تفسير سورة لقمان

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
مكية وقيل :﴿ إلا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ﴾ فإن وجوبهما بالمدينة وهو ضعيف لأنه ينافي شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثاً من قوله :﴿ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ﴾ وهى أربع وثلاثون آية

﴿الم تلك آيات الكتاب﴾ سلفَ بيانُه في نظائرِه ﴿الحكيم﴾ أي ذي الحكمةِ لاشتماله عليها أو هو وصفٌ له بنعته تعالى أو أصلُه الحكيمُ منزله او قائلُه فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مقامه فانقلب مرفُوعاً فاستكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ وقيل الحكيمُ فعيلٌ بمعنى مُفْعَلٍ كما قالُوا أعقدتُ اللَّبنَ فهو عَقِيدٌ أي مُعْقَدٌ وهو قليلٌ وقيلَ بمعنى فاعلٍ
﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾ بالنَّصبِ على الحاليَّةِ من الآياتٍ والعاملُ فيهما معنى الإشارةِ وقُرئا بالرفع على أنهما خبران آخرانِ لاسمِ الإشارة أو لمبتدأ محذوف ﴿لّلْمُحْسِنِينَ﴾ أي العاملين للحسنات فإن أريد بها مشاهيرُها المعهودةُ في الدِّينِ فقولُه تعالى
﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وهم بالأخرة هم يوقنون﴾ بيانٌ لما عملوها من الحسناتِ على طريقةِ قولِه الأَلْمعيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظن كأن قدر رَأَى وقَدْ سَمِعا وإنْ أُريد بها جميعُ الحسناتِ فهو تخصيصٌ لهذه الثلاثِ بالذكر من بين سائر شُعبِها لإظهارِ فضلِها وإنافتِها على غيرِها وتخصيصُ الوجهِ الأولِ بصورةِ كونِ الموصولِ صفةً للمحسنين والوجهِ الآخيرِ بصورةِ كونِه مبتدأً مما لا وجهَ لَهُ
﴿أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون﴾ الفائزون بكلِّ مطلوبٍ والنَّاجُون من كلِّ مهروبٍ لحيازتِهم قُطريْ العلمِ والعملِ وقد مرَّ ما فيه من المقالِ في مطلع سورةِ البقرة بما لا مزيدة عليهِ
﴿وَمِنَ الناس﴾ محلُّه الرفعُ على الابتداءِ باعتبارِ مضمونِه
68
لقمان ٧ ٨ أو بتقديرِ الموصوفِ ومِنْ في قولِه تعالَى ﴿من يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث﴾ موصولةٌ أو موصوفةٌ محلُها الرَّفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضُ النَّاسِ أو وبعضٌ مِن النَّاسِ الذي يشترِي أو فريقٌ يشتِري على أنَّ مناطَ الإفادةِ والمقصودَ بالأصالةِ هو اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصِّلةِ أو الصِّفةِ لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورينَ كما مرَّ في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله وباليوم الأخر الآياتِ ولهوُ الحديثِ ما يُلهى عمَّا يُعنى من المهمَّاتِ كالأحاديثِ التي لا أصلَ لها والأساطير التي لا اعتدادَ بها والمضاحكِ وسائرِ مالا خيرَ فيه من فضُولِ الكلامِ والإضافةُ بمعنى من التبيينة إنْ أُريد بالحديثِ المنكرُ وبمعنى التبعيضيةِ إن أُريد به الأعمُّ مِن ذلكَ وقيلَ نزلتِ الآيةُ في النضر بن الحرث اشترى كتبَ الأعاجمِ وكان يُحدِّثُ بها قُريشاً ويقولُ ان كان محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم يُحدِّثكم بحديثِ عادٍ وثمودٍ فأَنا أُحدِّثكم بحديثِ رُسْتُمَ واسفِنْدِيارَ والأكاسرةِ وقيلَ كان يشترِي القيانَ ويحملهنَّ على مُعاشرةِ مَن أرادَ الإسلامَ ومنعِه عنْهُ ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي دينِه الحقِّ الموصِّلِ إليهِ تعالى أو عن قراءةِ كتابِه الهادِي إليه تعالى وقُرىء ليَضلَّ بفتح الياء أي ليثبُتَ ويستمرَّ على ضلالِه أو ليزدادَ فيه ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي بحالِ ما يشتريِه أو بالتِّجارةِ حيثُ استبدلَ الشرَّ البَحتَ بالخيرِ المحضِ ﴿وَيَتَّخِذَهَا﴾ بالنَّصبِ عطفاً على يُضلَّ والضَّميرُ للسَّبيلِ فإنَّه ممَّا يُذكِّرُ ويُؤنَّثُ وهو دينُ الإسلامِ أو القُرآنِ أي ويتخذَها ﴿هُزُواً﴾ مَهزُواً بهِ وقُرىء ويتخذُها بالرَّفعِ عطفاً على يشترِي وقولُه تعالى ﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى من والجمعُ باعتبارِ مَعناهَا كما أن الإفراد في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بذكرِ المُشارِ إليهِ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الشَّرارةِ أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من الاشتراءِ للإضلالِ ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ لما اتَّصفُوا به من إهانتِهم الحقِّ بإيثارِ الباطلِ عليهِ وترغيبِ النَّاس فيه
69
﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ﴾ أي على المشتري افراد الضَّميرُ فيه وفيما بعدَه كالضَّمائرِ الثلاثةِ الأولِ باعتبارِ لفظةِ مَن بعدَ ما جُمع فيما بينهما باعتبارِ معناها ﴿آياتنا﴾ التي هي آياتُ الكتابِ الحكيمِ وهدى ورحمةٌ للمحسنين ﴿وَلَّى﴾ أعرض عنها غيرَ معتدبها ﴿مُسْتَكْبِراً﴾ مبالغاً في التَّكَبُّر ﴿كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا﴾ حالٌ من ضمير ولَّى أو من ضميرٍ مستكبراً والأصلُ كأنَّه فحذف ضميرُ الشَّأنِ وخُفِّفتْ المُثقَّلةُ أي مشبهاً حاله حالَ مَن لم يسمعها وهو سامعٌ وفيه رمزٌ إلى أنَّ مَن سمعها لا يُتصوَّرُ منه التَّوليةُ والاستكبارُ لِما فيها منَ الأمورِ الموجبةِ للإقبالِ عليها والخضوعِ لها على طريقة قول من قال كأنَّك لم تَجْزَعْ على ابنِ طَرِيْفِ ﴿كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ حال من ضميرِ لم يسمعْها أي مشبها حاله حال من في اذنيه ثقَلٌ مانع من السَّماعِ ويجوز أنْ يكونا استئنافين وقُرىء في أُذْنيهِ بسكونِ الذَّالِ ﴿فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي فأعلمه بأنَّ العذابَ المفرط في الإيلام لاحقٌ به لا محالة وذكرُ البشارةِ للتَّهكمِ
﴿إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ بيانٌ لحالِ المُؤمنين بآياتِه تعالى إثرَ بيانِ حالِ الكافرينَ بها أي الذين آمنُوا بآياتِه تعالى وعملُوا بموجبِها ﴿لَهُمْ﴾ بمقابلة ما ذكر من ايمانهم واعمالهم ﴿جنات النعيم﴾ أي
69
لقمان ٩ ١١ نعيمُ جنَّاتٍ فعكسَ للمُبالغةِ والجملة خبرُ أنَّ والأحسن أنْ يجعلَ لَهمُ هو الخبرَ لأنَّ وجنَّاتُ النَّعيمِ مرتفعاً بِه على الفاعليَّةِ وقولُه تعالَى
70
﴿خالدين فِيهَا﴾ حالٌ من الضَّميرِ في لهم أو مِن جنَّاتِ النَّعيمِ لاشتماله على ضميريهِما والعاملُ ما تعلَّق به اللامُ ﴿وَعْدَ الله حَقّا﴾ مصدرانِ مؤكِّدانِ الاول لنفسه والثَّاني لغيرهِ لأنَّ قولَه تعالَى لهم جنَّاتُ النَّعيمِ في معنى وعَدَهم الله جنات النعيم فأكد معنى الوعد بالوعد واما حقا فدال على معنى الثبات اكد به معنى الوعد ومؤكدهما جميعا لهم جنَّاتِ النَّعيمِ ﴿وَهُوَ العزيز﴾ الذي لا يغلبه شيء ليمنعه من إنجازِ وعدِه أو تحقيقِ وعيدِه ﴿الحكيم﴾ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ
﴿خلق السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ الخ استئنافٌ مسوقٌ للاستشهادِ بما فُصِّل فيه على عزَّتِه تعالى التي هي كمالُ القدرةِ وحكمتِه التي هي كمالُ العلمِ وتمهيدُ قاعدةِ التوحيد وتقريرُه وإبطالُ أمرِ الإشراكِ وتبكيتُ أهلِه والعَمَدُ جمعُ عمادٍ كأَهبٍ جمعُ إهابٍ وهو ما يُعمَد به أي يُسند يُقال عمَدتُ الحائطَ إذا دعَّمتُه أي بغيرِ دعائم على أنَّ الجمعَ لتعددِ السَّمواتِ وقولُه تعالى ﴿تَرَوْنَهَا﴾ استئنافٌ جِيءَ بهِ للاستشهادِ على ما ذُكر من خلقِه تعالى لها غير معهودة بمُشاهدتِهم لها كذلك أو صفةٌ لعَمَدٍ أي خلقَها بغيرِ عمدٍ مرئيَّةٍ على أنَّ التَّقييدَ للرَّمزِ إلى أنَّه تعالى عمَّدها بعَمدٍ لا تَرَونها هي عَمَدُ القُدرةِ ﴿وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ﴾ بيانٌ لصُنعه البديعِ في قرارِ الأرض إثرَ بيانِ صُنعه الحكيمِ في قرار السموات أي ألقى فيها جبالاً ثوابتَ وقد مرَّ ما فيه من الكلام في سُورة الرَّعدِ ﴿أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ كراهةَ أنْ تميلَ بكم فإنَّ بساطةَ أجزائِها تقتضِي تبدُّلَ أحيازِها وأوضاعِها لامتناعِ اختصاصِ كلَ منها لذاتِه أو لشيءٍ من لوازمِه بحيِّزٍ معيَّنٍ ووضعٍ مخصوصٍ ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ﴾ من كلِّ نوعٍ من أنواعِها ﴿وَأَنزَلْنَا من السماء ماء﴾ هو المطرُ ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا﴾ بسببٍ ذلك الماءِ ﴿مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ من كلِّ صنفٍ كثيرِ المنافعِ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في الفعلينِ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها
﴿هذا﴾ أي ما ذكر من السَّمواتِ والأرضِ وما تعلَّق بهما من الأمورِ المعدودةِ ﴿خَلَقَ الله﴾ أي مخلوقُه ﴿فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ﴾ ممَّا اتخذ تموهم شركاءً له سبحانه في العبادةِ حتَّى استحقُّوا به المعبوديَّةَ وماذا نُصب بخَلْقُ أو مَا مرتفعٌ بالابتداءِ وخبرُه ذَا بصلتِه وأرُوني متعلقٌ به وقولُه تعالى ﴿بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ﴾ إضرابٌ عن تبكيتِهم بما ذُكر إلى التَّسجيلِ عليهم بالضَّلالِ البيِّنِ المُستدعي للإعراضِ عن مخاطبتِهم بالمقدِّماتِ المعقولةِ الحقَّةِ لاستحالة أنْ يفهمُوا منها شيئاً فيهتدوا به إلى العلمِ ببطلانِ ما هُم عليه أو يتأثَّروا من الإلزامِ والتَّبكيتِ فينزجُروا عنه ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهم للدِّلالةِ على انهم بإشراكهم
70
لقمان ١٢ ١٤ واضعون للشيء في غير موضعِه ومتعدُّون عن الحدودِ وظالمون لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالِدِ
71
﴿ولقد آتينا لُقْمَانَ الحكمة﴾ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ بطلانِ الشِّركِ وهو لقمان بن باعوارء من اولاد آزر ابن أختِ أيُّوبَ عليه السَّلامُ أو خالتِه وعاشَ حتَّى أدركَ داودَ عليه السَّلامُ وأخذ عنْهُ العلمَ وكان يُفتي قبل مبعثِه وقيل كان قاضياً في بني إسرائيلَ والجمهورُ على أنَّه كانَ حكيماً ولم يكُنْ نبيِّاً والحكمةٌ في عُرفِ العُلماءِ استكمالُ النَّفسِ الإنسانيَّةِ باقتباس العلوم النظرية واكتسابِ المَلَكة التَّامةِ على الأفعالِ الفاضلةِ على قدرِ طاقتِها ومن حكمتِه أنَّه صحبَ داودَ عليه السَّلام شُهوراً وكان يسرد الدِّرعَ فلم يسألْه عنها فلمَّا أتمَّها لبسها وقال نعمَ لبوسُ الحربِ أنتِ فقال الصَّمتُ حكمةٌ وقليلٌ فاعلُه فقال له داودُ عليه السَّلامُ بحقَ ما سُمِّيت حكيما وان داود عليه السلام قال له يوماً كيفَ أصبحتَ فقال أصبحتُ في يَدَيْ غيرِي فتفكَّر داودُ فيه فصعِق صعقةً وأنَّه أمرَه مولاهُ بأنْ يذبحَ شاةً ويأتي بأطيبِ مُضغتينِ منها فأتى باللِّسانِ والقلبِ ثمَّ بعد أيَّامٍ أمره بأنْ يأتيَ بأخبثِ مُضغتينِ منها فأتى بِهما أيضاً فسأله عن ذلك فقالَ هما أطيب شئ إذا طَابَا وأخبثُ شيءٍ إذا خُبثا ومعنى ﴿أَنِ اشكر للهِ﴾ أي اشكُر له تعالى على أنَّ أنْ مفسِّرةٌ فإنَّ إيتاءَ الحكمةِ في معنى القَولِ وقوله تعالى ﴿وَمَن يَشْكُرْ﴾ الخ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله موجبٌ للامتثالِ بالأمر أي ومَن يشكُرْ له تعالى ﴿فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ لأنَّ منفعتَهُ التي هي ارتباطُ العتيدِ واستجلابُ المزيدِ مقصورةٌ عليها ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ﴾ عن كلِّ شيءٍ فلا يحتاجُ إلى الشُّكرِ ليتضررَ بكفرِ مَن كفَرَ ﴿حَمِيدٌ﴾ حقيقٌ بالحمد وإنْ لم يحمَدْه أحدٌ أو محمودٌ بالفعل ينطقُ بحمدِه جميعُ المخلوقاتِ بلسانِ الحالِ وعدمُ التَّعرضِ لكونِه تعالى مشكُوراً لما أنَّ الحمدَ متضمنٌ للشكرِ بل هو رأسُه كما قال ﷺ الحمدُ رأسُ الشُّكرِ لم يشكرِ الله عبدٌ لم يحمدْهُ فإثباتُه له تعالى إثباتٌ للشكرِ له قطعاً
﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ﴾ أنعمَ وقيل أشكمَ وقيل ماثان ﴿وهو يعظه يا بني﴾ تصغير إشفاق وقرئ يا بنيْ بإسكانِ الياءِ وبكسرِها ﴿لاَ تُشْرِكْ بالله﴾ قيل كانَ ابنُه كافراً فلم يزلْ به حتَّى أسلم ومن وقفَ على لا تُشركْ جعلَ بالله قسماً ﴿إِنَّ الشرْكَ لظُلم عَظِيمٌ﴾ تعليلٌ للنَّهي أو للانتهاءِ عن الشِّركِ
﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه﴾ الخ كلامُ مستأنفٌ اعترض بهِ على نهجِ الاستطرادِ في أثناءِ وصيَّةِ لقمانَ تأكيداً لما فيها من النَّهيِ عن الشِّركِ وقولُه تعالى ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ﴾ إلى قولِه في عامينِ اعتراضٌ بين المفسَّر والمفسِّر وقولُه تعالى ﴿وَهْناً﴾ حالٌ من أمِّه أي ذاتَ وهنٍ أو مصدرٌ مؤكد لفعل هو الحالُ أي تهِنُ وَهْناً
71
لقمان ١٥ ١٧ وقولُه تعالى ﴿على وَهْنٍ﴾ صفة للمصدرِ أي كائناً على وَهنٍ أي تضعُف ضعفاً فوقَ ضعفٍ فإنَّها لا تزالُ يتضاعفُ ضعفُها وقرئ وَهَنا على وَهَن بالتَّحريك يقالُ وَهِن يَهِنُ وَهَنا ووَهَن يَوْهِنُ وَهْناً ﴿وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ﴾ أي فطامُه في تمامِ عامينِ وهي مدَّةُ الرَّضاعِ عند الشَّافعيِّ وعند أبي حنيفةَ رحمهما الله تعالى هي ثلاثُون شهراً وقد بُيِّن وجهُه في موضعه وقرئ وفَصْلُه ﴿أَنِ اشكر لِى ولوالديك﴾ تفسيرٌ لوصَّينا وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للوصيِّةِ في حقِّها خاصَّة ولذلك قال ﷺ لمن قالَ له مَن أبرُّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ قالَ بعدَ ذلكَ ثمَّ أباكَ ﴿إِلَىَّ المصير﴾ تعليلٌ لوجوبِ الامنثال أي إليَّ الرُّجوع لا إلى غيرِي فأجازيك على ما صَدَر عنْك من الشُّكرِ والكُفرِ
72
﴿وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ﴾ أي بشركتِه له تعالى في استحقاقِ العبادةِ ﴿عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا﴾ في ذلك ﴿وصاحبهما فِى الدنيا مَعْرُوفاً﴾ أي صحاباً معروفاً يرتضيِه الشَّرعُ وتقتضيه المروءةُ ﴿واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ﴾ بالتَّوحيدِ والإخلاصِ في الطَّاعةِ ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي مرجعُك ومرجعُهما ومرجعُ من أناب إليَّ ﴿فَأُنَبِئُكُم﴾ عند رجوعِكم ﴿بِمَا كنتم تعملون﴾ بأن أجازي كُلاًّ منكم بما صدَر عنْهُ منَ الخيرِ والشرِّ وقولُه تعالى
﴿يَا بَنِى﴾ الخ شروعٌ في حكايةِ بقيةِ وصايا لقمانَ إثرَ تقريرِ ما في مطلعِها من النَّهيِ عن الشِّركِ وتأكيدهِ بالاعتراضِ ﴿إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ﴾ أي إنَّ الخصلةَ من الإساءةِ أو الإحسانِ إنْ تكُ مثلاً في الصِّغرِ كحَّبةِ الخردل وقرئ برفعِ مثقال على أنَّ الضَّميرَ للقصَّةِ وكانَ تامَّةٌ والتَّانيثُ لإضافةِ المثقالِ إلى الحبَّةِ كما في قولِ مَن قالَ كَما شرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ أو لأنَّ المرادَ بهِ الحسنةُ أو السيِّئةُ ﴿فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السماوات أَوْ فِى الارض﴾ أي فتكُن مع كونِها في أقصى غاياتِ الصِّغرِ والقَماءةِ في أخفى مكانٍ وأحرزه كجوفِ الصَّخرةِ أو حيثُ كانتْ في العالمِ العُلويِّ أو السُّفليِّ ﴿يَأْتِ بِهَا الله﴾ أي يُحضرها ويُحاسبُ عليها ﴿إِنَّ الله لَطِيفٌ﴾ يصلُ علمُه إلى كلِّ خفى ﴿خَبِيرٌ﴾ بكُنهِه وبَعْدَ ما أمرَهُ بالتَّوحيدِ الذي هُو أولُ ما يجبُ على الإنسانِ في ضمنِ النَّهي عن الشِّركِ ونبَّهه على كمالِ علمِ الله تعالى وقدرتِه أمرَه بالصَّلاة التي هي أكملُ العباداتِ تكميلاً له من حيثُ العملُ بعد تكميلِه من حيثُ الاعتقادُ فقال مستميلاً له
﴿يَا بَنِىَّ أَقِمِ الصلاة﴾ تكميلاً لنفسِك ﴿وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر﴾ تكميلاً لغيرِك ﴿واصبر على مَا أَصَابَكَ﴾ من الشَّدائدِ والمحنِ لا سيَّما فيما أُمرت به ﴿إِنَّ ذلك﴾ إشارةٌ إلى
72
لقمان ١٨ ٢٠ كلِّ ما ذُكر وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مرَّ مراراً من الإشعارِ ببُعدِ منزلتِه في الفضل ﴿مِنْ عَزْمِ الامور﴾ أي ممَّا عزمَهُ الله تعالى وقطَعه على عبادِه من الأمورِ لمزيدِ مزيَّتِها مصدرٌ أُطلق على المفعولِ وقد جُوِّز أنْ يكونَ بمعنى الفاعلِ من قوله تعالى فَإِذَا عَزَمَ الامر أي جدَّ والجملةُ تعليلٌ لوجوبِ الامتثالِ بما سبقَ من الأمرِ والنَّهي وإيذانٌ بأنَّ ما بعدها ليس بمثابتِه
73
﴿وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ أي لا تُمِله ولا تُولِّهم صفحة وجهِك كما هو ديدنُ المتكبرينَ من الصَّعرِ وهو الصَّيَدُ وهو داءٌ يصيبُ البعيرَ فيلوى منه عنقَهُ وقُرىء ولا تُصاعرْ وقُرىء ولا تصعر من الاغعال والكل بمعنى مثل وعلاه وعالاه ﴿وَلاَ تَمْشِ فِى الارض مَرَحًا﴾ أي فَرَحاً مصدرٌ وقعَ موقِعَ الحالِ أو مصدرٌ مؤكد لفعل هو الحالُ أي تمرحُ مَرَحاً أو لأجلِ المرحِ والبَطَرِ ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ تعليلٌ للنَّهي أو موجبِه وتأخيرُ الفخورِ مع كونِه بمقابلةِ المصعِّرِ خدَّه عن المختالِ وهو بمقابلةِ الماشِي مَرَحا لرعاية الفواصل
﴿واقصد فِى مَشْيِكَ﴾ بعد الاجتنابِ عن المَرَح فيه أي توسَّطْ بين الدبيبِ والاسراع وعنه ﷺ سرعةُ المشيِ تُذهُب بهاءَ المُؤمنِ وقولُ عائشةَ في عمرَ رضيَ الله عنهما كانَ إذا مشَى أسرعَ فالمرادُ به ما فوقَ دبيب المنماوت وقُرىء بقطعِ الهمزةِ من أقصَدَ الرَّامِي إذا سدَّدَ سهمَه نحوَ الرَّميةِ ﴿واغضض مِن صَوْتِكَ﴾ وانقُص منه واقصُر ﴿إِنَّ أَنكَرَ الاصوات﴾ أي أوحشَها ﴿لَصَوْتُ الحمير﴾ تعليلٌ للأمرِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه مبنيٌّ على تشبيهِ الرَّافعينَ أصواتَهم بالحميرِ وتمثيل اصواتهم بالهاق وإفراطٌ في التَّحذيرِ عن رفعِ الصَّوتِ والتَّنفيرِ عنه وإفرادُ الصَّوتِ مع إضافتِه إلى الجمعِ لما أنَّ المرادَ ليس بيانَ حالِ صوتِ كلَّ واحدٍ من آحادِ هذا الجنسِ حتى يُجمعَ بل بيانَ حالِ صوتِ هذا الجنسِ من بينِ أصواتِ سائرِ الأجناسِ وقولُه تعالَى
﴿أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سخر لكم ما فى السماوات وَمَا فِي الارض﴾ رجوعٌ الى سنن ما سلفَ قبل قصَّةِ لقمانَ من خطابِ المشركينَ وتوبيخٌ لهم على إصرارُهم على ما هم عليه مع مشاهدتِهم لدلائلِ التَّوحيدِ والمرادُ بالتَّسخير إمَّا جعلُ المسخَّرِ بحيثُ ينفعُ المسخَّرَ له أعمُّ من أنْ يكونَ مُنقاداً له يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ ويستعملُه حسبما يريدُ كعامَّة ما في الأرضِ من الأشياءِ المسخَّرة للإنسانِ المستعملةِ له من الجمادِ والحيوانِ أو لا يكون كذلك بل يكونُ سبباً لحصولِ مرادِه من غير أن يكون له دخلٌ في استعمالِه كجميعِ ما في السَّمواتِ من الأشياءِ التي نِيطتْ بها مصالحُ العبادِ معاشاً ومعادا وما جعلُه منقاداً للأمرِ مذللاً على أنَّ معنى لكُم
73
لقمان ٢١ ٢٤ لأجلِكم فإنَّ جميعَ ما في السمواتِ والأرض من الكائنات مسخر لله تعالى مستتبعةٌ لمنافعِ الخلقِ وما يستعملُه الإنسانُ حسبما يشاءُ وإن كان مسخَّراً له بحسبِ الظَّاهرِ فهو في الحقيقةِ مسخَّرٌ لله تعالى ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً﴾ محسوسةً ومعقولةً معروفةً لكم وغيرَ معروفةٍ وقد مرَّ شرحُ النِّعمةِ وتفصيلُها في الفاتحةِ وقرىء اصيغ بالصَّادِ وهو جارٍ في كلِّ سينٍ قارنت الغينَ أو الخاءَ أو القافَ كما تقولُ في سَلَخ صَلَخ وفي سَقَر صَقَر وفي سَالِغ صالغ وقُرىء نعمةً ﴿وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله﴾ في توحيدِه وصفاتِه ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ مستفادة من دليلٍ ﴿وَلاَ هُدًى﴾ من جهة الرسول ﷺ ﴿وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ﴾ أنزلَه الله سبحانُه بل بمجرَّدِ التَّقليدِ
74
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ أي لمن يجادلُ والجمعُ باعتبار المعنى ﴿اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نتبعُ ما وجدْنا عليه آباءنا﴾ يُريدون به عبادةَ الأصنامِ ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ﴾ أي آباءَهم لا أنفسَهم كما قيل فإنَّ مدارَ إنكارِ الاتباعِ واستبعادِه كونُ المتبوعينَ تابعينَ للشَّيطانِ لا كونُ أنفسِهم كذلك أي أيتبعونَهم ولو كان الشَّيطانُ يدعُوهم فيما هم عليه من الشِّرك ﴿إلى عَذَابِ السعير﴾ فهُم متوجهون إليه حسبَ دعوتِه والجملةُ في حيز النصبِ على الحالية وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى أَوْ لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ من سورة البقرة بما لا مزيدَ عليهِ
﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله﴾ بأنْ فوَّض إليه مجامعَ أمورِه وأقبلَ عليه بكلّيته وحيثُ عُدِّي باللامِ قصد معنى الاختصاصِ وقُرىء بالتَّشديدِ ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي في أعمالِه آتٍ بها جامعةً بين الحُسنِ الذاتِيِّ والوصفيِّ وقد مرَّ في آخرِ سورةِ النَّحلِ ﴿فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى﴾ أي تعلَّق بأوثقِ ما يتعلَّق به من الأسبابِ وهو تمثيلٌ لحالِ المتوكلِ المشتغلِ بالطَّاعةِ بحالِ من أراد أنْ يترقَّى إلى شاهقِ جبلٍ فتمسَّك بأوثقِ عُرى الحبلِ المُتدلِّي منه ﴿وإلى الله﴾ لا إلى أحدٍ غيرِه ﴿عاقبة الامور﴾ فيجازيه أحسنَ الجزاء
﴿وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ﴾ فإنَّه لا يضُّرك في الدنيا ولا في الآخرةِ وقُرىء فلا يُحزِنْك من أحزن المنقولِ من حزِن بكسرِ الزَّاي وليس بمستفيضٍ ﴿إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ لا إلى غيرِنا ﴿فَنُنَبّئُهُم بِمَا عملوا﴾ في الدُّنيا من الكفرِ والمَعَاصي بالعذابِ والعقابِ والجمعُ في الضَّمائرِ الثَّلاثةِ باعتبارِ معنى مَنْ كما أنَّ الإفرادَ في الأولِ باعتبارِ لفظِها ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ تعليلٌ للتنبئةِ المعبَّرِ بها عن التَّعذيبِ
﴿نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً﴾ تمتيعاً أو زماناً قليلاً فإنَّ ما يزول وإنْ كانَ بعد امد
74
لقمان ٢٥ ٢٩ طويلٍ بالنسبةِ إلى ما يدومُ قليلٌ ﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ يثقُل عليهم ثقلَ الأجرامِ الغلاظِ أو يضمُّ إلى الإحراقِ الضَّغطَ والتضييق
75
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والارض لَيَقُولُنَّ الله﴾ لغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيث اضطروا إلى الاعترافِ به ﴿قُلِ الحمد لِلَّهِ﴾ على أنْ جعلَ دلائلَ التَّوحيدِ بحيثُ لا يكادُ ينكرها المكابرون أيضاً ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ شيئاً من الأشياءِ فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافِهم وقيل لاَ يَعْلَمُونَ أنَّ ذلك يلزمُهم
﴿لله ما في السماوات والارض﴾ فلا يستحقُّ العبادةَ فيهما غيرُه ﴿إِنَّ الله هُوَ الغنى﴾ عن العالمينَ ﴿الحميد﴾ المستحقُّ للحمدِ وإنْ لم يحمَدْه أحدٌ أو المحمود بالفعلِ يحمدُه كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحال
﴿ولو أنما فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أقلام﴾ أي لوان الأشجارَ أقلامٌ وتوحيدُ الشَّجرةِ لما أنَّ المراد تفصيلُ الآحادِ ﴿والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ﴾ أي من بعدِ نفاده ﴿سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ أي والحالُ أنَّ البحرَ المحيطَ بسعته يمده الا بحر السبعةُ مدَّاً لا ينقطعُ أبداً وكتبتْ بتلك الأقلامِ وبذلك المدادِ كلماتُ الله ﴿مَا نَفِدَتْ كلمات الله﴾ ونفدِتْ تلك الأقلامُ والمدادُ كما في قوله تعالى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تنفذ كلمات رَبّى وقُرىء يُمدُّه من الإمدادِ بالياء والتاءِ وإسنادُ المدِّ إلى الأبحرِ السَّبعةِ دونَ البحرِ المحيطِ مع كونِه أعظمَ منها وأطمَّ لأنَّها هي المجاورةُ للجبالِ ومنابعِ المياه الجاريةِ وإليها تنصبُّ الأنهارُ العظامُ أولاً ومنها ينصبُّ إلى البحرِ المحيطِ ثانياً وإيثارُ جمعِ القلَّةِ في الكلماتِ للإيذانِ بأنَّ ما ذُكر لا يَفي بالقليلِ منها فكيفَ بالكثيرِ ﴿أَنَّ الله عَزِيزٌ﴾ لا يُعجزه شيءٌ ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يخرجُ عن علمِه وحكمتِه أمرٌ فلا تنفد كلماتُه المؤسسةُ عليهما
﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة﴾ أي إلا كخلقِها وبعِثها في سهولة التأتي إذ لا يشغَلُه شأنٌ عن شأنٍ لأن مناطَ وجودِ الكلِّ تعلقُ إرادتِه الواجبةِ مع قدرتِه الذاتيَّةِ حسبما يُفصح عنه قولُه تعالى انما امرنا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴿أَنَّ الله سَمِيعٌ﴾ يسمعُ كلَّ مسموعٍ ﴿بَصِيرٌ﴾ يبصرُ كلَّ مبصَرٍ لا يشغلُه علمُ بعضِها عن علمِ بعضٍ فكذلك الخلقُ والبعثُ
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ قيل الخطابُ لرسول الله ﷺ وقيل عامٌّ لكلِّ أحدٍ ممن يصلُح للخطابِ وهو الا وفق لما سبقَ وما لحقَ أي ألم تعلم علما
75
لقمان ٣٠ قويَّاً جارياً مجرى الرؤيةِ ﴿أن الله يولج الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى الليل﴾ أي يُدخل كلَّ واحدٍ منهما في الآخرِ ويضيفه إليه فيتفاوتُ بذلك حالُه زيادةً ونقصاناً ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ عطفٌ على يُولج والاختلافُ بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجددٌ في كلِّ حينٍ وأما تسخير النيرين فأمر لا تعددَ فيه ولا تجددَ وإنَّما التعدُّدُ والتجدّد في آثارِه وقد أُشير إلى ذلك حيثُ قيل ﴿كُلٌّ يَجْرِى﴾ أي بحسبِ حركته الخاصة وحركته القسرية على المداراتِ اليوميةِ المتخالفةِ المتعددةِ حسب تعددِ الأيَّامِ جريا مستمراً ﴿إلى أَجَلٍ مسمى﴾ قدره الله تعالى لجريهما وهو يوم القيامةِ كما رُوي عن الحسنِ رحمة الله فإنَّه لا ينقطعُ جريُهما إلا حينئذٍ والجملةُ على تقدير عمومِ الخطاب اعتراضٌ بين المعطوفينِ لبيانِ الواقعِ بطريق الاستطرادِ وعلى تقديرِ اختصاصِه به ﷺ يجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الشَّمسِ والقمرِ فإنَّ جريانَهما إلى يومِ القيامةِ من جُملةِ ما في حيز رؤيته ﷺ هذا وقد جُعل جريانُهما عبارةً عن حركتِهما الخاصَّة بهما في فلكِهما والأجلُ المسمَّى عن منتهى دورتِهما وجُعل مَّدةُ الجريانِ للشمسِ سنة وللقمرِ شهراً فالجملةُ حينئذٍ بيان لحكمِ تسخيرِهما وتنبيهٌ على كيفيَّةِ إيلاجٍ أحد الملوين في الآخر وكونِ ذلك بحسبِ اختلافٍ جَرَيانِ الشَّمسِ على مَدَاراتِها اليوميَّةِ فكُلما كان جريانُها متوجهاً إلى سمتِ الرَّأسِ تزدادُ القوسُ التي هي فوق الأرضِ كبراً فيزدادُ النَّهارُ طُولاً بإنضمامِ بعضِ أجزاءِ الليلِ إليهِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أقربُ المداراتِ إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها الى رأسِ السَّرطانِ ثم ترجعُ متوجهةً إلى التباعدِ عن سمت الراس فلا تزال القِسيُّ التي هي فوقَ الأرضِ تزدادُ صغراً فيزدادُ النَّهارُ قِصراً بانضمامِ بعضِ أجزائِه إلى اللَّيلِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أبعدُ المداراتِ اليوميةِ عن سمتِ الرأسِ وذلك عندَ بلوغِها برجَ الجَدي وقولُه تعالى ﴿وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ عطفٌ على أنَّ الله يُولج الخ داخلٌ معه في حيِّز الرؤيةِ على تقديري خصوصِ الخطابِ وعمومه فإنَّ مَن شاهدَ مثلَ ذلك الصُّنعِ الرَّائقِ والتَّدبيرِ الفائقَ لا يكادُ يغفلُ عن كونِ صانعِه عزَّ وجلَّ محيطاً بجلائلِ أعمالِه ودقائقِها
76
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما تُلي من الآياتِ الكريمةِ وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِها في الفضل وهو مبتدأ خبرُهُ قولُه تعالى ﴿بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾ أي بسببِ بيانِ أنَّه تعالى هو الحقُّ إلهيَّته فقط ولأجلِه لكونِها ناطقةً بحقيةِ التَّوحيدِ ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل﴾ أي ولا جل بيانِ بطلانِ آلهيّةِ ما يدعونَه من دونِه تعالى لكونها شاهدةً بذلك شهادةً بينةً لا ريبَ فيها وقُرىء بالتَّاءِ والتصريحُ بذلك مع أنَّ الدِّلالةَ على اختصاصِ حقَّيةِ الإلهيةِ به تعالى مستتبعةٌ للدِّلالةِ على بُطلانِ إلهيّةٍ ما عداهُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ التَّوحيدِ وللإيذانِ بأنَّ الدِّلالةَ على بُطلانِ ما ذُكر ليستْ بطريقِ الاستتباعِ فقط بلْ بطريقِ الاستقلالِ أيضاً ﴿وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير﴾ أي وبيانُ أنَّه تعالى هو المترفعُ عن كلِّ شيءٍ المتسلطُ عليه فإنَّ ما في تضاعيفِ الآياتِ الكريمةِ مبيِّنٌ لاختصاصِ العلوِّ والكبرياءِ به تعالى أيّ بيانٍ هذا وقيل ذلك أي ما ذكر من سَعةِ العلمِ وشمولِ القُدرةِ وعجائب الصنع واختصاصِ البارِي تعالى بِه بسببِ أنَّه الثَّابتُ في ذاتِه الواجبُ من جميَعِ جهاتِه أَو الثابتُ إلهيّتُه وانت
76
لقمان ٣١ ٣٣ خبيرٌ بأنَّ حقَّيته تعالى وعلوَّه وكبرياءَهُ وإنْ كانتْ صالحةً لمناطيةِ ما ذُكر من الأحكامِ المعدودةِ لكنّ بطلانَ إلهية الأصنامِ لا دخلَ له في المناطيَّةِ قطعاً فلا مساغَ لنظمِه في سلكِ الأسبابِ بل هو تعكيسٌ للأمرِ ضرورةَ أنَّ الأحكامَ المذكورةَ هي المقتضيةُ لبطلانِها لا أنَّ بطلانَها يقتضيها
77
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تجري في البحر بنعمة الله﴾ بإحسانِه في تهيئةِ أسبابِه وهو استشهادٌ آخرُ على باهرِ قُدرتِه وغايةِ حكمتِه وشمولِ إنعامِه والباءُ إمَّا متعلقةٌ بتجرِي أو بمقدَّرٍ هُو حالٌ من فاعلِه أي ملتبسةٌ بنعمتِه تعالى وقُرىء الفُلُك بضمِّ اللامِ وبنعماتِ الله وعينُ فَعَلات يجوزُ فيه الكسرُ والفتحُ والسكونُ ﴿لِيُرِيَكُمْ مّنْ آياته﴾ أي بعضَ دلائلِ وحدتِه وعلمهِ وقدُرتِه وقولُه تعالى ﴿إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ تعليلٌ لمَا قبلَهُ أيْ إنَّ فيما ذُكر لآياتٍ عظيمةً في ذاتِها كثيرةً في عددِها لكلِّ مَن يُبالغ في الصَّبرِ على المشاقِّ فيتعبُ نفسَه في التفكرِ في الأنفسِ والآفاقِ ويبالغُ في الشُّكرِ على نعمائِه وهما صِفتا المُؤمنِ فكأنَّه قيلَ لكلَّ مؤمنٍ
﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ﴾ أي علاهُم وأحاطَ بهم ﴿مَّوْجٌ كالظلل﴾ كما يظل من جبلٍ أو سحابٍ أو غيرِهما وقُرىء كالظِّلالِ جمْعِ ظُّلةٍ كقُلَّةٍ وقِلالٍ ﴿دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ لزوالِ ما ينازعُ الفطرةَ من الهَوَى والتَّقليدِ بما دهاهم من الدَّواهي والشَّدائدِ ﴿فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ أي مقيمٌ على القصدِ السويِّ الذي هو التَّوحيدُ أو متوسطٌ في الكفر لانزجاره في الجملة ﴿وما يجحد بآياتنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ﴾ غدَّارٍ فإنه نقض للعهدِ الفطريَّ أو رفضٌ لما كان في البحرِ والخترُ أشدُّ الغدرِ وأقبحُه ﴿كَفُورٍ﴾ مبالغٌ في كفرانُ نعمِ الله تعالى
﴿يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ﴾ أي لا يقضي عنه وقُرىء لا يُجزى من أجزأَ إذا أغنَى والعائدُ إلى الموصوفِ محذوفٌ أي لا يجزى فيهِ ﴿وَلاَ مَوْلُودٌ﴾ عطفٌ على والدٌ أو هُو مبتدأٌ خبرُه ﴿هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ وتغييرُ النَّظمِ للدِّلالةِ على أنَّ المولودَ أولى بأن لا يجزي وقطع مِنَ توقَّع من المؤمنينَ أنْ ينفع أباهُ الكافرَ في الأخرة ﴿إِنَّ وَعْدَ الله﴾ بالثَّوابِ والعقابِ ﴿حَقّ﴾ لا يمكن إخلافُه أصلاً ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور﴾ أي الشَّيطانُ المبالغُ في الغرورِ بأنْ يحملَكم على المعاصي
77
لقمان ٣٤ بتزيينها لكمُ ويرجِّيكُم التوبةَ والمغفرةَ
78
﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ علمُ وقتِ قيامِها لما روى ان الحرث بنَ عمروٍ أتى رسولَ الله ﷺ فقال مَتَى السَّاعةُ وإنيِّ قد ألقيتُ حَبَّاتي في الأرضِ فمتى السماءُ تُمطر وحَمْلُ امرأتِي ذكرٌ أَمْ أُنثى وما أعملُ غداً وأينَ أموتُ فنزلتْ وعنه ﷺ مفاتحُ الغيبِ خمسٌ وتلا هذه الآية ﴿وَيُنَزّلُ الغيث﴾ في إبَّانهِ الذي قدَّره وإلى محلِّهِ الذي عيَّنه في علمِه وقُرىء يُنْزِل من الإنزالِ ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِى الارحام﴾ من ذَكَرٍ أَوْ أنثى تامَ أو ناقصٍ ﴿وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ﴾ من النُّفوسِ ﴿مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً﴾ من خيرٍ أو شرَ وربما تعزمُ على شيءٍ منهما فتفعلُ خلافَه ﴿وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ كما لا تدرِي في أيِّ وقتٍ تموتُ رُوي أنَّ ملكَ الموتِ مرَّ على سُليمانَ عليهما السَّلامُ فجعلَ ينظرُ إلى رجلٍ من جلسائِه يُديمُ النَّظرَ إليهِ فقال الرَّجُل مَن هذا قالَ مَلَكُ الموتِ فقال كأنه يُريدني فمرِ الرَّيحَ أن تحملَني وتلقيني ببلادِ الهندِ ففعلَ ثم قال المَلَكُ لسليمانَ عليهما السَّلامُ كان دوامُ نظري إليه تعجُّباً منه حيثُ كنت أُمرتُ بأنْ أقبضَ روحَهُ بالهندِ وهو عندَك ونسبةُ العلمِ إلى الله تعالى والدراية إلى العبدِ للإيذانِ بأنَّه إنْ أعملَ حِيلَه وبذلَ في التَّعرفِ وسعَه لم يعرفْ ما هُو لاحقٌ به من كسبهِ وعاقبتِه فكيف بغيرِه مما لم ينُصبْ له دليلٌ عليه وقُرىء بأيَّةِ أرضٍ وشبَّه سيبويهِ تأنيثَها بتأنيثِ كلَ في كلتهنَّ ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ﴾ مبالغٌ في العلمِ فلا يعزُب عنْ علمِه شيءٌ من الأشياء التي من جُملتِها ما ذُكر ﴿خَبِيرٌ﴾ يعلم واطنها كما يعلمُ ظواهرَها عنْ رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم منَ قرأَ سورةَ لقمانَ كان له لقمانُ رفيقاً يومَ القيامةِ وأُعطَي من الحسناتِ عشراً بعددِ من عملَ بالمعروفِ ونهى عن المُنكر
78
سورة السجدة ١ ٣
مكية وهى ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم﴾
79
Icon