تفسير سورة التغابن

فتح البيان
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة التغابن
هي ثمانية عشرة آية بالاتفاق، وهي مدنية في قول الأكثر
وقال الضحاك، هي مكية، وقال الكلبي : هي مدنية ومكية، وقال ابن عباس : نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، وعن ابن عباس أيضا قال : نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدنية في عوف بن مالك الأشجعي شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله :﴿ يا أيها الذين آمنوا عن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ﴾ إلى آخر السورة، وعن عطاء ابن يسار نحوه.
أخرج البخاري في تاريخه.
" عن عبد الله بن عمرو قال : ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من أول سورة التغابن " ( ١ )، أخرجه ابن حبان في الضعفاء والطبراني وابن مردويه وابن عساكر مرفوعا عنه، قال ابن كثير : وهو غريب جدا بل منكر.
١.

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي ينزهه سبحانه جميع مخلوقاته التي في سمواته وأرضه، عن كل نقص وعيب، وكررت (ما) هنا، وفي قوله: (وما تعلنون) تأكيداً وتعميماً، وللاختلاف لأن تسبيح ما في السموات مخالف لتسبيح ما في الأرض كثرة وقلة، وأسرارنا مخالفة لعلانيتنا، ولم تكرر في قوله: (يعلم ما في السموات والأرض) لعدم اختلاف علمه تعالى، إذ علمه بما تحت الأرض كعلمه بما فوقها وعلمه بما كان كعلمه بما يكون.
(له الملك وله الحمد) أي يختصان به ليس لغيره منهما شيء، وما كان لعباده منهما فهو من فيضه، وراجع إليه وتقديم الظرف يفيد الاختصاص به تعالى من حيث الحقيقة لأنه مبدىء كل شيء ومبدعه فكان الملك له حقيقة دون غيره، ولأن أصول النعم وفروعها منه تعالى، فالحمد له بالحقيقة، وحمد غيره إنما يقع من حيث ظاهر الحال، وجريان النعم على يديه، والملك هو الاستيلاء، والتمكن من التصرف في كل شيء على حسب ما أراد في الأزل، قال الرازي. الملك تمام القدرة واستحكامها، يقال: ملك بين الملك
163
بالضم ومالك بين الملك بالكسر (وهو على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء.
164
(هو الذي خلقكم) أي قدر خلقكم في الأزل، وكذا قوله: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) أي مقضي بكفره وإيمانه أزلاً، وقيل: إنه خلق الخلق، ثم كفروا وآمنوا، والتقدير هو الذي خلقكم ثم وصفكم فقال: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) كقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) الآية، قالوا: فإنه خلقهم والمشي فعلهم وهذا اختيار الحسين بن الفضيل قال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله (فمنكم كافر) إلخ واحتجوا:
" بقوله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "، ذكره الخطيب، قال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر وكافر في العلانية، كعمار ابن ياسر ونحوه مما أكره على الكفر.
وقال عطاء: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ومنكم مؤمن بالله، كافر بالكواكب. قال الزجاج: إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان، والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه، لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه، لأن وجود خلاف المقدر عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل، هذا طريق أهل السنة، فمن سلك هذا أصاب الحق وسلم من مذهب الجبرية والقدرية، قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال، وهو الذي عليه جمهور الأمة وقدم الكافر على المؤمن لأنه الأغلب عند نزول القرآن، وفيه رد لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين.
(والله بما تعملون بصير) لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم.
164
" عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العبد يولد مؤمناً، ويعيش مؤمناً، ويموت مؤمناً، والعبد يولد كافراً، ويعيش كافراً، ويموت كافراً، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالسعادة، ثم يدركه ما كتب له، فيموت شقياً وإن العبد يعمل برهة من دهره بالشقاء، ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيداً "، أخرجه ابن مردويه، ثم لما ذكر سبحانه خلق العالم الصغير اتبعه بخلق العالم الكبير فقال:
165
(خلق السموات والأرض) خلقاً متلبساً (بالحق) أي بالحكمة البالغة، وقيل: خلق ذلك خلقاً يقينياً لاريب فيه، وقيل: الباء بمعنى اللام، أي خلق ذلك لإظهار الحق، وهو أن يجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ثم رجع سبحانه إلى خلق العالم الصغير كذا قال مقاتل، وقيل: المراد جميع الخلائق وهو الظاهر، أي أنه سبحانه خلقهم في أكمل صورة وأحسن تقويم، وأجمل شكل وأبهاه، لا يتمنى الإنسان أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور قال بعض الحكماء شيئان لا غاية لهما، الجمال والبيان، والتصوير والتخطيط والتشكيل.
قرأ الجمهور صوركم بضم الصاد وقرىء بكسرها.
(وإليه المصير) في الدار الآخرة لا إلى غيره.
" وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس، فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض، فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق، وقرأ أبو ذر من فاتحه التغابن خمس آيات إلى قوله: (وإليه المصير) " أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(يعلم ما في السموات والأرض) لا تخفى عليه من ذلك خافية (ويعلم ما تسرون وما تعلنون) أي ما تخفونه وما تظهرونه، والتصريح به مع اندراجه فيما قبله لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد (والله عليم بذات الصدور) جملة مقررة لما قبلها من شمول علمه لكل معلوم، وهي تذييلية، وقال الخطيب: كل واحدة من هذه الثلاث أخص مما قبلها وجمع بينها إشارة إلى أن علمه تعالى محيط بالجزئيات والكليات لا يعزب عنه شيء من الأشياء.
(ألم يأتكم)؟ استفهام توبيخ أو تقرير (نبأ الذين كفروا من قبل) أي من قبلكم، وهم كفار الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود والخطاب لكفار العرب، وقوله: (فذاقوا وبال أمرهم) معطوف عليه كفروا، عطف المسبب على السبب، وعبر عن العقوبة بالوبال إشارة إلى أنها كالشيء الثقيل المحسوس، وذلك لأن الوبال في الأصل الثقل والشدة، ومنه الوبيل للطعام الذي يثقل على المعدة، والوابل المطر الثقيل القطر، والمراد بأمرهم هنا ما وقع منهم من الكفر والمعاصي، والوبال ما أصيبوا به من عذاب الدنيا (ولهم عذاب أليم) في الآخرة وهو عذاب النار.
(ذلك) أي ما ذكر من العذاب في الدارين وهو مبتدأ وخبره (بأنه) أي بسبب أنها (كانت تأتيهم رسلهم) أي الرسل المرسلة إليهم (بالبينات) أي بالحجج الباهرة والمعجزات الظاهرة (فقالوا أبشر يهدوننا) أي قال قوم منهم لرسولهم هذا القول، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر، متعجبين من ذلك، كما قالت ثمود: (أبشراً منا واحداً نتبعه)، ومن غباوتهم أنهم أنكروا أن يكون الرسول بشراً وسلموا واعتقدوا أن الإله يكون حجراً، وأراد بالبشر الجنس ولهذا قال: يهدوننا وقد أجمل في الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام كما أجمل الخطاب والأمر في قوله: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً).
(فكفروا) بالرسل وبما جاؤوا به وقيل: كفروا بسبب هذا القول الذي
166
قالوه للرسل، فالفاء للسببية لا للتعقيب (وتولوا) أي اعرضوا عنهم، ولم يتدبروا فيما جاؤوا به (واستغنى الله) أي أظهر غناه عن إيمانهم وعبادتهم حيث لم يلجئهم ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك، وقال مقاتل: استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان، وأوضحه من المعجزات، وقيل: استغنى بسلطانه عن طاعة عباده، وقال الزمخشري: أي ظهر غناه فالسين ليست للطلب (والله غني حميد) أي غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له، محمود من كل مخلوقاته بلسان المقال والحال.
167
(زعم الذين كفروا) الزعم هو القول بالظن، وادعاء العلم، ويطلق على الكذب، قال شريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا، وهو يتعدى إلى مفعولين، وقوله: (أن لن يبعثوا) ساد مسدهما والمعنى زعم كفار العرب وهم أهل مكة كما قاله أبو حيان: أن الشأن لن يبعثوا أبداً.
" عن ابن مسعود أنه قيل له: ما سمعت النبي ﷺ يقول في (زعموا)؟ قال: سمعته يقول: بئس مطية الرجل "، أخرجه أحمد والبيهقي وغيرهما، وعنه أنه كره زعموا، ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ بأن يرد عليهم، ويبطل زعمهم فقال:
(قل بلى) هي لإيجاب النفي، فالمعنى بلى تبعثون، ثم أقسم على ذلك بقوله (وربي) وجواب القسم (لتبعثن) أي لتخرجن من قبوركم، أكد الإخبار باليمين، فإن قلت: ما معنى اليمين على شيء أنكروه، قلت: هو جائز لأن التهدد به أعظم موقعاً في القلب، فكأنه قيل لهم: ما تنكرونه كائن لا محالة (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) أي لتخبرن بذلك إقامة للحجة عليكم، ثم تجزون به (وَذَلِكَ) البعث والجزاء (عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) إذ الإعادة أيسر من الابتداء.
167
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣)
168
(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) الفاء هي الفصيحة الدالة على شرط مقدر، أي إذا كان الأمر هكذا فصدقوا يا كفار مكة بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقل باليوم الآخر على ما هو المناسب لقوله: (زعم الذين كفروا) اكتفاء بقوله: (والنور الذي أنزلنا) فإنه مشتمل على البعث والحساب، وهو القرآن، لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلال (والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم، فهو مجازيكم على ذلك:
(يوم يجمعكم) العامل في الظرف لتنبؤن قاله النحاس، وقال غيره: هو خبير، وقيل: محذوف هو أذكر، وقال أبو البقاء: هو ما دل عليه الكلام أي تتفاوتون يوم يجمعكم، قرأ الجمهور بفتح الياء وضم العين وروي إسكانها ولا وجه لذلك إلا التخفيف وإن لم يكن هذا موضعاً له كما قرىء في (وما يشعركم) بسكون الراء، وقرىء نجمعكم بالنون ومعنى (ليوم الجمع) ليوم القيامة، فإنه يجمع فيه أهل المحشر للجزاء، ويجمع فيه بين كل عامل وعمله، وبين كل نبي وأمته، وبين كل ظالم ومظلومه، وبين الأولين
168
والآخرين من الإنس والجن وجميع أهل السماء، وأهل الأرض.
(ذلك) يعني أن يوم القيامة هو (يوم التغابن) وذلك أنه يغبن فيه بعض أهل المحشر بعضاً فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر، وأهل الطاعة أهل المعصية، ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار عند دخول هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، فتركوا منازلهم التي كانوا يستنزلونها، لو لم يفعلوا ما يوجب النار، فكأن أهل النار استبدلوا الخير بالشر، والجيد بالرديء، والنعيم بالعذاب، وأهل الجنة على العكس من ذلك يقال: غبنت فلاناً إذا بايعته أو شاركته، فكان النقص عليه، والغلبة والغبن فوت الحظ، كذا قال المفسرون، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة، فإطلاق التغابن على ما يكون فيها إنما هو بطريق الاستعارة، وإن التفاعل ليس من اثنين، وكذا المغابنة على سبيل التجريد، قال ابن عباس يوم التغابن من أسماء يوم القيامة، وعنه قال: غبن أهل الجنة أهل النار.
(ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته) أي من وقع منه التصديق مع العمل الصالح استحق تكفير سيئاته (ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) قرأ الجمهور يكفر ويدخله بالتحتية وقرىء بالنون وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم (خالدين فيها أبداً) حال مقدرة فيه مراعاة معنى من (ذلك) أي ما ذكر من التكفير والإدخال (الفوز العظيم) أي الظفر الذي لا يساويه ظفر، والعظيم أعلى حالاً من الكبير الذي ذكر في سورة البروج، لأن ما فيها قد رتب على إدخال الجنات فقط، وما هنا قد رتب على الأمرين المذكورين، فهو جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع.
169
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المراد بالآيات إما التنزيلية أو ما هو أعم منها، ذكر سبحانه حال السعداء وحال الأشقياء هنا لبيان ما تقدم من التغابن، وأنه يكون سبب التكفير وإدخال الجنة للطائفة الأولى، وسبب إدخال الطائفة الثانية النار وخلودهم فيها.
(ما أصاب) كل أحد (من مصيبة) من المصائب (إلا بإذن الله) أي بقضائه وقدره قال الفراء: أي بأمر الله وقيل: بعلم الله وقيل وسبب نزولها أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله عن المصائب في الدنيا، قال ابن مسعود في الآية: هي المصيبات تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى (ومن يؤمن بالله) أي من يصدق ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما قدره الله عليه (يهد قلبه) للصبر والرضاء بالقضاء، قال مقاتل بن حيان: يهد قلبه عند المصيبة فيعلم أنها من الله فيسلم لقضائه، ويسترجع عند حلوله.
وقال سعيد بن جبير: يهد قلبه عند المصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون وقال الكلبي: هو إذا ابتلى صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر. وقال ابن عباس في الآية: يعني يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قرأ الجمهور يهد بفتح الياء وكسر الدال أي يهده الله وقرىء بضم الياء وفتح الدال على البناء للفعول ونهد بالنون ويهدأ بهمزة ساكنة ورفع قلبه أي يطمئن ويسكن (والله بكل شيء عليم) أي بليغ العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية.
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) أي هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله وطاعة رسوله في جميع الأوقات، والعمل بكتابه العزيز وسنة رسوله المطهرة (فإن توليتم) أي أعرضتم عن الطاعة (فإنما على رسولنا البلاغ المبين) وليس عليه غير ذلك، وقد فعل، وجواب الشرط محذوف، والتقدير فلا بأس أو فلا ضرر على الرسول، وهذه الجملة تعليل للجواب المحذوف، ثم أرشد إلى التوحيد والتوكل فقال:
(الله لا إله إلا هو) أي هو المستحق للعبودية دون غيره فوحدوه ولا تشركوا به (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) أي فليفوضوا أموركم إليه ويعتمدوا عليه لا على غيره، حث للرسول على التوكل على الله، والتقوى به حتى ينصره على من كذبه، وتولى عنه.
170
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
171
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) يدخل فيها الذكر والأنثى (وأولادكم عدواً لكم) يعني أنهم يعادونكم ويشغلونكم عن الخير وعن طاعة الله، أو يخاصمونكم في أمر الدين والدنيا، ويدخل في ذلك سبب النزول دخولاً أولياً (فاحذروهم) أن تطيعوهم في التخلف عن الخير كالجهاد والهجرة، فإن سبب نزول الآية الإطاعة في ذلك، والضمير يعود إلى العدو، وإنما جاز جمع الضمير لأن العدو يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، أو إلى الأزواج والأولاد، ولكن لا على العموم، بل إلى المتصفين بالعداوة منهم، قال مجاهد: والله ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن اتخذوا لهم الحرام فأعطوهم إياه، ثم أرشدهم إلى التجاوز فقال:
(وإن تعفوا) عن ذنوبهم التي ارتكبوها بترك المعاقبة (وتصفحوا) بالإعراض وترك التثريب عليها (وتغفروا) بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها وتستروها (فإن الله غفور رحيم) بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم.
" عن ابن عباس قال: هؤلاء رجال أسلموا من هل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي ﷺ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم إلى أن
171
يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا رسول الله ﷺ رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا) الآية أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ثم أخبر سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال:
172
(إنما أموالكم وأولادكم فتنة) أي بلاء واختبار وشغل عن الآخرة ومحنة، يحملونكم على كسب الحرام وتناوله، ومنع حق الله، والوقوع في العظائم، وغصب مال الغير، وأكل الباطل ونحو ذلك، فلا تطيعوهم في معصية الله، ولم يذكر من هنا كما ذكر في: إن مِنْ أزواجكم، لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما، وقدم الأموال على الأولاد لأن فتنة المال أكثر، وترك ذكر الأزواج في الفتنة قال البقاعي: لأن منهن من تكون صلاحاً وعوناً على الآخرة.
" وعن أبي بريدة قال: كان النبي ﷺ يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله ﷺ من المنبر فحملهما واحداً من ذا الشق وواحداً من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال صدق الله: إنما أموالكم وأولادكم فتنة، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما " (١) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن مردويه وابن أبي شيبة.
(والله عنده أجر عظيم) أي الجنة، وهي لمن آثر طاعة الله وترك معصيته في محبة ماله وولده، ثم أمرهم سبحانه بالتقوى والطاعة فقال:
(فاتقوا الله ما استطعتم) أي ما أطقتم وبلغ إليه جهدكم وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد إلى أن
172
هذه الآية ناسخة لقوله سبحانه: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، لأن معناه أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، فخفف الله عنهم وأنزل هذه الآية، وقال ابن عباس: هي محكمة ولا نسخ فيها، ولكن حق تقاته أن يجاهدوا فيه حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم، وقد أوضحنا الكلام على هذا في قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ).
(واسمعوا) ما تؤمرون به سماع قبول لأنه لا فائدة في مجرد السماع (وأطيعوا) الأوامر قال مقاتل: اسمعوا أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم وأطيعوا الرسول فيما يأمركم وينهاكم (وأنفقوا) من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير والطاعة ولا تبخلوا بها. وقوله: (خيراً لأنفسكم) منتصب بفعل مضمر دل عليه اتقوا، كأنه قال: ائتوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم، أو قدموا خيراً لها، كذا قال سيبويه وقال الكسائي والفراء؛ هو نعت لمصدر محذوف، أي إنفاقاً خيراً وقال أبو عبيدة: هو خبر لكان المقدرة أي يكن الإنفاق خيراً لكم، وقال أهل الكوفة: نصبه على الحال، وقيل: هو مفعول به لأنفقوا أي فأنفقوا مالاً خيراً، والظاهر في الآية الإنفاق مطلقاً من غير تقييد بالزكاة الواجبة، وقيل: المراد زكاة الفريضة، وقيل: النافلة وقيل النفقة في الجهاد.
(ومن يوق شح نفسه) فيفعل في ماله جميع ما أمر به من الإنفاق موقناً به مطمئناً إليه، ولم يمنعه ذلك منه (فأولئك هم المفلحون) أي الظافرون بكل خير، الفائزون بكل مطلوب، وقد تقدم تفسير هذه الآية مراراً.
173
(إن تقرضوا الله قرضاً حسناً) فتصرفون أموالكم في وجوه الخير بإخلاص نية، وطيب نفس وسماه قرضاً من حيث التزام الله المجازاة عليه، وفي ذكر القرض أيضاًً تلطف في الاستدعاء، وترغيب في الصدقة حيث جعلها
173
قرضاً لله، مع أن العبد إنما يقرض نفسه، لأن النفع عائد عليه قال القشيري: ويتوجه الخطاب بهذا إلى الأغنياء في بذل أموالهم، وإلى الفقراء في عدم إخلاء أوقاتهم عن مراد الحق ومراقبته على مراد أنفسهم، فالغني يقال له: آثر حكمي على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له: آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك، ذكره الخطيب.
(يضاعفه لكم) فيجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وقد تقدم تفسير هذه الآية في البقرة والحديد.
" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله استقرضت عبدي فأبى أن يقرضني، ويشتمني عبدي وهو لا يدري، يقول: وادهراه، وادهراه، وأنا الدهر، ثم تلا أبو هريرة هذه الآية " أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه (ويغفر لكم) أي يضم إلى تلك المضاعفة غفران ذنوبكم (والله شكور حليم) يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة.
174
(عالم الغيب والشهادة) أي ما غاب وما حضر لا تخفى عليه منه خافية وقيل ما استتر من سرائر القلوب وما انتشر من ظواهر الخطوب (العزيز الحكيم) أي الغالب القاهر بإظهار السيوب (١) ذو الحكمة الباهرة في الإخبار عن الغيوب، وفي صنعه، وقال ابن الأنباري: الحكيم هو المحكم لخلق الأشياء.
_________
(١) السيوب: الركاز.
174
سورة الطلاق
(إحدى أو اثنتا أو ثلاث عشرة آية)
وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع. وعن ابن عباس قال: نزلت بالمدينة.
175

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (١) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣)
177
Icon