تفسير سورة الإخلاص

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الإخلاص من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الإخلاص
مكية، وهي أربع آيات.
أخرج الترمذي والحاكم وابن خزيمة من طريق أبي العالية، عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ قل هو الله أحد ١ ﴾ إلى آخر السورة١. وأخرج الطبراني وابن جير مثله من حديث جابر بن عبد الله، فبناء على هذين الروايتين قيل : السورة مكية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن اليهود جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم : منهم كعب بن الأشرف، وحييء بن أخطب، فقالوا : يا محمد، صف لنا ربك الذي بعثك. فأنزل :﴿ قل هو الله أحد ١ ﴾ إلى آخرها.
وأخرج ابن جرير عن قتادة وابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله.
وذكر البغوي قول الضحاك وقتادة ومقاتل : جاء ناس من أحبار اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا : صف لنا ربك، لعلنا نؤمن بك، فإن الله أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو ؟ وهل يأكل ويشرب ؟ ممن ورث ؟ ومن يرثه ؟ فأنزل الله هذه السورة.
وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة من طريق أبان عن أنس قال : أتت يهود خيبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم خلق الله الملائكة من نور الحجاب، وآدم من حمأ مسنون، وإبليس من لهب النار، والسماء من دخان، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك، فلم يجبهم، فأتاه جبرائيل بهذه السورة.
وبناء على هذا الروايات قيل : السورة مدنية.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال قادة الأحزاب : انسب لنا ربك. فأتاه جبرائيل بهذه السورة، وعلى هذا الرواية يرتفع التعارض، ويظهر أن السورة مدنية، والماد بالمشركين من حديث أبي بن كعب هم قادة الأحزاب، ولعل اليهود وقادة الأحزاب من المشركين كلا الفريقين سألوا عن الله تعالى حين نزلت السورة.
وذكر البغوي عن أبي الظبيان وأبي صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر : إلى ما تدعونا يا محمد ؟ قال :" إلى الله ". قال : صفه لنا : أمن ذهب هو ؟ أم من فضة ؟ أم من حديد ؟ أم من خشب ؟ فنزلت هذه السورة، فأهلك الله إربد بالصاعقة، وعامرا بالطاعون.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الإخلاص (٣٣٦٤)..

قوله تعالى :﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هو ﴾ الضمير إما للشأن، والجملة الواقعة بعدها خبر له، ولا حاجة إلى العائد ؛ لأنه هي هو، وإما عائد إلى ما سأل عنه يعني الذي سألتموني هو ﴿ الله ﴾ خبر لهو ﴿ أحد ﴾ بدل من الله، أو خبر ثان لهو أصله وحد بمعنى واحد، أبدلت الواو همزة. وفي قراءة ابن مسعود ( قل هو الله الواحد )، وكذا قرأ عمرو بن الخطاب، وعلى تقدير كون الضمير للشأن، وكون الله أحد مبتدأ وخبر فالكلام ليس على ظاهره ؛ لأن الله علم للجزء الحقيق لا يكون إلا واحدا يمتنع فرض صدقه على كثيرين كزيد، فيلزم الاستدراك، ولا يفيد الكلام، فالواجب أن يراد بلفظ الله معنى كليا يعني مستحقا للعبادة لكل من سواه، وذلك الاستحقاق لا يتصور إلا بإضافة الوجود وتوابعه على ما عداه، وذلك الإفاضة لا يتصور إلا من الذات الواجب وجوده وصفات كماله الممتنع عليه صفات النقص والزوال المباين للمكنات في حقيقة ذاته وصفاته ؛ لأن اقتضاء وجود غيره فرع اقتضاء وجوده في نفسه، وما لا يقتضي وجوده في نفسه كيف يقتضي وجود غيره، سواء كان ذلك الغير جوهرا أو عرضا، أو فعلا من أفعال العباد، وذلك معنى الوجوب والنقص والزوال ومشابهة الممكنات ينافي الوجود واستحقاق العابدة، فمعنى الجملة المستحق للعبادة على الإطلاق، الواجب لذاته وجوده وصفاته الكاملة، الممتنع عليه صفات النقص والزوال، واحد لا شريك له، وحينئذ أفاد الكلام فائدة تامة غير أنه على هذا التأويل لا يطابق الجواب السؤال ؛ لأنهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كونه تعالى واحدا أو متكثرا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم بأعلى صوته إلى التوحيد، وقول لا إله إلا الله ؛ بل سألوه عن حقيقة الذاتية، وقالوا : يا محمد، صف لنا ربك الذي بعثك : أمن الذهب هو، أم من فضة، أو نحو ذلك ؟ وكذا إن كان الضمير عائدا إلى المسؤول عنه، لا جائز أن يقال معنى الجملة أنه واحد غير متكثر، فإنه لا يطابق السؤال، فالواجب على كلا التأويلين أن يكون المراد بأحد ما يكون منزها عن أنحاء التركيب والتعد، وما يستلزم أحدهما من الجسمية والتميز والمشاركة لشيء من الأشياء في الحقيقة، والمشابهة لشيء من الأشياء في صفة من صفات الكمال، وإذا لم يشابهه أحد في الذات ولا في صفة من الصفات لا يكون له ند ولا ضد ولا مثل، ومن ها هنا قالت الصوفية : العلية أحديته تعالى، وعدم مشابهة أحد له تعالى في صفة من الصفات يقتضي أن لا يشاركه أحد في الوجود، فإن أصل الصفات والحياة التي هي أم الصفات وإمامها من العلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والتكوين فرع للوجود بالمعنى المصدري، فهو أمر انتزاعي مترتب عليه، ومن ثم قالوا : يعني لا إله إلا الله موجود إلا الله، فالموجود الحقيق في الخارج لي إلا الله تعالى، وما عداه من الممكنات الموجودة متصفة بوجوده، كالظل لوجوده في الخارج، أو هو كالظل للخارج الحقيقي، وكذا الحال في العلم والقدرة وسائر الصفات، قال الله تعالى :﴿ ذلك بأن الله هو الحق ﴾١ يعني الثابت المتحقق المتأصل في وجوده وصفاته، ﴿ وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ﴾ يعني اللاشيء في نفسه، وقال الله تعالى :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾٢ فصفات الممكنات إنما يشارك صفات الواجب تعالى اشتراكا اسميا لا اشتراكا حقيقيا، ومن لا يفهم كلام الصوفية فعليه التشبث بأذيالهم ﴿ حتى يتبيّن لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط ﴾٣ ففي جملة واحدة تم الإشارة إلى مباحث الذات والصفات كلها في كلمة ( قل )، إشارة إلى النبوة والتبليغ وإعجاز الآية شاهد على النبوة، فكفى ب﴿ قل هو الله أحد ﴾ عن المجلدات، وإن بقي الكلام في مثل أن صفاته تعالى عين ذات، ه أو زائدة عليها، فلا محذور فيه، ولا يتعلق به غرض ؛ بل البحث عن مثل هذه الأبحاث الفلسفة يقضي إلى المهلكة، قال الله تعالى :﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ٨٥ ﴾٤، فإذا لم يؤت البشر العلم بحقيقة الروح وهو من الخلائق فأنى له العلم بذات الخالق وصفاته إلا أعجز عن درك إدراكه. . . والبحث عنه إشراك، والسبيل إليه المعية الحبيبة لا غير. عن أبي هريرة قال :( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى أحمر وجهه، حتى كأنما فقيء في وجنتيه حب الرمان، فقال : أبهذا أمرتم ؟ أبهذا أرسلت إليكم ؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه " ٥، رواه الترمذي، وروى ابن ماجه نحوه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
١ سورة الحج، الآية: ٦..
٢ سورة القصص، الآية: ٨٨..
٣ سورة فصلت: الآية: ٥٣- ٥٤..
٤ سورة الإسراء، الآية: ٨٥..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: القدر، باب: ما جاء في التشديد في الخوض في القدر (٢١٣٣)..
﴿ الله الصمد ٢ ﴾ قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير : الصمد الذي لا خوف له، كذا أخرج ابن جرير عن بريدة لا أعلمه إلا قد رفعه، قلت : لعله مجاز مما لا ينفذ إليه العقول والأوهام، ولا يدركه الإفهام، وقال الشعبي : الذي لا يأكل ولا يشرب، وقيل : تفسيره ما بعده، ولذا روى أبو العالية عن أبي بن كعب، وقال أبو الوائل شقيق بن سلمة : هو السيد الذي قد انتهى سؤدده، وهي رواية عن أبي طلحة عن ابن عباس، يعني الذي قد كمل في جميع أنواع السؤدد، وعن سعيد بن جبير : هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وقيل : هو السيد المقصود في الحوائج.
قال السدي : هو المقصود في الحوائج. قال السدي : هو المقصود إليه في الرغائب، المستغاث به عند المصائب، يقال : صمدته إذا قصدته.
قال قتادة : الصمد الباقي بعد فناء خلقه.
وقال عكرمة : الصمد الذي ليس فوقه أحد، وهو قول علي رضي الله عنه.
وقال الربيع : الصمد الذي لا يعتريه الآفات.
قال مقاتل بن حبان : الذي لا عيب فيه.
قلت : وعندي معناه الحقيقي المقصود، قال في القاموس : الصمد القصد -بالتحريك- السيد ؛ لأنه يقصد، وإدخال اللام عليه لإفادة كونه في أجل درجات الصمدية وأعلاها وأكملها، فإن الناس قد يقصدون غير الله سبحانه من الدنيا وما فيها لفساد رأيهم، وعدم اهتدائهم إلى مرتبة حق اليقين، فكل ما ذكر في أقوال السلف من المعاني فهي تعبيرات عن لوازمه ؛ لأن المقصود على الإطلاق من يحتاج كل ما عداه إليه، ولا يحتاج هو إلى غيره في شيء من الأشياء، فيكون البتة جامعا لجميع الكمالات وأنواع السؤدد، ومنزها عن العيوب وأن تعتريه الآفات، غير محتاج إلى الأكل والشرب، قديما بما لم يولد، غير مجانس لأحد حتى يلد مثله، لا يكون فوقه ؛ بل ليس مثله أحد، فيكون البتة بحيث لا ينفذ إليه فهم وإدراك، ولما كانت الجملة السابقة تغنيه عن هذه الجملة، وعن الجمل الثلاث اللاحقة، وهذه الجملة وما بعدها كالتأكيد للأولى، أوردت لزيادة الاهتمام من قبيل إيراد الخاص بعد العام للمبالغة في التنزيه والتصريح بالرد على المخاطبين المنكرين المشركين في القصد والعبادة غيره تعالى، القائلين باتخاذ الله تعالى البنات والبنين وغيرهم لم يذكر العطف على هذه الجملة، ولا على ما بعدها، وكرر اسم الله تعالى للإشعار بأن من لم يتصف به لم يستحق الألوهية، وأن المقصد يجب كأن لا يكون غيره تعالى، ومن ثم قالت الصوفية معنى لا إله إلا الله لا مقصود إلا الله، وقالوا : ما هو مقصد لك فهو معبود لك، فإن المرء لا يزال يلقي نفسه في كمال التذلل لتحصيل مقصوده، والعبادة عبارة عن كمال التذلل، فالصوفية العلية يذكرون النفي والإثبات مع ملاحظة نفي مقصودية ما عدا الله، ويجتهدون فيه غاية الاجتهاد، حتى يزول عن صدورهم كون غيره تعالى مقصود بوجه من الوجوه، والله المسير لكل عسير.
﴿ لم يلد ﴾ كما زعمت المشركون أن الملائكة بنات الله، واليهود بأن عزير ابن الله، والنصارى بأن المسيح ابن الله ؛ لاستحالة المجانسة، وعدم الاقتضاء إلى من يعينه، أو يخلف عنه، لاستحالة الاحتياج والفناء عليه تعالى، أورد بلفظ الماضي، وإن كان عدم توالده أبدا ردا على ما قالوا، ولمطابقة قوله :﴿ ولم يولد ﴾ ؛ لأن الحديث ينافي الألوهية.
﴿ ولم يكن له كفوا أحد ٤ ﴾ أي مكافيا ومماثلا، قرأ حفص كفوا بضم الفاء وفتح الواو، وحمزة بإسكان الفاء مع الهمزة في الوصل، فإذا وقف إبدال الهمزة واوا مفتوحة اتباعا للخط، والقياس أن يلقى حركتها على الفاء، والباقون بضم الفاء مع الهمزة أحد اسم يكن، وكفوا خبره، والظرف متعلق بكفوا، قدم الخبر على الاسم والظرف التعلق بالخبر عليه للاهتمام ؛ لأن المقصد تنزيه الله تعالى، ونفي المكافاة عنه تعالى الدعاية الفواصل، ويجوز أن يكون الظرف حالا من المستكن في ( كفوا )، وأن يكون خبرا، أو ( كفوا ) حال من أحد، أورد الجمل الثلاث منتسقات بالعطف ؛ لأن المقصد منها نفي أقسام الأمثال، وتنزيهه عن كل ما يتصف به، فهي كجملة واحدة.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي يقول : لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد )١.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿الله الصّمد ٢﴾ (٤٩٧٥)..
Icon