تفسير سورة لقمان

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة لقمان
كلها مكية إلا ثلاث آيات نبينها إذا وصلنا إليها، والله أعلم.

قَوْله تَعَالَى: ﴿الم تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم﴾ أَي: الْمُحكم بالحلال وَالْحرَام وَذكر الْأَحْكَام، وَيُقَال: بالوعد والوعيد، وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب. وَقَالَ بَعضهم: الْحَكِيم الَّذِي يبين الْحِكْمَة، كالحكيم الَّذين ينْطق بالحكمة.
تلك آيات الكتاب الحكيم ) أي : المحكم بالحلال والحرام وذكر الأحكام، ويقال : بالوعد والوعيد، والثواب والعقاب. وقال بعضهم : الحكيم الذي يبين الحكمة، كالحكيم الذين ينطق بالحكمة.
وَقَوله: ﴿هدى وَرَحْمَة﴾ الْأَكْثَرُونَ قرءوا بِالنّصب، قَالَ الزّجاج: هُوَ نصب على الْحَال. وقرا حَمْزَة: " هدى وَرَحْمَة " أَي: هُوَ هدى وَرَحْمَة، وَمَعْنَاهُ: بَيَان من الضَّلَالَة، وَرَحْمَة من الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿للمحسنين﴾ أَي: للْمُسلمين، وَالْمُسلم محسن إِلَى نَفسه، وَقد صَحَّ الْخَبَر أَن النَّبِي سُئِلَ عَن الْإِحْسَان فَقَالَ: " أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ، فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك ". وَيُقَال: المحسن هُوَ الَّذِي يحب للنَّاس مَا يحب لنَفسِهِ.
وَقَوله: ﴿الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم بِالآخِرَة هم يوقنون﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ على هدى من رَبهم﴾ وَقَوله: ﴿وَأُولَئِكَ هم المفلحون﴾ أَي: السُّعَدَاء، وَيُقَال: الناجون، وَقيل: هم الَّذين أدركوا مَا أملوا، ونجوا مِمَّا عَنهُ هربوا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث﴾ ذكر الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل أَن الْآيَة
225
نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، وَكَانَ يَأْتِي الْحيرَة فيشتري أَحَادِيث الْعَجم، وَكَانَ النَّبِي إِذا قَرَأَ الْقُرْآن، قَامَ وَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِن مُحَمَّدًا يحدث عَن عَاد وَثَمُود، وَأَنا أحدثكُم عَن رستم واسفنديار والعجم، فَأَنا أحسن حَدِيثا مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهِ هَذِه الْآيَة.
وروى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ عَن لنَبِيّ أَنه قَالَ: " حرَام تَعْلِيم الْمُغَنِّيَات وبيعهن وشرائهن وَأَثْمَانُهُنَّ حرَام، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث﴾ وَقَالَ: مَا من رجل رفع عقيرته بِالْغنَاءِ إِلَّا وَيَأْتِي شيطانان، فيقعد أَحدهمَا على كتفه الْأَيْمن، وَالْآخر على كتفه الْأَيْسَر، ويضربان برجلهما على ظَهره وصدره حَتَّى يكون هُوَ يسكت ".
وَعَن عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَمُجاهد وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَأكْثر الْمُفَسّرين أَن الْآيَة نزلت فِي الْغناء، وَكَانَ عبد الله بن مَسْعُود يحلف على ذَلِك. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب. قَالَ إِبْرَاهِيم: وَكَانُوا يسدون أَفْوَاه السكَك ويخرقون الدفوف. وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: ﴿وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث﴾ هِيَ الشّرك بِاللَّه. وَعَن ابْن جريج: هُوَ الطبل. وَفِي الْأَخْبَار المسندة أَن النَّبِي قَالَ: " هُوَ المعازف والقيان ". وَعَن سهل بن عبد الله التسترِي قَالَ: لَهو الحَدِيث هُوَ الْجِدَال فِي الدّين، والخوض فِي الْبَاطِل.
وَقَوله: ﴿ليضل عَن سَبِيل الله﴾ أَي: دين الله، وَقُرِئَ " ليضل عَن سَبِيل الله ".
226
﴿سَبِيل الله بِغَيْر علم ويتخذها هزوا أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين (٦) وَإِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا ولى مستكبرا كَأَن لم يسْمعهَا كَأَن فِي أُذُنَيْهِ وقرا فبشره بِعَذَاب أَلِيم (٧) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم جنَّات النَّعيم (٨) خَالِدين فِيهَا وعد الله حَقًا وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (٩) خلق السَّمَوَات بِغَيْر عمد ترونها وَألقى فِي الأَرْض رواسي أَن﴾ بِفَتْح الْيَاء، فَقَوله: ﴿ليضل﴾ أَي: ليضل غَيره.
وَقَوله: ﴿ليضل﴾ أَي: ليصير إِلَى الضلال.
وَقَوله: ﴿بِغَيْر علم ويتخذها هزوا﴾ أَي: يتَّخذ آيَات الله هزوا، وَيُقَال: يتَّخذ سَبِيل الله هزوا، والسبيل يذكر وَيُؤَنث، قَالَ الشَّاعِر:
(تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد)
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا من قبل.
227
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا ولى مستكبرا كَأَن لم يسْمعهَا﴾ أَي: كَأَن لم يسمع الْآيَات.
وَقَوله: ﴿كَأَن فِي أُذُنَيْهِ وقرا﴾ أَي: صمما، وَإِنَّمَا جعله كَذَلِك؛ لِأَنَّهُ لم ينْتَفع بِمَا يسمع، فَصَارَ بِمَنْزِلَة الْأَصَم، والوقر هُوَ الثّقل فِي الْأذن.
وَقَوله: ﴿فبشرناه بِعَذَاب أَلِيم﴾ أَي: مؤلم، وَمعنى المؤلم: هُوَ الموجع.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا لصالحات لَهُم جنَّات النَّعيم خَالِدين فِيهَا وعد الله حَقًا﴾ وَمَعْنَاهُ: مقيمين فِي الْجنَّة كَمَا وعد الله.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ والعزيز هُوَ المنتقم من أعدائه، والحكيم هُوَ الْمُصِيب فِي تَدْبِير خلقه.
قوله تعالى :( إن الذين آمنوا وعملوا لصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا ) ومعناه : مقيمين في الجنة كما وعد الله.
وقوله :( وهو العزيز الحكيم ) والعزيز هو المنتقم من أعدائه، والحكيم هو المصيب في تدبير خلقه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿خلق السَّمَوَات بِغَيْر عمد﴾ أَي: بِغَيْر عمد كَمَا، ترونها، والمعنمى الثَّانِي: أَي بِغَيْر عمد تَرَوْنَهُ، وَثمّ عمد لَا ترونها، وَذَلِكَ الْعمد هُوَ قدرَة الله تَعَالَى، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِن الله يمسك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا﴾.
وَقَوله: ﴿وَألقى فِي الأَرْض رواسي﴾ أَي: جبالا ثوابت، وَذكر السّديّ أَن الله
227
﴿تميد بكم وَبث فِيهَا من كل دَابَّة وأنزلنا من السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا من كل زوج كريم (١٠) هَذَا خلق الله فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه بل الظَّالِمُونَ فِي ضلال مُبين﴾ تَعَالَى خلق الأَرْض فَجعلت تميل؛ فَقَالَت الْمَلَائِكَة: يَا رَبنَا، هَذِه الأَرْض لَا يسْتَقرّ على ظهرهَا أحد، فَأَصْبحُوا وَقد أرسى الله تَعَالَى بالجبال. فَقَالُوا: يَا رَبنَا، هَل خلقت شَيْئا أَشد من الْجبَال؟ قَالَ: نعم؛ الْحَدِيد. قَالُوا: يَا رَبنَا، وَهل خلقت شَيْئا أَشد من الْحَدِيد؟ قَالَ: نعم؛ النَّار. قَالُوا: وَهل خلقت شَيْئا أَشد من النَّار؟ قَالَ: نعم؛ المَاء. قَالُوا: وَهل خلقت شَيْئا أَشد من المَاء؟ قَالَ: نعم؛ الرّيح. قَالُوا: وَهل خلقت شَيْئا أَشد من الرّيح؟ قَالَ: نعم؛ الْآدَمِيّ. وَقد أسْند هَذَا بَعضهم إِلَى رَسُول الله، وَفِي آخر الْخَبَر: " الْآدَمِيّ يتَصَدَّق فيخفي صدقته حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تَصَدَّقت يَمِينه، فَهُوَ أقوى من الْجَمِيع ".
وَقَوله: ﴿أَن تميد بكم﴾ أَي: لِئَلَّا تميد بكم، وَيُقَال: كَرَاهَة أَن تميد بكم، والميد: هُوَ الْميل.
وَقَوله: ﴿وَبث فِيهَا من كل دَابَّة﴾ أَي: فرق فِيهَا من كل دَابَّة، وَالدَّابَّة كل حَيَوَان يدب على الأَرْض.
وَقَوله: ﴿وأنزلنا من السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا من كل زوج كريم﴾ أَي: صنف حسن.
228
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا خلق الله فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه﴾ أَي: الَّذين يعْبدُونَ من دونه، وهم الْأَصْنَام، وَقد رُوِيَ عَن بعض السّلف قَالَ: مَا رَأَيْت شَيْئا إِلَّا وَرَأَيْت الله فِيهِ. وَذكر بَعضهم هَذَا عَن عَامر بن عبد قيس وَهُوَ عَامر بن عبد الله، وَهُوَ تلو أويس الْقَرنِي فِي زهاد التَّابِعين رَضِي الله عَنْهُم ورءوس الزهاد من التَّابِعين
228
( ﴿١١) وَلَقَد آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة أَن اشكر لله وَمن يشْكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ وَمن كفر﴾ ثَمَانِيَة نفر: أَوَّلهمْ أويس، ثمَّ عَامر بن عبد قيس، ثمَّ هرم بن حَيَّان، ثمَّ أَبُو مُسلم الْخَولَانِيّ، ثمَّ الْأسود، ثمَّ مَسْرُوق بن الأجدع، ثمَّ الرّبيع بن خثيم، ثمَّ الْحسن.
وَقَوله: ﴿بل لظالمون فِي ضلال مُبين﴾ أَي: فِي خطأ بَين.
229
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة﴾ اخْتلفُوا فِي لُقْمَان. هَل كَانَ نَبيا أَو لم يكن نَبيا؟ فَذهب أَكثر أهل الْعلم أَنه لم يكن نَبيا.
وَقَالَ الشّعبِيّ وَعِكْرِمَة: إِنَّه كَانَ نَبيا. وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى خَيره بَين النُّبُوَّة وَالْحكمَة، فَاخْتَارَ الْحِكْمَة؛ نَام نومَة فذريت الْحِكْمَة على لِسَانه، فانتبه ينْطق بالحكمة. وَذكر بَعضهم أَنه سُئِلَ: لم اخْتَرْت الْحِكْمَة على النُّبُوَّة؟ فَقَالَ: خشيت أَن أَضْعَف عَنْهَا، وَلَو كَانَ الله أعطانيها ابْتِدَاء وَلم يُخْبِرنِي أعانني عَلَيْهَا، فَلَمَّا خيرني خشيت الضعْف.
وَعَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: كَانَ لُقْمَان عبدا أسود من سودان مصر. وَعَن غَيره قَالَ: كَانَ عبدا حَبَشِيًّا غليظ الشفتين متشقق الْقَدَمَيْنِ، وَحكي أَن عبدا أسود سَأَلَ سعيد بن الْمسيب عَن مَسْأَلَة فَأجَاب، ثمَّ قَالَ لَهُ: لَا يحزنك سوادك، فقد كَانَ قبلك ثَلَاثَة من السودَان هم من خير النَّاس، ثمَّ ذكر لُقْمَان الْحَكِيم، وبلالا مُؤذن رَسُول الله، وَمهجع مولى عمر بن الْخطاب، وَهُوَ أول شَهِيد فِي الْإِسْلَام، اسْتشْهد يَوْم بدر.
وَاخْتلفُوا فِي صناعَة لُقْمَان؛ فَقَالَ بَعضهم: كَانَ خياطا. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ نجارا. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ راعي غنم. فَروِيَ أَن بَعضهم لقِيه وَهُوَ يتَكَلَّم بالحكمة فَقَالَ: أَلَسْت فلَانا الرَّاعِي! فَبِمَ بلغت مَا بلغت؟ فَقَالَ: بِصدق الحَدِيث، وَأَدَاء الْأَمَانَة، وتركي مَا لَا يعنيني.
وَمن (حكمه) المنقولة: أَن مَوْلَاهُ دفع إِلَيْهِ شَاة وَقَالَ: اذْبَحْهَا وائتني بأطيب مضغتين مِنْهَا، فَجَاءَهُ بلسانها وقلبها، فَسَأَلَهُ مَوْلَاهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: لَا شَيْء أطيب
229
﴿فَإِن الله غَنِي حميد (١٢) وَإِذا قا لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم (١٣) وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حَملته أمه وَهنا على وَهن وفصاله فِي عَاميْنِ أَن اشكر لي ولوالديك إِلَيّ الْمصير (١٤) وَإِن جَاهَدَاك على أَن تشرك بِي مَا﴾ مِنْهُمَا إِذا طابا، وَلَا أَخبث مِنْهُمَا إِذا خبثا. وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: تكلم لُقْمَان بِاثْنَيْ عشر ألف بَاب من الْحِكْمَة، أدخلها النَّاس فِي كَلَامهم ووصاياهم.
وَمعنى الْحِكْمَة الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْآيَة هُوَ الْفِقْه والإصابة فِي القَوْل. وَيُقَال: الْعقل الْكَامِل.
وَقَوله: ﴿أَن اشكر لله﴾ أَي: على نعمه.
وَقَوله: ﴿وَمن شكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ﴾ أَي: مَنْفَعَة الشُّكْر تعود إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وَمن كفر فَإِن الله غَنِي حميد﴾ أَي: غَنِي عَن خلقه، مَحْمُود فِي فعله.
230
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه﴾ يُقَال: كَانَ اسْم ابْنه مشْكم، وَيُقَال: أنعم، وَقيل: غَيره.
وَقَوله: ﴿يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم﴾ أَي: لَا تعدل بِاللَّه أحدا فِي الربوبية.
وَقَوله: ﴿إِن الشّرك لظلم عَظِيم﴾ الظُّلم هُوَ وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، من أشرك مَعَ الله غَيره فقد وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حَملته أمه وَهنا على وَهن﴾ أَي: ضعفا على ضعف، وَيُقَال: مشقة على مشقة. قَالَ الزّجاج: الْمَرْأَة اذا حملت توالى عَلَيْهَا الضعْف وَالْمَشَقَّة. وَيُقَال: الْحمل ضعف، والطلق ضعف، والوضع ضعف.
وَقَوله: ﴿وفصاله فِي عَاميْنِ﴾ أَي: فطامه فِي عَاميْنِ، والحولان نِهَايَة مُدَّة الْفِطَام.
وَقَوله: ﴿أَن اشكر لي ولوالديك﴾ قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: من صلى الصَّلَوَات الْخمس فِي مواقيتها فقد شكر الله تَعَالَى، وَمن اسْتغْفر لِأَبَوَيْهِ فِي كل صَلَاة فقد شكر
230
﴿لَيْسَ لَك بِهِ علم فَلَا تطعهما وصاحبهما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ ثمَّ إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (١٥) يَا بني إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل﴾ أَبَوَيْهِ.
وَقَوله: ﴿إِلَى الْمصير﴾ أَي: إِلَى الْمرجع.
231
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن جَاهَدَاك على أَن تشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم﴾ قد بَينا معنى هَذِه الْآيَة، وَذكرنَا أَنَّهَا نزلت فِي سعد بن أبي وَقاص، وَقَالَ بَعضهم: الْآيَة عَامَّة فِي الْجَمِيع.
وَقَوله: ﴿فَلَا تطعهما﴾ أَي: فَلَا تطعهما فِي الشّرك ومعصيتي.
وَقَوله: ﴿وصاحبهما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا﴾ أَي: صَاحبهَا فِي الدُّنْيَا بِالْبرِّ والصلة، وَهُوَ الْمَعْرُوف من غير أَن تطيعهما فِي معصيتي.
وَقَوله: ﴿وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ﴾ الْأَكْثَرُونَ أَنه مُحَمَّد.
وَقَوله: ﴿ثمَّ إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَرُوِيَ [عَن] عَطاء عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: ﴿وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ﴾ أَن المُرَاد مِنْهُ أَبُو بكرالصديق رَضِي الله عَنهُ قَالَ ابْن عَبَّاس: لما أسلم أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ جَاءَ عُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُم فَقَالُوا: يَا أَبَا بكر، قد صدقت هَذَا لرجل، وَآمَنت بِهِ؟ قَالَ: نعم، هُوَ صَادِق فآمنوا بِهِ، [و] حملهمْ إِلَى النَّبِي حَتَّى أَسْلمُوا، فَهَؤُلَاءِ الْقَوْم لَهُم سَابِقَة الْإِسْلَام، وَأَسْلمُوا بإرشاد أبي بكر رَضِي الله عَنْهُم وَأنزل الله تَعَالَى فِي أبي بكر، ﴿وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ﴾.
وَقَوله: ﴿أناب﴾ أَي: رَجَعَ إِلَيّ، وعَلى هَذَا القَوْل هُوَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا بني إِنَّهَا إِن تَكُ﴾ فَإِن قيل: قَوْله: ﴿إِنَّهَا﴾ هَذِه كِنَايَة، وَالْكِنَايَة لَا بُد لَهَا من مكنى، فأيش المكنى؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه رُوِيَ أَن ابْن لُقْمَان قَالَ: يَا
231
﴿فتكن فِي صَخْرَة أَو فِي السَّمَوَات أَو فِي الأَرْض يَأْتِ بهَا الله إِن الله لطيف خَبِير (١٦) يَا بني أقِم الصَّلَاة وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر واصبر على مَا أَصَابَك إِن ذَلِك من﴾ (أبه)، أَرَأَيْت لَو وَقع شَيْء فِي مقل الْبَحْر ومقل الْبَحْر مغاصيه أَي: وَسطه أيعلم الله تَعَالَى مَوْضِعه؟ فَقَالَ: يَا بني، إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل، يَعْنِي: إِن وَقعت حَبَّة على هَذَا الْوَزْن على [هَذَا] الْبَحْر فَالله تَعَالَى يعلم موضعهَا. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن لُقْمَان ألْقى خردلة فِي عرض نهر اليرموك، وَقعد على شطه وَبسط يَده، فغاصت ذُبَابَة وحملت الخردلة فَوَضَعتهَا على كَفه. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن قَوْله تَعَالَى: (إِنَّهَا إِن تَكُ) يرجع إِلَى الْخَطِيئَة، يَعْنِي: إِن تكن الْخَطِيئَة كمثقال حَبَّة من خَرْدَل يَأْتِ بهَا الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة أَي: يجازك بهَا. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: معنى الْآيَة: هُوَ الْإِحَاطَة بالأشياء صغيرها وكبيرها.
وَقَوله: ﴿فتكن فِي صَخْرَة﴾ أَي: فِي جبل، وَقَالَ السّديّ: هِيَ الصَّخْرَة الَّتِي عَلَيْهَا الأرضون السَّبع، وَهِي صَخْرَة خضراء، خضرَة السَّمَاء مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿أَو فِي السَّمَوَات أَو فِي الأَرْض يَأْتِ بهَا الله﴾.
وَقَوله: ﴿إِن الله لطيف خَبِير﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: لطيف باستخراج الخردلة، خَبِير بمكانها، وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذِه الْحِكْمَة آخر حِكْمَة تكلم بهَا لُقْمَان، فَلَمَّا تكلم بهَا انشقت مرارته من هيبتها فتوفى.
232
قَوْله: ﴿يَا بني أقِم الصَّلَاة وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر﴾ قد بَينا معنى الْمَعْرُوف وَمعنى الْمُنكر من قبل.
وَقَوله: ﴿واصبر على مَا أَصَابَك﴾ أَي: من الْأَذَى.
وَقَوله: ﴿إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور﴾ أَي: من الْأُمُور الَّتِي يُؤمر بهَا ويعزم عَلَيْهَا، وَقد روى حُذَيْفَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَيْسَ لِلْمُؤمنِ أَن يذل نَفسه، فَقيل: وَكَيف يذل
232
﴿عزم الْأُمُور (١٧) وَلَا تصعر خدك للنَّاس وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا إِن الله لَا يحب﴾ نَفسه؟ قَالَ: يتَحَمَّل من الْبلَاء مَا لَا يُطيق ". وَفِي هَذَا الْخَبَر رخصَة فِي ترك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ على السلاطين والظلمة إِذا خشِي الْهَلَاك، وَإِن أَمر بِالْمَعْرُوفِ فَقتل فَهُوَ شَهِيد.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أفضل الْجِهَاد كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر ".
وَرُوِيَ عَن الني أَنه قَالَ: " سيد الشُّهَدَاء يَوْم الْقِيَامَة حَمْزَة بن عبد الْمطلب، ثمَّ رجل قَامَ إِلَى سُلْطَان يخَاف مِنْهُ ويرجو، فَأمره بِمَعْرُوف أَو نَهَاهُ عَن مُنكر، فَقتله على ذَلِك ".
233
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تصعر خدك للنَّاس﴾ أيك لَا تعرض عَنْهُم تكبرا. والصعر هُوَ الْميل. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " يَأْتِي عل النَّاس زمَان لَا يبْقى إِلَّا من هُوَ أصعر ". يَعْنِي: مَا يَدعِي الدّين ". وَيُقَال: إِن قَوْله: ﴿وَلَا تصعر خدك للنَّاس﴾ نهى عَن التشدق فِي الْكَلَام، وَعَن الرّبيع بن أنس قَالَ: ليكن الْغَنِيّ وَالْفَقِير عنْدك سَوَاء.
وَقَوله: ﴿وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا﴾ أَي: لَا تمشي فِي الأَرْض مختالا.
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يحب كل مختال فخور﴾ أَي: مختال على الأَرْض، فخور
233
﴿كل مختال فخور (١٨) واقصد فِي مشيك واغضض من صَوْتك إِن أنكر الْأَصْوَات﴾ بالدنيا.
234
قَوْله تَعَالَى: ﴿واقصد فِي مشيك﴾ يَعْنِي: أسْرع فِي مشيك، وَيُقَال مَعْنَاهُ: واقصد فِي مشيك أَي: لَا تسرع فِي مشيتك، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " سرعَة الْمَشْي تذْهب بهَا الْوَجْه ".
وَقَوله: ﴿واغضض من صَوْتك﴾ أَي: لَا تجْهر، وَمعنى اغضض أَي: انقص. يُقَال: غض فلَان من فلَان أَي: نقص من حَقه.
وَقَوله: ﴿إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير﴾ أَي: أقبح الْأَصْوَات لصوت الْحمير. يُقَال: جَاءَنِي فلَان بِوَجْه مُنكر أَي: قَبِيح، فَإِن قَالَ قَائِل: لم جعل صَوت الْحمار أقبح الْأَصْوَات؟ وَالْجَوَاب عَنهُ إِنَّمَا جعله أقبح الْأَصْوَات، لِأَن أَوله زفير، وَآخره شهيق، والزفير والشهيق: صَوت أهل النَّار. وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ قَالَ: كل شَيْء يسبح إِلَّا الْحمار؛ فَلهَذَا جعل صَوته أقبح الْأَصْوَات.
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يتنافسون فِي شدَّة الصَّوْت، وَكَانُوا يَقُولُونَ: من كَانَ أَجْهَر صَوتا فَهُوَ أعز عِنْد الله. وَكَانُوا يجهرون بأصواتهم ويرفعونها بغاية الْإِمْكَان، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَيست الْعِزَّة فِي شدَّة الصَّوْت، وَلَو كَانَ من هُوَ أَشد أعز، لَكَانَ الْحمار أعز من الْكل. وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الصَّادِق أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير﴾ : هِيَ العطسة القبيحة الْمُنكرَة.
234
﴿لصوت الْحمير (١٩) ألم تروا أَن الله سخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض﴾
وَمن حكم لُقْمَان سوى مَا ذكرنَا مَا رُوِيَ أَنه قَالَ: لَا مَال كصحة الْبدن، وَلَا نعيم كطيب النَّفس. وَمن حكمه أَيْضا أَنه قَالَ: أدب الْوَالِد لوَلَده كالسماد للزَّرْع.
وَحكى عِكْرِمَة أَن لُقْمَان دخل على دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ يصنع درعا، فَلم يدر مَا يصنع؛ فَأَرَادَ أَن يسْأَله، وَكَانَ (حكمه) تَمنعهُ مِنْهُ، فَلَمَّا أتم دَاوُد الدرْع لبسهَا، وَقَالَ: نعم جُبَّة الْحَرْب هِيَ. فَقَالَ لُقْمَان: الصمت حكم وَقَلِيل فَاعله.
وَحكى أَيْضا عِكْرِمَة أَن مَوْلَاهُ خاطر قوما على شرب مَاء الْبَحْر فِي حَال سكره، فَدَعَا لُقْمَان وَقَالَ: لمثل هَذَا الْيَوْم كنت أعدك، وَذكر لَهُ الْقِصَّة. فَقَالَ: اجْمَعْ الْقَوْم الَّذين خاطرتهم؛ فَجَمعهُمْ، فَقَالَ لَهُم: احْبِسُوا مواد الْبَحْر حَتَّى يشرب مَاء الْبَحْر. فَقَالُوا: كَيفَ نحبس مواد الْبَحْر؟ فَقَالَ: كَيفَ يشرب مَاء الْبَحْر ومواده غير مُنْقَطِعَة؟ فخلص مَوْلَاهُ.
وَحكى أَيْضا عِكْرِمَة أَنه كَانَ لمولى لُقْمَان عبيد سواهُ، وَلم يكن فيهم أخس مِنْهُ عِنْده، فبعثهم إِلَى بُسْتَان لَهُ ليحملوا لَهُ فَاكِهَة، فَذَهَبُوا وأكلوا الْفَاكِهَة؛ فَلَمَّا رجعُوا أحالوا على لُقْمَان أَنه هُوَ الَّذِي أكل، وَصدقهمْ مَوْلَاهُ لخسة لُقْمَان عِنْده، وَأَرَادَ أَن يُؤْذِيه، فَقَالَ لُقْمَان لمَوْلَاهُ: إِن ذَا اللسانين وَذَا الْوَجْهَيْنِ لَا يكون وجيها عِنْد الله، فاسقني مَاء حميما، واسق هَؤُلَاءِ العبيد مَاء حميما؛ فسقاهم، فقاء سَائِر العبيد مَا أكلُوا من الْفَاكِهَة، وقاء هُوَ مَاء بحتا، فَعرف صدقه وكذبهم.
235
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تروا أَن الله سخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض﴾ أَي: ذلل.
وَقَوله: ﴿وأسبغ عَلَيْهِم نعْمَة﴾ أَي: أتم عَلَيْكُم وأكمل نعمه ظَاهِرَة وباطنة، قَالَ ابْن عَبَّاس: النِّعْمَة الظَّاهِرَة هِيَ الْإِسْلَام وَحسن الْخلق، وَالنعْمَة الْبَاطِنَة هِيَ مَا يستر من الْعُيُوب. وَقَالَ بَعضهم: النِّعْمَة الظَّاهِرَة هِيَ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، والباطنة هِيَ الِاعْتِقَاد
﴿وأسبع عَلَيْكُم نعمه ظَاهِرَة وباطنة وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب منيروإذا قيل لَهُم إتبعوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم إِلَى عَذَاب السعير وَمن يسلم وَجهه إِلَى اللهوهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور وَمن كفر فَلَا﴾ بِالْقَلْبِ. وَيُقَال النِّعْمَة الظَّاهِرَة: نعْمَة الدُّنْيَا، والباطنة: نعْمَة العقبى. وَقيل النِّعْمَة الظَّاهِرَة: نعْمَة الْأَبدَان، والباطنة: نعْمَة الْأَدْيَان. وَيُقَال: النِّعْمَة الظَّاهِرَة: تَمام الرزق، وَالنعْمَة الْبَاطِنَة: حسن الْخلق، وَيُقَال النِّعْمَة الظَّاهِرَة: الزى والرياش الْحسن. وَالنعْمَة الْبَاطِنَة: مَا أخْفى من الْمعْصِيَة وسترها. وَقَالَ بَعضهم: النِّعْمَة الظَّاهِرَة: الْوَلَد، والباطنة: الْوَطْء.
وَقَوله: ﴿وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير﴾ نزلت هَذِه الْآيَة فِي أُميَّة بن خلف وَأبي بن خلف وَأبي جهل بن هِشَام وَالنضْر بن الْحَارِث وأشباههم؛ كَانُوا يجادلون النَّبِي بِالْبَاطِلِ فِي الله وَفِي صِفَاته.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿أَو لَو كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم﴾ هَذَا جَوَاب عَن مَحْذُوف، والمحذوف: أيتبعون الشَّيْطَان، وَإِن كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم إِلَى عَذَاب السعير.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمن يسلم وَجهه إِلَى الله﴾ أى: وَمن يخلص دينه لله، وَقيل: يسلم نَفسه وَعَمله إِلَى الله. وَقَرَأَ أَبُو عبد الحمن السلمى: ((يسلم)) بِالتَّشْدِيدِ، وَقَوله: ﴿يسلم﴾ من التَّسْلِيم، وَقَوله: ((يسلم)) من الإنقياد.
وَقَوله: ﴿ [وَهُوَ محسن] فقد استمسك بالعروة الوثقى﴾ : قَول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقيل العروة الوثقى: السَّبَب الَّذِي يُوصل إِلَى رضَا الله تَعَالَى. والوثقى تَأْنِيث الأوثق. والعهد الوثيق، هوالعهد الْمُحكم الشَّديد، والأوثق الأشد.
وَقَوله: ﴿وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور﴾ أى: خَاتِمَة الْأُمُور.
﴿يحزنك كفره إِلَيْنَا مرجعهم فننبئهم بِمَا عمِلُوا إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور نمتعهم قَلِيلا ثمَّ نطرهم إِلَى عَذَاب غليظ وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله قل الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد وَلَو أَنما فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام وَالْبَحْر يمده من بعد سَبْعَة أبحر مَا نفدت كلما ت الله إِن الله عَزِيز حَكِيم مَا خَلقكُم﴾
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن كفر فَلَا يحزنك كفره﴾ أى: لَا تحزن بِكُفْرِهِ.
وَقَوله: ﴿إِلَيْنَا مرجعهم﴾ أى: مصيرهم.
وَقَوله: ﴿فننبئهم بِمَا عمِلُوا﴾ أى: نخبرهم بِمَا عمِلُوا.
وَقَوله: ﴿إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور﴾ أى: عَالم بِمَا فِي الصُّدُور.
قَوْله تَعَالَى: ﴿نمتعهم قَلِيلا﴾ الإمتاع هُوَ التَّمَتُّع بِمَا فِي الدُّنْيَا من نعيمها.
وَقَوله: ﴿ثمَّ نضطرهم إِلَى عَذَاب غليظ﴾ أى: نلجئهم إِلَى عَذَاب غليظ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله قل الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِن الله هُوَ الْغنى الحميد﴾ أى: الْغنى عَن خلقه، الْمَحْمُود فِي فعله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام﴾ روى أَن الْمُشْركين قَالُوا: إِن مَا أَتَى بِهِ مُحَمَّد من الْكَلَام يَنْقَطِع ويفنى، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، بِمَعْنى: أَن جَمِيع أَشجَار الْعَالم ونباتها لَو بريت أقلاما، وَصَارَت البحور مدادا مَا نفدت كَلِمَات الله أى: كَلَام الله وَعلمه.
وَقَوله: ﴿إِن الله عَزِيز حَكِيم﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا خَلقكُم وَلَا بعثكم إِلَّا كَنَفس وَاحِدَة﴾ مَعْنَاهُ: مَا خَلقكُم إِلَّا
235
﴿وَلَا بعثكم إِلَّا كَنَفس وَاحِدَة إِن الله سميع بَصِير (٢٨) ألم تَرَ أَن الله يولج اللَّيْل فِي النَّهَار ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر كل يجْرِي إِلَى أجل مُسَمّى وَأَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (٢٩) ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق وَأَن مَا يدعونَ من دونه الْبَاطِل وَأَن الله هُوَ الْعلي الْكَبِير (٣٠) ألم تَرَ أَن الْفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بنعمت الله ليريكم من آيَاته إِن﴾ كخلق نفس وَاحِدَة، وَلَا بعثكم إِلَّا كبعث نفس وَاحِدَة، يَعْنِي: فِي قدرته.
وَقَوله: ﴿إِن الله سميع بَصِير﴾ سميع لأقوال الْعباد، بَصِير بأفعالهم. وَالْآيَة الَّتِي تلِي هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا قد بَينا مَعْنَاهَا، وَأما الْآيَات الثَّلَاث الَّتِي نزلت بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ من قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام﴾ إِلَى آخر الْآيَات الثَّلَاث.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ أَن الْفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بِنِعْمَة الله﴾ أَي: بإنعام الله.
236
والآية التي تلي هذه الآية إلى آخرها قد بينا معناها،
والآية التي تلي هذه الآية إلى آخرها قد بينا معناها،
وَقَوله: ﴿ليريكم من آيَاته﴾ أَي: من عجائب صنعه وَقدرته.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور﴾ رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الصَّبْر نصف الْإِيمَان، وَالشُّكْر نصف الْإِيمَان، وَالْيَقِين هُوَ الْإِيمَان كُله ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أحب الْعباد إِلَى الله من يصبر عِنْد الْبلَاء، ويشكر عِنْد النعماء، ويرضى بِالْقضَاءِ.
236
﴿فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور (٣١) وَإِذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر فَمنهمْ مقتصد وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا كل ختار كفور (٣٢) يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم واخشوا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِد عَن وَلَده وَلَا مَوْلُود هُوَ جَازَ عَن﴾
239
قَوْله: ﴿وَإِذا غشيهم موج كالظلل﴾ الظلل: جمع الظلة، والظلة: هِيَ الْجَبَل.
وَقَوله: ﴿دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين﴾ أَي: أَخْلصُوا فِي الدُّعَاء، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي عِكْرِمَة بن أبي جهل حِين هرب من مَكَّة يَوْم فتحهَا رَسُول الله، وَكَانَ رَسُول الله أَمن جَمِيع النَّاس إِلَّا نَفرا مِنْهُم عِكْرِمَة بن أبي جهل، فهرب عِكْرِمَة إِلَى الْبَحْر، فَجَاءَهُمْ ريح عاصف، فَقَالَ صَاحب السَّفِينَة: أَخْلصُوا، فَإِنَّهُ لَا ينجيكم إِلَّا الْإِخْلَاص. وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُم: لَا تدعوا آلِهَتكُم؛ فَإِن آلِهَتكُم لَا تغني عَنْكُم شَيْئا، وَادعوا الله وَحده.
فَقَالَ عِكْرِمَة: إِنَّمَا هربت من هَذَا، وَلَئِن نجاني الله من هَذَا لأرجعن إِلَى مُحَمَّد، ولأضعن يَدي فِي يَده. ثمَّ سكن الرّيح، وَخرج عِكْرِمَة وَرجع إِلَى مَكَّة، وَأسلم وَحسن إِسْلَامه، وَاسْتشْهدَ يَوْم اليرموك بِالشَّام.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر فَمنهمْ مقتصد﴾ أَي: عدل فِي فعله على معنى الْوَفَاء بِمَا وعده، وَمِنْهُم من قَالَ: مقتصد أَي: مقتصد فِي القَوْل لَا يسرف، وَمِنْهُم من يسرف.
وَقَوله: ﴿وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا كل ختار كفور﴾ الختر: هُوَ أَشد الْغدر.
قَالَ الشَّاعِر:
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم واخشوا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِد عَن وَلَده﴾ أَي:
239
﴿وَالِده شَيْئا إِن وعد الله حق فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور (٣٣) إِن الله عِنْده علم السَّاعَة وَينزل الْغَيْث وَيعلم مَا فِي لأرحام وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا وَمَا تَدْرِي نفس بِأَيّ أَرض تَمُوت إِن الله عليم خَبِير (٣٤) ﴾ لَا يُغني وَالِد عَن وَلَده، قَالَ ابْن عَبَّاس: كل امرء تهمه نَفسه.
وَقَوله: ﴿وَلَا مَوْلُود هُوَ جَازَ عَن وَالِده شَيْئا﴾ أَي: مُغنِي عَن وَالِده شَيْئا.
وَقَوله: ﴿إِن وعد الله حق فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور﴾ يَعْنِي: الشَّيْطَان، وتغريره للْإنْسَان هُوَ تزيينه للمعاصي وتمنيه الْمَغْفِرَة من الله، وَعبر عَنهُ بتزيينه لَهُ الْمعاصِي وتمنيه الْمَغْفِرَة. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " الْكيس من دَان نَفسه، وَعمل لما بعد الْمَوْت (أَي حاسب نَفسه) والفاجر من أتبع نَفسه هَواهَا، وَتمنى على الله (الْمَغْفِرَة) ".
240
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله عِنْده علم السَّاعَة وَينزل الْغَيْث﴾ الْآيَة. فِي التَّفْسِير: أَن رجلا من بني محَارب بن خصفة أَتَى النَّبِي وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِن أَرْضنَا أجدبت، فَمَتَى ينزل الْغَيْث؟ وَإِنِّي تركت امْرَأَتي حُبْلَى، فَمَاذَا تَلد؟ وَقد علمت مَا أعمل الْيَوْم، فَمَاذَا أعمل غَدا؟ وَأَخْبرنِي أَنى بِأَيّ أَرض أَمُوت؟ وَأَخْبرنِي مَتى السَّاعَة؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا.
وَقد روينَا بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " مَفَاتِيح الْغَيْب خَمْسَة، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا ". وَهُوَ خبر مَشْهُور.
وَقَوله: ﴿ [وَيعلم مَا فِي الْأَرْحَام وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا] وَمَا تَدْرِي نفس بِأَيّ أَرض تَمُوت﴾ يُقَال مَعْنَاهُ: على أَي قدم تَمُوت. فَإِنَّهُ مَا من قدم يرفعها ويضعها إِلَّا وَيجوز أَن تَمُوت قبل ذَلِك ﴿بِأَيّ أَرض تَمُوت﴾ أَي: على أَي صفة تَمُوت من الشقاوة والسعادة.
وَقَوله: ﴿إِن الله عليم خَبِير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
240

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿الم (١) تَنْزِيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من رب الْعَالمين (٢) أم يَقُولُونَ افتراه بل هُوَ﴾
تَفْسِير سُورَة السَّجْدَة
وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا ثَلَاث آيَات نزلت فِي عَليّ رَضِي الله عَنهُ سنذكرها.
وَقد روى جَابر أَن النَّبِي كَانَ لَا ينَام كل لَيْلَة حَتَّى يقْرَأ. " الم تَنْزِيل " السَّجْدَة، و " تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك ".
وَقد ثَبت أَن النَّبِي كَانَ يقْرَأ فِي صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْجُمُعَة سُورَة السَّجْدَة، وَسورَة " هَل أَتَى ".
241
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
(فَإنَّك لَو رَأَيْت أَبَا عُمَيْر مَلَأت يَديك من ختر وغد)