ﰡ
ذكر جل وعلا، في هذه الآيات الكريمة، من أول سورة الجاثية ستة براهين، من براهين التوحيد الدالة على عظمته وجلاله، وكمال قدرته، وأنه المستحق للعبادة وحده تعالى.
الأول : منها خلقه السماوات والأرض.
الثاني : خلقه الناس.
الثالث : خلقه الدواب.
الرابع : اختلاف الليل والنهار.
الخامس : إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به.
السادس : تصريف الرياح.
وذكر أن هذه الآيات والبراهين، إنما ينتفع بها المؤمنون، الموقنون الذين يعقلون عن الله حججه، وآياته.
فكأنهم هم المختصون بها دون غيرهم.
ولذا قال :﴿ لآيات لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾، ثم قال :﴿ ءَايَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾، ثم قال :﴿ ءّايَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.
وهذه البراهين الستة المذكورة في أول هذه السورة الكريمة، جاءت موضحة في آيات كثيرة جداً كما هو معلوم.
أما الأول منها وهو خلقه السماوات والأرض المذكور في قوله :﴿ إِنَّ في السَّمَاوَاتِ والأرض لآيات لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ [ ق : ٦ – ٨ ] وقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ والأرض ﴾ [ سبأ : ٩ ] الآية. وقوله :﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا في السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ١٠١ ] الآية. وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ في مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ [ الأعراف : ١٨٥ ] الآية. وقوله :﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ [ الروم : ٢٢ والشورى : ٢٩ ] في الروم والشورى. وقوله :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً ﴾ [ البقرة : ٢٢ ] الآية وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً ﴾[ غافر : ٦٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ* والأرض فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٧ -٤٨ ]. وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً ﴾ إلى قوله ﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ﴾ [ النبأ : ٦ -١٢ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً معروفة.
وأما الثالث منها : وهو خلقه الدواب المذكور في قوله :﴿ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ﴾ فقد جاء أيضاً موضحاً في آيات كثيرة أيضاً من كتاب الله كقوله تعالى في سورة الشورى. ﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ ﴾ [ الشورى : ٢٩ ]. وقوله تعالى في البقرة :﴿ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾ [ النور : ٤٥ ]، وقوله تعالى ﴿ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ [ الزمر : ٦ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ومعلومة.
وأما الخامس منها وهو : إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به وإنبات الرزق فيها المذكور في قوله :﴿ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ فقد جاء موضحاً أيضاً في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى في البقرة :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التي تَجْرِى في الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ إلى قوله ﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ]، وقوله تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾ ﴿ ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً ﴾ إلى قوله ﴿ مَّتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم ﴾ [ عبس : ٢٤ -٣٢ ].
وإيضاح هذا البرهان باختصار أن قوله تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾ أمر من الله تعالى لكل إنسان مكلف أن ينظر ويتأمل في طعامه كالخبز الذي يأكله، ويعيش به من خلق الماء الذي كان سبباً لنباته.
هل يقدر أحد غير الله أن يخلقه ؟
الجواب : لا.
ثم هب أن الماء قد خلق بالفعل، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله إلى الأرض، على هذا الوجه الذي يحصل به النفع، من غير ضرر بإنزاله على الأرض رشاً صغيراً، حتى تروى به الأرض تدريجاً من غير أن يحصل به هدم، ولا غرق كما قال تعالى :﴿ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ﴾ [ النور : ٤٣ والروم : ٤٨ ].
الجواب : لا.
ثم هب أن الماء قد خلق فعلاً، وأنزل في الأرض، على ذلك الوجه الأتم الأكمل، هل يقدر أحد غير الله أن يشق الأرض، ويخرج منها مسمار النبات ؟
الجواب : لا.
ثم هب أن النبات خرج من الأرض، وانشقت عنه فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات ؟
الجواب : لا.
ثم هب أن السنبل خرج من النبات فهل يقدر أحد غير الله أن ينمي حبه وينقله من طور إلى طور حتى يدرك ويكون صالحاً للغذاء والقوت ؟
الجواب : لا.
وقد قال تعالى :﴿ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ في ذالِكُمْ لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩٩ ]، وكقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً ﴾ [ النبأ : ١٤ -١٦ ]. وقوله تعالى :﴿ وَءَايَةٌ لَّهُمُ الأرض الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ [ يس : ٣٣ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
واعلم أن إطلاقه تعالى الرزق على الماء، في آية الجاثية هذه، قد أوضحنا وجهه في سورة المؤمن في الكلام على قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً ﴾ [ غافر : ١٣ ] الآية.
وأما السادس منها : وهو تصريف الرياح المذكور في قوله ﴿ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ﴾ فقد جاء موضحاً أيضاً في آيات من كتاب الله كقوله في البقرة :﴿ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ] وقوله تعالى :﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ ﴾ [ الروم : ٤٦ ]، وقوله تعالى ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ﴾ [ الحجر : ٢٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة، في أول سورة الجاثية، هذه ثلاثة منها، من براهين البعث، التي يكثر في القرآن العظيم، الاستدلال بها على البعث، كثرة مستفيضة.
وقد أوضحناها في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة وسورة النحل وغيرهما، وأحلنا عليها مراراً كثيرة في هذا الكتاب المبارك وسنعيد طرفاً منها هنا لأهميتها إن شاء الله تعالى.
والأول من البراهين المذكورة هو خلق السماوات والأرض المذكور هنا في سورة الجاثية هذه ﴿ إِنَّ في السَّمَاوَاتِ والأرض لآيات لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ لأن خلقه جل وعلا للسماوات والأرض، من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت ؛ لأن من خلق الأعظم الأكبر، لا شك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر.
والآيات الدالة على هذا كثيرة كقوله تعالى :﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [ غافر : ٥٧ ] أي ومن قدر على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر، وقوله تعالى :﴿ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأرض بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [ يس : ٨١ ]. وقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَمْ يعي بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يحيي الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ] وقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾ [ الإسراء : ٩٩ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم ﴾ [ النازعات : ٢٧ -٣٣ ].
ونظير آية النازعات هذه قوله تعالى في أول الصافات :﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ ﴾ [ الصافات : ١١ ] الآية، لأن قوله :﴿ أَم مَّنْ خَلَقْنَآ ﴾ يشير به إلى خلق السماوات والأرض، وما ذكر معهما المذكور في قوله تعالى :﴿ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴾ إلى قوله ﴿ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ [ الصافات : ٥ -١٠ ].
وأما الثاني من البراهين المذكورة : فهو خلقه تعالى للناس المرة الأولى، لأن من ابتدع خلقهم على غير مثال سابق، لا شك في قدرته على إعادة خلقهم، مرة أخرى كما لا يخفى.
والاستدلال بهذا البرهان على البعث كثير جداً في كتاب الله كقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحج : ٥ ] إلى آخر الآيات. وقوله تعالى :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ -٧٩ ] وقوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّا ًأَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ﴾ [ مريم : ٦٦-٦٨ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الإسراء : ٥١ ] وقوله تعالى :﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ] وقوله تعالى :﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأول بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ ق : ١٥ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنثى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخرى ﴾ [ النجم : ٤٥ -٤٧ ] وقوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنثى اأَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى ﴾ [ القيامة : ٣٦ -٤٠ ]. وقوله تعالى :﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِين َوَهَذَا الْبَلَدِ الأمين لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ إلى قوله ﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴾ [ التين : ١ -٧ ] يعني أي شيء يحملك على التكذيب بالدين أي بالبعث والجزاء، وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من ابتدع الإيجاد الأول لا شك في قدرته، على إعادته مرة أخرى إلى غير ذلك من الآيات.
وأما البرهان الثالث منها : وهو إحياء الأرض بعد موتها المذكور في قوله تعالى في سورة الجاثية هذه :﴿ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾، فإنه يكثر الاستدلال به أيضاً على البعث في القرآن العظيم، لأن من أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم، لأن الجميع أحياء بعد موت.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْيي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ﴾ [ فصلت : ٣٩ ] وقو
أشار جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى آيات هذا القرآن العظيم، وبين لنبيه أنه يتلوها عليه، متلبسة بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
وما ذكره جل وعلا في آية الجاثية هذه، ذكره في آيات أخر بلفظه كقوله تعالى في البقرة :﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين َتِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٥١ -٢٥٢ ] وقوله تعالى في آل عمران :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ففي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون َتِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٠٧ -١٠٨ ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ تِلْكَ ﴾ بمعنى هذه.
ومن أساليب اللغة العربية إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب كقوله :﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ بمعنى هذا الكتاب. كما حكاه البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي :
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها | فعمداً على عيني تيممت مالكا |
أقول له والرمح يأطر متنه | تأمل خفافاً إنني أنا ذالكا |
وقد أوضحنا هذا المبحث وذكرنا أوجهه في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب ) في أول سورة البقرة وقوله تعالى :﴿ نَتْلُوهَا ﴾ أي نقرؤها عليك.
وأسند جل وعلا تلاوتها إلى نفسه ؛ لأنها كلامه الذي أنزله على رسوله بواسطة الملك، وأمر الملك أن يتلوه عليه مبلغاً عنه جل وعلا.
ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [ القيامة : ١٦ -١٩ ].
فقوله : فإذا قرأناه أي قرأه عليك الملك المرسل به، من قبلنا مبلغاً عنا، وسمعته منه، فاتبع قرآنه أي فاتبع قراءته واقرأه كما سمعته يقرؤه.
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله :﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ أن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ [ طه : ١١٤ ].
وسماعه صلى الله عليه وسلم القرآن من الملك المبلغ عن الله كلام الله وفهمه له هو معنى تنزيله إياه على قلبه في قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٩٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمين عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِين َبِلِسَانٍ عربي مُّبِينٍ ﴾ [ الشعراء : ١٩٢ -١٩٥ ] وقوله تعالى في هذه الآية :﴿ تَلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ ﴾ [ الجاثية : ٦ ] يعني آياته الشرعية الدينية.
واعلم أن لفظ الآية، يطلق في اللغة العربية إطلاقين، وفي القرآن العظيم إطلاقين أيضاً.
أما إطلاقاه في اللغة العربية.
فالأول منهما وهو المشهور في كلام العرب، فهو إطلاق الآية بمعنى العلامة، وهذا مستفيض في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان :
توهمت آيات لها فعرفتها | لستة أعوام وذا العام سابع |
رماد ككحل العين لأياً أبينه | ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع |
ومنه قول برج بن مسهر :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا | بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا |
وأما إطلاقاه في القرآن العظيم :
فالأول منهما إطلاق الآية على الشرعية الدينية كآيات هذا القرآن العظيم، ومنه قوله هنا :﴿ تَلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ﴾ الآية.
وأما الثاني منهما : فهو إطلاق الآية على الآية الكونية القدرية كقوله تعالى :﴿ إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ الليل وَالنَّهَارِ لآيات لأولي الألباب ﴾ [ آل عمران : ١٩٠ ].
أما الآية الكونية القدرية فهي بمعنى الآية اللغوية التي هي العلامة، لأن الآيات الكونية علامات قاطعة، على أن خالقها هو الرب المعبود وحده.
وأما الآية الشرعية الدينية، فقال بعض العلماء : إنها أيضاً من الآية التي هي العلامة، لأن آيات هذا القرآن العظيم، علامات على صدق من جاء بها، لما تضمنته من برهان الإعجاز، أو لأن فيها علامات يعرف بها مبدأ الآيات ومنتهاها.
وقال بعض العلماء إنها من الآية بمعنى الجماعة، لتضمنها جملة وجماعة من كلمات القرآن وحروفه.
واختار غير واحد أن أصل الآية أيية بفتح الهمزة وفتح الياءين بعدها، فاجتمع في الياءين موجبا إعلال، لأن كلا منهما متحركة حركة أصلية بعد فتح متصل، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
من واو وياء بتحريك أصل | ألفاً أبدل بعد فتح متصل |
والمعروف في علم التصريف، أنه إن اجتمع موجباً إعلال في كلمة واحدة فالأكثر في اللغة العربية تصحيح الأول منهما، وإعلال الثاني بإبداله ألفا كالهوى والنوى والطوى والشوى، وربما صحح الثاني وأعل الأول كغاية، وراية، وآية على الأصح، من أقوال عديدة، ومعلوم أن إعلالهما لا يصح، ولهذا أشار في الخلاصة بقوله :
وإن لحرفين ذا الإعلال استحق | صحح أول وعكس قد يحق |
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن من كفر بالله وبآيات الله ولم يؤمن بذلك مع ظهور الأدلة والبراهين على لزوم الإيمان بالله، وآياته أنه يستبعد، أن يؤمن بشيء آخر، لأنه لو كان يؤمن بحديث لآمن بالله وبآياته لظهور الأدلة على ذلك.
قال بعض العلماء :﴿ وَيْلٌ ﴾ واد في جهنم.
والأظهر أن لفظة ﴿ وَيْلٌ ﴾ كلمة عذاب وهلاك، وأنها مصدر لا لفظ له من فعله، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَبِأَي حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَـاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾.
قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو وحفص، عن عاصم : يؤمنون بياء الغيبة.
وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم تؤمنون بتاء الخطاب.
وقرأه ورش عن نافع والسوسي عن أبي عمرو يؤمنون بإبدال الهمزة واواً وصلاً ووقفاً.
وقرأه حمزة بإبدال الهمزة واواً في الوقف دون الوصل.
والباقون بتحقيق الهمزة مطلقاً.
وقد كرر تعالى وعيد المكذبين بالويل في سورة المرسلات كما هو معلوم وقوله في آخر المرسلات :﴿ فَبِأَي حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ كقوله هنا في الجاثية :﴿ فَبِأَي حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾.
ومعلوم أن الإيمان بالله على الوجه الصحيح، يستلزم الإيمان بآياته، وأن الإيمان بآياته كذلك يستلزم الإيمان به تعالى.
قال بعض العلماء :﴿ وَيْلٌ ﴾ واد في جهنم.
والأظهر أن لفظة ﴿ وَيْلٌ ﴾ كلمة عذاب وهلاك، وأنها مصدر لا لفظ له من فعله، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَبِأَي حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَـاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾.
قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو وحفص، عن عاصم : يؤمنون بياء الغيبة.
وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم تؤمنون بتاء الخطاب.
وقرأه ورش عن نافع والسوسي عن أبي عمرو يؤمنون بإبدال الهمزة واواً وصلاً ووقفاً.
وقرأه حمزة بإبدال الهمزة واواً في الوقف دون الوصل.
والباقون بتحقيق الهمزة مطلقاً.
وقد ذكرنا كثيراً من الآيات المتعلقة بهذا المبحث في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت : ٤ -٥ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية. ﴿ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ﴾ خففت فيه لفظة كأن، ومعلوم أن كأن إذا خففت كان اسمها مقدراً وهو ضمير الشأن، والجملة خبرها كما قال في الخلاصة :
وخففت كأن أيضاً فنوى | منصوبها وثابتاً أيضاً روى |
قال بعض العلماء :﴿ وَيْلٌ ﴾ واد في جهنم.
والأظهر أن لفظة ﴿ وَيْلٌ ﴾ كلمة عذاب وهلاك، وأنها مصدر لا لفظ له من فعله، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَبِأَي حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَـاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾.
قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو وحفص، عن عاصم : يؤمنون بياء الغيبة.
وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم تؤمنون بتاء الخطاب.
وقرأه ورش عن نافع والسوسي عن أبي عمرو يؤمنون بإبدال الهمزة واواً وصلاً ووقفاً.
وقرأه حمزة بإبدال الهمزة واواً في الوقف دون الوصل.
والباقون بتحقيق الهمزة مطلقاً.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة توعد الأفاك الأثيم بالويل، والبشارة بالعذاب الأليم.
وقد قدمنا قريباً أن من صفاته، أنه إذا سمع آيات الله تتلى عليه أصر مستكبراً كأن لم يسمعها، وذكر في هذه الآية الكريمة أنه إذا علم من آيات الله شيئاً اتخذها هزواً أي مهزوءاً بها، مستخفاً بها، ثم توعده على ذلك بالعذاب المهين.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفار يتخذون آيات الله هزواً، وأنهم سيعذبون على ذلك يوم القيامة، قد بينه تعالى في غير هذا الموضع كقوله تعالى في آخر الكهف :﴿ ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُواْ ءَايَاتِى وَرُسُلِي هُزُواً ﴾ [ الكهف : ١٠٦ ] وقوله تعالى في الكهف أيضاً :﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواْ ءايَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ [ الكهف : ٥٦ -٥٧ ]. وقوله تعالى في سورة الجاثية هذه :﴿ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُواً ﴾ [ الجاثية : ٣٤ -٣٥ ].
وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة وحفص عن عاصم هزؤاً بضم الزاي بعدها همزة محققة.
وقرأه حفص عن عاصم بضم الزاي وإبدال الهمزة واواً.
وقرأه حمزة هزءاً بسكون الزاي بعدها همزة محققة في حالة الوصل.
وأما في حالة الوقف، فعن حمزة نقل حركة الهمزة إلى الزاي فتكون الزاي مفتوحة بعدها ألف، وعنه إبدالها واواً محركة بحركة الهمزة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ أي لأن عذاب الكفار الذين كانوا يستهزئون بآيات الله لا يراد به إلا إهانتهم وخزيهم وشدة إيلامهم بأنواع العذاب.
وليس فيه تطهير ولا تمحيص لهم بخلاف عصاة المسلمين فإنهم وإن عذبوا فسيصيرون إلى الجنة بعد ذلك العذاب.
فليس المقصود بعذابهم مجرد الإهانة بل ليؤلوا بعده إلى الرحمة ودار الكرامة.
قوله تعالى :﴿ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ ﴾ قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الشواهد العربية في سورة إبراهيم في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ﴾ [ إبراهيم : ١٥ -١٦ ]. وبينا هناك أن أصح الوجهين أن وراء بمعنى أمام.
فمعنى من ورائه جهنم أي أمامه جهنم يصلاها يوم القيامة كما قال تعالى :﴿ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾ [ الكهف : ٧٩ ] أي أمامهم ملك.
وذكرنا هناك الشواهد العربية على إطلاق وراء بمعنى أمام، وبينا أن هذا هو التحقيق في معنى الآية وكذلك آية الجاثية هذه، فقوله تعالى ﴿ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ ﴾ أي أمامهم جهنم يصلونها يوم القيامة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ ﴾.
أوضح فيه أن ما كسبه الكفار في دار الدنيا من الأموال والأولاد لا يغني عنهم شيئاً يوم القيامة، أي لا ينفعهم بشيء فلا يجلب لهم بسببه نفع ولا يدفع عنهم بسببه ضر، وإنما اتخذوه من الأولياء في دار الدنيا من دون الله، كالمعبودات التي كانوا يعبدونها، ويزعمون أنها شركاء لله لا ينفعهم يوم القيامة أيضاً بشيء.
وهاتان المسألتان اللتان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، قد أوضحهما الله في آيات كثيرة من كتابه.
أما الأولى منهما : وهي كونهم لا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً فقد أوضحها في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾ [ المسد : ١ -٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾ [ الليل : ١١ ] وقوله تعالى :﴿ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴾ [ الهمزة : ٢ -٤ ]. وقوله تعالى :﴿ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ الزمر : ٥٠ ]. وقوله تعالى :﴿ يا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ ﴾ [ الحاقة : ٢٧ -٢٨ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ الأعراف : ٤٨ ]. وقوله تعالى عن إبراهيم :﴿ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُون َيَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ﴾ [ الشعراء : ٨٧ -٨٨ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ﴾ [ سبأ : ٣٧ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴾ [ آل عمران : ١٠ ]. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ آل عمران : ١١٦ ]. وقوله تعالى في المجادلة ﴿ اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً ﴾ [ المجادلة : ١٦ -١٧ ] الآية.
والآيات بمثل هذا كثيرة جداً، وقد قدمنا كثيراً منها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك.
وأما الثانية منهما، وهي كونهم لا تنفعهم المعبودات، التي اتخذوها أولياء من دون الله، فقد أوضحها تعالى في آيات كثيرة، كقوله تعالى في هود :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتَهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شيء لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾ [ هود : ١٠١ ]. وقوله تعالى ﴿ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءَالِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [ الأحقاف : ٢٨ ]. وقوله تعالى :﴿ وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ ﴾ [ القصص : ٦٤ ] : وقوله تعالى ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ﴾ [ الكهف : ٥٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً ﴾ [ الأحقاف : ٥ -٦ ] الآية وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير ٍإِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [ فاطر : ١٣ -١٤ ]. وقوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨١ -٨٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ]، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ ﴾، الأولياء جمع ولي.
والمراد بالأولياء هنا، المعبودات التي يوالونها بالعبادة من دون الله، ﴿ وَمَا كَسَبُواْ ﴾ في قوله :﴿ وَمَا ﴾ ؟ ﴿ ومَا اتَّخَذُواْ ﴾ موصولة وهي في محل رفع في الموضعين، لأن ﴿ مَا ﴾ الأولى فاعل ﴿ يُغْنِى ﴾ ؟ ﴿ وَمَا ﴾ الثانية معطوفة عليها وزيادة لا، قبل المعطوف على منفي معروفة. وقوله :﴿ وَلاَ يُغْنِي ﴾ أي لا ينفع. والظاهر أن أصله من الغناء بالفتح والمد وهو النفع.
ومنه قول الشاعر :
وقل غناء عنك مال جمعته *** إذا صار ميراثاً وواراك لاحد
فقوله : قل غناء أي قل نفعاً. وقول الآخر :
قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا *** قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا
فقوله : الغناء أي النفع.
والبيت من شواهد إعمال المصدر المعرف بالألف واللام، لأن قوله : قول الأحبة، فاعل قوله الغناء. وأما الغناء بالكسر والمد فهو الألحان المطربة.
وأما الغنى بالكسر والقصر فهو ضد الفقر.
وأما الغنى بالفتح والقصر فهو الإقامة، من قولهم غني بالمكان بكسر النون يغنى بفتحها غنى بفتحتين إذا أقام به.
ومنه قوله تعالى ﴿ كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس ﴾ [ يونس : ٢٤ ] وقوله تعالى ﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ٩٢ ] كأنهم لم يقيموا فيها.
وأما الغنى بالضم والقصر فهو جمع غنية وهي ما يستغني به الإنسان.
وأما الغناء بالمد والضم فلا أعلمه في العربية.
وهذه اللغات التي ذكرنا في مادة غنى كنت تلقيتها في أول شبابي في درس من دروس الفقه لقننيها شيخي الكبير أحمد الأفرم بن محمد المختار الجكني، وذكر لي بيتي رجز في ذلك لبعض أفاضل علماء القطر وهما قوله :
وضد فقر كإلى وكسحاب *** النفع والمطرب أيضاً ككتاب
وكفتى إقامة وكهنا *** جمع لغنية لما به الغنى
الإشارة في قوله ﴿ هَذَا هُدًى ﴾ راجعة للقرآن العظيم المعبر عنه بآيات الله في قوله ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٢ ]. وقوله ﴿ فَبِأَي حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَاتِهِ ﴾ [ الجاثية : ٦ ] الآية. وقوله :﴿ يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ﴾ [ الجاثية : ٨ ] وقوله :﴿ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيْئاً ﴾ الجاثية : ٩ ].
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن هذا القرآن هدى، وأن من كفر بآياته له العذاب الأليم، جاء موضحاً في غير هذا الموضع.
أما كون القرآن هدى، فقد ذكره تعالى، في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥٢ ]. وقوله تعالى :﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شيء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [ النحل : ٨٩ ] وقوله تعالى ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ] وقوله تعالى ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] وقوله ﴿ الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ١ -٢ ] وقوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما كون من كفر بالقرآن يحصل له بسبب ذلك العذاب الأليم، فقد جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ مِّنْهُ ﴾ [ هود : ١٧ ] الآية : وقوله تعالى ﴿ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرا ًخَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً ﴾ [ طه : ٩٩-١٠١ ] وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُواْ ءَايَاتِي ورسلي هُزُواً ﴾ [ الكهف : ١٠٦ ] والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وقد قدمنا في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾ [ فصلت : ١٧ ] الآية. وغير ذلك من المواضع، أن الهدى يطلق في القرآن إطلاقاً عاماً، بمعنى أن الهدى هو البيان والإرشاد وإيضاح الحق، كقوله ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾ أي بينا لهم الحق وأوضحناه وأرشدناهم إليه وإن لم يتبعوه، وكقوله ﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] وقوله هنا ﴿ هَذَا هُدًى ﴾ وأنه يطلق أيضاً في القرآن بمعناه الخاص وهو التفضل بالتوفيق إلى طريق الحق والاصطفاء كقوله ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ] وقوله ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ] وقوله ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ﴾ [ محمد : صلى الله عليه وسلم : ١٧ ] وقوله ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا في سورة فصلت أن معرفة إطلاق الهدى المذكورين، يزول بها الإشكال الواقع في آيات من كتاب الله.
والهدى مصدر هداه على غير قياس، وهو هنا من جنس النعت بالمصدر، وبينا فيما مضى مراراً أن تنزيل المصدر منزلة الوصف إما على حذف مضاف، وإما على المبالغة.
وعلى الأول فالمعنى هذا القرآن ذو هدى أي يحصل بسببه الهدى لمن اتبعه كقوله ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
وعلى الثاني فالمعنى أن المراد المبالغة في اتصاف القرآن بالهدى حتى أطلق عليه أنه هو نفس الهدى.
وقوله في هذه الآية الكريمة، لهم عذاب من رجز أليم، أصح القولين فيه أن المراد بالرجز العذاب، ولا تكرار في الآية ؛ لأن العذاب أنواع متفاوتة والمعنى لهم عذاب، من جنس العذاب الأليم، والأليم معناه المؤلم. أي الموصوف بشدة الألم وفظاعته.
والتحقيق إن شاء الله : أن العرب تطلق الفعيل وصفاً بمعنى المفعل، فما يذكر عن الأصمعي من أنه أنكر ذلك إن صح عنه فهو غلط منه، لأن إطلاق الفعيل بمعنى المفعل معروف في القرآن العظيم وفي كلام العرب، ومن إطلاقه في القرآن العظيم قوله تعالى :﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ١٠ ] أي مؤلم وقوله تعالى :﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ [ البقرة : ١١٧ ] أي مبدعهما وقوله تعالى :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ ﴾ [ سبأ : ٤٦ ] الآية. أي منذر لكم، ونظير ذلك من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب :
أمن ريحانة الداعي السميع | يؤرقني وأصحابي هجوع |
وخيل قد دلفت لها بخيل | تحية بينهم ضرب وجيع |
ويرفع من صدور شمردلات | يصك وجوهها وهج أليم |
وقرأه ابن كثير وحفص عن عاصم من رجز أليم، برفع أليم على أنه نعت لعذاب.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾ [ النحل : ١٤ ] الآية، وفي سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا ﴾ إلى قوله :﴿ وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ [ الزخرف : ١٢-١٣ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفسكم ﴾ [ الإسراء : ٧ ] الآية، وفي غير ذلك من المواضع.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه فضل بني إسرائيل على العالمين.
وذكر هذا المعنى في موضع آخر من كتابه كقوله تعالى في سورة البقرة :﴿ يَا بَنِي إسرائيل اذْكُرُواْ نعمتي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ البقرة : ٤٧ ] في الموضعين. وقوله في الدخان :﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٢ ]، وقوله في الأعراف :﴿ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٤٠ ].
ولكن الله جل وعلا بين أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، خير من بني إسرائيل وأكرم على الله، كما صرح بذلك في قوله :﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ]. فخير صيغة تفضيل، والآية نص صريح في أنهم خير من جميع الأمم، بني إسرائيل وغيرهم.
ومما يزيد ذلك إيضاحاً حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أمته :«أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله » : وقد رواه عنه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وهو حديث مشهور.
وقال ابن كثير : حسنه الترمذي، ويروى من حيث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه ا ه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ولا شك في صحة معنى حديث معاوية بن حيدة المذكور رضي الله عنه ؛ لأنه يشهد له النص المعصوم المتواتر في قوله تعالى :﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ]، وقد قال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ]. وقوله :﴿ وَسَطًا ﴾ أي خياراً عدولاً.
واعلم أن ما ذكرنا من كون أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من بني إسرائيل كما دلت عليه الآية والحديث المذكوران وغيرهما من الأدلة لا يعارض الآيات المذكورات آنفاً في تفضيل بني إسرائيل ؛ لأن ذلك التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والمعدوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل أو يفضل عليه.
ولكنه تعالى بعد وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم صرح بأنها هي خير الأمم.
وهذا واضح لأن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بني إسرائيل إنما يراد به ذكر أحوال سابقة ؛ لأنهم في وقت نزول القرآن كفروا به وكذبوا كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٨٩ ].
ومعلوم أن الله لم يذكر لهم في القرآن فضلاً إلا ما يراد به أنه كان في زمنهم السابق لا في وقت نزول القرآن.
ومعلوم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن موجودة في ذلك الزمن السابق الذي هو ظرف تفضيل بني إسرائيل، وأنها بعد وجودها، صرح الله بأنها هي خير الأمم، كما أوضحنا. والعلم عند الله تعالى.
وقد قدمنا الآيات الموضحة في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٤٣ ].
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية الكريمة عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون.
وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ﴾ [ الإسراء : ٢٢ ] أنه جل وعلا يأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وينهاه، ليشرع بذلك الأمر والنهي، لأمته كقوله هنا :﴿ ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ﴾.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يتبع أهواء الذين لا يعلمون، ولكن النهي المذكور، فيه التشريع لأمته كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٤ ]. وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [ القلم : ٨ ]. وقوله :﴿ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ﴾ [ القلم : ١٠ ]. وقوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ ﴾ [ الإسراء : ٣٩ ] وقوله :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد بينا الأدلة القرآنية على أنه صلى الله عليه وسلم يخاطب، والمراد به التشريع لأمته، في آية بني إسرائيل المذكورة.
وما تضمنته آية الجاثية هذه، من النهي عن اتباع أهوائهم جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى في الشورى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ﴾ [ الشورى : ١٥ ] وقوله تعالى في الأنعام :﴿ فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٠ ]. وقوله تعالى في القصص ﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ القصص : ٥٠ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقد بين تعالى في : قد أفلح المؤمنون، أن الحق لو اتبع أهواءهم لفسد العالم وذلك في قوله تعالى :﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض وَمَن فِيهِنَّ ﴾ [ المؤمنون : ٧١ ].
والأهواء : جمع هوى بفتحتين وأصله مصدر، والهمزة فيه مبدلة من ياء كما هو معلوم.
قد قدمنا في هذا الكتاب المبارك مراراً أن الظلم في لغة العرب أصله وضع الشيء في غير موضعه.
وأن أعظم أنواعه الشرك بالله ؛ لأن وضع العبادة في غير من خلق ورزق هو أشنع أنواع وضع الشيء في غير موضعه. ولذا كثر في القرآن العظيم، إطلاق الظلم بمعنى الشرك. كقوله تعالى :﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس : ١٠٦ ]. وقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٧ ]. وقوله تعالى في لقمان :﴿ يا بُنَي لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ]. وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعام : ٨٢ ] «بأن معناه ولم يلبسوا إيمانهم بشرك ».
وما تضمنته آية الجاثية هذه من أن الظالمين بعضهم أولياء بعض جاء مذكوراً في غير هذا الموضع كقوله تعالى في آخر الأنفال :﴿ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [ الأنفال : ٧٣ ]. وقوله تعالى :﴿ وَكَذلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ الأنفال : ١٢٩ ]. وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ]. وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ [ الأعراف : ٣٠ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ﴾ [ النساء : ٧٦ ]. وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ]، وقوله ﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ﴾ [ النحل : ١٠٠ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه ولي المتقين، وهم الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه.
وذكر في موضع آخر أن المتقين أولياؤه، فهو وليهم وهم أولياؤه ؛ لأنهم يوالونه بالطاعة والإيمان، وهو يواليهم بالرحمة والجزاء، وذلك في قوله تعالى :﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ يونس : ٦٢ ].
ثم بين المراد بأوليائه في قوله ﴿ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٦٣ ]، فقوله تعالى :﴿ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ كقوله في آية الجاثية هذه ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.
وقد بين تعالى في آيات من كتابه أنه ولي المؤمنين، وأنهم أولياؤه كقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ [ المائدة : ٥٥ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ]. وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ [ محمد : ١١ ]. وقوله تعالى ﴿ إِنَّ وَلِيِّ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٦ ] وقوله تعالى في الملائكة ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ ﴾ [ سبأ : ٤١ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه بأبسط من هذا.
الإشارة في قوله ﴿ هَذَا ﴾ للقرآن العظيم.
والبصائر جمع بصيرة والمراد بها البرهان القاطع الذي لا يترك في الحق لبساً كقوله تعالى :﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ [ يونس : ١٠٨ ] أي على علم ودليل واضح.
والمعنى أن هذا القرآن براهين قاطعة، وأدلة ساطعة، على أن الله هو المعبود وحده، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن القرآن بصائر للناس جاء موضحاً في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى في أخريات الأعراف ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحَى إِلَىَّ مِن رَّبِّى هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٣ ]، وقوله تعالى في الأنعام ﴿ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [ الأنعام : ١٠٤ ].
وما تضمنته آية الجاثية من أن القرآن بصائر وهدى ورحمة، ذكر تعالى مثله في سورة القصص عن كتاب موسى الذي هو التوراة في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ القصص : ٤٣ ].
وما تضمنته آية الجاثية هذه من كون القرآن هدى ورحمة جاء موضحاً في غير هذا الموضع.
أما كونه هدى فقد ذكرنا الآيات الموضحة له قريباً.
وأما كونه رحمة فقد ذكرنا الآيات الموضحة له في الكهف في الكلام على قوله تعالى ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ﴾ [ الكهف : ٦٥ ]، وفي أولها في الكلام على قوله تعالى ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ [ الكهف : ١ ]. وفي فاطر في الكلام على قوله تعالى ﴿ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ﴾ [ فاطر : ٢ ]. وفي الزخرف في الكلام على قوله :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾، أي لأنهم هم المنتفعون به.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي معروف.
وهو أن المبتدأ الذي هو قوله ﴿ هَذَا ﴾ اسم إشارة إلى مذكر مفرد، والخبر الذي هو بصائر جمع مكسر مؤنث.
فيقال : كيف يسند الجمع المؤنث المكسر إلى المفرد المذكر ؟
والجواب : أن مجموع القرآن كتاب واحد، تصح الإشارة إليه بهذا، وهذا الكتاب الواحد يشتمل على براهين كثيرة، فصح إسناد البصائر إليه لاشتماله عليها كما لا يخفى.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة ( ص ) في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الأرض أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ ص : ٢٨ ].
قد أوضحنا معناه في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾.
قد أوضحنا معناه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى :﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾[ البقرة : ٧ ].
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من إنكار الكفار للبعث بعد الموت، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى عنهم ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٥ ]. وقوله ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُون َإِنْ هِي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٥ -٣٧ ] وقوله تعالى عنهم ﴿ أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾ [ ق : ٣ ] وقوله تعالى عنهم ﴿ أَئنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَة ِأَئذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَة ًقَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴾ [ النازعات : ١٠-١٢ ].
وقوله تعالى :﴿ قَالَ مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقد قدمنا البراهين القاطعة القرآنية، على تكذيبهم في إنكارهم البعث، وبينا دلالتها على أن البعث واقع لا محالة، في سورة البقرة، وسورة النحل، وسورة الحج، وأول سورة الجاثية هذه، وأحلنا على ذلك مراراً.
وبينا في سورة الفرقان الآيات الموضحة أن إنكار البعث كفر بالله، والآيات التي فيها وعيد منكري البعث بالنار في الكلام على قوله تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾ [ الفرقان : ١١ ].
قد قدمنا الكلام عليه في سورة المؤمن في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [ غافر : ٧٨ ].
قد قدمنا إيضاحه في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة مريم، في الكلام على قوله تعالى :﴿ كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ﴾ [ مريم : ٧٩ ]، وفي غير ذلك من المواضع.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة طه في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ﴾ [ طه : ١١٥ ].
قد أوضحنا معنى قوله : يستعتبون في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ [ النحل : ٨٤ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فاليوم لا يخرجون منها، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَنَادَوْاْ يا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٧ ].
أتبع الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، حمده جل وعلا بوصفه بأنه رب السماوات والأرض ورب العالمين، وفي ذلك دلالة على أن رب السماوات والأرض، ورب العالمين مستحق لكل حمد ولكل ثناء جميل.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى في سورة الفاتحة ﴿ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الفاتحة : ٢ ] وقوله تعالى في آخر الزمر ﴿ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٥ ] وقوله تعالى :﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[ الأنعام : ٤٥ ] وقوله تعالى في أول الأنعام ﴿ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [ الأنعام : ١ ] وقوله تعالى في أول سبأ ﴿ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخرة وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [ سبأ : ١ ].
وقوله في أول فاطر ﴿ الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ [ فاطر : ١ ] الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن له الكبرياء في السماوات والأرض، يعني أنه المختص بالعظمة، والكمال والجلال والسلطان، في السماوات والأرض، لأنه هو معبود أهل السماوات والأرض، الذي يلزمهم تكبيره وتعظيمه، وتمجيده، والخضوع والذل له.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَهٌ وَفِي الأرض إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ [ الزخرف : ٨٤ -٨٥ ].
فقوله ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَهٌ وَفِى الأرض إِلَهٌ ﴾ معناه أنه هو وحده الذي يعظم ويعبد في السماوات والأرض ويكبر ويخضع له ويذل.
وقوله تعالى :﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ والأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ الروم : ٢٧ ].
فقوله ﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ معناه أن له الوصف الأكمل، الذي هو أعظم الأوصاف، وأكملها وأجلها في السماوات والأرض.
وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الله يقول : العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما أسكنته ناري ».