة، فلا يقيم هو أيضا حدود الله.
وقد ذهب أكثر الأئمة إلى أن الخلع جائز، سواء كان في حالة الخوف أم في غير حالة الخوف، وظاهر الآية يعضّد مذهب غير الجمهور.
وحجة الجمهور قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء: ٤] فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصّل لنفسها طلاقا، فلأن يجوز ذلك لتملك أمر نفسها أولى.
وللأولين أن يقولوا: إن هذه الآية محمولة على البذل في حال العشرة، وأما البذل للطلاق فقد منعته الآية التي نحن بصددها إلا بشرط.
والآية تدلّ على أن الخلع إنما هو فيما أعطى، لا في أزيد منه، لأنّ الآية في صدد الأخذ مما أعطى الرجال النساء. ثم قال: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي مما آتيتموهنّ، وهو مذهب الشعبي، والزهري، والحسن البصري.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز الخلع بأزيد مما أعطاها، لأنّه عقد معاوضة يوجب ألا يتقيّد بمقدار معين.
ولكن يعارض هذا أنه استباحها بما أعطاها من مهر، فلو أخذ منها أزيد لكان إجحافا بها.
وقد ذهب جماعة إلى أن الخلع فسخ لاطلاق، لأنّ الله قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ ثم ذكر الخلع، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ فلو كان طلاقا لكان ذلك يدلّ على أن للرجل أربع تطليقات.
ونحن نرى أنه لا حجة في هذا، لأنّ الله قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ ثم بيّن أنه لا يجوز أخذ مال على الطلاق إلا في الحال التي ذكرنا، وسواء كان ذلك عند الطلقة الأولى أم الثانية أم الثالثة؟
157
ثم بيّن الطلقة الثالثة بقوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الآية، وقد استدلوا أيضا بما روى أبو داود «١» في «سننه» عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عدتها حيضة، ولو كان طلاقا لكانت عدتها كما قال الله:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ.
وذهب الجمهور إلى أنّ الخلع طلاق، وحجتهم أن الخلع: إما فسخ، أو طلاق، وقد أبطلوا كونه فسخا، بأنّه لو كان فسخا لما جاز بأكثر من المهر، كالإقالة في البيع، مع أنه يجوز بالأكثر، وإذا بطل كونه فسخا، تعيّن كونه طلاقا، وقد علمت ما فيه.
واستدلوا أيضا بما
ورد عن ابن عباس في امرأة ثابت بن قيس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «اقبل الحديقة، وطلّقها طلقة واحدة» أخرجه بهذا اللفظ البخاري، وأبو داود والنسائي «٢».
يَخافا الخوف: الإشفاق مما يكره وقوعه، ويمكن أن يراد منه هنا- الظنّ، لأنّ الخوف حالة نفسية، وسبب حصولها ظنّ أن سيحصل مكروه، فيطلق المسبب على السبب. قال الشاعر:
إذا متّ فادفني إلى جنب كرمة تروّي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفننّي في الفلاة فإنّني أخاف إذا ما متّ ألا أذوقها
قال الرازي «٣» : فإن قيل: لمن الخطاب في قوله: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا..
فإن كان للأزواج لم يطابقه قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وإن قلت: للأئمة والحكام، فهؤلاء لا يأخذون منهن شيئا؟
قلنا: الأمران جائزان، فيجوز أن يكون أول الآية خطابا للأزواج، وآخرها خطابا للأئمة والحكام، وذلك غير غريب في «القرآن» ويجوز أن يكون الخطاب كلّه للأئمة والحكام، لأنّهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنّهم هم الآخذون والمؤتون.
قال الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠).
يعلمون الحقائق. ويعلمون المصالح المترتبة على العمل بها.
(١) سنن أبي داود (٢/ ٢٤٥)، كتاب الطلاق باب في الخلع حديث رقم (٢٢٢٩)، والترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ٤٩١)، كتاب الطلاق باب في الخلع حديث رقم (١١٨٥).
(٢) رواه النسائي في السنن (٥- ٦/ ٤٨١)، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخلع حديث رقم (٣٤٦٣).
(٣) في تفسيره مفاتيح الغيب والمسمى أيضا التفسير الكبير (٦/ ٩٩).
158
وقد اختلف في ذلك النكاح الذي اشترط لحل المطلقة ثلاثا، فذهب سعيد بن المسيب إلى أنه العقد، فتحل المطلقة ثلاثا للأوّل بمجرد العقد على الثاني.
وذهب سائر العلماء إلى أن المراد به الوطء، واحتجوا بأن النكاح قد ورد في القرآن بالمعنيين، واحتمل أن يكون المراد هنا العقد أو الوطء، فجاءت السنة، وبينت أن المراد به الوطء وذلك ما
رواه ابن جرير «١» عن عائشة، قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: كنت عند رفاعة، فطلقني، فبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثّوب. فقال: «لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» «٢»
وقال بعضهم: إن الآية نفسها فيها دلالة على أن المراد به الوطء، وبيانه أنّ أبا الفتح عثمان بن جني قال: سألت أبا علي الفارسي عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرّقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا:
نكح فلان فلانة. أرادوا أنّه عقد عليها، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته، أرادوا به المجامعة. وهنا قد قال الله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فالمراد منه المجامعة.
وقد اختلف النّاس في نكاح المحلّل، وهو الذي يتزوّج المبتوتة بقصد أن يحلها للزوج الأول، فذهب مالك، وأحمد، والثوري، وأهل الظاهر، وغيرهم: إلى أنّ ذلك النكاح باطل، لا تحلّ به للأوّل ولا للثاني، ولا تحلّ حتى ينكحها الثاني نكاح رغبة يقصد به ما يقصد من كل نكاح من الدوام والبقاء، ودليلهم ما
روي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بالتّيس المستعار؟».
قالوا: بلى يا رسول الله قال: «هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له» «٣».
قال الترمذي «٤» : والعمل على ذلك عند أهل العلم، منهم: عمر، وابنه، وعثمان رضي الله عنهم، وهو قول الفقهاء من التابعين.
وروى أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المحلّل، فقال: «لا: إلا نكاح رغبة، لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عزّ وجلّ ثم تذوق العسيلة».
وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه: لا أوتى بمحلّل ولا
(١) في تفسيره الجامع لأحكام القرآن، المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٢٩١).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٢٢)، ٦٨- كتاب الطلاق، ٣٥- باب إذا طلقها ثلاثا حديث رقم (٥٣١٧) ومسلم في الصحيح (٢/ ١٠٥٥)، ١٦- كتاب النكاح، ١٧- باب لا تحل المطلقة حديث رقم (١١١/ ١٤٣٣).
(٣) رواه ابن ماجه في السنن (١/ ٦٢٣)، كتاب النكاح، باب المحلل حديث رقم (١٩٣٦).
(٤) الجامع الصحيح كتاب النكاح باب ما جاء في المحلل حديث رقم (١١٢٠).
159
بمحلّل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك قال: كلاهما زان، وسئل ابن عباس عمّن طلّق امرأته ثلاثا ثم ندم، فقال: هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه.
هذا وفي التحليل مفاسد كثيرة عقد ابن القيم في «إعلام الموقعين» «١» فصولا في بيانها.
وقد طعن قوم في الشريعة الإسلامية لأنّها أجازته، وقد علمت ما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه، وعلمت رأي الصحابة والتابعين فيه. فالصواب ألا ينسب إليها حلّه.
قال الله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) الأجل يطلق على المدة كلها، وعلى آخرها، يقال لعمر الإنسان أجل، وللموت الذي ينتهي به أجل. والمراد هنا: آخر عدتهن، ومعنى بلغن أجلهنّ- هنا- شارفن منتهاها، لأنّه يتجوّز في البلوغ. فيقال: بلغ البلد إذا شارفه وداناه، وإنما حملناه على المجاز، لأن الله قال: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وهي إذا انقضت عدتها فلا سبيل له عليها.
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ: إما أن يراجعها من غير طلب ضرر بالمراجعة، وإما أن يتركها حتّى تنقضي عدتها من غير إضرار بها وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا لتظلموهنّ.
عن السدي قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلّق امرأته، حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها، ثم طلقها، ففعل بها ذلك حتى مضت لها تسعة أشهر: مضارّة يضارها، فأنزل الله تعالى ذكره: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ «٢» أي إمساك المرأة ضرارا فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ إذ عرضها لعذاب الله.
وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً أي جدوا في الأخذ بها، والعمل بما فيها، وإن لم تفعلوا فقد اتخذتموها هزوا، ويقال لمن لم يجد في الأمر: إنما أنت هازل.
وقال الحسن: كان الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلّق الرجل أو يعتق فيقال:
ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لا عبا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من طلّق لاعبا أو أعتق
(١) إعلام الموقعين عن رب العالمين، للإمام ابن القيم الجوزية (٣/ ١٨٥) (٢٠٨) (٢٠٩).
(٢) رواه ابن جرير وابن المنذر، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (١/ ٢٨٥). [.....]
160
لاعبا فقد جاز عليه» «١» قال الحسن: وفيه نزلت وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً.
وروى أبو موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لم يقول أحدكم لامرأته: قد طلّقتك، قد راجعتك، ليس هذا بطلاق المسلمين، طلّقوا المرأة قبل عدّتها».
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ.
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإسلام وسائر نعمه، واذكروا ما أنزل عليكم من الْكِتابِ القرآن يَعِظُكُمْ ووَ الْحِكْمَةِ السنن التي علمكموها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
يَعِظُكُمْ بِهِ أي بما أنزل عليكم وَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيعلم ما علمتم من تعدّي حدوده، وتضييع أوامره، فيجازيكم على ما عملتم.
قال الله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢) فَلا تَعْضُلُوهُنَّ العضل: الحبس والتضييق، ومنه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج، ومنه قول عمر: وقد أعضل في أهل العراق، لا يرضون عن وال ولا يرضى عنهم وال، يعني بذلك، حملوني على أمر ضيّق شديد. قال أوس «٢» :
وليس أخوك الدائم العهد بالّذي يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا
ولكنّه النّائي إذا كنت آمنا وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
وبلوغ الأجل هنا على الحقيقة، قال الشافعي: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين.
وهذه الآية نهت أولياء المرأة على أن يعضلوها. أي يمنعوها حقّ الزواج إذا خطبها الكفء، وتراضت المرأة والخاطب به.
نزلت في معقل بن يسار. روى ابن جرير «٣» عن الحسن، عن معقل بن يسار أن أخته طلّقها زوجها، ثم أراد أن يراجعها، فمنعها معقل، فأنزل الله تعالى ذكره: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ.
وفي هذه الآية دلالة على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولي، لأنه لو كان
(١) قال السيوطي: رواه الطبراني، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (١/ ٢٨٦).
(٢) أوس بن حجر بن مالك التميمي أبو شريح شاعر تميم في الجاهلية، انظر الأعلام للزركلي (٢/ ٣١).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ١٦٢)، ٣٧- باب من قال: لا نكاح إلا بولي حديث رقم (٥١٣٠) وفي تفسير ابن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن (٢/ ٢٩٧).
161
للمرأة أن تتزوج دون رضى وليها، ولم يكن للولي شأن لما كان معنى لنهي الأولياء عن أن يعضلوا النساء.
كان مقتضى الظاهر أن يقال: (ذلكم يوعظ به)، لأنه يخاطب الجماعة، وإنما قال: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ لكثرة جري ذلك على ألسن العرب في منطقها وكلامها، حتى صارت الكاف بمنزلة حرف من حروف الكلمة. أي ما ذكرته من نهي الأولياء عن عضل النساء عظة مني لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ من أدناس الآثام. وقيل: أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ: أفضل وأطيب، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في ذلك من الزكاة والطّهر وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
قال الله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) لما ذكر الله الطلاق، وبيّن أن به الفراق، ولما كانت المطلّقات قد يكون لهن أولاد رضّع، وربما ضاعوا بين كراهة الأزواج وعنت المطلقات، احتاط الله للأولاد فأوصى بهم الوالدات، فجعلهنّ يرضعنهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وجعل على الآباء كسوة الوالدات ونفقتهنّ مدّة الرضاع بالمعروف لا يكلف الآباء إلا وسعهم، ونهى أن تضارّ الوالدة الوالد بسبب ولدها، وهو أن تعنته به، وتطلب منه ما ليس من النفقة والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبيّ: اطلب له ظئرا «١»، وما إلى ذلك.
ونهى أيضا أن يضارّ الوالد الوالدة بسبب ولده، وذلك أن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، وأن يأخذه منها، وهي تريد إرضاعه، وأن يكرهها على الإرضاع.
واحتاط، فجعل أقرباء الصبي يقومون مقام الوالد عند فقد الوالد في العناية بشأن الصبي.
ثم بيّن أنّ الوالدين إن أرادا فطام الصبي قبل العامين عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، بعد أن يكون ذلك نظرا لمصلحة الصبي. ثم أجاز أن يسترضعوا أولادهم المرضعات، ولما كانت حالة الفراق مع وجود الأولاد الرضّع حالة يكثر فيها النزاع والشقاق، أمر بتقوى الله، وأعلمهم أنّ الله بصير بما يعملون، فيجازيهم عليهم.
وهذا كله نظر من الله للصبيّ، لأنه عاجز عن تحصيل النفع لنفسه، ودفع الضرر عنها. وهذا من تمام لطف الله ورحمته، وقد اخترنا أن تكون الوالدات مرادا بهن
(١) العاطفة على غير ولدها أو المرضعة غير ولدها، انظر لسان العرب لابن منظور (٤/ ٥١٤).
162
المطلقات، لأن الله قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ولو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بالزوجية لا بالرضاع، وأيضا فهذه الآية ذكرت عقب آيات الطلاق، فهي من تتمتها.
وذكر بعضهم أن المراد بالوالدات كل والدة مطلّقة أو زوجة، وقد تعلّق بعموم اللفظ، وذهب الواحديّ إلى أن المراد بهنّ الزوجات، لأنّه جعل لهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ، ولو كنّ مطلقات لكان لهن أجرة.
واختلف العلماء في قوله: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ أذلك حقّ لها أم حقّ عليها؟
والآية محتملة.
وذهب مالك إلى أنه حقّ عليها إذا كانت زوجة أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها، أو إذا عدم الأب، واستثنوا من ذلك الشريفة، فلم يجعلوه حقا عليها، فكأنهنّ فهموا من الوالدات كلّ والدة زوجة أو غيرها، وجعلوه حقا عليها، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعرف.
وذهب كثير إلى أن ذلك مندوب، إلا عند الضرورة، إلا أن يقبل غيرها، بدليل قوله تعالى في آية أخرى: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطلاق: ٦] وإنما ندب ذلك، لأن لبن الأم أصلح للطفل، وشفقة الأم عليه أكثر.
والحول: من حال الشيء يحول: إذا انقلب، فالحول من الوقت الأول إلى الثاني، وإنّما قال الله: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لئلا يتوهّم أنّه أراد حولا وبعض الثاني، فقد يقولون يومين، وهم يريدون ذلك توسّعا والمقصود من تحديد مدّة الرضاع بحولين كاملين ليس وجوب ذلك، لأنه قال: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وإنّما المقصود بيان المدة التي يرجعان إليها عند الاختلاف.
وقد أخذ الشافعيّ وأحمد من ذلك أن مدّة الرضاع التي يحرّم الرضاع فيها هي حولان. فالرضاع ما لم يقع فيهما لا يحرّم.
وذهب أبو حنيفة «١» إلى أن مدة الرضاع ثلاثون شهرا، وقال زفر: ثلاث سنين، وذهب المالكية إلى أن ذلك كله تحكّم، وأن الصحيح أن ما قرب من زمن الفطام عرفا لحق به، وما بعد عنه خرج عنه، من غير تقدير. فلم يعتبروا هم ولا الحنفية أنّ الآية جاءت لتحديد مدة الرضاع المحرّم.
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي على قدر حال الأب من السّعة والضيق،
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١- ٢/ ٢٤٣).
163
كما قال تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطلاق: ٧] وأخذ من ذلك وجوب نفقة الولد على الوالد، لأنّ الله أوجب نفقة المطلّقة على الوالد في زمن الرضاع لأجل الولد، وإنما وجبت لضعف الولد واحتياجه، والوالد أقرب الناس إليه.
لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يحتمل أن يكون كلا الفعلين مبنيا للفاعل، ومبنيا للمفعول، والمعنى قريب بعضه من بعض وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ المراد بالوارث وارث الأب، وعليه مثل ذلك من رزقهن وكسوتهن وترك الضرار، وفي ذلك دليل على أنّ أقارب الصبي تجب عليهم نفقته عند عدم الوالد، وهو أصل في وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مذهب أبي حنيفة.
أما مالك والشافعيّ، فيريان أنّ نفقة الولد على أبيه، فإن مات، ففي مال الصبي إن كان له مال، وإلا فعلى الأم، وليسا يوجبان نفقة إلا على الوالدين، والآية ترد عليهما. إلا أن يحمل وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ على ترك الإضرار فقط، أو يريدان من الوارث الولد نفسه، وقد ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما.
الفصل: الفطام، وسمي بذلك لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات.
التّشاور: استجماع الرأي، وقد أجاز الله أن يفطم الصبيّ قبل الحولين إن اتفقا على ذلك، وشاورا أهل المعرفة فيه، ولم يكن في ذلك ضرر بالصبي وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ.
استرضع: قال الزمخشري: فعل، من أرضع. يقال أرضعت المرأة الصبيّ واسترضعتها الصبيّ. فتعديه إلى مفعولين كما تقول: أنجح الحاجة. واستنجحه الحاجة.
والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، حذف أحد المفعولين، للاستغناء عنه:
كما نقول: استنجحت الحاجة، ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول. وقد أجاز الله أن يسترضع الآباء المراضع أولادهم.
وهذا عند أبي حنيفة لخوف الضيعة على الولد عند الأم، والتقصير أو الإضرار بالوالد في اشتغال الأم عن حقه بولدها، أو الإضرار بالولد في الغيل ونحوه. فإن اختلفوا- نظر للصبيّ: فإن أوجب أن يسترضع له استرضع.
وقوله: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي ما أردتم إيتاءه، وليس هذا شرطا لجواز الاسترضاع، وإنما هو ندب إلى الأولى، لتكون المرضع طيبة النفس راضية، فيعود ذلك على الصبي بالنفع. وبقوله: بِالْمَعْرُوفِ متعلق بسلمتم: أمروا بأن يكونوا عند
164
تسليم الأجرة مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، حتى يؤمن تفريطهنّ.
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
ذكر وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وترك الخبر عنهم إلى الخبر عن أزواجهم، فقال:
يَتَرَبَّصْنَ وقد اختلف في توجيه ذلك، فذهب ابن جرير «١» إلى أن ذلك جائز، لأنه لم يقصد الخبر عنهم، وإنما يقصد الخبر عن الواجب على المعتدّات، فصرف الخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم إلى أزواجهن كقول الشاعر:
لعلّي إن مالت بي الرّيح ميلة على ابن أبي زيّان أن يتندّما
فقال: لعلي، ثم صرف الخبر عن نفسه إلى ابن أبي زيان فقال: أن يتندما.
وقال الزمخشري: إنه حذف المضاف، والأصل: وزوجات الذين يتوفون منكم يتربصن، أو أراد يتربصن بعدهم، كقولهم: السمن منوان بدرهم. أي منه، وقال:
وَعَشْراً والمراد: الأيام، ذهابا إلى الليالي، والأيام داخلة، قال الزمخشري: ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام. تقول: صمت عشرا. ولو ذكرت خرجت من كلامهم: ومن البين فيه قوله تعالى: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً [طه: ١٠٣] ثم إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه: ١٠٤] بيّن الله هنا عدّة المتوفى عنها زوجها، وهي تربّص أربعة أشهر وعشر، إلا أن تكون حاملا، فعدتها وضع حملها، كما قال تعالى:
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: ٤] فآية الحمل مخصّصة لهذه الآية.
وقد اختلف العلماء في الذي يتربّص عنه هذه المدة، فقال بعضهم: يتربصن عن النكاح، والطيب والزينة والنقلة من المسكن الذي كن يسكنّه مع أزواجهن.
أخرج ابن جرير «٢» عن أم سلمة أنّ امرأة توفي عنها زوجها، واشتكت عينها، فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تستفتيه في الكحل، فقال: «لقد كانت إحداكنّ تكون في الجاهلية في شرّ أحلاسها فتمكث في بيتها حولا إذا توفّي عنها زوجها، فيمرّ عليها الكلب فترميه بالبعرة، أفلا أربعة أشهر وعشرا».
وروي عن حفصة بنت عمر زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم تحدّث عن النبي قال: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ فوق ثلاث إلا على زوج، فإنّها تحدّ عليه أربعة أشهر وعشرا» «٣».
(١) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٣١٦).
(٢) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٣١٧).
(٣) رواه مسلم في الصحيح كتاب الطلاق حديث رقم (١٤٩٠).
165
قال يحيى: والإحداد عندنا ألا تتطيب، ولا تلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران، ولا تكتحل ولا تتزيّن.
وأخرج ابن جرير «١» عن الفريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قالت، قتل زوجي وأنا في داره، فاستأذنت رسول الله في النّقلة فأذن لي، ثم ناداني بعد أن توليت، فرجعت إليه فقال: «يا فريعة حتّى يبلغ الكتاب أجله».
فحجتهم أن الله ذكر التربص، والرسول بيّن ما يتربّص عنه.
وقال آخرون: إنما عدّة المتوفى عنها زوجها أن تتربص بنفسها عن الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والنقلة من المنزل، فلم تنه عن ذلك. واحتجوا بما
روي عن أسماء بنت عميس قالت: لمّا أصيب جعفر قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسلّبي ثلاثا. ثم اصنعي ما شئت» «٢»
وليس في هذا الحديث حجة لهم، إذ يحتمل أن يكون أمرها بالتسلّب ثلاثا، ثم لبس ما شاءت من الثياب التي يجوز للمعتدّة لبسها، مما لم يكن زينة ولا تطيبا، لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة ولا ثياب تسلب.
والحكمة في هذه العدة استبراء الرّحم من ماء الزوج المتوفّى، فمنع نكاح المعتدّة حتى تمضي مدة تتبيّن فيها: أحامل هي، فيلحق ولدها بالزّوج المتوفى؟ أو حائل، فإذا تزوّجت وولدت، ألحق الولد بالزّوج الثاني؟
ومنعت الطّيب والزينة لأنّها من دواعيه والذرائع إليه ومنعت الخروج من البيت الذي كانت تسكنه، لأن هذه الرقابة أدعى إلى الصيانة، ومنع العقد عليها، والخطبة في العدة، لأنّ ذلك ذريعة، ورخّص في التعريض فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: فإذا انقضت عدّتهنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأولياء فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من اختيار الأزواج، وتقدير الصداق، وقوله:
بِالْمَعْرُوفِ معناه على ما أذن الله لهنّ فيه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيعلم من يعضل النساء فيجازيه.
قال الله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
(١) في تفسيره جامع البيان (٢/ ٣١٩)، ورواه أبو داود في السنن (٢/ ٢٧٣)، كتاب الطلاق باب المتوفى عنها حديث رقم (٢٣٠٠)، والنسائي في السنن (٥- ٦/ ٥٠١)، كتاب الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها حديث رقم (٣٥٢٨)، والترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ٥٠٨)، كتاب الطلاق باب أين تعتد حديث رقم (١٢٠٤) وابن ماجه في السنن (١/ ٦٥٤)، كتاب الطلاق حديث رقم (٢٠٣١).
(٢) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان في تفسير القرآن (٢/ ٣١٨).
166
عَرَّضْتُمْ التعريض: هو القول المفهم للمقصود، وليس بنص فيه.
أَكْنَنْتُمْ سترتم.
سِرًّا السرّ: الوطء، قال الأعشى:
ولا تقربنّ جارة إنّ سرّها عليك حرام فانكحن أو تأبّدا
منع الله من خطبة المرأة صريحا في العدة، وأجاز التعريض بالخطبة لها أو لوليها في العدة، كأن يقول: إنك لجميلة، أو عسى أن ييسرّ الله لي امرأة صالحة، أو نحو ذلك، حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرّح بالخطبة.
أخرج ابن جرير «١» عن سكينة بنت حنظلة بن عبد الله بن حنظلة قالت: دخل علي أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي، فقال: يا ابنة حنظلة أنا من علمت قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحق جدي عليّ، وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر! أتخطبني في عدتي، وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلت؟ إنما أخبرتك بقرابتي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وموضعي، قد دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أمّ سلمة، وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفّي عنها، فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر لها منزلته من الله، وهو متحامل على يده حتى أثّر الحصير في يده من شدة تحامله على يده، فما كانت تلك خطبة.
أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي سترتم، وأضمرتم في أنفسكم فلم تذكروه تصريحا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ فاذكروهن، ولكن لا تواعدوهنّ سرّا، اختار ابن جرير «٢» أن السر هنا هو الزنى، فالمعنى لا توعدوهنّ فاحشة، وقيل: إنّ المراد به العقد، والسرّ في الأصل يطلق على الوطء، فأطلق على العقد الذي هو سببه.
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً بالتعريض دون التصريح، أي: لا تواعدوهنّ إلا لتقولوا قولا معروفا، أي: لا تواعدوهنّ إلا بالتعريض.
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ نهى عن العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح، لأنه إذا نهى عن العزم على العقد، كان عن العقد أشدّ نهيا، وقيل:
معناه لا تقطعوا عقد عقدة النكاح، لأنّ العزم القطع حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي المكتوب والمفروض من العدّة.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز فَاحْذَرُوهُ بالكفّ
(١) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٣٢٢).
(٢) المرجع نفسه (٢/ ٣٢٥).
167
عن ذلك وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ فلا يعجّل العقوبة، فلا تغترّوا بإمهاله.
وإذا عقد عليها في العدة، وبنى بها، فسخ النكاح، لنهي الله عنه، وتأبد تحريمها عليه، فلا يحلّ نكاحها أبدا عند مالك وأحمد والشافعي وبه قضى عمر، لأنه استحل ما لا يحلّ، فعوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه ميراث من قتله.
وقال غيرهم: يفسخ النكاح، فإذا خرجت من العدة كان خاطبا من الخطاب، ولم يتأبدّ التحريم، لأنّ الأصل أنها لا تحرم، إلا أن يقوم دليل على الحرمة من كتاب أو سنة أو إجماع من الأمة، وليس في المسألة شيء من هذا، ورأي الصحابيّ ليس حجة، وهناك إنكار من عليّ على عمر في هذا القضاء، وروي أنّ عمر رجع عنه.
قال الله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) المس هنا كناية عن الجماع أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً الفرض في اللغة التقدير، والمراد: أو تقدروا لها مقدارا من المهر يوجبه على نفسه.
وظاهر الآية يفيد أنّ رفع الجناح مشروط بعدم المسيس، وهو مشكل عند الفقهاء، لأنّه لا جناح عليه في الطلاق بعد المسيس أيضا، ولذلك أجابوا بجملة أجوبة ليس منها التزام هذا الحكم، وأقرب هذه الأجوية أن المراد: لا تبعة عليكم من إيجاب مهر إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ، ولا شك أنّ رفع المهر عنه مشروط بعدم المسيس، وعدم فرض مهر لها.
قالوا: والدليل على أن الجناح هنا تبعة المهر قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ فأوجب نصف المهر في مقابله، وقوله: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً بمعنى إلا أن تفرضوا، أو حتّى تفرضوا، وقال بعضهم:
إن (أو) بمعنى الواو، وبالجملة فإنّ الآية رفعت المهر عمّن طلّق قبل الدخول وقبل:
تسمية المهر، وطلبت المتعة لها.
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ وأعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على أقداركم، ومنازلكم من الغنى والإقتار.
والموسع: الذي له سعة.
والمقتر: الضيق الحال.
وقدره: مقداره الذي يطيقه، وكان ابن عباس يقول: متعة الطلاق أعلاها الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة.
وقد اختلف في هذه المتعة المطلوبة للمطلّقة قبل المسيس وقبل الفرض: أواجبة
168
هي أم غير واجبة؟ فذهب قوم منهم أبو حنيفة «١» إلى أنها واجبة، لظاهر قوله:
وَمَتِّعُوهُنَّ، وقوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ.
وذهب مالك إلى أنها مستحبة، لأنّ الله قال: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، ولو كانت واجبة لكانت حقا على الخلق أجمعين، والظاهر القول بالوجوب لظاهر الأمر، وكأنّ الله جعل لها المتعة في مقابل ما جعل للمسمّى لها من نصف الصّداق، وأما قوله:
حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فليبيّن أن مقتضى الإحسان يوجب ذلك.
مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ مصدر مؤكّد لمتعوهنّ، أي متعوهن تمتيعا بالمعروف بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ حقّ ذلك حقا على المحسنين.
قال الله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) هذا هو القسم الثاني، لأنّ المطلقة قبل المسيس: إما أن لا يكون قد فرض لها مهر، أو يكون قد فرض.
الأولى: لم يجعل الله لها شيئا من المهر، وجعل لها المتعة.
والثانية: جعل لها نصف الصّداق.
وقد بقيت المطلّقة بعد الدخول، وهذه فيها قسمان، لأنها: إما أن يكون قد سمّي لها مهر، أو لا يكون، وللأولى جميع المسمّى، وللثانية مهر مثلها.
وقوله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي المطلقات أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ أي الولي، وقيل: هو الزوج ويكون المعنى على المعنى الأول إلا أن تسقط المطلقات ما وجب لهن من نصف الصداق، إن كنّ مالكات لأنفسهن، أو يسقط الولي إن لم يكنّ كذلك: وذلك الأب في ابنته البكر، أو السيد في أمته، وعلى الثاني إلا أن تعفو المطلقات، أو يعفو الزوج عن نصف الصّداق فيجعل المهر كله لها.
وإلى الأوّل ذهب ابن عباس والحسن وعكرمة وطاوس وعطاء وزيد بن أسلم وربيعة وهو مذهب مالك.
وإلى الثاني ذهب علي، وشريح «٢» وسعيد بن المسيب وجبير بن مطعم ومجاهد والثوري. واختاره أبو حنيفة والشافعي في أصح قوليه.
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١- ٢/ ٢٢٢).
(٢) شريح بن الحارث بن قيس الكندي، كان قاضيا في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، كان ثقة في الحديث، مات بالكوفة سنة (٧٨ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٣/ ١٦١). [.....]
169
وحجة القائلين بأنه الزوج أنّ الله قال: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وليس إعطاء المرء مال غيره فضلا، فلا ينطبق على الولي.
وحجة من قال: إنه الولي، أنّ الخطاب في أول الآية للأزواج، فلو أراد الزوج لقال: أن يعفو، ولا موجب لمخالفة مقتضى الظاهر. وثانيا: أن يَعْفُونَ بمعنى يسقطن، والثاني أن يَعْفُوَا الثانية بمعنى يسقط أيضا، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، أما إذا كان هو الزوج فيكون بمعنى يعطي.
ومذهب أبي حنيفة، وأحمد أن المهر جميعه يتقرّر بالخلوة الصحيحة، ومشهور مذهب مالك أنه لا يتقرر المهر بالخلوة، إلا إذا اقترن بها مسيس، وظاهر القرآن يعضده.
ويؤخذ من تقسيم الله المطلقة إلى قسمين- مطلقة لم يفرض لها، ومطلقة فرض لها- أن نكاح التفويض جائز، وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصّداق، ولا خلاف فيه.
ويفرض بعد ذلك الصّداق، فإن فرض بعد العقد وقبل الطلاق فهل تكون من المسمّى لها فيكون لها نصف المسمّى. أو ممن لم يسمّ لها فلا يكون لها النصف؟ ذهب مالك ألى الأول. فألحق من سمّي لها بعد العقد بمن سمّي لها في العقد.
وذهب أبو حنيفة إلى الثاني نظرا إلى أنها لم يسمّ لها في العقد.
وإذا مات الزوج قبل أن يفرض لها: أفيكون حكمها حكم المطلقة، فلا صداق لها؟ أم لا يكون، فيكون لها الصداق؟ ذهب مالك إلى الأول، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى الثاني.
وحجة مالك أنّه فراق في نكاح قبل الفرض، فلم يجب فيه صداق أصله الطلاق.
وحجة الشافعي وأبي حنيفة ما
رواه النسائي وأبو داود أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى في بروع بنت واشق وقد مات زوجها قبل أن يفرض لها بالمهر والميراث والعدة «١».
وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قيل: المخاطبون بذلك الأزواج والزوجات جميعا، أي: وأن تعفوا- أيها الناس- بعضكم عما وجب له قبل حاجته من الصداق أقرب له إلى تقوى الله، وقيل: المخاطبون بذلك الأزواج خاصّة، فتكون الآية انتظمت عفو الزوجات، والولي، والزوج وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ولا تغفلوا أيها الناس التفضل بينكم فتتركوه وتستقصوا إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيعلم من عفا وعامل بالإحسان، ومن لم يفعل ذلك، ويحصيه. ويجازي عليه.
(١) رواه أبو داود في السنن (٢/ ٢٠٢)، كتاب النكاح، باب فيمن تزوج حديث رقم (٢١١٤)، والنسائي في السنن (٥- ٦/ ٤٣٠)، كتاب النكاح حديث رقم (٣٣٥٤)، والترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ٤٥٠)، كتاب النكاح باب تزوج المرأة حديث رقم (١١٤٥)، وابن ماجه في السنن (١/ ٦٠٩)، ٤٥٠)، كتاب النكاح باب تزوج المرأة حديث رقم (١١٤٥)، وابن ماجه في السنن (١/ ٦٠٩)، كتاب النكاح باب الرجل يتزوج حديث رقم (١٨٩١).
170
قال الله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) حافِظُوا المحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة، ومعنى المحافظة على الصلوات المواظبة عليها، وعدم تضييعها. وَالصَّلاةِ الْوُسْطى الوسطى من الوسط، وهو العدل والخيار والفضل وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي خيارا وعدولا، فالصلاة الوسطى أي الفضلى، ويحتمل أنها وسط في العدد. لأنّها خمس صلوات، تكتنفها اثنتان من كل جهة، وقيل: إنها وسط من الوقت.
روى القاسم عن مالك أنّ الصبح هي الوسطى لأن الظهر والعصر في النهار، والمغرب والعشاء في الليل، والصبح فيما بين ذلك. وقد اختلف في الصلاة الوسطى: ما هي؟ على سبعة أقوال: فما من صلاة إلا قيل إنها الوسطى، فتلك خمسة. وقيل: إنها الجمعة، وقيل: إنها غير معروفة. وقد أبهمها الله ليحافظ على الصلوات كلّها طلبا للصلاة الوسطى، وهذا هو الظاهر. وكل دليل قام على تعيينها لا يخلو من ضعف «١».
والصلاة الوسطى داخلة في الصلوات. وإنما خصّها بالذكر تنبيها على شرفها في جنسها، كما قال تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨).
وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ قال ابن عباس: القنوت الطاعة، وقال ابن عمر: هو القيام، واستدل عليه
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصلاة طول القنوت» «٢»
قال مجاهد: إنّه السكوت.
وفي «الصحيح» «٣» قال زيد بن أرقم: كنا نتكلّم في الصلاة حتى نزلت هذه الآية وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت. وقيل: هو الخشوع، والصحيح ما قاله مجاهد، بدليل ما رواه زيد، ويبعد جدا أن يراد به القيام هنا لأنه لا يصحّ (وقوموا لله قائمين).
وإذا كان المراد بالقنوت السكوت هنا كانت الآية آمرة بالسكوت في الصلاة، وقد ذكرت المالكية أنّ من تكلّم في الصلاة، إما أن يكون ساهيا أو عامدا، والعامد: إما أن يتكلّم لإصلاحها، أو عبثا، وقالوا: إنّ من تكلّم ساهيا لا تبطل صلاته، لأنّ السهو لا يدخل تحت التكليف، ومن تكلّم لإصلاحها لا تبطل صلاته خلافا للشافعية والحنابلة.
(١) لكن ورد في الصحيح كما رواه مسلم في صحيحه (١/ ٤٣٧)، ٥- كتاب المساجد، ٣٦- باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر حديث رقم (٢٠٦/ ٦٢٨).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٥٢٠)، ٦- كتاب صلاة المسافرين، ٢٢- باب أفضل الصلاة حديث رقم (١٦٤/ ٧٥٦).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (٥/ ١٩١)، ٦٥- كتاب تفسير القرآن، ٤٣- باب قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ حديث رقم (٤٥٣٤).
171
واستدل المالكية بقصة ذي اليدين «١» وهي
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلّم من ركعتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال: «كل ذلك لم يكن» فقال: بل بعض ذلك قد كان- فقال النبي: «أصحيح ما يقول ذو اليدين» قالوا: نعم.
وأما إذا تكلم عابثا فتبطل صلاته.
قال الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) فَرِجالًا جمع راجل، وهو خلاف الراكب، كقائم وقيام، أو جمع رجل، يقال: رجل رجل، أي راجل.
المعنى: فإن كان بكم خوف من عدوّ أو غيره فصلوا رجالا أو ركبانا فَإِذا أَمِنْتُمْ أي زال الخوف عنكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ من صلاة الآمن، أو فإذا أمنتم فاذكروا الله واعبدوه كما أحسن إليكم بما علّمكم من الشرائع ما لم تكونوا تعلمون.
وهذه الآية دلّت بظاهرها على جواز الصلاة حال القتال، راجلا أو راكبا ولا تبطل بالقتال، ويسقط استقبال القبلة، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وذهب أبو حنيفة إلى أن الصلاة تبطل بالقتال، وظاهر الآية حجة عليه. وقد أيد ما روي في «الصحيح» «٢» عن ابن عمر حال الخوف «فإن كان خوف هو أشدّ من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها.
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) قرئ برفع الوصية ونصبها، فالرّفع على أنه مرفوع بفعل محذوف تقديره: كتبت والنصب على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره. كتب، و (متاعا) نصب بالوصية، و (غير إخراج) نعت متاعا.
أخرج ابن جرير «٣»
عن همّام بن يحيى قال: سألت قتادة عن قوله:
(١) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ٨٣)، ٢٢- كتاب السهو، ٥- باب يكبر في سجدتي السهو حديث رقم (١٢٢٩)، ومسلم في الصحيح (١/ ٤٠٣)، ٥- كتاب المساجد، ١٩- باب السهو حديث رقم (٩٧/ ٥٧٣).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٥/ ١٩١)، ٦٥- كتاب التفسير، ٤٤- باب فَإِنْ خِفْتُمْ حديث رقم (٤٥٣٥).
(٣) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (٢/ ٣٦٠).
172
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فقال: كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها، ما لم تخرج. ثم نسخ ذلك بعد في سورة النساء، فجعل لها فريضة معلومة: الثمن إن كان له ولد، والربع إن لم يكن له ولد، وعدتها أربعة أشهر وعشرا، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول. وذهب بعضهم إلى أن هذه الآية ثابتة الحكم لم ينسخ منها شيء.
روى ابن جرير «١» عن مجاهد في قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً قال: كانت هذه للمعتدة، تعتدّ عند أهل زوجها واجبا ذلك عليها، فأنزل الله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ إلى قوله: مِنْ مَعْرُوفٍ قال: جعل الله لهم تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت. وهو قول الله تعالى ذكره: غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ قال والعدة كما هي واجبة.
وقد ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجب لها السكن في مال زوجها، وتعتد حيث شاءت.
وذهب مالك إلى أن السكنى مدة العدة واجبة لها، لما يثبته حديث الفريعة المتقدم.
فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ما يفعلنه بأنفسهن من التزيّن للخطّاب من معروف لا ينكره الشرع وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: ٢٤٠].
وَاللَّهُ عَزِيزٌ في انتقامه ممّن خالف أمره ونهيه ال حَكِيمٌ في قضاياه التي شرعها لكم.
قال الله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) ذهب سعيد بن جبير إلى أنّ هذه الآية أثبتت المتعة لكل مطلّقة، سواء أكانت مدخولا بها، أو لم تكن مدخولا بها؟ فيكون قد ذكر أولا المتعة، وأثبتها لمن طلّقت قبل المسيس، وعمّ هنا المتعة لكلّ مطلقة، وقال ابن زيد: لما نزل قوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ قال رجل: فإن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) «٢».
فتكون هذه الآية فيمن طلّقت قبل المسيس، ولم تعط حكما زائدا. وقيل:
المراد بالمتعة متعة العدة.
(١) المرجع نفسه (٢/ ٦٣).
(٢) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان في تفسير القرآن (٢/ ٣٦٤).
173
قال الله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) كما بينت لكم ما لكم على أزواجكم، وما لأزواجكم عليكم، كذلك أبيّن لكم سائر الأحكام، لتعقلوا حدودي وفرائضي، وتعلموا ما فيه الصلاح لكم من الأحكام.
إنّ بعض الأزواج يطلّقون نساءهم ظلما منهم، أو مللا وسآمة، ولا يبالون بما يصيب المرأة من ضرر بهذا الطلاق، فتذهب أزواجهنّ إلى المحاكم الشرعية بمصر، يطلبن تعويضا، فلا تحكم لهنّ به، فيلجأن إلى المحاكم الأهلية فتحكم لهنّ بالتعويض، فلو أخذ بمذهب سعيد بن جبير في إثبات المتعة لكلّ مطلقة، ويكون بقدر حال الزوج من عسر ويسر، لكان في ذلك تعويض للمرأة عمّا فاتها بالطلاق من جهة، وتقليل للطلاق من جهة أخرى. لأنّ الزوج قد يكفّ عن الطلاق إذا علم أنّ وراءه متعة يغرّمها للزوجة.
قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)
لا يَقُومُونَ أكثر المفسرين على أن المراد: القيام يوم القيامة، وقال بعضهم:
المراد القيام من القبر، والظاهر شموله للأمرين.
يَتَخَبَّطُهُ التخبط الضرب على غير استواء، وتخبّطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون.
مِنَ الْمَسِّ المراد به الجنون، وأصل المس إلصاق اليد، ثم سمّي الجنون مسا، لأنّ الشيطان إذا مسه بيده اعتداء عليه أفقده أعظم قواه، وهو العقل.
يَمْحَقُ المحق نقصان الشيء حالا بعد حال، ومنه المحاق في الهلال.
الرِّبا في اللغة الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو: أي يزيد، وفي الشريعة هو:
فضل مال دون عوض، في معاوضة مال بمال.
والربا قسمان: ربا النسيئة، وربا الفضل.
فربا النسيئة: هو الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية، لا يعرفون غيره، وهو أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلّ شهر قدرا معينا، فإذا حلّ الأجل طولب المدين برأس المال كاملا، فإن تعذّر الأداء زادوا في الحق والأجل.
وربا الفضل أن يباع من الحنطة منّا بمنوين منها، أو درهما بدرهمين، أو دينارا بدينارين، أو رطلا من العسل برطلين.
174
وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما لا يحرّم إلا القسم الأول، وكان يجوّز ربا الفضل، اعتمادا على ما
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما الرّبا في النّسيئة» «١»
ولكن لما تواتر عنده الخبر بأن
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل، يدا بيد»
وذكر الأصناف الستة كما رواه عبادة بن الصامت وغيره، رجع عن قوله. وأما
قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الربا في النسيئة»
فمحمول على اختلاف الجنس، فإنّ النسيئة حينئذ تحرم، ويباح التفاضل، كبيع الحنطة بالشعير: تحرم فيه النسيئة، ويباح التفاضل. ولذلك وقع الاتفاق على تحريم الربا في القسمين:
أما الأول: فقد ثبت تحريمه بالقرآن.
وأما الثاني: فقد ثبت تحريمه بالخبر الصحيح «٢» : كما
روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد»
واشتهرت روايته هذه حتّى كانت مسلّمة عند الجميع.
ثم اختلف العلماء بعد ذلك، فقال نفاة القياس: إنّ الحرمة مقصورة على هذه الأشياء الستة.
وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء: إنّ الحرمة غير مقصورة على هذه الأشياء الستة، بل تتعداها إلى غيرها، وإنّ الحرمة ثبتت في هذه الستة لعلّة، فتتعدى الحرمة إلى كل ما توجد فيه العلّة.
ثم اختلفوا في هذه العلة، فقال الحنفية «٣» : إنّ العلة هي اتحاد هذه الأشياء الستة في الجنس والقدر، أي الكيل والوزن، فمتى اتّحد البدلان في الجنس والقدر، حرم الربا بقسميه، كبيع الحنطة بالحنطة، وإذا عدما معا حلّ التفاضل والنسيئة: كبيع الحنطة بالدراهم إلى أجل، وإذا عدم القدر، واتحد الجنس حلّ الفضل دون النسيئة:
كبيع عبد بعبدين، وإذا عدم الجنس واتحد القدر حلّ الفضل دون النسيئة أيضا: كبيع الحنطة بالشعير.
وقال المالكية: إنّ العلّة هي اتحاد الجنس مع الاقتيات، أو ما يصلح به الاقتيات.
(١) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٢١٨)، ٢٢- كتاب المساقاة، ١٨- باب بيع الطعام حديث رقم (١٠٢/ ١٥٩٦).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٢١٠)، ٢٢- كتاب المساقاة، ١٥- باب العرف وبيع الذهب حديث رقم (٨٠/ ١٥٨٧).
(٣) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (٣- ٤/ ٦٧).
175
وقال الشافعية: إنّ العلة في الذهب والفضة هي اتحاد الجنس مع الثمنيّة. وفي الأشياء الأربعة الباقية اتحاد الجنس مع الطعم، والتفاصيل في أمر الربا تعلم من كتب الفقه.
سبب تحريم الربا
١- إنّه يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض، وهو شنيع ممنوع، لأنّ المال شقيق الروح، فكما يحرم إزهاق الروح من غير حقّ، يحرم أخذ المال من غير حق.
٢- إنّه يفضي إلى امتناع الناس عن تحمّل المشاقّ في الكسب والتجارة والصناعة، وهو يؤدي إلى انقطاع مصالح الخلق.
٣- إنّه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض الحسن، ويمكّن الغني من أخذ مال الفقير الضعيف من غير مقابل، وهو لا يجوز برحمة الرحيم.
ولا وجه للتمسك بما يقال: إن رأس المال لو بقي في يد صاحبه لاستفاد منه ربحا بسبب التجارة فيه، فما تركه في يد المدين لم يكن هناك بأس في أن يدفع إلى ربّ المال مالا زائدا عوضا عن انتفاعه بماله، لأنّه يمكن دفعه بأن الذي يذكرونه أمر موهوم، قد يحصل وقد لا يحصل، والمال الزائد ملك للفقير على وجه اليقين، فتفويت المتيقّن لأمر موهوم إضرار بالضعيف، وهو لا يجوز.
المعنى: الذين يأخذون الربا ويقتطعونه من أموال الناس بغير حق لا يقومون من القبور يوم القيامة إلا قياما كقيام الشخص الذي يضربه الشيطان على غير اعتدال، بسبب المسّ، أي الجنون الذي أصابه، وهذا التمثيل وارد على ما يزعم العرب من أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه، ويمسّه يختلط عقله، وذلك السوء الذي يعتريهم عند قيامهم بسبب أنهم تعاملوا بالربا، وبالغوا في استباحته حتى قالوا: إنما البيع مثل الربا، قد اعتبروا الربا أصلا في الإباحة يقاس عليه البيع: فيجوز بيع درهم بدرهمين، كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدر همين، مع وضوح الفرق بينهما، فإنّ أحد الدرهمين في الأول ضائع حتما، والثاني منجبر بالاحتياج إلى السلعة، أو يتوقّع رواجها.
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا لما في الأول من وجوه الجابر، وفي الثاني: من الإضرار المحتّم.
فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي تذكرة يذكّره فيها بحكمه تعالى فاتعظ بلا تراخ، واتبع النهي الوارد، فله ما تعامل به فيما سلف، ولا يستردّ منه، وأمر جزائه موكول إلى الله.
وَمَنْ عادَ إلى استحلاله فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا.
176
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ بالغ الله تعالى- في هذه الآية- في الزجر عن الربا، وكان قد بالغ في الآيات السابقة في الأمر بالصدقات، وكان النّاس يرون بحسب الظاهر أن الربا يوجب زيادة الخيرات، وأنّ الصدقات توجب نقصان الخيرات، فأراد سبحانه وتعالى أن يدفع هذه الشبهة، وبيّن أنه تعالى كفيل بعكس ذلك، وأنّ الربا وإن كان زيادة في المال ظاهرا، إلا أنه نقصان في الحقيقة، وأنّ الصدقات وإن كانت نقصانا في المال إلا أنها زيادة في المعنى، فاللائق بالمسلم أن يعوّل على ما ندبه إليه الشارع، فإنّه بذلك يضمن خيري الدنيا والآخرة، وهو المشار إليه بقوله تعالى:
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ.
وإرباء الصدقات يكون في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلما يأتي:
أولا: يزداد جاهه وذكره الجميل، وميل القلوب إليه، واطمئنان النفوس إليه، وفي ذلك من أسباب تيسير أموره ما يشهد به كلّ خبير.
ثانيا: إنّ محبة الناس له تجرّ إلى معاونته في كثير من معاملاته. وقضاء مصالحه، فتفتح له أبواب الخيرات، وتتسع أرزاقه.
ثالثا: من كان لله كان الله له.
وقد روي في الحديث الشريف: «أنّ ملكا ينادي كلّ يوم: اللهم يسّر لكلّ منفق خلفا، ولممسك تلفا» «١».
وأما في الآخرة فلما
ورد: «إنّ الله، يقبل الصّدقة، ويأخذها بيمينه، فيربّيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتّى إنّ اللقمة لتصير مثل أحد» «٢»
ولما ورد في القرآن الكريم مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٦١]. ومحق الرّبا يكون في الدنيا والآخرة:
أما في الدنيا فلما يأتي:
أولا: لأنّ الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤول عاقبته في الفقر والدمار، كما
روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «الرّبا وإن كثر فإنّ عاقبته تصير إلى قلّ».
ثانيا: أن الذين تؤخذ أموالهم بسبب الربا يبغضون المرابي، ويقصدونه بالأذى عند غفلته، ويسلبون أمواله عند التمكن، وكل ذلك يؤدّي إلى المحق والدمار وإن طال الزمان.
(١) رواه البخاري (بغير هذا اللفظ) في الصحيح (٢/ ١٤٧)، ٢٤- كتاب الزكاة، ٢٧- باب قوله تعالى:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى حديث رقم (١٤٤٢)، ومسلم في الصحيح (٢/ ٧٠٠)، ١٢- كتاب الزكاة، ١٧- باب في المنفق حديث رقم (٥٧/ ١٠١٠).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ١٣٨)، ٢٤- كتاب الزكاة، ٨- باب الصدقة حديث رقم (١٤١٠)، ومسلم في الصحيح (٢/ ٧٠٢)، ١٢- كتاب الزكاة، ١٩- باب قبول الصدقة حديث رقم (٦٣/ ١٠١٤). [.....]
177
ثالثا: أنه يحبب إليه التعامل بالمقامرات وأنواع المعاملات الخطرة، وفي الغالب يؤول أمره إلى المحق والدمار.
وأما الآخرة فلما يأتي:
أولا: لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: معنى هذا المحق أنّ الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا صلة رحم.
ثانيا: لأنّ مال الدنيا لا يبقى عند الموت، وتبقى التبعات والعقوبات، وهذه هي الخسارة الكبرى.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أي لا يرضى عن كلّ من يصرّ على تحليل- أي ارتكاب- المحرمات أَثِيمٍ منهمك في ارتكاب المعاصي التي توجب الإثم. فالآية في المسلمين الذين يرتكبون المعاصي وهاهنا أمور:
الأول: التخبط- مصدر (يتخبط) بوزن تفعّل- غير متعد، ولكنّه عداه هنا نظرا لأنّ تفعّل يأتي كثيرا بمعنى فعل، نحو تقسّم المال: أي قسمه.
الثاني: قوله: مِنَ الْمَسِّ يصح تعلّقه بقوله: يَقُومُونَ، أو بقوله: يَقُومُ وهو علة لما تعلق.
الثالث: هذه الآية ظاهرة في أنّ الشيطان يتخبط الإنسان ويضربه ويمسّه ويصرعه، وبذلك قال أهل السنة، وهو مبنيّ على أنه لا يوجد مانع من القول بأن الشيطان جسم كثيف.
وقيل: إن الشيطان ضعيف لا قدرة له على الضرب والصرع والأعمال الشاقة، لأنه جسم لطيف كالهواء، ليس فيه صلابة ولا قوة، فيمتنع أن يكون قادرا على أن يضرب الإنسان ويصرعه، ولأن القرآن الكريم يدل على أنه ليس للشيطان قدرة على الصّرع والقتل والإيذاء، حيث يقول حكاية عن الشيطان: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: ٢٢] فأفسد أحوالهم، وأفشى أسرارهم وأزال عقولهم، وكل ذلك باطل.
وأما ما ورد في القرآن الكريم: من أنهم كانوا يعملون لسليمان بن داود عليهما السلام ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، فإنما كان بإقدار من الله على هذه الأفعال معجزة لسليمان عليه السلام.
وتأوّل أصحاب هذا القول التخبط والمسّ في هذه الآية بوسوسة الشيطان المؤذية التي يحدث عندها الصرع.
وإنما تحدث الوسوسة الصرع بسبب ضعف الطباع وغلبة السوداء على الإنسان، فيعتريه من الخوف والذّعر عند الوسوسة ما يصرعه، كما يصرع الجبان في
178
الموضع الخالي بسبب وسوسته، ولهذا يوجد هذا المعنى فيمن به نقص في المزاج، وخلل في الدماغ، ولا يوجد عند أهل الكمال والفضل والحزم والعقل. ويستأنس لذلك بما يظهر من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) [الأعراف: ٢٠١] فأهل التقوى والقلوب المطمئنة إذا وسوس لهم الشيطان تذكّروا أوامره ونواهيه، فتستنير قلوبهم، وتندفع عنهم الوساوس الشيطانية، ولم يكن للشيطان عليهم سلطان.
وأما الضعفاء: أهل القلوب التي لم تكن مطمئنة، فيدعوهم الشيطان إلى طلب اللذات والشهوات، وللاشتغال بغير الله تعالى تارة، ويدعوهم باعث الحق والدين إلى الدين والعمل الصالح تارة أخرى فتحدث عندهم حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، وهذا بعينه هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان.
فآكل الربا لا شك أنه متهالك على حب الدنيا ولذاتها وشهواتها، فإذا مات على ذلك، وجاء يوم البعث خرج الناس من الأجداث سراعا إلا أكلة الربا، فإنهم يتخبّطون، يقومون ويسقطون، كالذي يتخبطه الشيطان من أجل المسّ.
الأحكام
يؤخذ من الآية ما يأتي:
أولا: حرمة الرّبا الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية، وهو ربا النسيئة.
ثانيا: حرمة ربا الفضل، كأن يبيع منّا من الحنطة بمنوين منها.
ثالثا: حرمة الصلح على خمسمائة حالّة مثلا مع من عليه ألف مؤجلة، فإنّ هذا في معنى ربا الجاهلية الذي كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل، فأبطله الله بتحريم الربا.
وفي مسألة الصلح على قرض مؤجّل صالحه ربّ المال على بعض منه معجّل، فالدائن قد انتفع بباقي الدين مقابل إسقاط الأجل، والمدين قد انتفع بفضل من المال دون عوض مالي، وجزئيات الربا كثيرة، يعلم حكمها من انطباق ضابطه عليها.
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) سنة الله في كتابه الكريم أنّه مهما ذكر وعيدا ذكر بعده وعدا، فلما بالغ هاهنا في وعيد المرابي أتبعه بهذا الوعد فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي صدّقوا بالله ورسوله، وبما جاءهم به وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ حال كونه عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من مكروه يصيبهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من أجل محبوب يفوتهم.
179
وإنما خصّ الصلاة والزكاة بالذكر مع اندراجهما في الصالحات، للإشعار بأنّ لهما من المنزلة في الإسلام ما ليس لغيرهما، ولذلك ورد ذكرهما في القرآن مرّات عديدة كما جاءت الآثار بفضلهما، وتفوقهما على غيرهما.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) يبين الله تعالى في الآية السابقة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف، فربما يظنّ أنّه لا فرق بين المقبوض منه، وبين الباقي في ذمة القوم، فقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ: أي اتخذوا وقاية من عذاب بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا أي ما كان لكم في ذمة القوم من الزيادة المحرمة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي متّصفين بالإيمان الذي الشأن فيمن اتّصف به الانقياد والاستسلام. أي إن كنتم عاملين بمقتضى إيمانكم.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتكم به من الاتقاء، وترك ما بقي من الربا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي عقاب شديد من نوع الحروب، فإنّ الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص يقدر الإمام عليه قبض عليه وأجري عليه حكم الله: من التعزير والحبس، إلى أن تظهر منه التوبة.
وإن كان له عسكر وشوكة حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية، وكما حارب أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، ولا عجب في ذلك، فإنّ الفقهاء نصوا على أنه لو اجتمع أهل بلد على ترك الأذان أو ترك دفن الموتى: فإنه يحاربهم الإمام. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من عامل بالربا يستتاب. فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
قيل: التعبير بالحرب للتهديد والتخويف بعقابه الشديد، فإنّه قد عهد التعبير بالحرب في معنى العقاب الشديد، كما
ورد «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» «١».
وقوله: فَأْذَنُوا فاعلموا وأيقنوا بحرب: من أذن يأذن. من باب (طرب).
وَإِنْ تُبْتُمْ أي: امتثلتم أمر الله تعالى فليس لكم إلا رؤوس أموالكم لا تَظْلِمُونَ المحتاجين بأخذ أموالهم من غير عوض وَلا تُظْلَمُونَ أنتم بضياع رؤوس أموالكم.
(١) رواه البخاري في الصحيح (٧/ ٢٤٣)، ٨١- كتاب الرقاق، ٣٨- التواضع حديث رقم (٦٥٠٢).
180
قيل: نزلت هذه الآية في أربعة إخوة من ثقيف: مسعود، وعبد ياليل، وحبيب، وربيعة: بنو عمرو بن عمير الثقفي، كانوا يداينون بني المغيرة، فلما ظهر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أسلم الأخوة، ثم طالبوا برباهم بني المغيرة، فنزلت «١».
وإن وجد شخص ذو عسرة فعاملوه بالحسنى والرحمة، وأنظروه إلى ميسرة، أو وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ غريما لكم فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ
فإنه عليه الصلاة والسلام يقول: «ولا يحلّ لكم دين رجل مسلم فيؤخّره إلا كان بكلّ يوم صدقة» «٢».
فلفظ كانَ في الآية يحتمل أن تكون تامة، ويحتمل أن تكون ناقصة.
والعسرة: اسم من الإعسار، وهي الحالة التي يتعسّر فيها وجود المال.
والنظرة: اسم للتأخير والتأجيل.
والميسرة: مصدر بمعنى اليسر وهو الغنى.
وقرأ نافع بضم السين، والباقون بفتحها.
وَأَنْ تَصَدَّقُوا على الغرماء المعسرين بالإبراء فهو خَيْرٌ لَكُمْ من الإنظار، وأكثر ثوابا، أو هو خَيْرٌ لَكُمْ مما تأخذونه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فضل التصدّق على الإنظار أو الأخذ.
قالوا: سبب نزول هذه الآية أن الأخوة الثقفيين طالبوا بني المغيرة برؤوس أموالهم، فشكوا إليهم العسرة، وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا تأخيرهم، فنزلت هذه الآية.
ويؤخذ من الآية أن رب المال متى علم أنّ غريمة معسر وجب عليه إنظاره، وإذا لا حظنا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: نعلم أن الإنظار واجب عند العسر في كل دين، لا في خصوص دين الربا.
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ لما كان الذين يعاملون بالربا من العظماء أصحاب الثروة والجلال والأنصار والأعوان: كانت الحالة داعية إلى مزيد من الزجر والوعيد، حتى يمتنعوا عن الربا وأخذ أموال الناس بالباطل. ولهذا توعّدهم الله وهدّدهم بهذه الآية أيضا فقال: وَاتَّقُوا يَوْماً أي تشتدّ فيه الأهوال، وتعظم الخطوب، حتى ورد أنه يجعل الولدان شيبا، ولهول ما يقع فيه أمر الله باتّقاء نفس اليوم، للمبالغة في التحذير عما فيه.
وقال: تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ أي لتوقيع الجزاء:
(١) انظر تفسير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (٣/ ٧١).
(٢) رواه أحمد في المسند (٥/ ٣٥١).
181
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨) [الزلزلة: ٧، ٨] كما قال: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي جزاء ما عملت من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ في هذه العقوبات، لأنّها مناسبة لأسبابها الواقعة منهم. وهاهنا أمور:
الأول:
نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.. آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «١»، لأنه لما حجّ نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.. «٢» [النساء: ١٧٦] ثم نزلت وهو واقف بعرفة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.. «٣» [المائدة: ٣] ثم نزل: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ..
فقال جبريل عليه السلام: «يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة» «٤».
والثاني: قرأ أبو عمرو تُرْجَعُونَ بفتح التاء، والباقون بضمها، فبالفتح من رجع رجوعا، وهو لازم. وبالضم من رجعه إليه رجعا، وهو متعد، يصحّ بناؤه للمفعول.
الثالث: معنى رجوعهم إلى الله أنهم يرجعون إلى ما أعدّ لهم من ثواب أو عقاب وقيل: معناه أنهم يكونون في يوم البعث بحالة لا يتصرّف فيهم ظاهرا وباطنا إلّا الله تعالى، بخلاف حالتهم في الدنيا، فإنه يتصرف بعضهم في بعض بحسب الظّاهر.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) التداين: تفاعل، مأخوذ من الدّين، وهو: التبايع بالدين.
(١) انظر الدر المنثور التفسير المأثور للسيوطي (١/ ٣٦٩).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٥/ ٢٢٠)، ٦٥- كتاب التفسير، ٢٧- باب (يستفتونك) حديث رقم (٤٦٠٥).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (١/ ١٩)، ٢- كتاب الإيمان، ٣٢- باب حسن إسلام المرء حديث رقم (٤٥).
(٤) انظر الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي، بيروت دار الفكر (١/ ٦١).
182
وَلْيُمْلِلِ أي يملي، يقال أملّ إملالا إذا كان أملى إملاء.
مناسبة هذه الآية: إنّ الآيات السابقة بيّن الله فيها حكم التعامل بالربا، وشدّد في منعه، فأراد هنا أن يبيّن حالة المداينة الواقعة في المعاوضات الجارية فيما بينهم ببيع السلع بالدين المؤجل بطريقة تحفظ الأموال، وتصونها عن الضياع.
ويمكن أن يقال في المناسبة: إنّه لما بيّن فيما سبق أنّ الإنفاق في سبيل الله مطلوب، وهو يوجب نقص المال، وإن الربا محرّم، وهو يوجب نقص المال أيضا، أراد هنا أن يبيّن كيفية حفظ المال الحلال، وطريق صونه عن الضياع فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ تبايعتم وتعاملتم نسيئة بِدَيْنٍ بما يصحّ فيه الأجل، كبيع سلعة حاضرة بنقود مؤجلة، أو بسلعة أخرى مؤجلة، وكبيع سلعة مؤجلة أي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مع معرفة الجنس والنوع والقدر بثمن حالّ، وهو السلم، أي إذا تعاملتم ببدل مؤجل فَاكْتُبُوهُ فاكتبوا ما يدلّ على هذا التعامل، مع بيان الأجل بالأيام أو الأشهر أو غيرهما، بطريقة ترفع الجهالة، لا بمثل الحصاد والدياس مما لا يرفعها، لأنّ الكتابة أوثق في ضبط الواقع، وأرفع للنزاع.
ثم أراد أن يبيّن كيفية الكتابة، ويعيّن من يتولاها فقال: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ أي مأمون يكتب بِالْعَدْلِ: وهذا أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه متديّن يقظ، ليكتب بالحق، ويتحاشى الألفاظ المحتملة للمعاني الكثيرة والألفاظ المشتركة، ويوضّح المعاني، ويتجنّب خلاف الفقهاء.
ثم أوصى الكاتب، ونهاه عن الإباء. فقال: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أي لا يمتنع أحد من الكتاب عن أَنْ يَكْتُبَ وثيقة الدين كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ على الطريقة التي علّمه الله في كتابة الوثائق، أي يكتب كتابة كالتي علمه الله، فالكاف صفة لموصوف محذوف.
أو المعنى: ولا يأب كاتب أن ينفع النّاس بكتابته، كما نفعه الله بتعلّم الكتابة، كما في قوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: ٧٧].
ثم قال: فَلْيَكْتُبْ أي تلك الكتابة المعلّمة، فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله وَلا يَأْبَ كاتِبٌ إلخ. ويجوز أن يكون توكيدا للأمر الصريح في قوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ إلخ.
ثم أرشد الله تعالى إلى أن الذي يملي على الكاتب هو المدين، فإنّه المكلّف بأداء مضمون الكتابة، فاللازم أن تكون الكتابة كما يراه ويعلمه، ثم أوصاه بتقوى الله، وبألا ينقص من الحق الذي عليه شيئا حيث قال: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ أي لا ينقص مِنْهُ شَيْئاً.
ثم بيّن أنه فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أي ناقص العقل، مبذرا في ماله، أَوْ
183
ضَعِيفاً
بأن يكون صبيا أو مجنونا، أو شيخا كبيرا لا تساعده قواه العقلية على ضبط الأمور أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ أي يملي بنفسه، بأن كان أخرسا، أو جاهلا أو مصابا بالعمى فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ القيم عليه، أو وكيله بِالْعَدْلِ أي من غير زيادة ولا نقص.
وعبر هنا بصيغة العدل الشاملة لترك الزيادة والنقص، لأنّ المملي هنا يتصوّر منه الزيادة والنقص بمحاباة هذا أو هذا، بخلاف ما إذا كان المملي المدين، فإنّ المتصوّر منه النقص فقط.
ثم أرشد الله تعالى المتداينين إلى أمر آخر مفيد في ضبط الوقائع، وحفظ الأموال فقال: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ أي اطلبوا شهيدين ليحملا الشهادة، ويحفظا الواقع.
وقوله: مِنْ رِجالِكُمْ متعلق باستشهدوا، و (من) ابتدائية، أو متعلّق بمحذوف صفة لشهيدين، و (من) تبعيضية: أي من رجالكم المسلمين الأحرار، فإنّ الكلام في معاملاتهم. فَإِنْ لَمْ يَكُونا
الشهيدان رَجُلَيْنِ فليشهد رجل وامرأتان، أو فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ يكفون في الشهادة.
وشهادة النساء مع الرجال تجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة والعتق، وكل شيء إلا الحدود والقصاص.
وعند المالكية تجوز في الأموال وتوابعها خاصة، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود، والقصاص والنكاح والطلاق، والرجعة، والعتق. مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ.
الجار الأول، متعلق بمحذوف صفة لرجل وامرأتان: أي كائنون مرضيين عندكم بعدالتهم، وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود، لكنه ذكره هنا للتشدد في اعتباره، لأنّ اتصاف النساء به قليل.
والجار الثاني متعلق بمحذوف حال من الضمير المفعول المقدّر في ترضون، العائد إلى الموصول: أي ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء، لعلمكم بعد التّهم، وثقتكم بهم، وإدراج النساء في الشهداء للتغليب.
وتدل الآية على أن الشهادة نوعان: شهادة رجلين، وشهادة رجل وامرأتين، ولا ثالث لهما، ولهذا قال الحنفية: الشهادة قسمان فقط كما ذكرها الله في هذه الآية، ولم يذكر الشاهد واليمين فلا يجوز القضاء عندهم بالشاهد واليمين، لأنه حينئذ يكون قسما ثالثا للشهادة، مع أن الله لم يذكر لها إلا قسمين.
184
وقال المالكية والشافعية: يجوز القضاء بشاهد ويمين، لا باعتبار أن هذا قسم ثالث للشهادة، وإنما هو باعتبار أن القضاء باليمين وإسقاط الشاهد ترجيح لجانب المدّعي، وأما عدم ذكر ذلك في القرآن فلا يمنع مشروعيته والعمل به. يدل على ذلك أن القضاء عند الحنفية يجوز بالنكول، وهو قسم ثالث، ليس له في القرآن ذكر.
والضمير في قوله: مِنْ رِجالِكُمْ يعود إلى المخاطبين المسلمين، وهو دليل على أنه لا بد من إسلام الشهود، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد وأجاز الحنفية قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض. لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين بشهادة اليهود عليهما بالزنى «١».
ثم أراد تعليل اعتبار العدد في النساء فقال: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى أي إنما اعتبر التعدّد في شهادة النساء لما عسى أن تضلّ إحداهما، فتذكر إحداهما الأخرى. والعلّة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سببا في التذكير، وكان الشأن في النساء الغفلة والنسيان، نزّل منزلة العلة، كما في قولهم:
أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه، فإن العلّة هي الدفاع، ولما كان مجيء العدو سببا فيه نزّل منزلته، فهو علة حذف منها لام التعليل.
ويصح أن يكون مفعولا لأجله. أي إرادة أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إلخ.
ويقال في العلة الحقيقية هنا ما قيل في الوجه الأول، والضلال بمعنى النسيان.
وقرأ حمزة: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى بكسر أَنْ وجعلها شرطية مع رفع فتذكر، وتَضِلَّ فعل الشرط. وقوله: فَتُذَكِّرَ مرفوع بالضمة، والجملة في محل جزم جواب الشرط.
ثم أوصى الشهود، ونهاهم عن الإباء عن الشهادة، كما نهى الكاتب عن الامتناع عن الكتابة فقال: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا لأداء الشهادة، أو لتحمّلها، ورجّحوا الحمل هنا على التحمّل لأنه منهي عن كتمان الشهادة، أي بالامتناع عن الأداء بقوله:
وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وما زائدة ثم عاد إلى أمر الكتابة فأكّد طلبها حيث قال: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ أي لا تملّوا من كتابة الدّين، أو الحقّ مهما كثرت معاملاتكم، سواء كان الدين أو الحق صَغِيراً أَوْ كَبِيراً فلا تسأموا من كتابته إِلى أَجَلِهِ أي حال كون الدين أو الحق مستقرا في الذمة إلى أجله، أي إلى وقت حلول الأجل الذي أقرّ به المدين ذلِكُمْ الذي أمرتكم به من الكتابة، والإشهاد
(١) رواه البخاري في الصحيح (٨/ ٣٨)، ٨٧- كتاب المحاربين، ٢٤- باب أحكام أهل الذمة حديث رقم (٦٨٤١)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٣٢٧)، ٢٩- كتاب الحدود، ٦- باب رجم اليهود حديث رقم (٢٨/ ١٧٠٠).
185
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعدل في إصابة حكم الله تعالى، لأنّه متى كتب كان إلى اليقين أقرب، وعن الكذب أبعد، فكان أعدل عند الله.
والقسط: اسم، والإقساط مصدر، يقال: أقسط يقسط إقساطا إذا عدل، فهو مقسط، ومنه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: ٤٢].
وأما قسط فهو بمعنى جار كما قال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥)
[الجن: ١٥].
ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أي أثبت لها، وأعون على إقامتها وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى ارتفاع ريبكم في جنس الدّين ونوعه وقدره وأجله.
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها أي أنكم مأمورون بالكتابة إذا كان التعامل بالدين، لكن إن كانت معاملاتكم تِجارَةً حاضِرَةً بحضور البدلين، تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ أي تتعاملون بالبدلين يدا بيد فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إثم في عدل الكتابة لبعده حينئذ عن التنازع.
وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ: أي إذا كان التعامل يدا بيد فلا بأس من عدم الكتابة، ولكن ينبغي الإشهاد على هذا التعامل، فإنّ اليد الظاهرة ربما لا تكون محقّة، فالإشهاد أحوط.
وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ أي لا يضارر- بالكسر- كاتب ولا شهيد بترك الإجابة، أو بالتغيير والتحريف في الكتابة والشهادة، أو لا يضار- بالفتح- كاتب إلخ.
أي لا يجوز للطالب أن يضارر- بالكسر- الكاتب والشهيد، بأن يقهرهما على الانحراف في الكتابة والشهادة، ويضغط عليهما للخروج عما حدّ لهما، وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه من الضرار، فَإِنَّهُ أي فعلكم هذا فُسُوقٌ بِكُمْ وخروج عن الطاعة، ملتبس بكم، أو وإن تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه على الإطلاق فإنه فسوق إلخ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما حذركم منه من الضرار، أو من ارتكاب شيء مما نهاكم عنه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ما يصلح لكم أمر الدنيا، كما يعلّمكم ما يصلح أمر الدين وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه حالكم الظاهر والباطن، فهو يجازيكم بذلك وكرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاثة لتربية المهابة في نفس السامع، وللإشارة إلى استقلال كل منهما بما هو مقصود منه.
وهاهنا أمور:
الأول: ذهب قوم إلى أن الكتابة والشهادة على الديون المؤجّلة واجبان بقوله فَاكْتُبُوهُ، وقوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ، ثم نسخ الوجوب بقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [البقرة: ٢٨٣].
186
والجمهور على أن الكتابة والإشهاد مندوبان، وأنّ الأمر بهما للندب، فإنه لم ينقل عن الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار أنّهم كانوا يتشدّدون فيهما، بل كانت تقع المداينات والمبايعات بينهم من غير كتابة ولا إشهاد، ولم يقع نكير منهم، فدل ذلك على أنّ الأمر للندب، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
وإنما ندب الله تعالى إلى الكتابة والإشهاد في الديون المؤجلة، لحفظ ما يقع بين المتعاقدين إلى حلول الأجل، لأن النسيان يقع كثيرا في المدة التي بين العقد وحلول الأجل، وكذلك قد تطرأ العوارض: من موت أو غيره، فشرع الله الكتابة والإشهاد لحفظ المال وضبط الواقع.
الثاني: قال أكثر المفسرين: إن المبيعات على أربعة أوجه:
أحدها: بيع العين بالعين: كبيع الكتاب الحاضر بالنقد الحاضر.
والثاني: بيع الدين بالدين: كبيع أردب من القمح مثلا واجب في ذمته لزيد بإردبين من الشعير واجبين على زيد هذا للبائع الأول، وهذا البيع باطل منهيّ عنه، وكلاهما غير داخل في الآية.
والثالث: هو بيع العين بالدين: كبيع كتاب حاضر بثمن مؤجّل.
والرابع: بيع الدين بالعين، وهو السلم، وكلاهما داخل في الآية.
الثالث: قوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ ليس المراد أن يكتبه المتعاقدان بأيديهما. وإنما المراد توصلوا إلى كتابة ما وقع، كما يدل عليه قوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ.
وقد اختلفوا في كتابة الكاتب، فقيل: إنها فرض كفاية، وقيل: فرض عين على الكاتب متى طلب منه، وكان في حال فراغه: وقيل: إنه ندب. والصحيح أنه أمر إرشاد، فيجوز له أن يتخلّف عن الكتابة حتى يأخذ أجره.
والاستثناء في قوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً منقطع: كما يدل عليه التقرير المتقدم، ويجوز أن يكون متصلا إن جعل استثناء من قوله إِذا تَدايَنْتُمْ إلى قوله: فَاكْتُبُوهُ أي إلا أن تكون تجارة حاضرة، أي الأجل فيها قصير، لا بمعنى حضور البدلين.
أو جعل استثناء من قوله: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ إلخ أي إلا أن تكون تجارة حاضرة، أي الأجل فيها قصير.
قال الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣).
الآية المتقدمة ترشد إلى الاحتياط في المبايعات الواقعة بالديون المؤجلة بكتابتها
187
والإشهاد عليها، والتمكّن من ذلك في الغالب يكون في الحضر.
أما في السفر فالغالب عدم التمكن من ذلك، فأرشد إلى الاحتياط في حالة السفر بالرهان، التي يستوثق بها في الحصول على المؤجل فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين، ولم تجدوا كاتبا يكتب الدين، فالذي يستوثق به رهان مقبوضة، وتعليق الرهان على السفر ليس لكون السفر شرطا في صحة الرهان، فإنّ التعامل بالرهان مشروع حضرا وسفرا، كما
ورد أنه عليه الصلاة والسلام رهن درعه في المدينة من يهودي بثلاثين صاعا من شعير أخذه لأهله»
. وإنما علّق هنا على السفر لإقامة التوثق بالرهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنّة تعسّرها.
ووصف الرهن بكونه مقبوضا ظاهر في أنه ما لم يقبض لا يظهر وجه للتوثّق به، وكونه مقبوضا يستلزم كونه معينا مفرزا، ولهذا قال الحنفية: لا يجوز رهن المشاع بناء على هذا.
وقال المالكية: الرهن كالبيع، وبيع المشاع جائز، فرهن المشاع جائز أيضا، وقد اختلف الأئمة في أن القبض شرط لصحة الرهن أم لتمامه، فقال الحنفية والشافعية: إنه شرط صحة، تمسّكا بقوله تعالى: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ وبما يظهر من مشروعية الرهن للتوثق، ولا توثق إلا بالقبض.
وقال المالكية والحنابلة: إنه شرط تمام، بمعنى أنّ الرهن يلزم بمجرّد العقد، ويجبر الراهن على الإقباض، ومتى قبض تمّ وكمل قياسا على سائر العقود، فإنها تلزم بمجرّد العقد. والرهان جمع رهن: بمعنى المرهون. وقرئ: فَرِهانٌ بضمتين، وهو جمع رهن أيضا.
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي إن أمن بعض الدائنين بعض المدينين فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ في رعاية حقوق الأمانة فلا يجحدها، ولا يتأخر عن دفعها. فحيث إن الدائن عوّل على أمانته، ولم يطالبه بوثيقة ولا برهان، ينبغي للمدين أن يعامله بالحسنى.
وبَعْضاً مفعول لأمن، يقال: أمن فلان غيره إذا لم يخف خيانته. وعبّر بالذي أؤتمن بدل التعبير بالمدين للحث على الأداء، فإنّ التعبير عنه بهذه الصيغة مما يورطه ويدفعه إلى حسن الأداء وجميل المعاملة، وجمع بين الألوهية وصفة الربوبية في قوله: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ للمبالغة في التحذير من الخيانة التي تغضب إلهه المعبود بحق، وربّه الذي يربيه، ويلي شؤونه، ويدير مصالحه.
(١) رواه البخاري في الصحيح (٣/ ٣٠٣)، ٥٦- كتاب الجهاد، ٨٩- باب ما قيل في درع النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (٢٩١٦)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٢٢٦)، ٢٢- كتاب المساقاة، ٢٤- باب الرهن حديث رقم (١٢٤/ ١٦٠٣).
188
فالله تعالى جعل في هذه الآيات المبايعات على ثلاثة أقسام: بيع بكتابة وشهود، وبيع برهان مقبوضة، وبيع بالأمانة، فلما أمر في الآية الأولى بالكتابة والإشهاد، أشار في الآية الثانية إلى أنه ربما يتعذّر أمر الكتابة والإشهاد في حالة السفر، فذكر نوعا آخر من الاستيثاق: وهو الرهن الذي هو أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد، وأوصي في النوع الثالث بما يليق به ثم قال: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ بعض المفسرين يرى أن هذه الجملة كالتأكيد لقوله: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا مع ما فيها من زيادة تزعج الشاهد، وتحمله على أداء الشهادة وهي قوله: وَمَنْ يَكْتُمْها إلخ.
وأسند الإثم إلى القلب، لأن الكتمان مما اقترفه، كما يسند الزنى إلى العين والأذن بمثل هذا الاعتبار.
وبعض آخر من المفسرين يصحّح ارتباط هذه الجملة بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً على معنى أنه إذا أمن الدائن المدين، ولم يكتب، ولم يشهد، ولم يأخذ رهنا لحسن ظنه به، كان من الجائز أن يجحد المدين، وأن يخلف ظنّ الدائن، وكان من الجائز الذي يقع كثيرا أن يطّلع بعض الناس على هذه المعاملة. فهنا ندب الله تعالى من يطّلع على هذه المعاملة ليشهد للدائن بحقه، وحذّره من كتمان الشهادة، سواء أعرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لم يعرف، وشدّد فيه بأن جعله آثم القلب إن كتمها، ويدل لصحة هذا المعنى ما
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خير الشّهود من شهد قبل أن يستشهد» «١»
. وآثِمٌ خبر إنّ، وقَلْبُهُ مرفوع به، ويجوز أن يكون قلبه مبتدأ، وآثِمٌ خبرا مقدما، والجملة خبر إنّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيجازيكم به إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فاحذروا من الإقدام على هذا الكتمان، وامتثلوا ما أمركم به، والله سبحانه أعلم. وصلّى الله على محمد وآله وصحبه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والحمد لله رب العالمين.
(١) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٣٤٤)، ٣٠- كتاب الأقضية، ٩- باب بيان خير الشهود حديث رقم (١٩/ ١٧١٩) بلفظ مختلف ورواه ابن ماجه في السنن (٢/ ٧٩٢)، كتاب الأحكام، باب الرجل عنده الشهادة حديث رقم (٢٢٦٤).
189
Icon