تفسير سورة الطلاق

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الطلاق
آياتها عشرة وفيها ركوعان وهي مدنية

أخرج الحاكم عن ابن عباس قال طلق يزيد أبو ركانة أم ركانة ثم نكح امرأة مزينة فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ما يغني عني إلا ما يغني هذه الشعرة فنزلت ﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ﴾ قال الذهبي الإسناد واه والخبر خطأ وعبد يزيد لم يدرك الإسلام.
وأخرج أبو حاتم من طريق قتادة عن أنس قال طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية فأتت أهلها فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل لها راجعها فإنها صوامة قوامة، وأخرج ابن جرير عن قتادة مرسلا وابن المنذر عن ابن سيرين وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل هذه الآية قال بلغنا أنها نزلت في عبد الله ابن العاص وطفيل ابن عمرو ابن سعيد ابن العاص والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ﴾ خص النداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وعم الخطاب بالحكم لأنه أمام أمة فندائه كندائهم أو لأن الكلام معه والحكم يعمهم وقيل مجازه يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء أي أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف له بمنزلة الشارع كما في قوله تعالى :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ﴾١ فإنا قرأت القرآن فاستعذ بالله } ٢ ﴿ فطلقوهن لعدتهن ﴾ قال الشافعية اللام بمعنى الوقت أي وقت عدتهن وأيده البغوي بأنه كان ابن عباس وابن عمر على أن الطلاق في الحيض حرام لحديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :( ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ) ٣ متفق عليه قال البغوي نزلت هذه الآية في هذه القصة يعني طلاق ابن عمر امرأته في الحيض فيظهر بذلك أن العدة بالأطهار دون الحيضات والمراد بالقروء في العدة الأطهار وقالت الحنفية اللام للوقت يعني في غير معهود في الاستعمال وسيلزم ذلك تقديم العدة الطلاق أو مقارنته لاقتضائه وقوعه في وقته بل اللام هاهنا للعاقبة على طريقة له وللموت وابنوا للخراب يعني طلقوهن حتى تعقبه العدة أو اللام صلة لمحذوف والتقدير طلقوهن مستقبلات لعدتهن يقال في التاريخ بإجماع أهل العربية خرجت لثلاث يقين من رمضان وفي حديث ابن عمر المذكور في رواية مسلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم تلى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن ومعنى قراءة ابن عباس وابن عمر وطلقوهن في قبل عدتهن أي في استقبال عدتهن فظهران العدة بالحيضات دون الأطهار وقد مر الخلاف في مسألة العدة بالحيضات أو الإطهار ومسألة حرمة الطلاق في الحيض في سورة البقرة.
مسألة : أجمع العلماء أيضا على أن الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه حرام أيضا لقوله صلى الله عليه وسلم :( فيطلقها طاهرا قبل أن يمس ) وعلى أنه لا يحرم طلاق امرأة حائض لم يدخل بها ولا طلاق صغيرة لم تحض ولا أيسة بعدنا جامعها لأن الرحمة لتطويل العدة ولا عدة على غير المدخول بها وعدة الصغيرة وأيسة بالأشهر وذا لا يمتد بالطلاق بعد الجماع أيضا ﴿ وأحصوا العدة ﴾ يعني اضبطوها بالحفظ وأمكثوها ثلاثة قروء كوامل لئلا تقع الرجعة بعد العدة و التزوج بزوج آخر قبل انقضاء العدة وكل ذلك لا يجوز ﴿ واتقوا الله ربكم ﴾ في تطويل العدة والإضرار بهن ﴿ لا تخرجوهن ﴾ أي المطلقات رجعيات كن أو بوائن ﴿ من بيوتهن ﴾ أي من مساكنهن في وقت الطلاق وهي بيوت الأزواج حتى تنقضي عدتهن ﴿ ولا يخرجن ﴾ باختيارهن ومن هذه الآية يثبت أنه لا يجوز للمطلقة مطلقا رجعية كانت أو بائنة الخروج من بيت الزوج ليلا ونهارا إلا بضرورة فإن الضرورة مستثناة في العبادات وهي تبيح المحذورات والضرورة مثل انهدام البيت أو خوف السرقة أو عدم وجدان كراء البيت أو ضيق المنزل عليهما أو كون الزوج فاسقا والطلاق بائنا ولم يكن هناك قادر على حيلولة أو نحو ذلك وقال أحمد يجوز للمطلقة البائنة تخرج من بيتها في حوائجها.
وعن الشافعي كالمذهبين قال البغوي إن كانت لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن أو نحو ذلك يجوز لها الخروج نهارا ولا يجوز ليلا إجماعا احتجوا بحديث جابر قال : طلقت خالته فأرادت أن تجد نخلا فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال :( بلى فجدي نخلك فإنه عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا ) ٤رواه مسلم قال أبو حنيفة حديث الآحاد لا يعارض الآية القطعية غير أنها تخرج في ضرورة ملجئة إجماعا.
مسألة : إذا لزمت العدة في السفر في غير موضع الإقامة أن لم يكن بينها وبين مصرها الذي خرجت منه ميسرة سفر رجعت وإن كانت تلك في كل جانب بين الرجوع والتوجه إلى القصد سواء كان معها أولى أولا والرجوع أولي ليكون الاعتداء في منزل الزوج، وقيل يختار أقربها وإن كانت هاهنا وبين مصرعا مسيرة سفر وبينها وبين المقصد أقل يتوجه إلى المقصد وإن كانت في موضع الإقامة تعتد ثمة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد إن كان معها ولي جاز له الرجوع إلى الوطن والمسير إلى المقصد على التفصيل المذكور.
مسألة : يجوز للمتوفي عنها زوجها في العدة الخروج من بيت زوجها نهارا ولا يجوز ليلا، وقال الشافعي يجوز مطلقا وقد مر المسألة في سورة البقرة، قال البغوي إن رجالا استشهدوا بأحد فقالت نسائهم نستوحش في بيوتنا فأذن لهن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كانت وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها وذكر في سورة البقرة حديث أخت أبي سعيد الخدري قال لها النبي صلى الله عليه وسلم في عدة زوجها :( أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) ٥ ﴿ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾ استثناء مفرغ في محل الظرف أي لا تخرجوهن في وقت من الأوقات إلا وقت أن يأتين قال ابن عمرو السدي وإبراهيم النخعي يجوز للفاحشة خروجها من بيتها قبل انقضاء العدة وبه أخذ أبو حنيفة، قال ابن همام هذا أبدع وأغرب يقال في الخطابيات لا تزني إلا أن تكوني فاحشة ولا تشتم إنك إلا أن تكون قاطع رحم ونحوه وعلى هذا التأويل استثناء من الثاني وقال ابن مسعود الفاحشة الزنا فتخرج لإقامة الحد عليها ثم ترد إلى منزلها وبه أخذ أبو يوسف قال ابن همام وهذا ظهر من جهة وضع اللفظ لأن غاية والشيء لا يكون غاية لنفسه وقال ابن عباس الفاحشة المبينة أن تبدوا على أهل زوجها فيحل إخراجها وكذا قال قتادة أن معناه أن يطلقها على نشوزها وعلى هذين التأويلين استثناء من الأول يعني لا تخرجوهن ﴿ وتلك ﴾ الأحكام المذكورة ﴿ حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ﴾ بأن عرضها للعقاب ﴿ لا تدري ﴾ أيها الخاطب وجملة ﴿ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ﴾ في تأويل المفرد مفعول للاتدري أي لا تدري حدوث أمر بعد ذلك تعليل لقوله أحصوا العدة ولا تخرجوهن والمعنى لعل الله يحدث بعد بغضها وإرادة فراقها والرغبة عنها في قلب. زوجها محبتها والرغبة فيها فتندمون على الطلاق وتريدون الرجعة
١ سورة المائدة الآية: ٦.
٢ سورة النحل الآية: ٩٨.
٣ أخرجه البخاري في أول كتاب الطلاق ﴿٥٢٥١﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الطلاق باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها ﴿١٤٧١﴾.
٤ أخرجه مسلم في كتاب الطلاق باب: جواز خروج المعتدة البائن والمتوفي عنها زوجها في النهار لحاجتها ﴿١٤٨٣﴾.
٥ أخرجه النسائي في كتاب: الطلاق باب: عدة المتوفي عنها زوجها من يوم يأتيها الخبر ﴿٣٥٢٣﴾ وأخرجه أبو داود ف-ي كتابك الطلاق باب: في المتوفي عنها تنتقل ﴿٢٢٩٨﴾ وأخرجه الترمذي في كتاب: الطلاق واللعان باب: ما جاء في اللعان ﴿١٢٠٠﴾.
﴿ فإذا بلغن أجلهن ﴾ الضمير راجع إلى الرجعيات من المطلقات وذكر حكم خاص ببعض ما تناوله الصدر لا يبطل عموم الصدر كما في قوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ إلى قوله :﴿ وبعولتهن أحق بردهن ﴾ ١ المعنى قربة من انقضاء عدتهن ﴿ فأمسكوهن ﴾ أي راجعوهن ﴿ بمعروف أو فارقوهن بمعروف ﴾ فتبين منكم من غير ضرار بأن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة ﴿ واشهدوا ﴾ على الرجعة أو الفرقة ﴿ ذوى عدل منكم ﴾ تبرئا عن الريبة وقطعا للتنازع والأمر بالأشهاد أمر استحباب ولا يشترط الشهود للرجعة عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية وعند الشافعي في أصح قوليه وفي قول الشافعي ورواية احمد يشترط الشهود للرجعة والأمر أمر إيجاب قلنا أيضا الإشهاد على الطلاق ليس بواجب إجماعا فالأمر للاستحباب كما في قوله تعالى :﴿ وأشهدوا إذا تبايعتم ﴾ ٢ ولا يمكن أن يكون الأمر للوجوب في حق لاستحباب في حق الفرقة وإلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ﴿ وأقيموا الشهادة ﴾ أيها الشهود إذا دعيتم إليها لله أي خالصا لوجهه لا لغرض دنيوي ﴿ ذلكم ﴾ الذي ذكر ﴿ يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ فإنه هو المنتفع به والمقصود تذكيره أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال جاء عوف ابن مالك الأشجعي فقال يا رسول الله إن إبني أسره العدو وجزعت أمه فما تأمرني قال آمرك وإياها أن تستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة نعم ما أمرك فجعلا يكثران فغفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه قال البغوي وهي أربعة آلاف شاء فنزلت ﴿ ومن يتق الله ﴾ قال البغوي أتى عوف ابن مالك النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أسر العدو ابني وشكى إليه أيضا الفاقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ) ففعل الرجل ذلك فبينما هو في بيته إذا أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا فجاء بها إلى أبيه وأخرج ابن جرير مثله عن سالم ابن أبي جعد والسدي وأخرجه الحاكم من حديث ابن مسعود وأخرج أيضا عن جابر قال نزلت في رجل من أشجع كان فقيرا خفيف ذات اليد كثير العيال فذكر مثله، وأخرج الخطيب في تاريخه من طريق جرير عن الضحاك عن ابن عباس وأخرجه الثعلبي من وجه آخر ضعيف وابن أبي حاتم من وجه آخر مرسل فقد صح الحديث بكثرة الشواهد فلا بأس بما قال الذهبي في حديث جابر أنه حديث منكر ومعنى الآية ﴿ ومن يتق ﴾ ومن يتقي الله في المصيبة والبلاء فيصبر ويترك الجزع وارتكاب المحرم ﴿ يجعل ﴾ الله ﴿ له مخرجا ﴾ من ذلك البلاء والمصيبة
١ سورة البقرة: الآية: ٢٢٨.
٢ سورة البقرة: الآية: ٢٨٢.
﴿ ويرزقه ﴾ بعد فقره رزقا حلالا ﴿ من حيث لا يحتسب ﴾ كما رزق الأشجعي عن عبد الله ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( { من أنزل فاقة فأنزلها لم يسد فاقته ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله برزق عاجلا أو آجلا ) ١ رواه أبو داود والترمذي وصححه هو الحاكم إلا أنه قال أوشك الله له بالغنى إما بموت عاجل أو غنى، وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من جاء أو احتاج فكتمه الناس وأفضى به إلى الله كان حقا على الله أن يفتح له قوت سنة من حلال ) ٢.
فائدة : قال البغوي قال مقاتل أصاب ابنه يعني عوف ابن مالك الأشجعي غنما ومتاعا ثم رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي صلى الله إليه وسلم أخبره الخبر وسأله أيحل له أن يأكل ما أتى به ابنه فقال النبي صلى الله عليه سلم نعم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فائدة :
اختار المجدد لجلب المنافع ودفع المضار الدينية والدنيوية إكثار لا حول ولا قوة إلا بالله وعين في مقدار الإكثار أن يقرأها في كل يوم خمسمائة مرة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبله مائة مرة وبعده مئة مرة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من أنعم الله عليه نعمة فأراد بقاءها فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ) رواه الطبراني من حديث عقبة ابن عامر وفي الصحيحين عن أبي مولى مرفوعا ﴿ إنها كنز من كنوز الجنة ﴾ ٣ وفي رواية للنسائي ( من قال لا حول ولا قوة إلا بالله كان دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم ) ٤.
مسألة : إذا دخل المسلم دار الحرب أسيرا أو سارقا مختفيا بلا أمان وأستولى على مال حربي بسرقة أو غصب أو غير ذلك وأحرزه بدار الإسلام ملكه ملكا حلالا وليس عليه إخراج الخمس وإن وضع عنده حربي ماله أمانة أو دخل دار الحرب بأمان تاجرا أو سياحا واستولى على مالهم وأحرزه بدار الإسلام ملكه بملك حرام لأجل الغدر ونقض العهد ولا خمس عليه وإن أخذ مالهم عنوة فحكمه حكم الغنيمة يجب فيه الخمس والله تعالى أعلم قال البغوي قال عكرمة والشعبي والضحاك ومعنى الآية ومن يتق الله فيطلق للسنة يجعل له مخرجا إلى الرجعة وقال ابن مسعود من يتق الله يجعل له مخرجا من كل شيء ضاق على الناس وقال أبو العالية مخرجا من شدة وقال الحسن مخرجا عما نهاه عنه قلت نظم الآية يطابق قصة الأشجعي ويفيد الحكم العام بحيث يناسب سياق السورة، والجملة اعتراضية مؤكدة لما سبق يعني من يتق الله من الرجال ولم يظلم على زوجة بالنشوز والعدوان إذا أراد الفراق لنشوزها أو لغرض صحيح آخر ولم يطلق في الحيض ولا قصد إضرارها بتطويل العدة وغير ذلك ولا أخرجها من المسكن ولم يتعد حدود الله يجعل له مخرجا من المعصية ومن سوء معاشرتها ويرزقه بدلا منها زوجة صالحة لم يخطر باله وكذا في المرأة إذا اتقت الله فلم تظلم زوجها بالنشوز وطلب الطلاق بلا إضرار منه أو صبرت على إيذائه يجعل لها مخرجا منه ويرزقها من الطعام ومن الرجال بعلا صالحا من وجه لا يخطر ببالها وتفيد حكما عاما لعامة المنتقين بالخلاص عن مضار الدارين والفوز بخيرهما ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ) ﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ٢ ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ ٥ رواه أحمد وابن ماجه والدارمي من حديث أبي ذر وكذا روى ابن حبان في صحيحه والحاكم وزاد فما زال عليه السلام يقرأها ويعيدها ﴿ ومن يتوكل على الله فهو حسبه ﴾ أي كافيه فيما يهمه عن عمر ابن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) ٦ رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يدخلون الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) ٧ متفق عليه وزاد في رواية ولا يكتوون ﴿ إن الله بالغ أمره ﴾ يبلغه على ما يريده ولا يفوته مراده لا يرد قضاءه قرأ حفص بالغ بالإضافة بغير تنوين وأمره بالجر والباقون بالتنوين ونصب أمره، قال مسروق عن الله بالغ أمره توكل عليه أو، لم يتوكل غير أن المتوكل عليه يكر عنه سيآته ويعظم له أجرا ﴿ قد جعل الله لكل شيء قدرا ﴾ أي تقديرا ومقدارا وفيه تقرير لما تقدم من توقيت الطلاق بزمان والعدة والأمر بإحصائها وتمهيد لما سيأتي من مقاديرها أو المعنى جعل لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه لا يتأتى تغييره ولا يفيد الجزع فيه فهو بيان لوجوب التوكل ويناسب هذا التأويل قول مسروق.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد باب: ما جاء في الهم في الدنيا وحبها ﴿٢٣٢٦﴾ وأخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة باب: في الاستعفاف ﴿١٦٤٤﴾.
٢ رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه إسماعيل ابن رجاء الحصني ضعفه الدارقطني. انظر مجمع الزوائد في كتاب: الزهد باب: فيمن صبر على العيش الشديد ولم يشك إلى الناس ﴿١٧٨٧٠﴾.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات باب: الدعاء إذا علا عقبة ﴿٦٣٨٤﴾ وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة باب: استحباب خفض الصوت بالذكر ﴿٢٧٠٤﴾.
٤ رواه الطبراني في الأوسط وفيه بشر ابن رافع الحارثي وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد في كتاب: الأذكار باب: ما جاء في لا حول ولا قوة إلا بالله ﴿١٦٩٠١﴾.
٥ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد باب: الورع والتقوى ﴿٤٤٢٠﴾ قال في الزوائد رجاله ثقات غير أنه منقطع.
٦ أخرجه الترمذي في كتاب الزهد باب: في التوكل على الله ﴿٢٣٤٤﴾ وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد باب: التوكل واليقين ﴿٤١٦٤﴾.
٧ أخرجه البخاري في كتاب: الطب باب: من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو ﴿٥٧٠٥﴾ وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين بغير حساب ولا عذاب ﴿٢١٨﴾.
وأخرج ابن جرير وإسحاق ابن راهويه والحاكم وغيرهم بسند صحيح عن أبي ابن كعب قال لما نزلت الآية في سورة البقرة في عدة النساء قالوا قد بقي عدد من النساء لم يذكرن الصغار والكبار وأولات الأحمال فأنزلت ﴿ واللائي ﴾ مر اختلاف القراء في سورة المجادلة ﴿ يئسن من المحيض ﴾ مصدر ميمي بمعنى الحيض ﴿ من نسائكم ﴾ ويعني اللآتي لا يرجون الحيض لكرهن وقدرها بعض العلماء بخمس وخمسين سنة وبعضهم بستين سنة ﴿ إن ارتبتم ﴾ أي شككتم في عدتهن كأن في هذا الشرط إشارة إلى أن عدة اللائي يأسن واللائي لم يحضن يمكن استنباطها من قوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾١ فإن ثلاثة قروء غالبا يوجد في ثلاثة أشهر فإذا لا يوجد القروء يجب رعاية زمان يوجد فيه غالبا القروء الثلاثة كما أن العلماء حكموا بالبلوغ بمضي خمسة عشر سنة أو سبعة عشر سنة أو نحو ذلك لعدم خلوا هذا السن من البلوغ غالبا وكما أن الشرع أقام حولان الحول على المال في وجوب الزكاة مقام النماء لوجود النماء غالبا في الحول وله نظائر كثيرة مثل تقدير الإياس بالسنين ﴿ فعدتهن ثلاثة أشهر ﴾ أخرج مقاتل في تفسيره أن خلاد ابن عمر ابن الجموح سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدة التي لا تحيض فنزلت هذه الآية ﴿ واللائي لم يحضن ﴾ سواء كانت صغيرة أو مراهقة و بالغة بالسن مبتدأ خبره محذوف دل عليه ما سبق يعني كذلك عدتهن ثلاثة أشهر قوله واللائي يئسن مع ما عطف عليه معطوف على مفهوم قوله تعالى :﴿ فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ﴾ فإن الإضافة في لعدتهن ولام التعريف في العدة للعهد أي عدتهن المعهودة المعلومة من قوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾
فدلت الإضافة واللام على أن عدة اللائي يحضن من المطلقات ثلاثة حيض فعطف عليه هذه الآية مختصة بالمطلقات الحرائر إجماعا سواءكن رجعيات أو بائنات أو مختلعات مسلمات أو كتابيات تحت مسلم وأما الإماء قنات أو مكاتبات أو مدبرات فعدتهن إذا لم تكن من ذوات الإقراء فنصف عدة الحرائر أعني شهر أو نصف شهر بالإجماع وقد ذكرنا في سورة البقرة طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان ولما كان الحيض والطلاق غير متجزئ كملتا والشهر متجزئ فصار شهرا ونصف شهر، روى الشافعي ثنا أبو سفيان ابن عيينة عن محمد ابن عبد الرحمان مولى أبي طلحة عن سلمان ابن يسارعن عبد الله ابن عتبة عن عمر قال ينكح العبد امرأتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة بحيضتين فإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهرا ونصفا.
مسألة : الشابة التي كانت تحيض فارتفع حيضها قبل بلوغ السن الإياس ذهب أكثر أهل العلم إلى أن عدتها لا تنقضي حتى يعاودها الدم فتعتد ثلاثة أقراء أو تبلغ سن الإياس فتعتد بثلاثة أشهر وهو قول عثمان وعلي زيد ابن ثابت وابن مسعود وبه قال عطاء وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي ووجه هذا القول ظاهر فإنها غير داخلة في اللائي يئسن واللائي لم يحضن، وحكي عن عمر أنها يتربصن تسعة أشهر فإن لم تحضن في تلك المدة تعتد بثلاثة أشهر وهو قول مالك وقال الحسن تتربصن ستة فإن لم تحضن تعتد بثلاثة أشهر مسألة إن حاضت المطلقة حيضتين حتى بلغ سن الإياس وانقطع دمها تستأنف العدة بالشهور وإن اعتدت الأيسة بالأشهر ثم رأت الدم بعد انقضائها أو في حلالها انتقض وأمضى من عدتها وظهر الفساد نكاحها الكائن بعد تلك العدة هذا إذا رأت الدم على العادة بأن يكون الدم أسود أو أحمر ولو رأت أصفر أو أخضر وتربية لا يكون حيضا إلا إذا كانت عادتها قبل الإياس أصفر قرأته كذلك أو علقا فرأته كذلك عن وقع الطلاق في أول شهر اعتدت بالأشهر الهلالية اتفاقا وإن وقع في أثناء الشهر اعتبر كلها بالأيام فلا ينقضي عدتها إلا بتسعين يوما عند أبي حنيفة وعند صاحبيه يكمل الأول ثلاثين يوما والأخيران المتوسطان بالأهلة.
مسألة : ليس حكم هذه الآية في المتوفي عنها زوجها فإن عدتها إذا لم تكن حاملا أربعة شهر وعشر سواء كانت صغيرة أو آيسة أو شابة والداعي إلى تخصيص حكم هذه الآية بالمطلقات دون المتوفي عنهن أزواجهن مع كون اللفظ عاما الإجماع وسند الإجماع ما ذكرنا في سبب النزول من حديث أبي ابن كعب قالوا قد بقي عدد من النساء لم يذكرن الصغائر والكبائر وأولات الأحمال فأنزلت هذه الآية وقوله تعالى إن ارتبتم ولا شك أن عدة النساء لم يبق إلا من قوله تعالى ﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾٢ بخلاف قوله تعالى :﴿ والذين يتوفون منكم ﴾ ٣ فإنه عام شامل لجميع أقسام المتوفي عنهن أزواجهن لم يشذ منها شيء وأيضا لا يحتمل تلك الآية الارتياب فإن الارتياب إنما يتصور في ما ثبت بدليل ظني وتلك الآية لعمومه يشتمل جميع أقسام المتوفي عنها زوجها قطعا يقينا فإن قيل هذا دليل كما يقتضي اختصاص هذه الآية بالمطلقات يقتضي أيضا أن يختص به أيضا قوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ مع أنه لم يقل به أحد فكيف ترك دليل الاختصاص هناك مع كون الجمل الثلاث في نسق واحد ؟ قلنا : كان دليل التخصيص هاهنا الإجماع وإلا فحديث الآحاد ما لم يعتقد بالإجماع لا يصلح مخصصا للقطع عندنا والإجماع هناك على خلاف ذلك يعني على شمول الأحمال أولات الأحمال المطلقات والمتوفي عنهن أزواجهن لابن علية وابن عباس قالا لابد للمتوفي عنها زوجها إذا كانت حاملة من الوضع والأربعة الأشهر وعشرا جمعا بين الآيتين احتياطا والجمهور على أنه تنقضي عدتها بالوضع كذا روى مالك في الموطأ عن ابن عمر وعن عمر ابن الخطاب ولم يقل أحد أن الوضع في حقها غير معتبر أصلا، وفي موطأ مالك عن سليمان ابن يسار أن عبد الله ابن عباس وأبا سلمة ابن عبد الرحمان ابن عوف اختلفوا في المرأة تنفس بعد زوجها بليال فقال أبو سلمة إذا وضعت ما في بطنها فقد حلت، وقال ابن عباس آخر الأجلين فقال أبو هريرة أنا مع ابن أخي يعني أبا سلمة فأرسلوا كريبا مولى ابن عباس إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يسألها عن ذلك فأخبرهم أنها قالت ولدت سبعية الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قد حللت فانكحي من شئت.
وفي الصحيحين حديث عمر ابن عبد الله ابن أرقم أنه دخل على سبعية بنت الحارث الأسلمية فسألها عن حديثها فأخبرته إنها كانت تحت سعد ابن خولة وهو من بني عامر ابن لؤي وهو كان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها فلها تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل ابن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح والله ما أنت بناكحة حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني أني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي٤. وإذا ثبت أن قوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال ﴾ شاملة للمتوفي عنها زوجها أيضا كما يدل عليه حديث أبي ابن كعب قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأولات أحمال أجلهن أن يضعن حملهن للمطلقة ثلاثا والمتوفي عنها زوجها فقال هي للمطلقة ثلاثا والمتوفي عنها زوجها ولكن فيه المثنى ابن صباح متروك قال الشافعي رحمه الله تعالى بأن هذه الآية مخصصة الآية التربص أربعة أشهر وعشر أبناء على أنه يجوز التخصيص بالمتراخي عنده، قال البيضاوي المحافظة على عموم هذه الآية أولى من محافظة على عموم قوله تعالى ﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ﴾ لأن عموم أولات الأحمال بالذات وعموم أزواجا بالعرض والحكم معل هاهنا بخلاف ثمة والحديث سبعية وقال أبو حنيفة هذه الآية ناسخة لحكم آية البقرة مقدار ما يتناول عليه وهو المروي عن ابن مسعود وأخرج البخاري عن ابن مسعود قال أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة نزلت سورة النساء القصرى بعد الطولي يريد بالقصرى هذه السورة بالطولي البقرة٥ وفي رواية عنه أنه قال من شاء بأهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد سورة النساء الطولي وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من شاء لاعنته لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة أشهر وعشرا٦ وأخرج البزار بلفظ من شاء حالفته مسألة لا فرق بين عدة الحامل بين الحرة والأمة لأن الوضع لا يحتمل التجزي.
مسألة : أم التوأمين تنقضي عدتها بوضع آخرها لأن قوله تعالى حملهن يقتضي وضع تمام حملها ﴿ ومن يتق الله ﴾ في أحكامه ﴿ يجعل له من أمره يسرا ﴾ يعني يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة يوفقه للخير
١ سورة البقرة: الآية ٢٢٨.
٢ سورة البقرة الآية: ٢٢٨.
٣ سورة البقرة الآية: ٢٣٤.
٤ أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: فضل من شهد بدرا ﴿٣٩٩١﴾ وأخرجه مسلم في كتاب الطلاق باب: انقضاء عدة المتوفي عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل ﴿١٤٨٤﴾.
٥ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير باب: ﴿وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن﴾ ﴿٤٩١٠﴾.
٦ أخرجه النسائي في كتابك الطلاق باب: عدة الحامل المتوفي عنها زوجها ﴿٣٥١٤﴾ وأخرجه أبو داود في كتاب: الطلاق باب: في عدة الحامل ﴿٢٣٠٥﴾.
﴿ ذلك ﴾ أي أحكام المذكورة مبتدأ خبره ﴿ أمر الله أنزله إليكم ﴾ حال من أمر الله والعامل فيه معنى شيء ﴿ ومن يتق الله ﴾في أحكامه فيراعي حقوقها ﴿ يكفر عنه سيئاته ﴾ فإن الحسنات يذهبن السيآت ﴿ ويعظم له أجرا ﴾ بالمضاعفة
﴿ أسكنوهن ﴾ متصل بقوله تعالى لا تخرجوهن مستأنفة كأنه في جواب من قال أين تسكنهن والضمير راجع إلى النساء المطلقات المذكورات في أول السورة فهي تعم الرجعيات والبائنات الحرائر والإماء صغيرات كن أو حائضات أو أيسات ﴿ من حيث سكنتم ﴾ من زائدة والمعنى حيث سكنتم أو لتبعيض والموصوف محذوف يعني مكانا كائنا بعض المكان الذي سكنتم فيه، وقيل من يمضي في كما في قوله تعالى من قبل أن تنزل التوراة ﴿ من وجدكم ﴾ أي من وسعكم أي الذي تطيقونه ﴿ ولا تضاروهن ﴾ في السكنى ﴿ لتضيقوا عليهن ﴾ في المساكن ببعض الأسباب من إنزال لا يوافقها أو شغل مكانها وغير ذلك فتلجوهن إلى الخروج ﴿ وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ﴾ اعلم أن المطلقة الرجعية يستحق على زوجها النفقة والسكنى إجماعا ما دامت في العدة فإن كان الدار ملكا للزوج يجب على الزوج أن يخرج عنها ويترك الدار مدة عدتها إن كان لا يريد الرجعة وإن كان بإجارة فعلى الزوج الأجرة وأما المعتدة البائنة بالخلع أو بالطلقات الثلاث أو باللعان أو بالكنايات على مذهب أبي حنيفة فلها السكنى حاملا كانت أو حائلا عند أكثر أهل العلم لعموم قوله تعالى :﴿ أسكنوهن ﴾ من غير فصل، وروى ابن عباس والحسن والشعبي أنه لا سكنى لها واختلفوا في نفقتها فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها وإلا أن تكون حاملا روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن والشعبي وعطاء وبه قال الشافعي وأحمد والحجة لهؤلاء مفهوم الشرط لهذه الآية وحديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو ابن حفص طلقها البتة وهو غائب بالشام فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لها ﴿ ليس لك عليه نفقة ﴾ وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك امرأة يغشها أصحابي فأعتدي عند ابن أم مكتوم فإن رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فأذنيني قلت فلما حللت ذكرت له أن معاوية ابن سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة ابن زيد فكرهته ثم قال إنكحي أسامة فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به١ رواه مسلم وروى مسلم أيضا وقال فيه ( لا نفقة لك ولا سكنى ) ورواه أيضا وقال فيه ابن المغيرة خرج مع علي ابن أبي طالب فأرسل إلى امرأته بنت قيس بتطليقه كانت بقية من تطليقها وعلى هذا يحمل رواية الثلاث على أنه أوقع واحدة في تمام الثلاث وأمر لها الحارث ابن هشام وعباس ابن ربيعة بنفقة فسخطتها فقالا والله ليس لك نفقة إلا أن تكوني حاملا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما فقال لا نفقة لك، وفي رواية لمسلم أن أبا حفص ابن المغيرة طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن وقال لها أهله ليس لك علينا نفقة فانطلق خالد ابن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة الحديث، وقال أبو حنيفة لها نفقة حاملة كانت أولا بهذه الآية فإن قوله تعالى من وجدكم متعلق بمحذوف والتقدير أسكتوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم لأن قدر السكنى اتضح بقوله من حيث سكنتم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ولولا تقدير أنفقوا عليهن فلا فائدة لقوله من وجدكم إنما هو لبيان مقدار النفقة به وجاءت قراءة ابن مسعود وهو حجة عند أبي حنيفة والمفهوم ليس بحجة عنده وفائدة التفييد بقوله وإن كن أولات حمل التأكيد ودفع توهم عدم النفقة على المعتدة الحامل في تمام الحمل لطولها وعدم الاقتصار على قدر ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر والجواب عن حديث فاطمة أنه وإن كانت مرويا بسند صحيح لكنه شاذ مردود غير مقبول رده السلف ومعارض ومضطرب أما الاضطراب فقد سمعت في بعض الراويات أنه طلقها وهو غائب وفي بعضها طلقها ثم سافر وفي بعضها أنها ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته وفي بعضها أبا حفص ابن المغيرة، أما الرد من السلف فقد طعن في الحديث
أكابر الصحابة ممن سنذكر مع إنه ليس من عادتهم الطعن بسبب كون الراوي امرأة أو أعرابيا فقد قبلوا حديث فريعة بنت مالك أخت أبا سعد في اعتداد المتوفي عنها زوجها في بيت زوجها مع أنها لا تعرف إلا بهذا الحديث بخلاف فاطمة بنت قيس وقبل عمر خبر الضحاك ابن سفيان الكلابي وحده وهو أعرابي وأسوة من رد هذا الحديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه روى مسلم في صحيحه عن أبي إسحاق قال كنت مع أسود ابن زيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة فأخذ الأسود من حصني فحصن به فقال ويلك تحدث بمثل هذا قال عمر لا نترك كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت لها السكنى والنفقة قال الله تعالى ﴿ لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾ فعمر رد حديث فاطمة بين أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لها النفقة والسكنى وقول الصحابي من السنة كذا وقع فكيف إذا كان قائله عمر وهو أعلم بالسنن والشرائع وفيما روى الطحاوي والدارقطني زيادة قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مبتدأ ﴿ للمطلقة ثلاثا النفقة والسكنى ﴾ وهذا صريح في الرفع والمعارضة قال سعيد ابن منصور ثنا المعاوية ثنا الأعمش عن إبراهيم قال كان عمر إذا ذكر عنده حديث فاطمة قال ما كنا نغير في ديننا بشهادة امرأة وهذا شاهد على أن المعروف المشهور عندهم كان وجوب النفقة والسكنى ولمن رد حديثها عائشة وكانت أعلم الناس بأحوال النساء فقد كن يأتين إلى منزلها ويستفتين من النبي صلى الله عليه وسلم روى الشيخان في الصحيحين عن عروة أنه قال لعائشة ألم تري إلى فلانة بنت الحكم طلقه زوجها البتة فخرجت فقالت بئس ما صنعت فقلت ألم تسمعي إلى قول فاطمة فقالت أما أنه لا خير لها في ذكر ذلك ) ٢ وفي صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت لفاطمة ألا تتقي الله تعالى في قولها لا سكنى لها ولا نفقة وممن رد حديثها أسامة ابن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عبد الله ابن صالح قال حدثني الليث ابن سعد حدثني جعفر عن أبي هريرة عن أبي سلمة ابن عبد الرحمان قال كان محمد ابن أسامة يقول كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئا من ذلك يعني من انتقالها في عدتها رماها بما في يده انتهى هذا مع أنه الذي تزوجها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أعرف بالحال وهذا لم يكن إلا لعلمه بأن ذلك غلط أو لعلم بخصوص سبب جواز انتقالها من اللسن أو خيفة المكان قال ابن همام، وقال الليث حدثني عقيل عن ابن أشباب أنا أبو سلمة ابن عبد الرحمان فذكرت حديث فاطمة فأنكر الناس عليها كانت تحدث من خروجها قبل أن تحل وممن رد حديثها مروان روى مسلم في صحيحه أن مرت وأبعث إليها قبيصة ابن أبي ذويب فسألها عن الحديث فحدثته به فقال مروان لم تسمع الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها قال ابن همام والناس إذ ذاك الصحابة فهذا في المعنى حكاية عن إجماع الصحابة وصفه بالعصمة قال ابن همام من رد حديثها زيد ابن ثابت ومن التابعين ابن المسيب وشريح والشعبي والحسن والأسود ابن يزيد وممن بعدهم الثوري وأحمد ابن حنبل خلق كثير ممن تبعهم فالحديث شاذ، وأما المعارضة فما ذكرنا من رفع عمرو في معجم الطبراني بسنده عن إبراهيم أن ابن مسعود وعمر قالا المطلقة ثلاثا لها السكنى والنفقة، وأخرج الدارقطني عن حزب ابن العالية عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المطلقة ثلاثا لها السكنى والنفقة لكن ضعف رفعه ابن معين وقال الأشبه وقفه على جابر فائدة وقيل في توجيه حديث فاطمة بنت قيس على تقدير صحته أنها كانت تطول لسانها على أحمائها وكان للسانها ذرابة ولذا أخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيتها روى القاضي إسماعيل بسنده عن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس إنما أخرجك هذا اللسان وقال سعيد وقال سعيد ابن المسيب تلك امرأة يعني فاطمة بنت قيس فتنت الناس كانت لسنة فوضت على يدابن أم مكتوم رواه أبو داود، وقال سليمان ابن يسار خروج فاطمة إنما كان عن سوء الخلق ( ٣ رواه أبو داود عنه وكان هذا سببا لخروجها من بيتها وأما سبب عدم نفقتها فلأن زوجها كان غائبا ولم يترك مالا عند أحد سوى الشعير الذي بعث به إليها فطالبت هي من أهله على ما في مسلم من طريق أن طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن فقال لها أهله ليس لك علينا نفقة الحديث فكأنه لذلك قال لها عليه الصلاة والسلام لا نفقة لك ولا سكنى لأنه لم يترك مالا عند أحد وليس يجب لك على أهله شيء فلا نفقه لك فلم تفهم فاطمة الغرض من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت تروي عدم النفقة مطلقا فوقع إنكار الناس عليها.
مسألة : المعتدة عن وفاة الزوج لا نفقة لها إجماعا حاملا كانت أو حائلا واختلفوا في سكناها للشافعي فيه قولان أحدهما أنه لا سكنى لها تعتد حيث تشاء وهو قول عائشة وابن عباس وعلي وبه قال الحسن، والجمهور على أن لها السكنى وهو قول عمر وعثمان وعبد الله ابن مسعود وعبد الله ابن عمر وبه قال مالك وسفيان والثوري وأحمد وإسحاق وقلت : وكذا قال أبو حنيفة لكنه يقول إن كان نصيبها من دار الميت لا يكفيها وأخرجها الورثة من نصيبهم انتقلت لأن هذا انتقال بعذر والعبادات توثر فيها الأعذار فصارت كما إذا خافت سقوط المنزل أو كانت فيها بأجر ولا تجد ما تؤويه ولا تخرج عما انتقلت إليه والحجة للجمهور حديث فريعة بنت مالك ابن سنان أخت أبي سعيد الخدري وقد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿ والذين يتوفون منكم ﴾ ٤ ﴿ فإن أرضعن لكم ﴾ أي المطلقات بعد وضع الحمل وتمام العدة أولادكم ﴿ فآتوهن أجورهن ﴾ على رضاعهن ذكرنا في سورة البقرة أن إرضاع الولد واجب على الأمر لقوله تعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن ﴾ ٥ فإن استأجر الرجل زوجة أو معتدة لإرضاع ولدها لا يجوز لأنه أخذ الأجرة على فعل واجب عليها فلا يجوز وهذا كان يقتضي عدم جواز اسئجار المطلقة بعد انقضاء العدة أيضا لكنا جوزنا ذلك بهذه الآية فظهر بهذه الآية أن وجوب الإرضاع على الأم مقيد بوجوب رزقها على الأب بقوله تعالى :﴿ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن ﴾ ٦ ففي حالة الزوجة والعدة بعد الطلاق أبوه قائم برزقها وفيما بعد العدة ليس عليه رزق فيقوم الأجرة ﴿ وأتمروا بينكم بمعروف ﴾ خطاب للزوجين أي ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره الآخر بشيء معروف وما هو الأحسن ولا يقصد أحدهم إضرار الآخر قال الشافعي يعني شاوروا وقال مقاتل بتراض الأم والأب على أجر مسمى وقال البيضاوي وليأمر بعضكم بعضا بجميل في الإرضاع والأجر ﴿ وإن تعاسرتم ﴾ أيها الأبوين أي أن عسر الإرضاع على الأم فأبت أن ترضع ولدها فليس للأب إجبارها عليه وعذرت قضاء لظن عجزها حين امتنعت عن الإرضاع مع وفور شفقتها فإن كان الإرضاع غير متعسر عليها في الواقع أتمت عند الله وإن عسر على الأب إعطاء أجرتها وكانت ثمة من ترضعه بغير أجر أو بأجر أقل من أجر المثل لا يجبر على الأب في إعطاء أجر المثل للأم ويسترضع الأب من غير أبي حنيفة وهي رواية عن مالك وقول الشافعي وقال أحمد يجبر على الأب في إعطاء أجر المثل ولا يجوز للأب الإرضاع من غيرها وإن وجد من ترضع بغير أجر وهي رواية عن مالك وقول للشافعي وهذه الآية حجة لأبي حنيفة حيث قال الله تعالى ﴿ ف
١ أخرجه مسلم في كتاب: الطلاق باب: المطلقة ثلاثا لا نفقة لها {١٤٨٠﴾.
٢ أخرجه البخاري في كتابك الطلاق باب: قصة فاطمة بنت قيس ﴿٥٣٢٥﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الطلاق بابك المطلقة ثلاثا لا نفقة لها ﴿١٤٨٠﴾.
٣ أخرجه أبو داود في كتاب: الطلاق باب: من أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس ﴿٢٢٩٢﴾.
٤ سورة البقرة الآية: ٢٣٤.
٥ سورة البقرة الآية: ٢٣٣.
٦ سورة البقرة الآية: ٢٣٣.
﴿ لينفق ذو سعة من سعته ﴾ أي على قدر غناه ﴿ ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ﴾ على قدر طاقة.
مسألة : اختلفوا في أن نفقة الزوجات والمطلقات هل هي مقدرة بالشرع أو معتبرة بحال الزوجين أو بحال الزوج فقد قال مالك وأحمد وهي رواية عن أبي حنيفة واختارها صاحب الهداية أنها غير مقدرة بالشرع بل مفوض إلى الاجتهاد ويعتبر بحال الزوجين فيجب على الموسر للموسرة نفقة الموسرين وعلى المعسر للمعسرة أقل الكفايات حالا والباقي في ذمته إذ قضى القاضي بنفقة المتوسط أو رضيا بقدر، وهذا القول يؤخذ مكن هذه الآية لا يقتضي اعتبار حال الزوجة وتقتضي أن يكون على الموسر للغفيرة نفقة اليسار بقوله تعالى :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ﴾ ويقتضي أن يكون على الفقير بقدر طاقته ولا يكون شيء في ذمته وإن كانت زوجة موسرة لقوله تعالى :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ﴾ فإن تعليل لعدم وجوب الزيادة وهذا هو ظاهر الرواية من مذهب أبي حنيفة قال ابن همام على ظاهر الرواية في سورة إعسار الزوج ويسار الزوجة نفقة الإعسار لأنها وإن كانت موسرة لكنها لما تزوجت معسرا فقد رضيت بنفقة المعسرين وفي صورة يسار الزوج وإعسار الزوجة نفقة الموسر زوجه ومن قال إنه يجب على المعسر للموسرة نفقة متوسطة اعتبار حال الزوج ثبت بالقرآن واعتبار حال الزوجة بحديث عائشة أن هند بنت عتبة قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال :﴿ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ﴾ ١ متفق عليه، ويورد عليه أنه حديث آحاد لا يجوز به تغيير حكم ثبت بالقاطع وأفاد صاحب الهداية دفع هذا الإيراد بقوله نحن نقول بموجبه أي موجب القرآن أنه مخاطب بقدر وسعه والباقي في ذمته فإن المفاد بالنص باعتبار حاله في الإنفاق ونحن نقول أن المعسر لا ينفق فوق وسعه وهولا ينفي اعتبار حالها في قدر ما يجب لها عليه في ذمته والحديث أفاده فلا زيادة على النص لأن موجبه تكليف بإخراج حاله والحديث أفاد اعتبار حالها في قدر الواجب إلا المخرج فيجتمعان بأن يكون الواجب عليه أكثر فيما إذا كانت موسرة وهو معسر ويخرج قدر حاله فبالضرورة يبقى الباقي في ذمته وأورد عليه أنه صلى الله عليه وسلم أنه كان عالما بحال أبي سفيان لعله أنه كان موسرا فلم ينص على حاله وأطلق لها بأن أخذ كفايتها وأيضا ليس في الحديث اعتبار حالها فإن الكفاية تختلف أيضا وقوله عليه الصلاة والسلام ﴿ بالمعروف ﴾ إشارة إلى رعاية حاله وأخذها من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدها لا يمكن إلا إذا كان أبو سفيان مالكا لما يكفيها وولدها ففيه دليل واضح على أنه كان وسرا مانعا لأجل الشح والله أعلم، وقال الشافعي هي مقدرة بالشرع لأدخل للاجتهاد فيها معتبرة بحال الزوج كما ينطق به الآية فعلى الموسر مدان وعلى المتوسط مد ونصف وعلى المعسر مد واحد ولا دليل في الآية على التقدير.
مسألة : اتفقوا على أن الزوجة إذا احتاجت إلى خادم وجب أخذ أمها بشرط يسار الزوج، وقال محمد يجب على المعسر أيضا نفقة خادم، ثم اختلفوا فيما إذا احتاجت إلى أكثر من خادم فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعي وأحمد لا يلزم إلا خادم واحد قال مالك في المشهور عنه إذا احتاجت خادمين أو ثلاثة لزمه وقال أبو يوسف عليه نفقة خادمين فقط أحدهما لمصالح الداخل والآخر لمصالح الخارج والله تعالى أعلم ثم ذكر الله تعالى لتطيب قلوب المعسرين وعد اليسر ﴿ سيجعل الله بعد عسر يسرا ﴾ أي عاجلا أو آجلا.
١ أخرجه البخاري في كتاب: النفقات باب: إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها من معروف ﴿٥٣٦٤﴾ وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية باب: قضية هند ﴿١٧١٤﴾.
﴿ وكأين ﴾ بمعنى كم الخبرية مبتدأ ﴿ من قرية عتت ﴾ أي عتى أهلها حذف المضاف وأسند الفعل إلى المضاف إليه وكذا في حسبانها وعذبناها خبر كائن أو صفة له والخبر أعد الله لهم يعني كثير من أهل القرية طعنت وأعرضت إعراض العاتي المعاند ﴿ عن أمر ربها ورسله فحسبناها حسابا شديدا ﴾ حسبناها مع ما عطف عليه عطف على عتت يعني حسابا بالاستقصاء والمناقشة وعدم العفو والتجاوز يعني حسبناها بعملها في الدنيا وجزيناها في الدنيا أو المراد استقصاء ذنوبهم وإثباتها في صحف الحفظة ﴿ وعذبناها عذابا نكرا ﴾ قرأ نافع وأبو بكر بضم الكاف والباقون بالسكون يعني منكرا فظيعا بالجوع والقحط والسيف والأسر والإهلاك
﴿ فذاقت وبال أمرها ﴾ أي عقوبة كفرها ومعاصيها في الدنيا ﴿ وكان عاقبة أمرها ﴾ في القبر والآخرة ﴿ خسرا ﴾ لا ربح فيه أصلا حيث يعوض لهم بالجنة النار
﴿ أعد الله لهم ﴾ في الآخرة ﴿ عذابا شديدا ﴾ كذا قال مقاتل في تأويل الآية وقيل في الآية تقديم وتأخير مجازها فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط وسائر البلاء وحسبناها في الآخرة حسابا شديدا وكان عاقبة أمرها خسرا، وقال أكثر المفسرين المراد في الكل حساب الآخرة وعذابها والتعبير بلفظ الماضي للتحقيق وعلى هذين التأويلين لا يجوز إلا أن يكون عتت خبرا من كأين ﴿ فاتقوا الله ﴾ يعني لا تطفوأ ولا تعرضوا عن أمر ربكم ورسله كيلا يصيبكم مثل ما أصابهم والفاء للسببية فإن الوعيد على الجفاء بسبب الاتقاء ﴿ يا أولي الألباب ﴾ الذين آمنوا بدل أو نعت كاشفة فإن مقتضى اللب الإيمان والجملة الندائية معترضة للتنبيه ﴿ قد أنزل الله ﴾ حال من فاعل فاتقوا أو تعليل ﴿ إليكم ذكرا ﴾ يعني القرآن
﴿ رسولا ﴾ منصوب بفعل مقدر يعني وأرسل رسولا أو هو منصوب بالمصدر على المفعولية والمعنى أنزل إليكم ذكر رسول أو على البدلية بدل الكل من ذكر على أنه بمعنى الرسالة أو على حذف المضاف يعني كتاب رسول أو بدل اشتمال من الذكر بمعنى القرآن يعني أنزل ذكرا رسولا معه، وقيل المراد بالذكر جبرائيل عليه السلام لكثرة ذكره أو لنزوله بالذكر وهو القرآن أو لأنه مذكور في السماوات أو ذا ذكر أي شرف أو محمد صلى الله عليه وسلم لمواظبته على الذكر وتلاوة القرآن أو تبليغه الذكر وعبر من إرساله بالإنزال ترشيحه أو لأنه مسبب عن إنزال الوحي إليه وعلى هذين التأويلين رسولا بدل من ذكرا ﴿ يتلو عليكم ﴾ صفة للرسول على الحقيقة أو القرآن مجازا أو جاز أن يكون حالا من اسم الله ﴿ آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات ﴾ أي الكفر والجهل ﴿ إلى النور ﴾ أي الإيمان والفقه والأعمال الصالحة الموجبة للنور في الآخرة والمراد بالموصول المؤمن بعد نزول القرآن علم الله وقدر إيمانهم بعد الكفر وعلمهم بعد الجهل أي ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان والأعمال الصالحة والعلوم الحقة وقوله ليخرج متعلق بأنزل ﴿ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾ قرأ نافع وابن عامر وندخله بالنون على المتكلم والباقون بالياء على الغيبة وحد ضمير ندخله وجمع خالدين حملا على لفظ من ومعناه ﴿ قد أحسن الله له رزقا ﴾ يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها فيه تعظيم لما رزقوا
﴿ الله الذي خلق سبع سماوات ﴾ مبتدأ وخبر ﴿ ومن الأرض مثلهن ﴾ يعني سبعا.
عن أبي هريرة قال :﴿ بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذا أتى عليهم سحاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل تدرون ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا العنان هذه زوايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرون ولا يدعونه ثم قال هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف، ثم قال هل تدرون ما بينكم وبينها ؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال بينكم وبينها خمسمائة عام، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال سماءان بعدما بينهما خمسمائة سنة، ثم قال كذلك حتى عد سبع سماوات ما بين السماء والأرض ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال إن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعدما بين السمائين ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال إنها الأرض ثم قال هل تدرون ما تحت ذلك ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال إن تحتها أرض أخرى ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة، حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة سنة، ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو كل شيء عليم ﴾ ١ رواه أحمد والترمذي وقد ذكرنا هذا الحديث وتحقيقه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى ﴿ فسواهن سبع سماوات ﴾ ٢ قال قتادة في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه من خلقه وأمر من أمر وقضاء من قضاء وقد ورد في بعض الأحاديث ( أن في كل أرض آدم كآدامكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيمكم وموسى كموسى وبني كنبيتكم يعني محمد صلى الله عليه وسلم ) والله تعالى أعلم ﴿ يتنزل الأمر بينهن ﴾ أي يجري أمر الله وقضائه بينهن وينفذ حكمه فيهن كلهن ولو صح حديث في كل أرض آدم كآدم فجاز أن يكون المعنى يتنزل بالوحي بينهن من السماء السابعة إلى الأرض السابعة السفلى.
﴿ لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ﴾ فلا يخفى عليه شيء وقوله لتعلموا علة لخلق أو ليتنزل الأمر أو لمقدريها أي عمكم الخلق والتنزل لتعلموا الآية فإن كلا منها يدل على كمال قدرته وعلمه علما منصوب على التميز من نسبة أحاذ إلى فاعله أو مصدر من غير لفظه فمعنى أحاط بكل شيء علما علم كل شيء علما وجملة الله الذي خلق سبع سماوات الآية تعليل لما سبق من قوله ﴿ فاتقوا لله ﴾.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الحديد ﴿٣٢٩٨﴾.
٢ سورة البقرة الآية ٢٩.
Icon