تفسير سورة الحديد

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة الحديد مدنية وهي عشرون وتسع آيات.

سورة الحديد
وهي تسع وعشرون آية مكية
[سورة الحديد (٥٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)
قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ يعني: صلّى الله ما في السموات من الملائكة وَالْأَرْضِ من المؤمنين، فسمى الصلاة تسبيحاً، لأنه يجري فيها التسبيح. ويقال: سَبَّحَ لِلَّهِ، يعني: ذكر الله ما في السموات. يعني: جميع ما في السموات من الشمس، والقمر والنجوم والأرض، يعني: جميع ما في الأرض من الإنس، والأشجار، والأنهار، والجبال، وغير ذلك. ويقال: سَبَّحَ لِلَّهِ يعني: خضع لله جميع ما في السَّموات، والأرض، وقال بعضهم: التسبيح آثار صنعه، يعني: في كل شيء دليل لربوبيته، ووحدانيته. ويقال: هو التسبيح بعينه. يعني: يسبح جميع الأشياء كقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤] وقال الحسن البصري (لولا ما يخفى عليكم من تسبيح من معكم في البيوت ما تقادرتم).
وروى سمرة بن جندب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أفْضَلُ الكَلامِ أرْبَعَةٌ: سُبْحَانَ الله، وَالحَمْدُ لله، ولا إله إلا الله، وَالله أَكْبَرُ» وَلا يَضُرُّكَ بِأيِّهِنَّ بَدَأْتَ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يعني:
العزيز بالنقمة لمن لا يوحّده، وَهُوَ الْعَزِيزُ في اللغة: الذي لا يعجزه عما أراد. ويقال:
الْعَزِيزُ الذي لا يوجد مثله الْحَكِيمُ في أمره، وقضائه.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢ الى ٦]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
400
ثم قال عز وجل: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: له خزائن السموات والارض.
يعني: خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات. ويقال: معناه له نفاذ الأمر في السموات والأرض.
ثم قال: يُحْيِي وَيُمِيتُ يعني: يحيي للبعث، ويميت في الدنيا وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الإحياء والإماتة.
ثم قال عز وجل: هُوَ الْأَوَّلُ يعني: الأول قبل كل أحد وَالْآخِرُ بعد كل أحد وَالظَّاهِرُ يعني: الغالب على كل شيء وَالْباطِنُ يعني: العالم بكل شيء. ويقال: هُوَ الْأَوَّلُ يعني: مؤول كل شيء وَالْآخِرُ يعني: مؤخر كل شيء وَالظَّاهِرُ يعني: المظهر وَالْباطِنُ يعني: المبطن. ويقال: هو الْأَوَّلُ يعني: خالق الأولين وَالْآخِرُ يعني: خالق الآخرين وَالظَّاهِرُ يعني: خالق الآدميين، وهم ظاهرون. وَالْباطِنُ يعني: خالق الجن، والشياطين الذين لا يظهرون. ويقال: هُوَ الْأَوَّلُ يعني: خالق الدنيا وَالْآخِرُ يعني: خالق الآخرة. وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ يعني: عالم بالظاهر والباطن. ويقال: هُوَ الْأَوَّلُ بلا ابتداء وَالْآخِرُ بلا انتهاء. وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ يعني: منه نعمة ظاهرة. ويقال: هو الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ يعني: هو الرب الواحد.
ثم قال: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني: من أمر الدنيا والآخرة.
ثم قال عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ يعني: ما يدخل في الأرض من الماء، والكنوز، والأموات، وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات، والكنوز، والأموات، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وهو المطر، والثلج، والرزق، والملائكة، وَما يَعْرُجُ فِيها يعني: ما يصعد فيها من الملائكة، وأعمال العباد، والأرواح، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ يعني: عالم بكم، وبأعمالكم، أينما كنتم في الأرض وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم بالخير خيراً، وبالشر شراً.
ثم قال عز وجل: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
ثم قال عز وجل: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يعني: يدخل الليل في النهار، إذا جاء الليل ذهب النهار. وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يعني: يُدخل النهار في الليل، إذا جاء النهار ذهب الليل. ومعنى آخر: يعني: يدخل زيادة الليل في النهار. يعني: يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة، والنهار أقصر ما يكون تسع ساعات. والليل والنهار أربع عشرون ساعة.
401
ثم قال عز وجل: وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني: بما في القلوب من الخير والشر.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٧ الى ١١]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
ثم قال: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني: صدقوا بوحدانية الله تعالى، وصدقوا برسوله، وَأَنْفِقُوا يعني: تصدقوا في طاعة الله تعالى مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعني: مما جعلكم مالكين من المال. ويقال: معناه إن الأموال والدنيا كلها لله تعالى، فيجعل العباد مستخلفين على أمواله، وأمرهم بالنفقة، مما جعلهم خليفة فيها.
ثم بيّن ثواب الذين آمنوا فقال: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا يعني: صدقوا بوحدانية الله تعالى، وتصدقوا، لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ يعني: عظيم وهو الثواب الحسن في الجنة. ويقال: إن هذه الآية نسخت بآية الزكاة. ويقال: إنها ليست بمنسوخة، ولكنها حث على الصدقة، والنفقة في طاعة الله تعالى.
ثم قال عز وجل: وَما لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يعني: ما لكم لا تصدقون بوحدانية الله تعالى وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ قرأ بعضهم: وَالرَّسُولُ بضم اللام. يعني: ما لكم لا تؤمنون بالله، وتم الكلام.
ثم قال: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إلى توحيد الله تعالى. وقراءة العامة وَالرَّسُولُ بكسر اللام. يعني: ما لكم لا تصدقون بالله، وبرسوله حين يدعوكم، لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ يعني:
لتصدقوا بوحدانية الله تعالى وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ يعني: أخذ الله تعالى إقراركم، والميثاق حين أخرجكم من صلب آدم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: مصدقين قرأ أبو عمرو: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ بضم القاف، وكسر الخاء، على معنى فعل ما لم يسم فاعله، والباقون: يعني: أخذ الله ميثاقكم.
402
ثم قال: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ هو الذي ينزل جبريل على عبده محمد صلّى الله عليه وسلم، يقرأ عليه آياتٍ بَيِّناتٍ يعني: آيات القرآن، واضحات بين فيها الحلال، والحرام، والأمر، والنهي. لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني: يدعوكم من الشرك إلى الإيمان. ويقال:
آياتٍ بَيِّناتٍ يعني: واضحات. ويقال: آياتٍ يعني: علامات النبوة لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني: ليوفقكم الله تعالى للهدى، ويخرجكم من الكفر. وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني: هداكم لدينه، وأنزل عليكم.
ثم قال عز وجل: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني: ما لكم ألا تصدقوا، أو ألا تنفقوا أموالكم في طاعة الله.
وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: إلى الله يرجع ميراث السموات والأرض، أي:
شيء ينفعكم ترك الإنفاق، ميتون، تاركون أموالكم. ويقال: معناه: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا والأموال كلها لله تعالى وهو يأمركم بالنفقة. ويقال: أنفقوا ما دمتم في الحياة، فإنكم إن بخلتم، فإن الله هو يرثكم، ويرث أهل السموات. يعني: أنفقوا قبل أن تفنوا، وتصير كلها ميراثاً لله تعالى بعد فنائكم، وإنما ذكر لفظ الميراث، لأن العرب تعرف ما ترك الإنسان ميراثاً، فخاطبهم بما يعرفون فيما بينهم.
ثم قال: لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ يعني: لا يستوي منكم في الفضل، والثواب عند الله تعالى مَنْ أَنْفَقَ مَاله في طاعة الله مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ يعني: قاتل العدو. وفي الآية: تقديم يعني:
من أنفق وقاتل مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ يعني: فتح مكة. ونزلت الآية في شأن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار. يعني: الذين أنفقوا أموالهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقاتلوا الكفار، لا يستوي حالهم وحال غيرهم. ويقال: نزلت الآية في شأن أبي بكر رضي الله عنه كان جالساً مع نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوقعت بينهم منازعة في شيء، فنزل في تفضيل أبي بكر رضي الله عنه لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ ماله مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ يعني: من قبل ظهور الإسلام وَقاتَلَ يعني: وجاهد أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً يعني: أبا بكر رضي الله عنه مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا العدو مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ويقال: هذا التفضيل لجميع أصحابه رضي الله عنهم أجمعين. وروى سفيان عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سَيَأْتِي قَوْمٌ بَعْدَكُمْ يَحْقِرُونَ أعْمَالَكُمْ مَعَ أعْمَالِهِمْ». قالوا: يا رسول الله نحن أفضل أم هم؟ فقال: «لَوْ أنَّ أحَدَهُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً، مَا أدْرَكَ فَضْلَ أحَدِكُمْ ولا نِصْفَهُ». أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً قال الفقيه:
حدثني الخليل بن أحمد. ثنا الدبيلي. ثنا عبيد الله عن سفيان، عن زيد بن أسلم مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى قرأ ابن عامر: وَكُلٌّ وَعَدَ الله الحسنى بضم اللام. والباقون: بالنصب. فمن قرأ بالضم، صار ضمّاً لمضمر فيه، فكأنه قال: أولئك وعد الله الحسنى. ومن نصب: معناه وعد الله كلّاً الحسنى يعني: الجنة.
403
ثم قال: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني: ما أنفقتم.
ثم قال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يعني: من ذا الذي يعطي من أموال الله قرضاً حسناً. يعني: وفقاً بالإخلاص، وطلب ثواب الله تعالى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ في الحسنات، ويعطي من الثواب ما لا يحصى وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ يعني: ثواباً حسناً في الآخرة. ويقال: نزلت الآية في شأن أبي الدحداح. ويقال: هو حث لجميع المسلمين.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
ثم قال عز وجل: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يعني: في يوم القيامة على الصراط يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يعني: بتصديقهم في الدنيا، وبأعمالهم الصالحة، فيعطى لهم النور، يمضون به على الصراط، فيكون النور بين أيديهم، وأيمانهم، وعن شمائلهم، إلا أن ذكر الشمائل مضمر. وتقول لهم الملائكة: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ يعني: أبشروا هذا اليوم بكرامة الله تعالى. جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها يعني: مقيمين في الجنة، ونجوا من العذاب ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ يعني: نُصِبْ من نوركم، فتضيء معكم. وروي عن أبي أمامة الباهلي أنه قال: «بينما العباد يوم القيامة عند الصراط، إذ غشيتهم ظلمة. ثم يقسم الله تعالى النور بين عباده، فيعطي الله المؤمن نوراً، ويبقى الكافر والمنافق لا يعطيان نوراً، فكما لا يستضيء الأعمى بنور البصر، كذلك لا يستضيء الكافر والمنافق بنور الإيمان، فيقولان: انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ، فيقال لهم: قِيلَ ارْجِعُوا حيث قسم النور فيرجعون، فلا يجدون شيئاً، فيرجعون، وقد ضرب بينهم بسور. وعن الحسن البصري قال: إِنَّ المنافقين يخادعون الله، وهو خادعهم، لأنه يعطي المؤمن والمنافق نوراً، فإذا بلغوا الصِّراط، اطفىء نور المنافق، فيقول: المنافقون انْظُرُونا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ
قال: فيشفق المؤمنون حين طفئ نور المنافقين، فيقولون: عند ذلك رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا. قرأ حمزة انْظُرُونا بنصب الألف، وكسر الظاء المعجمة. والباقون:
بالضم. فمن قرأ: بالنصب، فمعناه: أمهلونا. ومن قرأ بالضم، فمعناه: انتظرونا. فقال لهم المؤمنون: ارجعوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً يعني: ارجعوا إلى الدنيا، فإنا جعلنا النور في الدنيا. ويقال: ارجعوا إلى المحشر حيث أعطينا النور، واطلبوا نوراً، فيرجعون في طلب النور، فلم يجدوا شيئاً، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ يعني: ظهر لهم. ويقال: بين أيديهم بسور.
يعني: بحائط بين أهل الجنة، وأهل النار، لَهُ بابٌ باطِنُهُ يعني: باطن السور فِيهِ الرَّحْمَةُ يعني: الجنة وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ يعني: النار. ويقال: هو السور الذي عليه أصحاب الأعراف، فيظهر بين الجنة، والنار. باب يعني: عليه: باب فيجاوز فيه المؤمنون، ويبقى المنافقون على الصراط في الظلمة يُنادُونَهُمْ من وراء السور أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يعني: ألم نكن معكم في الدنيا على دينكم، وكنا معكم في الجماعات، والصلوات، فيجيبهم المؤمنون.
قالُوا بَلى يعني: قد كنتم معنا في الدنيا، أو في الظاهر. وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني:
قد أصبتم أنفسكم حيث كفرتم في السر. ويقال: فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني: ثبتم على الكفر الأول في السر وَتَرَبَّصْتُمْ يعني: انتظرتم موت نبيكم. ويقال: تَرَبَّصْتُمْ يعني: أخرتم التوبة، وسوّفْتُمْ فيها. وَارْتَبْتُمْ يعني: شككتم في الدين، وشككتم في البعث وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ يعني: أباطيل الدنيا حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يعني: القيامة وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعني:
الشياطين. وقال الزجاج: الْغَرُورُ على ميزان فَعُول، وهو من أسماء المبالغة، وكذلك الشياطين الْغَرُورُ لأنه يغري ابن آدم كثيراً.
ثم قال: فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ يعني: في هذا اليوم وهو يوم القيامة. وقرأ ابن عامر: فاليوم لا تؤخذ بالتاء لأن الفدية مؤنثة. وقرأ الباقون: بالياء. وجمع على المعنى، لأن معنى الفدية فداء، ومعناه: لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ الفداء يعني: المنافقين وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: الذين جحدوا بتوحيد الله تعالى، مَأْواكُمُ النَّارُ يعني: مَصِيرَكُمْ إِلَى النار يعني: المنافقين، والكافرين هِيَ مَوْلاكُمْ يعني: هي أولى بكم بما أسلفتم من الذنوب وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يعني: بئس المرجع النار للكافرين، والمنافقين.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٦ الى ١٩]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
405
قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ يعني: ألم يجىء وقت تخاف قلوبهم، فترق قلوبهم. يقال: إناءً يأني إناءً إذا حان وجاء وقته وأوانه. قال الفقيه:
حدثنا الخليل بن أحمد. ثنا: أبو جعفر محمد بن إبراهيم الدبيلي. قال: حدّثنا أبو عبيد الله قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن القاسم قال، ملَّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ملة، فقالوا: حدّثنا يا رسول الله، فأنزل الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً ثم ملوا ملَّة أخرى فقالوا: حدّثنا يا رسول الله. فأنزل الله تعالى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ويقال: إن المسلمين قالوا لسلمان الفارسي: حدّثنا عن التوراة، فإن فيها عجائب. فنزل نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فكفوا عن السؤال، ثم سألوه عن ذلك، فنزلت هذه الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ يعني: ترق قلوبهم لذكر الله وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ يعني: القرآن بذكر الحلال والحرام. قرأ نافع، وعاصم، في رواية حفص وَما نَزَلَ بالتخفيف. والباقون: بالتشديد على معنى التكثير، والمبالغة.
ثم وعظهم فقال: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يعني: ولا تكونوا في القسوة كاليهود، والنصارى، من قبل خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلم فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ يعني: الأجل.
ويقال: خروج النبي صلّى الله عليه وسلم فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ يعني: جفّت، ويبست قلوبهم عن الإيمان، فلم يؤمنوا بالقرآن إلا قليل منهم وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يعني: عاصون. ويقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني: المنافقين الذين آمنوا بلسانهم دون قلوبهم. وقال أبو الدرداء: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع.
قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ يعني: يصلح الأرض، فاعتبروا بذلك بَعْدَ مَوْتِها يعني: بعد يبسها، وقحطها، فكذلك يحيي القلوب بالقرآن، ويصلح بعد قساوتها حتى تلين، كما أحيا الأرض كذلك بعد موتها بالمطر.
قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ يعني: العلامات في القرآن لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يعني: لكي تعقلوا أمر البعث كذلك إنكم أيضاً تبعثون.
قوله تعالى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ قرأ ابن كثير، وعاصم، في رواية أبي بكر إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ كليهما بالتخفيف، والباقون: بالتشديد. فمن قرأ بالتخفيف،
406
فمعناه: إن المؤمنين من الرجال، والمؤمنات من النساء، فمن صدق الله ورسوله ورضي بما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ومن قرأ: بالتشديد. يعني: المتصدقين من الرجال، والمتصدقات من النساء، فأدغمت التاء في الصاد، وشددت. وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يعني: يتصدقون، محتسبين بطبيعة أنفسهم، صادقين من قلوبهم يُضاعَفُ لَهُمْ الحسنات، والثواب بكل واحد عشرة إلى سبعمائة، إلى ما لا يحصى، وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ يعني: ثواباً حسناً في الجنة.
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني: صدّقوا بتوحيد الله، وصدقوا بجميع الرسل، أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ والصدِّيق: اسم المبالغة في الفعل. يقال: رجل صدِّيق، كثير الصدق. وقال ابن عباس رضي الله عنه: فمن آمن بالله ورسله فهو من الصدِّيقين.
ثم قال: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال مقاتل: هذا استئناف فقال: الشُّهَداءُ يعني: من استشهد عند ربهم. يعني: يطلب شهادة على الأمم لَهُمْ أَجْرُهُمْ يعني: ثوابهم وَنُورُهُمْ ويقال: هذا بناء على الأول. يعني: أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة. ويقال: معناه أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون وَأُوْلَئِكَ هُمُ الشهداء عند ربهم، ويكون لهم أجرهم، ونورهم. قال مجاهد: كل مؤمن صديق، شهيد.
ثم وصف حال الكفار فقال عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني: بوحدانية الله تعالى وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: جحدوا بالقرآن أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣)
407
ثم قال عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ يعني: باطلاً، ولهواً. يعني:
فرحاً يلهون فيها وَزِينَةٌ يعني: زينة الدنيا وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ عن الحسب وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ تفتخرون بذلك. وروى إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَامَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا».
ثم ضرب للدنيا مثلاً آخر فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ يعني: كمثل مطر نزل من السماء فينبت به الزرع، والنبات، أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ يعني: فرح الزارع بنباته، ويقال: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ يعني: الكفار بالله، لأنهم أشد إعْجاباً بزينة الدنيا من المؤمنين. ويقال: الْكُفَّارَ كناية عن الزراع، لأن الكَفْر في اللغة هو التغطية، ولهذا سمي الكافر كافراً لأنه يغطي الحق بالباطل.
فسمي الزراع كفاراً لأنهم يغطون الحب تحت الأرض، وليس ذلك الكفر الذي هو ضد الإيمان، والطريقة الأولى أحسن إن أراد به الكفار، لأن ميلهم إلى الدنيا أشد ثُمَّ يَهِيجُ يعني: ييبس فيتغير فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد خضرته ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً يعني: يابساً. ويقال:
حُطاماً يعني: هالكاً، فشبّه الدنيا بذلك، لأنه لا يبقى ما فيها، كما لا يبقى هذا النبت فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لمن افتخر بالدنيا، واختارها وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ لمن ترك الدنيا، واختار الآخرة على الدنيا. ويقال: عذاب شديد لأعدائه، ومغفرة من الله لأوليائه.
ثم قال: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يعني: كمتاع الغرور، يعني: كالمتاع الذي يتخذ من الزجاج، والخزف، يسرع إلى الفناء ولا يبقى.
ثم قال عز وجل: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: سارعوا بالأعمال الصالحة.
ويقال: بادروا بالتوبة. وقال مكحول: سابقوا إلى تكبيرة الافتتاح وَجَنَّةٍ يعني: إلى جنة عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ يعني: لو ألصقت بعضها على بعض. يعني: سبع سموات، وسبع أرضين، ومدت مد الأديم، لكان عرض الجنة أوسع من ذلك وإنما بين عرضها، ولم يبين طولها. ويقال: لو جعلت السموات والأرض لكانت الجنة بعد ذلك. هذا مثل يعني: إنها أوسع شيء رأيتموه أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني: خلقت، وهيئت للذين صدقوا بوحدانية الله تعالى، وصدقوا برسله، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يعني: ذلك الثواب فضل الله على العباد يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني: يعطيه من يشاء من عباده، وهم المؤمنون، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يعني: ذو العطاء العظيم، وذو المَنّ الجسيم.
قوله تعالى: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يعني: من قحط المطر، وغلاء السعر، وقلة النبات، ونقص الثمار، وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ من البلايا، والأمراض، والأوجاع. إِلَّا فِي كِتابٍ يعني: إلا في اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها يعني: من
408
قبل أن نخلق تلك النسمة. وذكر الربيع بن أبي صالح الأسلمي قال: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحَجَّاج أراد قتله، فبكى رجل من قومه فقال سعيد: ما يبكيك؟ قال:
لما أصابك من مصيبة. قال: فلا تبك، قد كان في علم الله تعالى أن يكون هذا. ألم تسمع قول الله تعالى: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها يعني: من قبل أن نخلقها. ويقال: قبل أن نخلق تلك النفس إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعني: هيناً، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ يعني: لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلى مَا فاتَكُمْ من الرزق والعافية، إذا علمتم أنها مكتوبة عليكم قبل خلقكم، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ يعني: بما أعطاكم في الدنيا، ولا تفتخروا بذلك وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ يعني: متكبراً، فخوراً، بنعم الله تعالى، ولا يشكروه. قرأ أبو عمرو بما أتاكم بغير مد. والباقون: بالمد.
فمن قرأ: بغير مد، فمعناه: لكيلا تفرحوا بما جاءكم من حطام الدنيا، فإنه إلى نفاد. ومن قرأ: بالمد بما أعطاكم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليس أحد إلا وهو يحزن، ويفرح. ولكن المؤمن من جعل الفرح والمصيبة صبرا.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)
ثم قال عز وجل: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يعني: لا يحب الذين يبخلون. يعني: يمسكون أموالهم، ولا يخرجون منها حق الله تعالى وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ويقال: الذين يَبْخَلُونَ.
يعني: يكتمون صفة محمد صلّى الله عليه وسلم، وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل. يعني: يكتمون صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم ونعته. وَمَنْ يَتَوَلَّ يعني: يعرض عن النفقة. ويقال: يعرض عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ
409
الْحَمِيدُ
يعني: غنيٌّ عن نفقتهم، وعن إيمانهم، الْحَمِيدُ في فعاله. قرأ حمزة، والكسائي، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بنصب الخاء، والباء. وقرأ الباقون: بضم الباء، وإسكان الخاء، ومعناهما واحد. قرأ نافع، وابن عامر: فَإِنَّ الله الغنى الحميد الذي لا غني مثله. والباقون:
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ بإثبات هو.
ثم قال: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ يعني: بالأمر، والنهي، والحلال، والحرام، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ يعني: أنزلنا عليهم الكتاب ليعلموا أمتهم وَالْمِيزانَ يعني: العدل.
ويقال: هو الميزان بعينه، أنزل على عهد نوح عليه السلام لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ يعني: لكي يقوم الناس بِالْقِسْطِ يعني: بالعدل وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ يعني: وجعلنا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعني: فيه قوة شديدة في الحرب. وعن عكرمة أنه قال: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ يعني:
أنزل الله تعالى الحديد لآدم عليه السلام، العلاة، والمطرقة، والكلبتين فيه بأس شديد.
ثم قال عز وجل: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يعني: في الحديد مَنافِعُ لِلنَّاسِ مثل السكين، والفأس، والإبرة. يعني: من معايشهم. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ يعني: ولكن يعلم الله من ينصره على عدوه وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ بقتل أعداءه كقوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ويقال:
لكي يرى الله من استعمل هذا السلام في طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلم بالغيب. يعني:
يصدق بالقلب إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ في أمره عَزِيزٌ في ملكه.
ثم قال عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ يعني: بعثناهما إلى قومهما، وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا يعني: في نسليهما النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وكان فيهم الأنبياء مثل موسى، وهارون، وداود، ويونس، وسليمان، وصالح، ونوح، وإبراهيم عليهم السلام فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يعني: كثير من ذريتهم تاركون للكتاب.
قوله عز وجل: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ يعني: وصلنا، وأَتْبَعْنَا على آثارهم بِرُسُلِنا واحداً بعد واحد وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يعني: وأرسلنا على آثارهم بعيسى ابن مريم وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ يعني: أعطيناه الإنجيل وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يعني: الذين آمنوا به، وصدقوه، واتبعوا دينه، رَأْفَةً وَرَحْمَةً يعني: المودة. والمتوادين الذين يود بعضهم بعضاً. ويقال: الرأفة على أهل دينهم، يرحم بعضهم بعضاً، وهم الذين كانوا على دين عيسى، لم يتهوَّدوا، ولم يتنصروا.
ثم استأنف الكلام فقال: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها يعني: ابتدعوا رهبانية مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ يعني: لم تكتب عليهم الرهبانية إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ وذلك أنه لما كثر المشركون، خرج المسلمون منهم، فهربوا، واعتزلوا في الغيران، واتبعوا الصوامع، فطال عليهم الأمد، ورجع بعضهم عن دين عيسى بن مريم، وابتدعوا النصرانية. قال الله تعالى:
410
ابْتَدَعُوها يعني: الرهبانية، والخروج إلى الصوامع، والتبتل للعبادة مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ يعني: ما أوجبنا عليهم، ولم نأمرهم إلا ابتغاء رضوان الله. يعني: أمرناهم بما يرضي الله تعالى لا غير ذلك. ويقال: ابْتَدَعُوها لطلب رضى الله تعالى فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها يعني: لم يحافظوا على ما أوجبوا على أنفسهم. ويقال: فما أطاعوا الله حين تهودوا، وتنصَّروا.
قال الله تعالى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ في الآخرة وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يعني: عاصين. وهم الذين تهودوا. وفي هذه الآية دليل وتنبيه للمؤمنين أن من أوجب على نفسه شيئاً، لم يكن واجباً عليه أن يتبعه، ولا يتركه، فيستحق اسم الفسق. وروي عن بعض الصحابة أنه قال: عليكم بإتمام هذه التراويح، لأنها لم تكن واجبة عليكم. فقد أوجبتموها على أنفسكم فإنكم إن تركتموها صرتم فاسقين ثم قرأ هذه الآية وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
ثم قال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ يعني: أطيعوه فيما يأمركم به، وفيما ينهاكم عنه، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد صلّى الله عليه وسلم، يعني: اثبتوا على الإسلام بعد نبيكم محمد صلّى الله عليه وسلم ويقال يا أيها الذين آمنوا بعيسى ابن مريم: آمنوا بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني: أجرين من فضله، ويقال: لما نزلت في أهل مكة أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ [القصص: ٥٤]، حزن المسلمون، فنزل فيهم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وأصل الكِفْل النصيب، يعني: نصيبين من رحمته، أحدهما: بإيمانه بنبيه قبل خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلم، والآخرة الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم.
ثم قال عز وجل: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يعني: يجعل لكم سبيلاً واضحاً تهتدون به، وَيَغْفِرْ لَكُمْ يعني: يغفر لكم ذنوبكم، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني: يغفر الذنوب للمؤمنين رَحِيمٌ بهم، لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ولا مؤكدة في الكلام، ومعناه لأن يعلموا أنهم لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء من فضل الله ورحمته، يعني:
مؤمني أهل الكتاب، يعلمون أنهم لا يقدرون من فضل الله إلا برحمته لا برحمته، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يعني: الثواب من الله تعالى يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من كان أهلا لذلك من العبادة وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يعني: هو المعطي وهو المانع والله أعلم بالصواب.
Icon