ﰡ
أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا محمد، انسب لنا ربك، فأنزل اللَّه تعالى: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
زاد ابن جرير والترمذي قال: «الصَّمَدُ الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن اللَّه عز وجل لا يموت ولا يورث. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ولم يكن له شبيه ولا عدل «١»، وليس كمثله شيء».
وقال قتادة والضحاك ومقاتل: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: صف لنا ربك، فإن اللَّه أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو؟ ومن أي جنس هو؟ أذهب هو أم نحاس أم فضة؟ وهل يأكل ويشرب؟
وممن ورث الدنيا ومن يورثها؟ فأنزل اللَّه تبارك وتعالى هذه السورة
، وهي نسبة اللَّه خاصة «٢».
سورة التوحيد والتنزيه للَّه عز وجل
[سورة الإخلاص (١١٢) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)(٢) أسباب النزول للواحدي: ص ٢٦٢
قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ هُوَ: ضمير الشأن والحديث، مبتدأ، واللَّهُ: مبتدأ ثان، وأَحَدٌ: خبر المبتدأ الثاني، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول، ولا حاجة لعائد يعود على المبتدأ الأول لأن ضمير الشأن إذا وقع مبتدأ، لم يعد من الجملة التي وقعت خبرا عنه ضمير لأن الجملة بعده وقعت مفسرة له، بدليل أنه لا يجوز تقديمها عليه.
اللَّهُ الصَّمَدُ مبتدأ وخبر.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ لَمْ يَلِدْ: أصله (يولد) فحذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، كيعد، ويزن، والأصل: يوعد ويوزن، ولهذا لم تحذف في يُولَدْ لوقوعها بين ياء وفتحة. وأَحَدٌ: اسم يَكُنْ، وكُفُواً: خبرها. ولَهُ:
متعلق ب كُفُواً وقدم عليه للاهتمام به إذ فيه ضمير الباري تعالى، والتقدير: ولم يكن أحد كفوا له، أي مكافئه، فهو في معنى المفعول، متعلق ب كُفُواً. وأخّر أَحَدٌ رعاية للفاصلة.
البلاغة:
قُلْ: هُوَ ذكر الاسم الجليل بضمير الشأن للتعظيم والإجلال.
اللَّهُ الصَّمَدُ تعريف كل منهما لإفادة التخصيص.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ جناس ناقص، لتغير الشّكل وبعض الحروف.
قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يقتضي نفي الكفء والولد، وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ هو تخصيص بعد تعميم، زيادة في الإيضاح والبيان، وتقرير ما يسمى التجريد أو التفريد.
أَحَدٌ، الصَّمَدُ، لَمْ يُولَدْ، أَحَدٌ سجع مرصع.
المفردات اللغوية:
أَحَدٌ أي واحد في ذاته، لم يتركب من جواهر مادية ولا من أصول غير مادية، وهو أيضا وصف بالوحدانية ونفي الشركاء. الصَّمَدُ المقصود في جميع الحوائج على الدوام. لَمْ يَلِدْ لأنه لم يفتقر إلى ما يعينه، ولأنه لا مجانسة بينه وبين غيره فهذا نفي للشبه والمجانسة. وَلَمْ يُولَدْ لأنه قديم أولي غير محدث، انتفى الحدوث عنه، فهو وصف بالقدم والأولية. كُفُواً أي مكافئا ومماثلا. والكف والمكافئ: النظير والمثيل، والمراد أنه لم يكن أحد يكافئه، في يماثله من صاحبه وغيرها.
قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أي قل أيها الرسول لمن سألك عن صفة ربك ونسبته: هو اللَّه أحد، أي واحد في ذاته وصفاته، لا شريك له، ولا نظير ولا عديل. وهذا وصف بالوحدانية ونفي الشركاء. والمعنى: هو اللَّه الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحد بالألوهية، لا يشارك فيها. وهذا نفي لتعدد الذات.
اللَّهُ الصَّمَدُ أي الذي يصمد إليه في الحاجات، أي يقصد، فهو المقصود في جميع الحاجات لأنه القادر على تحقيقها، والمعنى: هو اللَّه الذي يقصد إليه كل مخلوق، لا يستغني عنه أحد، وهو الغني عنهم. وهذا إبطال لاعتقاد مشركي العرب وأمثالهم بوجود الوسائط والشفعاء.
قال ابن عباس في تفسير الصمد: يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، وهو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو اللَّه سبحانه، هذه صفته، لا تنبغي إلا له، ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان اللَّه الواحد القهار.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ أي لم يصدر عنه ولد، ولم يصدر هو عن شيء لأنه لا يجانسه شيء، ولأنه قديم غير محدث، لا أول لوجوده، وليس بجسم وهذا نفي للشبه والمجانسة، ووصف بالقدم والأولية، ونفي الحدوث.
وفي الجملة الأولى نفي لوجود الولد للَّه، ورد على المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات اللَّه، وعلى اليهود القائلين: عزير ابن اللَّه، وعلى النصارى الذين قالوا: المسيح ابن اللَّه، وفي الجملة الثانية نفي لوجود الوالد، وسبق العدم.
وللسورة نظائر في آيات أخرى، مثل قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام ٦/ ١٠١] أي هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف له من خلقه نظير؟، وقوله: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم ١٩/ ٩٢- ٩٥] وقوله: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢٦- ٢٧].
جاء في صحيح البخاري: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللَّه، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم».
وروى البخاري أيضا وعبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «قال اللَّه عز وجل: كذّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ اللَّه ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد».
فقه الحياة أو الأحكام:
١- تضمنت هذه السورة الموجزة إثباتا ونفيا في آن واحد.
فقد أبانت أن اللَّه تعالى واحد في ذاته وحقيقته، منزه عن جميع أنحاء التركيب، ونفت عنه كل أنواع الكثرة بقوله: اللَّهُ أَحَدٌ.
وقررت أن اللَّه أحد فرد، ليس له شيء من جنسه، ولم يلد أحدا، وليس له لاحق يماثله، ونفت عن نفسه المجانسة والمشابهة بقوله: لَمْ يَلِدْ.
وكذلك هو قديم أولي أزلي غير مسبوق بالعدم، فلا والد له، ولا سابق له، ونفت عنه الحدوث والأولية بقوله: وَلَمْ يُولَدْ.
وهو سبحانه أيضا لا مقارن له في الوجود، ولا شبيه له ولا نظير ولا صاحبة ولا نديد، ونفى عن ذاته العلية الأنداد والأشباه بقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
وكل إثبات تقرير لعقيدة الإسلام القائمة على التوحيد والتنزيه والتقديس، وكل نفي رد على أصحاب العقائد الباطلة كالثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين للعالم وهما النور والظلمة، والنصارى القائلين بالتثليث، والصابئة القائلين بعبادة الأفلاك والنجوم، واليهود الذين يقولون: عزير ابن اللَّه، والمشركين القائلين بأن الملائكة بنات اللَّه.
فقوله: أَحَدٌ يبطل مذهب الثنوية، وقوله: اللَّهُ الصَّمَدُ تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى اللَّه لأنه لو وجد خالق آخر، لما كان الحق مصمودا إليه في طلب جميع الحاجات، وقوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ يبطل مذهب اليهود في عزير، والنصارى في المسيح، والمشركين في أن الملائكة بنات اللَّه.
وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ يبطل مذهب المشركين حيث جعلوا الأصنام أكفاء للَّه وشركاء.
قُلْ ليدفع عن اللَّه، وفي سورة إنا أعطيناك لم يقل (قل) وإنما قال اللَّه ذلك مباشرة، حتى يدفع بنفسه عن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم «١».
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفلقمكيّة، وهي خمس آيات.
مكيتها أو مدنيتها:
هذه السورة وسورة الناس مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر وهو رأي الأكثرين، ومدنية في رواية عن ابن عباس وقتادة وجماعة، قيل: وهو الصحيح.
تسميتها:
سميت هذه السورة سورة الفلق، لافتتاحها بقوله تعالى: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ والْفَلَقِ الشق وفصل الشيء عن بعضه، وهو يشمل كل ما انفلق من حب ونوى ونبات عن الأرض، وعيون ماء عن الجبال، ومطر عن السحاب، وولد عن الأرحام، ومنه: فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام ٦/ ٩٦]، وفالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الأنعام ٦/ ٩٥].
مناسبتها لما قبلها:
لما أبان اللَّه تعالى أمر الألوهية في سورة الإخلاص لتنزيه اللَّه عما لا يليق به في ذاته وصفاته، أبان في هذه السورة وما بعدها وهما المعوذتان ما يستعاذ منه باللَّه من الشر الذي في العالم، ومراتب مخلوقاته الذين يصدون عن توحيد اللَّه، كالمشركين وسائر شياطين الإنس والجن، وقد ابتدأ في هذه السورة بالاستعاذة من
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت السورة الاستعاذة من شر المخلوقات، وبخاصة ظلمة الليل، والسواحر والنمامين، والحسدة، وهي درس بليغ وتعليم نافع عظيم لحماية الناس بعضهم من بعض بسبب أمراض النفوس، وحمايتهم من شر ذوات السموم، وشر الليل إذا أظلم، لما فيه من مخاوف ومفاجات، وبخاصة في البراري والكهوف.
فضل المعوذتين:
روى مسلم في صحيحة وأحمد والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط: قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ».
وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أقرأ بالمعوّذات في دبر كل صلاة».
وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عقبة بن عامر قال: «بينا أنا أقود برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نقب من تلك النقاب إذ قال لي: يا عقبة ألا تركب! قال:
فأشفقت أن تكون معصية، قال: فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وركبت هنية ثم ركب، ثم قال: يا عقب «١»، ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟ قلت:
بلى، يا رسول اللَّه، فأقرأني قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ
كيف رأيت يا عقب، اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت».
وروى النسائي عن أبي عبد اللَّه بن عابس الجهني: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال له:
«يا ابن عابس ألا أدلك- أو ألا أخبرك- بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؟ قال:
بلى يا رسول اللَّه، قال: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، هاتان السورتان».
وأورد ابن كثير أحاديث كثيرة في معناها ثم قال: فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه، تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث.
وفي حديث صديّ بن عجلان: «ألا أعلمك ثلاث سور، لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلهن: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ».
وروى البخاري وأهل السنن في الاستشفاء بهذه السور الثلاث (المعوذات) عن عائشة: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه، ثم نفث فيهما وقرأ فيهما: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
سبب نزول المعوذتين:
السبب: قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما
جاء في الصحيحين عن عائشة، فإنه سحره في جفّ (قشر الطلع) فيه مشاطة رأسه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأسنان مشطه، ووتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروز بالإبر، فأنزلت عليه المعوذتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد صلّى اللَّه عليه وسلّم في نفسه