تفسير سورة التوبة

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب زهرة التفاسير المعروف بـزهرة التفاسير .
لمؤلفه محمد أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ
(براءة)، مِن برئ منه إذا خلص في تبعته وعهدته، وبرئ براءة من عهده إذا تخلص من تبعاته و (بَرَاءَةٌ منَ اللَّهِ وَرَسولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكينَ)، أي لَا تبعة بالنسبة للذين عاهدتم، فعهودكم رد لَا يؤخذ بها.
وقالوا: نسبت العهود للذين آمنوا على أنهم هم الذين عاهدوا لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي عاهد باسمهم، كما يتعهد رئيس الدولة باسم رعاياها والمنتمين إليها، إذ هم بمقتضى عهدة الحكم هم الذين فوضوا إليه، وأسند العهد إليهم، والبراءة من العهد إلى الله تعالى، لأن هذه البراءة حكم شرعي بنقض العهد مع المشركين الذين نقضوا عهودهم، واستمروا على شركهم، - وكانوا إلبًا على المسلمين، حتى غلبوا على أمرهم، وكان ذلك في حرب المؤمنين مع أهل الطائف، وكان قد قرب زمان الأشهر الحرم، فأنهاها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ومع أن العهود المطلقة غير المحدودة بمدة قد انتهت، وبرئ الله ورسوله منها، فإن لهم أربعة أشهر، الحرب فيها حرام لَا تُبتدأ فيها، وأن الأربعة الأشهر هي الحرم، بدليل أن الله جعل نهايتها انسلاخ الأشهر، فقال: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ...).
وقوله تعالى:
(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ... (٢)
والفاء هنا لتفصيل ما يكون بعد البراءة من العهد، فذكر سبحانه أنهم في أمان من القتال لمدة أربعة أشهر هي الأشهر الحرم، وكلمة (فَسِيحُوا فِي الأَرضِ) أي سيروا فيها آمنين من القتل والقتال، ولمدة أربعة أشهر، ولكن اعلموا أنكم لَا تعجزون الله تعالى، فلا تحسبوا أنكم أمنتم إلى النهاية ولذا قال تعالى: (... وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ)
3223
عن أن ينالكم عذابه في الدنيا والآخرة، فاطمئنوا فقط في أربعة الأشهر الحرم، وقد بينها النبي - ﷺ - فذكر أنها ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، وتلك الثلاثة الأولى أشهر الحج والذهاب إليه والأوبة منه ورجب الذي بين جمادى الآخر وشعبان (١) شهر عمرة فإذا كان الله ترككم تسيحون في الأرض فلستم بمعجزى الله و (... وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) أي منزل بهم الخزي بإنزال الهزيمة بهم، وإضعاف شوكتهم، وذهاب تطاولهم، وسيطرتهم على البلاد العربية.
وإنه لكي تتجلى هذه الآيات نقتبس كلمة من الصحاح، والسورة تبين نزول هذه الآيات ومواقيت نزولها - فتح النبي - ﷺ - مكة سنة ثمان، وأناب عنه في الحج هذا العام عتاب بن أسيد، وفي سنة تسع امتنع عن أن يحج بنفسه، لأن المشركين كانوا يحجون، وكانت قريش يحجون عرايا، فلم يرد أن يراهم كذلك في الحج، وأناب أبا بكر عنه في الحج هذا العام، وقد نزلت سورة براءة في شهر شوال من هذه السنة، فأمر النبي - ﷺ - عليا أن يبلغهم أربعين آية من أولها، وقيل أقل من ذلك، فأتبع أبا بكر عليا بها، فلما دنا عليّ من أبي بكر وهو راكب العضباء ناقة رسول الله - ﷺ - سمع رغاءها فوقف وقال: هذه ناقة رسول الله - ﷺ - فلما لحق به عليّ قال أبو بكر: أمير أم مأمور، قال عليّ: بل مأمور، فلما كان يوم التروية اليوم الثامن من ذي الحجة خطب أبو بكر، وحدثهم عن مناسكهم، وقام علي رضي الله عنه وقال: إني رسول رسول الله إليكم، فقالوا: بماذا، فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية. وعن مجاهد ثلاث عشرة آية، ثم قال أمرت بأربع: ألا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتمم إلى كل ذي عهد عهده.
________
(١) عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ ".
3224
عندئذ قال من حضر من المشركين: يا عليّ، أبلغ ابن عمك أنَّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف.
وإن هذا يدل على أنهم ابتدأوا بنبذ العهد، وأن الله ورسوله عندما برأنا من العهد كانوا هم المبتدئين بالنبذ، فكانت البراءة من عهودهم مجاوبة لهم في نبذها، وأباح الله تعالى أن سيحوا في الأرض أربعة أشهر.
3225
(وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣)
قوله تعالى: (وَأَذَان مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) الواو عاطفة (أذان) على (براءة)، وبراءة هي براءة الله من الذين عاهدهم النبي - ﷺ - والمؤمنون من المشركين لنكثهم عهدهم، كما أعلنوا ذلك لعليّ رسول رسول الله - ﷺ -، ولأنهم لَا أيمان لهم، ولا عهد لهم.
أما الأذان فهو الإعلام، وهو بمعنى الإيذان، كالعطاء بمعنى الإعطاء وهو إعلام الناس جميعا مع من كان معاهدا ونكث، ومن لم يكن عاهد من المسلمين، وهو إعلام بالبراءة من المشركين، ولذا كان موضوع الإعلام أن الله بريء من المشركين وَرَسُولُهُ، فلا عهود لهم إن نكثوها ولا عهود لمن لَا عهد له من قبل، إلا إن استقاموا عليه ولم يظاهروا على المؤمنين.
(أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ منَ الْمُشْرِكينَ وَرَسُولُهُ) بالفتح على تقدير الباء، والمعنى إيذان بأن الله بريء من المشركين، وحذف الباء قبل أن. وهذا كثيرا في كلام العرب، وقرى بكسر (إن) (١) لأن الإيذان يتضمن معنى القول و (إن) تكسر بعد القول.
(وَرَسُولُهُ) بالرفع معطوفة على اسم، وهو لفظ الجلالة، وإن ذلك جائز إذ يعطف على اسم بالرفع إذا كان الخبر قد تم، ويقول الزمخشري: إنه يعطف على الضمير المقدر في (بريء)، وهو اختلاف لفظي لَا جدوى فيه من حيث المعنى.
________
(١) ليست في العشر المتواترة.
3225
وإن الإعلام الذي أعلمه اللَّه ورسوله للمشركين هو ما روي عن علي رضي الله عنه: " فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله - ﷺ - إلى أهل مكة ببراءة - فقال: ما كنتم تنادون به؛ قال: كنا ننادي أنه لَا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يطوف بالبيت عريان، وما كان بينه وبين رسول الله عهد فإن أجله أو أمده إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين، ورسوله، ولا يحج إلى هذا البيت بعد العام مشرك " (١) والرواية الراجحة التي تتفق مع المعنى القرآني هي أن يتم لكل ذي عهد عهده، لا أن يكون أربعة أشهر لَا يزيد عليها، كما ستبين ذلك الآية الآتية.
ويوم الحج الأكبر قيل هو يوم عرفة، ورجح الأكثرون أنه يوم النحر (٢)؛ لأنه وإن كان الحج عرفة لَا يتم به الحج، دمانما يتم الحج بالطواف الركن، وهو طواف الإفاضة، ويوم النحر يتوسط بين عرفة وهذا الطواف، ولأن الروايات تضافرت على أن عليا آذن يوم النحر، وقال ذلك عند العقبة.
وسمى الحج الأكبر في مقام العمرة؛ لأنهم يسمونها الحج الأصغر، ولأنه في يوم النحر تكون أكثر أعمال الحج قد أديت، وقال الحسن البصري: إنه اجتمع في الحج في السنة التاسعة المشركون والمؤمنون، وقال: وقد وافق عبادة أهل الكتاب ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده.
ونسبة هذا القول إلى التابعي المؤمن الحسن البصري وجدته في الكشاف للزمخشري وأنا أشك في نسبته إليه أو نسبة ما قاله عن اتفاق الحج مع عبادة أهل الكتاب، وتسميته بالحج الأكبر لذلك؛ لأن عبادة أهل الكتاب لَا عبرة بها عند أهل الإيمان ولا عند الله، فإنه بعد بعثة النبي - ﷺ - وجب عليهم اتباعه فيما أتى به من عبادة كما قال - ﷺ -: " لو كان موسى بن عمران حيًّا ما وسعه إلا اتباعي " (٣).
________
(١) سبق تخريجه. وسيأتي بعد.
(٢) ومما يؤيد ذلك ما رواه البخاري: الصلاة - ما يستر من العورة (٣٦٩)، ومسلم: الحج (١٣٤٧) عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ، نُؤَذِّنُ بِمِنًى: أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ".
(٣) سبق تخريجه.
3226
وبراءة الله ورسوله من المشركين تتناول عهودهم التي نكثوا فيها، وتتناول شركهم، وتتناول طريقة حجهم وفيها إيماء بمنعهِم، ولقد صرحت به - الآية الكريمة من بعد، إذ قال تعالى: (... إِنَّمَا الْمُشْرِكونَ نجسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا...) وقد فتح الله تعالى باب التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
ولذا قال تعالى: (فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْر لكُمْ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وكان الالتفات لأنه فيه انتقل من البراءة منهم إلى تقربهم إليه بفتح باب التوبة لهم بخطاب الله تعالى لهم مبشرا إن تابوا منذرا إن استمروا في غيهم، فإن تبتم عن الشرك وعن الطواف عرايا وعن عداوة الرسول فهو خير لكم، أي فالرجوع إلى الله تعالى هو خير لكم إذ تطهرون عقولكم ونفوسكم، ومجتمعكم، وما ورثتم عن جدكم إبراهيم.
(وِإن تَوَليْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) أي إن أعرضتم عن سماع الحق والاستجابة له، والإذعان، وإسلام الوجه فيجب أن تضعوا في علمكم أنكم تحادون الله تعالى، وأن الله تعالى غالب ولا يمكن أن تعجزوه فهو مالك السماوات والأرض، وهو القاهر فوق عباده، فلن تعجزوه في الدنيا والآخرة، وقد كان الالتفات بالخطاب فيه تربية المهابة، وهي تزيد الإنذار قوة.
ثم قال في بيان عذابهم في الدنيا والآخرة: (... وَبَشرِ الَّذِينَ كفَرُوا بِعَذَاب أَلِيم) أي مؤلم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بالهزائم المتوالية وفي الآخرة بالجحيم.
وفى الكلام إشارتان بيانيتان:
أولاهما: أن التبشير يكون بالخبر السار، فإذا ذكرت في الأخبار المفزعة المؤسفة، فذلك لَا يخلو من تهكم واستهزاء، ومن هذا قوله تعالى:
(وَبَشِرِ... بِعَذَابٍ أَلِيم).
3227
الثانية: في التعبير بالموصول في قوله تعالى: (الَّذِينَ كفَروا) فإنه يشير إلى أن العلة في عذابهم الأليم هي كفرهم، فإن تابوا فنعيم مقيم.
وإن الله العادل الحكيم قد استثنى من المشركين من لهم عهوِد راعوها حق رعايتها فقال:
3228
(إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عًاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكينَ)، قال الزمخشري: الاستثناء من (فَسيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهر). وأرى أن الاستثناء منِ الذين تبرأ الله تعالى من عهدهم ونبذه إليهم في قوله تعالى: (بَرَاءَةٌ منَ اللَّهِ وَرسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتم مِنَ الْمًشْرِكينَ)، فكان الاستثناء من هؤلاء أي أن الله بريء من عهد هؤلاء؛ لأنهم خاضوا في عهدهم ونقضوه، وقد رأيت أنهم بادروا بالنقض عندما أخبرهم عليّ كرم الله وجهه أنه لَا يدخل البيت الحرام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان... فبادروا بنقض عهودهم، وقالوا ليس بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن بالرماح، والضرب بالسيوف.
أما الذين وفوا بعهودهم ولم ينقضوا شيئا منها، ولم يظاهروا عليكم أحدا فعهدهم باق مستمر، وليس الكفر وحده؛ فقد كان التعاقد وهم كفار وهذا قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا) والتعبير بـ (ثُمَّ) للدلالة على دوام وفائهم، وأنهم مع كونهم عرضة للنكث والنقض كإخوانهم المشركين ضبطوا أنفسهم ولم ينكثوا في عهدهم، ولم ينقصوا المسلمين - مع بغضهم لأهل الإيمان - شيئا من شروط العهد، بل وفوا به حق الوفاء، والوفاء جدير بالوفاء من أهل الإيمان كما قال تعالى: (... وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، وكما وصفهم الله تعالى بأنهم لم ينقصوكم شينا مما عاهدوا عليه - ذكر وصفا دالا على الوفاء والمبالغة فيه، فقال تعالى: (وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا) أي لم يعاونوا أحدا من أعدائكم بأن يكونوا في ظهره يدفعونه إلى اللجاجة في عهدكم كما فعل بنو النضير وقريظة، وغيرهم من أعداء
3228
الله الذين عاهدوا النبي - ﷺ - ثم ظاهروا المشركين، وعاونوهم، وأظهروا عورات المؤمنين.
وهناك في قوله تعالى: (لَمْ يَنقُصُوكُمْ) بالصاد المهملة قراءة أخرى بالضاد المعجمة (١)، أي لم ينقضوكم شيئا من النقض، ولو في جزئية من جزئيات العهد أي وفوا وفاء كاملا لَا نقض فيه.
وقال تعالى: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنهم إن وفوا ولم ينقصوا ولم يظاهروا عليكم فأوفوا لهم، وأتموا عهدهم إلى مدتهم. وأضاف العهد إليهم باعتبار أن متعة الانتفاع بالعهد لهم، وأضاف المدة إليهم لأنهم الذين ينتفعون بهذه المدة كما انتفعوا بالعهد ذاته، ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (... إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون الله تعالى بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب النار وقاية، ومن التقوى الوفاء بالعهد، فهي تعليل للاستثناء، وتمام العهد أن الوفاء في العهد من تمام التقوى، ومن فضل الأقوياء.
هذا شأن الذين وفوا بعهودهم، أما الذين لم يوفوا بعهودهم فإنهم يسيحون أربعة أشهر يحرم فيها القتال، وبعد ذلك يكون القتال.
* * *
قال تعالى:
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (٦)
________
(١) ليست في العشر المتواتر ".
3229
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨)
* * *
قوله:
3230
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) يقال: سلخت الشهر إذا صرت في آخر أيامه، أي إذا مضت الأشهر الحرم وانتهت، والأشهر الحرم يقول الزمخشري: إنها التي حرم فيها القتال من وقت الحج الأكبر وهي من عشرة ذي الحجة، وهي أربعة تنتهي بعشرة من ربيع الأول، ولم يذكر أنها الأشهر الحرم الأربعة المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ...) وقد بينها النبي - ﷺ - بأنها ثلاثة سرد، وواحد فرد، الثلاثة ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، والواحد الفرد رجب الذي بين جمادى وشعبان.
والأكثرون على أن الأشهر الحرم في هذه الآية هي هذه الأربعة التي بينها النبي - ﷺ -، وانسلاخها أي يكون القتال فيما عداها، سواء أكانت بعد انتهاء الثلاثة السرد أم بعد انتهاء رجب، أي لَا قتال في الثلاثة، ويجوز القتال بعدها إلى رجب، ثم يستأنف بعد رجب؛ وذلك ليكون الطريق إلى الحج مأمونا، ولتكون بين المتقاتلين هدنة ترجع فيها القضب إلى أجفانها، وتستيقظ العقول، ولقد قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ...).
3230
ويقول تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) لأنه قد أصبح دمهم مباحا، فقد نقضوا العهد، ولم يدخلوا في الإسلام، وقد تحدوا الله ورسوله، وأشركوا، والعلاقة في أصلها كانت حربا انتهت بالعهد فنقضوه، وقد أعطاهم مهلة ساحوا فيها في الأرض آمنين، ولم يحدثوا توبة ورجوعا إلى الحق، فلم يبق إلا القتال. وقوله تعالى: (حيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ) يشمل الحل والحرم؛ لأنهم ممنوعون من المسجد الحرام، وهم مقاتلون، والله تعالى يقول: (... وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ...).
(وَخُذُوهُمْ) أي شدوا الوثاق، فقد أثخنتموهم، وغلبتم عليهم فلكم أن تأسروا منهم من تشاءون، (وَاحْصُرُوهُمْ) أي امنعوهم من التقلب في البلاد، وعن ابن عباس: أي امنعوهم من المسجد الحرام لَا يدخلوه؛ لأن النبي - ﷺ - بأمر ربه قرر ألا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا.
ثم قال تعالى: (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي في كل ممر، يعني اتخذوا القتل والتتبع المستمر لهم في كل ممر، وكل مرصد " ظرف " أي اقعدوا لهم في كل مكان مترصدين لهم، لَا ينجون منكم ما داموا على كفرهم، والله تعالى يفتح باب التوبة دائما، ولذا قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) التوبة هنا ترك الشرك، وذكر الله التوبة، وذكر بعدها إقامة الصلاة؛ وإيتاء الزكاة؛ لأن هذا - يجعل الإيمان صادقا من غير نفاق وفيه خضوع لأوامر الله تعالى واتباع لأوامره، ونواهيه، ولأنه لابد للإيمان من شواهد. وقال في جواب الشرط (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي افتحوا الطريق أمامهم، ولا ترهقوهم بقتل ولا أسر، ولا منع من البيت، وعن ابن عباس: دعوهم وإتيان المسجد الحرام.
وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رحِيمٌ) أي إن الله تعالى كثير المغفرة وكثير الرحمة، وقد أكد الله سبحانه وتعالى غفرانه ورحمته بـ " إنَّ " الدالة على التأكيد، وبالجملة الاسمية، وبصيغ الصفة المشبهة الدالة على الدوام والاستمرار لغفرانه ورحمته.
3231
(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (٦)
لقد أرسل محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - داعيا إلى الحق وصراط مستقيم، ولم يرسل للقتال والغلب، وما كان القتال إلا لمنع الفتنة في الدين، وتأمين الدعوة، ولذلك فتح الباب للدعوة في كل الميادين، في الحرب وفي السلم، في العهد وفي نكث العهد على سواء، فأولئك الذين نكثوا عهودهم وأبيحت دماؤهم - يقتلون حيثما كانوا، وإذا جاء أحدهم يطلب جوار التجارة أو رسالة، أو لمجرد الأمان فإنه يجاب، ويكون في أمن المؤمنين، حتى يسمع كلام الله ويفهمه ويتدبره، ثم يبلغ مأمنه، ولذا قال سبحانه: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) ولقد قال النحويون إن كلمة (أحد) فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعد (أحد)، ولأن (إنْ) لَا تدخل على الاسم، فيقدر لها فعل، ويكون نسق القول، وإن استجارك أحد من المشركين، وهنا يسأل السائل لِمَ قُدِم أحد، واحتجنا لسياق النحو إلى هذا التأويل؟ والجواب عن ذلك، أن الاهتمام لهذا الترك أولا لا للاستجارة في ذاتها؛ لأنه المقصود إذ هدايته مطلوبة أولا وبالذات، وليست الاستجارة هي المطلوبة، والاستجارة طلب الجوار بأن يعيش في أمن دولة، والجوار هذا أمان مؤقت حتى يسمع كلام الله ويتفهمه ويتعرف معنى الوحدانية، وبطلان الشرك، ويسمعه النبي - ﷺ - تعاليم الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأعمال الخير والوفاء بالعهد والتراحم وغير ذلك من مبادئ الإسلام، وكلام الله تعالى إما أن نفسره بالمعنى الخاص، وهو القرآن الكريم، وسماع تلاوته وتفهم معانيه ومراميه، وذلك خير في ذاته، وهو سجل الإسلام في كلياته، وإما أن نفسره بمعناه العام وهو الإسلام؛ لأن أوامر الإسلام ونواهيه كلها ترجع إلى كلام الله تعالى لأنها منه، وما كان محمد ينطق عن الهوى.. (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥).
3232
وبعد أن يسمع كلام الله تعالى، إما أن يؤمن وذلك خير، ويكون من المؤمنين، وإما أن يستمر على ما هو عليه، وهنا سيتبين الخلق المحمدي الإسلامي بأمر الله، ولذا قال تعالى آمرا نبيه (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) والعطف بـ (ثم) هنا في موضعه إذ إن معناه أن يسمع ويتفهم ويتدبر ويعلم، ويعطي فرصة من الوقت يراجع نفسه فيها بين خير يرتجى، والبقاء على ما هو عليه، فإن اختار الخير، فقد اختار لنفسه، وإن اختار الأخرى فلا إكراه في الدين، والمأمن هو مكان الأمن له حيث داره وأهله، وقوله تعالى: (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) معناه توصيله إلى حيث أمنه؛ بأن يصحبه أحد من المؤمنين حتى لَا يدركه أحد فيقتله بمقتضى قوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).
وإن ذلك لتقريب المشركين وتأليف قلوبهم، فلا يقرب إلى الإيمان شيء إلا تأليف القلوب بالمودة والحسنى، وليتمكن كل مشرك من أن يتعلم الإسلام ومبادئه، فالنبي هاد، ولم يجئ بالحرب إلا لمنع الشر من أن يستشري ويفسد، ولذا قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) الإشارة إلى الأمان وسماع القرآن سماع وعي وتدبر واتباع للأحسن، وكله حسن، بسبب أنهم جماعة جاهلة، والجاهل يُعَلَّم فلا يسأل عن جهله حتى يعُلَّم، والتعبير بـ (قوم) إشارة إلى أنهم جماعة جمعهم الجهل فكانوا كالقوم.
ولا شك أن هذا الجوار أمان مؤقت أعطاه الله تعالى نبيه عليه السلام باعتباره إمام المسلمين، فيُعطاه كل إمام من بعده، وقد أعطاه النبي - ﷺ - لكل واحد من المؤمنين، فقد قال - ﷺ -: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعي بذمتهم أدناهم " (١)
أي إن أقل المؤمنين شأنا يستطيع أن يؤمَن من يشاء من المشركين، فكل بالغ عاقل ذكرا كان أو أنثى له أن يعقد عقد الأمان، والعبد له ذلك، وكان أبو حنيفة لا يجيز أمان العبد؛ لأنه يجوز عنده أن يؤسر شخص ويسلم فيؤمن من كان معه،
________
(١) سبق تخريجه.
3233
ولكنه بلغه من بعد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن عبدا أمَّن أهل حصن فأجاز أمانه، فكان من بعد ذلك يجيز أمان العبد إذا خرج للقتال مع مالكه، والله نعم المعين، ولقد روي عن سعيد بن جبير أنه جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: " وإن أراد الرجل بعد انقضاء الأجل أن يأتي محمدا ليسمع كلامه أو يأتيه لحاجة قتل؛ قال: لَا؛ لأن الله تعالى يقول: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ).
قال تعالى في عهود المشركين:
3234
(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)
بين الله سبحاثه وتعالى في هذه الآية استبعاد أن يوفي المشركون بعهودهم، أو على الأقل بيّن أنه لَا يصح للنبي - ﷺ - ومن معه أن ينتظروا الوفاء من المشركين؛ لأنهم خانوا الله ورسوله، ومن يخُن الله ورسوله فهو قد استمرأ النفاق، والنفاق والوفاء بالعهد نقيضان لَا يجتمعان، ومن أمارة المنافق أنه إذا وعد أخلف.
(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) الاستفهام للتعجب والاستنكار بمعنى النفي، فهذا إنكار للوقوع، أي كيف يتوقع عند الله ورسوله أن يفوا بعهدهم لهما، واذا كانوا كذلك فليس من المعقول أن يوفي الله تعالى لهم بعهد؛ لأن العهود توجب حقوقا وواجبات متبادلة، فمن توقع عدم الوفاء وتأكد له النكث في العهد، فليس عليه وفاء.
وقد نفَى الله بهذا أن يكون عند المشركين وفاء بعهد لله ولرسوله، وبالمثل لا يتوقعون الوفاء بعهد نكثوا فيه من جانبهم، ولكن كان من المعاهدين من المشركين من يتوقع الوفاء، فهؤلاء لَا يرد إليهم عهدهم، ولذلك استثناهم الله سبحانه وتعالى، وهو العادل في قوله وحكمه فقال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وهم عند ابن كثير أهل الحديبية، وقد وفَّى النبي - ﷺ - حتى
3234
نقضوا العهد فأعانوا بني بكر، وكانوا في حلفهم على خزاعة، وكانوا في حلف النبي - ﷺ -، واستغاثوا بالنبي - ﷺ - فأغاثهم وفتح، ولكن يلاحظ أن وقائع العهود كانت بعد فتح مكة، ولذا يجب أن يكون هؤلاء غير أهل الحديبية، ويجب أن تكون عهودهم بعد الفتح، وقد ذكر الزمخشري أن منهم بني كنانة وبني ضمرة.
الاستثناء هنا في معنى المنقطع، لأنهم مغايرون للأولين الذين كان منهم النكث، ولذلك ذكر الزمخشري أن الاستثناء هنا بمعنى (لكن)، فهو استدراك وليس استثناء متصلا، وقد بين الله تعالى طريق معاملتهم فقال سبحانه وتعالى: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) و " ما " هنا شرطية دالة على دوام الاستقامة في الوفاء بالعهد إذا أقاموه على وجهه من غير خيسٍ (١) فيه، ولا نقض لأي جزء من أجزائه، (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فاقيموا العهد، والعهود كما قلنا حقوق وواجبات متبادلة.
وإن الوفاء بالعهد من التقوى، إذ هو يُرضي الله، ويقوي الأمة، وهو من أفضل الأخلاق، ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله خالى: (إِنَّ اللَّهَ يحِبُّ الْمتَّقِينَ).
وهنا إشارة بيانية، وهي قوله تعالى: (كَيْفَ يَكُون لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ) فلماذا تكررت العندية مع أن ما يكون عهدا عند الله يكون عهدا عند النبي - ﷺ -. ونقول: إن تكرار العندية للإشارة إلى مقدار نكثهم للعهد، فهم نكثوا عهد الرسول، وتلك جريمة، ونكثوا عهد الله وهو العليم بذات الصدور، العليم بكل شيء.
________
(١) الخَيس: نقض العهد، وعَنْ أبي رَافِعٍ، قَالَ: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ (جمع بريد، وهم الرسل)، وَلَكِنِ ارْجِعْ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ». قَالَ: فَذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ قَالَ: بُكَيْرٌ وَأَخْبَرَنِي: «أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ قِبْطِيًّا ". رواه أبو داود: (٢٧٥٨)، َ وأحمد: باقي مسند الأنصار - حديث أبي رافع رضي الله عنه (٥ ٢٣٣٤).
3235
ويقول تعالى في إثبات أنهم لَا يصدقون في عهد ما داموا ينكثون:
3236
(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨)
(كيف) هنا للاستفهام الإنكاري مع التعجب، وهي داخلة على ما دخلت عليه (كيف) السابقة. أي كيف يكون للمشركين عهد عند الله ورسوله والحال أنهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً)...
يقال ظهر عليه إذا غلبه وانتصر عليه، وظَهَر الحائط أعلاه، وكقوله تعالى في السَّد في سورة الكهف: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧).
و (الإل) يطلق بمعنى الحلف والعهد، ويطلق بمعنى الرحم والقرابة، ومعنى قوله تعالى: (وَإن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) بأن ينتصروا عليكم لَا يراعوا رحما ولا قرابة، ولا جامعة بينكم وبينهم، (وَلا ذِمَّةً)، أي عقدا تربطون به دينكم، فهم يرضونكم بأفواههم لَا بقلوبهم.
والمعنى الجملي، كيف يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله وحالهم أن ذلك عهد لكم وأنتم أقوياء غالبون ظاهرون عليهم، فإن يظهروا عليكم لَا يرقبوا فيكم رحما واصلة، ولا عهدا عاهدوه، فإن ذلك العهد كان لإرضائكم لَا للوفاء، وهم ينقضون ذلك العهد عند أول فرصة يفترصونها، ويحسون فيها القوة، ولا عهد لذليل، وهذا عهد الأذلاء يعقدونه للإرضاء لَا للوفاء، ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى، وتعالت كلماته (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) فما أعدل الله تعالى في كلماته، نسب الفسق وعدم انضباط النفس وانحلالها بحيث لَا تصبر على العهد - إلى أكثرهم لَا إلى كلهم، ولكن هذا أثر هو الغالب فيهم الذي أفسدهم وجعل فيهم رأيا عاما فاسدا، لَا وفاء فيه ولا إيمان بحق ولا بعهد.
ولقد وصف الله تعالى عهدهم بوصف يدل على أنه عهد لَا يبعث عليه إلا النفاق، فيقول عز من قائل: (يُرْضُونَكُم بِأفْوَاهِهِمْ وَتَأبَى قُلُوبُهُمْ) وهذا معنى
3236
مصور لما انبعث به عهدهم، فهو عهد للإرضاء بالقول الذي ينقصه القلب ولا يؤيده، فهم يحاولون فيه الإرضاء بالأفواه فقط، وتأبى قلوبهم أي تمتنع عن الموافقة على ما تنطق ألسنتهم، وكيف يكون هذا عهدا عند الله علام الغيوب، وعند رسوله الذي يعرف قلوبهم من لحن القول، ولقد وصفهم تميم بن مقبل في شعره، فقال:
أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإل وأعراق الرحم
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وجدناهمو كاذبا إلُّهُم وذو الإل والعهد لَا يكذب
* * *
أوصاف المشركين في عهودهم
قال تعالى:
(اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
* * *
إن الصفة العامة في المشركين أنهم غرتهم الحياة الدنيا والأماني فيها، والأهواء ومتاع الحياة الدنيا، فكان الوصف العام أنهم اشتروا بآيات الله ثمنا
3237
قليلًا، وآيات الله تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته، إذ هو الذي خلق كل شيء بديع السماوات والأرض، وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، وأنه وحده الجدير بأن يعبد ولا معبود بحق سواه، وقد بعث الله تعالى محمدا رسولا، مبشرا ونذيرا، ومعه القرآن الحجة الكبرى القائمة إلى يوم القيامة، كانت هذه الآيات كونية ومتلوة تدعوهم للإيمان، وعدم الشرك، ولكنهم تركوها، ولم يلتفتوا إليها، واستبدلوا بها هواءهم، ومتعهم من سلطان غرَّهم، وذلك ثمن بخس قليل لَا يساوي شيئا بجوار ما تركوه من حق خالد.
وهذا معنى قوله تعالى:
3238
(اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)، أي باعوها بثمن هو عرض من أعراض الدنيا وهو قليل بجوار الحقائق الخالدة التي فيها الصلاح في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: (فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ)، أي إنهم بسبب اختيارهم ذلك الثمن القليل، وتركهم ذلك الحظ الوفير من الحق وسلامة الفكر، والهداية والرشاد، قد عدلوا عن الطريق، وصدوا أنفسهم عنه، وصرفوا غيرهم منه، فصدوا عن السبيل القويم والهدى المستقيم.
ولقد بين سبحانه وتعالى الحكم الصادق عليهم، فقال تعالت كلماته:
(إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنهم بهذا العمل الذي تركوا فيه الآيات التي تلوح بالحق وتبينه قد ساء فعلهم الذي استمروا عليه، وهو يتجدد آنًا بعد آنٍ فهو فعل مستمر. ونلاحظ هنا ثلاثة أمور.
أولها: أن قوله تعالى: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) فيه استعارة تمثيلية إذ شبه حالهم في تركهم الحق الواضح البين الذي يأتي بأطيب النتائج والثمرات، بمن يترك بضائع قيمة في مقابل ثمن بخس لَا يجدي ولا يغني.
ثانيها: بيان أن ترك الوفاء بالعهد لاتباع الهوى والخيانة وهو خسارة لا كسب فيها.
3238
ثالثها: أن قوله تعالى: (سَاءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) فيه معنى التعجب، أي ما أسوأ ما كانوا يعملون، وأن الفعل المضارع يدل على تجدد حالهم الفاسدة، و (كَانُوا) دالة على دوام هذه الحال فيهم.
ثمِ بين سبحانه حالا عامة مستمرة فيهم فقال تعالى:
3239
(لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
وهنا نجد النص السامي التفت من الخطاب إلى الغيبة؛ إذ كان في الآيات (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً)، وهذا النص السامي (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) وذلك الوصف يؤذن بالعلة، أي أن السبب في أنهم لَا يرعون رحما، ولا عهدا، هو الإيمان، فالإيمان الحق والإذعان لله تعالى وتوحيده هو السبب في أنهم لَا يراعون فيكم رحما واصلة، ولا مودة راحمة، ولا عهدا يعاهدونكم فيه، إنه إيمانكم هو الذي صرفهم إلى النكث في العهود.
وإنه إذا كان الحق هو الذي جعلهم ينكثون في عهودهم (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ).
الإشارة في (أولئك) إلى أوصافهم في أنهم لَا يراعون قرابة ولا عهدا، يقطعون القرابة وينقضون الميثاق، والإشارة إلى هذه الأوصاف تومئ إلى أنها علة الحكم، وهو الحكم عليهم بالاعتداء، فقد اعتدوا على الحق في ذاته، واعتدوا على القرابة التي لم يراعوها حق رعايتها، ونكثوا في أيمانهم، وذلك أعظم اعتداء.
وقوله تعالى: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) فيه تأكيد الاعتداء من وجوه:
أولها - في التعبير بالإشارة المتضمن لصفاتهم التي هي سبب الحكم.
ثانيها - ضمير الفصل الذي يؤكد الحكم.
ثالثها - القصر بالحكم بأنهم المعتدون وحدهم؛ لأن تعريف الطرفين يدل على الاختصاص، أي أنهم اختصوا بالاعتداء، وليس بمعتد عليهم من لَا يأخذ بعهدهم.
3239
ومع هذا الاعتداء فإن باب التوبة مفتوح لم يغلق، ولذا قال تعالى:
3240
(فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
(الفاء) هنا لترتيب نسق القرآن. وقوله تعالى: (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) وقد قرن إقامة الصلاة وأداء الزكاة؛ لأنها أمارات الإيمان العملية، ولكي يخرج الكافر مما كان عليه لَا بد من مظهر عملي دال على الخروج مما كان عليه، فإنه كان يسجد للأوثان، ويتصدق على سدنتها، فكان حقا أن يكون منه نقيض ذلك بأن يسجد لله، قام الصلاة، وأن يتصدق على الفقراء، ولذلك اشترط أبو حنيفة للإيمان ألا يكون منه ما يدل على بقائه على دينه الجديد.
فكانت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة دليلا على انخلاعه من دينه القديم، وأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تثبت الإيمان، وبيان الإذعان الكامل لما أمر الله تعالى به، ونهى عنه.
وعندما كانت الردة عقب انتقال النبي - ﷺ - إلى الرفيق الأعلى كان أبو بكر لا يقبل من المرتدين مجرد التوبة والإنابة إلى الله تعالى، لَا يقبل التوبة إلا إذا كان معها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكان منهم من أقام الصلاة، ولم يعط الزكاة، فلم يقبل منهم أبو بكر واعتبرهم لَا يزالون على ردتهم، وذلك أولا: لأنه قرن كل توبة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وثانيا لأن إعطاء الزكاة أمارة الخضوع للدولة الإسلامية، وعدم التمرد عليها، ولذا قال رضي الله عنه ردا على من لم يعط الزكاة " سلم مخزية أو حرب مجلية ". وذلك حق لكي تقوم الدولة الإسلامية موطدة الأركان ثابتة الدعائم غير مضطربة ولا مزلزلة، وجواب الشرط (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) هو قوله تعالى: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فقد دخلوا في الإسلام، وصاروا إخوانكم، وعبَر بقوله تعالى: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) للإشارة إلى أنهم دخلوا في الأخوة الإسلامية، وهي عهد الله الجامع الذي لَا تفرق فيه، ولا تتجافى القلوب بل تتواد وتتراحم بعرى الإيمان الوثيقة.
3240
ولقد روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: " من فرق بين ثلاث فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة: من قال: أطيع الله ولا أطيع الرسول، والله تعالى يقول:
(... أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ...)، ومن أقام الصلاة ولم يؤد الزكاة والله تعالى يقول: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ...) ومن فرق بين شكر الله وشكر والديه والله تعالى يقول: (... أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ...) ألقمان، (١).
وعن أنس بن مالك أن رسول الله - ﷺ - قال: " من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته لَا يشرك به شيئا، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة فارقها والله عنه راضٍ، وهو دين الله الذي جاءت به الرسل، وبلغوه عن ربهم " (٢).
وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ)، أي نبين آيات الله لقوم يعلمون، أي من شأنهم أن يعلموا الحقائق، ويدركوا مراميها وغاياتها.
وبعد أن بين الله سبحانه حال الذين ينخلعون من عبادة الأوثان، ويتوبون لله ويرجعون إليه ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، بين ما يعامل به الذين يستمرون في غيهم، وينقضون عهودهم ويطعنون في الدين وما يعاملون به، فقال تعالى:
________
(١) ورد في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلَّا بِحَقِّهِ [ص: ٩٤] وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ "، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: «فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ ". رواه البخاري: الزكاة - وجوب الزكاة (١٤٠٠)، ومسلم: الأيمان - الأمر بقتال الناس حتى يقولوا (٢٠).
وروى الترمذي: البيوع - ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين، أو بين الوالدة وولدها (١٢٨٣)، كما رواه أحمد والدارمي.
(٢) رواه ابن ماجه في سننه: المقدمة - في الأيمان (٧٠).
3241
(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
النكث: النقض للشيء المفتول بفكه بعد أن أحكم فتله، وقوله:
(أَيْمَانَهُمْ) أي عهودهم، وذكرت الأيمان وهي جمع يمين بدل العهود؛ لأنها تقوى وتوثق بالأيمان، ولأن نقض يمين أشد شناعة وأدل على انحلال النفس والذمة، وبُعد الثقة فيهم، وقال تعالى: (مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) الذي عاهدوه ووثقوه بأيمان الله. ولم يكتفوا بنكث الأيمان ونقض العهود، بل طعنوا في دينكم وبسب النبي - ﷺ - بالطعن في عقيدة التوحيد التي هي من الدين.
وإن موضوع الآية فيه تخريجان أحدهما: أن موضوعها الذين دخلوا في الإسلام، وارتدوا ونقضوا أيمانهم. ويقول الزمخشري في ذلك: صاروا إخوانا في الدين ثم رجعوا فارتدوا عنه ونكثوا ما بايعوا عليه من الأيمان، والوفاء بالعهود وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمد بشيء فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدير فيه.
وعلى ذلك يكون الذين نكثوا هم الذين كانوا قد أعلنوا التوبة ثم ارتدوا بعد إسلام.
وإنا نرى أن هؤلاء غير الذين تابوا وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وكانوا إخوانا للمؤمنين، وإنما موضوع الآية قوم آخرون نكثوا عهودهم التي وثقوها بالأيمان، ولم يكتفوا بذلك، بل أخذوا يطعنون في الدين، ويفترون عليه الافتراءات المختلفة.
وإن هؤلاء يقاتلون، ولذا قال تعالى: (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) وأظهر في موضع الإضمار، ولم يقل فقاتلوهم، وكان ذلك الإظهار لبيان أن هؤلاء أئمة الكفر وقادته ودعاته، والمحاربون للدعوة الإسلامية، وإن ذلك يسوغ قتالهم لمنعهم من أن يفتنوا المؤمنين في دينهم.
3242
وبين سبحانه وتعالى السبب في قتالهم فقال: (إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ)، أي إنهم لَا عهود لهم، ولو وثقوا بالأيمان فلا أيمان لهم، وقرئ بكسر الهمزة (لا إيمان لهم) (١)، أي أن نفوسهم منحلة لَا يجزمون بشيء ولا يذعنون لشيء، لا بعهد قطعوه على أنفسهم، ولا غيره، بل هم جائرون بائرون ليس عندهم شرف الوفاء العربي، والاحتفاظ بالكلمة.
ثم قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) أي رجاء أن ينتهوا عن غيهم، ويقمعهم إرهاب السيف، ومن لم تقنعه الحجة والبرهان والآيات تتلوها الآيات، فالحديد فيه باس شديد ومنافع للناس.
هذا وقد استنبط الفقهاء من هذه الآية بأن الذمي أو الحربي إذا طعن في الإسلام يقتل، فليعتبِر الذين حماهم الإسلام من ذل الرومان، وقد دأبوا على الطعن في النبي - ﷺ -، والقرآن والإسلام حتى صار الإسلام غريبا في بلاده، اللهم هب للمسلمين حاكما ينفذ القرآن، وقد كان الصحابة يقتلون من يسب النبي - ﷺ - ولو بالتعريض.
يروى في ذلك أن رجلا في مجلس على كرم الله وجهه قال: ما قتل كعب ابن الأشرف إلا غدرا، وكان النبي - ﷺ - أوصى بقتله فأمر عليا بضرب عنق قائل ذلك القول.
وقاله آخر في مجلس معاوية فما فعل شيئا، فقام محمد بن مسلمة فقال:
أيقال هذا في مجلسك وتسكت!!، والله لَا أساكنك تحت سقف أبدا.
ولا عجب، فعلي فارس الإسلام، وقامع الكفر، ومعاوية الطليق ابن الطليق، وقد ابتدأت غربة الإسلام في عهده، اللهم أعز الإسلام وآوه بعد غربته.
* * *
________
(١) قراءة (لا إيمان) بكر الهمزة، أول موضع للقراءات المتواترة في سورة التوبة، وبها قرأ ابن عامر، وقرأ الباقون: (لا أيمان) بفتح الهمزة. غاية الاختصار في قراه ات العشرة أئمة الأنصار - الهمذانى العطار - تحقيق الدكتور أشرف محمد فؤاد طلعت - مكتبة التوعية الاسلامية [ج ٢، ص ٥٠٧، برقم (٩٧٤)].
3243
قتال المشرك عبادة
قال تعالى:
(أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
* * *
هذه الآيات الكريمة تحريض على قتال المشركين الذين لم يوفوا بعهودهم، وآذوا النبي وأصحابه بمكة وأرادوا إخراج الرسول، وبدءوهم بالقتال.
فقال تعالى:
3244
(أَلا تُقَاتِلُونَ) و (ألا) أداة تحريض، وأصلها همزة الاستفهام دخلت على (لا) النافية، والاستفهام إنكاري بمعنى نفي الواقع، فالمعنى قاتلوا قوما كانت منهم هذه الأفعال، قال الزمخشري في معنى (ألا) دخلت الهمزة على (لا تقاتلون) تقريرا بانتفاء المقاتلة، ومعناه: الحض عليها على سبيل المبالغة.
وقد بين الله تعالى أسباب الحض على القتال من أعمال المشركين الذين قاموا بها، فذكر هذه الأعمال على أنها مبررة لوجوب القتال، ووبخهم على السكوت مع هذه الأعمال، وهي النكث في العهد فقال: (أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ) نقضوا عهودهم، ويشير سبحانه إلى نقضهم معاهدة الحديبية، فقد نقضوها بمعاونة بني بكر الذين كانوا في عهدهم مع خزاعة الذين كانوا في حلف
3244
النبي - ﷺ -، فكان ذلك نقضا للعهد، ونقض العهود مفسد للعلاقات، وقاطع للمودة التي أنشاها العهد، ومن ينقض العهد لَا حرمة له بهذا العهد، ومن يرضى بأن ينقض عهده في حليفه، فهو يرضى بالذلة ولا يرضى بالمذلة عزيز كريم.
وهموا بإِخراج الرسول فهم في مكة آذوا المسلمين وعذبوا الضعفاء، وسخروا من الشرفاء، حتى خرجوا مهاجرين إلى الحبشة مرتين، وقد كان هذا الإيذاء المتوالي إخراجا للمؤمنين، ولقد قال تعالى: (... يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبكمْ...)، وإن هذا الاستفزاز الشديد الذي لقيه النبي وأصحابه كان لإخراجهم من مكة، كما قال تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا...). ثم كانت إرادة الخروج واضحة على أنها إحدى الخصال التي عرضوها في ندوتهم إذ يقول الله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠).
والحال الثالثة التي كانوا عليها وكانت، أنهم الذين بدأوا أول مرة، أي بدءوا بالمنابذة والمحاربة أول مرة من الاعتداء، ولم يذكر أنهم بدءوا بالقتال؛ لأنهم بدءوا العداوة التي كان القتال من صورها. لقد ابتدءوا بالعداوة عندما جاءهم الرسول بالقرآن نور الله تعالى وبرهانه، فبدل أن يجادلوه بالتي هي أحسن صدوه، وآذوه، وفتنوا المؤمنين في دينهم، والفتنة أشد من القتل، ثم أغروا به سفهاءهم، وحالوا بينه وبين الدعوة، وبين إقامة دولة إسلامية، وبدأوا بالقتال في غزوة بدر الكبرى، فبعد أن نجا عيرهم صمموا على القتال، وأن يجيئوا إلى بدر بالخمور والقيان، والقتال.
ثم هم الذين بدأوا بالقتال ونقضوا صلح الحديبية بإِعانتهم لبني بكر على خزاعة وقتلهم في البيت الحرام، كان منهم كل هذا: نكث للعهد، وإيذاء شديد في الماضي وفتنة، وقتال ابتدأوه في عدة مرات، فهل يسكتون عليهم ألا يقاتلونهم، ثم حرضهم الله تعالى أبلغ تحريض، فقال (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أي أيمنعكم
3245
من قتالهم أنكم تخشونهم، أي تخافونهم فزعين من قتالهم. (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) والله أحق أن تخافوه وتفزعوا من غضبه، (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي إن كان الإيمان شانا من شئونكم، وصفة من صفاتكم، فإن المؤمن لا يخشى إلا الله، ولا يقدر في أموره كلها إلا رضا الله والخوف من غضبه وعذابه.
وقد صرح سبحانه وتعالى من بعد ذلك التحريض الذي يثير الهمم، ويثبت أن قتالهم حق على كل مؤمن - بالأمر بالقتال وذلك بعد أن بين أنه حق كامل.
(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
بعد أن بين الله تعالى بواعث القتال من نكث العهد، وإخراج النبي والمؤمنين، وبدئهم بالفتنة، والفتنة أشد من القتل، وبدئهم بالقتال، إذ هاجموا في بدر من غير ضرورة تلجئهم، ولا حاجة تدفعهم إلا أن تكون كراهة لدينكم، وبدئهم بمعاونة بني بكر على خزاعة.
بعد هذا بين ثمرات القتال: فقال تعالت كلماته:
3246
(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُم اللَّهُ بِأيْدِيكُمْ) وذلك بالإثخان فيهم، وصرح بقوله بايديكم، أي أنها عذاب لهم تتولونه أنتم، فقوله (بأيديكم) يراد بأنفسكم، وهذا مجاز مرسل علاقته الجزئية، وعبر بالأيدي لأنها هي التي بها البطش، وهي التي تحمل السيوف والرماح والنبال.
وكان العذاب في الدنيا بايدى أهل الحق لردع أهل الباطل، وكسر شوكته، ولكيلا يستشري الشر، وتستعلى الرذائل وتنخفض الفضائل (... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا...)، لهذا كان لَا بد من عذاب الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
(وَيُخْزِهِمْ) بالأسر، والتتبع في الأرض، وذهاب سطوتهم وقوتهم، وانخلاع العرب من ربقتهم، وذهاب سلطانهم المادي والأدبي.
3246
(وَيَنصُرْكمْ عَلَيْهِمْ)، فإن النصر بيد الله، (... وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)، ونصرة العبد لله بإطاعة أوامره، ومنها الأمر بالقتال، وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الكفر هي السفلى، ولا يكون النصر من الله إلا إذا اتخذت أسبابه من العبد واحتسب النية.
(وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). ذلك أن قلوب المؤمنين إذا رأت الكفر ناتئ الرأس، ولم يكن من يقمعه، ويرد كيده في نحره عراها الشك أو التردد، أو محاولة تَعَرُّف الحكمة في إهمال الكفر، وتركه في عنفوانه وإيذائه، فإذا نصر الله المؤمنين شفيت صدور قوم مؤمنين، وخرج ذلك التردد، وذهبت عنها تلك الحيرة، فالله - بقتال المؤمنين لأهل الكفر - يشف تلك الصدور المؤمنة من تلك الحيرة الممضة التي قد تثير الريب، ومن ذلك الحزن والموجدة، وفيه إشارة إلى الوعد بالفتح.
3247
(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ... (١٥)
الضمير في قوله غيظ قلوبهم يعود إلى الذين تحتاج صدورهم إلى شفاء بنصر مؤزر يدفع الباطل ويزهقه، ويرفع الحق ويعليه، والغيظ انفعال النفس بالألم من رؤية الباطل عاليا والحق مستكينا أو مستخذيا، فماذا انتصر الحق وعلا، ذهب ذلك الغيظ، واستقامت النفس على سواء الصراط، وارتاحت الضمائر المؤمنة.
وعبر الله في الغيظ بقوله تعالى: (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) لأن الغيظ ليس داءً، ولكنه حال عارضة - من أمر قابل للزوال، والنصر يزيله وفيه إشارة إلى حصول الوعد.
أما التردد والحيرة، وبوادر الشك، فأمراض تلازم النفوس المريضة فعبر عن زوالها بالشفاء؛ لأنها أمراض الإيمان، والله هو الذي يشفيها، ويودعها الاطمئنان.
وإن الحرب التي تختبر فيها النفوس، ويذهب فيها غرور الذين يغترون بأصنامهم، ويحسبون أنها تنصرهم في الشديدة وتغيثهم في الكريهة من شأنها أن تجعل النفوس تفكر فيما هي عليه، وفيما عليه الذين يحاربونها، فيعرفون الغث
3247
من السمين، والحق من الباطل، ويتعرفون ما عليه آلهتهم التي يزعمونها، وما نصر به الإله الحق أولياءه المؤمنين فيهتدون بعد ضلالة، ولذا قال الله إن من آثار الحرب التي يدك فيها الشر أن يتوب الله على من يشاء من عباده، فقال تعالى: (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ) أي أنهم يحسون بقوة الحق، وضعف ما هم عليه من كفر، وضلال في الأوثان فيتوبون أي يرجعون إلى الله بعد أن بعدوا عن الإيمان، والآية تشير إلى أن هذه التوبة فيض من الله عليهم وصلوا إليها بعد أن ذهب غرورهم بما هم عليه من عبادة الأصنام.
وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يعلم النفوس وما يهديها، وما يوجهها، إلى الحق، حكيم يضع الأمور في مواضعها، وبدبرها بحكمته، وهو العزيز الحكيم.
* * *
قال الله تعالى:
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
* * *
قوله تعالى:
3248
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُو).
(أم) هنا للإضراب الانتقالي من باب في الجهاد وتحريض عليه إلى باب الاختبار بالجهاد وتمحيص المخلصين من غير المخلصين، والهمزة في " أم "
3248
للاستفهام التوبيخي على حسبانهم وظنهم أنهم يتركون من غير تمحيص، واختبار وكشف المجاهدين من غيرهم، ومثل ذلك قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)، وقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)، وكقوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...).
وقوله تعالى: (وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ) (لما) للنفي في الحاضر مع توقع الوقوع في القابل، ونفي العلم هو نفي المعلوم؛ لأن اللَّه عليم بكل شيء بما كان، وما يكون، والمراد نفي العلم بالجهاد واقعا، وإن كان متوقعا، كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَذين جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).
وإن الجهاد جهادان: جهاد بلقاء الأعداء، واشتجار السيوف، وجهاد آخر بتنقية الصفوف من الأعداء والدُّخول ومنع الولاية لغير المؤمنين، ولذلك عطف (الَّذِينَ جَاهَدُوا)، وهو وصف آخر بقوله: (لَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) الولج الحاشية البطانة، أي جاهدوا ولم يتخذوا من الله والرسول والمؤمنين وليجة أي بطانة يسرون إليهم بالمودة، وتكرار لَا لتأكيد البعد عن أن يتخذوا من غير هؤلاء بطانة لهم.
و (وليجة) من ولج بمعنى دخل، ومعنى وليجة: دخيلة مودة وبطانة من دون الله، وهم يحادون الله ورسوله والله تعالى يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ...). ولقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
3249
بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ...).
وقد ضعف شأن المسلمين من وقت أن اتخذ ملوك بني أمية ومن جاء بعدهم من اليهود والنصارى بطانة كانت تدس بين المؤمنين، وتثير الفتن، بينهم حتى أدخلوا في الدين ما ليس منه.
ولقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ) أي إن الله عليم علما دقيقا بما تعملون من ظواهر أيمانكم وبواطنها.
ولقد حرم الله تعالى على المشركين أن يدخلوا المسجد الحرام من بعد العام التاسع، وربما كان منهم من يدعي أنه يعمر المسجد الحرام فنهى عن ذلك أيضا، وقال تعالى:
3250
(مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧)
(مَا كَانً لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) أي ما ساغ وما استقام للمشركين أن يعمروا مساجد الله، وعمارة المساجد بإقامة الشعائر فيها، وتشييد بنيانها، وهنا قراءتان قراءة " مسجد " الله تعالى وهو البيت الحرام؛ لأنه أول بيت بني للعبادة وهو أعظم المساجد، وإذا ذكر المطلق انصرف إلى الفرد الأعظم، وبيت الله الحرام هو الفرد الأعظم في المساجد، وهناك قراءة أخرى بالجمع " مساجد الله " وهي قراءة حفص، وبها قرئت (مساجد)، وتخرج على أن المراد المسجد الحرام، والجمع؛ لأن كل بقعة منه مسجد ولأنه إمام المساجد، فهو قبلة المسلمين، وكل مسجد له تابع. أو يراد جنس المساجد كما تقول: فلان لَا يقرأ الكتب تريد جنس الكتب لَا تريد واحدا بعينه، وإنه ليس للمشركين عمارة المساجد؛ لأن عمارة المساجد إقامة الشعائر فيها كما ذكرنا وعمارتها بعبادة الله وحده، وليس من عبادتها إحاطتها بالأصنام، والطواف عراة، وغير ذلك من المحدثات التي ليست من العبادة في شيء.
3250
وقوى الله سبحانه وتعالى نفي أن يعمروا المساجد بقوله تعالت كلماته (شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ) أي حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر أي بعبادة الأصنام وهو كفر لَا ريب، فإن هذه الحال مناقضة تمام المناقضة للعمارة الحقة للمساجد بأن يعبدوا الله حق عبادته، ولا يشركوا به شيئا، وقد بين الزمخشري هذه الناقضة فضل بيان فقال: غفر الله تعالى له: " ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متناقضين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر بالله تعالى وبعبادته، ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر ظهور كفرهم، وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لَا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطا سجدوا للأصنام ".
وإنه لما التقى الأسرى من قريش بالمهاجرين أخذ هؤلاء يعيرونهم بأنهم قطعوا الرحم، فقال علي كرم الله وجهه لعمه العباس يعاتبه لقتال ابن أخيه محمد - ﷺ -، وقطيعة الرحم، وأغلظ في القول فقال العباس: " تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، فقال علي: ألكم محاسن؟ قال نعم: إنا لنعمر المسجد، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجاج ونفك المعاني.
وقيل إن هذا سبب نزول هذه الآية، وفي الحق إنه كان في الجاهلية بعض أعمال ولكن يذهب بها كلها الشرك، فمن يعمل ابتغاء مرضاة الله الواحد غير مفاخر، ولا معتز بعصبية يكون عمله لله ولا يكون مشركا أحدا بالله في عبادة قط، ومن يعمل مفاخرا معتزا بعصبيته، غير معتز بالله، فعمله في هباء، ولذلك قال تعالى: (أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، الإشارة إليهم متصفين بالكفر البادي من كل أعمالهم من عبادة الأصنام، والطواف عراة، وما يكون من أعمالهم فيه بعض النفع خلطوا به نية المفاخرة، والعصبية الجاهلية، والإشارة إلى الصفات تفيد سبب الحكم، وهو حبوط أعمالهم ودخولهم النار، وحبوط الأعمال بطلانها وعدم إنتاج ثمرتها، والحبوط يفيد البطلان الذي يكون ناشئا من ذات العمل، فبطلان أعمالهم ناشئ من ذاتها؛ لأنها لَا تصحبها النية الطيبة المؤمنة بالله تعالى (وَفِي النَّارِ هُمْ
3251
خَالدُونَ) قدم الجار والمجرور (في النار) لاختصاصهم بالنار لَا يدخلون غيرها وتأكد ذلك الحكم بضمير الفصل (هم).
هذا وإن المساجد كما أشار الله سبحانه وتعالى بيوت الله، ولا تعمر إلا بالعبادة الخالصة لله. وهي مأوى المؤمن في الدنيا، ولذا قال - ﷺ - فيما رواه معاذ ابن جبل رضي الله عنه " إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد
3252
(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمٍ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِين) (١).
(إنما) للحصر، فهي أداة من أدوات القصر، والمعنى: " لا يعمر مساجد الله إلا من آمن بالله... " والعمارة كما ذكرنا بالعبادة فيها حق العبادة، بأن يعبد الله وحده لَا شريك، وأن يقوم بترميم وإصلاح ما وهي منه، وإذا كان المشركون يفعلون ذلك فإنهم بإشراكهم يبطلون ما صنعوا، وإن العمارة للمساجد نوعان أحدهما: معنوي، وهي عمارتها بالعبادة وإقامة شعائر الدين، والثاني: مادي، وهي ترميم ما يحتاج الترميم وتنظيفها وإضاءتها بالمصابيح، وغيرها مما يتصل ببنائها، وإنه لَا يفعل الأمرين إلا الموحدون الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويغشونها لإقامة الدين وجمع المسلمين وسماع القرآن الكريم، ومواعظ رب العالمين، وهدْي الرسول الأمين.
ويلاحظ أنه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، فالإيمان بالله الواحد الأحد هو الدين أو لبه، والإيمان باليوم الآخر هو فيصل الإذعان والتمرد، وفيصل الإيمان بالغيب والجحود به؛ إذ لَا يكفر به إلا من لَا يؤمن إلا بالمحسوس.
________
(١) رواه أحمد: مسند الأنصار - حديث معاذ بن جبل. رضي الله عنهم (٢١٥٢٤).
3252
وقد يسأل سائل: لماذا لم يذكر الرسول والإيمان به؟ والجواب عن ذلك أن الإيمان بالله يوجب أن يؤمن بالرسالة الإلهية، فالإيمان بالله يستلزم لَا محالة الإيمان بالرسول الذي بعث رحمة للعالمين، ولأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هي التي جاء بها الرسول الكريم، وهو الذي علمه الرسول، فالعمل بها يتضمن لا محالة الإيمان بالرسول، فهذا عمل يتضمن علما؛ ولأن الإيمان بالله يقترن به دائما الإيمان بالرسول فكان الإيمان بالرسول معلوما من غير إعلام، وبينا من غير بيان.
وقوله تعالى: (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) ومعنى الخشية الخوت المقترن بالخضوع والخشوع، فمعنى قوله تعالى: (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) أي لم يخش خوت خضوع وتذلل ومحبة إلا الله، فلا يخاف غيره من رئيس يرهب، أو صنم يعبد ولا يذل لكبير، ولا لصنم، ولا يخضع لأحد غير الله.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف قيل (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) والمؤمن يخشى المحاذير لَا يتمالك ألا يخشاها. قلت: الخشية والتقوى في أبواب الدين، وألا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران أحدهما حق الله، والآخر حق نفسه فيؤثر حق الله على حق نفسه، وقيل كانوا يخشون الأصنام ويرجونها وأريد نفي ذلك.
قوله تعالى: (فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، و (أولئك) إشارة إلى صفات هؤلاء من إيمان بالله واليوم الآخر، وإقامة الصلاة وإيتاء للزكاة، وألا يخشوا إلا الله، والإشارة إلى الصفات إيماء إلى أن هذه الصفات هي السبب في رجاء الهداية.
ومؤدى ذلك أولا: أن المشركين ليس لهم أن يكونوا من المهتدين؛ لأنهم لم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر، ولا يخشون غير الله، ولا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة.
3253
والرجاء من هؤلاء المؤمنين لأنهم قدموا ما يسوغ هذا الرجاء، وذكر الرجاء لمنع الاغترار، فإن الاغترار قد يدلي بالغرور، فيفسد التقرب، ولقد قال بعض الصوفية: إن معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت دلا وافتخارا.
وإن الآية تشير إلى فضل عمارة المساجد بالعبادة، وتنظيفها من الأوساخ الحسية والمعنوية بالمنع من لغو الحديث فيها، وعن النبي - ﷺ - " يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم، فليس لله بهم حاجة " (١) وقال عليه الصلاة والسلام: " الحديث في المساجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " (٢)، وقال عليه السلام في حديث قدسي عن ربه: " إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره " (٣)، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من ألف المسجد فقد ألف الله " (٤)، وقال عليه الصلاة والسلام: " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان " (٥)، وعن أنس رضي عنه: من أسرج - في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه.
________
(١) رواه الطبراني في الكبير، وفيه: بزيغ أبو الخليل، ونسب إلى الوضع. كما في مجمع الزوائد (٤٠٢).
(٢) ذكره أهل التفسير، منهم الرازي، وأبو السعود، والآلوسي، والزمخشري، دون إسناد.
(٣) رواه الطباني عن ابن مسعود ".
(٤) رواه الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. كنزالعمال: ج ١٠ - ص ١٤٨٨، وذكره المنذرى في الترغيب والترهيب: ج ١ - ص ١٣٧ برقم (٤٩٨)، وضعَّفه بابن لهيعة.
(٥) رواه ابن ماجه: المساجد والجماعات - لزوم المساجد وانتظار الصلاة (٨٠٢)، والدارمي: الصلاة - المحافظة على الصلوات (١٢٢٣)، كما رواه الترمذي: الأيمان (٢٦١٧) بلفظ (يتعاهد)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (٢٧٣٠٨) بلفظ " المسجد ".
3254
وقد نقلنا هذه الأخبار في آداب المسجد، وعمارته ونظافته وإضاءته من الكشاف للزمخشري، وهي تدل على أمرين: أولهما: أن عمارة المسجد تكون أولا بالعبادة فيه، وبعده عن لغو الحديث، وثانيهما: العناية به وبإسراجه.
* * *
فضل الإيمان والجهاد
قال تعالى:
(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
* * *
كان المشركون بمكة يفاخرون دائما بأنهم سدنة البيت الحرام يسقون حجيجه، ويعمرونه بالتنظيف والتشييد، والقيام على شئونه وما يحتاج إليه من عمارة، وهم أهل جواره الذين يستقبلون الناس ويتطاولون على الناس بهذه المكانة، حتى إنه ليروى أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان يقول قبل إسلامه أو قبل أن يظهر إسلامه لابن أخيه علي بن أبي طالب: تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، كنا نسقى الحجيج ونعمر البيت، ونطعم الطعام، ونأوي المعاني. بل إنه
3255
يروى أن بعضهم قال لليهود الذين كانوا يمالئونهم على النبي - ﷺ -: أينا خير أنحن الذين نقوم بالسقاية والسدانة، ونطعم الطعام، أم محمد؛ فيقول لهم اليهود الذين لم يجر على ألسنتهم قول الحق قط: أنتم.
يقول الله تعالى موبخًا مستنكرا
3256
(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) والمعنى أصيرتم سقاية الحاج، أي جنس الحاج وهم الحجيج، وعمارة المسجد الحرام، أي تنظيفه والقيام على بنائه وتشييده، كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله.
وقال أكثر المفسرين: إن في الكلام تقديزا لمحذوف تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وقالوا إنه يدل عليه قراءة (سُقَاة) (١) بضم السين وهي جمع ساق، ويكون المعنى على هذه القراءة: أصيرتم سقاة الحجيج، وأهل عمارة البيت الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله تعالى، والاستفهام إنكاري توبيخي متضمن النفي وأن ما صنعوا لَا ينبغي لأهل العقول المدركة، والآيات تتلى عليهم بالحق المبين ليتدبروه فينكصون عنه، ويسمرون بهجر القول، ويتفاخرون بشعر العرب، كما قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧)، أي يهجرون القرآن، وكانوا يسمرون بالأساطير والخرافات وَيهجرون القرآن هجرا.
وقد أجاب سبحانه وتعالى عن الاستفهام التوبيخي مبينا الحق (لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ) فمقامهم عند الله مختلف مقام الجاهد المؤمن بالله واليوم الآخر، مقام عال، لَا يناصى، ومقام المشرك الذي يكتفي من الشرف بالسقاية والعمارة المادية، ويظن ذلك مقربا إليه زلفى، وهو يشرك بالله في عبادته الأنداد. إنهم تركوا الجوهر وناقضوه، وأخذوا بمظهر باطل لَا يغني عن الحق شيئا.
________
(١) ليست في العشر المتواترة.
3256
وقد بين جزاء الأعلياء المفضلين من بعد، وبين هنا ضلال المشركين، فقال تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) والظالمون هم المشركون، وقد سمى الله الشرك ظلم، لأن المشرك ظلم الحق فعبد أوثانا لَا تضر، وظلم العقل المدرك فطمسه، وظلم نفسه فتردى بها في مهاوي الضلال، وطمس الحق، وإن اللَّه لا يهدي الذين أركسوا أنفسهم في هذا، لأنهم لم يسلكوا نجد الحق والعقل والإدراك السليم.
وهنا إشارة بيانية، وهي أن سياق الآية في ظاهره من غير تقدير جعل المناظرة بين سقاية الحاج وعمارة البيت الحرام ومن آمن... والمعنى إيمان من آمن، ولكنه ذكر من آمن... وذلك لبيان الإيمان قائما في أصحابه محسوسا مرئيا، لأنه تزكية ظاهرة، ودعوة عملية إليه كقوله تعالى: (... وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...)، إلى أخر آية البر.
وبعد أن بين الله تعالى أن الظالمين بسبب ما سلكوا يستمرون في غيهم يعمهون، بين جزاء الهداة الذين جاهدوا بعد أن آمنوا وهاجروا.
3257
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠)
هذا النص الكريم، هو الحكم الذي أصدره الله تعالى في قضية الموازنة بين الإيمان والجهاد وبين سقاية الحاج، وعمارة البيت، فقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ).
ذكرهم سبحانه وتعالى بأنهم أعظم درجة، وأفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأنه إذا كان على بابه يكون مؤداه أن الذين اكتفوا بالسقاية والعمارة لهم درجة عظيمة عند الله، وإن لم تكن الدرجة الأعظم، إذ الحقيقة أنهم ما داموا على الشرك ليست لهم عند الله أية درجة، بل إنهم في الحضيض الأوهد، ولا درجة لهم عند الله قط، وإذا كان أفعل التفضيل ليس على بابه، فمعناه أنهم عند الله في درجة عظيمة، لَا تطاولها درجة، وعبر بأفعل التفضيل لما كان من مقابلة لفظية.
3257
وهذه الدرجة العظيمة التي لَا تفضل عنها درجة قط؛ لأنهم كانوا في أوصاف عالية تجعلهم رجال الله ورجال الحق - أولها - أنهم آمنوا، والإيمان في وسط الشرك الغامر والوثنية الغالبة فيه جهاد النفس، ومغالبة الباطل، ونور العقل، ومقاومة الجاهلية وعصبيتها، وطغيانها، وشرورها وآثامها، ومع هذا كله تكون رفعة الدرجة، إذ بمقدار تلك المغالبة النفسية يكون علو الدرجة.
والوصف الثاني - أنهم هاجروا، إذ إن ذلك الوصف يتضمن نداء الإيمان بالرضا بترك الأهل وصرم القرابة والدعة والراحة، وتحمل الأذى، والخروج بالإيمان نقيا طاهرًا من أرجاس الجاهلية وعصبيتها، والخروج من جو الجاهلية المعتكر بالعصبية والضلال إلى جو النور والإيمان.
والوصف الثالث - أنهم جاهدوا في سبيل الله، أي طريق الله الحق بأموالهم وأنفسهم، فلم يكن إيمانهم سلبيا بل كان إيمانا إيجابيا، آمنوا بالحق، وضحوا في سبيله بالأهل والولد، ثم دعوا إليه محاربين الباطل، جاهدوا أنفسهم أولا بتخليصها من أدران الشرك وأوهامه، وصابروا على الأذى بعد أن صبروا عليه وقدموا أموالهم مجاهدين، وأنفسهم في اشتجار السيوف والرماح، واستجابوا لقول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم " (١).
وقد حكم الله تعالى لهم فقال: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) الإشارة إلى أوصافهم، وفيه دلالة على أن هذه الأوصاف هي سبب ذلك الفوز، وقد بين سبحانه أنهم المختصون بالفوز دون غيرهم؛ لأن تعريف الطرفين وضمير الفصل دلَّا على أنهم المختصون بالفوز، ولا فائز إلا من عمل عملهم، وحمل أوصافهم، فهم رجال الله تعالى حقا، وقد بين الله تعالى جزاءهم في الآخرة فقال تعالت كلماته:
________
(١) سبق تخريجه.
3258
(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
البشرى: الخبر السار، ولا تطلق على غيره إلا تهكما، كقوله تعالى:
(... وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَروا بِعَذَاب أَلِيم). وقوله تعالى:
3259
(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ) بيان للفوز الذي حكم به سبحانه وهو أعدل الحاكمين، والبشرى تتضمن الرحمة، والرضوان من الله تعالى، وقد نكرا وهما مضافان إلى رب هذا الوجود للدلالة على الفخامة والعظمة، فهي لَا يدرك كنهها ولا تحد حدودها، وهي من الله تعالى واسع الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء، والرضوان من الله وهو أعظم من كل ثواب مادي، ولذلك قال سبحانه وتعالى: (... وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكبَرُ...) أي أنه أكبر من كل نعيم؛ لأنه الرضا من الله تعالى، وهو نعمة لَا يشعر بها إلا من يحس بعظمة الله وجلاله، ويفنى في ذاته العلية، حتى إن الصوفية ليقسمون العبادة إلى ثلاث مراتب، المرتبة الدنيا: مرتبة من يعبد الله اتقاء عذابه، والثانية: من يعبد الله رجاء ثوابه، والعليا: من يعبد الله رجاء رضاه.
(وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ)، وهي غير الرحمة؛ لأن الرحمة ضد الشقاء، وهي وحدها نعمة؛ لأن الخروج من الضلال إلى الهدى والشعور بالحق وأنه اهتدى إليه وخرج من الضلال إلى نور الهداية هو وحده رحمة ونعمة، فأول جزاء للمؤمن من يأخذه من الإيمان نفسه، فيشعر باستقرار لَا اضطراب فيه.
وبعد هذا الشعور والإحساس برضا الله تعالى تكون الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، ويكون للذين يدخلونها من أهل الحق والإيمان نعيم مقيم، أي ثابت دائم.
وقد أكد سبحانه ثوابه بقوله تعالى:
(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
الخلود نعمة فوق نعمة الجنة ذاتها، فإن الإحساس بدوام النعمة نعمة، وليس في مقابل الدنيا الفانية، وأكد الله سبحانه وتعالى خلود الجنة ودوام نعيمهما
3259
بقوله تعالى: (أَبَدًا) فهي دائمة لَا بقدر الدنيا، كما توهم بعض الذين لَا يدركودن حقائق نعم اللَّه، إنما هي باقية أبدا ما شاء الله تعالى أن تبقى.
وقد بين الله تعالى بعد ذلك أن عند الله تعالى ما هو أكبر من ذلك، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) والعبادة تحتمل أن عند الله جزاء آخر غير ما ذكر وتحتمل أن الله تعالى يبين أن ذلك أجر عظيم، وقد نكر أجر للدلالة على أنه أجر لا يحيط به عقل أهل الدنيا، ولذلك نرجح الاحتمال الأول وهو أن وراء الجنة وخلودها، ونعيمها أجرا أعظم من ذلك، مثل هذا تجليات الله على عباده يوم القيامة. إنه هو العزيز الرحيم.
* * *
الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم وآبائهم وأبنائهم
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٢٤)
* * *
3260
كان المؤمنون في أول الإسلام قلة، ولا يكون للقلة قوة إلا إذا تضامت وتوالت، وجعلت الولاية لأنفسهم دون غيرهم، ولذلك كانت الهجرة واجبة حتى تتجمع قوة الحق وتتآزر وتكون لها ولاية مستقلة عن ولاية أهل الشرك ومناصرتهم، والولاية هي النصرة والسلطان وأن تكون الموالاة لدولة مسلمة.
روى الزمخشري، عن ابن عباس أنه كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر، ويصارم أقاربه الكفرة، ويقطع موالاتهم، فقالوا: يا رسول الله، إن نحن اعتزلنا من خالفنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وهلكت أموالنا، وخربت ديارنا، ولقينا ضائقة. فنزلت الآية. وإن صحت هذه الرواية فإن الآية يكون المخاطب بها الذين آمنوا أولا ثم هاجروا، ولكن مع ذلك فحكم الآية عام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لَا بخصوصِ السبب، ولقد قال الله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨).
ولقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ...)، اللهم إنا برآء ممن
جعل نصرته عندهم، فإنه منهم.
ولقد روى أن النبي - ﷺ - قال " لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله، حتى يحب في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه " (١).
ولقد قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢).
________
(١) ذكره أبو السعود في تفسيره: ج ٤، ص ٥٤، والزمخشري في الكشاف: ج ٢، ص ١٨١، برقم (٤٥٣).
3261
وفى الآية الكريمة إشارات بيانية بليغة:
الأولى: قد اقتصر الله تعالى في الآية على الآباء والإخوان، ولم يذكر الأبناء، لأن الآباء والإخوة تكون منهم النصرة، والاعتزاز، أما الأبناء فإنهم تبع لآبائهم؛ ولأنه لَا تأثير للأبناء على آبائهم، ولأنه يندر من كان يسلم، وأبناؤه مستمرون على الكفر؛ لأن تأثير الآباء على الأبناء يمنع من أن يتغذوا بلبان الشرك، ومن النادر إيمان أبي بكر، وبعض ولده مشرك حتى اشترك في غزوة بدر مع المشركين.
الثانية - في قوله تعالى:
3262
(إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ) هذا شرط لمنع الولاية عنهم والانتصار بهم، ونصرتهم و (اسْتَحَبُّوا) معناها أحبوا بشدة وتعصب؛ لأن السين والتاء للطلب، أي طلبوا محبة الكفر حتى أحبوه، فكانوا مبالغين في الكفر متعنتين في عداوة المؤمنين، فمن والاهم فقد والى أعداءه الكافرين.
الثالثة - أن الله تعالى حكمِ بالظلم على من يتولاهم في قوله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَهُم مِّنكمْ فَأوْلَئِكَ هُم الظَّالِمُون) (مَنْ) شرطية، وهي اسم، والتولي جعلهم أولياء له ونصراء، وقال تعالى: (مِنكمْ) للإشارة إلى أنه ترك ولاية الحق إلى الباطل، لأن منكم تدل على أن الأصل هو ولايتهم لكم، وقوله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ)، الإشارة إلى انفصالهم عنكم، وحكم عليهم سبحانه بالظلم وقصره عليهم؛ وذلك لأنهم ظلموا أنفسهم بترك أوليائهم الحقيقيين كما قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّه وَرَسُولهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا...)، فإركوا ولاية الله وإخوانهم المؤمنين، فكانوا ظالمين إذ استنصروا بمن لَا ينصرونهم، وليس في قدرتهم أن ينصروهم من دون الله، ولأن موالاة الشرك شرك (... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). إن الجهاد تجرد لله تعالى، وصدق رسول الله - ﷺ - إذ جعل المجاهد كالراهب متجردا من أهله وماله، وسكنه وتجارته، فقال عليه الصلاة والسلام: " لكل أمة
3262
رهبانية، ورهبانية أمتي في الجهاد " (١) وإنه، كقوله تعالى:
________
(١) سبق تخريجه.
3263
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٢٤)
الخطاب للنبي - ﷺ - آمرا أمته بالجهاد محرضا على التجرد له، والانقطاع له، لا يشغله قلبه إلا أن ينتصر لله ورسوله ويعتز بأهل الإيمان (إِن كَانَ أَبْنَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) والعشيرة هي الجماعة المتناصرة المتوالية، وهم الأقربون، ومن يدانونهم، (وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا) أي اكتسبتموها مقتطعين لها؛ لأن الاقتراف معناه الأطماع (وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا)، أي ثمينة لها أوقات تخشون ألا تروج في وقتها، (وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا)، أي ترضون مناخها، وحدائق ترعونها، (أَحَبَّ إِلَيْكم مِّنَ اللَّهِ وَرَسولِهِ)، أي تؤثرون المعيشة الرافهة الفاكهة عن طاعة الله ورسوله (وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِه) في سبيل الله تنالون به العزة، وتبعدون به الذلة (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) أي ترقبوا، حتى تنزل المذلة إن استرخيتم تحت ظل النعيم، وعند الاسترخاء والاستنامة للراحة يكون القعود عن الجهاد، ولقد توقع خليفة رسول الله ذلك، إذ قال رضي الله عنه: " لتألمن على الصوف الأزربي كما يتألم أحدكم من النوم على - حَسْك السَّعدان "، ولقد كان ذلك عندما وجدوا الدمقس والحرير، وجلسوا على عرش كسرى، وجاءتهم غنائم من الأندلس والصين، عندئذ كان الترفه والتنعم، والارتماء في أحضان القيان، وكثرت الأغاني، ورق الذوق، وحين كان ذلك لَا تكون عزيمة، ولقد قال الزمخشري في ذلك: هذه آية شديدة وهي قوله: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة لهذا الدين، واضطراب حال اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرد منها لأجله أم يزوى الله
3263
عنه أحقر شيء منها لمصلحة، فلا يدري أي طرفيه أطول، ويغريه الشيطان عن أجلِّ حظ من حظوظ الدين فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيَّره.
هذه حال الناس في عهد الزمخشري، يوم تقاتل المسلمون، واستبدل الملوك بالجهاد في سبيل الله القتال بينهم فصار بأسهم بينهم شديدا، ونسوا الجهاد حتى جاءهم من لَا يرحمهم. جاء الصليبيون من أوروبا وجاءهم التتار من الصين ففرقوهم شذر مذر.
ولقد توقع رسول الله - ﷺ - ذلك، فقال: " يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تتداعي الأكلة إلى قصعتها!، قالوا أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؛ قال: " بل أنتم كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة، وليرزقنكم الوهن " قالوا: وما الوهن؛ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت " (١) اللهم حبب إلى قلوبنا الإيمان، وأن يكون الله ورسوله وجهاد في سبيله أحب إلينا من آبائنا، وأبنائنا، وإخواننا وأزواجنا وعشيرتنا، وأموالنا، وتجارتنا، ومساكننا، وكل حظوظنا، فإن ذلك إن كان، فقد وُهبت العزة وصارت تحت أقدامنا حظوظ الدنيا.
* * *
يوم حنين
قال تعالى:
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا
________
(١) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - ومن حديث ثوبان رضي الله عنه (٢١٨٩١)، ورواه أبو داود في الملاحم - تداعي الأمم على الإسلام (٤٢٩٧) ولفظه: " وليقذفن في قلوبكم الوهن ".
3264
رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
* * *
المواطن جمع موطن، وهو مكان الحرب، الذي توطن فيه النفوس على القتال، وهو كما قال الزمخشري: ومواطن الحرب، مقاماتها، ومواقفها، قال الشاعر:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منهوِي (١)
والمواطن الكثيرة: بدر، وجلاء بني قينقاع والنضير، وقريظة والأحزاب، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة، وذكر أيضا أحد، فما انهزم المسلمون ولكن أصابهم قرح، ومؤتة، فالمسلمون فيها قتلوا من الرومان مقتلة عظيمة، وما فروا، ولكن عادوا ليستعدوا أمام مائتي ألف، ثم عاودوهم من بعد في تبوك فمنَّ الله تعالى على المسلمين، أو بالأحرى المؤمنين - بالنصر في هذه المواطن، وقد هداهم الله تعالى إليه وأمدهم بالملائكة، لأن قلوبهم كانت مستعدة لتجلي الملائكة، وإمدادهم بهم.
وذكر سبحانه يوم حنين، لأن قلوب الكثرة من المسلمين لم تكن مستعدة لهذا التجلي الملائكي، وعبر سبحانه بيوم حنين، ولم يعبر بغزوة حنين، لأن هذه الغزوة كان لها دوران: دور يوم حنين وهو الذي جرح فيه المسلمون، والدور الثاني الذي انفرد به المهاجرون والأنصار فكان النصر وكان تأييد الملائكة.
________
(١) قلة النيق: سفح الجبل.
3265
والعبرة كانت في يوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم، أي أدخلت في نفوسهم العجب كثرتهم، وقالوا لن نغلب اليوم، وقد حسبوا أن النصر بالكثرة العددية؛ ولذا قال تعالى:
3266
(فَلَمْ تُغْن عَنكُمْ شَيْئًا) أي فلم تغن عنكم شيئا من النصر، بل.
كانت الكثرة سببًا في الهزيمة، وإن لم تكن هي النهاية، وصور الله سبحانه وتعالى هذه الهزيمة المؤقتة بقوله تعالى: (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي أنه سدت عليكم المسالك إذ نزلوا بوادي حنين، ولم يستطيعوا، وتسلط مع ضيق المسالك الخوف، إذ كان فيهم من لم يمرسوا بقتال الإيمان، وربما كان منهم من أسلم ولما يدخل الإيمان قلبه، قال تعالى: (ثُمَّ وَلَيْتُم مُّدْبِرِينَ) والخطاب للمجموع فإن الذين فعلوا ذلك ليسوا هم المؤمنين من المهاجرين والأنصار، إنما أكثر من فعل ذلك من الطلقاء وأبناء الطلقاء، الذين بلغ عددهم في ذلك الجيش نحو ألفين، وفيهم من أسلم بعد الحديبية ولم يكن فيهم إيمان الأنصار والمهاجرة. والتعبير بـ (ثُمَّ) للإشارة إلى البعد المعنوي بين إرادة النصر والفرار، وقوله تعالى: (وَلَّيْتُم) إشارة إلى أنهم عند الصدمة الأولى أعرضوا عن القتال، وفروا مدبرين تاركين أقفيتهم للعدو، تعمل فيها سيوفهم.
هذه إشارات إلى يوم حنين، ولنذكره ببعض التفصيل ليعلم مَن الذين ولوا، ويتبين مَن الذين أجرى الله تعالى النصر على أيديهم.
" حنين " واد بين مكة والطائف، وأساس القصة أن النبي - ﷺ - وقد فتح الله عليه مكة، وأسلم الأكثرون وأطلق الطلقاء بلغه أن هوازن وثقيفا تعد العدة لقتاله؛ لأنهم توقعوا أنهم الأدنون الذين يجيء إليهم جيش الحق، وجمعوا جيشا كثيفا، عدته أربعة آلاف على أرجح الروايات، من هوازن وثقيف، وانضم إليهم بنو سعد ابن بكر، وأوزاع من بني (هلال)، وقد أقبلوا ومعهم النساء، والولدان، والأموال من النعم والشاة وجاءوا بقضهم وقضيضهم.
خرج إليهم رسول الله - ﷺ - بالجيش الذي كان معه لفتح مكة، وانضم إليهم من الطلقاء ألفان فكانت عدته اثنا عشر ألفا.
3266
ولم يكونوا جميعا من المؤمنين أمثال الذين قاتلوا في بدر وأحد، والمغازي الإسلامية التي قاتل فيها المؤمنون، بل كان فيهم المؤلفة قلوبهم الذين دخلوا في الإسلام وهم حديثو عهد به.
جاءت هوازن مدفوعة بحمية الدفاع عن النفس، وجاء المسلمون ولم يكونوا على قلب رجل واحد، بل كان فيهم من توسوس له نفسه أن يغدر بمحمد - ﷺ -، وقد بادر أهل الطائف فرشقوا المسلمين ومن معهم بالنبال، وأصلتوا في الوادي الذي يسمى حنينا، وجاء النبي - ﷺ -، وكانت هوازن ومن معها قد كمنت في جنبتي الوادي وهجمت على المسلمين الذين دخلوا في بطن الوادي هجمة رجل واحد، واضطرب المسلمون، ولم يعرف أحد أحدا، وبذلك ضاقت عليهم الأرض بما رحبت إذ قد تهيات هوازن ومن معها في مضايق الوادي وأحنائه.
ورسول الله - ﷺ - في ناحية من الأرض قد ثبت، وثبت معه المؤمنون، من المهاجرين والأنصار، وأخذ ينادي المسلمين، ولكن انكفأ بعضهم على بعض، وكما قال الحافظ ابن كثير في تاريخه: " انحط بهم الوادي في عماية الصبح، وثأرت في وجوههم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس متهربين لَا يقبل أحد على أحد، وانحاز رسول الله - ﷺ - ذات اليمين يقول: " أيها الناس هلم إليَّ أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله "، فلا شيء، وركبت الإبل بعضها بعضا، فلما رأى رسول الله - ﷺ - ذلك قال: " يا عباس، اصرخ يا معشر الأنصار "، فأجابوه: لبيك لبيك ذَهب الأنصار في هذا المضطرب مجيبين رسول الله - ﷺ -.
كان رسول الله ومعه بعض أهله الأدنين، معه عمه العباس، وهو آخذ بلجام دابته، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وابنه جعفر، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس وقثم بن العباس، فهؤلاء عشرة من أقارب رسول الله الأدنين ومعهم وزيرا النبي - ﷺ -.
كان هؤلاء الثابتون وعلى رأسهم رسول الله - ﷺ - الذي كان إذا حمى الوطيس أحاطوا به واتقوا حر القتال بالإيواء إليه، والنبي ينادي المؤمنين، والعباس
3267
جهير الصوت يصرخ في المؤمنين داعيا أهل البيعة التي كان بعدها الهجرة، فلما أحاط بالنبي - ﷺ - المهاجرون والأنصار من الأوس والخزرج تغير وجه القتال وتجرد أهل الإيمان للمشركين، بعد أن ماز الله الخبيث من الطيب، وانفصل الذين لا يزال في قلوبهم رجس، أو أسلموا، ولما يؤمنوا.
وهذا قوله تعالى:
3268
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦)
(ثُمَّ) هنا في معناها؛ لأنه كانت مدة بعد الاضطراب وعادت السكينة، ولبعد ما بين الاضطراب والفزع والسكينة، وقد أنزلها برحمة منه، بعد أخذ النبي - ﷺ - في جمع أسبابها، وتلافي أسباب الفشل، واتخاذ أسباب النصر بأن جمع المؤمنين الذين لهم سابقات في النصر وانحازوا إليه واتخذهم قوة الحق واتقاء الهزيمة. وأضاف سبحانه وتعالى السكينة والاطمئنان إليه سبحانه؛ لأن ما يكون من الله لَا يتغير ولا يحول، ولا يتبدل فهي سكينة ثابتة قائمة، تؤتي ثمارها وغايتها.
وقال سبحانه: (عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) بتكرار (عَلَى) للدلالة على أن السكينة عامة ولم تخص، وتأكيدها بالنسبة للمؤمنين، وعبر سبحانه بالمؤمنين، ولم يقل المسلمين للإشارة إلى أن هذه السكينة كانت خاصة بالذين آمنت قلوبهم، واطمأنت بالإيمان نفوسهم.
وقد أيد الله المؤمنين بالملائكة مبشرة بالنصر القريب، وأن لهم الفوز والغلب، والجنود الذين لم يروهم هم الملائكة الذين ملئوا قلوبهم بالطهر والعزم والصبر، وتلك أدوات الحرب، فالأداة الأولى للحرب الطهر والإيمان والعزم والصبر والتوكل على الله تعالى، وألا يغتر المجاهد بعدة، ولا عدد.
ولقد روى أن رسول الله - ﷺ - والشديدة شديدة، أخذ حصيات ورمى بها وجوه الكفار ثم قال: " انهزموا ورب محمد "، ويروى أنه قال: " شاهت الوجوه ".
3268
ثم قال تعالى: (وَعَذبَ الَّذِينَ كفَروا) عذب الله الذين كفروا في هذه المعركة بأن هزمهم هزيمة، وقد لاح برق الانتصار في أولها، ولكن كان الزعم القاصم الذي صك الآذان صكا عنيفا، وأشد ما يكون على النفس وقعا، أمل النصر، ثم وقع الهزيمة من بعد، وفوق ذلك فقد كان النصر بقتل ذريع داهم مستمر.
ولقد ساقوا أموالهم كلها ليثور حماسهم برؤيتها، فغنمها المسلمون جميعها، فكأنهم ساقوها ليأخذها المسلمون غنيمة باردة، وساقوا نساءهم وأولادهم ليزدادوا حماسة برؤيتهم، فسباهم المسلمون وأذلوهم بسبيهم فكأنهم كانوا يعدون المائدة للمؤمنين.
هذا هو العذاب الدنيوي، هزيمة وقتل، وإذلال بالسبي، وأخذ الأموال غنائم غير مردودة، وإذا كان السبي قد رفق بهم النبي - ﷺ - في أمره، فالمال قد وزع بين المجاهدين، وأخذ منه المؤلفة قلوبهم ما أخذوا.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (ذلك) الإشارة إلى ما ارتكبوا من تدبير، وأن ذلك رد كيدهم في نحورهم فقد دبروا وبيتوا، ووضعوا الكمائن، وساقوا أموالهم ونساءهم وذرياتهم فجازاهم الله تعالى ذلك بأن هزمهم، وغنمت أموالهم، وسبيت نساؤهم، وذلك بسبب كفرهم.
ولقد فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لمن يشاء من عباده عساهم بعد أن رأوا أن أوثانهم لَا تضر ولا تنفع، وبعد أن عركتهم الحرب وهزموا فيها، وغنمت أموالهم وصاروا في رحمة محمد - ﷺ - وهي من رحمة الله تعالى فعساهم يهتدون، ولذا قال تعالى:
3269
(ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
(ثُمَّ) هنا للبعد بين كفر عنيف، وتوبة ضارعة راجية، (يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أي يرجع على عباده بالتوبة، والإقلاع عن الشرك والرجوع
3269
إلى الله سبحانه وتعالى (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي من بعد بيان أنهم لم يغنهم غرورهم وانهزامهم هزيمة منكرة وسبي نسائهم وأموالهم، وكرم النبي - ﷺ - فإنه يروى أنهم جاءوا أو جاء كبراؤهم بعد ذلك مستسلمين يريدون سباياهم وأموالهم، وكان النبي - ﷺ - قد فرق بعض السبايا أو كلها في المقاتلين من المسلمين.
جاء ناس منهم إلى النبي - ﷺ - فبايعوه على الإسلام، وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا، وأخذت أموالنا، وكان السبي يومئذ يعدون بالألوف فقام النبي الكريم الرءوف برحمة من رب العالمين، فقال: " إن عندي ما ترون، إن خير القول أصدقه: اختاروا إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم ". قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا.
فقام الرسول بين أصحابه وقال لهم: " إن هؤلاء جاءوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان عنده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه، ومن لَا فليعطنا وليكن فرضا علينا، حتى نصيب شيئا، فنعطيه مكانه "، قالوا: رضينا وسلمنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: " إني لَا أدري لعل فيكم من لَا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا "، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا (١).
وهذا الخبر وقبله الآية الكريمة يدل على أمور:
أولها - أن المغرور إذا هزم، وتبين أن غروره لم يجده شيئا، وأنه ضعيف أمام الحق ارعوى، وتغير تفكيره إذ تغيرت حاله من غرور نفسي إلى اقتناع بأن أوهامه باطلة، فيتجه إلى الحق، لقد كان أهل الطائف من ثقيف وهوازن أشد الناس اغترارًا بقوتهم، ومالهم، وكانت فيهم غلظة وجفوة دون غيرهم من العرب فلما عضتهم الحرب فكروا في أمرهم مسترشدين.
________
(١) صحيح مسلم: الجهاد والسير - غزوة حنين (١٧٧٥)، عن العباس - رفس الله عنه - عم النبي صلى الله عليه وسلم.
3270
ثانيها - أن الذين اقتنعوا بالحق وأعلنوه منضمين إليه ناس منهم، والكثيرون استمروا في شماسهم حتى أقنعهم إخوانهم (١).
ثالثها - رفق النبي - ﷺ - ورغبته في الحرية، لأنه نبي الحرية فأعطاهم سباياهم سمحا كريما.
رابعها - أن الرفق يغير القلوب، ولو كانت قلوب أشد الناس شماسا وغلطة وقسوة، والنبي - ﷺ - كان أرفق الناس، وبرفقه جذب إلى الإيمان قلوبا غليظة، (... وَلَوْ كنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْب لانفَضُّوا مِنْ حَوْلكَ...)، وختم الله تعالى الآية بقوله: (وَاللَّه غَفورٌ رحِيمٌ) أي أنه كثير المغفرة كثير الرحمة سبحانه وتعالى.
* * *
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ
________
(١) الشِّماس، ويقال: رجل شَمُوسٌ: عَسِرٌ، وهو في عَداوته كذلك خلافا وعسرا على من نازَعَهُ، وإنَّه لذو شِمَاسٍ شديد. وشَمَس لي فلانٌ، إذا أبْدَى لك عَداوتَهُ كأنّه قد همَّ أن يَفْعل. ل [العين - شمس].
3271
يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)
* * *
إن البيت الحرام أول بيت بني للعبادة، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)، وقد وضعه الله تعالى على يد
إبراهيم أبي العرب، (مَا كانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وقد مكث آمادا في أيدي المشركين الذين كانوا يعرفون الله، ولكن لَا يعبدونه، وجاء محمد - ﷺ - ليعيدهم إلى التوحميد ملة إبراهيم، فحطم الأوثان. وكان حقا - وقد عاد البيت إلى ملة إبراهيم - أن يمنع منه المشركون، ونريد أن نفسر الشرك هنا بعبادة غير الله، ويدخل في هذا الشرك العام اليهود والنصارى ممن اتخذوا أشخاصا وعبدوهم وسموهم آلهة، ولذا جاء ذكر اليهود والنصارى وراء المشركين بنحلتهم في ادعاء النبوة لعزير، والمسيح، وأن قتالهم كقتال الشرك، واقتلاعه من الجزيرة العربية، حتى لَا يبقى فيها إلا عبادة الله سبحانه وتعالى، فتكون أرض التوحيد، كما كانت عندما بنى إبراهيم الكعبة، إذ كانت الوثنية تسيطر فيما حولها، وإبراهيم ينادي بالتوحيد في ربوعها.
3272
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) وقرئ بكسر النون وسكون الجيم، وقرئ بفتح النون، وكسر الجيم كـ (كَبِد)، وقرئ بفتحهما نَجَس (١).
والنجاسة هنا نجاسة معنوية لما امتلأت قلوبهم بالشرك، وجوارحهم بعبادة غير الله تعالى، من أحجار وأشخاص، ومن التابعين من قال: إنهم أنجاس العين
________
(١) قراءة (نَجِس) ليست في العشر المتواترة.
3272
كالخنازير، ولكن نجس العين يكون بأصل التكوين والخلق، وهؤلاء لم يخلقوا أنجاسًا، ولكن خلقوا على الفطرة حنفاء، ولكن انحرفوا تقليدا لآبائهم، أو اتباعا لأهوائهم، فكانت النجاسة أمرا عارضا، وما يكون أمرا عارضا يكون قابلا للتغيير إذا رجعوا فلا يكون أمرا ذاتيا كنجاسة الخنازير، ولذا قال الأئمة أصحاب المذاهب: إن النجاسة نجاسة الشرك، فمصافحتهم تجوز، ومبايعتهم على الإيمان تجوز، وغير ذلك من الملامسات الجسدية.
وقوله تعالى: (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) (الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ لأنهم إذا كانوا أنجاسا بشركهم لَا يصح أن يدخلوا المسجد الحرام، و (لا) هنا ناهية داخلة على فعل للغائب؛ فهي دالة على نهى المؤمنين عن أن يدخلوهم المسجد الحرام، وأن يمنعوهم منعا باتا قاطعا، وعبَّر بالغيبة مبالغة في النهي، كأنهم نفذوا، وأخبر عنهم بأنهم لم يدخلوهم، وعبر في النهي بقوله تعالى: (فَلا يَقْرَبُوا) بدل (لا يدخلوا) مبالغة في النهي عن الدخول، وللدلالة على أنه يجب تطهير ما حول المسجد من الشرك والمشركين، وإذا كانوا لَا يقربون المسجد الحرام، فإنهم بالأولى لَا يحجون ولا يعتمرون كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وقد كانوا يتولون سقاية الحجيج، وسدانة البيت، فمنعوا من ذلك ومن كانوا يتولون السقاية والسدانة، وبيدهم مفاتيح البيت في الجاهلية بقيت في أيديهم بعد أن أسلموا، فتولوها بصفتهم مسلمين غير مشركين باللَّه تعالى.
وان النهي عن دخول المسجد الحرام يدل على حرمة دخوله بالنص، وعلى حرمة دخول غيره من المساجد بالقياس عليه، وبالنص المشير إلى ذلك بقوله:
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧).
3273
وإن رفعة المساجد في الآية الكريمة تومئ إلى ألا يدخلها من يشرك بالله أحجارا أو أشخاصا، أوصافهم تتنافى مع أوصاف الذين يسبحون فيها بالغدو والآصال.
ولقد كان حجيج المشركين من شتى البلاد العربية يوجدون رواجا ماديا بين أهل مكة، كما قال تعالى عن إبراهيم: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ...).
فإذا منع المشركون حُرم سكان مكة، وهم المسلموِن بعد الفتح من ذلك الوفد الذي يجيء إليه، ولذا قال تعالى: (وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةَ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ) العيلة: الفقر إذا حرموا من أرفاق المشركين ومتاجرهم، وقد قدر الله خوفهم من الفقراء، أو قلة المال إذا منع المشركون من الحج وقصد بيت الله الحرام فقال: (وَإِنْ خِفْتُمْ) وعبر للدلالة على أن تقدير الخوف مشكوك فيه منهم؛ لأن الإيمان يجعلهم يطمئنون ولا يخافون، ومع ذلك طمأنهم الله تعالى فأكد أنه سيغنيهم الله من فضله إن شاء، ونشير هنا إلى أمرين:
أولهما - أن قوله تعالى: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) (الفاء) فيها في جواب الشرط، و (سوف) لتأكيد وقوع الإغناء إن شاء الله تعالى في المستقبل، فالسين وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل.
ثانيهما - التعبير بقوله تعالى: (مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ) فذكر الفضل منسوبا إلى الله تعالى فيه إشارة إلى أنهم لَا يرزقونكم بل الرزاق ذو القوة المتين هو الله الذي يرزقكم من فضله، وقوله: (إن شاء) بالتعليق على مشيئته سبحانه وتعالى فيه إشارة إلى: أولا بأن ذلك بمشيئته سبحانه إذا اتخذوا الأسباب، وإن ذلك حسب حكمته؛ يغنيهم إن لم يطغهم الغنى، ويحرمهم إن كان الحرمان يفطم نفوسهم، ويقوي إرادتهم ويعودهم الصبر، والصبر عزيمة الأمور.
ولذا ختم الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: (إِنُّ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) في الجملة تأكيد بالجملة الاسمية، وبـ (إنَّ) وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة الذي تتصف
3274
ذاته الكريمة بكل كمال وجلال، وفي هذا التصدير دلالة على صدق ما وعد، و (عَلِيمٌ) ي علم كل شيء وما تعلمون وما لَا تعلمون، و (حَكيم) ويدبر الوجود بمقتضى حكمته.
وقد أنجز الله تعالى ما وعد، فقد أغنى الله تعالى أهل مكة ومن حولهم بالجزية والخراج، وإسلام أهل اليمن، وكان ذلك عقب الفتح، فجاءهم الحجيج بأرفاقهم، مسلمين غير مشركين، وما حرموا من خير كان يجيء إليهم، بل استمر ومعه زيادة وهو يجيء طيبا من أطهار، وأرسل عليه السماء مدرارا، فأنبت الزرع وأثمر الشجر، وأتت الأنعام بالخير.
قلنا في أول تفسير هذه الآية، إن المشركين هنا تعم المشركين الذين يعبدون الأحجار، والذين يعبدون الأشخاص. ولذلك قال تعالى:
3275
(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)
ذكرنا أن النصارى واليهود، لأنهم عبدوا أشخاصًا وافتروا على الله تعالى - مشركون، وإن سُموا أهل كتاب؛ لأن الله تعالى بعث إليهم رسولين من أولي العزم من الرسل، وأنهم حرفوا تعاليمهم، وكتبهم التي نزلت من عند الله تعالى، وقد أمر الله تعالى بقتالهم كالمشركين على سواء؛ لأن الشرك يجمعهم وإن اختلفوا عنهم بأن كتابا جاء بالتوحيد خوطبوا به، فكانت الحجة قائمة عليهم أشد من قيامها على الأميين من المشركين.
ولذا ذكر الله تعالى وصفا موجبا للقتال يجمعهم مع المشركين، فقال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) وكرر لا لتأكيد كفرهم باليوم الآخر؛ لأنهم صدقوا به على انحراف، فاليهود منهم الفريسيون، لَا يؤمنون بيوم الآخرة قط، وسائرهم لَا يؤمن بالجزاء الأخروي،
3275
ويعتقدون أن ما ذكر من عذاب العصاة والمذنبين إنما هو في الدنيا، لَا في الآخرة بل إنهم ينكرون الروح ولا يؤمنون إلا بالمادة، فهم ماديون في اعتقادهم من كل الوجوه.
والنصارى لَا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الحقيقي، فهم يقولون إن الذي يدين الناس به هو المسيح لَا الله وحده.
ويعتقدون أنه شريك لله تعالى في الدنيا على أنه الابن، وهو بهذا الوصف هو الذي يُدين، فالطائفتان لَا تؤمنان بالآخرة ولا تؤمنان بالله حق إيمانه، فهم يشركون بالله في العبادة أشخاصا، ويستوي من يشرك مع اللَّه حجرا، ومن يشرك مع الله شخصا، فالاثنان مشركان، وكلاهما يشرك من ليس له مع الله تعالى أمر، ومن لَا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولو كان نبيا مرسلا، كما قال النبي - ﷺ - وحكى عنه ربه: (فل لَا أَمْلِك لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا...).
وقال الله تعالى في تكملة أوصافهم (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) لقد حرم عليهم في التوراة، وهي شريعة لليهود والنصارى أكل الخنزير فأكلوه، وحرم عليهم الربا، فاستحلوه، وحرم عليهم أن يسفكوا دماءهم فسفكوها، وكانوا كالمشركين يحرمون الطيبات ويستحلون الخبائث.
ثم ذكر سبحانه وتعالى من أوصافهم التمرد على الحق، (وَلا يَدِينونَ دِينَ الْحَقِّ)، أي لَا يدينون دين الإسلام الذي - هو الحق في ذاته، لقيام الأدلة والبراهين والآيات القاطعة المثبتة صحة نبوة محمد، ونزول القرآن الكريم عليه، وعجز العرب عن أن يأتوا بمثله، بل عجز الناس أجمعين ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وثبت أن هذا الدين هو الحق الخالد الذي نسخ ما قبله من الأديان؛ لأن فيه خلاصتها الباقية، ولو كان موسى بن عمران حيا لآمن به واتبعه، وعندهم العلم به، لأن التوراة والإنجيل قد بشَّرا به، ويعرفون رسالة محمد كما يعرفون آباءهم وأبناءهم، ومع ذلك تمردوا ولم يؤمنوا ولما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
3276
وقال تعالى: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (من) هنا بيانية للذين في قوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) وإذا كانت (من) بيانية يكون المؤدى: قاتلوا الذين أوتوا الكتاب، وإنما ذكر الكلام أولا معرفا بأوصاف من يقاتلون، ثم بين بعد ذلك بـ (مِن)، لبيان هذه الأوصاف الموجبة للكفر والعناد أولا، ولبيان تمردهم عن الحق ثانيا، ولأن الإجمال ثم البيان يثبت المعنى فضل تثبيت ثالثا.
فالمقصود قتال أهل الكتاب بعد قتال المشركين، وفَلّ شوكتهم، ولقد قال الحافظ ابن كثير في ذلك:
" هذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، واستقامت جزيرة العرب على أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله - ﷺ - لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة، فأذعنوا له واجتمع من المقاتلة نحوا من ثلاثين ألفا ".
وذلك لأن والى الروم قتل من أسلم من أهل الشام، فكان لابد من تقليم أظفارهم، والكلام في القتال في غزوة تبوك سيأتي قريبا، إن شاء الله تعالى.
وإن هذا القتال له نهاية وهو العهد، ولذا قال تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) وقوله تعالى: (عَن يَد) أي عن يد مواتية طائعة راضية، غير ممتنعة، والتعبير باليد إشارة إلى إنهاء القتال الذي يكون بيد باطشة، متجاوزين إلى يد معطية للجزية بالرضا، (وَهُمْ صَاغِرُونَ)، أي كما نقول غير متمردين، قد دخلوا في طاعة أهل الإيمان في صَغَار منقادين مؤتلفين، غير مجاهرين بالعداوة.
وما يعطيه الذمي من المال يسمى جزية، لأنها تجزى أي تقضى، ولأنها جزاء لأن يدفع الإسلام عنهم، ويكفيهم مئونة القتال، ولأنها جزاء لما ينفق على فقراء أهل الذمة كما كان يفعل الإمام عمر، وكما هو واجب في ذاته على المؤمنين وإن
3277
المسلمين في عصر الصحابة كانوا يوفون بعهودهم مع المؤمنين، روي أن أبا عبيدة عامر بن الجراح، كان أخذ مالا من أهل حمص على أن يدفع عنهم جيش الرومان إن أغاروا عليهم، فلما أصيب جيشه بالطاعون ضعف عن رد غاراتهم، ورد إليهم أموالهم.
والإسلام قام بحق التساوي بين جميع من يكونون في طاعته، فإن الجزية التي تكون على الذمي تقابل ما يكون على المسلم من تكليفات مالية، فعليه زكاة المال، وعليه صدقات ونذور، وعليه كفارات، وغير ذلك، ولو أحصى كل ما يؤخذ من المسلم لتبين أنه لَا يقل عما يؤخذ من جزية إن لم يزد.
وإن الدولة كما ذكرنا تنفق على فقراء أهل الذمة، ولقد روى أن عمر - رضي الله تعالى - عنه وجد شيخا يهوديا يتكفف، فسأله: من أنت يا شيخ؟ قال رجل من أهل الذمة، فقال له: ما أنصفناك أكلنا شبيبتك وضيعناك في شيخوختك، وأجرى عليه رزقا مستمرا من بيت المال، وقال لخادمه: ابحث عن هذا وضربائه، وأجْرِ عليهم رزقا من بيت المال.
والجزية بإجماع الفقهاء تفرض على اليهود والنصارى لنص هذه الآية، وتفرض على المجوس لقول النبي - ﷺ -: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " (١) ولا تفرض بالإجماع على مشركي العرب، لأنهم يخيرون بين القتل والإسلام، حتى لا يكون في بلاد العرب دينان.
وقال أبو حنيفة: تفرض على كل مخالف عَقَد عقد الذمة، سواء أكان وثنيا أم كان مجوسيا أم كان كتابيا، لَا فرق، لأن الكفر كله ملة واحدة، وأكثر المالكية على هذا الرأي، وقال الشافعي: لَا تفرض الجزية إلا على اليهود والنصارى والمجوس لورود النصوص.
________
(١) مالك في الموطأ: الزكاة - جزية أهل الكتاب والمجوس (٦١٧). عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. ورواه البخاري: الجزية - الجزية والموادعة مع أهل الحرب (٣١٥٧).
3278
ومقدار الجزية على حسب الاتفاق في الأمان، والله تعالى أعلم.
3279
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) " عزير " هذا كاهن من كهنة اليهود ظهر بعد أن دك أرضهم وشتت شملهم " بختنصر " وهو رأس القوم الأشداء الذين جاسوا خلال الديار، والذين قال الله تعالى فيهم وفي بني إسرائيل: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥).
وقد قال القرطبي في تفسيره: إنهم لم يكونوا جميعا يذكرون أنه ابن الله، ولكن شاع القول بينهم بأنه ابن الله في عصره، ولم يستنكروه، فكان القول، كان قولهم أو على الأقل قول مجموعهم، وقال إنه لَا يوجد يهودي يقول ذلك في عصره، ولكن الزمخشري يقول في الكشاف: " الدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم، فما أنكروا وما كذبوا، مع تهالكهم على التكذيب ".
ولقد روى السدي كلاما يقارب ما جاء في التوراة، لقد قال الحافظ ابن كثير: " ذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك " أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل فقتلوا علماءهم وسبوا كبارهم بقي العزير يبكى على بني إسرائيل، وذهاب العلم منهم حتى سقطت جفون عينيه، فبينما هم ذات يوم، إذ مر على جبانة وإذا امرأه تبكى عند قبر، وهي تقول: وامطعماه، واكاسياه، فقال لها: ويحك من كان يطعمك قبل هذا؟ قالت: الله، قال: فإن الله حي لَا يموت، قالت: يا عزير، فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله؛ قالت: فلم تبكى عليهم؟، فعلم أنه شيء وعظ به، ثم قيل له: اذهب إلى نهر كذا فاغتسل فيه، وصلِّ هناك فإنك ستلقى هناك شيخا، فما أطعمك فكله، فذهب ففعل ما أمر به فإذا الشيخ قال: افتح فمك، ففتح فمه، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة
3279
العظيمة ثلاث مرات، فرجع عزير، وهو من أعلم الناس بالتوراة، فقال: يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة، فقالوا: يا عزير ما كنت كذابا، فعمد وربط على إصبع من أصابعه وكتب التوراة بإصبعه كلها، فلما تراجع الناس من عدوهم ورجع العلماء وأخبروا بشأن عزير فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال، وقابلوه بها فوجدوا ما جاء به صحيحا، فقال بعض جهلتهم: إنما صنع هذا لأنه ابن الله.
وقد جاء في شأن عزير كلاما يشبه هذا في الإصحاح الثامن والتاسع، والعاشر، وإن لم يصرح فيه بأنه الله، ولعل ذلك مما جرى فيه التغيير، على أن نقول إنه باطل محرف وغير محرف.
والنصارى قالوا المسيح ابن الله، قاله بولس، وهو أول من ادعى ألوهية المسيح، ولكنه لم يقله أحد من الحواريين أصحاب الرسول إلا ما قال يوحنا في إنجيل منسوب إليه، وقد كذبته دائرة المعارف الإنجليزية، وقالت إن الذي كتبه في القرن الثالث تلميذ من تلاميذ الأفلاطونية الحديثة.
واستمر سائدا بين المسيحيين أن المسيح ليس إلها ولا ابن إله، حتى جاء مجمع (نيقية) (سنة ٣٢٥ فقرر ٣١٨ أسقفا من ٢٠٤٨ ألوهية المسيح، وفرض ذلك فرضا على المسيحيين، وبذلك كان التغيير الذي ذكره القرآن ثم كان من بعد ذلك مجمع كهذا المجمع قرر ألوهية روح القدس، فكانوا ثلاثة، ولا شك أن ذلك كفر بل إشراك.
(ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) أي أن ذلك القول قول تردده أفواههم بألسنتهم، ولا يدركون له حقيقة يتصورونها، فهم يرددون: الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد، وإذا سألتهم عن مميزات كل واحد، وكيف يجتمعون، لم يحيروا جوابا إلا أن يقولوا هذه غيبيات يصدقها العقل الديني، ولا يصدقها العقل والمنطق، ويقولون الآن كما قال بعضهم في القرن الرابع المسيحي: إنها صفات ثلاث للإله، ولو سألتهم هل المسيح الذي ولدته مريم من غير أب صفة، وليس ذاتًا كانت تمشي في
3280
الأسواق، وتسعظ، وقتله - في زعمهم - الرومان وصلبوه، وجعلتم الصليب، قالوا: إن اللاهوت دخل الناسوت، أو ولد اللاهوت والناسوت، ولم يستطيعوا أن يصوروا ما يقولون تصويرا تدركه العقول.
ومما يجب ذكره أنهم في الزوبعة التي أثارها قسطنطين الروماني الوثني الذي حول النصرانية إلى وثنية عندما أراد دخولها، وذلك في مجمع نيقية آنف الذكر - وجد الأكثرون من بينهم يستنكرون الألوهية، ولكن ما زالوا يعذبونهم، ويطردونهم، حتى وسندوا فكرة الألوهية توسيدا.
وممن أعلن معارضتهم نسطورس الذي أقر بالبنوة التي ادعاها بولس، ولكنه قال إنها بنوة محبة ثم سادت بعد بين أتباع " نيتشة " عندما ساد التثليث فكرة الثلاثة سموها صفات، وجاء بعض المسيحيين في هذه الأيام لما أحسوا باستنكار العقول لعقيدتهم الباطلة، واستحسن كلمة الصفات وهي الأخرى غير معقولة، فذات المسيح المصلوب في زعمهم الذي ولد وعاش وقتل ودفن ثم قام من قبره لَا يمكن أن تكون صفة، إذ الصفة غير الذات.
وإن هذا التثليث هو بذاته اعتقاد الأفلاطونية الحديثة، اختاره قسطنطين، ومن تبعه دينا لهم (١).
وما أبلغ قوله تعالى في تصوير حالهم، إذ يقول: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ)، فهو ليس إلا ألفاظا تردد من غير تصور لمعناها، ويلقنونها لمن يدعونهم إليها، ويستعينون بطرق الاستهواء المختلفة، والخمور، ليودعوها عقولا ضالة بهم.
وقال تعالى: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كفَرُوا) يضاهئون أي يشابهون قول الذين كفروا، وذكر الله تعالى الذين كفروا ولم يبين من هم فقيل المشركون، ولا شك أن وصف الذين كفروا ينطبق عليهم، وهم يشابهونهم في أنهم أشركوا في العبادة غير الله، كما أشرك أولئك الأوثان، وإني أقول إن المشابهة ليست بعيدة
________
(١) راجع " محاضرات في النصرانية، للإمام محمد أبو زهرة - دار الفكر العربي.
3281
الأركان بل ثابتة القرب واضحة، ويدخل معهم أيضا عبدة الأوثان من غير العرب أيضا، وهم البرهمية والبوذية، فهم قالوا إن للإله ابنا، فالبراهمة قالوا إن كرشنة ابن لبراهما، وقال البوذيون: إن بوذا ابن للإله، كما قال النصارى، ويظهر أن موجة من ادعاء البنوة كانت سائدة في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح أخذت منها وثنية النصارى في القرن الرابع مع الأفلاطونية الحديثة عقيدتها الباطلة، ولعل الأفلاطونية الحديثة ذاتها قد أخذت من الهنود، فقد ثبت أن كبيرها ذهب إلى الهند، وعاد بعقيدته (١).
(قَاتَلَهُمُ اللَّهُ)، قيل إنها كلمة تعجب كانت تجري على ألسنة العرب، وقيل إنها للعن مع التعجب، وقد خطر لي أن تكون من القتال، أي أنهم بهذا الإفك الذي لَا يعلمون، قد أعلنوا حربا على الله يقاتلهم وسيكون له النصر عليهم، ثم قال تعالت كلماته: (أَنَّى يؤْفَكُونَ) أي كيف يصدفون عن الحق إلى الضلال الذي لا يفهمونه ولم يفهموه ولم يعقلوه.
وإن دخول هذه العقيدة التي لم يفهموها، وهي في ذاتها غير قابلة للفهم أنهم يأخذون دينهم من رجال ويتلقونه من غير إدراك، ولا تفهم، فأضلَّهم أولا بولس، وأضلهم ثانيا الأساقفة الـ ٣١٨ في مجمع نيقية وأضلهم من جاءوا بعد ذلك، ولذا قال تعالى:
________
(١) راجع " محاضرات في النصرانية "، ورسالة " مقارنة الأديان، للشيخ محمد أبي زهرة - دار الفكر العربي.
3282
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)
الأحبار جمع حِبر بالكسر، ويقال بالفتح، وهو العالم الذي يحسن القول، ويخبره، ويتقنه، وله فصاحة وبيان حسن، والرهبان جمع راهب، وهو الذي ينصرف إلى العبادة في زعمهم، وهو من الرهبة بمعنى الخوف من المعبود، والله تعالى ذكر الرهبنة - لما فيها من الخوف، والرهبة من المعبود - بغير الذم، وإن كانت
3282
مبتدعة، فقال تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧).
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا)، أي جعلوهم أربابا، وفسر النبي - ﷺ - كونهم أربابا، لَا بأنهم عبدوهم، ولكن اتخذوا الدين منهم لَا من كتابهم، فما يحلونه حلال، وما يحرمونه حرام، ولو كانوا يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله.
روى الترمذي عن عدي بن حاتم الطائي أنه أتى الرسول - ﷺ - وفي عنقه صليب من ذهب فقال له: " ما هذا يا عَدِيّ اطرح عنك هذا الوثن، ويقول حاتم: وسمعته يقرأ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مرْيَمَ) ثم قال " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه " (١) فهم يأخذون عن هؤلاء، وقد كان ذلك سببا لضلالهم، فأحلوا لهم الخنزير وشرب الخمر، وملأوا رءوسهم بالأوهام، وابتدعوا ابتداء ما سموه بالعشاء الرباني الذي يكون فيه خبز وخمر، فأوهموهم أن الخبز جَسَدُ المسيح، والخمر دمه، فأباحوه في هذا العشاء.
وإذا كان علم الدين لم يؤخذ إلا منهم فقد أضلوهم ضلالا بعيدا، إذ لم يأخذوا الدين إلا منهم، وتفسير الكتب إلا منهم، وبذلك تركوا دينهم، وتعاليم المسيح إلا منهم فزوروها، ووضعوا الزيف بدل الحياد منها (وَالْمَسِيحَ)، وهو معطوف على الأحبار، وقدم قوله تعالى: (مِن دُونِ اللَّهِ) على (الْمَسِيحَ)، للإشارة إلى أنهم اتخذوه بمرتبة من الربوبية التي نحلوها له غير ما اتخذوه من أربابهم.
________
(١) الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة التوبة (٣٠٩٥).
3283
فما نحلوه له من ربوبية كان عبادة له فكانوا بذلك مشركين، وما اتخذوا من أحبارهم من ربوبية، فهي أنهم قد أخذوا التعاليم منهم، فحرموا من عند أنفسهم، واستباحوا من عند أنفسهم، فمثلا لم يكن في الإنجيل منع من تعدد الزوجات، ولكن الكنيسة بأحبارها ورهبانها منعوه، وكانوا يبيحونه على حسب أهوائهم، كما أباحوه لنابليون، والتوراة فيها الإباحة من غير عدد.
ولو كانت أخرت كلمة (أَرْبَابًا) عن (الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) لكان المعنى أن الربوبية التي اتخذوها واحدة، مع أن ربوبيتهم للمسيح عبادة، وربوبية الأحبار أخذ للتعاليم، وذكر الله تعالى أمه فقال: (الْمَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) للإشارة إلى كونه إنسانا، ولد كما ولد غيره، وإن كان من غير أب.
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) الضمير في أمروا يحتمل أن يعود إلى النصارى، وهو الظاهر، والمعنى أنهم جعلوا المسيح إلها يعبد، ولما أقروا بحكم ما أنزل على موسى وعيسى وحكم إلههما تقدست ذاته وتنزهت عن أن يكون له شريك، ويحتمل أن يعود على الأرباب وهو غير الظاهر، ويكون المعنى أن الأحبار والرهبان قبل أن يكونوا أربابا، أو أن يُتخذوا أربابا، هم أنفسهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا.
قال تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
(هو) تعود على الله تعالى، فهو حاضر في كل نفس، وهو عائد على الله الذي أمروا بعبادته، فقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) تأكيد لمعنى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) فيها تصريح بالألوهية له وحده، سبحانه وتعالى عما يشركونه من عبادة المسيح ابن مريم.
وبهذا يتبين أن من يعبد المسيح مشرك مع المشركين، وكونهم أهل كتاب يضاعف الحجة عليهم.
3284
ثم قال تعالى فيما وصل إليهم الأحبار والرهبان من مفاسد بعد أن أباحوا لأنفسهم أن يحلوا ما شاءوا وأن يحرموا ما شاء بلا رقيب ولا حسيب، فقال سبحانه وتعالى في أعمالهم التي يريدون بها إطفاء نور الحق:
* * *
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
* * *
3285
إن المشركين واليهود والنصارى بالتمويهات الباطلة التي لَا تدركها العقول المستقيمة، وهم ينطقونها بأفواههم ولا تتصورها عقولهم؛ لأنها غير قابلة للتصور، هؤلاء يريدون أن يطفئوا نور الله، وهو الحقائق الثابتة الدالة على أن الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن، والحق الذي جاء به محمد - ﷺ - والمعجزة الكبرى وهي القرآن الكريم، والهدى العظيم، يريدون بهذه الأوهام أن يطفئوا ذلك النور.
وقد شبه الله تعالى محاولاتهم وتضليلهم بحال من يحاول إطفاء الشمس في علاها، والقمر في بزوغه، فمن يحاول طمس الحقائق الظاهرة ضال مبطل في محاولاته كمن يحاول إطفاء الشمس.
وأضاف النور إلى الله تعالى تشريفا لهذه الحقائق، وتنويها بشأنها؛ لأنها مضافة إلى العلي القدير، نور هذا الوجود، كما قال تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥).
3285
أولئك من مشركين وكتابيين يريدون إطفاء نور الله، فهم يعاندون الله، والله تعالى غالب عليهم، ولذا قال تعالى: (وَيَأبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ) وقوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا)، في مقابلة (وَيَأبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يتِمَّ نُورَهُ)، هم يريدون والله تعالى يأبى عليهم، ويأبى عليهم كل أهوائهم، وعلى ذلك فمعنى (يأبى) لَا يريد الله، والاستثناء حينئذ مفرغ، والاستثناء المفرغ لَا يكون إلا في حال النفي، مثل لا يقوم إلا أحمد، ولا يهدي إلا محمد، ولا معجز إلا القرآن.
فكيف يكون قوله تعالى: (وَيَأبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ) استثناء مفرغا، ونقول إن (يأبى) متضمنة معنى (لا يريد)، في مقابل (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْوَاهِهِمْ)، فهم يريدون الإطفاء والله لَا يريد إلا أن يتم نوره، ويعم الوجود الإنساني، وإرادة الله هي النافذة، لأن إرادتهم ظلمة، والنور كاشف الظلمة، (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) لأن ستر الحقائق والتمويه والتضليل لَا يدوم مهما بطل الزمان، وقد أيد الله دعوة الحق بإرسال محمد يكشف به الظلمات، فقال تعالى:
3286
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
الضمير يعود على لفظ الذي يأبى إلا أن يتم نوره، وكان من إتمام نوره إرسال محمد - ﷺ - الذي أبطل الشرك وأبطل مقالة أهل الكتاب التي ليس لها من الحق سلطان تقوم عليه.
قال تعالى: (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) الهدى هو القرآن، وهو ما جاء به النبي - ﷺ - من هداية. أخرجت العرب من الظلمات، والقرآن فيه الهدى الكامل كما قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...).
و (الباء) في قوله تعالى: (بِالْهُدَى) للمصاحبة أي مصاب للهدى أي معه المعجزة الباهرة، والهداية الكاملة.
3286
وأضاف الرسول إليه سبحانه في قوله: (رَسُولَهُ) تنويها بشأنه، وتشريفا وتكريما، وللإشارة إلى أنه ناصره ومؤيده وقاهر عدوه مهما يكونوا. وقوله تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) اللام للتعليل أو للعاقبة، وعلى أنها للتعليل يكون المعنى أنه أرسله ليظهره على الدين، فالإرسال وكونه رسوله علة للإظهار، أو للعاقبة، ويكون لتكون عاقبة الإرسال أن يظهره على الدين كله.
ودين الحق هو التوحيد، والإضافة للبيان، أي الدين الحق، والإضافة تدل على أنه الدين الحق الذي هو لباب الأديان الحق كلها، ولذا قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...)، وهو التوحيد.
وقال تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) الدين كله قالوا إن المراد على الأديان كلها، ولكنا نرى أن المراد الدين الحق الذي ذكره أولا؛ لأن إعادة المعرفة معرفة تكون عينها، ومعنى ظهوره على الدين كله المراد بقاؤه ظاهرا معروفا، لأنه خاتم الرسل وآخرهم، ويتضمن كل ما جاءت به الرسل جميعا، وهذا هو معنى " كله " فهو الدين الجامع لكل الرسالات السابقة، فمن آمن بها فقد آمن بكل الشرائع السماوية السابقة سليمة غير محرفة.
هذا ما نختاره والله الموفق للصواب.
وقد جاءت أخبار كثيرة تدل على انتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وإنها لصادقة (راجع تفسير الحافظ ابن كثير)، وفي هذه الأخبار الصحاح إشارة إلى أن الأمراء هم الذين يفسدون أمر المسلمين، فقد جاء في مسند الإمام أحمد رضي الله عنه: " سمعت شقيق بن حبان يحدث عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة " (١) صدق رسول الله - ﷺ -
________
(١) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - أحاديث رجال من أصحاب رسول الله - ﷺ - (٢٢٥٩٩).
3287
فحكام " المسلمين هم " الذين. أفسدوا الناس وكانوا حجة على هذا الدين، ومهما يكن فإن الله أظهر الدين على الدين كله، وقال: (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الذين عادوا الله وعادوا الحق، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله.
وإن الله تعالى حافظ دينه، وإذا كان المسلمون قد غلبوا على أمرهم بعمل حكامهم، فإنه لَا تزال طائفة منهم قائمة على الحق تنادي به وتحفظه. بعد أن بين الله الضلال الذي أضل به الأحبارُ والرهبانُ اليهودَ والنصارى إذ اتخذوا أربابا من دون الله، وذكر أن محمدا - ﷺ - قد أرسل بالهدى والدين الحق ليزيل ضلالهم، وليظهر بالحق على الدين عاد إلى الكلام في الأحبار وكيف فسدوا وأفسدوا، فقال تعالى:
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
* * *
الخطاب للذين آمنوا والنداء لهم بالبعيد، والخبر عن أحبار اليهود ورهبان النصارى، فلماذا كان الإخبار للذين آمنوا؛، أَلِمُجَرَّدِ القصص الحكيم الذي تكون فيه العبرة أم له ولأمر آخر يطويه الإخبار بقول إن القصص لَا ريب فيه العبرة كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأَلْبَابِ...)، ولكنه يطوي أمرين آخرين، وهما:
3288
أولا: ألا يثق المؤمنون بهم بما يلبسونه من طقوس، ومسوح يلقون بها بين الناس المهابة منهم والثقة فيبين الله للمؤمنين أنهم يتجرون بعلمهم، ويأخذون الرشا وسحت المال، والاتجار بالعلم في ذاته غير جائز، فكيف إذا كان الثمن رشا وبراطيل وسحت المال.
وثانيا: ليكون ذلك تحذيرا لمن يتعلمون علم الإسلام بألا يتخذوه مُتَجرًا يتجرون به، فعلم الإسلام أعلى ما يدخره العلماء فلا يبيعونه ولا يحطون به على هوى الحكام، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير: " والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان الثوري: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى... والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم، ويقول في ذلك الفقيه عبد الله بن المبارك:
" وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها "
3289
(لَيَأكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ) معناها يأخذونها بغير مسوغ ديني، وعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأكل في الأصل هو أوضح الغايات، ولأنه ينبئ عن الشره والطمع في الأموال وأخذها بغير حق، وذلك أانهم كانوا يأخذون سحت الأموال، ويبيعون ما يحلونه لأنفسهم من الدين، ويأخذون البراطيل، وكلما زادت ثقة الناس فيهم ازدادوا طمعًا في أموالهم، بل فيما هو أفحش من باطل الأموال، وبعد أن ضعف الدين في قلوب علمائنا كان منهم من يفعل مثل فعلهم، ويقول في ذلك ابن كثير: " وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين، ومناصبهم، ورياستهم في الناس يأكلون بها أموالهم، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف، ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث الله رسوله - ﷺ - استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرباسات فأطفاها الله بنور النبوة، وسلبهم إياها!.
وإن نور النبوة المحمدية بعد أن بزغ، وعم ضياؤه كان مزيلا لما يشيعه الأحبار والقسيسون من إفساد وضلال، ولذلك لما فتك النصارى بالمسلمين في
3289
الحروب الصليبية كان بعده الإصلاح المسيحي، مع أن حال المسلمين لم تكن كما أراد لها الإسلام.
كلمة (والأحبار) فسرناها من قبل بالعلماء الذين يحبرون العلم، ويزينونه بحسن الأداء والبيان واللسان والقلم، ولكن بعض المفسرين يفسرون الأحبار بأنهم علماء اليهود، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ...)، وأما علماء النصارى فيقال عنهم قسيسون، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: (... ذَلِكَ بِأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)، والرهبان عباد النصارى ولعلهم يقابلون الربانيين في اليهودية ولا مانع من هذه التسمية، ولعل إطلاق الأحبار ربما يسع القسيسين ليكون سيرا على الأصل اللغوي من معنى كلمة الأحبار.
وعبر سبحانه وتعالى عن كل كسب خبيث بقوله تعالى: (بِالْبَاطِلِ)؛ لأن الباطل يشمل أخذ المال بغير حق، يبرر الأخذ بالخديعة أو بالغش والتدليس والاتجار بدين الله تعالى.
ومع أنهم كانوا يخدعون الناس بتدينهم الآنف، وخصوصا الرهبان كانوا يصدون عن سبيل الله تعالى، فقال تعالى: (وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلٍ اللَّهِ) كأنهم يتخذون مسوحهم ورياستهم الدينية، لابتزاز الأموال، وأخذها بغير حقها، والعبث بها، واكتنازها متخذين في ذلك مظاهرهم ذريعة لمآثمهم، يصدون ويمنعون أتباعهم الذين اتخذوهم فريسة لأهوائهم من أن يتبعوا الحق، والنور الذي جاء به محمد - ﷺ -، وهو سبيل الله الحق الذي لَا يمتري فيه عاقل، ولا ذو قلب، وبصر، كما قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عن سبِيلِهِ...).
وإن الأموال التي يأخذونها يجمعونها، ويكنزونها، ومأواهم جهنم، ولذا قال سبحانه بعد ذلك:
3290
(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
وهذا النص الكريم يبين أن جمع المال لَا يجدي، ويضر صاحبه، ومآله شر في الدنيا والآخرة، والكنز في اللغة: الضم والجمع لكل شيء ثمين سواء دفن في باطن الأرض، أو لم يدفن، ولكن شاع استعماله فيما يدفن في باطن الأرض، ولكن شيوعه لَا يمنع أصل إطلاقه، ولا يمنع الشيوع من أن يطلق على الأصل اللغوي القوي، ولقد قال شيخ المفسرين الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها.
وظاهر الآية يدل على أنها عامة تعم الأحبار والرهبان وغيرهم من المسلمين وغيرهم، ولكنها سيقت في مقام الكلام على أكل الرهبان والأحبار لأموال الناس بالباطل، ولا يمنع ذلك من عموم؛ لأن لفظها عام، والعبرة بعموم اللفظ، وقد جرت مناقشة في ذلك بين أبي ذر الصحابي الجليل، ومعاوية بن أبي سفيان، ولنذكر بعضها:
قال الحافظ ابن كثير: " كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك، ويحث الناس عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه ".
كان الصحابي الطاهر المؤمن يعيش في الشام، والأمير معاوية، وأبو ذر يجهر برأيه ويحث الناس عليه ويستنكر النعيم الذي يرفل فيه معاوية، ومن يواليه، فأبلغ أمره إلى أمير المؤمنين عثمان ذي النورين، فأحضر أبا ذر، فاختار أبو ذر أن يقيم بالربذة، ولكن الراجح من الروايات أن عثمان هو الذي أنزله بها، وبها مات رضي الله عنه.
وقد روى البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا؟ قَالَ: " كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: ﴿الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ " قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الكِتَابِ، فَقُلْتُ: " نَزَلَتْ فِينَا
3291
وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ: أَنِ اقْدَمِ المَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ " فَقَالَ لِي: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، «فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا المَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ ".
وإن هذا الحديث يدل عنى أنه اختار هذا البعد، وربما يكون قد اختار الربذة بالذات.
وفى المناقشة بينه وبين معاوية أغلظ، وقد أراد معاوية أن يغويه بالمال أو يختبره وهو عنده، أيوافق قوله عمله أم لَا، فبعث إليه بألف دينار، ففرقها على الفقراء من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها، فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت، فهات الذهب، فقال: ويحك إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبتك. وفي الحق أن أبا ذر قد أصاب كل الإصابة في قوله: إن الآية تعم الأحبار والرهبان وأتباع محمد - ﷺ - وأخطأ معاوية، وما لمعاوية وفقه القرآن!.
ويحق إذن أن نقول إن الآية عامة لَا تخص الأحبار والرهبان، ولا نسير إلى المدى الذي يسير إليه سيدنا أبو ذر الصحابي المخلص بحيث لَا يبيح لذي المال إلا ما يكفيه وعياله كما كان يفعل في - ذات نفسه، ويدعو إليه. روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، فقضت منها سبعة، فقلت: لو ادخرت لحاجة بيوتك، وللضيف ينزل بك، فقال: إن خليلي أوصاني أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله إفراغا.
ولقد قال ابن عبد البر: " وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة!.
3292
ونحن نتبع جمهور الصحابة؛ وذلك لأنه إذا لم يبق شيء من المال بعد نفقاته ونفقات عياله لم يكن ثمة زكاة، لعدم وجود وعاء لها، فشرعية الزكاة توجب مالا مدخرا حولا، وذلك ينافي ما ذهب إليه أبو ذر رضي الله عنه. وأيضا فإن الأخذ برأي الصحابي الجليل ينافي الميراث؛ لأن الميراث يكون في المال الذي يبقى، وقد منع الصحابي الجليل بقاء أي مال يورث أو تجب فيه الزكاة.
وأيضا فإن معنى رأيه إلغاء الوصية مع الميراث، وقد شرعت الوصية بالقرآن، وبالحديث النبوي، فقد روى أن النبي - ﷺ - قد قال: " إن اللَّه تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث مالكم فضعوه حيث شئتم) (١) ولقد كان من الصحابة من لهم ثروات في عصر النبي - ﷺ - فما استنكرها عليهم، فعثمان كان ثريا وتاجرا، وعبد الرحمن بن عوف كان ثريا وتاجرا، وأبو بكر وعمر كانا من ذوي الأموال.
وإنه لو أخذ برأي أبي ذر ما كانت التجارات، فأسواقها تقوم على رءوس الأموال، وما كانت الصناعات، فهي أيضا تقوم على رءوس الأموال.
من أجل هذا كان لابد من تخصيص كنز الذهب والفضة الذي أوعد الله تعالى، وقد خصصوه من ذات النص القرآني فقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا ينفِقونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إن الوعيد على الأمرين مجتمعين لا على أمر واحد منهما. فليس الوعيد على الكنز لذات الكنز، وإنما الوعيد على الأمرين معا، على الكنز وعدم الإنفاق في سبيل الله تعالى، فإذا وجدا معا كان التبشير بالعذاب الأليم، وكان الوعيد الشديد لمن يمنع الإنفاق مع أنه يكنز المال، ولذا تضاربت الروايات على أن من يعطي الزكاة لَا يكون عليه إثم الكانزين، بل إنه لَا يعد كانزا من يخرج حقه في سبيل الله، وإنما الكانز هو الجامع للمال الذي يمنع حقه.
________
(١) سبق تخريجه.
3293
وقد ورد ذلك عن النبي - ﷺ -، بأن الإنفاق يمنع إثم الكانز الذي يجمع المال، وإنما ورد في الأثر الصحيح: " نعم المال الصالح في يد العبد الصالح " (١).
ويجب أن نشير هنا إلى أن الآية تشير إلى أن المال لَا يكنز من الذهب والفضة، بل يجب أن يخرج للاستغلال الحلال بالاتجار، والصناعة، والزراعة، ولا يبقى في الخزائن، كالماء العطن الذي لَا ينتفع به، وفي الآية إشارات بيانية: منها - قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب) فإن في الآية تهكما عليهم؛ لأن العذاب الأليم لَا يبشر به، بل يهدد به، وفي التعبير بقوله تعالى: (فَبَشِّرْهُم) تهكم بهم، إذ إنهم كانوا يرتقبون خيرا في الآخرة من تكاثرهم في المال واكتنازه فجاءت العقبى غير ما يرتقبون.
ومنها - أن الضمير أعيد على الذهب والفضة بضمير المؤنث في قوله: (وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لملاحظة المعنى وهو الدنانير من الذهب، والدراهم من الفضة، وهي جمع، فأعيد عليها بضمير المؤنث، وهو لما لَا يعقل يكون بالضمير المؤنث.
والثالثة - أنه ذكر الكنز في الذهب والفضة دون غيرهما مع أن الأموال كثيرة، وكان المال يطلق على النعم دون غيرها، وأجيب عنها بأن الذهب والفضة تطلق على كل المال، وهما مقياس التقدير لكل الأموال، وقد قال في ذلك الزمخشري: إنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما، لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلا على ما سواهما.
________
(١) عن عَمْرو بْنِ الْعَاصِ، يَقُولُ: بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي» فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَهُ، فَقَالَ: " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ وَيُغْنِمَكَ، وَأَزْعبُ لَكَ مِنَ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً». قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ زَعْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: " يَا عَمْرُو، نِعْمًا بِالْمَالِ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ. رواه أحمد: مسند الشاميين - حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه (١٧٣٠٩).
3294
هذا معنى الآية الكريمة فيما يظهر لنا، ويجب أن ثنبه إلى أنه لَا يصح النهم في المال إلا للقيام بمصلحة عامة، ولا يصح أن يكون المال مطلبا ذاتيا، وغرضا مقصودا لذاته لَا للتمكن من النعم، فإنه حينئذ يلهى عن المقاصد السامية، كما قال تعالى: (أَلْهَاكمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)، (١)، ولأنه يصير عبدا للمال، لَا سيدا متصرفا، والنبي - ﷺ - يقول: " تعس عبد الدرهم " - وقد روى أن رسول الله - ﷺ - قال: " تبا للذهب تبا للفضة، قالها ثلاثا فقالوا له: أي مال نتخذ: قال: " لسانا ذاكرا وقلبا خاشعًا، وزوجة تعين أحدكم على دينه) (٢) وقال - ﷺ -: " من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها " (٣).
ذكر الله عذاب يوم القيامة لمن كنز الذهب والفضة من غير إنفاق:
________
(١) جزء من حديث رواه البخاري: الجهاد والسير - الحراسة والغزو في سبيل الله عن أبي هريرة رضي الله عنه (٢٨٨٧).
(٢) رواه أحمد في مسنده: باقي مسند الأنصار - حديث رجال من أصحاب النبي - ﷺ - (٢٢٥٩١).
(٣) رواه أحمد: مسند الأنصار - حديث أبي ذر رضي الله عنهم (٢٠٩٦٩). قلت: وقد نوَّه الثيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى إلى مراجعة الكشاف عند هذا الموضع.
3295
(يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
(يَوْمَ) تتعلق بقوله: (بِعَذَاب أَلِيم)، أي ذلك الإيلام الشديد، يوم يحمى عليها أي يوقد عليها، والضمير يعود إلى الذهب والفضة كما يعود ضمير ينفقونها إليها على التخريج الذي ذكرنا آنفا، ولهذا النص تصوير لحال الأشحة الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبل الخير، ولا يؤدون ما تعلق بها من نفقات على العيال، والفقراء، فلا يعطون المال على حبه مسكينا يتيما وأسيرا، ويعيشون لأنفسهم، لَا يتجاوزونها إلى غيرهم من الفقراء والمحاويج والمجاهدين والمؤلفة قلوبهم والغارمين وفي سبيل الله.
و (يُحْمَى عَلَيْهَا) أي يوقد عليها فتكون كمقامع تكوى بها وجوههم، وجنوبهم وظهورهم، وذكرت هذه الأعضاء لأنها تعم الجسم كله، وابتدأ بالوجوه
3295
لأنها بها المواجهة، وبها تتميز الأشخاص؛ ولأنهم يطلبون بكنز المال الوجاهة في الدنيا، والشأن فيها، ولأنهم بالكنز يصونون ماء - وجوههم، كما قال الزمخشري " أن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل الطيبات يتضلعون منها، وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب، يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم لَا يخْطِرون ببالهم قول رسول الله - ﷺ - " ذهب أهل الدثور بالأجور ".
وقيل لأنهم كانوا إذا بصروا الفقير عبسوا وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم، وولوه ظهورهم، وقيل: معناه يكون على الجهات الأربع مقاديمهم، ومآخيرهم وجنوبهم، اهـ.
هذه مقالة الزمخشري، ونرى الأقوال التي ذكرها كلها صادقة، فهم ينتفعون بالأموال مفاخرين بها مباهين مستعلين يملئون بطونهم منها، ويلبسون الدمقس والحرير، ويعبسون للفقراء، ويهشون للأغنياء، ويوم القيامة تحيط بهم النار من الجهات الأربع، بحيث لَا ينفلتون عنها، ويكوون بها في كل أجزاء جسمهم، ولا يجدون للفرار منها سبيلا.
(هَذَا مَا كنَزْتمْ لأَنفُسِكُمْ) هذه النار الموقدة من تنوركم هي ما كنزتموه أي عاقبته ومآله، أو ذاته، فذوقوا ما كنتم تكنزون، أي وبال ما كنتم تكنزونه، أو ذوقوه موقدا للنار.
هذا خبر الله تعالى عن الكنوز وأصحابها يوم القيامة، وما يتعلق باليوم الآخر نقبله كما هو، ويصح أن نقول إنه تصوير لحالهم تسببه عاقبة أمرهم بمن يكوون بذهبهم وفضتهم، والله عليم خبير.
قد ابتدأ في سورة براءة بذكر الأشهر الحرم ومنع القتال فيها ثم تكلمت على عهود المشركين وعمارة المسجد الحرام، وعلى منع المشركين من المسجد الحرام وبيان شرك أهل الكتاب، وعبث الأحبار والرهبان بمداركهم.
3296
ومن بعد كان الجهاد، وقدم اللَّه تعالى بيان الأشهر الحرم حرامها وحلالها، فقال تعالى:
* * *
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٣٧)
* * *
إن الله تعالى وقت العبادات غير الصلاة بشهور من السنة، فرمضان شهر القرآن، وشهر الصيام، وذوالحجة شهر الحج لأن فيها يوم عرفات، والحج له أشهر معلومات كما قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ...)، وهذه الأشهر هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وجعلت الأشهر بالأهلة، تبتدئ برؤية الهلال وتنتهي برؤيته، كما قال تعالى: (يَسْألُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ فلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ...) أالبقرة، وقال تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم) أيس، ، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (١٢)، وجعلت الأهلة علامة الشهور ابتداء وانتهاء، أو هي الشهور لأمرين:
3297
أولهما - أن يعلم ابتداء الشهر بالحس لَا بالتقدير والحساب المجرد؛ فإن الأشهر الشمسية لَا تعرف إلا بالحساب.
ثانيهما - ألا تتغير السنة بالزيادة والنقصان فتكون (كبيسة) فتزاد، أو (بسيطة) فلا تزاد، وإنها تتفق مع طبائع الناس.
وبذلك لَا تتغير أوقات العبادات، ولا تختلف، وجعلها الله تعالى اثني عشر شهرا، وقد ثبت كل شهر في موضعه ذاته لَا يفترق عنه، وقلنا: إن طبائع الناس تسير مع الأشهر العربية فثبت أن الحيض والحمل يتبعان الأشهر القمرية. وقد قال تعالى:
3298
(إِن عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كتَابِ اللَّهِ) و (عِندَ اللَّهِ) معناها في حكمه وتقديره سبحانه وتعالى، وعلينا أن نهتدي بما هدانا إليه، وقوله تعالى: (فِي كِتَابِ اللَّهِ)، أي فيما كتبه علينا من أحكام متعلقة بهذه الأشهر، وقال بعض العلماء: المراد ما كتب في اللوح المحفوظ الذي فيه ما قدره الله تعالى بعباده، فهو لوحه المكنون.
ويقول سبحانه: (مِنْهَا أَرْبَعَة حُرُمٌ) الضمير يعود إلى (عِدَّةَ الشُّهُورِ)، وحُرُمٌ جمع حرام، وقد فسرت بأنها التي حرم فيها القتال، وكان ذلك قبل الإسلام على شريعة إبراهيم عليه السلام الذي تعود إليه مناسك الحج، وإذا كان المشركون قد حرفوا فيها وغيروا وبدلوا فإن الإسلام قد أعادها كما بدأت؛ لأنه ملة إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى: (... وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...).
وهذه الأشهر الحرم هي ثلاثة سرد، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، وقد قال النبي - ﷺ - في خطبة الوداع مبينا شريعته، ومنها الأشهر الحرام، وكانت الخطبة في العام العاشر " إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ
3298
حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحَجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ "، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ ذَا الحَجَّةِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ - عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ (١).
وإن معنى قول النبي - ﷺ -: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " أن المشركين كما سيتبين يغيرون في الأشهر الحرم اتباعا لشهواتهم في القتال والغارات، فكانوا إذا جاء الشهر الحرام، وهم يتقاتلون، أو يريدون الغارة أجَّلوه إلى ما يليه، ويسمون ذلك النسيء كما سيأتي في الآية الآتية، إن شاء الله تعالى، فمعنى قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، أن هذا الوقت هو وقت صادق أنه في الأشهر الحُرُم.
وتحريم القتال في هذه الأشهر فرض هدنة شرعية تحمل الناس على ألا يرفعوا السلاح ولا يقاتلوا، فتعود القضب إلى أجفانها فتكون الترويه، وإذا كان بين المتقاتلين هدنة يتروون فيها تكون كالنسيم العليل فتهدأ النفوس، وربما أنهت القتال، ألم تر أن هدنة الحديبية أنهت القتال بين النبي والمشركين.
وفوق ذلك فهذه الأشهر هي أشهر الحج، فيجب أن يكون فيها أمن السارى في ذهابه إلى الحج وأوبته، حتى تؤدى فرائض الله، والأشهر المتواليات أشهر
________
(١) متفق عليه، رواه البخاري: المغازى - حجة الوداع (٤٤٠٦)، ومسلم بنحوه: القامة والمحاربين - تغليظ تحريم الدماء (١٦٧٩).
3299
الذهاب والأوبة، ورجب مضر كان شهر عمرة، فأُمِّن ليتمكن من يريد العمرة من أن يعتمر فيه.
ولقد قال تعالى: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الإشارة إلى ما تقدم من عدة الشهور، وتحريم القتال في أربع منها هو الدين، وعبر عنها بأنها الدين لمكان تحريمها من الشرع، وإن كانت بعض (الدِّينُ)، فذلك التعبير السامي تأكيد لمنع القتال في الأشهر الأربعة، و (الْقَيِّمُ) معناه المستقيم القويم وكان كذلك؛ لأنه ما سلكه إبراهيم باني البيت ورافع قواعده، ولأنه يكفكف حدة القتال، ولأنه يمكَن قاصدى البيت من أن يصلوا إليه، ويعودوا منه.
وقال تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) الظلم: النهي عنه في هذه الأشهر الحرم، هو ظلم أنفسهم باستمرار القتال فيها، فظلم للنفس أن يقاتل، وقد منع من القتال، ولأنه عصيان لله، وكل عصيان لله تعالى فهو ظلم للنفس، وقال بعض العلماء: إن الظلم للنفس في الشهر الحرام هو أن يُعتدى عليهم فلا يدافعوا عن أنفسهم ويردوا اعتداء غيرهم، ونقول: إن القتال في هذه الحال لَا يكون محرما في الشهر الحرام، بل المعتدى على الشهر غيرهم، والله تعالى يقول: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاص...).
وبعد ذلك أمر الله تعالى بقتال المشركين كافة ردا لاعتدائهم فقال: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَةً...).
وهذه لَا تتنافى مع تحريم القتال في الأشهر الحرم، بل إنها تؤيده في معناه، إن المشركين في غزوة الأحزاب وغيرها - وخصوصا إذا أدخلنا في عداد المشركين من كانوا يعبدون الأشخاص - كانوا يجتمعون كافة، فكان حقا على المؤمنين أن يجتمعوا كافة لهم، ولا يتخاذلوا أمامهم، وإن قاتلوا المؤمنين بكافتهم في الأشهر الحرم، وجب أن يجتمعوا كافة لمقاتلتهم ولا يتوانوا ويثاقلوا.
وكان غريبا أن يتخذ بعض الفقهاء من قوله تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكينَ) دلالة على نسخ الأشهر الحرم، كان بعض الآية يهدم
3300
بعضها الآخر، فأول الآية يبين شريعة الأشهر الحرم، وآخرها - في زعمهم الغريب عن كل معقول في القول - يهدمه، وهذا إذا كان في كلام الناس يكون غريبا، فكيف يكون مقبولا في كلام الله سبحانه وتعالى، بل من الغريب أنهم تنسَّخوها قبل تتميم حكمها بالكلام في النسيء، ويزكون وهمهم الكاذب بأن النبي - ﷺ - حاصر الطائف في الشهر الحرام، وإن الثابت تاريخيا أن النبي أنهى الحصار قبل انتهاء شوال (١).
وإن الحق أنه لَا نسخ، ومن ادعى النسخ فقد ادعى أمرا غير معقول في ذاته، وذلك لما يأتي:
أولا - أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أكد تحريم القتال في الأشهر الحرم في حجة الوداع، وبين أحكاما أخرى.
ثانيا - أن الله تعالى ذكر الشهر الحرام في آيات كثيرة منها قوله تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ...).
وهذا في سورة المائدة التي هي من أواخر القرآن نزولا، وقال تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْث وَجَدتُّمُوهُمْ...) وقال تعالى: (يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَال فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كبِيرٌ...).
وهكذا تعددت الآيات المحرمة، ومع ذلك يدعي بعض الفقهاء النسخ بغير حجة إلا أن تكون موافقة الملوك الشرهين إلى الدماء، وتكون مع المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
وقد أتم الله تعالى ما ذكره في تحريم القتال في الأشهر الحرم، وتلاعب المشركين به فقال:
* * *
(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٣٧)
* * *
________
(١) راجع كتاب " خاتم النبيين " للإمام محمد أبو زهرة. دار الفكر العربي.
3301
ختم الله تعالى الآية السابقة بقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ) لإشعار المؤمنين بأنه من التقوى إطاعة الله في تحريم القتال في الأشهر الحرم حقنا للدماء، وأن الله تعالى لَا يصاحب ولا ينصر إلا المتقين، وأكد ذلك بالأمر بالعلم، كما أكده بالصحبة السامية لله تعالى، وبالجملة الاسمية.
ولذلك ذكر من بعد ذلك الاعتداء على الأشهر الحرم بالنسيء، والنسيء معناه التأخير والتأجيل، يقال: (نسأ) بمعنى أخَّر وأجل، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم " من أراد منكم أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه " (١).
وكانت طريقة النسيء أن يجيء إلى المحرم وهو من الشهر الحرام فيستبيح القتال فيه، ويؤجل التحريم إلى صفر، فيستبدل بالشهر الحرام شهرا حلالا، ولأنه يريد الغارة، وقالوا: إنما كانوا يفعلون ذلك رغبة في الغارات، وطمعا في الأموال من النعم، ويذكر ابن إسحاق في سيرته أن أول من فعل ذلك رجل من كنانة اسمه " القَلَمَّس ".
ولقد ذم الله النسيء أشد الذم فقال تعالى:
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأدب - من بسط له في الرزق بصلة الرحم (٥٩٨٦)، ومسلم: البر والصلة (٢٥٥٧).
3302
(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكفْرِ) أي ليس النسيء إلا زيادة في الكفر، فـ (إنما) أداة قصر، فهو ليس إلا زيادة فيه؛ كفروا بملة إبراهيم عليه السلام فعبدوا الأوثان وطافوا بالبيت عراة، وكان شرع إبراهيم تحريم القتال في أربعة أشهر معينة بالتعيين، فغيروا فيها بالنسيء، فزادوا بذلك كفرا إلى كفرهم.
وقال تعالى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أن شهواتهم في الغارات والقتل والقتال وتحكم الشيطان في نفوسهم يضلهم، ويلاحظ أنه بني للمجهول للدلالة على أن عوامل الضلال كثيرة رأسها شهواتهم في الحرب، وسيطرة الشيطان على نفوسهم، والعداوة والبغضاء بينهم، وكان هذا لأنهم أصحاب غارات وحروب
3302
مستمرة، فإذا جاء الشهر الحرام، لم يحرموا ما هم عليه من قتال، بل يستمرون سادرين في غيهم، ويؤخرون التحريم إلى الشهر الذي يليه، ثم يسيرون في غيهم، ويقول الزمخشري: ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهرا أو أربعة عشر.
ويقول سبحانه وتعالى: (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرمُونَهُ عَامًا) يحلون النسيء عاما، ويمنعونه عاما حسب سيطرة هوى الحرب على أنفسهم، وتحكم شهوتها في نفوسهم، وقد يقصرون السنة عن اثنى عشر شهرا، ليعوضوا الزيادة التي زادوها، وذلك ليواطئوا عدة ما حرم الله، " العدد الذي حرمه الله تعالى وهو أربعة أشهر ".
وإنهم بذلك يخالفون ما شرعه الله تعالى، وهو أنه حرم أشهرا معدودة بأربعة، ومعينة بالتعيين، حسب ميقات كل شهر وموضعه من السنة، وبالنسبة لما قبله، وما بعده، فبالنسيء خالفوا التعيين، ووضعوا شهرا في موضع شهر من عند أنفسهم من غير علم أوتوه، ولا حجة اعتمدوا عليها، بل هو الهوى، فهم نظروا إلى العدد، ولذلك قال تعالى: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ)، أي ليوافقوا العدد، لا الأوقات ذاتها، وبذلك أحلوا ما حرم الله، فكان المحرم هو شهر المحرم، فأحلوه، وكان الحلال صفر فحرموه، ولما اضطربت الأشهر وتغيرت مواضعها، أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله، ولذلك عندما أعلن النبي - ﷺ - تحريم الأشهر الحرم قال: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " أي صار كل شهر في موضعه لَا يبتعد عنه، فرمضان هو رمضان كيوم خلق الله السماوات والأرض، وذو القعدة كذلك، وذو الحجة والمحرم، وبذلك يكون الحلال من الأشهر حلالا والحرام حراما.
ثم يقول سبحانه: (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ) أي زين لهم الشيطان والهوى سوء عملهم القبيح، وبني للمجهول للإشارة إلى أن عوامل كثيرة سولها لهم كفرهم، جعلتهم يغيرون خلق الله في الأشهر، ثم قال تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)؛ لأنهم سلكوا سبيل الغواية، واختاروا الضلال، فساروا فيه، فكان في ذلك ضلالهم، والله سبحانه مع من سلك طريق الحق مختارا هداه إلى نهايته، ومن سلك طريق الباطل مختارا أنهاه تعالى إليه.
* * *
3303
القتال في غير الأشهر الحرم
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
* * *
بعد أن بين الله تعالى الأشهر الحرم وعبث المشركين، بين الجهاد سيرا على نسق الأشهر الحرم، في قوله تعالى: (فَإِذَا انسَلَخ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ...).
3304
والقتال هنا قد تجاوز الجزيرة العربية إلى ما حولها من الشام، وتجاوز الوثنية إلى أهل الكتاب الذين يعبدون غير الله تعالى وذلك في غزوة تبوك، فقد كانت في شدة القيظ، وكانت بعد أن ملأت الغنائم الجيوب، وبعد أن أخذ الترفه يغزو النفس المؤمنة، وهو آفة القوة.
أخذ يدعوهم إلى الجهاد، شكان منهم من أقعدته الدعة، والاستنامة إلى الراحة، فلم يكونوا كما كانوا من قبل إذا دعوا إلى الجهاد سارعوا إليه، ولذا عاتبهم الله تعالى فقال:
3305
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ) صدَّر النداء بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) للإشارة إلى أن موجب الإيمان كان يدعو إلى المبادرة، لَا إلى التثاقل، وقوله: (مَا لَكُمْ) استفهام إنكاري بمعنى التوبيخ، معناه أي شيء ثبت لكم فمنعكم من المبادرة إذا دعيتم، ثم صرح سبحانه بما تضمنه الاستفهام، وهو (اثَّاقَلْتُمْ) أصلها تثاقلتم، وفي قراءة الأعمش (تثاقلتم) على أصل الاشتقاق (١)، وموضع الاستنكار هو التثاقل عندما (قِيلَ لَكُم انفِرُوا)، و (إِذَا) متعلقة في الفعل المقدَّر في قوله تعالى: (مَا لَكُمْ) والمعنى أي شيء أثبت لكم حال ما قيل انفروا اثاقلتم و (انفِروا) معناه انتقلوا إلى الحرب، والجهاد في سبيل الله، فالنفير معناه الخروج إلى القتال.
وقوله تعالى: (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) معناه تثاقلتم، وثقلت عليكم المبادرة إلى القتال مخلدين بأنفسكم إلى الأرض حيث الدعة والراحة، والاستظلال بظلها، والسكون، ويتضمن هذا المعنى أنهم رضوا بالتقاعد في الأرض وترك الرفعة والمقام المحمود في الجهاد، كقوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ...).
والمعنى أنهم إذ تثاقلوا عن الجهاد رضوا البقاء في الأرض، فحقت عليهم الذلة.
________
(١) (تثاقلتم)، ليست في العشر المتواترة.
3305
وقال تعالى فيما يترتب على تثاقلهم، وهو أن يكونوا قد تركوا الجهاد ورضوا بمتاع قليل، وتركوا متاع الآخرة الكثير، فقال تعالى: (أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ) الاستفهام للاستنكار التوبيخي، ومعناه أنكم إذا اثاقلتم عندما دعيتم إلى النفور في سبيل الله فقد رضيتم بأن تكون لكم الحياة الدنيا التي هي الدنية (مِنَ الآخِرَةِ) من هنا بمعنى بدل، أي رضيتم بالدنيا ونعيمها الزائل بدل الآخرة، ونعيمها المقيم الدائم.
ولذا قال مقررا الفرق بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة، فقال تعالت كلماته:
(فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل).
(الفاء) هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر تقديره، إذا كنتم رضيتم ذلك فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قدر قليل ضئيل، وهنا إشارات بيانية نذكرها.
أولها - في التعبير بـ (اثَّاقَلْتُمْ) فإن الصيغة بحالها من الإبدال في لفظها دلالة على استثقال النفور في سبيل الله، وما ذلك شأن المؤمنين المجاهدين الذين سبق لهم البلاء في الإسلام، ولهم في الجهاد سابقات كرام.
الثانية - في النفي والإثبات في قوله تعالى: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) فإنه يفيد قصر متاع الدنيا، مهما يكن من إحساس وراحة بالنسبة
للآخرة فما هو إلا قليل.
ولم يذكر متاع الآخرة لكثرته، ولأن الإيمان بها في ذاته سعادة غير محصورة، فهي علو في إدراك النعيم المقيم الثابت الدئم.
وإن عاقبة القصور عن الجهاد هي الذل، والهوان، ولذا قال تعالى:
(إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
3306
هذا إنذار من الله لكل الذين يتركون الجهاد، ولا ينفرون في سبيل الله، فقد أنذر في هذه الآية بالعذاب والسخط والهلاك، وأنه لَا ضرر على الله ورسوله.
3307
(إِلَّا تَنفِرُوا) أي في سبيل الله والجهاد، هي (إنْ) الشرطية المدغمة في (لا)، وجواب الشرط (يُعَذِّبْكُم عَذَابًا أَلِيمًا) ذكر العذاب منكَّرًا، مطلقا، والتنكير لتعظيم هذا العذاب، وأنه شديد يتطابق في شدته مع التثاقل عن الجهاد عند وجوب موجبه ودعوة الإمام الحق إليه، وإطلاقه يفيد تعدده وكثرته، فهو يشمل الغزو من الأعداء، والذلة، والمهانة والصغار، هذا في الدنيا، أما يوم القيامة فنار الجحيم وغضب الله، وسخطه، وبعده عنه.
وذكر مع العذاب الأليم الهلاك، فقال تعالى: (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) أنه يكون عند هلاككم، وحيث تهلكون مصحوبين بالخزي والهزيمة والعار يجيء قوم غيركم يكونون أشد بأسا وأعرف بحق الله تعالى منكم، وأرضى له، ثم يقول سبحانه: (وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا)، أي شيء من الضرر قليلا كان أو كثيرا، والضمير يعود - في ظاهر السياق (على الله سبحانه وتعالى) والمعنى على ذلك - أن الله تعالى غني عن العباد، وهم الفقراء إليه، والآية تشير إلى أنهم لَا يضرون إلا أنفسهم، فالعاقبة تعود إليهم، فهم الذين تنزل بهم الذلة، وتركبهم المهانة، وتلحقهم الهزيمة.
ويجوز أن يعود الضمير إلى النبي - ﷺ -، وهو حاضر في الأذهان دائما، وهو الذي دعاهم إلى أن ينصروه بأمر ربهم، ويكون المعنى لَا تضروا الرسول بتخاذلكم، وتثاقلكم شيئا، فإن الله تعالى ناصره، فإن لم يكن بكم فبغيركم (وَاللَّهُ عَلَى كلِّ شَيْء قَدِيرٌ) فهو قادر على أنْ ينصره بغيركم، ولكن بعد فنائكم وضرب الذلة عليكم.
وإن الإنذار الذي اشتملت عليه هذه الآية عام خالد، يشمل العصور كلها، فمن يوم أن اثاقلت الأمة الإسلامية عن الجهاد، وتركته، ضربت عليها الذلة،
3307
وتفرق المسلمون، وصار بأسهم بينهم شديدا، وتوزعتهم الأمم، ونزل بهم العذاب الأليم في الدنيا، ولا حول ولا قوه إلا بالله.
3308
(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا... (٤٠)
يبين الله تعالى معنى أنهم لم يضروا الرسول شيئا، فإن الله معه وهو في مكة ثم وهو خارج منها وإنه لن يتركه أبدا، وقد كان معه، وقد نصره يوم الفرقان وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) (إلا) (إنْ) الشرطية المدغمة في (لا) أي: إن كنتم لَا تنصرونه وتخاذلتم عن نصرته فهو في غنى عنكم ولن يُخذل إذ قد نصره الله تعالى وهو في قلة من العدد، ولم يكن معه أحد، فالماضي دليل على ما يكون في الحاضر، ويكون الماضي جوابا للشرط الذي هو في الحاضر، إذا كان الماضي فاصلا وفصله مستمد من الحاضر كقوله تعالى: (... إِن كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
ولذا دخلت (الفاء) في الجواب لتبين أنه جواب الشرط.
وخلاصة المعنى السامي: إن كنتم لَا تنصرونه في الحاضر، فلن يُغلب لأن الله ناصره، وقد نصره في الماضي، وصور الله تعالِى الماضي، أو أعاد صورته في الأذهان فقال تعالت كلماته: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِين كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ) وإذ ظرف للماضي متعلق بقوله تعالى فقد نصره الله، والمشركون لم يقصدوا إلى إخراج النبي - ﷺ - بل فكروا في أمور ثلاثة إما أن يثبتوه أي يحبسوه أو يقتلوه أو يخرجوه، وأرادوا تنفيذ القتل، فاجتمعوا حول داره ليقتلوه، وأتوا من كل بطن من بطونهم بفتى نهد، ليضربوه ضربة رجل واحد، فيضيع دمه في القبائل، ويرضى بنو هاشم بديته، ولكن الله حارسه.
وقد كان ما ذكرناه من قبل، وقد جاء في بعض كلام المفسرين أنه خرج فارا من القتل، وإن كان ذكر الفرار غير سليم؛ فإن الهجرة كانت مقررة في علم الله تعالى، وفي نظام الدعوة من قبل ما دبروه أو مكروه في يوم الندوة بدليل ما كان
3308
من هجرة عدد من المؤمنين من قبل، ولم يبق بمكة إلا النبي وأبو بكر، وعلى، ولعل بعض بني هاشم.
فالهجرة كانت مقررة، ويصح أن ينسب إلى المشركين أنهم أخرجوه على أساس أنهم كانوا السبب في خروجه؛ وذلك لأنهم عادوا الدعوة المحمدية، ونابذوها، وآذوا أهلها، ولم يعاضدوا محمدا - ﷺ - في دينه الذي بعث به، فلم يعودوا صالحين لأن تقام دعوة الحق في أرض مكة؛ لأنه لَا يمكن أن تقوم دولة في ظل دولة الأوثان، وقد كانت تناوئها، وتعذب أهلها، فكانت الهجرة أمرًا لابد منه لأقامة دولة الحق والوحدانية في المدينة التي وجد الإسلام فيها بيئة صالحة، فغرس فيها غرسه.
وقد صور الله تعالى في كلامه الحكيم كيف كان نصره سبحانه في الهجرة، فقال تعالى: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
قال سبحانه وتعالى: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ) حال كونه واحدا من اثنين، أي أنه في قلة ليس معه إلا واحد، وهم يقتفون آثارهما ويتتبعونهما، ويلجآن إلى غار، يتتبعهما فيه عدد من رجالهم، وأرسلوا واحدا، يسير وراءهم إلى المدينة، وإنهما عندما نزلا في الغار عشش على ظاهره الحمام والعنكبوت، وما ذلك إلا من عمل الله تعالى الذي لَا تخفى عليه خافية، ولفد كان من يقتفي الآثار قد انتهى اقتفاؤه إلى هذا الغار، وقال: ها هنا انتهى الأثر، ولكن ظاهر الحال يكذب القافي، لأن العنكبوت قد نسج خيوطه، والحمام قد عشش عليه، فكيف، وذلك من فعل خالق الغار، وخالق الحمام والعنكبوت الذي أحكم خلقه وقدره تقديرا، ولقد روى الإمام أحمد عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: " نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رءوسنا، فقلت: يا رسول الله - ﷺ - لو أن أحدهم نظر إلى قدميه، أبصرنا تحت قدميه! فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " (١).
________
(١) رواه أحمد: مسند العشرة - مسند أبي بكر الصديق. رضي الله عنهم (١٢)، وباللفظ نفسه رواه مسلم: فضائل الصحابة - فضائل أبي بكر الصديق (٢٣٨١)، وبنحوه البخاري: المناقب - مناقب المهاجرين وفضلهم (٣٦٥٣).
3309
وكما قال الله تعالى: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
أي إن الله تعالى يصحبهما بحراسته وحمايته فلا يُتمكن منهما.
والغار كان في جبل ثور على سير ساعة من مكة وهو في الجهة اليمنى منها، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام، كانت تأتي لهما فيها بالطعام - أسماء بنت أبي بكر، أم الشهيد عبد الله بن الزبير الذي قتله الأمويون قتلة فاجرة، وهتكوا حرمة البيت الحرام.
(فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ).
الضمير في (عَلَيْهِ) يعود على النبي - ﷺ -، بدليل قوله تعالى من بعد وأيده بجنود لم تروها، فالضمير بلا ريب يعود إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
والجنود الذين أيد الله تعالى بهم نبيه - ما وقت التأييد؟، قالوا: يحتمل أن يكون ذلك التأييد هو حراسة الملائكة لرسول الله وهو في الغار، فهو كان في حراسة الله تعالى، وأمر ملائكته الأطهار بحراسته، وحمايته من أعدائه، ويحتمل أن التأييد كان فيما جاء من بعد من حروب، قام بها النبي - ﷺ - وخصوصا غزوة بدر الكبرى، فقد صرح فيها بتأييد الملائكة.
ونختار الاحتمال الثاني لسببين - أولهما - أن التأييد يكون في معركة حربية، وكانت بعد الهجرة أول معركة " بدر الكبرى "، - وثانيهما - أن الله تعالى جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.
وقد وصف الله تعالى بأن هذه الجنود لم يروها، وإن التعبير عن الملائكة الذين أيدوا النبي - ﷺ - بالجنود يدل على أن التأييد كان في معركة، وأقربها بعد الهجرة، وهي التي انقلب بها ميزان القوى في البلاد العربية، ذلك أن قريشا كانت لهم القوة في البلاد العربية، والسلطان الأدبي فيها، فلما قهروا في بدر، هبط سلطانهم، وضعف نفوذهم، ولذا كانوا بجدع الأنف يحاولون في الغزوات المتتالية إعادته فما استطاعوا إلى ذلك.
3310
و (الكلمة) في قوله تعالى: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السفْلَى) يراد بها الدولة والقوة؛ لأن قوة الدولة تجعل كلمتها نافذة أو مردودة عليها، فإذا كانت قوية كانت لها الكلمة النافذة، وإذا كانت ضعيفة كانت كلمتها غير نافذة، وعبر الله تعالى عنها بـ السفلى للدلالة على أنها مغلوبة وفوقها غيرها، وقد جعلت واقعة بدر كلمة الإسلام هي العليا، ودولته هي العليا، وعبر سبحانه وتعالى عن الإسلام بكلمة الله؛ لأنه دين التوحيد ونبيه مبعوث من الله، وذلك بيان للحقيقة، وتشريف للدين الحنيف.
خلاصة القول أن الله تعالى يبين للذين يقعدون عن الجهاد ولا ينصرون النبي - ﷺ - ولا يجاهدون بأنهم إن لم ينصروه، فالله ناصره، وقد نصره في هجرته، ولم يمكن المشركين منه، ثم نصره في حربه مع المشركين، وأيده بجنود لم يروها حتى صارت كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
وختم سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي قادر غالب يدبر الأمور بحكمته وعلمه، بعد أن لام الله الذين يقعدون عن الجهاد، بين الله تعالى مع نبيه أمر بالجهاد فقال تعالى:
3311
(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
أكثر الرواة على أن هذه الآية وما سبقها في غزوة تبوك التي خرج بها النبي - ﷺ - إلى الروم، وقد أراد أن يخرج من الغزوة بعدد كبير؛ لأنهم كانوا في مؤتة التي كان فيها حملة الراية زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة وقتلوا جميعا، وجاء خالد بن الوليد فأخذ يتراجع بجيش المسلمين، وكان عدد جيشه نحوا من ثلاثة آلاف، وأنى يكون ثلاثة آلاف بجوار مائتي ألف من الروم، ومن استخدموهم من العرب فكانت المهارة في التراجع غير منهزم.
3311
فلما أراد النبي - ﷺ - أن يعيد الكرة على الروم لكيلا يطمعوا في المسلمين، ويستصغروا أمرهم كما هو الشأن في استصغارهم أمر العرب، ولأنهم قتلوا من أسلم من أهل الشام ليفتنوهم عن دينهم، وما كان النبي - ﷺ - ليسكت عن فتنة المؤمنين، وهو قادر على منعها.
كانت غزوة تبوك هي الردع للروم، لكيلا يضطهدوا المؤمنين في أرضهم، ولكيلا يتخذوا أهل الحق خولا لهم، وأراد النبي أن يكون العدد كثيرا، أو أراد الله تعالى له ذلك.
ولذا دعا الجميع أن ينفروا؛ لأن قضية العرب أمام الرومان، فقال تعالى: (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) أي انفروا جميعا، ولا فرق بين غني حِمله خفيف، أو فقير مثقل بالعيلة والأولاد، ولا فرق بين شاب وشيخ، ولا فرق بين حال منشط أو مكره، وحال إقبال وحال إثقال واستكراه، وحال خفة إلى العمل، وإثقال في التحرك إليه.
انفروا جميعا غير متعللين بأية علة، فإنها قضية الإسلام والعرب، فإما أن يذلوا للرومان أو يعتزوا بالإسلام.
ثم قال تعالى: (وَجَاهِدُوا بِأمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) والجهاد بالمال يكون بالإنفاق على الحرب، وعلى أدواته، وعلى إعانة من لَا مال لهم، والجهاد بالنفس بحمل السيف، والقتال، وإعانة المقاتلين، ويروى أن شيخا أثقلته السنون ذهب إلى الحرب، فثبطه ضعف الشيخوخة، فقال: إن لم أقاتل عاونت المقاتلين، وأغنيهم عن بعض ما يحتاجون إليه.
والجهاد بالنفس يتناول تعويدها الصبر وتحمل المكاره.
وقال تعالى: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ) أي الخروج بنفير عام، وغير معوقين بأثقال أو بأي سبب من الأسباب (خيْرٌ لكُمْ) لأنه العزة، والعزة خير من الذلة، وفيه إرضاء الله وإرضاء الله خير كله؛ ولأنه الرفعة، ولأنه الكرامة، والكرامة خير من
3312
المهانة، وذكر الخطاب في الإشارة إلى الجمع للنص على عموم الخطاب بالنفير حتى يعم الجميع بالخطاب نصا (إِن كنتمْ تَعْلَمونَ) الخير من الشر، فالموت في عزة خير من الحياة في ذلة، والموت مع كرامة الجهاد خير من الحياة مع ذلة الكفر والاستسلام والمهانة.
* * *
تخاذل ضعاف الإيمان والمنافقين
قال تعالى:
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
* * *
مع الدعوة القاطعة إلى النفير العام كان ثمة متخاذلون متخلفون عن الجهاد، وذلك لأنه شاق عليهم، يرونها عيشة راضية على أي حال كانت هذه الحياة أوفى عزة تنال بالجهاد أم في ذلة ترضى بالهون وأدنى معيشة في الحياة.
وقل بين سبحانه أنهم يريدونها رخاء سهلا، فقال سبحانه.
3313
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ)
(العَرَض) هو المتاع، أو ما يعرض من منافع الدنيا، و (القريب) السهل الذي يجيء من غير مشقة وإجهاد، و (السفر القاصد) السهل القريب الذي لَا مشقة في السير فيه ولا تعب، و (الشُّقَّةُ) المسيرة الشاقة المجهدة، أو الأمر الشاق في نفسه.
والمعنى " والله " إنك لو دعوتهم في هذا النفير العام الذي يجب ألا يتخلف عنه أحد من أهل الإيمان والإخلاص - إلى عرض من أعراض الدنيا قريب أو مال قريب، أو كان السفر قاصدا سهلا وقريبا لاتبعوك؛ لأنهم يريدون الدعة والاستنامة إلى الراحة وأن يرضوا بأدنى الحياة ذليلة أو عزيزة في كرامة أو مهانة.
في قوله تعالى: (لَوْ كانَ عَرَضًا) فاعلها ضمير يعود إلى النفير المفهوم من قوله تعالى: (خِفَافًا وَثِقَالًا)، والكلام يفيد أنهم لم يجيبوا دعاء النبي - ﷺ - إلى النفير العام، وتخلفوا مع أن النفير العام لَا يفرق بين ذي عذر، وغيره ما دام قادرا.
ويبين الله سبحانه وتعالى سبب تخلفهم، وهو أن الشقة الشديدة بعدت عليهم، والنفير فيه بُعد في الطريق ومشقة شديدة.
وإن الاعتذار هو حجة الضعيف الذليل، ووثقوا الاعتذار بالأيمان الكاذبة، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ).
(السين) لتأكيد حلفهم بالله، والحلف في هذه الحال يتضمن الاستعانة بالله تعالى مع كذبهم، وذلك كفر وبهتان على الله، وقوله: (لَوِ اسْتَطَعْنَا) مقولة لقول محذوف تقديره قائلين: (لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ)، وهي مضمون الحلف أو المقسم عليه، وقد أكدوا كذبهم بهذه اليمين الفاجرة، ليخفوا السبب الحقيقي، وهو الجبن، وضعف الإيمان، أو النفاق الذي أفسد قلوبهم وأضل عقولهم، وقد بين سبحانه فجورهم في هذه اليمين، فقال تعالى: والله يعلم أن مغبته تخلفهم فقال: (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) أي يهلكون أنفسهم بهذه اليمين الكاذبة؛ لأنها تفسد نفوسهم وأي هلاك أشد من فساد النفس، وضعف إيمانها،
3314
وإنهم بتخلفهم يكشفون عن ضعف مُزْر، وإنهم فوق ذلك لفساد تفكيرهم ألقوا بأيديهم إلى الذلة، إذ استبدلوا بعزة الجهاد ذل الاستخذاء.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى كذبهم في قوله تعالت كلماته بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهمْ لَكَاذِبُونَ) أولا بذكر (يَعْلَمُ) فما يعلمه الله صادق لَا محالة، وثانيا: بالجملة الاسمية، وثالثا: بـ (إن)، ورابعا: باللام في لكاذبون. قبح الله الجبن، وضعف الإيمان والنفاق، فإنها أدواء الأمم بها تذهب عزتها، وتضرب عليها الذلة.
لقد اعتذروا بانتحال أعذار واهية، فأذن لهم النبي - ﷺ -، وما كان له أن يحكم بظواهر ما يقولون، ولأنه لَا فائدة في أن يكون في الجيش متخاذلين، يكون ذريعة للفشل في صفوفه، ولكن الله يعلم إنهم لن يخرجوا إذا لم يأذن لهم النبي بالتخلف، فيظهر كذب أعذارهم، وينكشف أمرهم، ولذا عتب على رسوله إذ قبل عذرهم، فقال تعالى كلامه:
3315
(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣)
هؤلاء المنافقون الذين يذكرهم الله في هذه الآيات قد اعتزموا القعود وعدم الخروج، ضعفا وجبنا، وليفتوا في عضد أهل الإيمان. وعن مجاهد: " نزلت هذه الآيات في أناس استأذنوا رسول الله - ﷺ - وقالوا فيما بينهم. فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا، فهم قاعدون في الحالين، فكان الإذن ساترا لحالهم من قصد التخلف في الحالين، ولذا عاتب الله نبيه على الإذن الذي ستر حالهم، ومقصدهم الخبيث، وقعودهم الذليل، قال الله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) وقالوا إن هذا خطأ وقع من النبي - ﷺ - عاتبه الله تعالى عليه في ألطف عبارة عتاب، فقد ابتدأ قبل بيان وجه العتاب (بذكر العفو)، ثم ذكر موضع العتاب؛ وذلك لأن النبي - ﷺ - اجتهد في أمر قد أعطى حق الاجتهاد فيه، وهو تدبير الحروب، وتعرف أنجح الخطط فيها، وخيرها وصولا إلى الغاية، وقد رأى أن قعودهم خير من أن يكونوا معهم، ويهموا بالفشل، والمعركة قائمة، ولكن الله
3315
تعالى ينبه النبي - ﷺ - إلى أمر لَا يعلمه النبي - ﷺ - وهو أنهم لن يخرجوا والله يعلم ذلك.
والنص الكريم هنا فيه عتاب على الإذن، وقد أجيز الإذن عند الاستئذان في آية أخرى فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢).
وموضوع الآيتين مختلف، فالآية الكريمة التي نتكلم في معناها موضوعها المنافقون وضعفاء الإيمان، أما موضوع آية سورة النور فمؤمنون بالله ورسوله، وأجابوا الأمر الجامع للمؤمنين وهو الجهاد، واستئذانهم كان لبعض شأنهم كاستئذان ذي النورين عثمان بن عفان في التخلف عن غزوة بدر الكبرى لبعض شأنه، وقبول النبي - ﷺ - عذره، وإذنه له في التخلف.
وموضوع العتاب بينه الله تعالى بقوله: (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وهو استفهام للاستنكار بمعنى النفي، أي لَا سبب للإذن؛ لأنهم كانوا قاعدين لَا محالة، فالنص ليس فيه استفهام عن سبب الخروج، ولكن نفي مع العتاب لأن يكون ثمة مسوغ للإذن، ولذا لم يقل سبحانه، وله المثل الأعلى في الكلام المعجز، " لماذا "؟ لأن ذلك يكون نصا في السؤال عن المسوغ؟.
وإن ذلك الإنكار كان لعدمِ الانتظارِ حتى تتبين حالهم الحقيقية، وهو أنهم قاعدون، ولذا قال تعالى: (حتَّى يَتَبَيَّن لَكَ الَّذِينَ صَدَقوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) أي أنه كان يجب الانتظار، وألا تسارع بالإذن حتى تتبين حالهم، وينكشف أمرهم.
والنص الكريم، يومئ إلى أن الذين أذن لهم في التخلف كان منهم صادقون في أعذارهم، كبعض الفقراء الذين لَا يجدون ما يحملهم في ذلك السفر البعيد الشقة الشديد المشقة، وهؤلاء تبين صدقهم، والمنافقون تعلم كذبهم علما يقينيا،
3316
ووصفهم سبحانه بقوله تعالى: (وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) الذين صار الكذب وصفا لهم وشأنا من شئونهم، كالمنافقين، فإن الاتصاف بالكذب يلازم النفاق ولا يفترقان.
وقد بين الله تعالى أن المؤمنين المجاهدين لَا يستأذنون إلا لعذر قاهر، أو لأمر ظاهر، كما أمر عليا فارس الإسلام بأن يبقى في المدينة ليكون قريبا من أهل النبي - ﷺ -، وقد تألم علي لذلك ولكنه أطاع، ويظهر أن الله تعالى وفق النبي - ﷺ - في إذنه لعليّ بالتخلف، فإنه لم يكن قتال.
قال تعالى:
3317
(لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤)
إن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر لَا يستاذنونك في القعود عن الجهاد؛ لأنهم يعلمون أن الجهاد فريضة، ولأنهم أعزاء في ذات أنفسهم، ولأنهم يعلمون أن الله تعالى مبتليهم بالخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس، ولأنهم يصبرون في الشدائد، ولأنهم يعلمون أنهم في الجهاد يفوزون بإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، وفيهما الخير كله، فالفوز بإحداهما، ولأنهم لعلمون أن الدنيا متاعها إلى أجل محدود وأن الآخرة خير وأبقى، ولذا ذكر الإيمان باليوم الآخر بجوار الإيمان بالله، فالإيمان بالله اعتماد على القوي المتين، والإيمان بالآخرة إيمان بالجزاء والعوض عن الحرمان والشهادة.
وقوله تعالى: (أَن يُجَاهِدُوا) أي في أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وحذف حرف " في " في المصدر المنسبك من (أن وما بعدها) كثير في كلام العرب، ويصح أن يقدر كراهية أن يجاهدوا، وهذا نفي لأن يقع ذلك منهم، فهم لا يستأذونون في التخلف لكراهية الجهاد، لأنهم لَا يكرهون أمرًا فرضه الله تعالى، إذ إن إيمانهم يوجب عليهم أن يحبوا ما أحب الله لهم وفرضه عليهم، ولأنهم يريدون العزة، والعزة تحت ظلال السيوف.
3317
(بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي بإعداد العدة والقوة، وإمداد الجيش بالمؤن والذخيرة، وحمل الفقراء الأقوياء إذا لم يجدوا ما يحملهم، وبأن يتقدموا بأنفسهم في غير اضطراب ولا وجل، ويُفزعون أعداء الله وأعداءهم بإقدامهم؛ ثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) وهذا إخبار عن علم الله تعالى بالمتقين الذين يتقون عذاب يوم القيامة، ويتقون أن تكتب عليهم الذلة، ويتقون أن يستخذوا، ويستكينوا لأعداء الحق وأعداء الله تعالى، ويتقون أن يكون للكفار عليهم سلطان، وأن تكون ولايتهم لغير المؤمنين. الله تعالى عليم بهؤلاء المتقين، وسيجزيهم بأحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا العزة والكرامة، والعلو في الأرض من غير فساد، وفي الآخرة بالنعيم المقيم.
ثم بين الله تعالى الذين يستأذنون في القعود، فقال تعالى كلامه:
3318
(إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
قصر الله سبحانه وتعالى من يستأذنون في القعود على الذين لَا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فلا يستأذنك في القعود مؤمن بالله واليوم الآخر، وأفاد القصر بـ (إنما) لأنها من أدواته.
ذلك لأن المنافق لَا يؤمن باللَّه تعالى، فلا يطيع أوامره ونواهيه، ولا يذعن لما جاء به محمد - ﷺ - عن ربه، وإن نطق لسانه بكلمات الإسلام والطاعة والخضوع ظاهرا لَا يطيع قلبه، وقد ذكر الله تعالى فيهم أقوالا ثلاثة كلها تقعد بهم عن الجهاد، بل واحدة منها:
أولها: أنهم لَا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فعدم إيمانهم بالله يجعلهم لا يذعنون، ولا يجيبون ما فرض عليهم من جهاد، ولا يؤمنون بما فيه من عزة وكرامة، وفوق ذلك لَا يريدون العزة للمؤمنين ولا يبتغونها لهم، ويريدون الذلة لهم، وعدم إيمانهم باليوم الآخر، يجعلهم يعتقدون أنه لَا تعويض لهم، وأن الدنيا وحدها هي الحياة، ويقولون إن هي إلاحياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين.
3318
ثانيها: حال الريب، فهم في ريب دائم، والريب لَا يوجد معه إيمان بشيء، فأول ما يصاب المنافق يصاب في نفسه، إذ يكون في بلبال مستمر، واضطراب فكري دائم لَا يستقر معه على حال، ولا يستطيعون عملا.
ثالثها: أنهم في تردد دائم نتيجة لريبهم.
ومن نعم الله ألا يخرجوا مع المجاهدين.
قال تعالى في بيان أن من الخير ألا يخرجوا وأنهم ما أرادوا الخروج:
* * *
(وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩)
* * *
هذه الآيات وما يليها في شأن المنافقين الذين قعدوا متلمسين الأعذار وهي كاذبة - والنفاق سوسة المجتمعات، ينخر في عظامها - ولقد حاولوا إفساد الجماعة الإسلامية، ولكن النور المحمدي كشف ظلماتهم.
وفى هذه الآيات يبين سبحانه مضارهم في الحرب إن خرجوا، ولكن النفاق لا يلتقي مع مخاطر الجهاد، فلم يخرجوا وكان خيرا كما أشرنا فقال تعاِلى وقد ثبطهم الله عن الخروج لأنه كره انبعاثهم، فقال تعالى:
3319
(وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوج لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة).
3319
إن الله تعالى عتب على نبيه - ﷺ - أن أذن لهم عندما استأذنوا، ولو لم يأذن لكشف أمرهم، وتبين أنهم كاذبون في ادعاء العذر ولا عذر لهم، لأنهم لم يريدوا الخروج ابتداءً، وأكد الله تعالى عدم قصدهم الخروج، فقال: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوج) لبدت أماراته، فأعدوا العدة من إعداد الكراع (١) والسلاح، وما تحتاج إليه حرب شديدة فيها ملاقاة الرومان الذين كانوا أقوى دولة في ذلك الإبان، ولكن لم يعدوا عدة، فلم يكونوا على نية الخروج، وأظهروا ما في مقصدهم باعتذارهم، وكان ذلك خيرا للمسلمين، وكره الله تعالى أن يخرجوا، فقال تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ) ومعنى الاستدراك أنه منع لوهْم إرادة الله - تعالى - خروجهم؛ لأن مؤدى إعلانه على عدم خروجهم قد يوهم إرادة الله خروجهم، فنفاها سبحانه بهذا الاستدراك، فقال: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ) والانبعاث النهوض للخروج مع المجاهدين، وكراهية اللَّه تعالى لخروجهم لما علم سبحانه أنهم يريدون الخبال والاضطراب للمؤمنين، كما تدل على ذلك الآيات التالية، وكما دلت على ذلك الأمور الكثيرة التي كانت تقع بإثارة الفتنة منهم، ولكن كانوا كلما أوقدوا نارا لفتنة أطفاها الله سبحانه وتعالى.
(فَثَبَّطَهُمْ) أي خذلهم وأوقع في نفوسهم نزوع الكسل والضعف، وأزال رغبتهم في النهوض إلى النفير مع جيش الإيمان، وما ذلك إلا للمصلحة المترتبة على منعهم من الخروج، فما أريد التثبيط لذاته، ولكن أريد ما يترتب عليه من حماية جيش الإيمان من الفتن يبثونها فيه، وإثارة الخلاف، إن سنحت لهم أسبابه ولا يضعف الجيش إلا النزاع، كما قال تعالى: (... وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا...).
فكانت المصلحة في ألا يخرجوا، (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (قيل) بالبناء لمفعول، وأسند إلى المفعول لتعدد عوامل التخذيل التي كانت في مضمون القول، فجبنهم، وإرادة الشر بالمؤمنين وبعد الشقة، وكون الغاية فيه بعيدة، وفساد
________
(١) الكُراع: اسم لجميع الخيل والدواب التي تصلح في الحرب.
3320
نفوسهم، وتخاذلهم عن نصرة الحق، وكراهية الإيمان وأهله، كل هذه عوامل يمكن أن تكون الفاعل الذي استعيض عنه بالمفعول، والمفعول المقول، وهو اقعدوا مع القاعدين. هذه العوامل التي أشرنا إليها انتهت بهم إلى أن كان لسان حالهم يقول: (اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِين).
قولهم لأنفسهم (اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)، قال فيه الزمخشري: هو ذم لهم وتعجيز، وإلحاقهم بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت وهم القاعدون، وهم القاعدون والمخالفون والخوالف، وبينه الله تعالى فقال: (رَضُوا بِأن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ...).
وقد علق الناصر في حاشيته على الكشاف فقال: وهذا من تنبيهاته الحسنة، ونزيدها بسطا فنقول: لو قيل (اقعدوا) مقتصرا عليه لم يعد سوى أمرهم بالقعود، وكذا لو قال: كونوا مع القاعدين، ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد الموسومين بهذه السمة إلا من عبارة الآية، ولقد جاء على لسان فرعون في إيعاد نبي الله موسى عليه السلام (... لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين)، ولم يقل لأجعلنك مسجونا، لمثل هذه النكتة من البلاغة.
هذا، وإن الله تعالى عاتب النبي - ﷺ - لإذنه لهم بالقعود مع أن الله تعالى كره انبعاثهم، لأنه سبحانه كان يريد أن يتبين النبي - ﷺ - حالهم، حتى يتبين له الصادق من الكاذب، وأنهم لَا يخرجون.
وقد بين الله تعالى الحكمة في أنه ثبطهم، فلم يخرجوا فقال سبحانه:
3321
(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)
أي لو خرجوا في جمعكم المؤمن الجاهد، وساروا، لَا يجاهدون، ولكن يسيرون على ما كانوا عليه بينكم من التشكيك في خروجكم وفي قوتكم، وفي
3321
ذلك إشاعة العناء والخور والضعف، ولذا قال الله تعالى: (مَّا زَادُوكمْ إِلَّا خَبَالًا) الخبال: الفساد والشر بالتشكيك وإثارة الفزع، والاستثناء هنا يمكن أن يخرج على استثناء منقطع؛ لأنَّ المستثنى ليس من ضمن المستثنى منه، إذ الخبال لَا زيادة فيه كما يقال ما غنم إلا الهزيمة، وما زاد إلا النقص.
ويرى الزمخشري وهو عالم اللغة وفقيهها أن الاستثناء هنا ليس منقطعا، إنما هو استثناء من أعم الأحوال، أو من أعم العام كما عبر الزمخشري، والخبال نقص أعم العام كما يقال: " ما زادوكم شيئا إلا خبالا وإفسادا "، (وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) الخلال: جمع (خلَل) وهو ما بين الشيئين أو الأمرين، و (الإيضاع): الإسراع، يقال وضع يعني أسرع، ووضع البعير إذا عدا، وقال الراجز العربي:
ليتني فيها جذع... أخب فيها وأضع
وأوضعته: حملته على العدو، والمعنى في النص الكريم: لأوضعوا ملحقين الجيش خلاله بأسباب الفتن من نميمة ومن توهين، ومن تشكيك، وشبه السعي بالفساد بإيضاع الإبل في عدوها، لأن كلا إجهاد، بيد أن سير الإبل قد يكون إلى الخير، أما الإيضاع هنا فهو فساد وتوهين وتخذيل، وسعى بنميمة.
(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي يطلبونكم بشدة وقوة، لَا يبغون أشخاصكم؛ لأنهم لا يودونكم، ويتربصون بكم الدوائر ولكن يبغون الفتنة بينكم، فالفتنة بدل اشتمال من الضمير، أي يبغون فتنتكم في عامة أموركم، وذلك بأن يمشوا بالنميمة في جموعكم، ويرهبونكم من أعدائكم، والقول بالريب فيما اعتزمتم من عمل.
ثم يقول تعالت كلماته: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) سماعون صيغة مبالغة من سامع، أي أنهم حريصون على السمع لهم، وقد كان اللفظ يحتمل أن فيكم سماعين حريصين على أن يستمعوا ويبلغوهم، فاللام في هذه الحال معناها لأجلهم، أو يكون المعنى أن يستمعوا لهم، ويطيعوهم، وينحازوا إليهم، ونرى أن هذا هو الإنسب للسياق والذي يلائم إيضاعهم بالخبال، وذكر ابتغائهم الفتنة
3322
وطلبهم، ويتفق مع رغبتهم في الخبال والفساد، وقد ختم اللَّه تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي أن الله تعالى عليم بهم وبنياتهم، وما يطوونه في جنوبهم من إرادة الشر بالمؤمنين، وأظهر في موضع الإضمار لتسجيل الظلم عليهم، وأن الظالمين لن يفلحوا أبدا.
3323
(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (٤٨)
الضمير يعود إلى الذين استأذنوا من النبي - ﷺ -، وثبطوا المؤمنين، وهم المنافقون، و (ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) أي طلبوها بشدة راغبين فيها، قاصدين الفتنة أي تضليل المؤمنين، والإفساد من قبل، أي من قبل ذلك التخذيل الذي بدا منهم الآن، فذلك ديدنهم، وما أرادوا بالإسلام إلا خبالا، حتى لقد روى أنهم - والأوس والخزرج كانوا يبايعون النبي - ﷺ - بالعقبة - كانوا يدبرون الأمور لاغتياله عند مقدمه المدينة كما روى ابن جريج، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير: (لَقَدِ ابْتَغَوا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبًوا لَكَ الأمُورَ) أي لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك، وخذلان دينك، وإخماده مدة طويلة، وذلك أوان مقدم النبي - ﷺ - المدينة، ورمته العرب عن قوس واحدة، وما رتبه يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر، وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبي: هذا أمر قد توجَّه، فدخلوا في الإسلام ظاهرا، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ".
وقال سبحانه وتعالى: (وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمورَ) أي صرفوها، ودبروها، وكانوا أحيانا يمالئون أعداء الدين من أهل الكتاب والمشركين، ومرة يخذلون المؤمنين، ومرة يدخلون في الغزوات مجاهدين، ثم يعدلون ليلقوا التردد في نفوس المؤمنين كما فعلوا في غزوة أحد، ومرة يحرضون من يوالونهم من بعض الأوس والخزرج لحوادث صغيرة يثيرونها. حتى كادت تكون فتنة بين الحيين من الأنصار، فهم في فتنهم الدائمة المستمرة، يلبسون لكل حال لبوسها، يحركهم الكفر، ويدفعهم النفاق
3323
إلى أن يرتكبوا حماقات، وإنهم ليتعدون حدودهم، فيثيرون حديث الإفك حتى تململ منهم ذووهم، وأصبح أهل كل بيت فيه منافق يحرضون النبي - ﷺ - عليه.
وهكذا مضى أمرهم، والإسلام ماض في طريق الحق، حتى وصل إلى غايته، وهذا قوله تعالى: (وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهمْ كَارِهونَ) أي ظهرت أحكام الإسلام، وهي أمر الله، وانتشر في الوجود أمره، وهم كارهون، أي ظهر مع تدبيرهم الفاسد، وبغضهم الشديد له.
وكانوا يتدرعون بكل الحيل ليأذن لهم النبي - ﷺ -، والله تعالى في علمه المكنون أنهم لَا يخرجون وكره انبعاثهم، وما كرهه الله تعالى لَا يمكن أن يتحقق، ولقد ذكر الله تعالى بعضا مما كانوا يعتذرون به فقال تعالت كلماته:
3324
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩)
كان المنافقون يتعللون بكل علة صادقه أو كاذبة، بل إنهم لم يتعللوا بصادق، بل كلها تعلات يقولونها بأفواههم وقلوبهم غير مطمئنة إلى الخروج؛ لأنهم يريدون التعويق، وهول القتال قد أفزعهم، وبعد الشُّقة قد أقعدهم، وكان من تعلتهم أن قالوا إننا نخشى فتنة النساء في الرومان لجمال نسائهم، روى أن الجد ابن قيس أخا بني سلمة قال له رسول الله - ﷺ -: هل لك في جلاد بني الأصفر، فقال: يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي ما رجلا أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول اللَّه وقال: " قد أذنت لك " (١).
ومعنى هذا أن الآية جاءت تمثل ضروب معاذيرهم الواهية التي لَا تقنع، إنما هو عدم الإيمان، وفزع النفاق، والزمخشري يفسر الآية على العموم، ويفسر " لا تفتني " أي لَا تأذن لي في الخروج فأقع في الفتنة التي لَا قبل لي بها وهي
________
(١) البداية والنهاية: سنة تسع - ذكر غزوة تبوك (ج ٥ - ص ٢١٢)، وتاريخ الطبري: (ج ١ - ص ١٢٣١).
3324
عصيانك، فيبين الله أن هذا الاعتذار التافه الذي لَا يدل إلا على عجز حقيقي هو الفتنة في ذاته، ولذا قال تعالى: (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي في الفتنة الكبيرة سقطوا، والفتنة أطلقت، والمطلق ينصرف إلى الفرد الأعظم أي الفتنة الكبرى سقطوا فيها، وقدم المفعول وهو الفتنة على الفعل للإشارة إلى أن عملهم مقصور على الفتنة. فهو الفتنة، ولا يكون غيرها؛ لأن عذرهم كاذب ساقط في ذات نفسه.
وعلى أن الآية نزلت فيمن اعتذروا بفتنة نساء بني الأصفر تكون فتنة التخلف مشاكلة لما ادعوه من فتنة النساء في اللفظ وإن كانت غيرها.
وإنهم بهذا الكذب والاعتذارات الواهية، وعدم إيمانهم يعدون كافرين، ولذا قال تعالى: (وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) أي أنهم مؤكدون داخلون فيها، وستحيط بهم يوم القيامة، وذكرت الآن لتكد وقوعها، كقولة تعالى: (أَتَى أَمْر اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ...)، فهو تأكيد لما سيقع بتصويره كأنه واقع وقوعا مؤكدا.
وقد أكد سبحانه وتعالى الوقوع في جهنم يوم القيامة بعدة مؤكدات:
أولها: الجملة الاسمية، ثانيها (إنَّ) الدالة على توكيد الخبر، وثالثها بيان أنها محيطة بهم إحاطة الدائرة بقطرها لَا يخرجون عما تحيط به، ورابعها باللام المؤكدة في قوله تعالى: (لَمُحِيطَةٌ).
وأظهر سبحانه في موضع الإضمار فلم يقل: " لمحيطة بهم " بل قال (لَمُحِيطَة بِالْكَافِرِينَ) لبيان سبب هذا العذاب الأليم وهو الكفر، وقانا الله تعالى شر النفاق وأهله.
ثم بين سبحانه شعور المنافقين نحو المؤمنين.
قال تعالى:
* * *
(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا
3325
وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
* * *
إن المنافقين لم يندمجوا في أهل الإيمان، ولم تتحد معهم مشاعرهم وأحاسيسهم، فلم يكونوا منهم، ولم يشعروا بما يشعر به أهل الإيمان، فلا يشاركونهم في سرائهم، إن أصابهم ما يسر، ولا ضرائهم إن أصابهم ما يضر، بل يناقضونهم مناقضة تامة، فما يسرهم يسوءهم وما يضرهم يسرهم، وكذلك شان المنافقين في كل جماعة لَا يشاركون في أحاسيسها، ولذا قال في وصف هذه الحال:
3326
(إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) أي إن ينزل بكم أمر هو حسن في ذاته، وعندكم، ويملأ نفوسكم بالسرور يكون هذا سببا لآلامهم، فسروركم مسيء لهم؛ لأنهم يريدون أن تدور عليكم الدوائر، فنصركم يوم بدر ساءهم، وكذلك يوم الأحزاب، ويوم مؤتة، إذ رضيتم من الغنيمة بالإياب أمام مائتي ألف، وأنتم ثلاثة آلاف، وقتلتم منهم مقتلة عظيمة مع قلة عددكم، وإن لم تغنموا شيئا منهم. (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ).
المصيبة مؤنث مصيب أي نازلة وشدة كارثة، وأصلها كما ترى من أصاب، ولكنها بالتاء غلبت في الشدائد والكوارث والنكبات، فماذا أصاب المؤمنين نكبة أو قرح، كما أصابهم يوم أحد، قالوا: أخذنا أمرنا، أي أننا استولينا على أمرنا من قبل فلم نعرض أنفسنا لمخاطر الحروب ونوازلها فنجونا من أن نقع فيما وقعوا فيه،
3326
وكأنَّهم يشمتون في المؤمنين، وقد وقع ما يتمنون، ويصفون أنفسهم بأنهم أهل الحذر، ليثيروا غضب من أطاعوا الرسول.
(وَيَتَوَلَّوْا) معطوف على يقولوا، أي وينصرفون إلى أهليهم وأصحابهم يتحدثون في أمر هذه النكبة وهم في فرح بها؛ لأنها أصابت هوى في نفوسهم، ولذا قال تعالى: " وهم فرحون " أي والحال أنهم فرحون فرحا غمرهم، ويصح أن يكون تولوا بمعنى أعرضوا عن الرسول غير مقبلين عليه مظهرين خبيئة نفوسهم، وفى هذا ما يفيد أنهم جرءوا عليه، وحسبوا أن الغد لهم، وما هي إلا جولة، حتى يكون الغلب لهم، ولكن هيهات أن يكون ذلك، فالهزيمة في معركة بعدها الظفر والنصر.
ولكن المؤمنين مطمئنون لما يقضي به الله تعالى لَا يستطيرهم نصر، ولا يخذلهم قرح، بل إنهم يقدمون متوكلين عليه سبحانه، إن أصابتهم حسنة لم يستطيروا بها، بل يستعدون لما بعدها، وإن أصابتهم نكبة رضوا، وعلموا أن الله تعالى قد قدر لهم ما فيه خير. ولذلك قال تعالى:
3327
(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)
أمر الله تعالى نبيه أن يقول ما هو تفويض إليه سبحانه، وما فيه توقع الخير، حتى فيما يكون في ذاته نكبة أو شدة، إذ قد يكون وراءه خير، أو خير قد اختفى في هذه الشدة، كما قال تعالى: (... وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦).
فعسى هذه الشدة يكون فيها خير كثير، ولو كانت مكروهة، كما قال تعالى: (... فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كثِيرًا)، ولذا قال: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) أي أنه ليس لنا أن نتبين إن أصابتنا كارثة أو نكبة، فقد تكون كارثة تنبهنا إلى خطأ وقعنا فيه فيكون هذا التنبيه خيرا لنا، وواقيا لنا من أن نقع في مثله، وفوق ذلك فإن المستقبل يكون خيرا لنا لننال الحسنى إن قتلنا، ففضل الشهادة خير مما تفرحون.
3327
(هُوَ مَوْلانَا) أي هو في اعتقادنا وإيماننا مولانا وناصرنا، ومتولي أمورنا فيما وقع وما يقع، ومن كان الله ناصره لَا يخذل، ومن كان الله معه، فإن العاقبة له إن لم يكن في هذه الدنيا، ففي الآخرة، وفيها النعيم المقيم.
(وَعَلَى اللًهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي عليه وحده يتوكل المؤمنون، وقد أمرنا بذلك، وتقديم الجار والمجرور للإشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يتوكل عليه المؤمنون، فلا يتوكلون على أحد سواه، ولا يرجون غيره، ولا يعتمدون إلا عليه، و (الفاء) لفصل الفعل الأمر عن الإخبار.
والأمر هنا بالتوكل لَا ينافي العمل، فالعمل بالأسباب الدنيوية أولا، ولكن يجب عليه لكي ينجح العمل أن يقرن به التوكل، فالأسباب وحدها (لا تكفي) إلا بفضل من اللَّه وتوفيق، فالاتكال من غير عمل تواكل، والعمل من غير توكل على الله غرور، وتمرد على الله سبحانه وتعالى.
وإن المنافقين يتربصون الدوائر بالمؤمنين بأن تتوالى نكباتهم، ولا يتوالى ما يسرهم؛ لأنهم أعداء كارهون، والعدو الكاره لَا يتمنى لعدوه ما يسره، بل يتمنى له المكروه، ولذا قال تعالى:
3328
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
قلنا إن المنافقين لَا يندمجون في جماعة يعيشون فيها، بل يكونون في جانب، ومن معهم في جانب آخر، كما يفعل اليهود الذين مردوا على النفاق وأجادوه.
وكذلك كان اليهود بالمدينة الذين كانوا رأس النفاق فيها، فهم يعيشون مع المؤمنين وليست قلوبهم معهم، بل هواهم مع غيرهم أيا كان ذلك الذي يغاير جماعة المؤمنين كتابيا كان أو مشركا، فهم لَا يعيشون مع جماعتهم إلا وجانبهم
3328
لغيرهم؛ لأنهم لم يذوقوا طعم الاندماج مع الناس والإخلاص لهم، ولذا يعيشون مع المؤمنين ويتربصون بهم الدوائر.
ويقول اللَّه تعالى آمرا نبيه (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) يأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم هذا القول ولم يسنده تعالى إلى نفسه؛ لأنه فوق الجميع، إنما جعل الرسول يسنده إلى نفسه؛ لأنه من أحد الفريقين المتربصين وإن كان الله تعالى مع المؤمنين، والتربص: الانتظار، والاستفهام للإنكار بمعنى إنكار الوقوع بدليل الاستثناء. والمعنى لَا تنتظرون لنا إلا إحدى الحسنيين، والحسنيان هما: الاستشهاد، وذلك حسن في ذاته وعند المؤمنين؛ لأنه ينتهي بهم إلى الجنة، ونعم الانتهاء. أو النصر، وهو غاية حسنة عظيمة.
وإن نتيجة التربص لَا يهواها المنافقون، فهم يتربصون الشر والفساد والخبال والاضطراب في جيش المؤمنين رغبة فيما يريدون، فيبين الله تعالى أن النتيجة تجيء عكس ما يبغون.
ويقول النبي - ﷺ - بأمر من ربه، وباللفظ النازل على النبي من الله رب العالمين: (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا).
أي نحن معشر المؤمنين ننتظر لكم أحد أمرين أيضا، وهما أن يصيبكم الله تعالى بعذاب ينزله سبحانه وتعالى بكم كصاعقة من السماء تحرقكم، أو ريح تقلبكم من الأرض، أو تموتوا في داركم جاثمين، وهذا عذاب من عند الله، وإضافته سبحانه وتعالى إليه، ينزله من عنده مظهرا لغضبه عليهم الذي يبوءون به، كما باء من قبل إخوان لهم في النفاق: اليهود ومن يواليهم، والأمر الثاني عذاب من المؤمنين ينزلونه بتمكين الله تعالى منكم.
وهنا بعض إشارات بيانية:
منها: قوله تعالى: (نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) فعبر بـ (كم) للإشارة إلى أن ما ينزل بهم عقاب، في مقابل ما حكى عنهم في قوله تعالى: (تَرَبَّصُونَ).
3329
ومنها: قوله تعالى: (أَوْ بِأيْدِينَا) للإشارة إلى القتال الذي يكون بالأيدي التي تبطش، وذلك إشارة إلى قوة المؤمنين المؤيدة بنصر الله تعالى العزيز الحكيم.
ويقول تعالى: (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) الفاء فاء الإفصاح المنبهة عن شرط مقدر، أي إذا كان هذا أمرنا وأمركم في التربص فتربصوا.
وهذه الجملة السامية فيها تهديد لهم بسوء العاقبة بالنسبة لهم، وبيان حسن العاقبة بالمؤمنين، والله تعالى بعزته ناصر جنده، وخاذل عدوه.
* * *
لا يقبل الإنفاق من منافق
قال تعالى:
(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (٥٣) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (٥٤) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
* * *
إن هذه الآيات الكريمات تبين أمرين: أحدهما: أن المنافقين في كل العصور يطاولون الناس بأموالهم، ويجبنون دائما، ويستبدلون بالجهاد المال يدفعونه،
3330
ويحسبون أنه يغني عن الجهاد والعمل للنصرة وصيانة الحق عن أن يعبث به العابثون.
ثانيهما - أنه لَا ثواب إلا مع النية المحتسبة، والنية لَا تكون إلا مع إيمان صادق بالله ورسوله والحق الثابت المبين.
وقد ذكرت الآية الأولى أن إنفاقهم طوعا أو كرها لن يقبل منهم بسبب فسقهم، وذكرت الآية التالية تفصيل المانع من قبولها، وذكرت الآية الثالثة أن أموالهم وأولادهم لَا تغني عنهم في الدنيا والآخرة شيئا. وذكرت الآية الرابعة أنهم يريدون أن يعتقد المؤمنون أنهم منهم ومنضوون في جماعتهم ليخدعوهم فلا يغروهم، متميزين عنهم تميز الخبيث من الطيب.
يقول تعالى:
3331
(قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ) المعنى الظاهر وكتاب الله تعالى بيِّن بذاته لَا يحتاج إلى بيان، إن الله تعالى لن يقبل منهم إنفاقهم في الآخرة سواء أنفقوه طائعين أم أُكرهوا على الإنفاق، وسواء أنفقوه كارهين أم أنفقوه راغبين، فمعنى طوعا، أي طائعين راغبين في الإنفاق طيبة به نفوسهم أو كارهين غير راغبين، أو بإكراه أحد، أو بتورط، ولا يرضون.
وهذا المعنى ظاهر، ولكن كيف يخرج الأمر في هذا. وبلا شك لَا يقصد الطلب ولا الإباحة ولا الندب، ولا أي باب من أبواب الطلب وإذن فما سبيله؟.
قال القرطبي: إن معناه الشرط، وجوابه لن يقبل، وتقدير القول هكذا، إن تنفقوا لَا يقبل منكم سواء كان الإنفاق طوعا أو كرها.
وقال الزمخشري: إن معنى الأمر هنا الإخبار بأنهم لَا يقبل منهم، ويظهر أنه يعود إلى معنى الشرط، والمؤدى ينتهي إلى أنه لن يقبل الإنفاق، ومثلوا له بقول كثير عزة، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى.
أسيئى بنا أو أحسنى لَا ملومة... لدينا ولا مقلية إن تقلت وقد بين السبب في منع قبول أموالهم قربات عند الله، فقال سبحانه:
3331
(إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ)
وجملة (إِنَّكُمْ) منفصلة عن سابقتها؛ لأنها تعليل لها، ولأن الجملة الأولى طلبية، والثانية خبرية. والفسق هو الخروج، وهم بالحكم عليهم بأنهم فاسقون يكون محكومًا عليهم بأنهم خارجون عن الجماعة بشعورهم، وإن كانوا فيها بأجسامهم، وذلك مع كفرهم، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك الحكم بعدة مؤكدات، أولها بالجملة الاسمية، وثانيها بـ (إنَّ) الحرف الدال على التوكيد، وثالثها بـ (كان) الدالة على استمرارهم في الفسق والخروج عن الجماعة وعدم الشعور بشعورها.
ونفى الله تعالى بقوله: (أَن تقْبَلَ مِنْهُمْ) ظاهره أن الله تعالى لن يجازي عليه جزاء القربات يوم القيامة؛ لأنهم لم ينووا بها التقرب، وإنما أرادوا ستر جبنهم ونفاقهم، ليستقيم ادعاؤهم أنهم من المسقمين، وهم غير مؤمنين، وشرط النية المأجورة الأيمان، ولقد قال تعالى عما ينفقه الكافرون: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧).
وهل يقبل النبي منهم ما يدفعونه مغرما، إن الأمر في ذلك متروك للنبي - ﷺ -، وقد بين سبحانه وتعالى المانع عن قبول صدقاتهم بالتصريح بما طوى في هذه الآية فقال تعالى:
3332
(وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (٥٤)
وُصلت هذه الآية الكريمة بالآية السابقة؛ لأنها تتميم للسب الذي منع تقبل ما ينفقون، والنفقة هي الإنفاق، والتعبير بالنفقة فيما أحسب يدل على صغر ما ينفقون، ومع ذلك لَا يقبله الله سبحانه وتعالى؛ والتعبير بقوله: (وَمَا مَنَعَهُمْ) على أن اسم المفعول يعود إليهم، فيه إشارة إلى أنهم كانوا يرجون أن يقبل منهم
3332
ما ينفقون في الدنيا رجاء أن تتم الخديعة التي أرادوها، وعبر سبحانه وتعالى هنا بقوله تعالى: (أَن تُقْبَلَ)، وفي الآية السابقة بقوله تعالى: (نفِقُوا طَوْعًا أَوْ كرْهًا لَن يتَقَبَّلَ) بصيغة يتقبل، وذلك لأنهم كانوا يظنون أن أي إنفاق يقدمونه يتقبل برغبة من النبي وأصحابه، فإن صيغة التقبل تدل على القبول برغبة كما قال تعالى في نذر مريم: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حسَنٍ...).
وفى هذه الآية: (تُقْبلَ) من أصل القبول، وسبب الرد أصل القبول، ولو كان النع من التقبل، لكان أصل القبول غير ممنوع.
و" أن تُقبل " الضمير المنسبك من (أن وما بعدها) في موضع المجرورب (مِن) لأن حروف الجر تحذف كثيرا قبل أن وفعلها، كما في قوله تعالى: (... مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ...).
وقد ذكر الشوكاني في تفسيره فتح القدير: أن الآية الكريمة تشير إلى أن الأسباب ثلاثة فقال: " جعل المانع من القبول ثلاثة أمور، الأول: الكفر، والثاني: أنهم لَا يُصَلُّون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل، والثالث: أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون؛ لأنهم يعدون إنفاقها وضعا لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله.
وقد ذكر الأمر الأول فقال سبحانه وتعالى: (أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) الضمير المنسبك من أن وما بعدها في محل رفع فاعل للفعل (منع) في قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُم) فكفرهم بالله لأنهم تمردوا على أوامره ونواهيه، وجحدوا بآياته، وكفرهم برسوله لأنهم جحدوا رسالته، واليهود منهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وقد جاء بالكتاب من عند الله وعجز العرب عن أن يأتوا بمثله بعد أن تحداهم فما استطاعوا، وكرر الباء، فقال: (بِاللَّهِ وَبِرَسولِهِ)، للإشارة إلى أن الكفر باللَّه كفر، والكفر بالرسول كفر، أيضا.
وفى الأمر الثاني قال تعالى: (وَلا يَأتونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كسَالَى) أي لا يقومون عند النداء إلى الصلاة إلا وحالهم حال الكسالى متثاقلون كأنهم غير
3333
راغبين في أدائها، أي أنهم في هذا المظهر الذي لَا يتوافق فيه العمل مع القلب يتثاقلون فيه؛ لأنهم ما داموا كفارا فمانهم ليس منهم صلاة مقبولة أو صلاة قط، لهذا ترد عليهم نفقاتهم، فكيف تكون صلاة، إنما مظهرها صلاة، فهم حتى في هذا يقومون كسالى، وهي جمع كسلان كسكارى جمع سكران، وغيارى جمع غيران، كما يقول الزمخشري في الكشاف.
ومهما يكن وصفهم بأنهم يقومون بالصلاة كسالى فإن صلاتهم من الصلاة التي يكون لهم الويل فيها، كما قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧).
والأمر الثالث هو في إنفاقهم بينه سبحانه وتعالى بقوله: (وَلا يُنفِفُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) أي لَا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة إلا وهم غير راغبين، بل ينفقون كارهين النفقة في ذاتها، أو لموضعها، ولا يفعلون ذلك إلا سترًا لنفاقهم، ويتخذونه وسيلة للتمكن من الخداع الذي يقصدونه.
ولا تعارض بين هذا النص الذي حصر إنفاقهم في حال نفسية واحدة، وهي كراهية الإنفاق، وعدم الرغبة فيه لشح في أنفسهم، ولكراهية المؤمنين.
فهذه الآية تدل على ذلك، وأما الآية السابقة فمؤداها نفي القبول، ولو أنفقوا طائعين أو ملامين بأمر النبي - ﷺ -، أو نقول طائعين رغبة لَا في الإنفاق لذات الإنفاق، بل رغبة في الخديعة وستر حالهم من جبن وإرادة الفساد، أو كارهين لهذا الإنفاق.
فالمنافقون كانوا إذا طلب منهم النفبر جبنوا وامتنعوا وتمردوا، ورضوا بالمال كما فعل الجد بن قيس فيما قصصنا من قبل، إذ امتنع وتعلل بأنه ضعيف أمام نساء الرومان بني الأصفر، ويخشى الفتنة، وقال: هذا مالي خذوا منه ما تشاءون، ووصف الكاره ينطبق عليه؛ لأنه يكره الإنفاق في سبيل الله، ووصف المختار ينطبق عليه أيضا لأنه اختاره.
3334
وقد يعجب العاجب من أنهم مع نفاقهم وكفرهم لهم أموال كثيرة وبنون، إنما هذا استدراج كما قال: (... سنَسْتَدْرِجُهُم مِنْ حيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)، ولذا قال تعالى:
3335
(فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٥٥)
الفاء للإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر يقتضيه سياق البيان، أي إن كانت هذه الأموال لَا ينفقونها في سبيل الله فلماذا يعطونها، فقال تعالى: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ) الآية، أي لَا يُثرْ عجبك كثرة أموالهم وأولادهم وأنصارهم، مما أعطوا مع كفرهم ونفاقهم واستهانتهم بالحق والتنفير منه، وتأليب المبطلين. لا يغرنك هذا، كما قال تعالى: (لا يَغُزَنَّكَ تَقَلبُ الَذينَ كفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ...)، وكما قال: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١).
إنما هي فتنة لهم واستدراج، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كذبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِن كَيْدِي مَتِين).
ولذا قال تعالى: (إِنَّمَا يرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم) أي يريد إعطاءهم وتمكينهم، وحذف المفعول ليشمل كل متع الدنيا من مال وسلطان، وقدرة على التحايل، وغير ذلك ليعذبهم، أي لينصرفوا مغرورين مخدوعين، فيكون من بعد ذلك العذاب الأليم في الآخرة، ولتكون لهم عذابا في الدنيا بالافتتان بها، ومن وراء فتنتهم يكون الحرمان بالمصائب والنكبات، وأن تكون مغانم للمؤمنين إذا اشتدت شديدة الحرب عليهم، والضياع والحرمان، فالمال ليس متعة خالصة، ولكنه تحمل لهمومه، فأكلة الربا الذين يستكثرون به من الأموال في هم دائم، حتى أنه لَا يُرى ربوي إلا ومعه سقام الجسم والنفس، كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ...)، وذلك هم واصب نشأ من ذات المال وأصاب النفس (وَتَزْهَقَ أَنفُسهُمْ) أي يموتون، وقد
3335
ضاقت نفوسهم من هموم الأموال وما فيها، (وَهُمْ كافِرُونَ) جاحدون الحق، فتكون نفوسهم قد حرمت متعة الدنيا بمصائب الأموال والبنين ومفاتنهم، وحرموا راحة الإيمان، واطمئنان الحق، فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. ولقد قال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦).
وإنهم لنفاقهم يبتعدون بقلوبهم عنكم، شاعرين بأنكم نافرون منهم غير واثقين يا معشر المؤمنين، وكلما كان النفور بسبب ما تعرفونه من لحن أقوالهم، كلما شعروا بذلك أحسوا بأنهم لَا يستطيعون خديعتكم، ولذلك يحاولون أن يحملوكم على الثقة فيهم، وما هم بأهل للثقة، وقال تعالى عنهم ذلك:
3336
(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦)
(الواو) تدل على صلة هذه الجملة بالتي قبلها؛ لأن الكلام كله في المنافقين، وشعورهم نحو المؤمنين، يحاول أولئك المنافقون أن يشعروا المؤمنين بأنهم منهم في شعورهم وإحساسهم، واتجاههم ليستطيعوا أن يثبتوا فيهم ما يريدون من خداع وأن يفتنوهم عن دينهم، ويدسوا فيهم الخوف وضعف العزيمة، وذريعتهم الحلف بالله العظيم، وذلك يدل على مهانتهم في ذات أنفسهم، كما قال تعالى: (وَلا تُطِعْ كلَّ حَلَّاف مَّهِينٍ).
وموضع القسم أنهم منكم، ولذا يقول تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ) ويؤكدون ادعاءهم لَا بالنطق فقط، بل بغير ذلك " بأنهم لمنكم " فيؤكدون بـ (إن) وباللام التي في خبرها، يؤكدون ذلك فضل تأكيد. والله يشهد أنهم ليسوا منكم بشعورهم وإحساسهم، بل تفرقت القلوب بينكم وبينهم بسبب نفاقهم، كما قال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢).
3336
وقد قال تعالى مردفا هذا الادعاء بما يدل على الدافع لهم على هذا الحلف (وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَفونَ) الفَرَق: الخوف. الاستدراك في قوله تعالى: (وَلَكنَّهمْ) هو استدراك من حلفهم، ويفيد عدم تصديقهم تأكيدا لقوله تعالى: (ومَا هم مِنكمْ) وخوفهم من ناحيتين، أولاهما خوفهم من المؤمنين من أن يعرفوا حالهم، وينكشف أمرهم، وهو مكشوف، وهم يظنونه مستورا، وكرارة المنافق دائما أنه يحسب دائما أن أمره مستور، وهو معلوم ولا يجهل كشفه إلا هو، والثانية أنهم يخافون أن يغامروا في جهاد مع المؤمنين، إذ يحسبون الجهاد مغامرة، لأنهم لا يؤمنون به، ولا يحسبون أن الجهاد حياة في عزة، ولا يؤمنون بالحياة الآخرة، فيحسبون أن النهاية تكون عند الموت وأنهم يجعلون أنفسهم من المؤمنين، ولا يقولون أنهم معهم، بل يقولون إنهم من المؤمنين، وادعاؤهم أنهم منهم يتضمن أنهم مؤمنون، وأنهم جزء من المجتمع الكريم أو بعضه، ذلك إيغال في دعوى أن شعورهم كشعورهم، ولو مع ادعائهم ذلك يضيقون بجوارهم للمؤمنين، ويريدون أن يفارقوهم، ولذا قال تعالى:
3337
(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
الملجأ - الحصن، والمعنى لو يجدون ملجأ يتحصنون به في قمة جبل وذلك حصن طبيعي، أو قلعة يبنونها، وذلك حص صناعي، أو جزيرة يأوون إليها. (أَوْ مَغَارَاتٍ)، بفتح الميم وهناك قراءة أخرى بضمها (١)، وعلى قراءة الفتح يكون الفعل غار وعلى قراءة الضم يكون الفعل أغار، والمعنى مكان يختفون فيه عن الأنظار، ولذا قيل على الثقب في الجبل غار؛ لأنه يختفى فيه من يذهب إليه، فلا يراه السيارة.
(أَوْ مُدَّخَلًا)، وهو الطريق الخفي الذي يختفى عن الأعين، كالشِّعْبب بين جبلين، أو نحو ذلك من المسارب التي لَا يقتحمها الناس، ولا يقصدون إليها.
________
(١) قراءة (مغارات) بالضم، ليست في العشر المتواترة.
3337
و (لو) في قوله تعالى: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا) حرف شرط يقال له حرف امتناع لامتناع، وجواب الشرط (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ)، أي لانصرفوا إليه (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي لذهبوا إليه مسرعين، كالفرس الجموح، وكان التعبير بالجموح للإشارة إلى جموحه، وأنهم يشردون عن الطريق، فهم إن كانوا يجمحون هذا الجموح، موغلين في انحرافهم فكيف يؤمنون؟، ويخلعون رداء النفاق الدنس ويكونون مع المؤمنين يشعرون بشعورهم، ويحسون بإحساسهم؟.
ولماذا كانوا يتمنون أن يخرجوا؟، كانوا يتمنون ذلك لأنهم يضيقون ذرعا بالمؤمنين، يسوءهم عزهم وهو مستمر بعونه تعالى، وحياطته لهم، ولأن المؤمنين كشفوا أمرهم، ولأنهم يدعون للجهاد ولا يذهبون إليه؛ ولأن ذوي قرابتهم، وأولياءهم قد برموا بهم فضاق العيش، وما ضاق عليهم إلا لسبب ما أوتي المؤمنون من الخير... والله من ورائهم محيط.
* * *
قال تعالى:
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
* * *
النفاق أصناف وضروب، يعلو وينزل، وأعلاه من يظهر الإيمان بالله، ويبطن الكفر، وهؤلاء كانوا بالمدينة، وعلا شأن الإسلام، فكان من اليهود
3338
والوثنيين هؤلاء الذين أعلنوا الإسلام خوفا، وأبطنوا الكفر، غيظا وعداوة وبغضا، ومن النفاق ألا يستقر الإيمان في قلبه كأُولئك الأعراب الذين قالوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم. ومن الأعراب منِ كانوِا يأخذون ظواهر القرآن ولا يطيعون، كما قال تعالى: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كفْرَا وَنِفَاقَا وَأَجْدرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ...)، وكل هؤلاء تشملهم كلمة المنافقين، ولذلك كان الحسن البصري يقول: إن مرتكب الكبيرة منافق؛ لأن عمله يناقض قوله، فكما أن من ينكر بقلبه ويؤمن بلسانه منافق، فكذلك من يعلن الإيمان، ويصدق بقلبه، ولكن يناقض عمله قوله، والإيمان كما يقول الجمهور من علماء العقائد، اعتقاد وعمل، وهو الإيمان الكامل عند جميع العلماء اتفقوا عليه.
يعد هذا نتكلم في معنى النص الكريم:
3339
(وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) اللمز: العيب فالرجل الهُمَزَة أو المرأة الُلمَزَة العيَّاب والعيَّابة، واللمز يشمل العيب باللفظ الصرِيح، ويشمل العيب بالتعريض والتلميح، والوخز في الكلام: وقال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، وقالوا إن اللمزة من يعيب في وجه من يعيبه ولو بلَحْن القول، والهمزة من يعيب في غيبه وفي غير محضره ولا يواجه من يعيبه.
والضمير في (مِنْهُم) يعود إلى المنافقين، و (مِن) تدل على التبعيض، وإنه عمل بعضهم، ويظهر أنه ليس من الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، بل هو من الذين يعبدون الله على حرف، الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١١). وكذلك هؤلاء المنافقون الذين عابوا النبي - ﷺ -، وقال الله تعالى فيهم: (فإِنْ أُعْطُوا منْهَا رَضُوا وَإِن لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ).
(الفاء) تدل على أن ما بعدها بيان أو إشارة إلى نوع عينهم، وهو بيان لنفوسهم إن أعطوا من المال بحق رضوا واطمانوا، وقالوا إنها قسمة عادلة، واستقاموا على الطريقة، وإن لم يعطوا لعدم استحقاقهم سخطوا فهم طامعون في
3339
أن يأخذوا بغير حق. و (إِذَا) - تدل على أن سخطهم أمر لَا يرتبط بمنطق الأمور، فهم فاجئوا أهل الحق به، والدليل على المفاجأة (إِذَا) فهي تدل على المفاجأة.
والمفاجأة تدل على أنه غير منطقي؛ لأن من يرضى بالحق عند العطاء، لا يصح أن يغضب إن منع بحق، ولكن النفس المنافقة تريد دائما أن تحتجز الخير لنفسها، ولا تلتفت إلى حق غيرها، فآية المؤمن أن يعرف حق غيره كما يعرف حق نفسه، ومن علامة المنافق النفسية ألا يفكر في حق غيره، فكل من لَا يلتفت إلى حق غيره فيه شعبة من نفاق.
ومما روي في معنى هذه الآية، ممن كانوا يلمزون في الصدقات أن أبا الجواظ من المنافقين في أعلى درجات النفاق قال: ألا ترون إلى صاحبكم، إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل، وروى أن رسول الله - ﷺ - قال له وقد فهم أنه يعيب رعاة الغنم قال له: " لا أبا لك، أما كان موسى راعيا، أما كان داود ". فلما ذهب أبو الجواظ هذا قال - ﷺ -: " احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون " (١).
وقد وصفهم رسول الله - ﷺ - بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لَا للدين وما فيه صلاح أهله.
وروى في الصحيحين عن أبي سلمة أن ذا الخويصرة واسمه حرقوص اعترض على النبي - ﷺ - حين قسم غنائم حنين، فقال: اعدل فإنك لم تعدل فقال صلوات الله وسلامه عليه: " قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ "، ثم قال: " إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء " (٢).
_________
(١) أشار المصنف رحمه الله: هذا المبحث مأخوذ من الكشاف للزمخشري.
(٢) رواه في البخاري: المناقب - علامات النبوة (٣٦١٠) عن أبي سَعِيدِ الْخُدْرِيَّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، كما رواه مسلم بنحوه: الزكاة - ذكر الخوارج وصفاتهم (١٠٤٦).
أبو مسلمة هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، من الطبقة الوسطى من التابعين، وهو الراوي عن أبي سعيد رضي الله عنه.
3340
ولقد روى أن النبي - ﷺ - كان يقول: " والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكم، وانما أنا خازن " (١) هذا بعض ما روي عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في أولئك المنافقين الذين كانوا يلمزون أطهر من في الوجود - في الصدقات.
ويجب أن ننبه هنا إلى أن الصدقات غير الغنائم، فالغنائم تقسيم أموال لمستحقيها بمعنى الغنم والفتح يأخذها الفاتحون بملكية تثبت لهم بمقتضى الجهاد، أما الصدقات فإنها تكون معونات تعطى لمصارف معينة يحتاج إليها أهلها.
وقد بين الله تعالى صفات المؤمنين بجوار ما يفعله الذين في قلوبهم نفاق، فقال تعالى مبينا من في قلوبهم نفاق:
________
(١) (إنما أنا خازن) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه: الزكاة - النهي عن المسألة (١٠٣٧)، وأحمد بلفظ مقارب مسند الشاميين - حديث معاوية بن أبي سفيان (١٦٤٦٧)، وأبو داود: الخوارج والإمارة والفيء - فيما يلزم الإمام من أمر الرعية (٢٩٤٩).
3341
(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (٥٩)
(لَوْ) في قوله
تعالى: (وَلَوْ أَنًّهمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) هي شو طية، وجوابها محذوف تقديره مثلا: (لكان خيرا لهم)، وإني أظن أن حذف الجواب لتضمن (لَوْ) معنى الحض والرجاء بأن يكونوا كذلك إن خلعوا رداء النفاق من أنفسهم.
وقوله تعالى: (رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) هي نواح نشير إلى بعضها أولاها: أن (رَضِيَ) تتعدى بالباء فيقال رضيت بالأمر، وتتعدى بنفسها، فيقال رضيت الأمْر، وهنا متعدية بنفسها، وأشعر بأنها إذ تتعدى بنفسها تتضمن معنى الرغبة والاقتناع، وهذا ما يليق بالمؤمن عند العطاء من الله ورسوله.
الثانية: أن الله تعالى قال: (آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) وذكر الله سبحانه وتعالى، مع أنهم لمزوا ما فعله الرسول، للإشارة إلى عظم الجرم الذي ارتكبوه، لأنهم إذ عابوا رسول الله - ﷺ -، فكأنهم يعيبون الله تعالى؛ لأن الرسول لَا يعمل بالهوى،
3341
ولأن الرسول ينفذ، وإنهم إذا عصوه عليه السلام فقد تجرءوا؛ لأن الله تعالى يقول: (من يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ).
الثالثة: ما أشرنا إليه من قبل، إلى أن ذلك الرضاء أمر يحبه الله ورسوله، ويرجوه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لهم، ليكونوا من المؤمنين حقا.
وقد صور الله تعالى النفس المؤمنة بأنها قانعة غير طامعة، ونفس المنافق غير قانعة بل هي طامعة دائما وتريد من الدنيا المزيد؛ لأنها لَا تؤمن إلا بالدنيا ومتعها وموادها، فيبتغون المزيد منها، وبئس ما يبغون، فقال سبحانه في تصوير النفس المؤمنة بعد رضاها (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ) أي كافينا الله، ولم يقل الله تعالى عنهم أنهم يقولون حسبنا ما أتانا الله، بل إنه سبحانه وتعالى يقول عنهم: (حَسْبُنَا اللَّه) أي إن الله كافينا، أعطانا هذا ما رضينا به، وسيعطينا إن احتجنا، وما أخذناه يكفينا.
وقوله تعالى عنهم: (حَسْبُنَا اللَّهُ) فيه من معاني التفويض والتوكل على الله ورجاء ما عنده ما لَا يدركه إلا القلوب المؤمنة المتبتلة الضارعة له سبحانه وتعالى وحده.
وإن قوله تعالى: (سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) فيه تصوير معنى الاتكال على الله تعالى، ورجاء ما عنده. على أنه فضله فيستحق الشكر ولا يجوز أن ينتقص ما يأمر بإعطائه، وينتقص باللمز، والسير في طريق الكفر، وهو الضلال البعيد.
ولقد قال الله حاكيا عن أقوال المؤمنين (إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) هذه غاية الضراعة، أن يرغبوا إلى الله تعالى وحده ولا يرغبون فيما لَا يقتنونه، ولا عرضا من أعراض الدنيا ولا غاية من غاياتها، وتقديم الجار والمجرور (إِلَى اللَّهِ) تعالى على (رَاغِبُونَ) يفيد الاختصاص، أي لَا يرغبون إلا إليه سبحانه وتعالى.
وإن الله تعالى بين بعد ذلك مصارف الصدقات، ولم يتركها لنبيه، بل تولاها سبحانه وحده، لكيلا يتطاول بعض من بقلبه مرض من ضعف إيمان أو
3342
نفاق أو من تتعلق نفوسهم بظواهر الأمور دون لبابها وغاياتها، فقال تعالت كلماته:
3343
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
جاءت آية الصدقات بعد ما جاء عن المنافقين في أحوال كثيرة، وأن منهم من عاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في توزيع الصدقات، فجاءت الآية تبين أن التوزيع من الله سبحانه وتعالى، فلم يتركها لنبي ولا لغيره، تولاها هو سبحانه بالبيان فمن عاب التقسيم، فإنما يعيب تقسيم الله تعالى، فليعلم مكانه في الإيمان، روي عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال له: " إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك " (١).
فكانت هذه الآية ردا على هذا الفريق من المنافقين بأنهم يلمزون النبي صلوات الله وسلامه عليه، إنما يتهجمون على مقام الألوهية، ولبيان أنهم إذ لم يأخذوا منها، فلأنهم لم يدخلوا في صنف من هذه الأصناف الثمانية، ومن دخل في صنف منها فما مُنِع، بل أخذ.
وقوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكينِ...) (إِنَّمَا) أداة قصر، أي أن الصدقات قد اختصت بها هذه الأصناف دون غيرهم، فليست لأحد غير هؤلاء من الأغنياء والأقوياء الذين يكسبون ما يكفيهم وأهلهم بالمعروف، ولذا قال عليه السلام " لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة سوي " (٢).
فالذين يلمزون الرسول - ﷺ - أغنياء أو أقوياء.
________
(١) رواه أبو داود: الزكاة - من يعطى الصدقة وحد الغنى (١٦٣٠).
(٢) رواه الترمذي: الزكاة (١٦٣٤)، وأحمد: مسند المكثرين (٦٧٥٩)، والدارمي: الزكاة (١٦٣٩)، وابن ماجه: الزكاة، من سأل عن ظهر غنى (١٨٣٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3343
قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) لَا تفرق اللغة بين الفقراء والمساكين في الجملة، فكلاهما لَا مال له يكفيه وأهله بالمعروف ولكنهما اجتمعا في هذه الآية على أنهما صنفان مختلفان، يتميز كل واحد منهما عن الآخر، وعن الاجتماع بين لفظين معناهما متقارب يخص كل واحد منهما بمعنى ينفرد به عن الآخر، وقد اختلف الفقهاء في تعريف الفقير ليتميز عن المسكين، واختلافهم بلا ريب أدى إلى اختلافهم في معنى المسكين.
فقال الأكثرون الفقير ضد الغني، وهو من لَا يملك نصابا، وهو ما تكون قيمته عشرين مثقالا من ذهب، أو مائتي درهم من فضة، والمسكين من أسكنته الحاجة وأذلته، أي أنه دون الفقير حالا، وقيل العكس، ولكن الأكثرين على الأول، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه فسر المسكين بأنه المريض بمرض مزمن من أهل الذمة.
وروي أن المسكين هو المتجمل الذي لَا يسأل الناس، ولا يلتفت الناس إليه، وقد روي ذلك عن النبي - ﷺ -، فقد روى أبو هريرة أنه - ﷺ - قال: " ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان "، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: " الذي لَا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا " (١).
وقد اتقق الفقهاء على أنهما يعطيان من الصدقات، وإن كنت أرى أن المسكين أسوأ حالا من الفقير، فإن لم يكف ما يعطى لهما معا، فإن المسكين يكون أولى بالعطاء.
ثم قال تعالى في الصنف الثالث، وهم العاملون عليها، أي الذين يجمعونها من أرباب الأموال كما عين النبي - ﷺ - ولاة لجمع الصدقات، كما عين الأمراء من بعده، وقرر الفقهاء أن أولئك يأخذون ولو كانوا ذوي مال، وقرر الحنفية والمالكية أن ما يأخذونه أجرة، ويكون قدرها بمقدار ما يراه ولي الأمر عليهم، على أنه أجرة عمل تكون متناسبة مع الأجرة في مثل هذا العمل.
________
(١) سبق تخريجه.
3344
وقال آخرون ليس لهم من العطاء إلا ما يكفيهم لأهلهم بالمعروف يأخذونه جزاء احتباسهم وتفرغهم لهذا، ولو كانت لهم أموال، كما تأخذ الزوجة نفقتها من زوجها جزاء احتباسها، ولوكانت ذات مال، وهكذا أجر العامل لمصلحة الكافة، وإن هؤلاء يأخذون من الزكاة، وإن هذا يدل على أمرين:
أولهما - أن الزكاة لَا تترك لأربابها يؤدونها، بل يجمعها ولي أمر المؤمنين أو من يوليه لذلك، وقد كان الأمر كذلك في عهد النبي - ﷺ -، وأبي بكر وعمر، وفى عهد ذي النورين كان يجمع زكاة الأموال الظاهرة، وهي زكاة النعم والإبل والبقر والغنم، وزكاة الزروع والثمار، وزكاة الأموال التي تنتقل من مصر إلى مصر التي يجمعها العاشر، وأناب ذوي الأموال في أن يؤدوا زكاة الأموال الباطنة، وهي زكاة النقدين " الذهب والفضة "، وعروض التجارة في أن يؤدوا هذه الزكاة، ولو بلغ الأمر أنهم لم يؤدوها، جمعها منهم كما يجمع غيرها.
ثانيهما - أن الزكاة يجب أن تكون لها حصيلة قائمة بذاتها، والقائمون عليها يكونون منفصلين عن بقية العاملين في الدولة، ولذا عندما دونت الدواوين كان هناك ديوان هو ديوان الصدقات، أو كما سمي في كتب الفقه بيت مال الصدقات.
والصنف الرابع: ذكره الله تعالى بقوله: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) والمعنى اللفظي للنص القرآني السامي الذين تؤلف قلوبهم بأن يقرب الإسلام إلى نفوسهم، بعد أن كانوا ينفرون منه.
وهؤلاء الذين كان فيهم هذا الوصف، كانوا على طوائف مختلفة فمنهم الكبراء الذين يتزعمون قبائل فيعطى لهم من الصدقات، ما يؤلفون به الضعفاء ليقربوا، ويأتلفوا الإسلام ويهجروا الوثنية.
ومنهم من آمن وخلع الوثنية، ودخل في الإسلام ممن قال بلسانه ولم يؤمن قلبه، ومنهم من خضعوا للغلب، وطيبت قلوبهم لكي يؤمنوا، ويعتنقوا الإسلام.
وليس هذا رشوة لهم فقد أخضعوا واتبعوا، ويريد النبي - ﷺ - أن يجعل منهم مؤمنين بدل أن يكونوا خاضعين.
3345
ومنهم ناس كان للنبي - ﷺ - معهم حروب، وكان فيهم مقاتل في الحرب المحمدية، وكان لابد من أن تطيب نفوسهم، وترضى قلوبهم وتحل المودة محل الخصام والنفرة فأعطاهم النبي - ﷺ -، ومنهم أبو سفيان وأولاده وعلى رأسهم معاوية ابنه، ولعل هذا العطاء لهؤلاء فيه معنى الديات.
وهل هذا الصنف بقي بعد النبي - ﷺ -؛ نقول إنه باق ما بقي الإسلام إذا احتاج إليه المؤمنون، بل نقول إن الحاجة إلى تأليف القلوب باق ما بقي الإسلام، وإنه لباق إلى يوم الدين.
وإن عمر لم يلغه أو ينسخه كما ادعى الكتَّاب، وإنما فِعْلُ عمر أنه منع استمرار العطاء لبعض الناس؛ لأنه لم يكن ذلك حقا مكتسبا لهم.
وإنه ممن ينطبق عليهم لفظ المؤلفة قلوبهم أولئك الذين يسلمون، فيخرجون من أهليهم أو قومهم، ولا يجدون ما يستطيعون أن يقيموا لأنفسهم أسرة أو يحرمون من مناصبهم، فإنه يجب أن تؤلف قلوبهم بتعويضهم عما خسروا بإسلامهم، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، وإنه يجب أن ينفق على الدعوة الإسلامية من سهم المؤلفة قلوبهم؛ لأن المقصد الأصلي من المؤلفة قلوبهم هو تثبيت الإسلام في قلوبِ لم يستقر فيها الإيمان، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للحق.
الصنف الخامس: ذكره الله تعالى بقوله: (وَفِي الرِّقَابِ) أي الإنفاق لفك الرقاب؛ لأن دين الحرية لَا يرضى بالرق، وقد عمل على الحد من أسباب الرقيق فألغاها كلها إلا الرق في الحروب فقد تركه؛ لأن الأعداء يسترقون من أسرانا، وقد أمرنا الله تعالى أن نرد الاعتداء بمثله فقال تعالى: (... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...).
ومع أن الرق قد بقي في هذه الحدود الضيقة، فقد حث على العتق، وجعل له في الزكاة نصيبا مفروضًا، يعان به المكاتب لفك رقبته، والمكاتب هو الذي اتفق
3346
مع مالكه على أن يعتقه إذا أدى له ثمنه أو قيمته أو ما يتفقان عليه، ويسعى عاملا مجدا، حتى يجمع ثمنه، وقال تعالى: (... فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ...)، فيعطى من سهمه في الصدقات ما يعينه على فك رقبته، وكذلك يُشترى من هذا السهم عبيد ويعتقون، وكذلك تدفع منه فدية الأسارى من المؤمنين، حتى لَا يسترقُّوا، وهكذا كل ما يعرض المؤمنين للرق يمنع بدفع مال من هذا السهم.
والصنف السادس: ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَالْغَارِمِينَ) والغارم هو المدين الذي عليه غرامة وهي الدَّين، والغرم هو الدين الذي يلزم الشخص من غير جباية ولا خيانة كانت منه، وغرم أي وجب عليه غرم، والغارم من وجب عليه هذا الغرم، والدائن يقال له غريم، لأنه يلازم المدين ولا يفارقه.
ويجب أداء دين الغارم أي المدين من الصدقات إذا كان قد استدان في غير سفه، وعجز عن السداد من غير سفه، والتجار الذين يستدينون لجلب البضائع من الأقطار في حكمة وعناية بمتجرهم، ولكن تجارتهم تبور أو تغرق مركبها، أو تذهب أموالهم بأي سبب من أسباب الضياع، وكذلك الذين تحملوا ديات للصلح بين الناس، فإنه يؤدي ما تحمَّلوه من مال الصدقات.
وإنما أديت ديون الغارمين من الصدقات للتعاون، ولإقالة العثرة، وازن بين هذا التعاون الباني والتكافل الذي بين المؤمنين، وازن بين هذا وبين القانون الروماني الذي كان قد عاصر نزول القرآن الكريم، وقد كان يجعل للدائن الحق في أن يملك رقبة المدين، وازن بين هذا القانون وقانون القرآن معجزة الله الكبرى، إذ يفرض من الصدقات سداد الدين عن المدينين.
وإن هذا القرآن يتحدى الأجيال كلها أن يأتوا بنظام بشري في أي بقعة من الأرض، أي بمثل ما أتى به من تكافل اجتماعي. ونذكر هنا قصة صادقة حدثت في عهد الحاكم العادل حاكم بني أمية عمر بن عبد العزيز، إنه ببركة العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه فاض الخير وعم، ومن مظاهر ذلك أن والي الصدقات
3347
في أفريقية (تونس وليبيا والجزائر) شكا من تكدس أموال الصدقات في بيت المال فأرسل بذلك إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فأرسل إليه: سدد الدَّين عن المدينين، فسددها، ولكن مد الصدقات لم ينقطع، فأرسل يشكو امتلاء بيت المال، فأرسل إليه اشتر عبيدا وأعتقها، فأخذ يشتري من عبيد المؤمنين ويعتقهم.
والصنف السابع: ذكره الله تعالى بقوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) فسر هذا بعضهم بالإنفاق على المجاهدين إذا كانوا فقراء، وكانوا لَا يجدون ما يحملهم، فيعطون من الصدقات ما يحملهم، وفسر بعضهم بالإنفاق على الجهاد بإعداد العدة للجيش وإمداده بكل ما يحتاج إليه جيش الإسلام من أدوات الحرب، والإنفاق على المجاهدين.
وبعض العلماء أدخل في سبيل الله - الحج، وأجازوا أن ينفق الشخص من صدقاته ما ينفق في الحج، وأرى ألا ينفق عليه من مال الزكاة؛ لأنه لَا يجب الحج إلا على من يستطيع إليه سبيلا، فهو شرط لوجوب أدائه، والزكاة فرض قائم بذاته، والقفال الشاشي قرر أن (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تشمل كل وجوه البر.
(وَابْنِ السَّبِيلِ) هو الذي انقطع عن ماله وكان في مكان لَا مال فيه، وهو في حاجة إلى القوت والمأوى، وسمي ابن السبيل لأنه صار لَا مأوى له، وكان السبيل أبوه الذي يؤويه ويحميه.
وإيتاؤه أن يعطى ما يحفظ أمره، ويؤويه من غائلة الطريق، ويوصله إلى بلده حيث ماله، ويصح أن يكون عطاؤه عارية مستردَّة إن كان قادرا على الأداء، ويصح أن يكون عطاء غير مسترد، على حسب ما يرى أمير الصدقات.
وختم الله تعالى الآية بقوله تالت كلماته: (فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال الزمخشري: إن (فَرِيضَةً) بمعنى المصدر أي فرضا من الله.
ولماذا لَا تكون فريضة وصفا للصدقات وتوزيعها الحكم، أي أن هذا كله موصوف لفريضة، كفريضة الصلاة والصوم والحج، وأنها لازمة لزوم كل الفرائض
3348
المشروعة، ونسبها سبحانه إلى الله منزلها، فقال: (فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ) وذلك لبيان لزومها ومنع تغييرها وإجمالها وضرورة إعطائها، وتعود على الذين لمزوا النبي - ﷺ - في الصدقات ببيان أن التقسيم من الله تعالى، وأن من يعيبه إنما يعيب الله سبحانه وتعالى.
وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللًهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وفيه إشارة إلى أن هذا التعاون بين الأغنياء والمحاويج يربي العزة، وهو تشريع من العزيز مانح العزة، الحكيم الذي يعلم الأشياء كلها، ويدبر الأمور بمقتضى حكمته وينظمها بمقتضى علمه.
وقبل أن ننهي الكلام في آية الصدقات نشير إلى أمرين أحدهما فقهي والآخر لغوي، ونبتدئ باللغوي وذلك أن الزمخشري رحمه الله تعالى بين السبب في التعدية باللام في الأربعة الأولى وهي الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم، وذلك لأن العطاء لهؤلاء لَا يكون إلا بالتمليك والاختصاص فالفقراء والمساكين يأخذون بالتمليك ما يعطون، وكذلك العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم، والأربعة الأخرى كانت التعدية بـ (في) فقال تعالى: (وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)، فإن هؤلاء لَا يأخذون، فالرقاب لا يأخذون، بل الذي يأخذ مالك الرقبة، وكذلك الغارمون لَا يأخذون، إنما الذي يأخذ هو الدائن الغريم، وابن السبيل لَا يملك، ولكن يطعم ويؤوى، والله أعلم.
أما الأمر الفقهي فهو أن الفقهاء قد اختلفوا أهذا الإحصاء للاستيعاب واختصاص العطاء في هؤلاء أم الصدقات تقسم ثمانية أقسام. فيكون لكل قسم ثُمن الصدقات، قال الشافعي بذلك، وقال جمهور الفقهاء: إنه يقسم على مجموع الأقسام الثمانية، لَا على كل قسم بحظه المعلوم، وولي الأمر ينفق لكل بما يراه أصلح وأعدل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
3349
من أعمال المنافقين
قال تعالى:
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤)
* * *
ذكر سبحانه مقالة بعض المنافقين في لمز النبي - ﷺ - في الصدقات، وقد رد تعالى قولهم، وبين سبحانه أن أمر الزكاة وسائر الصدقات ليس فُرُطا، بل إن الله نظمه، وأن من يعيب توزيعها إنما يتهجم على الله سبحانه وتعالى، لأنه لم يتركها له ليوزعها كما يشاء، بل ذكر أصناف مستحقيها. ولكنهم يستمرون في إيذائه ولذا قال تعالى:
3350
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ).
ولكنهم استمروا على إيذاء النبي - ﷺ - بأقوال كاذبة، ويفتُّون في عضد الجماعة الإسلامية ويشيعون فيها بما يفرقها ويرجعون بالقول، فإذا تسامع الناس بها، وعلموا أنها وصلت إلى مسامع النبي - ﷺ - لَا يبالون، (وَيَقُولُونَ هُو أُذُنٌ)،
3350
ولذا قال تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) وليس قولهم: هو أذن - هو الإيذاء، بل الإيذاء بالقول منهم متنوع مختلف لَا يتوانى عن الكذب على النبي - ﷺ - والافتراء عليه كما كانوا يلجون في إشاعة الافتراء على أم المومنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، فإذا رأوا كبر ما يفعلون سهلوه، (وَيَقُولُونَ هُو أُذُنٌ)، ومعنى (أُذُنٌ) أنه يأخذ العلم من مسمعه من غير أن يفحصه، بل يقبله مصدقا له، فما عليهم إلا أن يحلفوا أنهم ما قالوه حتى يصدق أيمانهم من غير أن يفحص كذب ما قالوا، ونسوا أن اللَّه يعلمه بما تبلبل به ألسنتهم، ويجيش في صدورهم، وكلمة (هُوَ أُذُنٌ) كما قلنا أنه يعلم من أذنه، فإذا صدق ما قيل عنهم، فإنه مصدق أيمانهم النافية الكاذبة ولا عليهم شيء من بعد ذلك، وهكذا المنافق يظن أو يتوهم أنه يخدع الناس بقوله وهو المخدوع، وإنما يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون.
وعبر عن المستمع بأنه أذن لأنه في زعمهم علمه كله من أذنه، وذلك مجاز مرسل علاقته الجزئية، فعبر عن الكل باسم الجزء؛ لأن هذا الجزء له مزية خاصة في الموضوع، كما يعبر عن الجاسوس بالعين؛ لأن العين لها المزية الأولى في عمله، ورد الله تعالى عليهم بقوله: (قُلْ أُذنُ خَيْرٍ لَكُمْ) كقولنا أذن صدق، ورجل بِر، ورجل حق، فقد سلَّم بأنه أذن، يستمع إلى الأقوال التي تصل إليه، ولكن لَا يقبلها بإِطلاقها كما يتقولون، ولكن يفحصها، ويعالج نفوسكم على مقتضاها، ويتدبر الأمر لهدايتكم، ولا يبادركم بشر يناسبكم، ولا يفضحكم؛ لان الله تعالى أمره بذلك، ولأنه يقصد إلى خيركم، ولا عيب إذا سمع وصدق، ولقد قال بعض المفسرين كلمة طيبة: كلما كانت النفس ألين عريكة، وأسلم قلبا وأسهل قبولا كانت أقبل وأشد استعدادًا له، وليس هذا اللين من باب الضعف، والتأثر من كل ما يرد عليه، ويراه حتى الكذب والشرور.
فهم زعموا أن النبي - ﷺ - إذ لم يجابههم بشرهم يقبل كل كذبهم وافترائهم، ولو كانت موثقة بالأيمان المغلظة، ونسوا أنه يعرفهم، ولكن لَا يريد أن يُنْزِل بهم أي عقاب، حتى لَا يقال إن محمدا يعاقب أصحابه وينزل بهم سوء العذاب.
3351
وبين الله سبحانه وتعالى ما يقوي أنه أذن خير، فقال: (يُؤْمِن بِاللَّهِ) وهذا تعريض بهم بأنهم لَا يؤمنون بالله، فهو يؤمن باللَّه حق الإيمان، ويذعن لله حق الإذعان، لَا أن يفتري ويوثق افتراءه بإيمان تدل على ما يدينهم ولا تبرئهم، ويقول تعالى: (وَيؤْمِن لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يسلم للمؤمنين ويصدقهم، وهذا أيضا تعريض بهم، فهو يسلم للمؤمنين ويصدقهم لأنهم مؤمنون، ولا يؤمن لكم ولا يصدقكم لأنكم منافقون، فلا تحسبوا سماحته لكم تصديقا، وإنما سماحته لكم رفق في الدعوة، وتلطف بكم عسى الله أن يجعل منكم من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويخلع نفسه من النفاق وأهله، وقد عدى البيان القرآني بالباء في قوله تعالى (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ)، لأن الإيمان بالله معناه التصديق والإذعان، والتصديق يتعدى بالباء.
وتعدى باللام في قوله تعالى: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)؛ لأن الإيمان فيما يتعلق بالمؤمنين معناه التسليم لهم، وقبول قولهم، مثل قوله تعالى في الإخبار عن كلام إخوة يوسف: (... وَمَا أَنتَ بِمؤْمِن لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)، وقوله تعالى: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذرِّيَّةٌ من قَوْمِهِ...)، وقول الكفار لنوحٍ: (... أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَبَعَكَ الأَرْذَلُونَ).
وقوله: (وَيُؤْمِن لِلْمُؤْمِنِينَ) فيه تعريض لهم بأنه عليه السلام لَا يقبل قولهم، لأنهم ليسوا بمؤمنين، وإن رفق بهم وتلطف في القول، فالرفق شأنه، ولكن لَا يدل على ما ظنوه من أنه يقبل كل كلام ولو كان كلامهم.
ثم يقول تعالى: (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالعطف على (أُذن خَيْرٍ) وقرئ بالجر (١)، أي رحمة للذين آمنوا منكم.
والمعنى على قراءة الجر، هو أذن خير لكم، وأذن رحمة للذين آمنوا منكم.
________
(١) قراءة (ورحمة) بالجر قراءة حمزة، وقرأ الباقون بالضم. غاية الاختصار (٩٥٩).
3352
وعلى قراءة الرفع، وهي قراءة يكون العطف فيها على (أُذُنُ)، أي هو أذن خير لكم، وأذن رحمة للذين آمنوا منكم، والضمير في (لَكُمْ) و (مِنكُمْ) يخاطب به المنافقين.
ووجه الخيرية لهم أنه يتستر عليهم بقبول كلامهم، وذلك خير لهم من أن يتجهم لهم فيفضحهم، ويكشف سوءة نفاقهم، وقوله: (للذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ) أي من أهليكم وذوي قرابتكم، ومن كانوا في الأصل منكم وهداهم الله تعالى فلا يكشف عن نفاقكم بإِظهار القبول لكلامكم، وإن كان يعلم أنكم لكاذبون لكيلا يضار هؤلاء، وعندما ظهر أمر المنافقين ولم يعد خفيا ذهب ابن عبد الله بن أبي رأس المنافقين إلى رسول الله - ﷺ - وقال له: إن كنت قاتلا فدعني أقتله، حتى لا أحمل ضغنا لمؤمن، فكان كتمان أمرهم، وعدم مجابهتهم بالتكذيب رحمة بهؤلاء الذين آمنوا منهم.
ثم ختم الله سبحانه الآية بذكر العذاب الأليم لمن يؤذي رسول الله - ﷺ -، فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
أظهر في موضع الإضمار لأن صدر الآية يبين أن موضوع الآية المنافقون الذين يؤذون رسول الله، فكان يصح أن يعود الضمير إليهم، ولكنه أظهر في موضع الإضمار، ليبين سبحانه أن سبب العذاب المؤلم هو إيذاء رسول الله - ﷺ -، ولذا قال جمهور الفقهاء: من سب رسول الله - ﷺ -، فقد كفر وعُدَّ مرتدا، وحلَّ قتله إلا أن يتوب، ولهم العذاب الأليم أي لكل من يؤذي رسول الله.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى محاولتهم تكذيب ما يقال عنهم بالحلف، والحلف الكاذب شارة المهانة، كما قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)،
فقال سبحانه وتعالى عنهم:
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)
3353
إن هؤلاء المنافقين حاولوا الكذب على النبي، وأيدوا كذبهم بإيمان غموس غير صادقة، وحسبوا أن ذلك يخدع رسول اللَّه - ﷺ -، وظنوا أنهم قادرون على ذلك بإيمانهم لأنه أُذُن، وقد بين سبحانه وتعالى فساد زعمهم في الآية السابقة، وفى هذه الآية حاولوا أن يخدعوا المؤمنين بإيمانهم الكاذبة؛ لأنهم يعيشون في أوساطهم ويساكنونهم ويجاورونهم فحاولوا أن ينفوا عنهم نفاقهم بالأداة التي يملكونها ويملكها كل فاجر كافر فأخذوا يحلفون، وقال الله تعالى في ذلك:
3354
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) لقد تخلفوا عن الجهاد في وقت النفير إلى بني الأصفر المتكاثف عددهم، فكانوا بذلك جبناء، وكانوا كاذبين في ادعائهم الكاذب، وثبت بدليل قاطع نفاقهم، والمنافق في وسط عربي صريح يعلن القوة، ولا يتقبل المعاذر - مشنوء مهين، فكانوا يحاولون تبرئة أنفسهم بالأيمان، وقوله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ) التعبير بالمضارع لأنهم يحلفون في الحال لَا في الماضي وفيه إشارة إلى أن الحلف شأنهم وهو متجدد، وكلما كذبوا حلفوا، وكلما تخلفوا بأعذار غير صادقة حلفوا، فالحلف ديدنهم.
وقوله تعالى: (لَكُمْ) إشارة إلى أن من معهم من العشراء والجيران من المؤمنين هم المقصودون، وقد صرح سبحانه وتعالى بذلك فقال: (لِيُرْضُوكُمْ) أي أن الباعث لهم على هذا الحلف الكذب إرضاؤكم، وإزالة الوحشة بينكم وبينهم، وزوال النفرة التي تحسونها منهم.
وإن هذا الإرضاء مع أنهم يطلبونه يريدونه لغاية في أنفسهم؛ لأن دوام النفرة منهم يمنعهم من الثقة فيهم، وذلك لَا يمكنهم من الدس الخسيس فيهم إذ لا يثقون فيهم، والدس يحتاج إلى الثقة ممن يدسون لهم، ويلقون بالفتنة فيهم، وقد بين الله سبحانه الغش في محاولة الإرضاء، فقال تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) أي أن العيب فيكم ليس في اعتذار أو تخلف أو كذب، إنما العيب الأصيل هو النفاق، فالنفاق هو الذي جعلكم تتخلفون عن
3354
الجهاد، وهو الذي جعلكم تعتذرون عنه بأعذار مكذوبة، وهو الذي جعلكم تحلفون ممتهنين الأيمان المغلظة.
فهم حاولوا إرضاء المؤمنين ولم يحاولوا إرضاء الله ورسوله لأنهم يعلمون أن ذلك غير ممكن، ولذا قال تعالى فيما تلونا (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) أي لو كانوا مؤمنين ولا يريدون التخلف، وإن تخلفوا فبأعذار صادقة - لآمنوا أن الله ورسوله أحق بالإرضاء، وإرضاء الله ورسوله ليس يالأيمان الكاذبة، إنما هو بأن يخلعوا أنفسهم من النفاق، ويؤمنوا بالله ورسوله حق الإيمان.
وفى قوله تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) إشارة بيانية، وهي أن الله تعالى ورسوله ذكر أنهما أحق بالإرضاء، ولكنه عند عود الضمير أعاده مفردا (يُرْضُوهُ)، وذلك للإشارة إلى أن إرضاء أحدهما إرضاء لهما، فإرضاء الله تعالى إرضاء للنبي - ﷺ -، وإرضاء النبي - ﷺ - إرضاء لله تعالى، كما قال: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ..)، وفي ذلك إشارة إلى أن الذين يؤذون النبي - ﷺ -، إنما يتهجمون على مقام الألوهية ويتحدون الله ورسوله، ولقد قال تعالى:
3355
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
لقد كان هؤلاء المنافقون مع ما يظهرون من محاولة إرضاء المؤمنين ليبثوا فيهم الخور، وضعف العزيمة، حتى إنه في غزوة " أُحُد " بتأثيرهم - همَّت طائفتان أن تفشلا بعمل كيدهم.
كانوا مع ذلك يستهزءون بالمؤمنين والنبي - ﷺ - وقد وضعوا أنفسهم في حيز، محادين الله ورسوله، فقال تعالى فيهم:
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الاستفهام هنا للنفي والتوبيخ، ولم نافية، ونفي النفي إثبات كما يقول أهل العلم بالعربية، فالمعنى لقد علموا أنه من
3355
يحادد الله ورسوله، فأن لهم جهنم، وكان الإثبات بهذه الطريقة البيانية لتأكيد علمهم وتأكيد شرهم، كأنهم أقدموا على هذا الشر عالمين، ووجه التأكيد في التقرير بهذه الطريقة مؤداه أنه سئل عنهم: يعلمون أم لَا يعلمون، فأجيب عنهم بأنهم يعلمون، فكان في ذلك فضل تأكيد.
وحاده كـ (شاقَّه)، أي جعل بينه وبين الحق حدا، لَا يصل الحق إليه، ولا يحاول هو أن يصل إلى الحق، ومن يكون في جانب، والله تعالى في جانب آخر، كأنه يناوئه ويقاومه، ولقد قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْما يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...).
وقوله تعالى: (فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) فيها قراءتان قراءة حفص بفتح (أن)، وتخريج القول على هذه القراءة أن النار واقعة في جواب الشرط، وأن والمصدر المنسبك منها وما بعدها، فاعل لفعل محذوف تقديره (فقد ثبت أن لهم جهنم خالدين فيها أبدا)، وهناك قراءة بكسر (إن) (١)، وتكون هي وما بعدها جملة مبتدأة، واقعة في جواب الشرط، أو دالة على جواب الشرط، وذلك على تقدير أن الشرط محذوف، ويكون المحذوف تقديره (هالك).
قوله تعالى: (ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)، أي أنهم إذا كانوا في الدنيا يتسترون بنفاقهم، ويخفون حقيقة أمرهم، فإن ذلك مكشوف يوم القيامة، إذ ينكشف أمرهم ويتبين حالهم، ويكون خزيهم وهم خالدون فيها المنافق دائما حذِر من أن ينكشف أمره، وقد رأوا النبي - ﷺ - ينزل عليه الوحي ويخبره بكشف أمر المنافقين، فكانوا يخشون إذا نزلت سورة أن يكون فيها كشف لأمر من أمورهم، فقال تعالى:
(يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤)
________
(١) قراءة (فأن) بالفتح، ليست في العشر المتواترة.
3356
(يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ) إخبار عن المنافقين بأنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة، والحذر يكون دائما من شأن من يستر شيئا؛ لأنه يخشى أن يكشف، وإذا كشف ضاع الغرض الذي ستره من أجله، والسورة الجزء من القرآن المفصول عن غيره كأنه سوِّر بسور يحدُّه، والتنزيل من الله تعالى على نبيه الكريم، فلا تنزل على المنافقين، إنما تنزل على قلب محمد الأمين، فكيف تنزل عليهم، ولكن المراد أنها تنزل في شأنهم، وكانت التعدية بـ (على) للإشارة إلى أنها تنزل عليهم كالصاعقة يفاجئون بها، وعلى ذلك يكون الضمير في (عَلَيْهمْ) يعود إلى المنافقين، وكذلك الضمير في (تُنبِّئُهم)، وقوله تعالى: (بِمَا فِي قلُوبِهِمْ) ويصح أن يكون قوله تعالى: (يَحْذَر الْمُنَافِقون) في معنى الأمر، وكثيرا ما تجيء الصيغة الخبرية بمعنى الأمر، كما في قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ...)، وكما في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قًرُوء...)، فإن الخبر في كل هذه الصيغ يدل على الطلب.
ولكن تخريجها بمعنى الخبر أولى؛ لأنه يناسبه قوله تعالى في الآية (إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ).
والزمخشري يرى أن الضمير في (عَلَيْهِمْ)، و (تنَبِّئُهُم) يعود على المؤمنين والنبي - ﷺ -، لأن الشأن في النزول القرآني أن ينزل على النبي - ﷺ -، ومن معه من المؤمنين، وأما الضمير في قوله تعالى: (بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) فإنه يعود على المنافقين؛ لأنهم الذين يخفون ما لَا يبدون، فالأنسب أن يعود إليهم، والقرائن تعين عودة الضمائر على هذا النحو.
كان المنافقون يستهزئون في مجالسهم بالنبي - ﷺ - وبالمسلمين وبالجهاد، حتى أنهم كانوا في غزوة تبوك التي كانت ذاهبة إلى الشام يتهكمون على المؤمنين، ويستهزئون بهم، ولا يكتفون بالقعود عنهم، ولقد روي أنهم كانوا يقولون مستهزئين: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات. وكانوا يريدون ألا يطلع على ذلك أحد من المؤمنين، ولذا قال تعالى:
3357
(قُلِ اسْتَهْزِئُوا) هذا أمر للتهديد، كقولك للمجرم الذي بدا إجرامه افعل ما شئت، وكقول النبي - ﷺ -: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (١).
(إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ) أي إن الله تعالى كاشف ما تأتمرون به، وما تستهزئون به من قول يكشف عن نفاقكم، وفي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ) أي أن يخرج، تأكيد لإخراج هذا الأمر الذي يحذرون خروجه، أولا بالجملة الاسمية، و (إِنَّ)، الدالة على توكيد الخبر، وفي التعبير بلفظ الجلالة الذي يربي الرهبة والخوف في النفس، وقوله (مُخْرِجٌ) فيه إشارة إلى مبالغتهم في الحذر، كأنهم دفنوه فأخرج من دفين نفوسهم.
ولقد جاء في تفسير أبي مسلم أن قوله تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ...) من قبيل على القرآن، فقال هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزإء حين رأوا رسول الله - ﷺ - يذكر كلامهم ويدعي أنه من الوحي، وكان المنافقون يكذبون ذلك فيما بينهم، فأخبر الله وسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا إظهاره، ولذلك قال تعالى: (قُلِ اسْتَهْزِئُوا)، أي بالله وآياته ورسوله، أو افعلوا الاستهزاء، وهو أمر تهديد (إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه.
ويقول إن هذا احتمال، ولكن السياق القرآني يدل على استهزاء أظهره الله تعالى، وإن هذه الآية تدل على أنهم يكثرون من الاستهزاء والله مخرج أمورهم، حتى لَا يخدع فيهم مؤمن قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (٣٠).
* * *
________
(١) سبق تخريجه.
3358
قال تعالى:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٦٨)
* * *
كان المنافقون في المدينة يثبطون المؤمنين عن الجهاد ببث التخاذل فيهم، ووضع ما يؤدي إلى الفشل والعجز فيما بينهم لَا يبالون، ما يمنعهم من غرضهم عشيرة أو جوار، أو أنه إذا نزلت بالمدينة كارثة لَا ينجون منها.
فكانوا يستهزئون بالمؤمنين في مجالسهم، ويتهكمون عليهم، إذا خرجوا إلى الجهاد حاولوا تثبيطهم عنه ببث روح الفشل، أو بالتهكم اللاذع، واستصغار شأن المؤمنين، ومما جاء في مقالتهم من نفاقهم " أنه بينا رسول الله - ﷺ - يسير في غزوة تبوك كان ركب من المنافقين وبعضهم يقول لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم لبعض، والله لكأنَّا بهم مقرنين في الحبال. قالوا ذلك ترهيبًا للمؤمنين، وقال رجل من المنافقين طعنا في المؤمنين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء.
3359
علم النبي - ﷺ - بهذه الأقوال، وراجت وشاعت بين المؤمنين، وكانت تشتد شيوعًا كلما كان قتال؛ لأنه يلهج ألسنتهم بفساد القول كلما كانت حرب أو شدة لتكون السخرية، ويكون التثبيط.
وإذا سألهم النبي - ﷺ - عن هذه الأقوال أقروا بها، وبمقصدهم منها، وهو العبث، وهذا قوله تعالى:
3360
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ).
والخوض هو الدخول في الماء والانغمار فيه، ثم أطلق على الدخول في الكلام الذي يسمرون به، والقصص من الأساطير، واللعب من الفعل أو القول الذي لَا يكون لغاية، بل لمجرد العبث، أو الاستهزاء والسخرية.
وقد أكد الله سؤال النبي - ﷺ - بقوله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ) بالقسم وفيه اللام الممهدة للقسم، وحذف المفعول؛ لأن أقوالهم كثيرة، وكان جوابهم مؤكدا تبعا لتأكد القسم، فهم أكدوا أنهم كانوا يخوضون ويلعبون، ومعنى ذلك أنهم كانوا يستهزئون، ولذلك أمر الله تعالى نبيه بأن يقول لهم: (قلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ).
بين الله سبحانه وتعالى خطر استهزائهم بالخوض في الكلام العابث، واللعب الجاحد، بين لهم أن ذلك يتضمن الاستهزاء بالله خالق كل شيء، والآيات التي ترشد العقلاء إلى الحق، والرسول الصادق الأمين الذي قامت الأدلة من القرآن ومن شخصه على الرسالة، فكفروا بالله وكذبوا الآيات.
وتقديم (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسولِهِ) على الفعل يستهزئون فيه إشارة إلى تخصيص هؤلاء بالاستهزاء، فأي ضلال أشد من هذا، وأي كفر وجحود أشد.
والاستفهام هنا للاستنكار، إنكار الواقع أي التوبيخ على ما فعلوا.
ولهذا الفجور الذي يبدر من ألسنتهم ويدل على قلوبهم، قال الله تعالى:
(لَا تَعْتَذِرُوا)؛ لأن كل اعتذار يلقون فيه أنفسهم بهاوية من الكفر أشد مما هم فيه، فقال تعالى:
(لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً... (٦٦)
والنهي هنا على حقيقته، فالله تعالى ينهاهم عن الاعتذار؛ لأن الاعتذار يؤدي إلى أن يقعوا في ذنب أشد مما يعتذرون عنه لحميتهم، وجهالتهم بسبب النفاق الذي أركس نفوسهم في الشر، أو نقول النهي للتهكم باعتذارهم الذي يجعلهم يعترفون بأفحش ذنوبهم.
والاعتذار محو أثر الذنب، وأصله القطع، واعتذرت إليه قطعت ما في قلبه من الموجدة، فهم يحاولون إزالة ما أوجده كلامهم من بهفر، فيزيدون الذنوب.
والاستهزاء استخفاف، فإذا كان بالله وآياته ورسوله فهو كفر، ولذا قال تعالى في اعتذارهم وإقرارهم بالاستهزاء (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) وقد أكد الله تعالى كفرهم بـ (قَدْ) الدالة على التحقيق فأكد الله تعالى كفرهم، وقوله تعالى:
(بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) والنفاق ليس فيه إيمان، والمنافق ليس بمؤمن، ولكنه يظهر الإيمان، ويكون بعد إيمانكم أي بعد إظهار إيمانكم، فكشفتم كفركم بعد ستره، فافتضح أمركم بعد أن سترتموه، أو نقول: إنه كان فيهبم ضعفاء الإيمان، فكان اشتراكهم معهم في الاستهزاء والسخرية بالله تعالى وآياته ورسوله كفرا لهم بعد إيمان كان فيهم، وإن كان ناقصا، وإني أختار هذا، والله تعالى أعلم.
ثم يقول سبحانه: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً)، إن عفو الله منوط بالتوبة، الطائفة التي يعفو الله عنها هي التائبة، فالتوبة تجبُّ ما قبلها، وقد كان في هؤلاء الذين خاضوا ولعبوا وتعابثوا، من تاب وأناب.
وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسيره نقلًا عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس: وكان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آية أن أُعنى بها (أي لأنه كان ممن خاضوا بها) تقشعر منها الجلود، وتوجل منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لَا يقول أحد أنا غَسَّلتُ، أنا كَفَّنت، أنا دفنت.
فأصيب يوم اليمامة، فما من أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره.
3361
هؤلاء هم الذين عفا الله عنهم، وهذا أحدهم لقد تاب فعفا الله عنه وصار من الشهداء الصديقين، وأسند سبحانه العفو والعذاب إليه سبحانه تعظيما لمقام العفو، وتهديدًا بأهل العذاب، ولقد بين سبحانه العذاب، بقوله تعالى: (بِأَنَّهُم كانُوا مُجْرِمِينَ) الإجرام الذنب الكبير الذي يكون له جِرم، وتفعله الجوارح، وتكتسبه النفس، وقد أشار سبحانه إلى أنهم مستمرون على إجرامهم ولم يتوبوا، ولذلك يتأكد إجرامهم واستمرارهم عليه، وعدم انخلاعهم منه، فقد أكد الإجرام بالجملة الاسمية، و (أن) الدالة على تأكيد ما بعدها، و (كان) التي تؤكد القول، وتدل على استمراره.
أحوال المنافقين وصفاتهم
وقد بين سبحانه صفات المنافقين الذين لَا يرجى إيمانهم، فقال تعالت كلماته:
3362
(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٦٧)
إن المنافقين ينعزلون عن الجماعة المؤمنة، فهم في نفرة عنهم، ويكونون أنفسهم جماعة موحدة يجمعها فكر عام موحد يناقض الجماعة العامة التي يعيشون فيها، فلا يرضيهم ما يُرضي الجماعة بل يخالفونها، ويناقضونها فيما تفكر وفيما تعمل، فقد عزلوا أنفسهم عنها، فإذا كانت الجماعة العامة متضافرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهم عكسوا، معروفهم منكر عند جماعة المؤمنين، ومنكرهم هو المعروف، ولذا قال تعالى:
(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات بَعْضُهُمْ مِّنْ بَعْضٍ) أي أنهم كل متصل الأجزاء، ولايتهم واحدة وتناصرهم واحد، وفي هذا تكذيب ليمينهم الكاذب فيما نقله سبحانه عنهم (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ...)، وهو تأكيد لما قاله سبحانه في نفي أنهم منكم.
3362
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أنهم متضافرون في أسرهم، فأسرهم في الجملة منافقة، ولذا ذكر سبحانه وتعالى المنافقات مع المنافقين، وقال تعالى: (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)، أي أنهم لُحْمة متصلة يتغذى بعضهم بلبان النفاق من بعض، فهم بيئة واحدة يغذيها لبن النفاق، أو بالأحرى سُمُّه.
وقد ذكر سبحانه أحوالهم:
أولاها: أنهم ينشرون الفساد في الفكر والعمل، فلهم رأى عام يخصهم يسوده الفساد في النفوس والأخلاق، يشجع الرذيلة ويتهكم على الفضيلة، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله: (يَأمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) يشجعون كل ما هو شر، ويمنعون كل ما هو خير، معروفهم منكر، ومنكرهم هو المعروف، وهكذا يقضى الله على بعض الجماعات الإنسانية بالشر، كما نرى الآن من منافقي عصرنا، فعدلهم ظلم وحريتهم اعتداء، وشوراهم استبداد.
الثانية: أنهم غير متعاونين في ذات أنفسهم، وفي جماعتهم فلا ينفقون في خير قط، والشح يستولي على نفوسهم، ولا يجعلون أنفسهم في وقاية منه، بين تعالى في ذلك الوصف بقوله تعالى: (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) القبض ضد البسط، وقبض اليد غلها عن الإنفاق، فعبر عن عدم الإنفاق في موضعه بقبض اليد، كما عبر عن الإنفاق في موضعه ببسط اليد، كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...).
الثالثة: أنهم ينسون الخير نسيانا، فإذا ذكر لهم الخير تهكموا بصاحبه، وقالوا مستهزئين متهكمين بمن يتكلم في الفضيلة، وهذا عبر الله عنه بقوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) أي نسوا الله تعالى فلا تذكره قلوبهم، ولا تطمئن به، إن القلوب إذا نسيت الله لَا تطيع أمره، ولا تجتنب نواهيه، ونسيان الله تعالى ألا يوفقهم لخير، وأن يجعلهم منغمسين في الشر الذي اختاروه والضلال الذي أحيط بهم.
3363
وإن المنافقين قد ينفقون في حالين: إحداهما أن يستروا نفاقهم، كما كان المعتذرون المتخلفون عن الجهاد يعتذرون عن الخروج، ويقولون هذه أموالنا خذوا منها ما شئتم.
والحال الرابعة - أن ينفقوا في الشر لتأييد الفاسدين، وقد نسوا رقابة الله، فنسيهم أي فتركهم يرتعون ويعبثون حتى يوم الحساب. ولقد قال تعالى حاكما عليهم: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقونَ) الفسق هو الخروج والتمرد على الحقائق، وهو هنا أشد من الكفر، فهم كافرون بنفاقهم إذ يسترون الكفر، ويظهرون الإسلام، وبهذه المساوئ التي أشار إليها الكتاب العزيز، فيتمردون على الله، ويعاندونه، ويحادونه إذ يحادون الحق.
وقد قال الزمخشري: إن فسقهم هو الفسق الكامل، ونقول إن الله تعالى أكد فسفهم، بالجملة الاسمية، وبـ (إِنَّ)، وقصرهم على الفسق بتعريف الطرفين، وبضمير الفصل (هم)، أي أنهم مقصورون على الفسق لَا يخرجون من دائرته فهو محيط بهم، إحاطة الدائرة بقطرها.
وقد ذكر الله تعالى عذابهم، فقال تعالى في كتابه العزيز:
3364
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٦٨)
هذا وعيد الله تعالى للمنافقين والمنافقات، ويلاحظ هنا أنه أظهر في موضع الإضمار، فذكرهم بأوصافهم للدلالة على أن النفاق هو السبب في هذا العقاب الشديد، ونص على النساء المنافقات؛ لأنهن يكوِّنَّ الأسرة التي يُعشش فيها، ويشتركن في إيجاد البيئة المنافقة التي يسودها الفساد ويحكمها الشر، وقد ذكر الكفار بعد المنافقين، وهم والمنافقون داخلون في الكفر؛ لأنهم كفار يزيدون النفاق، ولذا قدموا لأنهم أوغلوا في الكفر، والكافر الضال مظنة التوبة كما تاب الطلقاء وأبناء الطلقاء، وأما المنافق فإنه ملتوي النفس ملتوي الفكر، وقد يكون
3364
الكفار سبب كفرهم عصبية جاهلية، أما المنافقون فسبب كفرهم مع هذا الانحياز الذي يشبه الانحياز العصبي فإنه يوجد في رءوسهم ضلال في الفكر والتواء في القصد.
وذكر سبحانه الموعود فقال: (نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا).
ذي ثلاثة أولها نار جهنم، يلقون فيها وهي تتسع لهم جهنم (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)، وهي مراتب ودركات، (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ...)، فهم أشد الكفار عقابا، وأعظمهم عذابا.
ويقول سبحانه: (هِيَ حَسْبُهُمْ)، هي الكافية، وهذا يدل على هولها، وشدتها، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها، وهي عقاب مادي.
والنوع الثاني: عقاب معنوي، وهو الطرد والإبعاد المعنوي، وعبر عنه سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَعَنَهُمُ) أي طردهم من رحمته، وأبعدهم عنه سبحانه لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم.
الثالث: عبر عنه بقوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ مقِيمٌ) أي مستمر دائم، وعطفه على هذين السابقين دليل على أنه غيرهما؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، ولم يعين سبحانه نوعه، ولكنه أخبر به فيجب علينا أن نصدقه.
* * *
قال تعالى:
(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ
3365
نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
* * *
بين الله تعالى في الآية السابقة العقاب الشديد الذي يستقبل الكافرين، وخص المنافقين بالذكر، لأنهم كفار أخساء لؤماء، مفسدون، ثم بين سبحانه وتعالى أن ذلك العذاب قريب وليس ببعيد، وأنه أصاب الذين من قبلكم، فقال مقربا لعذابهم ممثلا له بعذاب من سبقوهم، فقال:
3366
(كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) الذين سبقوكم بالكفر والطغيان، والخطاب للكفار والمنافقين، وإن ذكرهم وقد فَنوا يومئ إلى أنهم سيكونون مثلهم في فناء، وأن الحياة الدنيا التي آثروا متعها فانية، وقوى ذلك المعنى المشار إليه بقوله تعالت كلماته: (كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا) كانوا في قوة غزت الأقاليم وفتحت البلاد ودانت لهم رقاب العباد، وسيطروا على الأرض، كان عدد الملأ من قوم فرعون كثيرا، والأموال من الزرع والثمار والسائمة، تجري في أيديهم، فأنى يكون عددكم بجوار عددهم، وأموالكم وأنتم بواد غير ذي زرع بجوار أموالهم، ومع ذلك حسبوا الحياة كل شيء ففنوا مع فناء حياتهم الدنيوية.
قوله تعالى: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي بنصيبهم الذي خلقه الله تعالى لهم، استمتعوا بهذا النصيب، وحسبوه الحياة، ولا حياة بعدها، وتحكموا واستكبروا، وقال الطاغوت الأكبر فرعون - ومن شابهه -: (... أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي...)، وسرتم سيرهم، فحسبتم أن الدنيا هي الحياة، ولا حياة بعدها. ولذا قال تعالى: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ).
استمتع معناها طلب المتعة، ونالها، فالأقدمون استمتعوا بما أوتوا من حظوظ الدنيا، وجعلوها متعتهم، وقصروا متع حياتهم عليها لَا يطلبون غيرها من متع
3366
الآخرة، ولا يريدونها، والفاء في قوله تعالى: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها، ترتب محاكاة واتباع، فطلبتم ما طلبوا، وحاكيتموهم فيما فعلوا، ولذا قال: (كَمَا اسْتَمعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلاقِهِمْ) ثم قال تعالى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) قلنا: إن الخوض معناه دخول الماء، واختفاء الأرجل والسير فيه، وأطلق على الخوض في الباطل والإثم، وفيه مجاز، من حيث تشبيه الخوض في الباطل بالخوض في الماء من غير تعرف لما فيه، وقد يكون فيه صخور، أو أشياء تجرح وتضر.
(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) أي خضتم في الباطل كالذي خاضوا فيه.
والمعنى تشابهت أحوالكم مع أحوال من سبقوكم فاستمتعتم بحياة لاهية رخيصة، من غير نظر إلى عاقبة أموركم وأمورهم وحسبتم أن خلاقكم في الدنيا هو الحظ الأوفر، فلم تفكروا في الآخرة، ولم تعملوا على صلاح أموركم فيها، بل إنكم أنتم وهم حسبتم أن حياتكم هي الدنيا، وظننتم أنكم خلقتم عبثا من غير غاية، وأنه ليس هناك يوم تجازون فيه، وإن الصيغة الكريمة تومئ إلى أن قصر الحياة على حظوظ الدنيا استهانة بأنفسهم، وقد قال الزمخشري في بيان السبب في تكرار التشبيه لحالهم بحال من سبقوهم من الفجرة الآثمين العاتين، وفائدته أن يَذُم الأولين بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتها الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الصلاح في الآخرة، وأن يصغر أمر الاستمتاع بها، ويهين أمر الراضي بها، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله، فتقول: أنت مثل فرعون؛ كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله.
فهو سبحانه وتعالى يشير إلى سوء حال من سبقوهم، ويبين أنهم مثلهم.
ثم قال تعالى: (أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) الإشارة إلى أوصافهم من أنهم حسبوا الحياة لهوًا ولعبًا، فاستمتعوا بحظهم فيها، واستمتعتم أنتم مثلهم، هذا سبب أن حبطت أعمالكم، أي بطلت؛ لأنها تحمل في نفسها أسباب فسادها،
3367
وأولئك هم الخاسرون، وقد تأكدت خسارتهم، وفي الكلام قصر، واختصاص أنهم مقصورون على الخسران، فلا فلاح لهم في الدنيا إذ تكون حياتهم يأكلون ويمرحون، ولا فلاح لهم في الآخرة إذ يستقبلهم العذاب المهين.
وقد أشار سبحانه إلى الهلاك الذي نال من سبقوهم فقال تعالى:
3368
(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
بعد أن ذكر أمر من سبقوهم، وأنهم جعلوا حياتهم لاهية لَا يقدرون فيها تبعات، ويحسبون أن حياتهم أن يستمتعوا بخلاقهم ولا يقدرون لهذه الحياة ما بعدها، والآن يذكر لهم سبحانه بعض أعيان من كان مثلهم، ممن يسيرون في ديارهم ويرون آثارهم في أرضهم، وعلموا بالتواتر علم اليقين أخبارهم، فقال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ).
الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع، وهو يدل على تأكيد الخبر، وهو بمعنى النفي الداخل على النفي، والمعنى مع التوبيخ والتأكيد: لقد أتاكم نبأ من قبلكم، النبأ: الخبر العظيم الشأن، وهذا خبر عظيم الشأن لمن تأمل مغزاه وما يهدي إليه، وهو نبأ قوم نوح، وكيف كفروا، فأغرقهم الله، ولم ينج إلا قليل هم الذين اتبعوه وآمنوا به، وما آمن إلا قليل، وعاد وقد أهلكتهم الظلة، وثمود، وقد أرسل الله تعالى عليهم ريحًا صرصرأ عاتية، والمؤتفكات، وهي القرى التي بعث فيها لوط عليه السلام، وسميت مؤتفكات، لأنها انقلبت على أهلها، من ائتفك أي انقلب، وقيل هي في سدوم، وقد قال في انقلابها بعد أن أمر لوط وأهله إلا امرأته أن يسري بقطع من الليل، ولا يلتفت منهم أحد: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣).
3368
وقد أشار سبحانه إلى هلاك الكافرين الذين جحدوا بآيات الله تعالى قوما قوما ولم يعذبهم في الدنيا إلا بعد الإنذار الشديد إليهم، كما قال تعالت كلماته: (... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقد بعث الله تعالى الرسل إليهم قبل هلاكهم لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فقال تعالى: (أَتَتْهُمْ رسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، أي أتتهم رسل الله، بعثت إليهم بالبينات أي بالآيات الدالة على صدقهم، وأضيفت الرسل إليهم، وهي رسل الله للإشارة إلى مزيد العناية بهم من حيث إن الرسل جاءت إليهم خاصة، وخاطبتهم بما يهديهم إلى الحق، ومعهم الأدلة الدالة على الرسالة مستقيمة لَا عوج فيها، وبذلك قامت الحجة عليهم، فإن آمنوا فعن بينة، وإن كفروا فعن جحود بعد أن قامت عليهم الحجة.
ولذا قال تعالى: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) اللام في (لِيَظْلِمَهُمْ) لام الجحود، أي تفيد تأكيد النفي في قوله: (فَمَا كَانَ) أي ليس من شأن الله تعالى أن يظلمهم، فقد أقام الحجة عليهم، وقد تأكد بنفي ظلم الله تعالى بما النافية، ولام الجحود، و (كَانَ) الدالة على استمرار النفي، أي أنه ليس من شأن الله ولا من كماله أن يظلمهم، (وَلَكِن كَانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الاستدراك من عموم النفي، وإثبات ظلمهم لأنفسهم، وتقديم أنفسهم على يظلمون يفيد تأكيد ظلمهم لأنفسهم، وفيه ما يفيد أن ظلمهم يعود إلى أنفسهم، فلا يظلمون إلا أنفسهم، والله سبحانه وتعالى لَا يمكن أن يظلمهم.
وبعد أن بين الله تعالى مآل المنافقين والكافرين الذي أدت إليه أعمالهم، قال في أعمال المؤمنين وثوابهم:
* * *
3369
أحوال المؤمنين وصفاتهم
قال تعالى:
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
* * *
ذكر الله تعالى أن المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض أي من جنس بعض، ولم يقل أنهم أولياء؛ لأن الولاء يقتضي المحبة والنصرة، والمنافق لَا يحب أحدا، ولا ولاء له لأحد، بل هو خِبٌّ لئيم (١) يتربص للناس الدوائر، وإن وافق غيره يكون ممالأة، ولا يكون إخلاصا، ومن لَا يخلص للحق لَا يخلص لشيء، ومن لَا يخلص لله لَا يخلص لأحد.
ولكن بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات، قال سبحانه وتعالى:
________
(١) من ذلك ما رواه الترمذي: البر والصلة (١٩٦٤)، وأبو داود في الأدب (٠ ٤٧٩) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسولُ اللَّهِ - ﷺ -: " الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيم، وَالْفَاجِر خِبٌّ لَئِيم "، والخِبُّ: من سعى بالخداع، - والإفساد بين الناس.
3370
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) الأولياء جمع ولي، والولي هو النصير، والمحب، والوالي هو الذي يجعل عزه عزة لمن يواليه، وعبر عنهم بأنهم أولياء؛ لأنهم جمعتهم الرحمة والمودة، والإخلاص لله تعالى وللحق، وجماعتهم وأسرهم تقوم على الفضيلة، والإخلاص والتراحم؛ لأنهم صَغَتْ قلوبهم لله تعالى، ولانت
3370
أفئدتهم له سبحانه، فهم مرتبطون برباط معنوي لَا ينفصم، وما تربطه المادة يقبل التحطيم أو القطع، وما يربطه الولاء والمودة لَا تنفصم عراه؛ لأنه مربوط بالعروة الوثقى لَا انفصام لها، فهي رباط المؤمنين الذين يستمسكون به.
وقد وصف الله تعالى المؤمنين بصفات توثق الإيمان وتقويه.
وأول وصف هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وثاني وصف هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يؤدونها مقومة مستقيمة بخشوع وخضوع، وحضور لجلال الله تعالى في أداء أركانها من قيام وركوع وسجود، لَا أن ينقروا نقرا، وهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويتحقق فيها قوله تعالى: (... إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكبَر وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
وثالث الأوصاف هو في قوله تعالى: (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) والزكاة هي المعاونة الاجتماعية التي يتعاون فيها الناس، فالغني يعين الفقير، كما يعين القوي الضعيف، وهي الماعون الذي ذكره سبحانه وتعالى في قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)، فالزكاة هي المعاونة التي فرضها الله على الأغنياء للفقراء، يعتقدها المؤمن مغنما ولا يحسبها مغرما.
والوصف الرابع ذكره سبحانه بقوله تعالت كلماته: (وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي طاعة غير متململين فيها بتكليف، ولا مظهرين الطاعة ومضمرين العصيان، يطيعون بقلوبهم وجوارحهم، وينفذون أوامر الله تعالى في كل شئونهم، وشئون الجماعة المؤمنة، وعلى رأسها الجهاد.
إذا كان المؤمنون يقومون بهذه الواجبات، ويتصفون بهذه الصفات فقد حكم الله تعالى لهم بقوله تعالت كلماته:
3371
(أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) الإشارة إلى الصفات التي اتصفوا بها من أنهم أولياء يناصرون بعضهم بعضا، وأنهم يطهرون نفوسهم بالصلاة، وجماعتهم بالزكاة، ويتواصلون بالمودة، ويحمون أنفسهم بالجهاد في سبيل الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبسبب هذه الأوصاف يرحمهم الله تعالى، فيتآزرون ويجتمعون ويتحابون، وأي رحمة أعلى من ذلك، والسين - هنا وفي كل مكان تذكر فيه في القرآن - للدلالة على تأكيد الوقوع.
وقد قال في ذلك الزمخشري: السين مفيدة وجود الرحمة لَا محالة، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد، كما في قولك: سأنتقم منك يوما - تعني أنك لا تفوتني، وإن تباطأ ذلك، ونحوه (... سَيَجْعَل لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)، (... سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ...).
فالسين وسوف، يدلان على وقوع الفعل في المستقبل القريب والبعيد، ويؤكدان وقوعه، كما أشرنا إلى ذلك في مقام ذكرهما فيما مضى من كلامنا في معاني القرآن العظيم.
وقد بين سبحانه وتعالى قدرته على تنفيذ وعده ووعيده فقال: (إِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) العزيز هو القادر الغالب، مربي العزة في النفوس والجماعة، والحكيم هو الذي يضع كل أمر في موضعه.
وقد قدر الله أن عزة الجماعة تكون بترابطها وتوادها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والاستعداد له، والإقبال عليه بنفوس راضية، وقلوب مؤمنة، ومن تخلف عنه، فقد ذل بعد عزة، وتفرق بعد اجتماع، والله ولي المؤمنين.
وإذا كان سبحانه قد ذكر وعيد المنافقين فمانه سبحانه يذكر وعد المؤمنين فيقول سبحانه:
3372
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
وعد الله تعالى أن يعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وكان الوعد هو ذات الجنات، لَا إعدادها، وفي ذلك إشعار بأنها موجودة مهيأة قائمة ثابتة، ليس أمامهم إلا أن يدخلوها، ولذا لم يذكر دخولها، بل ذكر وجودها، وذكر سبحانه أن الأنهار تجري من تحتها، فقال سبحانه وتعالى: (وعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) وجريان الأنهار يفيد ثلاثة أمور:
أولها: أن ساكنها يتمتع بمنظر بهيج، وثانيها: أنها تجعل جوها لطيفا، لَا قَر ولا حرور، وثالثها: أنها تمد جذور أشجارها بالماء الطيب الذي يجعلها وارفة الظلال لَا يُبس فيها، بل لها غصون خضراء تجعل المتعة كاملة.
وقال تعالى: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن) والمساكن الطيبة هي المساكن التي يستطيب نازلها الإقامة فيها، وهي ممهدة تمهيدا طيبا للإقامة، وقد روي أنها قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر، والزبرجد، وروي أنها تكون لبِناتٍ من فضة وذهب، ولا تعارض في أن تكون كذلك، ولكن نقول إنها مساكن طيبة تطيب الإقامة فيها، وتستريح النفس والقلب بالإقامة، و (عَدْن) قال الزمخشري فيها: إن جنات عدن التي وعد بها الرحمن، ويدل عليه ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله - ﷺ -: " وعدن دار الله تعالى التي لم ترها عين، ولم تخطر على قلب بشر، لَا يسكنها غير ثلاثة: النبيون والصديقون والشهداء، يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك " (١).
وإن هذه الآية، وهذه الآثار تدل على أن جنات عدن جزء من الجنة يكون فيها الأبرار، والأطهار، هذا كله جزاء مادي، وهنا جزاء معنوي وهو رضوان الله تعالى، فقد قال عز من قائل: (وَرِضْوَان مِنَ اللَّهِ أَكبَرُ) الرضوان هو الرضا
________
(١) جزء من حديث جاء في كنز العمال: تفسير سورة الإسراء - ج ١، ص ٣٢٤، برقم (٤٤٨٥).
3373
العظيم، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وإن الإحساس بالرضا من الله رب الخلق، وخالق الخلق سعادة لَا تعدلها سعادة، ولقد قال في ذلك الزمخشري كلمة قيمة ننقلها. " وشيء من رضوان الله تعالى أكبر من ذلك كله؛ لأن رضاه تعالى هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض كان ذلك أكبر في نفسه مما وراءه من النعيم، وإنما تتهيأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته، تنغصت عليه، ولم يجد لها لذة، وإن عظمت، وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس الحرة من مشايخنا يقول: لَا تطمع عيني، ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة كما تطمع وتنازع إلى رضاه عني، وأن أحشر في زمرة المهديين " اهـ.
ونرى أنه يفهم من قول الزمخشري أن قوله تعالى: (وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكْبَرُ) أن معناه شيء من رضوان الله أكبر، أي أن أول شيء من رضوان الله تعالى أعظم من كل هذا النعيم.
ويقول سبحانه: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) والإشارة هنا إلى نعيم أهل الجنة، وتاجه رضوان الله تعالى، هو الفوز والفلاح، والحصول على أعظم جزاء، ويصح أن تكون الإشارة إلى رضوان أكبر؛ فإن ذلك الرضا العظيم جزاء لَا يُنَاهد، والعبارة تدل على القصر بتعريف الطرفين وضمير الفصل (هُوَ)، أي لَا فوز غير هذا، والله أعلم.
* * *
الجهاد ماض إلى يوم القيامة
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ
3374
وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٧٤)
* * *
بين الله تعالى حال المشركين، وما هم عليه، وذكر العذاب الذي يستقبلهم في الدنيا والآخرة، ثم بين حال المؤمنين، ثم يدعو سبحانه إلى استمرار المؤمنين في الجهاد، غير وانين ولا مقصرين.
والخطاب في الآية للنبي - ﷺ -، وللمؤمنين معه، وكان الخطاب للنبي ابتداء، لأنه القائد الأعلى، ولأنه الهادي والمرشد، والموجه،
3375
(جَاهِدِ) معناها ابذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بألسنتهم، ويقولون آمنا بأفواههم، وما هم بمؤمنين، ولا شك أن بذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين يختلف، فالكفار الذين أعلنوا الكفر وفتنوا المسلمين يكون جهادهم دفعا بالسيف والقتال، والكفار الذين لم يعلنوا الكفر وأبطنوه، ولم يفتنوا المسلمين بالإيذاء والتعذيب.. كان يفعل ذلك المشركون في مكة ولكنهم يثيرون الفساد، والدس والفت في عضد المؤمنين فدفعهم يكون بدفع أذاهم وشرهم، ومقاومة ما يبثونه في المؤمنين من تضليل، وأن يبعدهم عنهم، وبطلان ما يدعون إليه، وإقامة الأدلة عليهم ومنع تاثيرهم، والنبي - ﷺ - يقول: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم "، ولا شك أن الجهاد باللسان له مقامه في جهاد المشركين، وأشد ما يكون تأثيرا في جهاد المنافقين.
ومن جهاد المنافقين ألا يبش لهم، حتى يطمعوا في خداعه، بل يشعرهم بأنه في حذر منهم، ويقول ابن مسعود: يستنكر أفعالهم بيده، فإن لم يستطع فباكفهرار وجهه. وفي الجملة يسد عليهم باب خديعتهم، وقال الحسن البصري: إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود، وذلك على أساس مذهبه من أن مرتكب الكبيرة
3375
منافق، ويرى ابن جرير أن يكون جهادهم بالسيف إذا كشف نفاقهم، وأظهروا كفرهم، ويقول في ذلك إنهم في هذه الحال يخرجون من إسرار النفاق إلى الجهر بالكفر، فيدخلون في عموم الكفار المظهرين الكفر.
ولقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: بُعث رسول الله - ﷺ - بأربعة أسياف: سيف للمشركين بينه الله تعالى بقوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ...) وسيف لكفار أهل الكتاب، وبينه سبحانه وتعالى بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)، وسيف للمنافقين بينه الله سبحانه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)، وسيف للبغاة، كما قال تعالى: (... فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...).
وإنه قد روى أن الذي تولى سيف المنافقين هو الصديق خليفة رسول الله - ﷺ -، فقد تكشف نفاقهم في الردة التي وقعت عقب وفاة رسول الله - ﷺ -، إذ ارتد الأعراب الذين قال الله تعالى عنهم: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ...).
وإنه لهذا قال ابن جرير بقتل المنافق وقد لاحظ وصف الظهور، كالذين ارتدوا في عهد الصديق وقاتلهم عندما أرادوا أن يؤدوا الصلاة، ولا يؤتوا الزكاة، فقال لهم رضي الله عنه: " سلم مخزية، أو حرب مجلية ".
وقوله تعالى: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي عاملهم بخشونة، ولا ترفق بهم فإن الرفق يكون بحملهم على الإيمان بالشدة عليهم حتى لَا يمعنوا في الكفر، وعسى أن تكون الشدة دافعة غرورهم مانعة طغواءهم، وهذا عذابهم في الدنيا، ويكون بالهزيمة، والخزي والخسران.
3376
أما جزاؤهم في الآخرة، فقد ذكره سبحانه وتعالى: (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) والمعنى يسيرون إلى الآخرة حتى يجدوا المأوى الذي يؤويهم، وهو جهنم وفى هذا نوع من التهكم؛ لأن المأوى يأوي إليه الإنسان ليجد فيه المستقر والراحة والاطمئنان، فذكر المأوى في هذا المقام تهكم عليهم كقوله تعالى: (... فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب أَلِيم).
ثم ذم الله تعالى هذا المأوى فقال: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الذي آووا إليه. اللهم قنا عذاب النار.
لقد قال - ﷺ -: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان " (١) فقول الذين عاصروا النبي - ﷺ -، كان أوضح أوصافهم الكذب والحلف، ولذا تال تعالى:
________
(١) سبق تخريجه.
3377
(يَحْلِفُونَ باللَّه مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كلِمَةَ الْكُفْرِ وكفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ).
كان المنافقون ينالون بألسنتهم من النبي كثيرا، ولا يكفون ألسنتهم، ويقولون إذا أظهروا الإيمان، إنما نحن نستهزئ بهم، وكان الله يُعْلِم نبيه بأحوالهم وأقوالهم، وكان النبي - ﷺ - يعرفهم في لحن أقوالهم، كما قال تعالى: (... وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ...).
وكانت كلماتهم الفاسقة، تتساقط على مسامع بعض المؤمنين من غير أن يتنبهوا، روي أن النبي - ﷺ - كان يخطب فقال رجل من المنافقين، وزيد بن أرقم بجواره، قال ذلك المنافق: (لئن كان هذا الرجل " أى الرسول " صادقا فنحن شر من الحمير، فقال زيد رضي الله عنه: فهو والله صادق ولأنت شر من الحمار).
كان هذا القول وأشباهه يصل إلى مسامع رسول الله - ﷺ -، وربما يجابههم بهذا الذي ينقل، عندئذ يجدون المطية التي اختاروها، وهي مطية كل كذاب مهين، وهي الحلف بالله تعالى من غير أي حريجة.
3377
ولذا يقول في بيان حالهم عندما يكشف أمرهم وتعلم أقوالهم:
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا... (٧٤)
قلنا: إن أقوالهم المنافقة كثيرة لَا تخص واحدة دون الأخرى، بل كلما تكشتَف قول ينبئ عن نفاقهم - كذبوه وحلفوا اليمين الغموس الفاجرة، وقد أشرنا إلى أن اليمين الفاجرة، كانت المساغ لكذبهم، لعنهم الله هم وأخلافهم في هذا الزمان، وقد قالوا كلمة الكفر أي ما قالوه فيه كلمة واحدة هي كافية لطردهم من رحمة الله، واستحقاقهم نار جهنم، وهي إنكار الرسالة المحمدية؛ إذ هي الكلمة التي أوقعتهم في حضيض الكفر، أو نقول " كلمة " بمعنى كلمات، وكلمة بها كلام قد يُؤَم (١)، والمراد أن كلامهم كله في الاستهزاء والتهكم، وإيقاع الفرقة، والدس والفساد، هو كفر.
وقال (بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي بعد إعلانهم الإسلام، وإبطانهم الكفر والنفاق، فهذه الكلمة أو الكلام قد كشف نفاقهم الذي كان مستورًا بإعلان الإسلام، فما استفادوا إلا بيان حالهم، ومعرفة الوصف الحقيقي لهم.
(وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) أرادوا أن يفسدوا أمر المؤمنين، وتوقعوا الفتنة والفشل فيهم، ولم ينالوه؛ لأن الله تعالى رقيب عليهم، وكاشف للمؤمنين أمرهم، وكلما أوقدوا نار فتنة أطفاها الله سبحانه وتعالى، وعادت الأمور بيضاء لا فتنة فيها، ولقد هموا بقتل النبي - ﷺ - يوم أرادوا الفتك به بإِلقاء حجر عليه فكشف الله تعالى بالوحي أمرهم ولم ينالوا مأربهم، وهموا بقتله في عودته من تبوك ولم ينالوا ما يبغون؛ لأن الله تعالى عاصمه من الناس، فإنهم جمعوا عددا ما بين اثني عشر، وخمسة عشر رجلا للفتك برسول الله - ﷺ -، وهو في أعلاها، على حسب اختلاف الرواة كي يفتكوا برسول الله - ﷺ -، وإليك القصة كما رواها الإمام أحمد
________
(١) (وكلمة بها كلام قد يُؤَمّ)، شطر بيت من ألفية ابن مالك، ومعناه: أن " كلمة. تطلق، ويقصد بها " كلام "، مثل كلمة التوحيد: لَا إله إلا الله.
3378
قال: " لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ الْعَقَبَةَ، فَلَا يَأْخُذْهَا أَحَدٌ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ إِذْ أَقْبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ، غَشَوْا عَمَّارًا وَهُوَ يَسُوقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ عَمَّارٌ يَضْرِبُ وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ: «قَدْ، قَدْ» حَتَّى هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ وَرَجَعَ عَمَّارٌ، فَقَالَ: «يَا عَمَّارُ، هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ؟» فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ عَامَّةَ الرَّوَاحِلِ وَالْقَوْمُ مُتَلَثِّمُونَ قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَطْرَحُوهُ " (١).
وهكذا هموا بقتل رسول الله - ﷺ - ولم ينالوا منه، وصدق وعد الله لرسوله إذ يقول له: (... بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...). وقد ذكر المفسرون أن النص الكريم (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) خاص في تلك الحادثة. ونحن نقول إن النص يشمل كل ما هموا به ولم ينالوه.
ثم يقول سبحانه: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) لقد ازداد عمران المدينة بمقدم رسول الله - ﷺ -، فاتسعت تجارتها، وكثر سكانها، ثم ما كانت تأتي به الحروب الإسلامية من غنائم زادت الخيرات واتسعت الموارد، وعمت سكان المدينة وغيرهم، ولكن المشركين لم يلتفتوا إليه وأن ذلك يوجب الحمد، ولكنهم لؤماء أخساء، قابلوا النعمة بالكفر، وتأكد لؤمهم بقلبهم النعمة نقمة، فهم بدل أن يشكروا النعمة كفروها، وقالوا إن هذا يشبه تأكيد المدح بما يشبه الذم في صيغته، كما في قول النابغة الذبياني:
________
(١) راجع القصة كاملة في مسند أحمد: باقي مسند الأنصار - حديث أبي الطفل عامر بن واثلة رضي الله عنه (٢٣٢٨٠).
3379
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
بيد أن كلام الله العلي الكبير فيه تأكيد ذمهم لَا تأكيد مدحهم، فكان حقه عليهم أن يعدوا محمدا ودينه بركة عليهم يقدرونها حق قدرها.
وقد ذكر سبحانه أن هذا الغنى من فضل الله تعالى مَنَّ به عليهم كان يوجب عليهم حسن الصحبة لمن جاوروهم الذين جاء الخير على أيديهم، لَا أن يتربصوا بهم الدوائر، وذكر رسول الله - ﷺ - بجوار رب العزة، وهو الغني والناس جميعا فقراء إليه سبحانه، ذكر الرسول مع الله تعالى؛ لأن الخير كله أجراه الله تعالى على يديه، ولكي يعلموا أن مقدمه عليهم بركة وخير، ولأن الله تعالى أكرمهم لمقام النبي - ﷺ - بين ظهرانيهم.
ومع هذه المكايد والفتن فتح اللَّه تعالى لهم باب التوبة، فهو ينهى عن أن يقنط عباده من رحمته، فباب الرحمة والتوبة مفتوح، ولذلك قال تعالى فاتحا باب الأمل لهم:
(فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ).
أي إن يتوبوا توبة نصوحا يخلعون فيها أنفسهم من الكفر، كما يخلع الثوب النجس ليلبس طاهرا، (يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ)؛ أي يكون ذلك خيرًا لهم؛ لأن نفوسهم قد طهرت، وطهارة النفس في ذاتها خير، واستقامة النفس اطمئنان وإيمان، وخير أيضا؛ لأن النفاق ضعف، والإيمان قوة، وقوة النفس خير، وخير أيضا لأنه نجا من خزي النفاق وذله وجبنه، وخير لأنه نجا من عذاب يوم القيامة، وإنه يكون عكس ذلك إن استمروا على في بهم، وبقوا في رجسهم، ولذا قال سبحانه:
(وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، أي إن أعرضوا وانصرفوا إلى الفساد وساروا في طريقه يعذبهم الله في الدنيا بضعف نفوسهم
3380
وخزيهم، وفقد الثقة فيهم، والخزي العظيم، ونفور الناس منهم، وضرب الذلة عليهم، وانتقام الله منهم، وكشف ما يضمرون، وقتلهم، كما فعل أبو بكر الصديق عندما ارتدوا، فأنزل بهم الهزيمة والخزي والعار بتأييد الله، وعذابهم في الآخرة جهنم وبئس المصير.
ومن عذابهم في الدنيا أنهم لَا ولي لهم ولا نصير، ولذا قال تعالى: (وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) - في الأرض - أي في هذه الدنيا، أي أنهم في الدنيا يفقدون الأولياء الذين يحبونهم ويوادونهم، إذ الولاية والمحبة توجب الثقة والمودة والإخلاص، وأخص ما يختص به المنافق أنه يفقد الإخلاص فلا يخلص لأحد، قريئا كان أو بعيدًا، وإذا فقد الإخلاص فليس ولي ولا حميم ولا نصير، أي لَا أحد يكون نصيرا لأن ذلك يكون بالثقة، ولا ثقة في منافق. اللهم اكفنا شر النفاق والمنافقين.
* * *
عهود المنافقين
قال الله تعالى:
(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
* * *
3381
في الآية السابقة بين الله تعالى كذب المنافقين، واستعانتهم في تأييد كذبهم بالأيمان الكاذبة التي لَا تصدر إلا عن مهين، كما قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠).
وذكرنا الحديث الصحيح الذي قال فيه النبي - ﷺ - " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد خلف، وإذا اؤتمن خان " (١).
وقد كانت علامة النفاق الكذب، وقد ذكر الله تعالى الكذب، ونتيجته ويذكر الله تعالى خلاف الوعد، فيقول تعالت كلماته:
________
(١) سبق تخريجه.
3382
(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ).
الضمير في (مِنْهُم) يعود إلى المنافقين، وما أشد إنصاف الله تعالى في أحكامنا، وإنه سبحانه يعلمنا الصدق في أحكامنا فلا نسرف في القول فنعمِّم القول، والخبر عن خاص.
والعلماء يذكرون شخصا بعينه، أو أشخاصًا معينين، ونحن نميل دائما إلى أن تكون ألفاظ القرآن على عمومها من غير تخصيص أشخاص، وهنا نقول إن من خواص النفاق إخلاف الوعد، وإن الإخلاف يقع من بعضهم، وإن كان يحتمل أن يقع من كلهم، وعهد الله تعالى الذي يعاهد عليه بعضهم يشمل ما إذا عاهد النبي - ﷺ -، أو عاهد الله مناجيا ربه، أو أقسم بالله معقدا الأيمان أو نحو ذلك فهو في كل ذلك يعاهد الله تعالى، فمن أقسم أن يصدق إذا جاءه فقد عاهد الله تعالى، ومن نذر لله نذرا إذا أعطاه الله تعالى ليصدقن، فقد عاهد الله تعالى.
وقال تعالى: (لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ) اللام هي الموطئة للقسم، وقوله تعالى:
(آتَانَا مِن فَضْلِهِ)، لم يذكر فيه نوع ما يؤتيه، أهو علم، أم مال، أم جاه... إلى آخره، لم يذكر ما يعطيه الله تعالى صراحة، ولكن الظاهر أنه مال، بدليل
3382
لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فهي نص في المال، ولعل مثل المال غيره، فمن آتاه الله تعالى علما، فصدقته أن يجعله لله خالصا، فلا يتجر به ولا يبيع كلام الخالق بالدرهم والدينار، ولا يفتي بغير الحق ولا يحل ما حرم الله، ولا يحرم ما أحل الله تعالى.
وقوله تعالى: (لَنَصَّدَّقَنَّ) جواب القسم، وليست جواب الشرط؛ لأنه يقدم جواب القسم على جواب الشرط، والدليل على ذلك نون التوكيد الثقيلة، ووجود اللام ونون التوكيد الخفيفة في المعطوف.
ونرى كما قلنا أن النص عام لَا يخص أحدًا منهم، وإن كان في مساق بيان أحوال المنافقين.
ولكن يذكر المفسرون خبرا عن النبي - ﷺ -، قال الأكثرون إنه ضعيف السند في النسبة إلى النبي - ﷺ -، ولكن نذكره؛ لأنه مع ضعفه يصور طمع النفس التي لا تشبع، بل يزيده العطاء من فضل الله طمعا، ويوجد فيها شحا.
وذلك أنه مع ضعفه يصور النفس الإنسانية إذا استغنت، ونرى كيف يتحقق قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧)، وهذه الرواية كما جاءت في كتب التفسير بالرواية، ونقلها الزمحشرى، ولم يضعفها، وإن كان علماء الرواية قد ضعفوها: روي أن ثعلبة بن حاطب، قال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله - ﷺ -: " قليل تؤدي شكره، خير من كثير لَا تطيقه "، فراجعه، وقال: " والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنما، فنمت كما تنمى الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا، وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله - ﷺ -، فقيل كثر ماله حتى لَا يسعه واد، قال: " ويح ثعلبه "، فبعث رسول الله - ﷺ - مصدَّقَيْن لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا على ثعلبة وسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله - ﷺ - الذي فيه الفرائض. فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، وقال: ارجعا
3383
حتى أرى رأيي، فلما رجعا قال لهما رسول الله قبل أن يخبراه: " يا ويح ثعلبة " مرتين. فلما نزلت آية الصدقات جاءه ثعلبة بالصدقة، فردها النبي - ﷺ -.
وإن هذه القصة تصور كيف يكون الإنسان، وهو في حرمانه سليم القلب، فإذا جاءه المال أطغاه وأنساه ربه ودينه. وإن إخلاف الوعد، أو العهد الذي عاهدوا الله تعالى ينشئ النفاق، وينمي النفاق، ويجعله يتكاثف ويزداد، ولقد قال تعالى مبينا خلف وعدهم:
3384
(فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦)
(الفاء) لترتيب الإخلاف بالعهد، لأن الحلف لَا يزيد المنافق إلا خداعا، ولا يجعله يؤدي الحق فهو يكون على عكس ما يوجبه الإيمان إذ الإيمان يوجب الوفاء، والنفاق على عكس ذلك يوجب الإخلاف، وقد صور الله تعالى إيتاءهم وإخلافهم للعهد بقوله تعالى:
(فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) ويبدو ذلك في الرواية التي رويت عن ثعلبة ابن حاطب، كيف بخل عن الواجبات المفروضة لَا عن الصدقات غير المفروضة، وتعلل بأن الزكاة أخت الجزية، وإنه كان عليه أن يتفضل بالخير؛ لأن الله تعالى أعطاه من فضله من حيث لَا يحتسب، وكان رزق الله تعالى فائضا.
وفى الآية الكريمة تصوير لنفس البخيل يؤتيه الله تعالى من فضله بعد أن وعد بأنه سيعطي ويتصدق، ويكون من الصالحين، ويوثق عهده بالأيمان المغلظة، ثم ينقض بعد ذلك عهده شحا بالمال، وقد زاده العطاء شحا، ويصور كذلك نفس المنافق، ولا ترتبط بعهد، ولا تصرّ على وعد، بل نفسه منفلتة دائما، وعاثرة، لا تستقر ولا يوثق لها، وإن المنافق إذا فقد الضمير والنفس اللوامة انماعت نفسه، فأصبح لَا يؤمن بشيء ولا يربط بعهد أو وعد.
وقد استنبط بعض فقهاء الزيدية من هذه الآية وجوب الوفاء بالعهد ما دام في غير معصية، والفقهاء جميعا على ذلك، ومصداقه قوله - ﷺ -: " من نذر أن يطيع
3384
الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " (١) والعهد لله نذر، وقد قال جمهور الفقهاء إن النذر واجب الوفاء إذا كان من جنس فرض من الفروض، وإن العهد لله الذي يعاهد أولئك المنافقون عليه عهد على طاعة، وهي الصدقة في قوله عنهم: (لَنَصَّدَّقَنَّ). وقوله تعالى: (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) فيه إيماء إلى أنهم يحسون بأنهم ليسوا صالحين، وأنهم يريدون أن يعدلوا، ليخرجوا من الحال غير الصالحة إلى حال أخرى غير حالهم، وهو حال النفاق.
وقد زادهم العطاء نفاقا؛ لأنهم لم يفوا بالعهد، وكذا ما عاهدوا الله عليه.
وصور الله تعالى نكثهم بقوله: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي أعرضوا عن الله تعالى بعد أن أدنوا أنفسهم منه سبحانه، وأكد
سبحانه وتعالى إعراضهم بالحال، أي أنهم انصرفوا عن الله، وصار الإعراض حالهم، التي يعيشون في دائرتها، فينتقلون في محيطها من إعراض عن الله تعالى إلى إعراض أوحل في النفاق، ولذا قال تعالى:
________
(١) رواه الترمذي: النذور والأيمان - من نذر أن يطيع الله (١٥٢٦)، والنسانى: الأيمان والنذور - النذر في الطاعة (٦ ٠ ٣٨)، وأبو داود: الأيمان والنذور - ما جاء في نذر المعصية (٣٢٨٩)، وابن ماجه: الكفارات - النذر في المعصية (٢١٢٦)، وأحمد: باقي مسند الأنصار - حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (٢٣٥٥٥).
3385
(فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)
فأعقبهم أي جعل الله عقب فعلهم هذا نفاقا إلى نفاقهم. أي فازدادوا نفاقا وأوغلوا عما كانوا، وقال الحسن البصري إن الضمير الفاعل يعود إلى البخل، أي أن البخل بعد العهد الذي عاهدوا الله تعالى عليه، زادهم نفاقا؛ وذلك لأن الاستمرار على المخالفة يزيد النفاق نفاقا ويتراكم بعضه على بعض حتى يتكاثف، ويمتلئ القلب نفاقا، حتى لَا مزيد عليه، وكأنما الأعمال الفاسدة هي الخبث الذي يسقى به نبات النفاق فيزيده، وينميه، حتى يستغلظ سوقه.
3385
والأكثرون على أن الضمير الفاعل في قوله تعالى: (فَأعْقَبَهُمْ) يعود على الله؛ لأنه في النفس دائما، ولأنه صاحب العهد الذي عاهدوه على الوفاء به، ومعنى إعقابه سبحانه وتعالى النفاق لهم أنه سبحانه وتعالى وقد ساروا في طريق الغي والضلال أمدهم بما يزيدهم عتوا ونفاقا، وطغيانا، فامدهم في طغيانهم، وهم الذين ابتدءوه.
(إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) سبحانه وتعالى، وعندئذ يكون العذاب الذي أنكروه بعد الحساب بعد أن ترى كل نفس ما فعلت، وبعد أن يأخذوا كتابهم بشمالهم.
وقد بين سبحانه ما غذى نفاقهم، وزاده فقال تعالى: (بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهُ مَا وَعَدوهُ) أي أخلفوا الوعد الذي وعدوه لله تعالى، وجعل الإخلاف لله ابتداء لبيان جرمهم فيما فعلوا، إذ إنهم أخلفوا الله تعالى خالقهم وبارئهم ومالك أمرهم، وأى نكر أشد من ذلك، وقوله تعالى: (مَا وَعَدُوهُ) كأنه في مقام البيان لما أخلفوا به رب البرية، فأي أمر تنكره العقول أبلغ من ذلك! وأي نفاق أجرأ وأمكن من ذلك!، أي أنهم زادوا نفاقا إلى نفاقهم بسبب إخلافهم الله ما وعدوه، وبسبب كذبهم على الله سبحانه وتعالى، ولذا قال تعالى: (وَبِمَا كانوا يَكْذِبونَ).
أي وبسبب استمرارهم على الكذب، لأن (كان) تدل على الاستمرار، والتعبير بالمضارع (يَكْذِبُونَ) يدل على تجدد كذبهم آنًا بعد آنٍ، فحديثهم كذب مستمر متجدد، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى الفسوق، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا، وإذا وصل الإنسان إلى هذا الحد صار منافقا، وإن كان منافقا ازداد نفاقا على نفاقه.
وإنهم يعاهدون ويخلفون، ويكذبون حاسبين أن الله تعالى لَا يحصى ما يفعلون، ويدبرون ويعاهدون، والله عليم بهم، ويحسبون أنهم يخدعون الله، والله خادعهم، ولذا قال تعالى:
3386
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٧٨)
الاستفهام إنكاري بمعنى النفي مع التوبيخ، و (لَمْ) نافية، ونفي النفي إثبات، والمعنى يعلمون علما لَا مرية فيه أن الله تبارك وتعالى يعلم سرهم ونجواهم، والسر ما يكون في النفس ويجري في العقل، وتحدثهم به نفوسهم، والنجوى ما يتناجون به ويتشاورون، ولا يعلنونه جهارا بين الناس، أي أن الله يعلم ما في نفوسهم وما ينوونه، فهو عالم أنهم عند وعدهم بما وعدوه النبي - ﷺ - وعاهدوه عليه، ويعلم أنهم لن يوفوه العهد؛ لأن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون وما ينوون وما يعلنون، وهو محيط بكل شيء، وعليم بكل شيء.
وهذا النص الكريم يفيد أن الله يعلم عندما عاهدوا النبي - ﷺ - عهدهم (لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكونَنَّ) أنهم لن يوفوا بعهدهم الذي عاهدوه مخترين (١)، وأخلفوا مختارين، ولكن الله تعالى تركهم في غيهم يعمهون.
وأكد سبحانه بأن الله أحاط بكل شيء، بقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّام الْغُيوبِ) عطف هذا المصدر على ألم يعلموا، أي أنهم يعلمون أن الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم، وأن الله تعالى علام الغيوب، يعلم ما استكن في نفوسهم من إرادة النفاق والكذب، وأنهم لن يوفوا.
وعلام الغيوب صيغة تؤكد علم الله تعالى الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا في كتاب، وهو يعلم خافية الصدور ومكنون النفوس، يعلم الغيوب كلها ما مضى وما يجيء، وهو السميع العليم البصير القاهر فعال لما يريد.
وهؤلاء الذين عاهدوا، وغدروا، ولم يوفوا بما وعدوا من صدقة إن أغناهم الله من فضله - عيابون شأن كل منافق كله عيوب، ويعيب على غيره، فهم يعيبون على الذين يتطوعون بقليل من المال وقد بذلوا أقصى طاقتهم ويقول الله تعالى في بيان هذا الحال فيهم:
________
(١) من الخَتر، وهو الخيانة للعهد.
(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
(الَّذِينَ) وصف للمنافقين، (يَلْمِزُونَ) أي يعيبون وقتا بعد آخر، وتكرر غمزهم، لأنهم من (الْمُطَّوِّعِينَ) أي المتطوعين، وقلبت التاء طاء وأدغمت الطاء في الطاء، والمتطوع هو المتصدق تطوعا، وقد أدى الفريضة، وإن هذا الإدغام قوى المعنى في اللفظ، أي الذين يؤدون فيه أقصى التطوع، فذو المال يتطوع بأقصى ما يمكن من التطوع لَا يدخر، والقِلُّ من المال يتبرع بمقدار جهده وطاقته، وهم يعيبون من يتطوع بالكثير فيقولون يرائي، ومن يتطوع بالقليل مما يقدر عليه يقولون ساخرين: الله غني عنه، فهم عيابون لَا يتبرعون، ويعيبون من يتبرع، ذا مال أو لم يكن ذا مال.
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لما نزلت آية الصدقات كنا نحامل (أي نحمل الحمل على ظهورنا بالأجرة)، فجاء رجل، فتصدق بسخاء كثير فقالوا! يرائي، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا: إن الله غني عن صدقة هذا.
وروى الإمام أحمد رضي الله عنه عن أبي السليل عن أبيه أنه رأى رسول الله - ﷺ - بالبقيع وهو يقول: " من يتصدق بصدقة أشهد له بها، فجاء رجل لم أر أشد سوادا ولا أصغر منه - بناقة ساقها لم أر في البقيع ناقة أحسن منها، فقال يا رسول الله: أصدقة، قال عليه الصلاة والسلام: " نعم ": قال الرجل: دونك هذه الناقة، فلمزه رجل، وقال: هذا يتصدق بهذه، فوالله لهي خير منه، فسمعها رسول الله - ﷺ -، فقال: " كذبت هو خير منك ومنها " ثلاث مرات، ثم قال: " ويل لأصحاب المئين من الإبل " ثلاثا، قالوا: إلا مَنْ يا رسول الله؟، قال: " إلا من قال بالمال هكذا وهكذا " وجمع بين كفيه عن يمينه، وعن شماله، قال وقد أفلح: " المزهد المجهد "، وفسرها ابن كثير المزهد في العيش المجهد في العبادة.
3388
وتبرع عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أجننت أنت! قال: ليس بي جنون، هو مالي ثمانية آلاف درهم، أقرضت الله منها أربعة آلاف، وجعلت لعيالي أربعة آلاف، فدعا له النبي - ﷺ -، ولكن المنافقين قالوا: ما تصدق إلا رياء.
وجاء رجل بصاعين من بر تبرع بصاع وأبقى لنفسه صاعا، فسخروا منه وقالوا: الله غني عن صدقته، وهكذا كانوا يلمزون من يتصدق بالكثير، ومن يتصدق بالقليل، وذلك شأن المنافقين دائما يصغرون عمل غيرهم قليلا أو كثيرا ولا يعملون، قبحهم الله تعالى.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) الجهد: الطاقة أي الذين لا يجدون ما يتصدقون إلا بقدر طاقتهم المحدودة، والجهد بفتح الجيم، وضمها: الطاقة، وفيها القراءتان (١).
وظاهر القول أن (الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ) معطوفة على (الْمطَّوِّعِينَ)، ويكون المعنى أنهم يلمزون الذين ينفقون عن يسار، وهذا هو المعطوف عليه، والمعطوف بعد ذلك (الذين لَا يجدون إلا طاقتهم)، فيسخرون من الفريقين، يتهكمون على أهل اليسار برميهم أنهم يراءون، وهكذا يرمون بدائهم، فالمراءون هم المنافقون في كل الأحوال، وخطر لي أن أقول: إن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ)، فكأنهم يعيبون المتطوعين عن سعة، ويسخرون من الذين لا يجدون إلا مقدار طاقتهم وهي محدودة، و (الفاء) هنا لأن الموصول في معنى الشرط، والمعنى إن كان الذين لَا يجدون يسخرون منهم.
ويقول سبحانه وتعالى: (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ)، أي أنهم يعاملون معاملة من يسخر منهم، أو أن ذلك دعاء عليهم بأن يكونوا موضع السخرية والاستهزاء عندما يكشف أمرهم، وتعرف حالهم.
________
(١) (جهدهم) بفتح الجيم، ليست في العشر المتواتر).
3389
وإن ذلك لهم خزي في الدنيا، كالمنافق موضع سخرية حقيقية في الدنيا بتقلب قلوبهم وتناقضهم في أحوالهم دائما.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أي مؤلم أشد ما يكون الألم وحسبهم جهنم وبئس
المهاد.
* * *
لا استغفار لمنافق
قال تعالى:
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (٨٣)
* * *
كان الرسول الأمين حريصا على هداية الذين بعث إليهم، وكان يرجو أن يتوبوا ويغفر لهم، فكان - ﷺ - يستغفر لهم، لأن الاستجابة تقتضي التوبة، كما يقول عن كفار مكة: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لَا يعلمون " (١)، وكان يستغفر
________
(١) سبق تخريجه.
3390
كذلك للمشركين برجاء توبتهم، وأن يعيشوا في صفوف المؤمنين، ويكونوا منهم بالفعل، لَا بادعائهم، فبين الله تعالى له أنه ميئوس من إيمانهم؛ لأنهم ازدادوا كفرا وطبع على قلوبهم إذ باءت بالسوء، وكلما جاءتهم آية ازدادوا نفاقا وكفرا، ولذا قال تعالى:
3391
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) فالأمر في معنى بيان الياس، كما قال الله تعالى لنوح عليه السلام: (... لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ...)، ومحط الخبر في قوله: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) وعدد السبعين يراد به الكثرة، وكان العرب يستعملونه في الكثرة التي لَا يحصيها عد.
وهذا المعنى الذي اختاره ابن كثير، فقد قال (يخبر الله تعالى نبيه) بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلا للاستغفار، وأنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، وقد قيل إن السبعين مرة ذكرت حسما لمادة الاستغفار لهم؛ لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها، ولا تريد التحديد بها، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها) فهذه الآية فيها بيان أنه لَا يرجى إيمانهم، فيرجى الغفران لهم؛ لأن الله تعالى قد غضب عليهم، فقال تعالى: (اسْتغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وعلل سبحانه وتعالى ذلك بقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ولا رجاء في أن يؤمنوا كما يدل آخر الآية.
ولقد قال بعض المفسرين إن (أو) للتخيير، وإن الأمر للإباحة، فأباح الله تعالى للنبي أن يستغفر أو لَا يستغفر، ورد ذلك المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما - وأنه - ﷺ - قال: " لأزيدن على السبعين " (١) ولكن يقول القشيري: لم يثبت ما روي أنه قال لأزيدن على السبعين. وقد ذكر سبحانه وتعالى في ختام الآية الكريمة ما يدل على أنهم مردوا على النفاق، وأوغلوا في الكفر فقال تبارك وتعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
________
(١) رواه البخاري: الجنائز - ما يكره من الصلاة على المنافقين (١٣٣٦) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وتفسير القرآن (٠ ٤٦٧)، وسلم: صفات المنافقين وأحكامهم (٢٧٧٤) عن ابن عمر رضي الله عنه.
3391
الْفَاسِقِينَ) وهذا بيان لليأس من أن يهديهم، والقوم الفاسقون هم الجماعة التي تمردت على الحق وفسقوا عن أمر ربهم، وتحالفوا على الضلال، وكلما بزغ بينهم داعي هدى أسكتوه، وكلما ظهر لهم نور الحق أطفأوه، فهم تعاونوا على الإثم والعدوان.
ولا يهديهم الله سبحانه وتعالى، لأنهم مسلوبو الإدراك، وأصبحوا سادرين في طريق الغواية، وإن أولئك المنافقين كانوا يفرون من الجهاد، ويفرحون بتخلفهم عنه، ولقد قال تعالى في ذلك:
3392
(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (٨١)
(الْمُخَلَّفُونَ) هم الذين خطفوا عن الجهاد في غزوة تبوك وكانت في أشد الحر وفي وقت جني الثمار والاستنامة إلى الراحة في ظلال الأشجار.
وهم تخلفوا مختارين، ولم يتخلفوا مجبرين، ولكن عبر عنهم باسم المفعول للإشارة إلى أن الله تعالى لم يرد انبعاثهم كما قال تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦).
ولذا قال تعالى في النظم السامي (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ)، ولم يقل سبحانه (المتخلفون).
ولكن مع أنهم ثبطهم الله فخلفوا لم يكن ذلك بإرادة النبي - ﷺ - الظاهرة، بل إنه عليه السلام دعاهم كما دعا غيرهم، ولذا قال تعالى: (بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسولِ اللَّهِ) المقعد مصدر ميمي معناه القعود، أي بقعودهم مخالفين رسول الله - ﷺ - " فخلاف " مصدر بمعنى مخالفين، وقيل إن (خلاف) معناها خلف رسول الله - ﷺ - والمعنى على الحالين، أنهم فرحوا بقعودهم وراء رسول الله - ﷺ - مؤثرين أن
3392
يكونوا من النظارة الذين لَا يخوضون الحروب، وأن يكونوا كالنساء قاعدات في أخدارهن، وقال تعالى في الباعث الذي بعثهم على هذه الحال المزرية بالرجال فقال تعالت كلماته: (وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كرهوا أن يخرجوا مجاهدين بإنفاق أموالهم؛ لأنهم بخلاء في كل ما هو خير، وكرهوا أن يجاهدوا بأنفسهم؛ لأنهم جبناء أولا، ولأنهم لَا يؤمنون بالله، ولا يجاهدون في سبيله ثانيا، وقال سبحانه: (وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا) ولم يقل كرهوا أن يخرجوا، مع أن الكراهة ابتدأت بالتثاقل في الحزوج، بل قال: (وَكرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا) للإشارة إلى سبب عدم الخروج أولا، وللإشارة إلى حال المؤمنين المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، فهو تعريض بالمؤمنين فيه مقابلة بينهم، فالمؤمنون يتحملون المشاق، والمنافقون يتخاذلون.
وقد اتخذوا لعدم خروجهم تعلة أخرى، وهي الحر الشديد (وَقَالوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ) أي قالوا فيما بينهم مجمعين على هذه التعلة، فقالوا فيما بينهم، ووصلت إلى مسامع المؤمنين ليخذلوهم، راجين أن يبثوا الفزع بينهم، ويثبطوهم عن الجهاد، وقد أمر الله تعالى نبيه أن يرد هذا القول ببيان أنهم مخيرون: جهاد في الحر، أو لقاء جهنم، ولا مناص من أحدهما، فقال عز من قائل: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) أي أنهم إن كانوا عقلاء يدركون أن هذا الحر الشديد موقوت، ومربوط به العزة والكرامة، وإرضاء الله، وإن تركوه استقبلهم عذاب الأبد، وهو نار أشد حرارة، بل لَا يوازيها حر الدنيا، وإن الحر الموقوت بأجل الذي يترتب عليه خير عظيم، أولى بالترك والإهمال من الحر الدائم بنار جهنم، وذلك يكون لأهل الإدراك والموازنة بين تعب عاجل قليل، ونار دائمة، ولذا قال تعالى: (لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) الفقه الإدراك النافذ إلى لباب الأمور، فلو كانوا يفقهون الأمور لوازنوا بين ما يستقبلهم في تخلفهم، واتقاء حر الدنيا، وبين ما يلقونه بعد البعث، وإنه لآت لَا ريب فيه، وجواب (لو) محذوف للإشارة إلى أنهم يرون هولا عظيما.
3393
إنهم يختارون المتعة العاجلة القليلة، ويختارونها ويتركون المتعة الدائمة، ويقبلون العذاب الأليم، ولذا قال تعالى:
3394
(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
ويقول الزمخشري في قوله تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) استمهال لهم؛ لأن من تصوَّن عن مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل ولبعضهم:
مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أرْيُها شبه الصاب
فكيف بأن أتلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب
والمعنى أن مسرة أحقاب يعقبها مساءة يوم يكون عسلها مرا كالصاب، وهو شجر شديد المرارة، فكيف يرضى العاقل بأن يلقى مسرة ساعة، وراءها مساءة أحقاب، أي أزمان.
وإن الآيتين متصلتان، (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا) وكنى سبحانه وتعالى بالضحك عن السرور والفرح بالقعود عن الجهاد اتقاء للحرارة، فإن الضحك يلازم السرور عادة، وهو مظهر من مظاهره، كما أن البكاء كناية عن الألم الدائم؛ لأن البكاء ظاهرة من مظاهر الألم الشديد.
والفاء في قوله تعالى: (فَلْيَضْحَكُوا...) للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر؛ لأن المعنى العام، إذا كانوا قد فروا من الغزوة اتقاءً للحر في الوقت القصير، وأهملوا ما يستقبلهم من حر جهنم الأشد الذي يكون جزاء التخلف، فقد استبدلوا البكاء الطويل بضحك قليل.
والأمر للتهكم على أولئك الذين لَا يفقهون، وتهديد لهم، وجاء التهكم بصيغة الأمر لما في معنى الأمو من الحتم واللزوم، وأنه واقع لَا محالة، فهم بلا ريب سيكونون في سرور وقت قصير في الدنيا، ثم يكون من بعده ألم طويل في
3394
الآخرة، وإنه يدل على أن ذلك البكاء الطويل من نار جهنم حتم لازم، وقوله تعالى: (جَزَاءً بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أن الله تعالى يجازيهم ذلك الجزاء، ونصب جزاء على أنه مفعول لأجله.
أي أن ذلك البكاء الطويل يكون جزاءً مقابلا للضحك القليل، والرضا بالعذاب الطويل في مقابل الراحة القليلة، أو اللذة العاجلة في مقابل المنفعة الدائمة الخالدة، ويستحق ذلك الجزاء، وقال تعالى: (بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب وفي مقابل ما كسبوه من راحة مؤقتة، وترك للواجب، والكسب ما يصير عادة للنفس، وتستمر عليه في حياتها.
فهذا العذاب للمنافقين ليس لأجل هذا القعود فقط، وإن كان إثما كبيرا فهو عقاب على ما كسبوه في أنفسهم، وصار حالا مستمرة لهم كانوا يفعلون بموجبه دائما مع المؤمنين.
والتعبير بـ (كان) مع الفعل المضارع في قوله تعالى: (بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ) يدل على استمرار هذا الذي كانوا يكسبونه، وتجدده آنًا بعد آنٍٍ كلما كان أمر جامع، وكلما بدا نفاقهم المستمر.
كانت تبوك غزوة اختبر الله بها المؤمنين فبانَ من استخذى وندم، ومن نافق وأصر، وما كان استئذان المنافقين لسبب يوجب قعودهم، بل كان خدعا للنبي - ﷺ - ومن معه، فلكي يعرفوا أن أمرهم صار مكشوفا، ولكيلا يحاولوا خدعه - ﷺ - نهى الله تعالى نبيه عن أن يأذن لهم، فقال تعالى:
3395
(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (٨٣)
رجعك الله إلى المدينة سالما غانما، فالرجوع إلى الجميع مؤمنين ومنافقين، فلما خص سبحانه وتعالى الرجوع إلى طائفة منهم، والضمير في منهم يعود إلى
3395
المنافقين؛ لأنهم موضع حديث الله تعالى في كتابه سبحانه إذ الكلام في أحوالهم النفسية وتخذيلهم للمؤمنين وخدعهم لهم، ونقول خص سبحانه الرجوع إلى طائفة من المنافقين؛ لأن هذه الطائفة هي التي اعتادت التثبيط، وبث روح التردد والهزيمة، وهي تعاود الاستئذان كلما اشتدت الشديدة وجد الجد، لَا ليقعدوا فقط، بل ليكونوا أسوة لغيرهم، فيقتدى بهم من ضعفاء الإيمان والجبناء من يصيبهم هلع عند الحرب، وفزع عند اللقاء.
هذا هو الذي بدا لنا. من التعبير في قوله: (فَإِن رَّجَعَكَ اللَّه إِلَى طَائِفَة مِّنْهُمْ) إذ هي التي اعتادت التخذيل والتثبيط، وبث روح التردد والهزيمة، وقوله تعالى: (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) الفاء هنا للترتيب والتعقيب، أي أنه بمجرد أن ترجع إليهم يفاجئونك بالاستئذان كعادتهم، وقد يكررون في هذه الحال معاذيرهم الكاذبة، وهذا يدل على أن هذه الطائفة منهم هي ذات المعاذير المتكررة المثبطة.
ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يسجل عدم الثقة معهم، وأنه لَا يعدهم في جماعته المؤمنة المجاهدة فقال تعالى: (فَقل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدَا وَلَن تُقَاتلُوا مَعِيَ عَدُوًّا).
وأمر الله تعالى نبيه بأن يقول لهم: (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) بالنفي المؤكد بـ (لنْ)، لأن لن لتأكيد النفي، ولقد قال الزمخشري في تفسير قوله: (لَنْ تَخْرُجُوا) إن لن لتأكيد النفي، وسواء أكان القول ما قال الزمخشري أم لم يكن، فإن النفي هنا للتأكيد بقوله تعالى أبدا.
وكان قرار منع الخروج الأبدي؛ لأنهم خرجوا في أحد، فهمت طائفتان أن تفشلا بتخذيل المنافقين ثم تركوا هم الغزوة، ليسلك غيرهم مسلكهم، وأفسدوا ما بين المؤمنين في غزوة بني المصطلق، وقال قائلهم: (... لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ...)، وهكذا فهم إذا خرجوا مع المؤمنين كان منهم السعي بالشر بينهم، وقال تعالى: (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وإن هذا
3396
النفي المؤكد هو تقرير للواقع، فهم لَا يقاتلون أعداء النبي - ﷺ - بل هم يوالونهم، ولا يعدونهم أعداء.
وإن الله تعالى العليم الخبير أعلم نبيه - ﷺ - بأمرهم، ولكن أمر نبيه بأن يأخذ من ماضيهم دليلا على حاضرهم فكان أمر بقوله لهم: (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أكد سبحانه وتعالى رضاهم بالقعود أول مرة بـ (أن)، وخاطبهم بهذا القول، وقالوا: إنما أول مرة، هي عندما دعاهم للقتال وتثاقلوا، ونقول: ليست هذه أول مرة، بل كانت أول مرة هو رجوعهم في غزوة أحد، وتثبيطهم للمؤمنين حتى همت طائفتان أن تفشلا، كما تلونا.
وإنهم إن خرجوا لَا يخرجون للجهاد والقتال، بل يخرجون للغنيمة كما قال تعالى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥).
ويقول الله تعالى آمرًا نبيه بذلك القول: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) (الفاء) للسببية، والأمر هنا للتهكم عليهم والنذير بهم، و (المخالف) اسم فاعل من خلف، أي كان وراء المجاهدين متخلفا عنهم مع القاعدين من النساء والضعفاء الذين لا قدرة لهم على قتال، وقيل إن معنى المخالفين الفاسدين في ذات أنفسهم وضمائرهم، ولقد قال ذلك القرطبي في كتابه أحكام القرآن، فقد قال: (قيل المعنى فاقعدوا مع الفاسدين، من قولهم فلان خالف أهل بيته إذا كان فاسدًا فيهم من خلوف فم الصائم، ومن قولك خلف اللين إذا فسد) وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الحرب لَا يجوز، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
3397
اجتناب المنافقين
قال تعالى:
(وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧)
* * *
إن الآية الكريمة
3398
(وَلا تصَلِّ عَلَى أَحَد مِّنْهم مَّاتَ أَبَدًا وَلا تَقمْ عَلَى قَبْرِهِ) قاطعة في النهي عن الصلاة على المنافقين؛ لأن الصلاة على الميت دعاء له بالخير يناله يوم القيامة، ولأنها استغفار، والاستغفار للمنافق منهي عنه كما تلونا قوله تعالى:
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) وقوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ...)، (١) ولأنه يجب أن يتميز المؤمن عن الكافر، والصلاة عليه فارق بين المؤمن والمنافق.
والنهي ثابت ناه على وجه التأكيد، ولذلك قال: (أَبَدًا)، فلا مثنوية فيه ولا تجوز، (وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) داعيا بعد دفنه أو قبل دفنه، فمعنى قوله تعالى: (وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)، يتضمن الدفن، والدعاء له عند الدفن أو بعده؛ لأنه نهى عن الصلاة، وما في معناها من الدعاء.
هذا معنى الآية، ولكن روى في الصحاح وغيره أن النبي - ﷺ - صلى على عبد الله بن أبي رأس النفاق، والمفرق بين المؤمنين، والذي كان يوالي الكفار، من
3398
مشركين وأهل كتاب، وقد خاضت في ذلك خوضا كثيرا كتب السيرة النبوية والمفسرون بالرواية.
وإننا من مجموعها نستخلص أمرين - أولهما - أن النبي - ﷺ - صلى عليه، ويظهر أن ذلك كان قبل نزول هذه الآية.
وثانيهما - أن النبي - ﷺ - كفنه في قميصه (١)، وكان ذلك أيضا قبل نزول هذه الآية الناهية، وإن الصلاة عليه، لأن النبي - ﷺ - كان رفيقا بأصحابه، وقد كان ابن هذا المنافق صحابيا جليلا فكان - ﷺ - يكرم الحي، بالسكوت عن إيذاء الميت، ولقد قال النبي - ﷺ - عندما أسلم عكرمة بن أبي جهل لأصحابه: " لقد جاءكم عكرمة مسلما، فلا تسبوا أباه، فإن السب يؤذي الحي ولا يضر الميت ".
ويروى في ذلك أنه لما مرض عبد الله بن أبي بعث إلى الرسول - ﷺ - ليأتيه، فلما دخل عليه قال - ﷺ -: " أهلكك حب اليهود "، فقال: يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لي لَا لتؤنبني، وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ويصلي عليه، فلما مات دعاه ابنه إلى جنازته (٢).
وأما أنه - ﷺ - قد كفنه في قميصه فقد قال الرواة: إنه عند أسر العباس، كان قميصه قد فُقد، فلما رآه النبي - ﷺ - من غير قميص رق له، وقد ناصره بعد أبي طالب، فطلب صحابته أن يأتوا بقميص، فلما يوجد قميص على تفصيله إلا قميص عبد الله بن أبي؛ لأنه كان ضخما. والنبي - ﷺ -أحق من أوفى بالمعروف معروفا ولو كان من رأس النفاق (٣).
ولقد قال تعالى بعد ذلك: (إِنَّهمْ كَفَروا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) هذه الجملة في مقام
________
(١) الواقدى وابن سعد وابن عساكر عن عبد اللَّهِ بن الزّبير رَضِي اللَّهُ عَنْهُ. جامع الأحاديث والمراسيل - السيوطي: (٩ - ص ٢٧٦ (٢٨٢١٢).
(٢) جاء ذكر موت عبد الله بن أبي قبحه الله في البداية والنهاية لابن كثير (ج ٥، ص ٢٤٥).
(٣) روى البخاري لي الجهاد والسير - الكسوة للأسارى (٣٠٠٨) عن جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى، وَأُتِيَ بِالعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، «فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ قَمِيصًا، فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَقْدُرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ» قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ ".
3399
التعليل لما قبلها، ولذا كان بينهما فصل، فكمال الاتصال بالعلة (إِنَّهُمْ كفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وأكد سبحانه كفرهم بأن، وأنهم يحملون أوصافا تقتضي تحقق الكفر بالله وبرسوله، إذ يحاولون أن يخدعوا الله ورسوَله، وقد استمروا على ذلك حتى ماتوا ولذا قال تعالى: (وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) أي ماتوا على حال الفسق والتمرد على الحقائق، وأشد من التعبير بالفسق في حالهم بأنه أشد الكفر؛ لأنهم كافرون، ومخادعون، وغشاشون، فهم تمردوا على الله وتمردوا على كل خلق كريم، والله أعلم بهم.
وهم لَا يفاخرون إلا بما آتاهم الله من مال وولد، ولا يستطيعون المفاخرة بمكارم، وِلذا قال تعالى:
3400
(وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥).
تقدمت هذه الآية في هذه السورة عند الكلام على ما يتمناه المنافقون للمؤمنين، ومنع النبي - ﷺ - من أن يقبل منهم نفقاتهم، فقد قال تعالى في ذلك: (ومَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كفَرُوا باللَّه وَبِرَسُوله وَلا يَأتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهونَ).
ونرى الآيتين متلاقيتين فِى المعنى والألفاظ، إلا في حرفين: أولهما - أنه هنا عبر (بالواو) فقال تعالى: (ولا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُم) وفي الآية السابقة صر (بالفاء) ولها مناسبتها، والثاني - أنه في هذه الآية لم تذكر (لا) بعد (أَمْوَالُهُمْ)، وفى الآية السابقة ذكرت لَا وأيضا فالنص السابق " إنما يريد الله أن يعذبهم في الحياة الدنيا " وفي هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا).
وإن هذا الاختلاف في الألفاظ هو تصريف القول الذي هو من أسباب الإعجاز البياني، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ...)، فهل يعد هذا من التكرار؟ نقول إنه يكون من التكرار إذا كانت المناسبة التي ذكرت فيها الآيتان واحدة، أما إذا اختلفت المناسبة، فإنها تغير المقصود، وإذا تغير المقصود لَا يكون المعنى واحدًا من كل الوجوه.
3400
وقد كانت المناسبة في الآية السابقة أن الله منع رسوله من أن يقبل منهم نفقات في الحروب، ومعاونات فيها، مهما تكن أموالهم كثيرة، وأنهم أعز نفرا، فالله هو الغني الحميد.
وأما المناسبة هنا فهي النهي عن الصلاة عليهم بسبب كفرهم، وتأكيد ذلك النهي، وكان قبل ذلك النهي عن الاستغفار لهم، وحلفهم الدائم، وقد كان يظن أن يكون مالهم وأولادهم توجب العطف، فبين الله تعالى أن ذلك كله لَا يسوغ العطف عليهم، ولا رجاء الخير منهم.
ولقد قال الزمخشري في تكرار يعض الآيات: وقد أعيد قوله تعالى: (وَلا تُعْجِبْكَ)؛ لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزَّل الله تعالى وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال المخاطب لَا ينساه، ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية، ولا سيما إذا تراخي ما بين النزولين فأصبح الشيء الذي أهم صاحبه فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه.
وإن المنافقين قد استمروا على فرارهم من الجهاد، ولذا قال تعالى:
3401
(وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (٨٦)
كان المنافقون كلما نزلت آية جهاد، قبعوا قبوع القواقع في أصدافها، ورضوا بأن يكونوا من المتخلفين لَا يتقدمون إلى الجهاد، وإن كانت فيه العزة؛ لأن أسباب العزة من جهاد ومقاومة للباطل ثقل عليهم، ولذا قال تعالى فيهم: (وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ) السورة في عرف القرآن الكريم هي الجزء من القرآن الكريم المسورة المحدودة المبدوءة بـ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " إلا سورة براءة، فقد بينا أنها ليست مبدوءة بها، ويصح أن يراد به هنا بعضها، وهي آية من الآيات، ويكون قد عبر
3401
عنها بسورة لبيان كمالها، وأحكامها، وأن غايتها ثابتة قائمة، وهي الجهاد فالجهاد ماض إلى يوم القيامة (١).
وإن أريد بها سورة كاملة، فأوضح سور الجهاد سورة براءة؛ لأنها ابتدأت به، وتنظيمه مع العهود والمواثيق، وآياتها داعية إليه كاشفة تخاذل المنافقين عنه.
وقوله: (أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ) أن تفسيرية، وهي تبين أن ما بعد هو السورة، فتكون بمعنى جزء السورة، ويصح أن تكون مصدرية، والمصدر في مقام الجار والمجرور، أي نزلت السورة بـ (أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ)، ولم يذكر الإيمان بالرسول لأن الإيمان بالله حق الإيمان إيمان برسله؛ لأنهم جاءوا بمعجزات أيدهم الله بها، ولأن الإيمان بالرسول مذكور مطلوب في قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ).
فالمطلوب بالسورة أمران: أحدهما - الإيمان بالله حق الإيمان بأن يذعنوا لكل ما يكلفهم إياه، وأن يعلموا مؤمنين بأنه القادر القاهر، الناصر المعز المذل العليم الخبير، أي يؤمنون بأنه واحد في ذاته وصفاته التي هي الكمال المطلق، وأنه لا يعبد غيره.
والثاني - الجهاد مع رسول الهدى ودين الحق؛ لأن الجهاد معه سبيل العزة، ورفع الحق، وخفض الباطل، هذا هو الدين الحق، ولكن المنافقين يفرون من الجهاد، ولا يحتملونه في ذات أنفسهم، وينفرون منه ولو كانوا ذوي قدرة، ولذا قال تعالى نيهم: (اسْتَئْذَنَكَ أُولُوا الطوْلِ مِنْهُمْ).
الخطاب للنبي - ﷺ -مّ، و (اسْتَئْذَنَكَ) أي طلبوا إذنك في أن يتخلفوا وحالهم تنافى طلبهم، لأنهم (أُولو الطَّوْلِ) أي أصحاب الطَول والسَّعة والفضل في المال، والطاقة البدنية التي تتحمل الجهاد بالنفس والمال (مِنْهُمْ)، والضمير في منهم يعود على المنافقين، استأذنوك (وقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَعَ الْقَاعِدِينَ) أي اتركنا مع
________
(١) وهو مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ".
3402
القاعدين من النساء والأطفال والضعفاء، أي رضوا بالمنزل الدون والمكان الهون، وذلك لأنهم بخلاء جبناء، وبهم تفنى الأمم والجماعات.
وقد بين سبحانه وتعالى هوان هذه النفوس فقال تعالت كلماته:
3403
(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧)
وِإذا كان أولو الطول والسعة والقوة في أبدانهم قد قالوا (ذَرْنَا نَكن مَّعَ الْقَاعدين)، ولا تستنفرنا في جهادك الذي بعدت فيه الشقة، وعظمت فيه المشقة، فقدَ (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ)، والخوالف جمع خالفة، وهي المرأة المتخلفة عن الجهاد، ويطلق على ما لَا خير فيه، أي أنهم رضوا أن يكونوا كالنساء القاعدات في البيوت، والأشياء التي لَا خير فيها ولا منفعة، أي رضوا بحياة الدعة والاسترخاء ولو كان معها الذلة، وتركوا حياة الكد والتعب ولو كان فيها العزة.
وقال تعالى: (وَطبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي أنه بهذه الحال وأخواتها، مما فروا فيها من الجهاد فرار الجبناء، فسدت نفوسهم، وأغلقت قلوبهم عن حب الخير والعيش الكريم، وبني للمجهول للإشارة إلى الأسباب المتراكمة التي توالت على نفوسهم، وطبعتها على النفاق، فطبع مع النفاق الذلة والاستهزاء والكذب، وإخلاف الوعد، وإن مدوا أعناقهم للذلة.
إن النفاق يولد الجبن، والجبن يولد المذلة والكذب وكل قبائح النفس، ولذا قال تعالى: (فَهُمْ لَا يَفْقَهونَ) و (الفاء) تفيد ترتب ما بعدها على ما قبلها؛ لأن طبع القلب على النفاق يفسد الفكر، فلا ينظر إلى عواقب الأمور، ولا ما تنتهي إليه، وأعيد الضمير في قوله تعالى: (فَهُمْ) لتأكيد وصفهم، وثبوت حالهم، والفقه كما ذكرنا هو العلم بلباب الأمور وغايتها، فهم لم يعرفوا أن موقفهم لو سلك المؤمنون مسلكه لذلوا، ولذهبت ربحهم، ولم يدركوا أنهم بما يفعلون يقون أنفسهم من شقة الجهاد، ولكن يكونون مهينين في الدنيا، وتنالهم جهنم وبئس المصير.
3403
وبعد أن بين حالهم في فرار من الجهاد، وإبداء المعاذير الكاذبة، ورضاهم بأن يكونوا مع النساء والضعفاء وبأن يكونوا أشياء لَا خير فيها ولا فائدة - ذكر بعد ذلك الذين يريدون الحياة الحق، حياة الجهاد ومفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، وهم الرسول والذين اتبعوه، فقال:
3404
(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨)
الاستدراك هنا للانتقال ممن ارتضوا المنزل الهون إلى الذين لم يريدوا إلا العزة والكرامة والرفعة، ومن امتلأت قلوبهم بحب الله تعالى، فآثروه على كل الوجود، ورضوا بالمشقة وإن اشتدت؛ مرضاة له سبحانه وتعالى، فالاستدراك لبيان الرفعة التي وصل إليها المؤمنون في مقابل الذلة التي ارتضاها الآخرون، كقوله تعالى: (... فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكلْنَا بِهَا قَوْمَا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)، وكقوله تعالى: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأمُونَ) والمعنى فإن استرخى هؤلاء عن الجهاد، ورضوا بالقعود مع الضعفاء والنساء فالرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وقوله:
(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ...) التعبير بالرسول في هذا المقام للإشارة إلى أن مقام الرسول يوجب الجهاد؛ لأنه تبليغ للدعوة، وحماية لها، ودفع للذين يعاندونها، وذكر بجوار مقام الرسالة من معه، أي من آمنوا، وصاروا معه في جهاده الذي حمل عبئه بحمله عبء الرسالة، والرسول وما عطف عليه مبتدأ خبره ما جاء بعد ذلك، وهو قوله تعالى: (جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) أي قدموا النفس والنفيس، وقدم سبحانه وتعالى الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، مع أن النفس أغلى وأعز، والجود بها أقصى غاية الجود، قدم المال مع ذلك؛ لأن الإنفاق في سبيل الله هو عدة الجهاد ابتداء، وامتشاق السيوف هو نهايتها، ولأن ذلك يشير إلى أنهم باعوا أنفسهم لله تعالى واطرحوا الدنيا اطراحا، فالمال يطلب لغايات الدنيا، وقد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم فلا حياة لهم إلا مع الله.
3404
قوله تعالى: (وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ) الإشارات إلى الموصوفين بالأوصاف السابقة، أي أولئك الذين كانوا مع الرسول، ولزموه في جهاده، ولم يتخلفوا عنه، وأحبوا الله تعالى وبذلوا أموالهم وأنفسهم، ولم يريدوا شيئا إلا إرضاء الله، لهم الخيرات، الخيرات جمع خير، وعبر بالجمع للدلالة على كثرة ما يمنحهم الله من خير وتنوعه، فخير في الرزق، وخير في نيل المطالب، وخير في النصرة، وخير في العزة، وخير في منع تحكم الأعداء، وخير في رضا الله تعالى، وخير في صلاح الولد، وخير في الهداية... إلى آخره من الخيرات في الدنيا، والخير الأكبر في الآخرة.
ثم قال: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي المشار إليهم المتصفون بهذه الصفات هم الفائزون بنعيم الآخرة، ورضوان الله تعالى والقرب منه، وقد قصرا الله تعالى الفلاح عليهم بتعريف الطرفين، لأن تعريف الطرفين؛ يفيد القصر، وبضمير الفصل، أي أن الفلاح لهم، وليس لغيرهم.
وقد بين الله تعالى بعض ما فازوا به، وهو الجنة، فقال تعالى:
3405
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
هذا بعض الفلاح الذي ذكره الله، وهو أنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، أي أن الله تعالى أعطاهم نعيمًا فيه ثلاث خواص كلها يزكي بعضها بعضا. أولها: أنها جنات، وهي جمع جنة فيها الأشجار التي تظل من الحرور، وتتمتع النفس برؤيتها، وبهجتها، وفيها الثمار اليانعة، وفيها من كل فاكهة ما يشتهون، وفيها ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ففيها متعة النفس والجسم والروح.
الثاني أن الأنهار تجري من تحتها تدفع الحرور، وتسقى النفوس والأجسام، ويكون التمتع ببهجتها ومنظرها.
3405
الثالث: أنها خالدة، ففي كل نعيم غير باق يكون الألم. بفنائه وانتهائه، أما نعيم الجنة، فهو للبقاء.
ختم الله تعالى الآية بقوله: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الإشارة إلى هذا النعيم المقيم، وقصر الفوز عليه، أي فلا فوز غيره، فما يحسبه في الدنيا من أسباب الفوز إنما هو باطل لَا يجوز.
ودل على القصر تعريف الطرفين، وضمير الفصل، والله تعالى أعلم بما يجزي به عباده المتقين.
* * *
اعتذار الأعراب
قال تعالى:
(وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢)
* * *
كان الكلام في المنافقين الذين نبتت نابتتهم في المدينة عندما انتصر المؤمنون بدر الكبرى، وصارت لهم القوة والسلطان فيها، واستقر الأمر فيها
3406
للتوحيد، والإيمان بمحمد - ﷺ -، وحيث كانت القوة العادلة، اختفت العداوة الظاهرة، واستمرت عداوة النفوس مستكنة فيها فيكون النفاق الذي يكل القلوب، ويملؤها حقدا، ورغبة دانية في الكيد.
ولما صارت القوة للإسلام في الجزيرة العربية، وصارت الكلمة العليا لله ولرسوله، وجد سبب النفاق في داخل الجزيرة وحول المدينة كما قال سبحانه: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ..).
وعندما يكون النفير العام، أو الخاص يظهر من الأعراب اعتذارات بعضها صادق، وبعضها كاذب، ويقعد بعضهم عن الجهاد كفرا ونفاقا، ولذا قال تعالى:
3407
(وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُم).
في الآية قراءتان إحداهما بتشديد الذال مع كسرها، والثانية بتخفيفها مع كسرها أيضا (١)، فقراءة التعذير في الأولى، يكون معناها التقصير وعدم الاهتمام، من قولهم عَذَر في الأمر إذا قصَّر فيه وتوانى، وذلك مقصور في الأعراب الذين هم أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله تعالى، ولا فرق عندهم بين دعوة إلى الجهاد في سبيله، ودعوة إلى عادات كانت تجري بينهم للمنازعة على الكلأ، أو مواطن الماء، أو للعصبية الجاهلية.
ويصح أن يكون المعذِّرون هم المعتذرون، ويكون في الكلام إعلالا صرفيا، فأصل " المعذرون " المعتذرون من اعتذر، فقلبت التاء ذالا، وأدغمت الذال، ونقلت حركة التاء إلى العين، ويكون المعنى جاء المعتذرون الذين شددوا في اعتذارهم؛ لأن الادعاء ينبئ عن شدة الاعتذار، وإن معنى ذلك أنهم يعتذرون بأعذار مقبولة، ويدل على ذلك المقابلة، وقوله تعالى بعد ذلك: (وَقَعَدَ الَّذِينَ كذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
________
(١) قراءة (المعْذِرون) ساكنة العين خفيفة الذال، قراءة يعقوب، والنهاوندي عن قتيبة عن الكسائي، وقرأ الباقون، بفتح العين وتشديد الذال. غاية الاختصار (٩٦٣).
3407
فإن المقابلة تقتضي التغاير بين القاعدين الذين لم يصدقوا الله ورسوله وكذِّبوا، وبين المعذرين، ولكن المقابلة لَا تكون إلا إذا كان اعتذار الأولين حقا وصدقا.
وقراءة " المُعْذِرون " بالتخفيف من الإعذار، وهو إبداء العذر الذي يكون مظنة القبول.
وإننا نجد أن الآية من قراءاتها المختلفة تفيد إبداء العذر، وإن المقابلة بين القاعدين الذين كذبوا الله ورسوله، والمعتذرين تفيد أن العذر مقبول اقتضى الأمر لهم.
وقد جاء بذلك التفسير المأثور، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المعذرين: هم الذين تخلفوا لعذر فأذن لهم النبي - ﷺ -، وروي عنه غير ذلك، والله أعلم، وقيل إنها نزلت في عامر بن الطفيل ورهطه، فإن رهطه قالوا عندما دعاهم - ﷺ - إلى الغزو قالوا: لو غزونا معك أغارت أعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فعذرهم النبي - ﷺ - (١).
وقوله تعالى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) يفيد أولا أن الذين جاءوا هم المعذرون ولم يذكر الذين جاءوا مجاهدين؛ لأن منهم من جاء مجاهدا، وخصوصا أولئك الذين كانوا مع الرومان في مؤتة، وتخلفوا عنهم في تبوك وخذلوهم، ولكن ذكر المعتذرين فقط؛ لأن الكلام في المستأذنين في التخلف بأعذار غير صادقة وهم المنافقون، فناسب ذلك ذكر المعتذرين من الأعراب.
وتفيد ثانيا أنهم جاءوا للاعتذار وليؤذن لهم، ولو كانوا يعتذرون كذبا ما جاءوا بل قعدوا كما قعد غيرهم، وقال تعالى:
(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي قعد وتوانى الذين كذبوا الله ورسوله، وكذبوا بالتخفيف تتضمن معنى التكذيب لله ولرسوله، ولآياته البينات، ومعنى
________
(١) ذكره القرطبي: الجامع لأحكام القرآن - ج ٨، ص ٢٢٤. عن ابن عباس رضي الله عنهما.
3408
الكذب على الله ورسوله والناس بإظهارهم الإسلام، وإبطانهم الكفر، وإظهار أعذار غير صادقة.
وبين الله تعالى عاقبتهم فقال تعالى: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهنا إظهار في موضع الإضمار؛ لأن المؤدى أنه سيصيب هؤلاء القاعدين الذين كذبوا الله ورسوله عذاب أليم، وكان الإظهار لأمرين: أولهما - بيان أن منهم كافرين، وبسبب الكفر سينالهم عذاب أليم، وثانيهما - أن منهم من لا يصرون على الكفر فيتوبون، فهذا العقاب للذين يصرون ولا يتوبون.
و (السين) في قوله تعالى: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كفَرُوا مِنْهُمْ) لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل.
وقد ذكر الله تعالى بعد ذلك أصحاب الأعذار المقبولة فقال:
3409
(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ... (٩١)
في هذه الآية وما بعدها بيان الأعذار التي تبيح التخلف عن الخروج، ولم يذكرها القرآن الكريم بعنوان أنها أعذار، ولكن النص يفيد أنه لَا إثم إذا تخلفوا، وذلك للإشارة إلى أن الجهاد غير واجب على هؤلاء، والاعتذار إنما يكون عند الوجوب والتخلف، وإذا لم يكن وجوب فالتخلف حينئذ له رخصة، وهؤلاء عاجزون عن القيام بهذا، والله لَا يكلف العاجزين؛ لأنه تعالى يقول: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلَّا وُسْعَهَا...)، فالجهاد غير واجب عليهم، وذكر النبي - ﷺ - أن لهم فضل المجاهدين إذا نصحوا لله ورسوله، والنصح إخلاص القلب واللسان والعمل لله تعالى فالقلب لَا يحدث إلا بالله، واللسان لَا ينطق إلا مخلصًا، والعمل لَا يكون إلا لله تعالى، ويقال نصح له القول إذا أخلص له في قوله، ونصح له في العمل إذا أخلص له، ولقد روى مسلم في صحيحه عن تميم
3409
الداري أن رسول الله - ﷺ - قال: " الدين النصيحة. ثلاثا، قلنا: لمن؟ قال: لِلَّهِ ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (١).
وجاء في تفسير القرطبي: قال العلماء: النصيحة لِلَّهِ إخلاص الاعتقاد في الوحدانية ووصفه بصفات الألوهية وتنزيهه عن النقائص، والرغبة في محابه، والبعد عن مساخطه، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبة آل بيته (أي الذين اتبعوا هديه) وتعظيمه، وتعظيم سنته، واحياؤها بعد موته بالبحث عنها والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها والتخلق بأخلاقه الكريمة - ﷺ -.
والنصح لكتاب الله قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه، وإكرامه والتخلق به. والنصح لأئمة المسلمين بترك الخروج عليهم، وإرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغلوه من أجور المسلمين، ولزوم طاعتهم في الحق والفيام بواجب حقهم.
والنصح للعامة ترك معاداتهم، وإرشادهم، وحب الصالحين والدعاء لجميعهم، وإرادة الخير لكافتهم.
والمراد أنه لَا إثم في التخلف على من سقط عنه واجب الجهاد إذا نصحوا لله ورسوله، إن استقامت قلوبهم وألسنتهم، وقاموا بحق الإرشاد والتنبيه، وإن كان لهم رأى في الجهاد وجهوه، وكأنَّهم إذا سقط واجب الجهاد بالسيف، والاعتراك في المعركة، فإنهم يحملون واجبا آخر هو الإرشاد والتوجيه، والمعاونة بكل ما يستطيعون، وإنهم إذا كانوا كذلك فإن لهم فضل الجهاد.
________
(١) رواه مسلم: الأيمان - الدين النصيحة (٥٥)، عن تميم الدارى، وليس فيه ذكر الثلاث عند مسلم، وإنما ورد التكرار في رواية تميم الداري عند أبي داود: الأدب - في النصيحة (٤٩٦٦)، وباللفظ المذكور أعلاه عند أحمد: مسند الشاميين - حديث تميم الداري (١٦٤٩٤) كما ورد ذكر الثلاث في روايات أبي هريرة عند الترمذي: البر والصلة - ما جاء في النصيحة (١٩٢٦)، والنسائي: البيعة - النصيحة للإمام (٤١٩٩)، وغيرهم.
3410
وروى أبو داود أن رسول الله - ﷺ - قال: " لقد تركتم أقواما ما سرتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد، إلا وهم معكم فيه "، قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة!! فقال: " حبسهم العذر " (١).
وهؤلاء الذين سقط عنهم واجب الجهاد بالسيف، والاشتراك في المعركة، ذكرهم الله تعالى فقال: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) أي إثم أو أن يكلفوا أنفسهم العنت والضيق. والضعفاء هم الشيوخ الذي أثقلتهم السن، والنساء والصبيان، وغيرهم من الذين لَا تتحمل أجسامهم لضعف بنيتهم، وخور مُنَّتِهم (٢)، والأعمى والأعرج، كما قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (١٧).
والضعفاء الذين عذرهم، وفيهم الأعمى والأعرج وعذرهم ثابت دائم، وهناك أمر ليس بدائم، وهو عارض، ولكنه يسقط الوجوب في مدة وجوده، وهو المرض الشديد الذي يقعد عن القيام بالواجب أو يزيده الجهاد مرضا.
وهناك عجز ليس في ذات الجسم دائما، أو عارض قابل للزوال، وهو ألا يجد ما ينفق منه على نفسه في رحلته، وقال تعالى فيه: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ).
وكل لَا يجب عليهم الجهاد، ولكن يجب عليهم أن ينصحوا لله ورسوله، وقد بينا ما قال العلماء في ذلك، وإنهم بإخلاصهم ونصيحتهم، والقيام بالواجب الذي يقدرون قد أحسنوا في جنب الله، ولذا قال تعالى: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ).
________
(١) هذه رواية أبي داود: الجهاد - الرخصة في القعود من العذر (٢٥٠٨).
(٢) المُنَّة: القوة. والمقصود ضعف قوتهم.
3411
وهذا النص السامي من جوامع الكلم.. وهو يفيد أن هؤلاء الذين قعدوا بأعذار حقيقية إذا نصحوا لله ورسوله محسنون، أي قاموا بالواجب وزيادة، ومن أحسن لَا عقاب عليه، ومعنى قوله تعالى: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيل) أي طريق لتأثيم، أو لوم أو عتاب، أو تعييب لموقفهم؛ إذ إن موقفهم أنهم قاموا بالواجب على قدر طاقتهم.
وهناك صنف غير من ذكرنا ليسوا ضعفاء، ولا مرضى، ويجدون ما ينفقون، ولكن لَا يجدون ما يحملهم في هذه الشقة البعيدة، وهم يسقط الوجوب عليهم، وقد قال تعالى فيهم:
3412
(وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢)
(الواو) هنا عاطفة عطفت ما بعدها على قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى...) وتكرار لَا لتأكيد نفي القدرة، وتحقق العذر وثبوته.
فهؤلاء الأصناف أربعة: الضعفاء، والمرضى، والذين لَا يجدون ما ينفقونه من زاد، والصنف الرابع الذين لَا يجدون ما يحملون عليه، وكان الرجل كما قال ابن عباس يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه، وبعير يحمل الزاد والماء في هذه الرحلة الشاقة.
وقد قال في هؤلاء مبينا حالهم: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) وهذا يدل على أنهم لَا يجدون ما يحملهم، ويدل على أنهم شكوا حالهم لرسول الله - ﷺ -، وأن الرسول لم يجد ما يحملهم، وذلك صريح، وهذا الكلام فيه من إيجاز الحذف ما لَا يمكن أن يكون إلا في أبلغ كلام وهو كلام رب العالمين، وما في قوله تعالى: (إِذَا مَا أَتَوْكَ) لتأكيد فعل الشرط، وهو مجيئهم للنبي - ﷺ - وعرض حالهم، ومحاولة النبي - ﷺ - علاج
3412
أمرهم، والبحث عما يحملهم عليه، وجواب الشرط هو قوله تعالى: (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) (تولوا) معناها انصرفوا، وحالهم مؤلمة باكية، وعبر عنه بقوله: (وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْع حَزَنًا)، وقوله تعالى: (قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ) جملة معترضة بين فعل الشرط وجوابه، أو حال الكاف في (أَتَوْكَ)، وهذا ما اختاره الزمخشري.
وقوله تعالى: (تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْع حَزَنًا).
(الواو) واو الحال، و (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْع حَزَنًا) فيه مجاز في إسناد الفيض إلى العين؛ لأن معناه أن العين ذاتها تفيض كأنها صارت دمعا، لامتلائها، واغروراقها، و (مِنَ) بيانية، أي أن تفيض العين من الدمع، والجار والمجرور في مقام التمييز، كما تقول فاضت العين دمعا، وقوله: (حزنًا) حال، أي فاضت العين دمعا لأجل الحزن الذي استولى بسبب الحرمان من الجهاد، وهو متعة نفوسهم، وغاية ما يبتغون عند ربهم.
(أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ) وألا يجدوا، المصدر المؤول، ويكون المعنى هم في حال حزن شديد، (أَلَّا يَجِدُوا) أي لأنهم لَا يجدون ما ينفقون، ولا يجدون ما يحملهم، ففيه تقدير حرف محذوف.
وهذا يتضمن أنهم لَا يجدون مركبا يركبونه، ولا نفقة ينفقونها.
وإنه يجب أن ننبه أن بعض الضعفاء الذين رفع عنهم الحرج بسبب ضعفهم، لم يرضوا بأن يكونوا قاعدين، وإخوانهم يجاهدون، بل ذهبوا وجاهدوا، وتقدم أحدهم وهو أعرج، قال لابد أن أكون بعرجي في الجنة، ولم يتراخ ولم يرض بالقعود، وذهب بعضهم وهو يهادَى بين رجلين، حتى وصل إلى الصف ليموت مجاهدا، رضي الله عنهم.
* * *
3413
المؤاخدون في التخلف
قال تعالى:
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩٦)
* * *
كان آخر الآيات السابقة التي بينت ذوي الأعذار أنهم لَا يجدون ما ينفقون على أنفسهم، وأنهم لَا يجدون ما يحملهم من إبل أو خيل، ولا يجدون من يمكنهم من الركوب بإعارة أو تبرع أو نحو ذلك.
فكان المناسب أن يذكر المقابل لهم الأغنياء الذين يجدون النفقة، ويجدون ما يحملهم، ومع ذلك يعتذرون عن الخروج بمعاذير كاذبة، ولذا قال تعالى:
3414
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ) (إنما) أداة قصر، أي لا سبيل للعتاب أو اللوم أو العقاب إلا على الذين يبادرون بالاستئذان، وهم أغنياء
3414
يستطيعون الإنفاق ويجدون ما يركبون ويقطعون به الفيافي والقفار، وكلمة (السبيل) في البيان القرآني تطلق على الطريق للمؤاخذة، ثم العقاب من بعدها كما تقدم في قوله تعالى: (مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سبِيل) وأن مؤدى هذا التعبير بيان أن ما يرتكبون سينتهي بهم لَا محالة إلى عقاب شديد.
والقصر هنا إضافي؛ لأنه في مقابل أنه لَا سبيل على الضعفاء، الذين سبق بيانهم، فالسبيل خاص بالذين يستأذنون وهم أغنياء.
وقوله تعالى: (رَضُوا بِأن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) هذه جملة مستأنفة لبيان سبب تخلفهم، وهو رضاهم بالمهانة والمذلة والاحتقار، إذ رضوا بأن يكونوا من الخوالف، وهن القواعد من النساء اللاتي لَا يقاتلن، اللائي يعبر عنهن بربات الخدور، والخوالف أيضا الأشياء الفاسدة التي ترسب في الإناء بعد تفريغه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى السبب في هذا الرضا الذي لَا يرضى به عربي سليم في إدراكه لمعنى المروءة والكرامة، فقال تعالى: (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي أنه بتوالي نفاقهم، وسيطرة الأحقاد على قلوبهم، ونسيانهم ما توجبه المروءة والأخلاق والكرامة والعزة، قد طبع الله تعالى على قلوبهم، وختمها على ما فيها من مفاسد نفسية وفكرية، فهم لَا يعلمون الخير من الشر وما تكون عاقبته وبالاً وما لَا تكون، لَا يعرفون أنه إذا نزلت نازلة الهزيمة أمام الرومان تكون على العرب وفيهم المنافقون، لَا فاصل بين البريء والسقيم.
وإن دأب هؤلاء الذين يعتذرون عن مواقف الشدة بغير عذر أو بعذر كاذب أن يحسبوا أن كل كلام يقبل، سواء أكان مقبولا أم كان غير مقبول، فكانوا يفعلون ما يفعلون، ويحسبون أن النبي - ﷺ - يقبل معاذيرهم الكاذبة، وإن فساد قلوبهم وعقولهم يجعلهم يتصورون أن طيِّب القلب يقبل كل ما يُدلون به، ولذلك أكثروا من الاعتذار عما يفعلون، كما يكثرون من الاعتذار عن النفور إلى الجهاد،
3415
ولذا قال تعالى عنهم:
3416
(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤)
ما كانوا يتوقعون أن يعود النبي - ﷺ - موفورا منصورا، بل كانوا يتوقعون أن ينال منه الرومان هو ومن معه من المؤمنين، حتى لقد كانوا يقولون في مجالسهم، إن الرومان سيكبلون العرب، والمنافق مسرف في القول دائما، ولكنهم رأوهم قد جاءوا منتصرين، وتخاذل الرومان عن لقائهم، وقد راعهم ذلك، فبدءوا يعتذرون كاذبين، كما اعتذروا في التخلف كاذبين، ولذا قال تعالى: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) سالمين أقوياء مسيطرين على أنفسكم أحرازا غير مكبلين، والاعتذارات كاذبة كقولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فيأمر الله تعالى نبيه بقوله تعالت كلماته: (قُل لَا تَعْتَذِرُوا) فكان النهي عن الاعتذار؛ لأنه كذب، والتمادي في الاعتذار الكاذب تماد في الكذب، والتمادي في الكذب فجور وهو غير مقبول، ولذا بين السبب فقال: (لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ)، أي لن نسلم لكم بما تقولون من أكاذيب، ونحن نكذبها لأن النبأ اليقين قد جاءنا عن الله، ولذا قال تعالى في سبب التكذيب وعدم التسليم لهم (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) النبأ: الخبر الخطير، و (مِنْ) هنا للتبعيض، أي قد نبأنا الله تعالى ببعض أخباركم وهو ما يتصل بنياتكم وبقلوبكم، وبالأفعال التي تقصدون بها إفساد عزائم المؤمنين، وتخذيلهم عن المجاهدين، وحقيقة ما تقصدون باعتذاراتكم وأنها كاذبة.
ثم قال تعالى؛ (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) (السين) لتأكيد وقوع أل في المستقبل، أي أنه ليس لكم أن تتكلموا في الماضي، فالله تعالى قد علمه من قبل، ونبأنا به، وإنما الأمر الحاضر، (وَسَيَرى) أي سيشاهد، أو سيعلم علم المشاهدة أو الواقع الله ورسوله.
3416
وهذا الكلام السامي يفيد أمورا ثلاثة: أولها - أنه لَا يصح أن تشغلوا أنفسكم بما استدبرتم من أمور، بل اشغلوها بما تستقبلون من أموركم، وثانيها - التهديد بأن الله تعالى ورسوله يعلمان أموركم في المستقبل علما مؤكدا لَا مناص من أن تتخلصوا من تبعاته، وإن الله تعالى سيحبط أعمالكم، وثالثها - رجاء أن يدخل الخير قلوبكم، فتتوبوا عما أنتم عليه، ويصلح بالكم، فلا تعتذروا عن التخلف كاذبين.
وينذرهم الله سبحانه وتعالى الإنذار الشديد فيقول سبحانه: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (ثم) للترتيب والتراخي، والتراخي هنا في موضعه، لأن فيه الانتقال من الدار الفانية إلى الدار الباقية، فيه الانتقال من دار العمل إلى دار الجزاء، وقوله تعالى: (تُرَدُّونَ) تفيد أمرين: أحدهما - أنهم يذهبون إلى هذه الدار غير مختارين، بل يردون إليها مدفوعين، ثانيهما - في التعبير بلفظ ما يفيد معنى الرجوع إليها بعد هذه الحياة، وكأنهم في الدنيا في سفر يعود بعدها المسافر إلى حيث إقامته وموطنه، فالإنسان ما خلق عبثا، إنما خلق لأجل البقاء في الآخرة، فهي وطنه الأصلي إما نعيما مقيما، وإما عذابا أليما.
والمرد في الآخرة إلى الله تعالى حيث يلقاه العباد ويلقاهم بأعمالهم التي لا تخفى عليه منها خافية، فلا نفاق ولا كذب ولا مراءاة، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) الغيب هو المغيب أو المستور، وعالم الشهادة هو العالم الظاهر، فهو يعلم السر والجهر ويعلم الحاضر والغائب، يعلم ما كان وما يكون. (فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كنتُمْ تَعْمَلُونَ) و (الفاء) للترتيب والتعقيب، إذ إن الإنباء يكون عقب الرجوع إلى الله تعالى، وذلك دليل على تأكد وقوع ما وعد به وتحققه وأنه لَا مفر من قيام القيامة، ونزول ما وعد الله تعالى به.
والإنباء في هذا الحال، ليس بالأقوال، ولكن بالرؤية والأفعال فهو مجاز، يرون أعمالهم، تنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يفعلون، وتشهد عليهم ألسنتهم
3417
وجوارحهم وأفعالهم، فالإنباء فيه وعد ووعيد، فيه أن يعلم الناس ما فعلوا ويروا جزاء ما فعلوا حاضرا مهيأ يستقبلهم ويستقبلونه.
ابتدأ المنافقون بالاعتذار ليصدق النبي - ﷺ - ومن معه من المؤمنين معاذيرهم؛ لأنهم رأوهم جاءوا سالمين، وسولت لهم نفوسهم أنهم سيجيئون مقهورين مكبلين في الأصفاد وزين ذلك في قلوبهم، فلما جاءوا بالظفر والقوة ابتدءوا فاعتذروا فلم يقبل لهم عذر، فنزلوا عن بعض ما رغبوا إلى أن يعوضوا عنهم، وينسوا ذلك الأمر الذي وقع ليستقبلوا معاملة جديدة كما يجري في وهمهم، وكما يريدون أن يوهموا به المؤمنين، وحكى الله تعالى عنهم بقوله تعالت كلماته:
3418
(سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥)
(السين) لتحقق الفعل في المستقبل، و (انقَلَبْتمْ) معناها رجعتم، وعبر عن الرجوع بالانقلاب؛ لأن المجاهد سائر في طريقه إلى الأمام فإذا أراد العودة انقلب من السير إلى الأمام إلى العودة إلى الوراء، والتعبير بالانقلاب يفيد العودة مختارًا غير مقهور ولا مهزوم ولا متراجع.
وحلفهم ليس للاعتذار، بل هو لطلب السكوت عنهم، ولذا قال تعالى: (لِتعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي تسكتوا عنهم فلا تلوموهم ولا تعيروهم ولا تذكروهم بما رضوا به من قبل من القعود مع الخوالف، وقولهم ذرنا نكن مع القاعدين. طلبوا أن يسكتوا عنهم فأمر الله تعالى المؤمنين بأن يستجيبوا لهم لَا إرضاء لنفوسهم، ولكن لأنه لَا جدوى في لومهم، ولأن الله تعالى يريد أن يسكتوا عنهم حتى لا يكثر قول النفاق منهم، ولذا قال: (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ...) فأعرضوا عنهم، فلا تلوموهم، ولا توبخوهم لأنهم رجس، أي أنجاس قذرهم لَا يطهره لوم ولا عتاب، كالشيء الذي يكون نجس العين مثل الخنزير، لَا يطهره الماء، بل الماء ينجس به، وكثرة القول معهم في أنجاسهم يشيع قول السوء في الذين آمنوا.
3418
وأنهم وراءهم العذاب الأليم، فقال تعالى: (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أي مستقرهم الذي يستقرون فيه ويأوون إليه جهنم جزاء بما كسبوه في الدنيا من آثام في أقوالهم وبثهم الشر والفساد بين المؤمنين وسعيهم وتثبيطهم لهمم المؤمنين.
وقلنا: إن التعبير فيه نوع من التهكم عليهم؛ لأن المأوى مكان الاطمئنان والراحة، وإن المنافقين يرتعدون من الإعراض عنهم ويسعون إلى طلب رضى النبي والمؤمنين، فيحلفون لهم بما يقرب قلوبهم، ولذا قال تعالى:
3419
(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩٦)
لقد أعرضوا عنهم ولكنه إعراض من لَا ينسى ما كان منهم ولكن لَا يذكره، أعرضوا عنهم بوجوه مكفهرة، وما في قلب المؤمن يظهر في لمحات عينه وعلى وجهه فهو في اشمئزاز منهم، وإن كان لَا يتكلم بسوء، وهذه الحال لوم شديد، وهم يريدون إرضاءهم، فأخذوا عدتهم من القول، وهو الحلف ليدنوا منهم ويتقربوا من نفوسهم، وتتلاقى مشاعرهم وإحساساتهم، فيتمكنوا منهم، ويعرفوا دخائل نفوسهم، وقد نهى الله تعالى عن ذلك، ولذا قال: (فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).
والمؤمن يطلب رضا الله دائما، ويتبع ما يرضي الله، ولا يفعل قط ما لا يرضي الله، فإذا كان الله لَا يرضى عنهم، فالمؤمن اتباعا لحكم الله تعالى لَا يرضى عنهم.
وإن رضا المؤمنين من غير رضا الله تعالى لَا يجديهم؛ لأنه هو الذي يعاقب وهو الذي ينعم، ويشقى، فإن أرادوا الرضا، فليطلبوا رضا الله تعالى لَا رضا المؤمنين وحدهم، ورضا الله في أن يخلعوا أنفسهم من النفاق، ويخرجوا من إهابه، فبئس الإهاب يلبسونه.
3419
وقد بين الله سبحانه وتعالى السبب في أنه لَا يرضى عن المنافقين ما داموا مستمرين على حالهم، وذلك في قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فإن الإظهار والمقام مقام الضمير، كأن يقول تعالت كلماته " فإنه لَا يرضى عنهم " وفى ذلك تعليل سبب عدم الرضا، وهو فسقهم وتمردهم على أوامر الله ونواهيه وتضافرهم على ذلك، حتى صاروا بذلك التفاهم على النفاق بينهم قومًا قائمين عليه راضين به، اللهم اكف أمتك شر النفاق والمنافقين.
* * *
الأعراب
قال تعالى:
(الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
* * *
3420
لقد تم نزول القرآن الكريم قبل وفاة الرسول - ﷺ -، والكلام على هذه الآية يدل على أن القرآن من عند الله تعالى علام الغيوب؛ لأنه يدل على أمرين وقعا بعد وفاة الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه:
الأمر الأول: أن الأعراب أشد كفرًا ونفاقا، ولذا ارتدوا أو أكثرهم بعد وفاة النبي - ﷺ - حتى أحاطوا بالمدينة، ولولا وقفة الصديق خليفة رسول الله، والصحابة الأولين من المهاجرين والأنصار لاقتلعوا الإسلام.
3420
الأمر الثاني: أنه عندما قويت دولة الإيمان عليهم، وهزموا هزيمة منكرة، رضوا بالصلاة دون الزكاة لأنهم اتخذوها مغرما، ولم يتخذوها قربات عند الله وتعاونا بين المؤمنين، وهو تعاون على البر والتقوى، ولذا لم يقبل خليفة رسول الله إلا الإسلام الكامل، والطاعة، وقالها مؤمنًا: إما حرب مجلية، وإما سلم مخزية.
ولقد تربص أولئك الأعراب الدوائر بالمؤمنين فانتهزوا فرصة وفاة النبي - ﷺ - وارتدوا فدارت عليهم دائرة السوء.
وإن ذلك كله دلائل على أن القرآن من عند الله تعالى العزيز الحكيم.
الأعراب هم سكان البوادي في خلقهم جفوة، وفي طبائعهم خشونة، وفيهم نفرة لَا يأنسون بالناس ولا يانس بهم الناس، وإن كان فيهم يقظة وسرعة حركة ونجدة، وهم لذلك أقل الناس علما وفكرا، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: " من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السطان افتتن ".
ولقد قال ابن كثير في تفسيره: ولما كانت الغلظة في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا، وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى...)، والقرى: المدن العظيمة، وخير القرى ما يكون قريبا من البادية أو في وسطها كمكة والمدينة... فهي تجمع بين قوة نفس البدوي وأنس الحضري، وكذلك كان يبعث النبيون فموسى بعث بمدين، وعيسى بعث على مقربة من البادية، ومحمد بعث بمكة عليهم الصلاة والسلام، وقد وصف الله تعالى الأعراب بثلاثة أوصاف: أولها: أنهم أشد كفرا، وثانيها: أنهم أشد نفاقا، وأفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأنه لم يذكر الفضل عليه، وحيث لم يذكر الفضل عليه يكون المعنى أنه كفر بلغ أقصاه
3421
وأشد أحواله فهو كفر يلتقى فيه الجحود، وعدم التفاهم، والجهل الشديد، والغلظة الجافية.
ونفاقهم ليس كنفاق أهل المدينة، ولكن نفاقهم يكون بعدم الإيمان المطلق مع التسليم الظاهر، وعدم الإلف، وهم كما قال الله تعالى؛ (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ...).
والوصف الثالث هو قوله تعالى: (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) إنهم بإقامتهم في البادية كانوا جديرين وخلقاء ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله بألا يعرفوا أحكام الشريعة والفرائض، وتوابعها وأحكام الجرائم، وعقوباتها، والمحرمات من النساء والأنكحة والمواريث، وغير ذلك من أحكام الشريعة التفصيلية.
(وَأَجْدَرُ) أفعل تفضيل على غير بابه، إذ إن المفضل عليه غير موجود، والمعنى أنهم لبعدهم عن المدائن والقرى حيث العلم والفقه - صاروا في أغلب الأحوال جديرين بالبعد عن العلم بحدود الله تعالى.
وفى مذهب مالك لَا تقبل شهادة البدوي على الحضري، ولا تجوز إمامته له، وذكر هذا القرطبي في تفسيره وهو مالكي، ونقول إنه غريب عن مالك إمام دار الهجرة رضي الله عنه، وإن المؤمنين عدول فيما بينهم، والإمامة للأعلم فالأقرأ، وقد يكون فيهم أعلم وأقرأ، ووصف مجموعهم لَا يقتضي وصف كل واحد منهم.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي يعلم الله تعالى أحوال الجماعات ونفوسهم مؤمنهم وكافرهم قويهم وضعيفهم، وهو المتصف بالعلم الكامل، وحكيم يدبر الوجود بمقتضى الحكمة.
فإذا كان الجهل في البادية لبعدها عن العمران ففيها البأس والقوة، والصبر على مصاعب الحياة وشدائدها، ولذلك لما قضى الصديق على الردة، وأخلى
3422
الأرض العربية منها - جيَّش الجيوش إلى كسرى وقيصر، وكان أكثرهم من أهل الأعراب الذين ارتدوا فوجه قوتهم إلى الأعداء.
بعد أن بين سبحانه أخلاق الأعراب أخذ الحكم العدل اللطيف الخبير يبين أهل الشر منهم، وأهل الخير فقال تعالى:
3423
(وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨)
إن الأعراب الذين هم أشد كفرًا ونفاقًا يرون المسلمين لهم القوة والسيطرة فما يدفعونه من زكاة يقدمونها على أنها مغرم أي مال وجب عليهم أداؤه، ولأنهم لا يؤمنون باللَّه ورسوله ولا اليوم الآخر يعدونه مغرما - والمغرم: الغرم أو الغرامة، والغرامة هي المال الذي يدفع في غير مقابل، ولأنهم لَا يؤمنون ولا يرجون خيرًا في عطائهم، وأصل الغرام الشيء الملازم، وأطلق على المدين الغارم، لأنه ملازم دائما من الدائن ولذا قال تعالى: (... إِنَّ عَذَابَهَا كانَ غَرَامًا).
فهؤلاء الأعراب لَا علاقة لهم بالمجتمع، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، يعدون ما ينفق من زكاة مفروضة غرامة، وينتظرون أن ينخلعوا من هذا المال المفروض عليهم، ولا يؤمنون بوجوبه عليهم؛ لأنهم لَا دين لهم وقال: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ) أي ينتظر ذلك الفريق من الأعراب أن تنزل بكم النكبات، " والدَّوَائِر " وهي جمع دائرة، والدائرة النائبة وهي في أصلها مصدر كالعافية، وقد تكون اسم فاعل من دار يدور، أي نكبة دائرة، وتتعاقب على الناس، أي أن أولئك المنافقين غير المؤمنين من الأعراب ينتظرون أن تنال المؤمنين دائرة تذهب بقوتهم، فيتحللون من تلك النفقات المفروضة، وقد انتظروا حتى توفى الرسول - ﷺ - فحسبوها فرصة فارتدوا، ثم لما زادت الشدة من أهل الإيمان عليهم رضوا بالصلاة، وامتنعوا عن الزكاة، حتى دفعوها صاغرين بسيف الله الذي رفعه الصديق رضي الله تعالى عنه.
3423
ويقول سبحانه: (عَلَيْهِمْ دَائِرَة السَّوْءِ) أي أنه ينزل عليهم نكبة السوء، وهنا في (السوء) قراءتان، إحداهما بضم السين (١)، وهي المصدر بمعنى ما يسوءهم، فالدائرة نازلة ومقبلة، ولكنها ليست على المؤمنين بل على المنافقين من الأعراب، ولذلك هزمهم الصديق وخضد شوكتهم، وتقرأ السين في القراءة الثانية بالفتح (٢)، والسوء: الضرر والفساد وكل قراءة من القراءتين قرآن متواتر.
وبجمعها يكون المعنى أنه يصيبهم نكبة تفجعهم وتسوءهم، وعاقبته مضرة شديدة عليهم أن يشرد جمعهم ويتفرق أمرهم وتسبى نساؤهم ثم يعتقن، وأن يقتل رجالهم وينهزموا.
ثم ختم الله تعالى الآية ببيان أن ما ينوون وما يتربصونه يعلمه الله تعالى ويدبر الأمور على غير ما يريدون، بل على ما يريد الحق جل جلاله، ولذا قال تعالى: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) صدَّر الجملة السامية بلفظ الجلالة، لتربية المهابة في نفوس القارئين والمستمعين، وملء القلوب برقابة الله تعالى، لأنه (سَمِيعٌ) يسمع ما تحدث به النفوس، وما تهمس به الأفئدة (عَلِيمٌ) بكل شيء، يدبر الأمر على مقتضى علمه، وقد أحاط بكل شيء علما.
وأن الله يعلمنا الإنصاف في الأقوال والأفعال، ولله المثل الأعلى، فيذكر تعالت كلماته بجوار المنافقين من الأعراب الأبرار فيقول عز من قائل:
________
(١) قراءة (السوء) بضم السين والمد، قراءة ابن كثير وأبو عمر، وقرأ الباقون (السَّوء). غاية الاختصار (٩٦٤).
(٢) السابق.
3424
(وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
هذا هو الصنف من الأعراب الذي أخلص لله تعالى، وسلمت قلوبهم من النفاق، وآمنوا بالله وأقاموا الصلاة، وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بالإيمان بالله تعالى،
3424
فقال: (وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) ذكر سبحانه وتعالى الإيمان بالله تعالى وهو الإيمان بوحدانيته، وأنه الخالق من غير شريك، والواحد في صفاته من غير مثل، والمتفرد بالألوهية والعبادة وحده سبحانه وتعالى، والإيمان بأن له رسلًا أرسلهم إلى خلقه ويؤيدهم بمعجزات باهرة تدل على أنهم يتحدثون عن الله، وأنه أرسل محمدًا بالهدى ودين الحق بشيرًا ونذيرًا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
فذكر الإيمان باللَّه تعالى يقتضي الإيمان برسله عامة ورسالة محمد - ﷺ - خاصة، وقال تعالى: (وَالْيَوْمِ الآخِرِ) وهو يوم القيامة وما قبله من بعث ونشور وحساب وثواب وعقاب، فكل ذلك إيمان باليوم الآخر، وهو إيمان بأن الإنسان لم يخلق عبثا، وأن الدنيا قنطرة الآخرة.
وقوله تعالى وهو ما يتبع الإيمان: (وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَات) ومعنى (يَتَّخِذُ) يفعلها قاصدا أن تكون قربات، لَا كالذين فعلوها على أنها مغرم من المغارم يغرمونها، (قُرُبَاتٍ) أي يفعلونها متقربين بها إلى الله تعالى، فالقربات جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى، وجمعها لتعدد الخير في الصدقات فهي طاعة لله تعالى وهذه قربة، ووقاية النفس من شحها وهذه قربة أيضا، ومعاونة اجتماعية وهذه قربة رابعة، وعلاج لأدواء المجتمع الإسلامي بإعطاء السائل والمحروم حقهما، وتلك قربة خامسة، وطب لنفوس المحاويج حتى لا يحقدوا على المجتمع، وهذه قربة سادسة. وهكذا تجتمع القربات في الزكاة وهي الإنفاق في سبيل الله.
(وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ) معطوفة على ما ينفق قربات للرسول، وصلوات الرسول قال أكثر المفسرين إنها جمع صلاة بمعنى دعاء أي دعوات الرسول التي يدعو الله تعالى بها عند قبول الصدقات، أي أنهم يتخذون الزكاة قربات لهم
3425
ودعاء الرسول بالبركة يتخذونها قربات أيضا، ويزكي ذلك قوله تعالى بعد ذلك: (أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ).
وقد خطر على ذهني أن قوله تعالى: (وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ) معطوفة على قوله (مَا يُنفِقُ قُرُبَات) أن الظاهر الصلوات المفروضة وليس الدعاء المقرون من الرسول بقبول الصدقات وإضافتها إلى الرسول - ﷺ - باعتبار الصلاة فرضت في القرآن، وبينها النبي - ﷺ - بيانا عمليا، فقال معلما للمؤمنين " صلوا كما رأيتموني أصلي " (١) فكانت صلوات المؤمنين جميعا هي صلوات النبي - ﷺ -، فكانت إضافتها إليه - ﷺ - باعتباره المبين لهذه الفرائض ويكون هؤلاء المتقون من الأعراب قد قاموا بالصلاة والزكاة معا، لَا يفرقون بينهما كما أراد المرتدون. ثم قال تعالى: (أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لهُمْ).
الضمير - على ما قلنا - يعود إلى الصلوات، وعلى قول أكثر المفسرين يعود إلى ما ينفقون في سبيله، ولا شك أن عوده إلى الصلوات أوضح؛ لأن الضمير مؤنث، وهو أجدر بأن يعود على جمع مؤنث.
و (ألا) هنا أداة تنبيه، وهي تفيد معنى القربة وتؤكده، وتغني عن ذكر وصف الصلوات بأنها قربة أيضا.
وقوله تعالى: (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ): (السين) لتحقق الدخول في الرحمة، والرحمة إما أن يراد بها الجنة وعبر عنها بالرحمة؛ لأنها نعيم مقيم وأعلى رحمة يعلو الإنسان إليها، وإما أن يراد بها الرحمة الشاملة المذكورة (... وَرَحْمتِي وَسِعَتْ كلَّ شَيْء...)، لتشمل الجنة وغيرها ويكون المعنى أنهم باتخاذهم ما ينفقون والصلوات - تحيط بهم رحمة الله تعالى لا يخرجون منها إلا إليها.
________
(١) سبق تخريجه.
3426
وقد ختم الله تعالى الآية بما يفتح باب التوبة للأعراب، وهم أقرب المنافقين في المدينة الذين مردوا على النفاق فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُور رَّحِيم) أكد غفران الله تعالى ورحمته بـ (إن) المؤكدة، وبالجملة الاسمية، وبصيغة (غَفُور رَّحِيم).
وبعد أن بين الله أحوال الأعراب ما بين مؤمن ومنافق، ذكر أحوال الذين سبقوا إلى الإيمان.
* * *
السابقون
قال تعالى:
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)
* * *
بعد أن بين سبحانه أحوال المنافقين في المدينة بين أصنافا ثلاثة من الذين يحيطون بصاحب الدعوة: أولهم وأتقاهم: هم الذين قامت عليهم دعامة الإسلام، وآمنوا باللَّه ورسوله واليوم الآخر.
3427
وثانيهم المنافقون حول المدينة، والذين مردوا على النفاق في داخلهم، والله تعالى يعلمهم.
وثالثهم: فريق خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وأفاقوا واعترفوا بذنوبهم فعسى الله تعالى أن يتوب عليهم، وهو التواب الرحيم.
الصنف الأول ذكره الله تعالى بقوله:
3428
(وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) السابقون الأولون هم الذين سبقوا إلى الإسلام، والنبي - ﷺ - منفرد قد أنذر عشيرته الأقربين، فأعرض بعضهم وأنكروا شديد النكير. ومن لم يعرض وقف حائرًا بين غرابة ما يدعى إليه وماضي الصديق الأمين.
والذين كانوا من الضعفاء ولم يكونوا من الأقوياء إلا نفر قليل، والضعفاء كان منهم الرومي، ومنهم الفارسي ومنهم الحبشي، وكونوا الخلية الأولى للإسلام، ولكنهم وإن كانوا قليلا كانوا بإيمانهم واستمساكهم وتفديتهم للإسلام كانوا أقوى وأشد، وكانوا يتبعون النبي - ﷺ - سرا ولا يجهرون حتى انضم إليهم عمر فأعز الله نبيه وأولئك الضعفاء، وكان أن صدع بأمر الله كأمر ربه. (فَاصْدَع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)، ولما علم أهل المدينة بدعوة محمد قابلهم في العقبة الأولى ثم في العقبة الثانية، وهاجر ومن معه إليهم فآووا ونصروا، وإذا كان الأولون قد سبقوا إلى الاستجابة، فقد سبق الأنصار إلى إنشاء دولة الإسلام، وإذا كان الأولون قد سبقوا ابتداء ولهم فضل الهجرة، فقد سبق الأنصار إلى بناء الدولة، ونالوا أفضل الإيواء والنصرة.
والذين اتبعوهم بإِحسان في هذا الدين ممن أسلموا وهاجروا ثم اشتركوا في الإيواء.
وهناك قراءتان إحداهما بالواو (١) (والذين اتبعوهم بإحسان)، ويكون هذا لبيان فضل من جاء بعدهم ممن نهجوا منهاجهم في حياتهم، ومن جاءوا بعدهم،
________
(١) قراءة العشرة. وهي المتواترة.
3428
ومن في قوله تعالى: (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) بيانية، أي هم المهاجرون والأنصار.
وهناك قراءة من غير الواو (١)، ويكون من تبعوهم بيان لفضل الأنصار وتكون بدلا أو عطف بيان، أي أن المهاجرين سبقوا وتلقوا الأذى والبلاء، والأنصار نصروهم واتبعوهم بإحسان أي اتبعوهم بإتقان وإجادة، ورضا وتقبل بقبول حسن، ولقد ذكر الله تعالى مناقب المهاجرين والأنصار وجزاءهم.
فذكر الجزاء الأعلى وهو رضاهم بالله وليا ونصيرا، ورضا الله تعالى عنهم أحباء لله تعالى، فقال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ورضوان الله تعالى أكبر جزاء على الطاعات، فقد ذكر الله تعالى الجزاء من جنات ونعيم مقيم، ثم قال: (... وَرِضْوَان مِّنَ اللَّهِ أَكْبَر...) وقد قدمه تعالى على كل جزاء من بعده، فالإحساس برضا الله أعلى درجات الجزاء، ووصفهم الله بأنهم رضوا عنه، رضوا بتكليفاته، وتقبلوها بقبول حسن، وقاموا بحق طاعته، وأحبوا الله لَا خوفا من ناره، ولا طمعا في جنته، بل لكمال محبته، وتلك هي المنزلة العليا في العباد، لا يعبده سبحانه خوفا ولا طمعا، ولكن محبة، وسعادة بعبادته.
ومع هذه المرتبة العليا من المكانة التي لَا تعلوها مكانة، ولا ينهد إلى مثلها جزاء (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا).
في هذا النص السامي قراءتان متلاقيتان في المعنى، ففي المصحف المكي زيادة " من " وفي غيره خلو منها (٢)، وفي الجنات الثمار الطيبات وتعدد الجنات لتعدد ثمارها، ففيها فاكهة ونخل ورمان، وغيرهما مما لَا عين رأت ولا أذن
________
(١) قراءة: (الذين) بغير الواو، ليست في العشر المتواترة.
(٢) (تجري من تحتها)، بإثبات (من) قراءة ابن كثير، وكذلك رسم هذا الحرف في مصحف أهل مكة، وقرأ الباقون (تجري تحتها)، وكذلك رسمها في بقية المصاحف، انظر المقنع - ص ١٠٤، السبعة - ص ٣١٧، والنشر - / ١٨٠٢. غاية الاختصار - برقم (٩٦٧).
3429
سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يخاف فيها الفوت، ولا الانقطاع، ولذا قال تعالت كلماته (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) والخلود ذاته نعمة؛ لأن البقاء نعمة، والفناء فيه الخوف.
(ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الإشارة إلى هذا الجزاء العظيم من رضوان منه، ورضا بأمره ونهيه، وقضائه خيره وشره وجنات متعددة الثمار مختلفة الألوان والأنواع، هو الفوز العظيم، ولا فوز يقابله أو يناهده، ومن ناله فقد نال خير الدنيا والآخرة.
ذكر الله تعالى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين جاءوا من بعدهم واتبعوهم بإحسان في وسط الكلام في المنافقين؛ ليتميز الخبيث من الطيب، وليكونوا قدوة لهم إن أرادوا الهداية، ولقد عاد القول إلى المنافقين فقال تعالى:
3430
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
هذا هو الصنف الثاني ممن شملتهم الآيات الكريمة، وهم الذين شغلوا الكثير من الآيات الكريمات، وشغلوا أفكار المسلمين بتخلفهم المرة بعد الأخرى، واعتذارهم الكاذب في كل مرة ويحلفون بالله كاذبين مجترحين الأثام بعد الأثام، ويكرر الله تعالى ذكرهم لأنهم آفة الجماعات، وداؤها الدوى، ولا تنهض جماعة إلا بإبعادهم عن بيئتها الفكرية.
(وَمِمَّنْ حَوْلَكم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقونَ) وهم قبائل مختلفة - ذكر بعض المفسرين قبائلهم، فقال من مزينة وجهينة، وأسلم وغفار وأشجع، ناس منهم وليسوا كلهم، ولذا ذكر بعضهم فـ " مِنْ " في قوله: (مِمَّنْ) أي (مِنْ) المدغمة في (مَنْ)، أي بعض من حولكم من الأعراب منافقون أتقنوا النفاق وأجادوه، حتى إنهم ليحسنون إخفاء ما في بطونهم، فلا تعرفهم في لحن القول، كما تعرف
3430
غيرهم ممن تكشف بعض أمرهم، فقال الله تعالى عنهم: (... وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ...)، ولقد قال للنبي - ﷺ -: (لا تَعْلَمُهُمْ) أي مع فطنتك وقوة حسك، (نَحْنُ نَعْلَمُ) المتكلم هو الله جل جلاله، وهو يعلم ما تسره النفوس، وما يناجون به فيما بينهم، وهذا نفاق فيمن حولكم، أي يحيطون بدياركم ويجب الحذر منهم والاحتياط لهم، وتكشف أمرهم حتى لَا يخدعوكم.
(وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) الذين يتتبعون عورات المؤمنين، ويتسمعون مواضع الضعف فيكم، وهؤلاء أصلاء في النفاق من وقت أن رأوا القوة فيكم، فأسرُّوا الكفر وأظهروا الإسلام، ودأبوا على النفاق ولجوا فيه، حتى صار النفاق عليهم سهلًا ميسرا، وعبر الله تعالى عن دأبهم في النفاق (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) وتجردوا له حتى خلصت نفوسهم له حتى صاروا لَا يستطيعون الصدق لو أرادوه، والإخلاص لأمر من الأمور، ولقد صاروا مهرة، من مرد فلان على العمل، إذا مهر فيه.
ولذلك رتب على مرد أن الرسول الفطن الأريب لَا يعلمهم، والله علام الغيوب، وما تحدث به النفوس يعلمهم، وإن الله إذ يعلمهم يعذبهم في الدنيا والآخرة، ولذا قال: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) وقوله تعالى: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) غير العذاب الأليم الذي يردون إليه، وأن توزيع العذاب عليهم يجعل العذاب مرتين، والعذاب الذي يردون إليه في الآخرة.
وقد اختلف المفسرون فيه، فقيل العذاب مرتين عذاب الفضيحة، وعذاب القبر، وقيل العذاب مرتين الفضيحة، وتنفيذ الحدود فيهم وأخذ الفرائض منهم.
وإني أرجح أن العذاب مرتين هو الفضيحة، ورد كيدهم في نحورهم، وفساد تدبيرهم، وغيظهم من أن المسلمين بقيادة النبي - ﷺ - يخرجون من كل تدبير دبروه سالمين، وأميل إلى الذين فسروا قوله تعالى: (سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ) إلى أن مرتين كناية عن كثرة العدد، وترادف المرة بعد المرة، مثل قوله تعالى: (ثُمَّ ارْجِع
3431
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)، وقد عذبوا مرات، كل مرة تتلوها أختها، عذبوا بعد أحد، وبعد الخندق، ومن قبل وبعد بدر، وفي كل غزوة كانوا يتمنون فيها الخسارة للمؤمنين، ولقد قال تعالى فيهم: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦).
و (السين) في قوله تعالى سنعذبهم لتأكيد وقوع العذاب المتكرر بهم، وهو عذاب نفسي وعذاب بدني كما وقع لقريظة، وعذاب مالي كما وقع لبني النضير وكل ذلك مع العذاب النفسي المستمر لغيرهم في كل الغزوات حتى تبوك.
قال تعالى: (ثُمَّ يُرَدُّونَ) ثم ينقلبون إلى عذاب عظيم في نار جهنم، و (ثم) هنا في معناها من حيث التفاوت بين عذاب الدنيا وهو مكرر، وعذاب الآخرة الدائم الذي لَا ينتهي، ويردون فيها معنى الدفع لهم عن الذي كانوا يحسبونه إلى عذاب عظيم، والتنكير هنا لتكثيره وشدة آلامه، كما قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ...).
وبعد أن ذكر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ذكر الذين تابوا واعترفوا بذنوبهم.
فقال تعالى:
3432
(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
هذا هو الصنف الثالث، وهم الذين تخلفوا في غزوة تبوك، فالقسم الأول من المهاجرين والأنصار ومن اتبعوهم بإحسان واقتدوا بهم، وإن لم يسبقوا سبقهم وهؤلاء ما تخلفوا عن غزوة غزاها النبي - ﷺ -، والقسم الثاني المنافقون الذين تخلفوا وكانوا يتمنون الهزيمة للمؤمنين.
والقسم الأخير تخلفوا من غير معذرة، ولم يدنسوا ألسنتهم بكذبهم، وأحسوا بكبر ما فعلوا فاعترفوا بذنوبهم وأحسوا بوخز الإثم يحيك في صدورهم، وكبر أمرهم في أنفسهم عندما نزلت الآيات للمتخلفين، فجاء بعضهم وربطوا
3432
أنفسهم على سواري المسجد وأقسموا ألا يحلوا أنفسهم إلا إذا حل رسول الله - ﷺ - رباطهم، فلما جاء من سفره وإنه كان من سنته أنه إذا جاء من سفر صلى لله ركعتين، فلما رآهم أبي أن يحل وثاقهم حتى يجيء أمر الله بذلك، وقد نذروا أن يتصدقوا بأموالهم إن غفر الله لهم تخلفهم، فغفر الله تعالى لهم بهذه الآية التي فيها (عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (١).
فلما تاب الله تعالى قدموا من أموالهم، وبعضهم قدم كل أمواله تكفيرًا عما اجترِح من سيئة التخلف وهو قادر، ويقول تعالى في شأنهم: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا) وهو الجهاد السابق والإيمان، والإحساس بالذنب، والتوبة النصوح، والتصديق، والآخر السيئ؛ وهو التخلف في الجهاد الذي بعدت فيه الشقة، وهذا أمر سيئ؛ لأنه عصيان لأمر الله تعالى؛ ولأنه تخاذل في وقت الشدة؛ ولأنه إيثار للراحة على الجهاد.
وقوله: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا)، أي جمعوا بين الخير والشر، ولم يقل سبحانه وتعالى - ولكلامه المثل الأعلى - خلطوا بعمل صالح آخر سيئا من غير تمييز بين المخلوط والمخلوط به؛ لأنه ليس المقصود معرفة المخلوط من المخلوط به، إنما المقصود أنهم جمعوا بين الصالح والطالح، وقوله تعالى: (عَسَى اللَّه أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) الرجاء ليس من الله إنما هو من العباد، يرجون أن يتوب الله عليهم أي يرجع عليهم بقبول التوبة.
أو يقال إن الأمر ما دام قد اختلط الخير بالشر وكان الترجى فإن الأمر يرجى فيه قبول التوبة؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، ولأن الخير الغالب برحمة الله يذهب بالشر المغلوب، وأن غفران الله ورحمته يطلبان قبول التوبة حيث كان لها مسوِّغ، لأن الله تعالى يقبل التوبة من عباده، ولأنه غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، وختم الله تعالى الآية بقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في هذه الجملة
________
(١) راجع ابن جرير الطبري: جامع البيان (١١/ ١١٠). كما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل. الدر المنثور (٤/ ٢٧٤).
3433
السامية تأكيد لمعنى الغفران وقبول التوبة رحمة بعباده، وذلك لأن الجملة السامية مؤكدة الغفران والرحمة بـ (إنَّ) الدالة على التوكيد، وبالأوصاف للذات العلية (غَفورٌ رحِيم) وبالجملة الاسمية.
وقد كان أولئك التائبون المعترفون بذنوبهم يقدمون أموالهم تكفيرا عن ذنوبهم، فأمر الله تعالى نبيه الأمين أن يأخذها فقال تعالى:
3434
(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)
يحسب بعض الكتاب في التفسير القرآني أن في هذا النص (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) به فرضية الزكاة، ونحسب أن الزكاة قد فرضت قبل ذلك، وإنما هذه الصدقة المطلوبة من الصدقات التي تكفر المعاصي، أو من المطلوبات التي تعم المفروض والمندوب ولقد قال النبي - ﷺ -: " الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار " (١)
ولقد كان من بعض الخطائين الذين تخلفوا في تبوك من أراد التصدق بكل ماله تكفيرا عن خطئهم في التخلف، وإحساسا بكبر ما ارتكبوا، وقوله تعالى: (تطَهِّرُهُمْ) وهناك قراءة بسكون الطاء، وعدم الإدغام في الهاء من أَطْهَر والمعنى في القراءتين أن الصدقة تطهر نفوسهم من شحها، لأن من تخلف محافظة على أن الزمان كان زمان إثمار وإنتاح زراعي، فالصدقة علاج الشح، ومطهرة النفس منه، وقوله تعالى: (وَتُزَكِّيهِم) قال الزمخشري: إن التزكية تصح أن تكون بمعنى المبالغة في التطهير حتى تكون نفوسهم بتطهيرها نامية بسبب التطهير، فتكون مشتملة على معنى النماء، لأن المبالغة في التطهير نمتها أو نمَّت النزوع إلى الفضائل فيها، أو تقول: إن معنى التزكية من الرسول - ﷺ - أي يصفهم بما يكون تزكية لهم وثناء عليهم، أي يزكيهم - ﷺ - بهذه الصدقات الطاهرة.
________
(١) سبق تخريجه.
3434
و (مِنْ) في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) للتبعيض أي خذ بعض أموالهم، وليس من المستحسن أن يأخذ كل المال، بل يبقي لأهله ما يكفيهم بالمعروف، والآثار الصحاح قد وردت عن النبي - ﷺ - بأنه كان لَا يستحسن الأكثر من الثلث، فقد قال سعد بن بن أبي وقاص عندما استأذنه في الوصية قال - ﷺ - " الثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع أولادك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس ".
ومع هذه الصدقة التي أمره الله تعالى أن يأخذها منهم أمره سبحانه بأن يصلي عليهم، فقال تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ) الصلاة هنا بمعنى الدعاء والاستغفار، والتعدية بـ (على) للإشارة إلى أنها سابقة لهم فائضة بالخير عليهم نازلة بالبركات عليهم، وقد ذكر الله سبحانه الغاية الواضحة من الصلاة وهي أنها (سَكَنٌ لهمْ)، والسكن معناه الاطمئنان وقرار النفس، وذلك الاطمئنان يكون بردا وسلاما عليهم؛ لأنهم كانوا شاعرين بعظم جرمهم فيتوهمون بفرط إحساسهم وإيمانهم بأن ذنبهم غير مغتفر، فصلاته - ﷺ - اطمئنان لهم، وقرار لنفوسهم، ثم ختم الله تعالى الآية بقوله عز من قائل: (وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سمع اعترافهم المطهر لنفوسهم وندمهم على تخلفهم عليم بضمائرهم الطاهرة التي زادها الاعتراف طهارة، واستحقوا تزكية النبي - ﷺ -.
* * *
الله يقبل التوبة عن عباده
قال تعالى:
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
3435
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
* * *
يؤكد الله سبحانه قبوله للتوبة حتى لَا يسرف العصاة ولو كانوا منافقين على أنفسهم، ويظنون أنه لَا رجعة إلى الله وإلى الحق، فإن اليأس يولد النفرة والنفرة تولد الكفر، والرجاء في الله يكون معه الرجوع إليه، والرجوع إليه يكون معه الإيمان، ولذا قال: (قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفسِهِمْ لَا تَقْنَطوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ...).
3436
(أَلَمْ يَعْلَمُوا) فيه قراءتان إحداهما بالياء والأخرى بالتاء (١)، فأما التي بالتاء فتكون خطابا للمؤمنين، وتقريرا لحقيقة دينية يجب الإيمان بها، وأن يعلموا أن الله تعالى لَا يترك المذنب في ردغة الذنب، بل إنه سبحانه يفتح له الباب لتطهير نفسه من الذنوب وتخليصها منها، والله تعالى منه قريب يستجيب دعوته إذا دعاه، ويغفر له إذا استغفره بقلب سليم لم يركس، ولم يستغلق باب التوبة، وعلى القراءة بالياء تكون الآية الكريمة في شأن العصاة الذين تابوا، والذين لم يتوبوا، وترجى توبتهم، فهي دعوة لمن لم يتب ألا ييئس من روح الله، ويعود إلى الله ورسوله والمؤمنين، إن الإسلام يستجر الناس إلى الخير فقد جاء داعيا إليه، ولا يستجرهم إلى العصيان حيث يكون العقاب.
و (أَلَمْ) - في قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) فيه (الهمزة) للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، و (لَمْ) للنفي، ونفي النفي إثبات، فيكون المعنى تأكيد علمهم بأن الله يقبل التوبة عن عباده، ويأخذ الصدقات التي يريدون بها تكفير سيئاتهم، والله تعالى هو المتصف بأنه التواب الرحيم، الذي يكثر قبوله للتوبة رحمة بهم؛ لأنه الرحيم الغفور الودود.
________
(١) قراءة (ألم تعلموا) بالتاء خطابا: قراءة جبلة عن المفضل عن عاصم، وقرأ الباقون بالياء. غاية الاختصار (٩٦٠).
3436
والتقرير هنا لتطمئن نفس التائب، فهو تقرير لقبول التوبة، واطمئنان العاصي إلى أن التوبة جتت ذنبه، والتعدية بـ (عن) في قوله تعالى: (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) لتضمن قبول التوبة معنى التجاوز عن المعصية التي عصاها المحبود، فالمعنى على ذلك: يقبل التوبة متجاوزًا عن سيئات عباده، شأن القادر العليم الحكيم الذي هو فوق عباده، وفوق الوجود كله.
وفى قوله تعالى: (وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) مع أن الذي ينتفع بها العباد، ويأخذها النبي - ﷺ - ويوزعها عليهم - تشريف لمن يعطيها؛ لأن الذي يأخذها رب العباد، وكأنما العبد يعطيه هو جل جلاله، وذلك مثل قوله تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً...)، فهذا النص السامي فيه حث على الإكثار من الصدقات.
والخلاصة في ذكر أن الله يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات أن ذلك تهييج للحث على المسارعة بالتوبة، والمسارعة إلى الصدقات، فكلتاهما خير يتلقاه الله تعالى بالقبول، ووصف الله تعالى صفة مؤكدة بأنه التواب الذي يكثر قبول التوبة؛ لأنه الرحيم.
ولذا قال تعالى بعد ذلك مترقبا أن يعملوا الخير ويتوبوا:
3437
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
أمر الله تعالى نبيه بأن يخاطب المؤمنين الذين أخطأوا والذين لم يخطئوا بأن العبرة بالعمل الحاضر، فإن كانوا عصاة فليتوبوا، وإن كانوا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم فليستمروا على المنهاج الذي ارتضاه لهم ربهم، أمر نبيه بأن يقول لهم: (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).
3437
إذا كان الله تعالى يقبل توبتكم، وباب التوبة مفتوح لَا يغلقه الغفور الرحيم، فاعملوا أيها الناس، اعملوا لما يرضي الله تعالى ولا يمنعكم ذنب أذنبتموه، أو خطأ وقعتم فيه من أن تعملوا، والخطاب عام للمؤمنين وغيرهم وليس للتوابين وحدهم، ولا للمتخلفين وحدهم، ولكنه موجه للجميع، ليعمل المذنب الخير ويستر غيره.
وقوله تعالى: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنونَ) قال بعض المفسرين إن في ذلك تهديد أو إنذار، ولكنا نرى أن فيه تحريضا على العمل الصالح ورؤية الله تعالى يعقبها جزاؤه إن خيرًا فخير وإن شرا فشر، والرسول يرى العمل فإن كان خيرا أقره، وإن كان شرا نبَّه إليه ودعاهم للإقلاع عنه، ورؤية المؤمنين ليعلموا حال من يخالطونهم فإن كانوا أشرارا نصحوهم ثم اجتنبوهم، وإن كان عملهم خيرا عاونوهم وأقروهم، وأكد أنه والرسول ومن معه يرون الأعمال، وذلك لأن (السين) تفيد تأكيد تحقق الوعد الذي وعده الله تعالى، ولقد جاء في الحديث الصحيح برواية أبي سعيد الخدري: " ولو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان) (١) والناس يشهدون على الخير خيرا وعلى الشر شرا، والرسول يشهد على الناس، كما يشير قوله تعالى (... لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...).
(وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِم الْغَيْبِ وَالشهَادَةِ).
السين لتأكيد وقوع ما بعدها في المستقبل، أي ستعودون إليه سبحانه، وتعرض عليه أعمالكم لَا تخفى منها خافية، فإن كانت خيرا، أو شرا تبتم منه وأحسنتم التوبة، فإن الجزاء يكون خيرا، وإلا فالعاقبة السوءى.
وهذه الجملة السامية فيها تبشير وإنذار، تبشير للمؤمنين، وإنذار للمشركين الذين عصوا أمر ربهم، واستمروا في عصيانهم وضلالهم،
________
(١) أخرجه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند أبي سعيد الخدري (١٠٨٤٦).
3438
وفى الكلام السامي إظهار في موضع الإضمار؛ لأنه سبحانه وتعالى قال عز من قائل: (وَسَتُرَدونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ولم يقل - ولكلامه المثل الأعلى - (وستردون إليه) وذلك للإشارة إلى أن الأمر سيرجع إلى من لَا تخفى عليه خافية في السماء والأرض، والغيب ما غاب عن الحس، أو ما أخفته الصدور، وما أسروه في نفوسهم، فهو يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، والشهادة هي الأمر المعلن الذي تشاهده الجوارح مبصرة أو سامعة، أو باطنة، يعلم سبحانه كل شيء ما يسر وما يعلن، وما يظهر وما يختفى، سبحانه علام الغيوب.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى الجزاء الواقع لَا محالة فقال تعالت كلماته:
(فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كنتُمْ تَعْمَلُونَ) (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كنتم ستردون إليه سبحانه فإنه ينبئكم أي يخبركم إخبار فعل وجزاء بما كنتم تعملون، فترون أعمالكم عيانا، تنطق بها جوارحكم، وكتابا منشورا قد سجل كل ما عملتم، لَا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فتجزى كل نفس بما كسبت. وإن هذا فيه تبشير للمؤمن، وإنذار للمشرك والمنافق، وأعمالهم كلها في كتاب.
وقد فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لمن تخلف، وعصا، بعد ذلك ذكر أناس ممن تخلفوا لم يكتب عليهم الشقوة بل لَا يزال الباب مفتوحا للتوبة، فإما يتوبون، وإما يعذبهم الله على نفاقهم وتخلفهم، فقال تعالى:
3439
(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
ذكرنا أن الذين دعوا إلى الخروج إلى الغزوة التي كانت فتحا للطريق إلى بلاد الشام وما وراءها من الأرض التي كان الروم يسيطرون عليها، وأشرنا إلى أنه كان فيهم السباقون إلى المكرُمات المهاجرون والأنصار، وكان فيهم المنافقون
3439
المعوِّقون الذين يعتذرون المعاذير الكاذبة، ويحلفون الأيمان الفاجرة، ومنهم من كانوا مخلصين، واعترفوا بذنوبهم في التأخر، وقد ذكر في هذه الآية فريقا، قد أُرجئ أمرهم ترجى منهم توبة.
يقول تعالى: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ) أي ما قدر في علمه المكنون بالنسبة لهم، ومرجون أي مؤجلون لأمر الله تعالى فيهم، وما قرره سبحانه وتعالى بالنسبه لهم وهو مطوي في علمه المكنون لهم، وخفي عنكم وعنهم، ومرجون أصلها مرجئون، قلبت الهمزة ياء وحذفت لوجود واو الجمع، وبعض المفسرين يقول إنهم من المنافقين، ويحتمل توبتهم فيتوب الله تعالى عليهم، ويحتمل أن يبقوا مصرين على نفاقهم ليعذبهم سبحانه، وبعض المفسرين ذكر أنهم من الفريق الذين اعترفوا بذنوبهم، وبعضهم ربطوا أنفسهم في سواري المسجد حتى بين سبحانه وتعالى قبول توبتهم ففك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وثاقهم، وآخرون لم يفعلوا ذلك، وهؤلاء الثلاثة المخلفون الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وسنذكرهم من بعد عند تفسير الآية التي تصرح بأمرهم، وإني أميل إلى الأول، فإن الثلاثة خُصُّوا بآية تذكر حالهم.
وقوله تعالى: (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وِإمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِِ) (إفَا) هنا تدل على أن نهايتهم مترددة بين حالين، إما أن يستمروا على نفاقهم فيعذبهم الله تعالى، ومأواهم جهنم وبئس المصير، وإما أن يتوبوا فيتوب الله عليهم، ويفيض عليهم سابغ رحمته.
والتردد ليس بالنسبة لله تعالى فإنه يعلم مآلهم، إذ هو يعلم ما كان وما يكون، فيعلم ما سيئول إليه أمرهم من غير إخبارهم، إنما علمه إحاطة، وأعمالهم وإرادتهم.
وإنما التردد بالنسبة للمخاطبين والمتحدث عنهم، فإنهم لَا يعلمون إلا ما يقع بالفعل، ويعاينونه، ولا يعلمون ما سيقع، وقدره الله سبحانه، ولذا ختم سبحانه
3440
وتعالى الآية بقوله عز من قائل: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بكل ما يقع في المستقبل مما غيب عليكم، حكيم يقدر الأمور في نطاق حكمته، وهو العزيز الحكيم.
* * *
مسجد الضرار
قال تعالى:
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
* * *
إن المنافقين لَا يكتفون بأن تكفر قلوبهم، وتسلم ألسنتهم، وأن يخذِّلوا المؤمنين، ويثبطوهم، ويلمزوا في الصدقات، ويستهزئوا بالمتطوعين بها من المؤمنين، وأن يكثروا من التهكم على الرسول ومن معه، لَا يكتفون بذلك، ولكن يتطاولون فيريدون أن ينشئوا بنيانا يكون مربطا لهم، يلجأون إليه، ويترقبون أخبار المؤمنين منه، ويُعلمون بها الرومان ومن لفَّ لفَّهم من المنافقين أمثالهم، وأنشأوا
3441
ذلك البنيان على مشارف الصحراء ليتمكنوا من الاتصال بالرومإن من غير علم أحد، وسموا ذلك مسجدا، وسماه التاريخ الإسلامي مسجد الضرار؛ لأنه أنشئ للضرار، فأخذ اسمه من مقصده.
قال تعالى:
3442
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) في قراءة أهل مكة يثبتون الواو عطفا على أخبار المنافقين، ومن غير واو في مصحف المدينة والشام (١)، ويكون عطف بيان للمنافقين أيضا، وقوله تعالى: (اتَّخَذُوا مَسْجِدًا)، أي أنشئوه، واتخذوا مسجدا، أي أن انتحلوه مسجدا باتخاذهم لَا أنه مسجد في حقيقته وذاته، بل باتخاذهم، وانتحالهم، وقد ذكر الله تعالى أن غرضهم من إنشائه الذي بعثهم هواهم عليه أمور أربعة - هي ما بني لأجله: أولها - أنه ضرار وهو مصدر ضارَّ، فهم يبنونه مضارة للمؤمنين، ومكايدة للذين بنوا مسجد قباء لله وللصلاة فيه، وقد صلى فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فبنوه قريبا منه ليضار أولئك الذين بنوا الأول، وليكايدوهم، وقوله تعالى: (وَكفْرًا) أي دفعهم إلى بنائه الكفر لا الإيمان، فهم لَا يصلون، ولكن ينافقون، وهم كانوا كفارًا، ومن أعظم البواعث هو تفريق المؤمنين، ولذا قال تعالى في الباعث: (وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) وإن ذلك التفريق هو إبعاد فريق من المؤمنين عن الجماعة التي يؤمها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يغرونهم بالتأثير فيهم رجاء أن يقتطعوا من المؤمنين من يضمونهم إليهم، إذ بعدوا عن النور الكاشف لخداعهم، وإفسادهم، فيخلو لهم الجو ليخادعوهم، وينجح خدعهم، (وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يقال رصد، وأرصد: راقب، ورصد تكون للخير والشر، وأرصد لَا تكون إلا للشر، وقد اتخذ هذا المسجد ليكون موضع ترقب للمنافقين يتصلون منه بأعداء الله تعالى،
________
(١) (الذين اتخذوا) بغير واو، قراءة: نافع وأبو جعفر، وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وهذا الحرف في مصاحف المدينة بلا واو، وقرأ الباقون بإثبات الواو، وكذلك هي في بقية المصاحف. المقنع ١٠٤، والسبعة ٣١٨، والنشر ٢/ ٢٨١. غاية الاختصار (٩٧٠).
3442
وقالوا إن ذلك يشير إلى أبي عامر الراهب، وهو رجل خزرجي من الخزرج، كان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ ما عند أهل الكتاب من بقايا كتبهم، وكانت له عبادة في الجاهلية، وكبير في الخزرج، فلما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة وكوَّن فيها قوة الإسلام الأولى، وأظهر الله المؤمنين في غزوة بدر الكبرى شَرِق أبو عامر هذا بذلك النصر المبين الذي كان فاتحة السيطرة على بلاد العرب، فأرسل إلى قريش يمالئهم ويحرضهم على غزو المدينة والأخذ بثأرهم، فقدموا في السنة الثالثة، وكانت واقعة أحد، فخبَّ أبو عامر هذا فيها ووضع، وتقدم إلى المبارزة ليحرض الأنصار، وخاصة قومه الخزرج ودعاهم إلى نصرته، فردوه ردا منكرًا، فعاد مذءومًا مدحورًا.
ولقد ابتدأ بما يظهر منه ميله للإسلام، ولكنه لم يعم، فدعا عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يموت بعيدا طريدا، فكان كذلك ومات طريدا وذلك أنه لما فرغ الناس من أمر أحد، وقد رأى أمر الرسول في علو، وكانت عاقبة أحد للمؤمنين، وإن كان قد أصابهم قرح في أثنائها، وصار الأمر من بعدها في ارتفاع للمؤمنين وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يحرضه على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأقام عنده وكتب إلى جماعة من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه قادم بجيش يقاتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه رسله بكتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم، فشرعوا في بناء مسجد قريب من مسجد قباء، وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا إليه - ﷺ - أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، لتكون صلاته حجة لهم في تقريره، وليتموا خداعهم للمؤمنين، وليخفوا مقصدهم من إنشائه، وهو أن يكون إرصادًا لمن حارب الله ورسوله، فقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله تعالى "، فلما قفل راجعا من تبوك إلى المدينة، ولم يبق بينه
3443
وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل يخبر الرسول بمسجد الضرار، وما قصده بانوه، من الضرار والإمعان في الكفر، والإرصاد لمن حارب الله ورسوله والمؤمنين، فأرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من هدمه قبل مقدمه المدينة، لقد أعدوا في المسجد سلاحا، وعتادا ليعاونوا الرومان المقبلين.
ومع وضوح أمرهم عادوا إلى كذبهم وتوثيق الكذب بالأيمان المغلظة أنهم ما أرادوا إلا الخصلة الحسنى، فقد كانوا عند بنائه مخفين مقصدهم الخبيث، ومكرهم السيئ، فقد قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عندا ابتدائهم فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه.
لقد قالوا ما قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخفون مكرهم السيئ، ولكنهم نسوا أن الله تعالى كاشف أمرهم فيبين الله تعالى خفي أمرهم، وما أسرّوه، ولم يعلنوه.
جاء في الكشاف ما نصه: " لما قفل رسول الله تعالى من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية عليه. فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي، وعامر بن السكن، ووحشيا قاتل حمزة، فقال لهم: " انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه، واحرقوه " (١)، ففعلوا، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف، والقمامة، ومات أبو عامر بقنسرين ".
لقد حلفوا موثقين يمينهم، وقال تعالى في حلفهم: (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى) وقد أكدوا حلفهم باللام الموطئة للقسم، وبنون التوكيد الثقيلة، والمقسم عليه (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْخسْنَى) و (إن) هنا نافية، أي ما أردنا إلا الخصلة الحسنى، أو الفعلة الحسنى، وحصروا إرادتهم في إرادة ما هو حسن في ذاته، وغايته، وقد
________
(١) تاريخ الطبري: ج ١، ص، ١٢٣٩
3444
كذبهم الله، فقال تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) يشهد أي يعلم علم من عاين وشاهد، إنهم لكاذبون، ولقد أكد كذبهم بـ (إن) المؤكدة لما بعدها، وبالجملة الاسمية، وبلام التوكيد، والله سبحانه وحده هو الصادق وهم الكاذبون.
ولقد نهى الله تعالى عن الصلاة فيه، فقال تعالى:
3445
(لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)
النهي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه عن الصلاة فيه، وعبر عن الصلاة بالقيام، لأن أداء الصلاة على وجهها إقامة، ويطلق القيام على الصلاة، كقولهم يصوم النهار ويقوم الليل، أي يقوم الليل متهجدا مصليا، والنهي عن الصلاة فيه أكده الله تعالى بقوله: (أَبَدًا)، أي في كل الأحوال، النهي يفيد عموم الأحوال فلا يكون هناك مسوغ للصلاة فيه.
ولعل ذلك هو الذي جعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يهدمه ثم يحرقه، ويجعل موضعه كناسة تلقى فيه القمامة، إن الصلاة فيه تحقق فيها بعض أغراضهم، وهي المضارة لغيره من المساجد، والتفريق بين المؤمنين ووازن سبحانه بينه وبين مسجد غيره، فقال تعالى:
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) اللام لام الابتداء وهي تفيد التأكيد، (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى) أي وضعت أسسه على التقوى، أي أنه قام على التقوى، والوقاية من غضب الله واتقاء عذابه، وهذا مجاز لإثبات أنه قام على نية طيبة يتقي بها سوء العذاب، ويرضي الله تعالى، وإذا كانت الصلاة عبادة في كل دين، فيجب أن تؤدى في مكان قام على تقوى رب العالمين من أول يوم، أي من أول يوم كان بعد الهجرة، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عندما هاجر، وانتهى إلى ما يصاقب المدينة فنزل بقباء وأنشأ المسجد فيها، وقد وصل يوم
3445
الإثنين وبقي بقباء أربعة أيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ثم انتقل إلى المدينة يوم الجمعة، فيكون منطبقا عليه أنه أسس على التقوى من أول يوم تمت فيه الهجرة، وأسس على التقوى لأن الذي بناه هو الرسول أولا، وبني ابتداء للعبادة ثانيا، وذلك فضل ثانٍ للمسجد يجعله أحق أن تقوم فيه الصلاة من غيره، ويلاحظ أنه ذكر فضل هذا المسجد ولم يذكر ما أحاط بالآخر من نيات مناقضة، إذ إن الآخر أُسِّسَ ضرارًا وكفرًا وتفريفا بين المسلمين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله - لم يذكر ذلك اكتفاء بما ذكر أولا، فذكر السوء لَا يكرر، ولأن في ذكر حسنات هذا المسجد، تعريضا واضحا بسيئات الآخر.
والمسجد عند الأكثرين هو مسجد قباء، وادعى بعض الرواة أنه مسجد النبي - ﷺ -، ولكنا نختار ما اختاره الأكثر؛ لأن مسجد قباء أول مسجد بني بعد الهجرة، بل أول المساجد بإطلاق، ومسجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بني بعده، ولأن المفاضلة كانت بين مسجد قباء ومسجد الضرار الذي حاولوا به الغض من مقامه، ومقام الذين بنوه، وإن الضرار الذي ذكر كان يقصد به مكايدة أهل قباء وذلك ما نراه الحق، ومسجد الرسول له فضله فوق كل هذا، فهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال: البيت الحرام، وبيت المقدس، ومسجد الرسول.
هذا فضل ذاتي لمسجد قباء، وله فضل إضافي آخر، وهو فضل من يصلون فيه، فإنهم ليسوا منافقين ولا مرائين، بل أخلصوا دينهم لله تعالى، ولذا قال فيهم: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي رجال يريدون أن تخلص قلوبهم وتطهر نفوسهم من الرياء والكفر والنفاق، ويغسلوها من أدران النفوس، أي يحبون أن يكونوا لله مخلصين له الدين لَا أن يكونوا لغيره، والله يحب هؤلاء المطهرين، الذين غسلوا أدران قلوبهم.
وقد فسر الزمخشري وغيره الطهارة الحسية والبدنية، فقد جاء في الكشاف ما نصه: وقيل: لما نزلت مشى رسول الله والمهاجرون حتى وقف على باب مسجد
3446
قباء فإذا الأنصار جلوس، فقال - ﷺ -: " أمؤمنون أنتم " فسكت القوم ثم أعادها، فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " أترضون بالقضاء " قالوا: نعم، قال - ﷺ -: " أتصبرون على البلاء " قالوا: نعم قال - ﷺ -: " أتشكرون في الرخاء " قالوا: نعم، قال صلى الله تعالى عليه وسلم: " مؤمنون ورب الكعبة " فجلس، ثم قال: " يا معشر الأنصار فما الذي تصنعونه عند الوضوء وعند الغائط "، فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط بالأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار بالماء، فتلا قوله تعالى: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).
ويفهم من هذا أن الطهارة فسرت بالطهارة الحسية، وأرى أن الطهارة الحسية مفهومة بالبداهة، وهي تجيء اقتضاء للطهارة المعنوية وكلتاهما مقصودة، وتمم الله تعالى الموازنة بين مسجد الهدى ومسجد الضرار، بقوله:
3447
(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)
(الفاء) في قوله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ...) هي لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أنه يترتب على ذكر الحقيقة المقررة الثابتة، وهي أن المسجد الذي أسس على التقوى أحق أن يقوم فيه مصليا اتَّقَى، وأن فيه رجالا يحبون أن يتطهروا، وقد رتب على هذا إنكار أن يكون في مسجد الضرار خير أي خير، وقدمت (الهمزة) على (الفاء)؛ لأن الاستفهام له الصدارة دائما.
والاستفهام للإنكار والتعجب من المقابلة بين مسجد التقوى ومسجد الضرار، وأسس: وضع أساسه، والتقوى أساس مجاز، وتأسيسه على التقوى مجاز، والمعنى أفمن أقيم بنيانه على باعث من التقوى وخوف الله تعالى ورجاء رضوانه، ففيه تشبيه التقوى في نياتها، وطلب الرضا بالأساس المتين من البناء لقوة
3447
التماسك، إن التقوى وطلب الرضوان أقوى وأثبت، وأبقى، إذ الحجر يتفتت، وتقوى الله وطلب رضوانه باقية بقاء الله العزيز الحكيم.
وقوله تعالى: (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)، فيه مجازان يثيران في العقل أروع الفكر، لمن يتدبر قول الله تعالى، ويحاول أن يتعرف بعض أسرار الذكر الحكيم.
المجاز الأول شبه النيات الفاسدة لأهل النفاق، والبواعث التي بعثت إلى إنشاء مسجد الضراء بالجرف الهائر أي القائم على جرف من الرمل منهار لَا يثبت أمام الزوابع فضلا عن معاول الإنسان من حيث إن سرائر المنافقين سرعان ما تنكشف أمام أقل صدمة يصدمون بها.
المجاز الثاني هو تشبيه الانهيار الذي ينتهي إليه المنافق وبنيانه بأنه ينهار في نار جهنم، فلا ينهار في ماء، ولا ينهار في أرض لينة، إنما ينهار في نار جهنم، وذلك لأن الانهيار النفسي والفكري الذي ينهار فيه المنافق هو السبب في استحقاقه نار جهنم، فهو مجاز علاقته السببية.
وقال تعالى في عاقبة المنافقين الذين فسقوا عن أمر ربهم: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) صدر الجملة لجفظ الجلالة ترهيبا للفاسقين، ونفي أن يهديهم سبحانه؛ لأنهم سلكوا طريق الضلال وأوغلوا فيه، حتى إنهم لَا يردون، ولا يهتدون سواء السبيل، وسماهم سبحانه وتعالى قوما؛ لأنهم تضافروا على النفاق، ووصفهم سبحانه وتعالى بالظلم، لأنهم ظلموا الحقائق، وظلموا معاشريهم، وحقدوا عليهم لإيمانهم، ثم ظلموا أنفسهم أشد الظلم، لأنهم بنفاقهم ماتت نفوسهم، وذهبت إرادتهم، وأصبحوا لَا يؤمنون في وجودهم بشيء من الأشياء وأشركوا، وإن الشرك لظلم عظيم.
وبين سبحانه من بعد ذلك أنهم في ريب من أمر بنائهم، وأشد ما يصاب به المنافق أنه في ريب مستمر.
3448
فقال تعالى:
3449
(لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
البنيان هو الذي بنوه والذي بعث من الكفر، ومضارة أهل الإيمان، وتفريق بينهم، وإرصاد لمن حارب الله ورسوله، هذا البنيان من ريبهم الذي كانوا يترددون فيه دائما ويتنقلون في أجوائه المختلفة بعث عليه ريبهم في دينهم، وزادهم البناء ببواعثه ريبا، ولما هدمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأحرقه وحقر مكانه، حتى جعله كناسة تلقى فيه الجيف والقمائم، زادهم ذلك حقدا وحسدا، وريبا ونفاقا؛ لأن هذا النفاق يولد من الحسد والحقد، فلما ازدادت أسبابه ازدادوا ريبة، ولذا قال تعالى: (لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) لَا تزول إلا أن تقطع قلوبهم، أي لَا يزول إلا إذا زالت قلوبهم، وتقطعت أجزاء، فما دامت قلوبهم المركسة في النفاق الغائر فيها، والتي أربدت به، ولازمتها ملازمة الحسك للصوف، وهذا النص الكريم تصوير لاستقرار النفاق في القلب، وتزايده بتزايد المغريات له، والأعمال المنافقة تقوِّي النفاق وتدعمه، آنًا بعد آنٍ، والريبة هي الريب في كل شيء يفكرون فيه، وقد يقال: كيف توصف عقيدتهم وحالهم بالريب، وهم يعتقدون الكفر، ويظهرون غيره، ونقول: إن المنافق لَا يؤمن بشيء ولا يعتقد شيئا، وهو غير مؤمن بالله والرسول ويظهر الإيمان بهما، ولذا كان منافقا، ولكنه ليست له عقيدة تحل محل الإيمان بالله ورسوله، ولذا هو في حال ريبة مستمرة تمكث في قلبه وتستقر به، ولا تزول إلا أن تقطع قلوبهم إربا إربا.
وقرأ الحسن (إلى) بدل (إلا) (١) أي أن الريبة تستمر حتى يقبروا وتقطع قلوبهم، وإن هذا البناء الذي بنوه كان يحرك ضغنهم طول حياة الرسول، ومن بعده في عهد أبي بكر وعمر، وكان الناس يتذاكرونه، فيصخون أسماعهم صخا
________
(١) (إلى أن تقطع قلوبهم) هكذا بحرف الجر: قراءة يعقوب، وقرأ الباقون (إلا) على الاستثناء. غاية الاختصار (٩٧٤).
3449
شديدا بذكره، جاء في الكشاف: روي أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لمجمع أن يأتيهم في مسجدهم فقال: لَا ولا نعمة عينٍ؛ أليس إمام مسجد الضرار، فقال (أي مجمع): يا أمير المؤمنين لَا تعجل عليَّ، والله لقد صليت بهم والله يعلم أني لَا أعلم ما اختمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن، وكانوا شيوخا لَا يقرأون من القرآن شيئا، فعذره وصدقه وأمره بالصلاة.
لعن الله النفاق وأهله وأعمالهم، ولقد كثر المنافقون في عصرنا حتى نالتنا لعنة الله بهم، اللهم ارحمنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنك غفور رحيم.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، أي يعلم كل شيء ما خفي وما ظهر، ما أسرته القلوب، وما جهرت به الألسنة، وحكيم يضع الأمور في مواضعها، ويقدر فيكمل تقديره، وقد أتى بالجملة السامية مؤكدة بالتصدير بلفظ الجلالة، وكونها جملة اسمية، وبالصيغ الدالة على كمال الوصف بالعلم والحكمة.
بعد أن بين أوصاف المنافقين، وأحوالهم وأعمالهم وأقوالهم ابتدأ بذكر المؤمنين.
* * *
المؤمن هو وماله ملك لله
قال تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
3450
وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
* * *
الشراء جالب للمبيع، ومقدم للثمن، فالمؤمنون وأموالهم هم المبيع، والجنة، وما فيها هي الثمن، وإن هذه الآية تصور المؤمنين يقدمون أنفسهم يبيعونها لله تعالى بيع السماح راضين، فهم أنفسهم وأموالهم يملكونها لله تعالى والثمن أنه يعدهم بالجنة يدخلونها، وما هو أعظم من الجنة، وهو رضوان الله تعالى، ولم يذكر هنا لأن الآية تتضمنه؛ لأنه سبحانه وتعالى قد رضي بالصفقة، وهي تقديم النفس والمال، ولا يمكن أن يكون إلا ومعه الرضا عن البيع، وهو أعلى ما يملكه الإنسان، فهو النفس والنفيس.
وإن تلك العبارة مصورة، ولكنها وقعت قبيل الهجرة، ففي العقبة الثانية كانت المبايعة على هذا الأساس في البيع والثمن بين الرسول، والأوس والخزرج، وقد قال عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أشترط لربي أن تعبدوا
3451
الله ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال - ﷺ - الجنة، فقالوا نربح البيع لَا نقيل، ولا نستقيل.
وهذه بلا ريب صور حسية للعقد، وإن كانت الآية مصورة، لتسليم المؤمنين أنفسهم لله تعالى، العلي الحكيم، الغني الحميد، ويروى أن أعرابيا سمع هذه الآية، فقال: من يقول هذا؟ قالوا: الله. قال: بيع مربح.
وقد بين الله تعالى ثمرة البيع أو آثاره التي يتحقق فيها ما يجب على البائع، فإن عليه أن يقدم المبيع، فقال سبحانه وتعالى:
3452
(يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فالزمخشري ومن تبعه، على أن الفعل هنا بمعنى الأمر، أي عليكم أن تقاتلوا في سبيل الله، وقال إن ذلك كقوله تعالى: (... وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ...).
ونقول إن الإتيان بالصيغة الخبرية بمعنى الطلب كثير في القرآن، وهو من بلاغة القرآن، لأن المؤدي أنه كان الطلب فاستجاب بقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ...)، وقوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ...).
والوجوب هنا له قرائن شاهدة، لأن المقاتلة في سبيل الله تعالى من آثار العقد المبرم بين الله تعالى والمؤمنين إذا باعوا أنفسهم وأموالهم إليه، فهو المالك، وما يجيء بعد ذلك من تصرف المالك فيما يملك، والمقاتلة لَا تكون في سبيل الله تعالى إلا بشرطين - أولهما - إخلاص النية، فلا يقاتل لذات الغلب أو الفروسية، إنما يقاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا، فمن قاتل لغير ذلك لَا يكون قتالا في سبيل الله تعالى.
3452
والشرط الثاني - أن يدخل غير مستبق لنفسه، كما كان يفعل المجاهدون الأولون أمثال حمزة وعَلِي والزبير الذين يدخلون المعركة، فلا يدرون أيقعون على الموت، أم يقع الموت عليهم، ولذا قال تعالى:
(فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي فإذا دخلوا في القتال رضوا بمرارته، وإرادة النصر، وأن تكون كلمة الله تعالى هي العليا، فيقتلون الكفار في سبيل الله، ويقتلون هم في هذا، ولا يحسبون أنهم يخسرون في الحالين، فإن قتلوهم فذلك سبيل النصر، وإن قتلوا سارعوا إلى قبض الثمن في الصفقة التي عقدوها مع ربهم.
وفى هذا النص الذي ذكره القرآن الكريم أمران نتكلم فيهما:
أولهما - أن هذا النص يشير إلى أن الفرار لَا يجوز، لأنه ضَنّ بتسليم المبيع وهو النفس، ولا يضن مؤمن بتقديم ما عاهد الله تعالى عليه، وقد قال تعالى في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ).
الثاني أن هنا قراءتين - أولاهما - فيقتلون بالبناء للفاعل، والثانية بالبناء للمفعول، والقراءة الثانية العكس (١)، وكل قراءة قرآن، وبمجموع القراءتين تكون الآية داعية إلى ألا يفرقوا بين أن يَقتلوا أو يُقتلوا، فإن الملكية التي أثبتوها لله تعالى تسوغ ذلك، وتوحيه كما نوهنا.
وقد قدموا أنفسهم لله تعالى، وأكد الله تعالى أن الثمن الذي قدره، وهو مربح، ويزيد أضعافا مضاعفة على ما أعطوا - آت لَا محالة، لأنه وعده الذي وعده، ولذا قال تعالى: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) أي وعد الله وعدا حقا لَا يتخلف؛ لأن الله تعالى لَا يخلف الميعاد، وإذا كنتم قد قدمتم ما عندكم، فإن الله تعالى
________
(١) (يقتَلون ويَقتُلون): قراءة حمزة والكسائي، وخلف. وقرأ الباقون (فيَقتُلون ويُقتَلون). غاية الاختصار - (٩٧٦).
3453
مقدم ما وعدكم، وأكد سبحانه وتعالى وعده وعهده، فقال: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) هذا استفهام إنكاري بمعنى نفي الوقوع، والمعنى لَا أحد أوفى بعهده من الله، وجاء النفي على صيغة الاستفهام للتثبيت، وتأكيد النفي وتوثيق العهد، وسماه الله تعالى عهدا، لبيان قوته، وكان فيه طرفان، والله أعلى وأجل، وإذا كان الوفاء محققا لوعد الله تعالى بالوفاء.
وقد أكد الله وعده بأمور ثلاثة:
أولها: أنه حق ثابت مؤكد لَا يمكن أن يتخلف أبدا، وكيف يتخلف، وهو من الله العزيز الحكيم.
ثانيها: أنه ذكر أن الجهاد ثابت ما دام هناك حق يغالب باطلا، وأن الله تعالى وعد المجاهدين بالنصر، وأن جهادكم مذكور في التوراة والإنجيل والقرآن كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧).
وهذا النص يدل على أن الجهاد واجب؛ لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدل على أن الذين آمنوا عليهم أن يعزروه ويؤازروه وينصروه، ولأن الجهاد من اتباع النور الذي جاء به.
ولقد قال في سورة الفتح في وصف المجاهدين المؤمنين: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٢٩).
3454
ثالثها - قوله تعالى: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)، وذلك كقوله تعالى: (... وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، وكقوله عز من قائل: (... وَمنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)، وأن الإخلاف مستنكر لَا يقدم عليه الكرام، فكيف يكون من الله، ولا شك أن ذلك العقد المقدس كان خيرا على من عقدوه مع الله تعالى خالق وبارئ النسم. ولذا قال تعالت كلماته، (فَاسْتَبْشِروا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ)، الاستبشار طلب البشرى، أو نيلها، وقد نالوا هذه البشرى من الله تعالى، و (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن وعد الله إذا كان مقررا في الرسالات الإلهية التي جاءت بها التوراة والإنجيل والقرآن، فإن على الذين يحق عليهم العهد أن يستبشروا ببيعهم أنفسهم لله تعالى، فإن الثمن عظيم، وقوله تعالى الذي بايعتم به أي بعتم به أنفسكم، فتبايعتم على أن تقدموها، وتأخذوا بدلها ثمنا غاليا هو أغلى ما في الوجود من ثمن مقدر، وتسليمه محقق، وهو ممن يملكه.
وختم الله تعالى الآية بقوله عز من قائل: (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الإشارة إلى التبايع، أو الثمن، وهو الجنة وهو الفوز العظيم، وفيه قصر الفوز على العظمة، أي أنه فوز يعد فوزا عظيما خيره، اللهم اجعلنا من أهله.
وقد ذكر الله تعالى أوصافا للمؤمنين فقال تعالت قدرته:
3455
(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
هذه أوصاف ثمانية للمؤمنين تبين سلامة نفوسهم، ورقابتهم عليها لدوام تطهيرها، فكلما صدأت أزالوا صدأها، يتجه آحادهم إلى جماعتهم يزيلون ريبها، ويطهرون مجتمعها، ويجعلون لها رأيا عاما فاضلا يلتزم حدود الله تعالى التي حدها.
3455
ولنتكلم بكلمات موجزة مشيرة إلى تطهير أرواح المؤمنين: الصفة الأولى أنهم (التَّائِبُونَ)، وهم الذين يراقبون أنفسهم وتشتد فيهم قوة النفس اللوامة، فهم كلما أحسوا بأمر يدنس أمرها، أو يكون فيه شك، أو يكون غيره أولى، أو تركه أولى، تابوا فهم يراقبون أنفسهم، يتوبون دائما إلى ربهم منيبين إليه، وكان في يدهم مكيالا مملوءا ماء يزيل أي دنس يعتري نفوسهم بالتوبة كما يطهر أي غبار يقع على الثوب.
والوصف الثاني (الْعَابِدُونَ) بالقيام بحق الله تعالى، يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فهم يشعرون بأنه يراهم، والوصفان " التائب والعابد "، مقترنان أولهما للتخلية والثاني للتحلية.
والوصف الثالث (السَّائِحُونَ) أكثر المفسرين على أن السائحين هم الصائمون فقد ورد في الأثر: " إن سياحة أمتي الصوم " (١)، ولكن نرى أنه الجهاد في سبيل الله، فقد روى أبو أمامة أن رجلا استأذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في السياحة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " (٢).
وقال بعض العلماء إن المراد السياحة في طلب العلم.
وإننا نقول: الجمع بين الآراء أن نقول السياحة تشمل كل سياحة في سبيل الله، فتشمل السياحة في الجهاد، والسياحة في نشر الإسلام، والسياحة في تعرف أحوال المسلمين، كما تشمل سبح الفكر سائحا في ملكوت الله تعالى.
________
(١) ذكره أبو السعود في تفيره: ج ٤، ص ١٠٤.
(٢) رواه أبو داود: الجهاد - في النهي عن السياحة (٢٤٨٦). والمقصود من السياحة المنهي عنها هنا: سكنى البرارى، وترك المباحات والمألوفات قهرا للنفس.
3456
والوصفان الرابع والخامس (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) قالوا إن هذين الوصفين لإقامة الصلاة، وهي ذكر الجزاء وإرادة الفعل، فالصلاة قيام وقعود، وركوع وسجود، وقراءة ودعاء، واختص الركوع والسجود بالذكر؛ لأنهما الوصفان اللذان يتجلى فيهما معنى الصلاة، لأن إقامة الصلاة بإحسان الخضوع والخشوع لله تعالى. وإن إخلاص القلب بخضوعه الكامل، وتفويضه التام هو إقامة الصلاة، وكنى به عن معنى الإقامة فيكون من المعقول أن يعبر بركني الركوع والسجود عن الصلاة، وبهما يتحقق ما اختصت به الصلاة من أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويتحقق فيها ذكر الله تعالى.
بعد أن بين سبحانه الأوصاف التي تربي نفوسهم قلبيا واجتماعيا، ذكر صفتين تطهر مجتمعهم، وتجعل الفضيلة دائما هي السائدة.
وهاتان الصفتان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذا قال تعالى:
(الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ)، إن المجتمع الفاضل يقوم على الأمر بالمعروف، أي كل ما هو معروف لَا تنكره العقول السليمة، والنهي عن كل أمر تنكره العقول السليمة، فإن المجتمع الفاضل ظل لكل خلق سليم ينمو في ظله الوارف، ولذا كانت أمة محمد أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال تعالى: (كنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهم...).
والوصف الثامن قول تعالى: (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) الحد ما يحده الشارع فاصلا بين الحلال والحرام، ومعنى حفظه حمايته وصونه، ومن ذلك قوله تعالى: (... تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ).
ويطلق الحد في عرف الفقهاء على كل عقوبة ذكرها الله تعالى للجرائم التي تعد اعتداء على حق الله تعالى، أو كما يعبر في لغة العصر بحق المجتمع، فالحدود عقوبات على الرذائل وحماية للفضائل.
3457
وتدخل الحدود بهذا المعنى الفقهي الخاص في ضمن حدود الله التي تفرق بين الحلال والحرام، وحفظها صونها ومراعاتها، وألا يعتدى عليها.
وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله، بيانا لعاقبة الإيمان، وهي نيل الخير
والاطمئنان في الدنيا والجنات في الآخرة، ورضوان من الله أكبر، ولذا قال تعالى: (وَبَشِرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي بشرهم بحسن الجزاء كما ذكرنا، والله سبحانه وتعالى عنده حسن المآب، وكانت (الواو) في قوله تعالى: (وَالْحَافِظُونَ) لبيان أن هذا نوع مغاير لما سبقه وإن هذا جزاء المؤمنين، والمشركون لهم عذاب الجحيم، ولا يستغفر لهم أحد، إنما القربى بالأعمال، لَا بالقرابة؛ ولذا قال تعالى:
3458
(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣)
(... كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)، (... لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا...)، (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، تلك قواعد قرآنية توجب ألا يغني عمل إنسان عن إنسان غيره، ولقد كان بعض المؤمنين لمحبة رابطة بين أحد المؤمنين والمشركين يطلب المؤمن المغفرة لمن يحبه من المشركين لرحم جامعة أو قرابة رابطة، أو لمودة موصولة، فنهى الله نبيه صلى اِلله تعالى عليه وسلم عن ذلك هو ومن معه من المؤمنين، فقال تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) أي أصحاب قربى قريبة، فقربى مؤنث أقرب، أي ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، وقد رد الله تعالى استغاثة نوح لابنه، وقال: (... إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحً...).
يقول (مَا كَانَ لِلنَّبِي...)، أي ما ساغ له، وما صح للنبي الذي يدعو إلى الحق أن يستغفر لمن يصد عنه، ويعانده، ويقاومه، ما دام قد ضل لَا يحل الاستغفار له إذا مات على ضلاله، ولقد روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال في حال شدة قومه عليه في واقعة أحد عندما كسرت ثنيته: " اللهم اغفر
3458
لقومي فإنهم لَا يعلمون "، ألا يعد هذا استغفارًا؛ ويرد على ذلك بأن دعوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعوة بالمغفرة التي تلازمها التوبة، والتوبة محتملة وقريبة، ما داموا أحياء، فإذا ماتوا فقد انقطعت التوبة وصاروا من أصحاب النار، وهذا موضع النهي، فالاستغفار للأحياء يجوز لرجاء التوبة، والاستغفار دعوة بها، والتعبير للمشركين في قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).
والتعبير بالمشركين لبيان عدم شفاعة ربهم، وضلالهم في أن جعلوا الأحجار أندادا لله تعالى، وقوله تعالى: (وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى) أي مهما ربطتكم بهم الروابط كما ذكرنا، وذلك لتوثيق المنع، وتأكيده.
وقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أي ما كان للنبي والمؤمنين أن يستغفروا للمشركين من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وذلك بوفاتهم مشركين معاندين لرب العالمين، فإنه بعد الوفاة لَا رجاء في توبتهم، حتى يستغفر لهم، ولذلك قالوا: إن الأحياء من المشركين يجوز الاستغفار لهم، لأنه طلب المغفرة لهم، وطلب المغفرة يستدعي الدعاء لهم بالتوبة، والدعاء بالتوبة جائز، وأما الاستغفار لمن مات فقد تبين أنه في الجحيم، ولا توبة، لأنه انتقل من دار التكليف إلى دار الحساب والجزاء، وفي قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) ملاحظتان بيانيتان:
الأولى: في قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ) فإنها تشير إلى ما فعلوا من أذى عاينوه، وعناد قاوموا به الحق، ثم ماتوا وهم كارهون للحق وأهله مقاومين كافرين بالله ورسوله.
الثانية: في التعبير بـ (أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، أي الذين يلازمونها، والتعبير يشعر بأنهم مقصورون عليها ومقصورة عليهم أي لَا يتجاوزونها أبدا، وهي لازمة لهم ولأمثالهم.
3459
قال تعالى:
3460
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
نهى اللَّه تعالى نبيه والمؤمنين عن أن يستغفروا للمشركين، وقد استغفر إبراهيم لأبيه في فترة من الزمان؛ لأنه كان يرجو أن يتوب ويغفر له، ولكن تبين له بعد ذلك أنه عدو لله، وإن هذه الإشارة الموجزة تؤكد نهي النبي صلى اللهْ تعالى عليه وسلم وأصحابه عن أن يستغفروا للمشركين.
وقوله: (إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) وتلك الموعدة ما صرح به في سورة
مريم محاجته مع أبيه، فقد قال تعالى في هذه المحاجة: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٤١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (٤٥) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨).
هذه الموعدة التي وعدها لأبيه، لأنه كان يرجو أن يتوب، وأن يغفر له اللَّه تعالى، فالاستغفار كان بطلب المغفرة التي تجيء التوبة لازمة لها، والتوبة محتملة، وممكنة؛ لأنه كان حيا، فلما تبين له استمراره على غيه، وعداوته لله بصناعة الأوثان التي تعبد من دون الله تبرأ منه. وجاء في سورة الممتحنة، فقد قال تعالى:
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤).
3460
وعد إبراهيم بالاستغفار لأبيه، ولما مات مشركا، وهو على غيه في صناعة الأصنام وعبادتها، تبرأ منه وصارت مثلا للمؤمن في تبرؤه من أبيه الذي كان إبراهيم له برا، ويراد له الهداية.
ثم بين الله تعالى الباعث النفسي الذي بعثه على الاستغفار لأبيه رجاء توبته، وبعدها المغفرة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) الأواه كثير التأوه لرقة قلبه وشدة إحساسه، وفرط محبته لأولى قرباه، وحليم عاقل صبور مدرك لمن ينبغي أن يرحم، ومن يتبرأ منه، واللَّه غفور رحيم.
* * *
قال تعالى:
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
* * *
3461
(الواو) تدل على وصل هذه الآية بما قبلها، وما قبلها كان نهيا عن لاستغفار للمشركين، وجاءت قصة إبراهيم عليه السلام في استغفار إبراهيم لأبيه
3461
تتمة للنهي عن الاستغفار، وقد كان من المؤمنين من دفعته الرأفة بآله، أو ذوي القربى أن استغفر لهم، فكانت الآية لبيان أنه (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)، لبيان أنه لَا مؤاخذة من غير تكليف، وخصوصا لمن اختار سبيل الهداية.
وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) نفي مؤكد عن ذات اللَّه تعالى، أن يكون منها إضلال لمن اهتدى وعلى قول أكثر المفسرين، ولتكون الآية مرتبطة بما قبلها ارتباطا وثيقا يكون معنى (لِيضِلَّ) الحكم بالضلالة والمؤاخذة عليها، قبل أن يبين سبحانه ما يُتَّقى من الضلالة، فكما أنه سبحانه لَا يعذب إلا بعد رسول مبين بمقتضى قوله تعالى: (... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وكذلك لَا يؤاخذ سبحانه بذنب ارتكب إلا بعد بيان أنه ذنب، والطريق لاتقائه، وهذا على أن الهداية التي هداهم اللَّه هي الدخول في الإسلام فلا يحاسبك على شرب الخمر إلا بعد النهي عن الشرب، ولا على الزنى إلا بعد النهي عنه، ولا على القذف إلا بعد النهي عنه، ووضع الحدود المانعة من الارتكاب، وما كان اللَّه تعالى ليؤاخذ على الاستغفار إلا بعد النهي عنه، وفي النهي بيان لما يتقون به المؤاخذة.
وقد خطر لي، وأنا أكتب، أن يكون المعنى، وما كان اللَّه تعالى ليأخذ قوما ساروا بمقتضى الفطرة الإنسانية، والميثاق الذي أخذه عليهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، فهذه هي الهداية الفطرية التي فطر الناس عليها، فهذا معنى قوله تعالى: (إِذْ هَدَاهُمْ) أي وقت أن هداهم في بدء الخليقة وقوله تعالى: (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَّا يَتَّقونَ) أي حتى يبين ما يؤيد الفطرة ويدعمها، ويبين لها ما تتقيه بأن تجعل بينها وبينه وقاية، فلا تقع فيه، والحاجز المانع هو أمر اللَّه تعالى ونهيه، وتكون متطابقة تماما مع قوله تعالى: (... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
3462
وقد ختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تأكيد لعلمه الذي يعم الوجود كله بالإحاطة والشمول، وبالتأكيد بـ (إن)، وبتصديره الجملة السامية بلفظ الجلالة، وبمقتضى علمه الذي عم الوجود كله، يقدر كل شيء، ويدبره على مقتضى علمه وحكمته.
وقد جاء في الآية التالية ما يؤكد عموم علمه؛ لأن كل الوجود ملكه، يتصرف فيه تصرف المالك فيما يملك، فقال تعالى:
3463
(إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١١٦)
هذه الآية أثبتت ملك اللَّه تعالى وسلطانه، ولقد أراد البيضاوي أن يربط بين هذه الآية والأمر بالبراءة من المشركين والاستغفار لهم إذا ماتوا على الضلالة، فقال رضي اللَّه تعالى عنه: (لما منعهم من الاستغفار للمشركين، ولو كانوا أولي قربى)، وتضمن ذلك وجوب التبرؤ منهم رأسًا، وبين لهم أن اللَّه مالك كل موجود ومتولي أمره، والغالب عليه ولا تتأنى لهم ولاية، ولا نصرة إلا منه ليتوجهوا إليه ويتبرءوا مما عداه، حتى لَا يبقى لهم مقصد فيما يأتون ويذرون سواه، اهـ.
ونرى مع ما رآه البيضاوي أن الآية الكريمة تؤكد علم اللَّه تعالى الذي ختمت به الآية السابقة، فهذه الآية السامية الأخيرة، تؤكد علم الله تعالى الشامل، وتبين سببه، وتبين سلطان اللَّه تعالى المطلق، الذي يدبر كل شيء فيه على مقتضى علمه وحكمته التي أقامت الوجود، ورتبه ونمقه، وأبدعه كله (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ...).
وإن ملكه لَا يكون على الإنسان فقط، بل هو على السماوات بأبراجها والأرض بطبقاتها لَا يخرج عن ملكه شيء في السماء، يحيي ويميت، وفي ذلك
3463
إشارة إلى الوصف الذي يحياه الحي كافرا، أو مؤمنا، والحال التي سيموت عليها مؤمنا أو كافرا، وأن لَا استغفار لمن لم يرج توبته، ولا استغفار لمن مات، وأغلق أبواب عمله في الدنيا.
(وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) الخطاب للمؤمنين ومعناه، وما لكم أيها المؤمنون من ولي يواليكم وتحبونه إلا اللَّه تعالى، ولا نصير ينصركم سواه، فلا تؤثروا عليه قرابة، فلا ترأفوا بمن عصى اللَّه تعالى ورسوله الذي أرسله رحمة للعالمين، وإنه سبحانه أولى بخلقه يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
ولقد بين اللَّه سبحانه مآل الذين تخلفوا والذين اتبعوه في ساعة العسرة في غزوة تبوك فقال تعالى:
3464
(لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١١٧)
كانت غزوة تبوك اختبارا شديدا للمؤمنين وقد تحقق فيها كل البلاء، وتعلم فيها المؤمنون معنى، وصدق عليهم قول الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦).
ولذا ذكرها اللَّه سبحانه وتعالى ببعض التفصيل، وكرم الذين صبروا، وعاقب الذين خذلوا وثبطوا ثم تخلفوا، وعاتب المؤمنين الذين تخاذلوا في وقت الدعوة إليها، وذلك لأن الصبر في مثل هذه الحال مناط العزة والرفعة، ويجب أن يكونوا كحال هؤلاء الصابرين، ليعتزوا بالإسلام، ويعتز بهم المسلمون في الأرض كلها.
وقد نالهم البلاء كله، فنالهم الخوف، ولولا أن الرسول بينهم، ما استطاعوا الذهاب إلى الرومان، لقد كان من شأن حرب بني الأصفر أن يلقى في قلوبهم
3464
الرعب، وكان المنافقون بينهم يبثون - ذلك الخوف، ويلقون في النفوس الذعر ونالهم الخوف والجوع ونقص الثمرات، إذ تركوها في المدينة وقد نضجت فلم يحصدوها، وكان الجوع والعطش وهم سائرون في شقة بعيدة، جاء في تفسير الحافظ ابن كثير في تصوير المشقة في هذه الغزوة التي أرهبت الرومان وكانت إرهاصا بفتح الشام، فروي عن قتادة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خرج بالمؤمنين في لهبان الحر وأصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما.... وروي عن ابن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة فقال عمر بن الخطاب في وصف ما نالهم: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من شدة العطش، وحتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره، ليعصر فرثه، فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه إن اللَّه عز وجل قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا فقال - ﷺ -: " تحب ذلك؟ " قال: نعم، فرفع يديه، فلم يرجعها حتى سالت السماء وأهطلت، ثم سكنت فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر (١)، هذا ما جاء في ابن كثير، وجاء في غيره أن الرواحل لم تكن موفورة، بل كان العشر يعتقبون على راحلة واحدة أو بعير وإن لم يكن راحلة.
هذه هي المشقة أو إشارة إليها وذكرها القرآن ليبين كما ذكرنا من قبل، كيف يكون الجهاد، وكيف يكون طلب العزة، ورفع الذلة، وكيف يكون الاطمئنان والقوة، وكيف يكون جسر التعب الذي لَا بد لنيل الحياة العزيزة الكريمة من المرور عليه.
يقول تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) ساعة الحسرة أي وقت الشدة في الجهد، والمال، والحر الشديد،
________
(١) البداية والنهاية: ج ٦، ص ٢٣١.
3465
وطريق الوصول إلى المكان المنشود، ومحاربة قوم غلاظ شداد هم الذين كانت لهم السطوة.
وقد أشارت الآيات السابقة إلى أن المهاجرين والأنصار كانوا السابقين، وإلى أن الذين تخلفوا، قال سبحانه فيهم ما كان عتبا قاسيا، فيه عقاب لنفوسهم المؤمنة، وبين فيما مضى المخلفين نفاقا وضعفًا في الإيمان.
يقول تعالى: لقد تاب اللَّه تعالى على النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم من أخطائه التي وقع فيها كإذنه للذين استأذنوه من المنافقين، وهو يعلم كذبهم، وكذلك اجتهاده في أمر الأسرى فأخذ فداء الأسرى قبل أن يثخن، ونحو ذلك مما يتعلق بالحروب، والمعاهدات التي تعهد فيها النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، ويبين اللَّه تعالى أنه أخطأ في اجتهاده، وما كان اجتهاده وتخطئة اللَّه تعالى إلا ليعلم الذين يجيئون من بعده أن الذين يجتهدون بعقولهم يخطئون، وهذا سيد البشر، إذا اجتهد فقد يخطئ، فإن الحاكم أيا كان عرضة للخطأ وليس له أن يستبد بفكره، ويقول مقالة فرعون ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
ولقد تعلق الجهلاء من النصارى، ولو كانوا في مناصب عالية عندهم، وادعوا أنهم من فلاسفة هذا الزمان، أن عيسى عليه السلام أفضل من محمد صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، لأنه لم ينسب إليه ذنب يغفر، ومحمد عليه الصلاة والسلام غفر له كما قال تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ...)، وقال تعالى: (لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِي وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) فنقول إن ذلك جهل فاحش، أو هوى فاسد، أو هما معا.
أولا - لأن التوبة مقام من مقامات العبودية، والخضوع للذات الألوهية، ولذا وصف الأتقياء بأنهم التوابون، لأن التوبة تنبعث من إحساس بعلو المقام الإلهي، وتفتيش النفس، والبعد عن الغرور، والشعور بالتقصير نحو الذات
3466
العلية، مهما تكن الأعمال الصالحة، فالعابد يستصغر ما يفعل في جنب اللَّه مهما يكن كبيرا، فيتوب عما يحتمل من وجود تقصير أو فوات طاعة واجبة.
وثانيا - أن الأخطاء التي لَا يؤاخذ عليها بحسن فرط طاعته، واستجابته لما يطلبه العلي الأعلى بأنها ما كانت تجوز، وأنها تخالف الطاعة المطلقة التي هي حق اللَّه على عباده، وخصوصا الأنبياء الذين هم صفوة خلق اللَّه تعالى.
وثالثا - أن محمدا صلى اللَّه تعالى عليه وسلم كان بمقتضى دين الفطرة، ومعالجة أحوال الناس، والجهاد في دعوة الحق، معرضا لأن يخطئ، لَا أن يذنب، ولفرط طاعته، واستقامة نفسه يحس بأن خطأه كالذنب، والرضا به لَا يتفق مع مقامه من اللَّه تعالى الذي يخاطبه.
ورابعا - أن التوبة يجب أن تكون خلة ثابتة من خلال المؤمنين؛ لأنها رجوع إلى اللَّه تعالى، والمؤمن لَا يجوز أن تغره الحياة، فلا يرجع إلى اللَّه تعالى، فالرجوع إلى اللَّه بالتوبة يجب ألا يغفل المؤمن عنها؛ لأنها في ذاتها تجديد للإيمان، وتذكير بالطاعة المستمرة، وتوبة محمد سيد البشر دعوة للمؤمنين لأن يتوبوا كما قال تعالى: (... وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١).
وخامسا - أن النفوس كلما علت أحست بأن الهفوات كأنها ذنوب، فتلجأ تائبة بالإنابة إلى ربها، وهذا ما يقوله العلماء: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وبهذا يتبين أن التوبة، والغفران والإحساس بالخطأ كأنه ذنب سمات الأبرار والعلو في مقام إدراك معنى الربوبية والعبودية، وليس نقصا في الذات النبوية ذات أفضل البشر.
وذكر بعد النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم المهاجرين؛ لأنهم الذين كونوا الخلية الأولى للإسلام، ولأنهم الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ابتغاء نشر
3467
الدعوة الإسلامية، واستمساكا بدينهم، وكان الأنصار الذين آووا ونصروا، وإذا كان المهاجرون آزروا النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، وأقاموا معه الدعامة الأولى لبناء الإسلام، فالأنصار هم الذين عاونوا النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم في إقامة الدولة الإسلامية، وإذا كان الأولون هم قوم النبي - ﷺ - وأقرباءه، فالأنصار هم أحباؤه الذين أقسم لهم وإنه لصادق: " لو سلك الناس شعبا، وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار "، والذين دعا لهم فقال: " اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار " (١)، رحمهم اللَّه ولعن من أذاهم وأبى.
وقد وصف اللَّه المهاجرين والأنصار بوصف يبين حالهم في حال الشديدة التي كانت في تبوك ففال: (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ)، والساعة الجشء من الزمن كالغداة، والعشي، والظهيرة، وهذا وصف كاشف لحالهم ولخبيئه، فالمهاجرون الذين تركوا الدار والأهل والمال هم الذين اتبعوا النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم في ساعة الشدة، وكذلك الأنصار الذين آووا ونصروا، وكانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة هم كذلك الذين اتبعوه في ساعة العسرة، وقد ذكرنا بعض ما كان من عسرة شديدة، حتى أن الأعناق كادت تنقطع من شدة العطش لولا دعاء الرسول صلى اللَّه تعالى عليه وسلم.
وقد صور اللَّه تعالى شدة العسرة على بعض النفوس فقال تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ منْهمْ)، أي أن الشدة بلغت أقضاها حتى كادت تزيغ قلوب أي تنحرف وتضل قلوب فريق منهم، ولكنهم لم يزيغوا، ولم يضلوا، بل اصطبروا، ومرت الشديدة، وانتهوا إلى الاطمئنان.
وقال تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) الضمير في (عَلَيْهِمْ) إما أن يعود إلى المهاجرين والأنصار، ويكون تأكيدا لقبول توبة اللَّه لهم، وإما أن يعود على الذين كادت تزيغ قلوبهم، وهذا ما نميل إليه، ويكون المعنى إن العسرة كانت شديدة
________
(١) سبق تخريجه.
3468
لجوجا، حتى كادت تزيغ قلوب فريق من هؤلاء المهاجرين والأنصار ولكن اللَّه سلم، وارتدت أفئدتهم فتاب اللَّه تعالى عليهم بسبب تلك الخواطر التي جاشت، وكادت تضلهم وإن ذلك من رأفة اللَّه تعالى بهم، ولذا ختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رحِيمٌ) الضمير يعود على اللَّه جل جلاله، وهو مذكور قريبا من النص الكريم، وهو حاضر دائما في القلوب والعقول لمن تذكر، وتقديم الجار والمجرور في (بِهِمْ)، دليل على كريم العناية، يرأف بهم ويرحمهم، ويختصهم بذلك.
وكان في المخلفين ثلاثة تخلفوا من غير معذرة أبدوها، ومن غير سبب يبرر التخلف، وأحسوا بأنفسهم اللوامة تلومهم، وأمر النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بمقاطعتهم تأنيبا وتهذيبا، وتربية لضمائرهم، فهؤلاء بعد التجربة الشديدة تاب اللَّه تعالى عليهم، ولذا قال تعالى:
3469
(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
(الواو) عاطفة، والمعطوف عليه قوله تعالى على النبي والمهاجرين والأنصار، أي أن اللَّه تعالى تاب على النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم وعلى المهاجرين والأنصار، وعلى الثلاثة الذين خلفوا بعد أن طهروا قلوبهم، ومنهم من خرج من ماله كله، ولنتكلم في معاني ألفاظ النص القرآني السامي.
ووصف اللَّه الثلاثة بأنهم (خلِّفُوا) أي تركوا، ولم يكونوا مع الذين نفروا للجهاد في تبوك، وعبر اللَّه تعالى بالبناء للمجهول، ولم ينسب إليهم أنهم تخلفوا، بل لم يذكر مَنْ خَلَّفَهُم، وإنما الواقع أنهم ما أرادوا القعود ابتداء، من وصف حالهم أنهم تباطأوا، وأخذوا يؤجلون يوما بعد يوم، حتى فاتهم الركب، فهم خُلِّفوا، ولم يريدوا التخلف ابتداء ولكن آل أمرهم إلى التخلف، وما أن
3469
بلغهم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وصل إلى تبوك، حتى أخذ الندم يغزو قلوبهم حسرة على أنهم لم يسارعوا، ولما لقيهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مغضبا منهم، إذ كان يعرف فيهم النجدة والإيمان، وكلهم كانوا من الأنصار، وهم مالك بن كعب بن مالك ومرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي.
ولقد تخلف منافقون فلم يبال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بهم، وتخلف مؤمنون، واعتذروا فقبل النبي أعذارهم، ولكن هؤلاء الثلاثة أحسوا بأنهم لا أعذار لهم، وأبوا أن يكذبوا فالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى فيهم خيرا، ورأى فيهم قصورًا قد وقعوا فيه، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى أن يهذب نفوسهم بالاستنكار للفعل من جماعة المؤمنين فأمر المؤمنين ألا يخاطبوهم، ثم رأى أن يعتزلوا نساءهم، وألا يلقوهن، وأجاز لشيخ فيهم أن تلقاه امرأته، ولكن يعتزلها، ومكثوا على ذلك خمسين ليلة ثم نزل الوحي بقبول توبتهم، هذا ما يدل عليه قوله تعالى: (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَت)؛ بتلك المقاطعة، أي أن الأرض باتساعها ورحبها صارت أضيق من كفة الحابل، لأنهم لَا يستطيعون الحركة لها، إذ فقدوا الأنس بالناس وخصوصا الذين طهرت نفوسهم، وزكت أرواحهم، ففي الكلام مجاز خلاصته أنهم شعروا بضيق الناس بهم لَا يقرئونهم سلامًا ولا يقولون لهم كلامًا أيا كان الكلام، لومًا أو عتابًا، أو تقريعًا، أو أي نوع من الكلام يسمعون، فعبر عن هذا بأن الأرض ضاقت بهم مع اتساعها ورحبها.
وانتقل تبرم الناس بهم إلى تبرمهم بأنفسهم، فصارت نفوسهم كأنها عبء ثقيل عليهم، (وَظَنُّوا أَن لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) الظن هنا بمعنى العلم، أي علموا أنهم لَا يجدون ملجأ من أمر الله تعالى إلا أن يلجأوا إليه هو، فاستقامت نفوسهم راجعة إليه بمعاودة التوبة وتكرارها، شاعرين بأنه راحمهم (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (ثم) هنا للتراخي، لأنه قد مضت عليهم خمسون ليلة يحسون بالقطيعة، وبعد الخمسين تاب عليهم بأن أمر النبي والناس أن يقربوا إليهم، وألا
3470
يجافوهم، وأن يعيشوا بين المؤمنين، لأنهم منهم، وقوله تعالى: (لِيَتُوبُوا) أي ليجددوا توبتهم، ويداوموا عليها فيكونوا من التوابين الذين يرجعون إلى الله تعالى دائما، (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، أي أن الله تعالى يقبل توبة عباده كثيرا فقال ما يدل على أن قبول التوبة النصوح المخلصة من صفاته، وقد قال تعالى في وصفه سبحانه: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ...).
ومن الخير في هذا المقام أن نذكر ابتداء غزوة تبوك ونهايتها، ونعرف كيف كان المهاجرون والأنصار، يتزاحمون على الذهاب مع شدة الحر، وإثمار الغرس وإحصاد الزرع، ولكن الجهاد أبقى وأوفر.
جاء في الصحاح أنه روى أن ناسًا من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم من بدا له كره مكانه، فلحق به، وعن الحسن البصري، بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيرًا من مائة ألف درهم، فقال: يا حائط ما خَلَّفني إلا ظلك وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل الله، ولم يكن لآخر إلا أهله، فقال: يا أهلاه ما أبطأني ولا خلفني إلا الضن بكم لَا جرم والله لأكابدن المفاوز حتى ألحق برسول الله، فركب ولحق به، ولم يكن لآخر لَا أهل ولا مال فقال: يا نفس ما خلفني إلا حب الحياة، والله لأكابدن الشدائد، حتى ألحق برسول الله فتأبط زاده ولحق به... وعن أبي ذر أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره، واتبع أثر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ماشيا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لما رأى سواده، " كن أبا ذر "، فقال الناس: هو ذاك فقال - ﷺ -: " رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث " (١) وحده، وعن أبي خيثمة، أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله تعالى عليه
________
(١) رواه الحاكم في المستدرك: ج ٣، ص ٥٢. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
3471
وسلم في الضح، والريح!!.. ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح، فمد رسوله صلى اللَّه تعالى عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال: " كن أبا خيثمة "، فكانه، ففرح به رسول الله صلى اللَّه تعالى عليه وسلم واستغفر له. الكشاف للزمخشري.
وكان الثلاثة من هذا الصنف المخلص، ولكن لم ينبعث في نفوسهم ما انبعث في نفوس هؤلاء، وقد يكون الخاطر يخطر، ويحول مجرى النفس من اتجاه سليم إلى غيره، وقد يكون غيره، واللَّه عليم بذات الصدور.
هذا ذكر للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
ولنقص قصص الثلاثة كرواية أحدهم وأجرئهم في الحق مالك بن كعب.
لقد قدم النبي صلى اللَّه تعالى عليه السلام المدينة، وكان كلما قدم من سفر صلى ركعتين، ثم جاء المتخلفون وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فأبدوا معاذيرهم، فصدقها، ووكل باطنهم إلى اللَّه تعالى.
ولما جاء مالك بن كعب هذا ولنترك الكلمة له قال: " فلما سلمت عليه، فقال لي: ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرا؟ فقلت: يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلا ولكن واللَّه لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني، ليوشكن اللَّه أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك من اللَّه عز وجل، واللَّه ما كان لي عذر واللَّه ما كنت أفرغ ولا أيسر مني يوم تخلفت عنك، قال: فقال رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضى اللَّه فيك، فقمت وقام إلى رجال من قومي، واتبعوني، فقالوا لي: واللَّه ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد
3472
كان كافيك من ذنبك استغفار رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم لك. فقال: فواللَّه ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي.
قال: ثم قلت: هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت فمن هما، قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي قال: ونهى رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فبلغنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباس فاستكانا وقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم وأقول في نفسي: أحرك شفتيه برد السلام عليَّ أم لَا؟، ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال على ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك اللَّه، هل تعلم أني أحب اللَّه ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت له فنشدته فسكت ثم قال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي من الدموع، وتوليت حتى تسورت الحائط فبينما أمشى بسوق المدينة إذا أنا بنبطى " أي فلاح "، من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة ويقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون إليَّ، حتى جاء فدفع إليَّ كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فإذا فيه:
(أما بعد فقد بلغني أن صاحبك قد جافاك، وإن اللَّه لم يجعلك بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك).
3473
فقلت حين قرأته: (إن هذا أيضا من البلاء، فَتَيممت به التنور، فسجرته).
حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم يأتيني يقول لي: يأمرك رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟، فقال: اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي اللَّه في هذا الأمر ما يشاء!! قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول اللَّه - ﷺ - فقالت: يا رسول اللَّه، إن هلالا شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: لَا، ولكن لَا يقربك، قالت: واللَّه ما به من حركة إلى شيء، وإنه واللَّه ما زال يبكي منذ ما كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.
فقال بعض أهلي: لو استأذنت رسول اللَّه في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه، فقلت: واللَّه لَا أستاذن فيها رسول اللَّه، وما أدرى ما يقول فيها إذا استأذنته، وأنا رجل شاب، فلبثنا عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا.
قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على هذه الحال... سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء الفرج من اللَّه عز وجل بالتوبة علينا، فآذن رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بتوبة اللَّه علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا.... وانطلقت أؤم رسول اللَّه، وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بتوبة اللَّه، يقولون لتَهنِكَ توبة اللَّه عليكم، حتى دخلت المسجد فإذا رسول اللَّه جالس في المسجد والناس حوله فلما سلمت على رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ". قلت: أمن عندك يا رسول اللَّه أم من عند اللَّه؟، قال: " لا بل من عند الله "، وكان رسول اللَّه إذا سر استنار وجهه.
3474
وذكر من بعد أنه كان من توبته أن ينخلع عن كل ماله، فقال: " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " فأمسك سهمه الذي أخذه في غزوة خيبر، وانخلع عن باقي ماله (١).
وهنا نقف وقفة قصيرة نتحدث فيها بثلاثة أمور:
أولها - لماذا أهمل أمر الذين تخلفوا وقدموا معاذير جلُّها كاذب، وأقلها فيه صدق، نقول: ترك أولئك لأن الكاذب منهم لَا يرجى منه خير، ولو عوقب ذلك العقاب ما أجدى معه، وربما عاند فزاد ضلالا، والنبي - ﷺ - لَا يقدم على عمل يزيد الضلال ولا ينقصه، وربما كان الترك أجدى، والله يهدي من يشاء.
أما هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا، والصدق بر وهو يهدي إلى البر، وكان لابد من أن يرحض عن نفوسهم ما علق من شائبة التخلف، وذلك بالهجر الجميل، الذي أحسوا فيه بمغبة عملهم، وزاد نفوسهم صفاء.
الأمر الثاني: أنهم صبروا أعنف الصبر وأقواه، وهو الصبر على الحرمان من الأنس بالناس، والالتقاء نفسيا بمن يحبونهم، ويخالطونهم، فإن الإنسان اجتماعي مدني، تعيش نفسه في وسط نفوس متجاوبة.
الأمر الثالث - أن استنكار القبيح، أو ما يظن فيه قبح يغسل النفس منه، وإن المجتمعات الفاسدة هي التي لَا يستنكر فيها فعل القبيح، ولو تكاثر عدد الصالحين، فالاستنكار مهذب الإثم، والله سبحانه هو الحكيم العليم.
* * *
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: المغازي - حديث كعب بن مالك (٤٤١٨)، ومسلم: التوبة - حديث توبة كعب بن مالك (٢٧٦٩).
3475
الصدق والجهاد قوة الأمم
قال اللَّه تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
* * *
إن الصدق أخص ما امتاز به الثلاثة الذين خلفوا في الأرض، وكانوا صفوة اللَّه ورسوله، رحض خطأ التخلف عن نفوسهم، ولقد صبروا على الاختبار، وصقلت نفوسهم، حتى قال النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم لأحدهم: " إنك منذ الليلة عدت كما ولدتك أمك "، لذلك كان يناسب هؤلاء أن يكون الأمر العام بالصدق ليرتفع كل مؤمن إلى هذه المرتبة التي تولى اللَّه تعالى تربيتهم، ومن يتولى اللَّه تربيته يحسن هذه التربية، ويكون ربانيا.
يقول تعالى:
3476
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) اقترن الأمر بالتقوى مع الأمر بالصدق والدخول في زمرة الصادقين؛ لأن التقوى هي
3476
امتلاء النفس بخشية اللَّه تعالى، والوقاية مما يغضبه ولا يرضيه، فهي وقاية من العذاب، ومن هذه الوقاية طلب الرضا، فلا يقي من غضب اللَّه إلا طلب رضاه بطاعته ومحبته وعبادته، وإن الصدق طريقها، وهما معا، " ولقد سئل النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا؟ فقال: يكون، فقيل: أيكون بخيلا؟ قال) يكون، فقيل: أيكون كذابا؟ قال - ﷺ -: لَا يكون المؤمن كذابا " (١) وقال في الأمر بالصدق (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي كونوا في صحبتهم رحمهم اللَّه، مثل الذين صدقوا في تخلفهم وغيرهم من الصادقين، و (أل) للاستغراق تشمل كل صادق من المؤمنين، فلا يقصد جمع معين؛ لأنه لَا عهد ليعين ذلك الجمع، فاللفظ يكون على عمومه، وتكون للاستغراق وعموم أصل الصدق الذين يصير الصدق وصفا ملازما لهم، ولقد قال - ﷺ -: " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللَّه صديقا "، ويقول - ﷺ -: " إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابا " (٢).
والصدق ليس مقصورا في معناه على الصدق في الخبر، بل إن ذلك أظهره وأقربه، وإن كان يشمل صدق الإيمان بأن يؤمن باللَّه ورسوله، وأن يقوم بما يوجبه الإيمان، ويصدق في الجهاد، ويصدق أمام الناس في إيمانه، فلا يخالف لسانه قلبه ولا عمله قوله، ومن الصدق صدق النفس فلا يكذب على نفسه، فيحسن عمله وهو قبيح، ولا يخدع نفسه، ومن الصدق الإخلاص في كل ما يظهر على لسانه، فلا يخادع ولا ينافق، وفي الجملة الصدق ملاك الأخلاق الفاضلة، والإيمان الصحيح، والعمل الصالح.
________
(١) موطأ مالك: الجامع (١٨٦٢) عن صفوان بن سليم رضي الله عنه.
(٢) سبق تخريجه.
3477
وقوله تعالى: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) يفيد أن اللَّه تعالى يحث المؤمن على أن يعيش في بيئة يكون فيها الصدق سائدا، والبر مسيطرا، فإن فساد البيئة الفكرية والخلقية يؤدي إلى عموم الفساد، والبيئة الصالحة، تهذب آحادها، وتجعل الشر يختفي والخير يظهر، وظهور الخير يدعو إليه، وظهور الشر يحرض عليه.
وقد حرض الله تعالى أهل المدينة بعد الأمر بالصدق على الجهاد؛ لأن الجهاد من صدق الإيمان كما أشرنا عند الكلام في معنى الصدق، فقال تعالى:
3478
(مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ... (١٢٠)
قوله تعالى: (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم...) نفي للشأن والكون، أي ما كان من شأن أهل المدينة من مهاجرين وأنصار آووا ونصروا وهم أهل النجدة والإيواء، ومن حولهم من الأعراب الذين أشربوا الإيمان أن يتخلفوا عن رسول اللَّه - ﷺ -، ويؤثروا الدعة والراحة، ويتركوه وحده يكابد المشاق، ويتحمل المتاعب في سبيل عزهم ورفع دينهم، ما ساغ لهم ذلك، وهم يرغبون في الدعة وطيب العيش الرغيد، وقوله تعالى: (عَن نَّفسِهِ)، أي متوقفين عن نفسه في أن يرغبوا له ما رغب فيه لهم.
لقد قال الزمخشري في ذلك: أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط، لَا أن يقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علما بأنه أعز نفس عند اللَّه وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها، للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيموا لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها، ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفس رحيمة.
3478
والمعنى على هذا في قوله: (وَلا يَرْغَبُوا بِأنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ) أي لَا يصونوا أنفسهم عما يرغبون فيه من عيش رغيد هين، وظل ظليل فلم يصونوا أنفسهم عن رغباتها، كما لم يُصن نفسه عن رغباتها.
ولنا أن نقول: إن عن نفسه معناها متجاوزين نفسه، ولذا كان التعدي بـ (على)، و (لا) في قوله تعالى: (وَلا يَرْغَبُوا) لتأكيد النفي بـ (ما)، أي ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول اللَّه، ولا كان لهم أن يرغبوا بأنفسهم، فتكرار النفي تأكيد له.
وإن هذا خبر في موضع الطلب بأبلغ معاني الطلب، فيكون المعنى لا تتخلفوا عن رسول الله إذ يخرج للجهاد، ولا ترغبوا في الدعة، والإقامة في بحبوحة العيش، وتتركوا الرسول يخرج للجهاد وحده وإن ذلك له جزاؤه، ولذا قال سبحانه بعد ذلك مبينا الجزاءة (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ). الإشارة في قوله تعالى: (ذَلِكَ) إلى النهي المفهوم من قوله تعالى: (مَا كانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم).
إن هذا النفير من أهل المدينة المأمور به، والمنهي عن التخلف عنه، وألا يرغبوا بأنفسهم، كما فعل أبو ذر إذ خرج يتبع الرسول حتى حسب أن بعيره يبطئه عن الوصول إلى الرسول، فسار على قدميه يحمل متاعه وآلة الحرب، وكما فعل أبو خيثمة وكانت له زوجة حسناء، قد تزوجها حديثا، فرطبت له الأرض بالماء وفرشت له الحصير، وقدمت له الرطب والماء فتذكر الشدة التي فيها الرسول وصحبه من المهاجرين والأنصار، فترك ذلك كله، وركب بعيره حتى لحق برسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، كما ذكر ذلك بسبب أنهم قد أدركوا وفهموا وعد
3479
اللَّه تعالى واللَّه لَا يخلف الميعاد؛ وبسبب أنهم (لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش شديد كذلك الذي اعتراهم في تبوك حتى كادت أعناقهم تتقطع من العطش، لولا أن النبي استسقى السماء لهم فأغدقت. (وَلا مَخْمَصَةٌ) أي جوع شديد، كالذي أصابهم في هذه الغزوة، التي فتحت الباب للشام، إذ أصابهم جوع شديد حتى إنهم كانوا يتقاسمون التمرة، (وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفارَ) أي لَا ينزلون أرضا تدخل في حماية الكفار، يكون وطؤها فيه غيظ لهم، إذا انتهكوا حمى أرضهم، ولم يستطيعوا حمايتها من جيش الحق والإيمان، وذلك فيه عنت شديد لهم وإهدار لحرمات أرضهم، وفي ذلك إذلال لهم بعد أن كانوا لَا يمس أحدهم حماهم الذي يحمون (وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا)، بأن يحاربوا فيهزموهم.
أي أن ظمأهم الشديد، وجوعهم الذي صبروا عليه، ووطأهم أرض العدو الكافر التي كانت لَا ترام، ونيلهم من بني الأصفر الذين يتحكمون، ولا مسيطر عليهم أو محاسب، ما من أمر يقوم به أهل الإيمان إلا كتب اللَّه تعالى لهم به عملا صالحا عند الله، ينال أهل الإيمان به رضاه أولا - واعتزازهم بالحق ثانيا، وجنة النعيم ثالثا، ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، أي أن ذلك الجزاء العظيم أجر للعمل الصالح، وسماه سبحانه أجرا تكرما منه وتفضلا، وإلا فلا أجر إلا بفضله لأنه المنعم، والعبد ملك لسيده، وسمي الذين يقومون بحق الجهاد محسنين؛ لأنهم قاموا بما وجب عليهم، وأحسنوا الطاعة، وأبلوا فاحسنوا البلاء.
هذا نوع الجهاد بأنفسهم، إذ تركوا الراحة ومتعتها، وأثروا البلاء فأخذهم الظمأ، والجوع، ووطئوا أرض العدو ونالوا منه نيلا.
وهناك نوع الجهاد بالمال، وقطع الفيافي والقفار، وما يكون فيه من جهد بالمال، والنفس، وقد قال سبحانه فيه:
(وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
3480
قد كان الجزاء على العمل الصالح، على المشقات التي تحملوها، والجهود التي بذلوها من ظمأ قطَّع رقابهم وأمعاءهم، ومن جوع حرموا فيه من الزاد، ووطء أرض العدو وما فيه من إذلال كما قال علي: ما وطئت أرض قوم إلا ذلوا، ومن نيل نالوه منهم، أما في هذه الآية فالجزاء على النفقة: صغيرة كانت ولو بسوط أو علاقته، أو كبيرة كتجهيز عثمان جيش العسرة رضي الله عنه، وإن السير في الفيافي والقفار، ولو لم ينالوا ويطئوا أرض العدو هو ذاته له أجر وجزاء. قوله تعالى: (وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا)، الوادي: المنفرج بين الجبلين، ويراد به هنا الأرض، لأن قطع الوادي لَا يكون إلا بقطع الجبلين اللذين تعرج بينهما، وقد قال الزمخشري: واديا أي أرضا في ذهابهم ومجيئهم، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل، وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سالَ، ومنه الودي، وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض يقولون لَا تصل في وادي غيرك.
لا ينفقون ولا يقطعون أرضا إلا كتب لهم بذلك عمل صالح يستحقون عليه جزاء ما عملوا، ولذا قال تعالى: (أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي كتب لهم ذلك ليعطيهم سبحانه وتعالى جزاء (أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ)، وعبر عن الجزاء بالعمل ذاقه وقال: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) لبيان المساواة التامة بين أحسن العمل والجزاء، وللإشارة إلى أن الجزاء ذاته مشتق من العمل فهو ثمرته، ولله تعالى الفضل والمنة.
وقبل أن نترك الكلام في معاني هاتين الآيتين اللتين فيهما تحريض على الجهاد ننبه إلى أمرين:
أولهما - أن قوله تعالى (وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نيْلًا) أن النيل في أصل معناه بمعنى الأذى الذي ينزل بالعدو، ويقال نال منه بمعنى: نكبه بما يسوء ويلحق به ضررًا..
3481
الثاني - أن قطع الوادي والوصول إلى العدو، هو ذاته خير، لأنه قصد بقطع الوادي فعل أمر مثوب عليه، ومن يسعى في خير كان سعيه مشكورا، ولو لم يتم الفعل، ولقد قال تعالى: (... وَمن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ...).
* * *
الفقه والجهاد
قال اللَّه تعالى:
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥)
* * *
التفقه في الدين فرض كفاية، وكذلك الجهاد في سبيل اللَّه، وقد قرر الإمام الشافعي أن فرض الكفاية، واجب على الكافة، وإذا ترك أثم الجميع الكافة والخاصة، ووجوبه على الخاصة يكون فرض عين، ولنبين ذلك بمثالين: أولهما - أن الفقه في الدين، وتعرف أسراره فرض كفاية، وعلى الأمة أن تسهل قيام هذه الطائفة التي تكون لعلم الإسلام، بتحفيظ القرآن، ورواية الحديث،
3482
وجمعه، ويكون حينئذ تعليم الدين فرض عين على هذه الطائفة التي كان ذلك التعليم أول أعمالها، وإذا لم تقم هذه الطائفة أثمت الأمة كلها الكافة، لأنهم لم يقيموها.
والمثل الثاني - الجهاد في سبيل اللَّه تعالى فإنه على الكافة أن تهيئ الأسباب للقادرين، وتمدهم بالعدة، والنفقة، والجهاد عليهم فرض عين فإن تخلفت الأمة عن الجهاد أثمت كلها.
وهذه الآية
3483
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنونَ) وما بعدها تحدنا في هذين الفرضين حدا جامعا.
يقول تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ).
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ) هذا نفي مؤكد لنفورهم للحرب كافة نفيا مؤكدا وقد أكدته لام الجحود، والمعنى ما ساغ ولا صح أن ينفر المؤمنون كافة للجهاد، بحيث تخلو المدينة ممن يقوم بحق اللَّه تعالى، وحق العلم بالدين والفقه في القرآن. فاللام لتأكيد النفي - إذ مقتضى السياق ما كان المؤمنون أن ينفروا فجاءت (اللام) لتأكيد النفي.
وقد بين سبحانه من الذين لَا ينفرون، فقال: (فَلَوْلا نَفَرَ مِن كلِّ فِرْقَةٍ منْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، فهنا نفوران، واحد منفي، وواحد مثبت، فأما المنفي، فهو النفور للجهاد، وهو منفي عن الكافة أي ليس للكافة أن ينفروا جميعا للجهاد، والنفير الثاني المثبت المحرض عليه، أن ينفر من كل فرقة طائفة - أي ناس متخصصون في التفقه في الدين، وهؤلاء ينفرون لهذا العلم من كل فرقة مقدار من الناس. واحد أو اثنان أو أكثر عددا، وإنهم ينفرون من فِرَقِهم إلى الرسول، وينفرون بعد تفقههم إلى قبائلهم.
3483
وكان المؤمنون ينقسمون إلى قسمين أحدهما ينفر للجهاد، والآخر يبقى في المدينة، متعلما فقه الدين، وينفر إلى الرسول ليعلمه، ويرجع إلى قومه لينذرهم.
وهنا ملاحظات بيانية.
أولاها - أن مسمى الاتجاه إلى الفقه يدرسه نفير؛ لأنه أولا ينفر له ناس لدراسة القرآن وفقه الإسلام إلى النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، ثم يرجع إلى أهله، ولأن العكوف على علم الإسلام لَا يقل فضلا عن الجهاد في سبيل اللَّه تعالى، وأنه جهاد مثله؛ لأنه من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيجاب، والجهاد أمر بالمعروف ونهي عن المنكر برفع الاعتداء وتمهيد السبيل.
الثانية - أن قوله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ...) (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذا كان المؤمنون لَا ينفرون للحرب كافة، فإن طائفة تخصص للفقه لينذروا قومهم إذا رجعوا، وقوله تعالى: (فَلَوْلَا)، لولا هنا للتحريض على الفقة في الدين.
الثالثة - أن الفقه هو العلم، وهو العلم النافذ الذي يخترق العوائق لإدراك لب الدين، ويقول الغزالي في هذا المقام: كان الفقه في العصر الأول اسما لعلم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدة الأعمال، والإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب.
الرابعة - أن اللَّه تعالى قال: (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، ولم يقل لعلهم يتفقهون، وذلك لأن الخوف من عذاب اللَّه تعالى وتقليل الخوف من العذاب هو ثمرة الفقه في الدين.
الخامسة - أن اللَّه سبحانه وتعالى يقول: (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي رجاء أن يحذروا أو يخافوا، والرجاء منهم لَا من اللَّه سبحانه وتعالى؛ لأن اللَّه تعالى عنده غيب السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير.
3484
وقد تكلم الرواة في هذه الآية على الآثار الواردة عن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم في مقام العلم بجوار الجهاد، وأن الآثار التي وردت في فضل العلم لا تقل عن الآثار التي وردت في فضل الجهاد، وكلاهما ينبعان من نبعة واحدة وهي إعلاء كلمة اللَّه، فالأول لبيان الحق، والثاني للذود عن حياضها، وتغيير السبل أمامها، حتى لَا يعوقها طاغ من طغاة الأرض، وقد روى أنس بن مالك أن رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم قال " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (١).
ولقد روى الترمذي من حديث أبي الدرداء، أن رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم قال: " من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهَل اللَّه له به طريقا إلى الجنة " (٢)، وروي أن رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " (٣).
وإن هذا الوصف هو للعالم الذي فقه في الدين، واعتز به، ولم ينافق فيه، ولم يتخذه سبيلا للعلو والفساد واجتياز المجالس عند الأمراء ونيل الدنيا به، وبالنفاق والكذب، والافتراء على اللَّه، ولقد قال الزمخشري في هذا الصنف من العلماء، ويظهر أنهم كثروا في عصره عندما انزلق العلماء إلى موائد السلاطين. فقد قال رضي اللَّه تعالى عنه فيما ينبغي للعلماء:
" وليجعلوا غرضهم، ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم، وإرشادهم، والتصغية لهم، لَا ما يتجه إليه الفقهاء من الأغراض الخسيسة، ويؤمُّون به من المقاصد الركيكة من القصور والترؤس، والتبسط في البلاد، والتشبه بالعظمة في ملابسهم، ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا، وفشو داء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح لأحدهم مدرسة لآخر أو شرذمة جثوا بين يديه، وتهالكه
________
(١) سنن ابن ماجه: المقدمة - فضل العلماء والحث على طلب العلم (٢٢٤).
(٢) سبق تخريجه.
(٣) رواه الترمذي: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٨٥). وابن ماجه: المقدمة - من قال العلم الخشية وتقوى الله (٢٨٩) بلفظ مقارب.
3485
على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم، فما أبعد هؤلاء من قول اللَّه عز وجل: (... لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضٍ وَلا فَسَادًا...)، اهـ. فما أشبه الليلة بالبارحة ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
هذا خط العلم في الرسالة المحمدية، والجهاد ماض في طريقه إلى يومِ القيامة، ولذا جاء بعد آية التفقة في الدين آية للجهاد فقال تعالى:
3486
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
نداء إلى الذين آمنوا يشير بهذا النداء إلى أن الجهاد في سبيل الله تعالى ثمرة الإيمان، والتقاعس عن القتال يكون من ضعف الإيمان، أو مرض القلوب، وأمر اللَّه تعالى بقتال الذين يلون أرض الأسلام سواء أكان المؤمنون بالمدينة أم أقاموا في أرض أخرى، فالأمر أمر عام بقتال الذين يصاقبونهم، لتكون العلاقة بينهم حربا واضحة، أو عهدا وفيا، أما أن تكون العلاقة علاقة من يتربص بالآخر، وينتهز الفرصة، قاتلوا الذين يلونكم، ثم الذين يلونهم إن لم يرضوا بالعهد، وهكذا كما ابتدأ النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، فأنذر عشيرته الأقربين ثم صدع بأمر ربه، ولما هاجر قاتل قريشا، ثم قاتل العرب أجمعين لما نزعوا عن قوس واحدة، قاتل المشركين كافة كما يقاتلونه كافة، ولما ابتدأ يقاتل خارج الجزيرة العربية ابتدأ بالرومان؛ لأن واليهم قتل من أسلم من أهله، ولأنهم أقرب إلى المدينة من الفرس، ولأنهم كانوا يمالئون اليهود، ونصارى العرب، ولأنهم أهل كتاب، ولأنهم في أرضهم بيت المقدس، مسرى رسول اللَّه - ﷺ -، ولأنه يجب أن يتحرر من أهل الكفر، كما تحرر البيت الحرام من الشرك، ولأنهم المسلمون وهم ورثة الأنبياء أجمعين، والقوامون على الرسالة الإلهية من بعدهم.
وقال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) والأمر هنا في معنى وأغلظوا عليهم، ولكن قوله تعالى: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أبلغ
3486
لأن مؤداه أن يكونوا كلما راموكم بسوء وجدوا فيكم غلظة فلا يفكرون في أن يرموا بسوء، والغلظة معناها الشدة والقوة، والغلظة تجمع الجرأة، وعدم التواني، والصبر، والمبادرة، والعنف في القتال من غير اعتداء فيه، وألا تأخذهم بهم رأفة في دين اللَّه تعالى.
وكانت الغلظة في قتال الذين يلونهم، ليأمنوا شرهم، وليرهبوهم، ولكيلا يتمكنوا من الاعتداء إن فكروا فيه، أو أرادوهم لأنهم ما داموا لم يعاهدوا عهدا وفيا، فإن شرهم متوقع، ودفع الشر قبل أن يأتي من شأن الحذرين، واللَّه تعالى يقول: (... خُذُوا حِذْرَكمْ...)، والقتال أنفَى للقتال، وأبعد عن الاعتداء، وخير الدفاع ما يكون هجوما.
وختم اللَّه تعالى الآية بقوله تعالى: (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) إن اللَّه يحب الذين يتقون عذابه، ويتقون الشر قبل وقوعه ولا ينتظرونه حتى يقع، فإن وقع صعب دفعه، والذين يتقون الاعتداء، وكان ختم اللَّه تعالى الآية بذلك لهذه المعاني التي أشرنا إليها، ولتحريض المؤمنين على اتقاء الاعتداء ما تمكنوا منه.
وقوله: (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، أي هو مصاحب لهم، فلا يقع عليهم، وهو قريب منهم ينصرهم ويعزهم، ولا يمكن عدوا منهم، وقد أكد سبحانه أنه مع المتقين بالجملة الاسمية، وبـ إنَّ الدالة على التوكيد، وبتصدير القول بلفظ الجلالة الذي يربي في النفس المهابة من اللَّه ومخافته.
وقد بين اللَّه سبحانه وتعالى كيف يتلقى المتقون ما ينزل من القرآن، وكيف يتلقاه غيرهم، فقال تبارك وتعالى:
3487
(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤)
(الواو) للاستئناف، (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ) (ما) مؤكدة للشرط، وهو نزول الآية والتأكيد لبيان مقام السورة النازلة، والسورة مجموعة من آيات اللَّه تعالى
3487
تكون في سور تبتدئ بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وتختتم بابتداء سورة أخرى بهذه البسملة المباركة التي هي جزء من كتاب اللَّه.
ويصح أن يراد بالسورة بعضها، وهو آي من السورة، وكله قرآن، فبعض القرآن قرآن.
وقوله: (فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أَيكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا) (الفاء) لتفصيل حال من يتلقونها ما بين مؤمن يتلقى قول الله تعالى بما يكون فيه الهدى، وبعضهم من مرضى القلوب الذين لَا يزيدهم الدليل إلا ضلالا وعنتا وكفرا.
والضمير في (فَمِنْهُم)، قال الزمخشري: إنه يعود إلى المنافقين، أي من المنافقين الذين يستهزئون بالمؤمنين، ويسرفون على أنفسهم يقولون متهكمين أيكم أيها المستمعون للقرآن زادتهم هذه الآية أو السورة إيمانا، كأنهم يقولون، لعنهم اللَّه: إن هذه السورة أو الآية لَا فائدة منها، فمن اهتدى فقد آمن، ومن عصى فقد كفر.
ولكن لَا نجد ذكرًا في الآية السابقة ولا ما قبلها للمنافقين إلا أن يدعى أنهم في الأذهان لما كان منهم من أفعال، وأنا أميل إلى أن الضمير يعود إلى المؤمنين يسأل بعضهم بعضا عن سر هذه الآيات التي تنزل وقتا بعد آخر، يتعرفون غايتها ومراميها، ولقد روى عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه أنه كانت إذا نزلت آيات عشر أو دونها سألوا رسول اللَّه - ﷺ - عن معانيها، ومغازيها، ويقولون أيهم زادته هذه، وقد بين اللَّه تعالى موقعها في قلوب المؤمنين، وموقعها في قلوب الذين في قلوبهم مرض، فقال تعالت كلماته: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الفاء) لبيان تفصيل موقعها في القلوب، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، وزيادة الإيمان بزيادة ثثبيته في القلوب وزيادة العمل، فإن آيات القرآن الكريم يستأنس بها المؤمن، ويزداد رهبة من اللَّه وخوفا منه ورجاء في رضوانه، وهذا بلا ريب زيادة في الإيمان، ولقد قال تعالى: (اللَّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كتَابًا
3488
مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٢٣).
وإن ازدياد إيمانهم بالآية تنزل (يَسْتَبْشِرُونَ) أي يجدون في الآية الجديدة بشرى لهم بأن الإيمان هداية اللَّه تعالى تتوالى عليهم، ويستبشرون لتوالي خطاب اللَّه تعالى لهم، وأي مؤمن يحب الله ورسوله ثم لَا يستبشر بكلام من يحبه ويطلب رضاه؟!.
هذا شأن الذين آمنوا عندما تتلى عليهم آيات الله. وأما الذين في قلوبهم مرض فيقول اللَّه عز من قائل فيهم:
3489
(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥)
الرجس هو الشيء القذر الذي تستقذره النفوس وتعافه، كالميتة ولحم الخنزير، والخمر، فإن النفس، وإن لَا تعافها طبعا، فإن العقول تعافها؛ لأنها تنزل مشاربها من مرتبة العاقلين المدركين إلى دركة من لَا يعقل، ولذلك سماها الله تعالى رجسا، في قوله تعالى: (... إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، ويطلق الرجس مجازا على الكفر، لأن العقول السليمة تدرك أن عبادة غير الله أمر لَا تقره العقول السليمة ولا الطبائع المستقيمة، والمراد به هنا الكفر، لأن العقول تنفر منه، ولا تقره، وكيف تقر العقول رجلا يصنع حجرًا ويعبده، وكيف تقر العقول رجلا يرى آيات الله البينات ثم يكفر بها.
والذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، وقد قال اللَّه تعالى فيهم: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا). وإن ذلك وصف حكيم، فإن النفاق مرض يصيب القلوب، فيفسدها، والعقول فيمنعها من الإدراك السليم، ذلك أن المنافق منحرف
3489
التفكير دائما، لَا يرى الأمور كما يراها السليم، بل إنه غير مستقر، وتوالى نفاقه يفقده الإيمان بالحقائق، وبفقده الإدراك السليم، وقد أثبتت الدراسات الاجتماعية أن المنافق لَا ينافق لغرض من المال أو دنيا يصيبها، ولكن يضعف عن النطق بالحق، ولعله يبتدئ نفاقه بشيء من الغرض، ولكن يتوالى نفاقه ليصير مرضا، فينافق لغير غاية.
وإن السورة أو الآيات التي تنزل تزيد المنافقين كفرًا إلى كفرهم، أي كفرا مضموما إلى كفرهم الأصيل وإنما زادتهم كفرا، لأنهم يعاندون الحق، والمعاند تزيده قوة الدليل عنادًا، لقد انحازوا إلى جانب الباطل، فكلما زاده الدليل في الحق زاد لجاجة في الباطل فزاد كفرًا ولا احتمال لتوبته وعودته إلى الحق، ولذا قال تعالى: (وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) أي استمروا معاندين للباطل، حتى حال موتهم، فيموتون وهم كافرون، وعبر بالماضي لتأكيد هذه الحال التي يموتون عليها، واللَّه يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
ثم قال تعالى موضحا حالهم:
* * *
(أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
* * *
3490
كان المنافقون في المدينة ملتوية أفكارهم كما تلتوي العيون بحول يصيبها، فهم يرون النور، ولكن أعينهم يزيدها لمعان النور انحرافا عن التفكير السليم، كان المؤمنون يغزون ويجاهدون، وهؤلاء يشتد نفاقهم وكيدهم كلما رأوا عزة للمؤمنين بعد عزة، وتمكينا لهم في المدينة بعد تمكين، وعلوا في أرض العرب، وهم يعيشون في أمان، يرجون للمؤمنين الشر والانتكاس.
فيقول سبحانه:
3491
(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) (الواو) للاستئناف وهي مقدمة في المعنى على الاستفهام، ولكن قدمت همزة الاستفهام، لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتوبيخ، والمعنى: أيستمرون على حالهم من النفاق، ولا يتدبرون، وهم يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين وهم لا يذكرون، الفتنة اختبار النفوس بشدة كما يختبر الذهب ليخرج ما فيه من غش، والمعادن لإزالة الصدأ، وإن اللَّه يختبر الناس فيما يحبون، فيختبر سبحانه المحب للمال في ماله، والمحب للنساء والولد فيهما، ويختبر المؤمنين بالخوف، ويختبر المنافقين فيما يحبون من خذلان المؤمنين، وهو أن تخضد شوكتهم وتفل قوتهم، ويختبرهم الله بذلك مرة أو مرتين كل عام، ومرتين يقصد بها مرات، فيعطي اللَّه في الاختبار للمؤمنين نصرا مؤزرا، اختبرهم ببدر، فأنشأوا في أنفسهم النفاق واختبرهم في بني قينقاع، وقد أجلاهم الرسول عن المدينة لما حرضهم المنافقون على المؤمنين، واختبرهم في أُحُد إذ أجلى بعض اليهود، واختبرهم في الخندق بتحريضهم بني قريظة، فأباد نصراءهم، واختبرهم بالنصر للمسلمين في السرايا، واختبرهم بفتح مكة، ثم اختبرهم بالانتصار في الطائف على هوازن وثقيف، ثم اختبرهم في تبوك، وهكذا توالى الاختبار بالمحن تنزل بهم من فرط غيظهم من الإيمان والمؤمنين.
هذا بعض ما يدل عليه قوله تعالى: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) أي مرات، ولو كانت نفوسهم غير ملتوية وعقولهم غير منحرفة، لكان
3491
توالى هذا النصر رادعا، وحاملا لهم على ترك غيهم، ولذا قال تعالى: (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي رجاء أن يتذكروا أنهم على الباطل، وأن في قلوبهم أمراضا عليهم أن يعالجوها، وأن ما جاء به محمد - ﷺ - هو الحق الذي لَا ريب فيه، وأن اللَّه ناصره غير خاذله، وأن العاقبة للمتقين، فإذا تذكروا واعتبروا واتخذوا مما وقع دليلا على ما يقع فاستقاموا، ولكنهم لم يتذكروا واستمروا في غيهم؛ لأنهم انفصلوا بأحاسيسهم عن الناس، فعاشوا في محيطهم المنافق، فلم يعتبروا وإذا جاءتهم التذكرة أعرضوا عنها، ولذا قال تعالى:
3492
(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
وإذا ما أنزلت سورة هادية مرشدة مبينة الحق وذاكرة أحوال المؤمنين ومن يعاديهم لم يطيقوا سماعها من النبي - ﷺ -؛ لأن القلب المريض لَا يطيق سماع الحق الذي يكون فيه شفاء له وللناس، ولا يستسيغ الأخذ به، فإذا تلا النبي - ﷺ - الآية أو السورة النازلة نظر بعضهم إلى بعض نظرات لها معان عندهم، وهي أنهم ضاقوا بها ذرعا ويريدون أن يخرجوا من المسجد تبرمًا بسماعها، وبغضا فيها، أو تنافرًا عليها، واستهزاء بها، وبعد هذه النظرات الغامزة، أو المنكرة للحق ينصرفون، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) التعبير بـ (ثم) هنا في موضعه؛ لأنه تفاوت بعيد بين حالين، حال الاستماع، وهو يقتضي الإنصاف والإيمان، وحال الانصراف عن الاستماع إلى الحق والقول الذي هو شفاء للناس.
وقوله: (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) جملة معترضة بمعنى الدعاء عليهم بأن يكونوا منغمرين دائما في الباطل لأنهم اختاروه وأرادوه، واللَّه لَا يهدي القوم الفاسقين.
ويصح أن نقول إنها بيان لانصرفوا، أي أنهم انصرفوا لأن اللَّه تعالى صرف قلوبهم عن الحق، فصارت قلوبهم معرضة؛ لأن نفوسهم الملتوية جعلتهم لا يقبلون على الحقائق.
3492
وإن قوله تعالى عنهم أنهم يقول بعضهم بلمح النظر: (هَلْ يَرَاكُم مِنْ أَحَدٍ) فيه إشارة إلى أنهم يريدون أن يتسللوا من المسجد لواذًا لَا يحس بهم أحد حتى لا يعرف نفاقهم، ويتميز أمرهم، وهم لفرط انغمارهم في النفاق يحسبون أنهم لا يعلم بهم أحد، مع أن أعمالهم تكشف عن سرائرهم ولا يخفى أمرهم على أحد، فإن لم يكن ظهوره بأقوالهم، فظهوره بأفعالهم وتقاصر هممهم عن أي خير، و (مِّنْ) في قوله تعالى: (هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ) لاستغراق النفي، أي هل يراكم أي أحد، و (هَلْ) للاستفهام الإنكاري بمعنى إنكار الوقوع أي لَا يراكم من أحد فاخرجوا.
ثم بين سبحانه السبب في أنهم لَا يذكرون ولا يرجعون عن غيهم، مع توالى المنكرات المنهيات فقال تعالت كمماتلى: (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) (الباء) للسببية أي أن انصرافهم عن الاستماع للقرآن وتدبر معانية، وعن الاختبارات المتوالية بسبب أنهم لَا يتدبرون الآيات ولا الأحداث، ولا يعتبرون بالعبر، وذلك كله من عدم فقه الأمور، والآيات، وإدراك غاياتها ومراميها، وقد ختم اللَّه تعالى السورة التي كثر فيها ذكر القتال وانبثاق النفاق بما يدل على أن محمدًا - ﷺ - نبي الرحمة فإذا كان قد قاتل، وكشف النفاق وأهله فذلك من باب الرحمة بعباده والرأفة بهم؛ لأن قتال المفسدين وكف فسادهم رحمة بالأبرار المتقين، فليس من الرحمة بالناس أن يترك الشر يستشري، والرذائل تتحكم، والاعتداء يسيطر، فإن الضعفاء فريسة المستضعفين، والفساد يتضمن ظلم الذين لَا يستطيعون دفعه، وكشف النفاق رد لمكايد المنافقين، ولقد قال تعالى: (... وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهََ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ولأن محمدًا - ﷺ - نبي الرحمة قال - تعالى - مخاطبا العرب أجمعين: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)
3493
أكثر العلماء على أن هذه الآية الكريمة والتي تليها نزلتا بمكة، ومعانيها تعين على ذلك، وقد يسأل سائل: لماذا كانت في سورة كلها مدنية، وهي من أواخر السور نزولا؛ نقول إن اللَّه سبحانه وتعالى كان ينزل القرآن الكريم على نبيه تنزيلا وكان عند نزول الآية يكتبها من في حضرته ممن يقرأون ويكتبون وينشرها بين المؤمنين آمرا بوضعها في موضعها من السورة الذي قرر النبي - ﷺ - وضعها فيها، والأمر لله تعالى يأمر نبيه بأن يضعها حيث يأمره جبريل، فالترتيب توقيفي، وليس للنبي - ﷺ -.
وقد اختار الله أن يكون وضعها في آخر سورة براءة؛ ولذلك حكمة نتلمسها، وقد تلمسناها فقلنا إنها جاءت في ختام سورة كلها في النفاق والمنافقين؛ ليتنبه القارئ للقرآن الكريم إلى أن القتال وكشف النفاق رحمة للعالمين.
قال تعالى:
3494
(لَقَدْ جَاءَكمْ رَسئولٌ منْ أَنفُسِكُمْ) هذه منَّة من اللَّه تعالى مَنَّ بها على العرب إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، ولقد أكد ذلك بـ (اللام) وبـ (قد)، قال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ منْ أَنفسِكمْ) وهنا قراءتان إحداهما بضم الفاء والثانية بفتحها (١) والمعنى على الأول منكم لَا من غيركم، والمعنى على الثانية (من أنفَسكم) أي من أعلاكم نسبًا. وبمجموع الآيتين، وكل آية منهما قرآن بذاتها، أنه بعث فيكم رسولا منكم، لَا من غيركم، وهذه منَّة، ومن أعلاكم نسبا وشرفا وهذا شرف للرسالة، والنبيون يبعثون من أعلى الأوساط.
ومهما تكن القراءة التي يقرأ بها، فإن محمدا - ﷺ - دعوة إبراهيم إذ قال اللَّه تعالى عنه في دعائه لربه: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو...)، وقد مَنَّ اللَّه تعالى على المؤمنين إذ قال: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ...).
________
(١) (من أنْفَسِكم) بفتح الفاء، صحيحة المعنى، غير أنها ليست في العشر المتواترة.
3494
ولقد ذكر الحافظ ابن كثير المؤرخ المحدث أن جعفر بن أبي طالب، والمغيرة ابن شعبة قالا لرسول كسرى: " إن اللَّه بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته، ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته ".
وإنه إذا كان النبي - ﷺ - من العرب، ومن أنفسهم، ودعوة إبراهيم، فإن الأثر الذي يترتب على ذلك، ويكون من جنس الأخوة المحبة - أن يكون رءوفًا بهم محبا لهم ورحيما، ولذا قال تعالى: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) العنت الشدة، ويقول ابن الأنباري أصل العنت الشديد.
فإذا قالت العرب فلان يتعنت فلانا ويعنته فمعناه يشدد عليه ويلزمه يما يصعب عليه أداؤه.
والمعنى يعز على النبي - ﷺ - وقد بعث إليكم بالملة بالسمحة السهلة ملة إبراهيم أن يكون في شريعته ما يعنتكم ويصعب عليكم. فدينه دين الفطرة يساوقها، ولا يعنتها، وقوله: (مَا عَنِتُّمْ) أي عنتكم، فـ (ما) مصدرية هي وما بعدها مصدر وقد وصف النبي - ﷺ - بثلاثة أوصاف للمؤمنين من العرب وغيرهم؛ لأنه بعث للناس كافة.
أولها - أنه عزيز عليه عنتهم، فالشريعة التي جاء بها من عند اللَّه سهلة لا مشقة فيها تعلو على الطاعة وفيها الاعتدال الكامل، وليس فيها إرهاق للنفوس، ولا للأجسام، والعقول تدركها وتعرفها.
الصفة الثانية - وهي من أعلى صفات البشر أنه رءوف والرأفة انفعال النفس بالمحبة والرفق بالناس، وهي صفة ضد الفظاظة والغلظ، وهما ينفران ولا يقربان، ولقد قال تعالى: (... وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...).
3495
الصفة الثالثة - الرحمة، وهي أوسع شمولا من الرأفة، إذ إن الرحمة النبوية تكون بالكافة، وقد يكون العقاب منافيا للرأفة، وهو من مقتضيات الرحمة، ألا ترى أن اللَّه سبحانه وتعالى يقول في حد الزاني: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢).
ونرى أن الرأفة قد تجافي العقاب أما الرحمة فإن العقاب ينبعث منها؛ لأنه رحمة بالكافة، وقد قال بعض الصحابة للنبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم: أكثرت من ذكر الرحمة، ونحن نرحم نساءنا وأبناءنا، فقال: ما هذا أريد، إنما أريد الرحمة بالكافة.
كانت هذه الآية إخبارا بمقام الرسول من قومه، وتنويه بالشريعة التي جاء بها، ودعوة إلى اتباعه، فمن اتبعه، فقد اهتدى، ومن لم يتبعه فقد تعرض للغواية وبعد عن الهداية، ولذا قال تعالى:
3496
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
(الفاء) هنا لربط هذه الآية بسابقتها، ترتيب أمر على أمر، يعد نقيضا له، فإن كون الرسول من أوسطهم نسبا، وأنه عزيز عليه عنتهم، وأنه رءوف رحيم بهم كان يوجب عليهم أن يطيعوه، فهو لَا يمكن أن يكون في دعوته ما يضيرهم أو يشق عليهم، بل فيه تنزيه لقلوبهم عن الشرك والضلال، مع هذا إن تولوا - أي انصرفوا، وهم معرضون، وقد شبهت حال الإعراض الفكري، بحال التولي الحسي، لكمال معارضتهم للشرع، (فَإِن تَوَلَّوْا) فعل شرط جوابه: (فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي إن لم يجيبوك فقل حسبي، أي يكفيني أن يكون اللَّه معي، وهو صاحب الملك كله، لَا إله إلا هو، فلا أعبد سواه.
3496
والآية الكريمة تومئ إلى أنه كان بمقتضى ما تتضمنه الآية السابقة من معاني يكون نصراؤه منهم، وناشرو دعوة اللَّه إلى الحق منهم، بل إنه كان يرجى منهم حتى بمقتضى عادة العرب أن يؤيدوه، ولا يخذلوه. ولكنهم إن خذلوه، فاللَّه معه، وهو كافيه عن الحاجة إلى غيره، ولذا قال سبحانه: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، أي توكلت عليه وحده، لَا أعتمد على أحد غيره سبحانه وتعالى، وتقديم الجار والمجرور (عليه) على الفعل (توكلت) يفيد القصر، أي أنه لَا يتوكل أحد من العباد، ما دام اللَّه تعالى كافله وعاصمه من الناس، كما قال تعالى: (... وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسِ...).
وقد وصف اللَّه سبحانه وتعالى ما يدل على سعة سلطانه، وعزة من يعتمد عليه، فقال تعالت كلماته: (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الضمير يعود على لفظ الجلالة، ورب معناها مالك، والعرش هنا تفسره بالسلطان، أو ما يشبه كرسي الملك، والمعنى: واللَّه هو مالك السلطان الكامل في هذا الوجود، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعلي من يشاء ويخفض من يشاء، وهو الحكيم الخبير، فمن يلتجئ إلى اللَّه فقد التجأ إلى من يدفع كل شر، وكل سوء، ومن يعلي الحق.
وقوله: (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم)، في (العظيم) قراءتان: إحداهما بضم الميم، في العظيم، والثانية - بكسرها - فالقراءة بالضم تكون وصفا لرب العرش، أي تكون وصفا لله، وهو العظيم الذي لَا يقدر قدره؛ لأنه فوق التقدير، وعلى قراءة الكسر تكون وصفا للعرش، وهو يثبت أن سلطان اللَّه تعالى عظيم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
3497
(سُورَةُ يُونُسَ)
سورة مكية عدد آياتها ١٠٩، استثنى منها علماء القراءات أربع آيات قالوا إنها مدنية، هي الآيات ٤٠ - ٩٤ - ٩٥ - ٩٦.
ابتدئت بحروف مفردة للتنبيه على إعجاز القرآن، ووصف الكتاب بأنه الحكيم، وذكرت أن الناس كانوا في عجب أن يوحى إلى رجل منهم، فذهبوا إلى تكذيبه وقالوا بسبب كفرهم: إنه ساحر مبين، وكان عليهم ألا يعجبوا ويغتروا، لأن الوحي من عند اللَّه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر، وأنه وحده له الملك، وأنه لَا شفيع عنده إلا من بعد إذنه. (... ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكرونَ إِلَيْهِ مَرْجِعكمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا...).
فأنتم سترجعون إليه فيحاسبكم، ولا عجب في رجوعكم فهو سبحانه يبدأ الخلق ثم يعيده
(... لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ...).
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)
ويبين سبحانه وتعالى آياته في اختلاف الليل والنهار، ثم أشار إلى أولئك الذين ينكرون البعث ولا يرجون لقاء ربهم، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وغفلوا عن آيات اللَّه سبحانه وتعالى، وبين أن مأواهم النار بما كسبوا من سيِّئ الأعمال، وفي مقابل
3498
ذلك ذكر سبحانه الذين آمنوا باللَّه وآياته وعملوا الصالحات وجزاءهم من النعيم المقيم والسلام.
(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠)
وإن من سنة اللَّه تعالى ألا يعجل الشر لمن أساء.
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١)
ويبين اللَّه تعالى طبيعة الإنسان أنه إذا ضعف اتجه إلى اللَّه ولجأ إليه.
(وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢).
وبين حال الذين بعث لهم النبي - ﷺ - فقال: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ...).
فأمره اللَّه تعالى أن يقول:
(... مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦).
وقد ذكر حالهم في شركهم بأنهم يعبدون ما لَا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا فيأمر اللَّه نبيه - ﷺ - فيقول لهم: (... قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨).
وبين اللَّه تعالى بعد ذلك أن الناس في أصل التكوين أمة واحدة، (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩).
3499
جاءهم النبي - ﷺ - بالقرآن وهو أعظم آية إلد بها النبيون، ولكنهم لتعنتهم يريدون آية أخرى: (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠).
ولقد بين اللَّه النفس الإنسانية المنحرفة عن الحق أنها إذا مسها اللَّه تعالى بالخير بعد الشدة تصورت أن الخير لها ولم يكنِ لفضل اللَّه ودبرت أمورها على ذلك، وذكر اللَّه تعالى مثلا فقال: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣).
ثم مثل سبحانه وتعالى الحياة الدنيا في زوال متاعها فقال:
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤).
دعوة الحق
بعد ذلك بين اللَّه تعالى مآل دعوة الحق إلى دار السلام والهداية إلى الصراط المستقيم يوم القيامة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦). وإنه في البعث يحشرهم اللَّه جميعا ويفر الذين سول لهم الشيطان أن يعبدوهم - من الذين اتبعوهم.
3500
ويسأل الذين أشركوا أين شركاؤكم: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠).
بعد ذلك يبين اللَّه تعالى إنعامه على عباده وآياته في خلقه.
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣١) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣).
أخذ يبين سبحانه وتعالى عجز الأوثان أن تبدأ الخلق ثم تعيده، بل إنها تُخلق، ثم إن أوثانهم لَا تهدي ضالا وإن اللَّه هو الهادي إلى الحق، وإن الذين يعبدون الأوثان لَا إيمان لهم فهم لَا يؤمنون بها.
(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦).
وإن القرآن حجة الله البالغة (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧).
ثم يتحداهم سبحانه وتعالى أن يأتوا بسورة من مثله.
(... وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
وإن الأمر بالنسبة لهم ليس آخر دليل يطلبونه بل إنهم يكذبون قبل أن يطلبوا الدليل؛ أي بادروا بالتكذيب (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩).
3501
وأنه بعد مجيء القرآن فإن منهم (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١).
ولا تأبه لهم، ومنهم منِ يستمع إليك وقلوبهم معرضة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢) كما أن منهم من ينظر إليك غير مبصر (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣).
ثم أشار سبحانه وتعالى إلى ما أعده للكافرين، وأنه أرسلِ إلى كل أمة رسولا يقضى بينهم بالقسط ولكنهم يقولون متى وعد اللَّه (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ...).
ويبين سبحانه وتعالى أن له ما في السماوات والأرض وأن وعده حق (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٥).
كما يبين أن شرع اللَّه تعالى فيه الموعظة وفيه شفاء لما في الصدور: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)
كما يبين سبحانه وتعالى فضله على الخليقة فيقول تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩).
أي تنزل النعمة حلالا طيبا ويفترون فيحرمون من غير بينة: (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٦٠).
كما يبين اللَّه علمه بكل شئون الرسول ودعوته: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١).
3502
ثم يذكر أولياء اللَّه (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤).
وينهى اللَّه النبي - ﷺ - عن الحزن (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥).
إن اللَّه مالك العزة يعز من يشاء، لأن له ملك السماوات والأرض، وأن الذين يعبدون الأوثان لَا يستيقنون لها قدرة، وإن يتبعون إلا الظن: (... إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).
ثم يبين سبحانه كمال ملكه وتصريفه للكون وبطلان من اتخذ له ولدا وبطلان قول الذين يعبدون الأوثان وأن جميعهم لَا يفلحون، لأنهم يفترون على اللَّه الكذب.
(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠).
بعد ذلك يذكر سبحانه وتعالى الأنبياء الذين لقوا من أقوامهم مثل ما لقي النبي - ﷺ - فبدأ بذكر نوح الأب الثاني للبشرية، وما قاله لقومه وقد كبر عليهم مقامه فيهم وتذكيرهم بآيات اللَّه وتوكله عليه وما رأى منهم من عنت وقد أخذهم بالحسنى (... فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢).
فكذبه قومه وصدقه الضعفاء - كما كان لمحمد - ﷺ - ثم نجاه اللَّه ومن معه في الفلك المشحون.
وبعث اللَّه - كما تدل الآيات رسلا من بعده فكذبوا ثم بعث موسى وأخاه هارون إلى فرعون، وأيده بآيات اللَّه التي تثبت رسالته فاستكبروا وكانوا قوما
3503
مجرمين، ثم جاء لهم موسى وأتاهم بتسع آيات بينات وكانت إحدى الحجج المنزلة من بينها عصا موسى.
(فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧).
وقد آمن السحرة وذرية من قومه (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣).
ثم أخذ موسى من آمن ودعاهم إلى التوكل على اللَّه الذي آمنوا به وأن يقولوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٨٦).
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧).
ودعا موسى على فرعون وملئه الذين لم يؤمنوا: (... رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨٩).
ولقد جاوز موسى بأمر اللَّه البحر حيث انشق فكان كل فرق كالطود العظيم واتبعهم فرعون في اجتيازهم البحر فانطبق عليه هو وجنده حتى إذا أدركه الغرق قال: (... آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠).
وبعد ذلك بين سبحانه وتعالى ما أنعم به على بني إسرائيل مبوأ لهم مبوأ صدق ورزقهم من الطيبات ولكن اختلفوا لما جاءهم العلم.
بعد هذه العبرة من أخبار الرسل وأولي العزم بين سبحانه لنبيه وجوب الاطمئنان إلى ما يدعو إليه من الحق.
3504
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٩٥).
وبعد ذلك ذكر نبي اللَّه يونس عليه السلام (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨).
ثم أشار سبحانه وتعالى إلى مقتضى إرادته أن يؤمن منِ اهتدى ويكفر من طغى؛ ولذا قال: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٠).
وبيَّن اللَّه تعالى أنه لَا تغني الآيات والنذر عن قوم لَا يؤمنون، وأن اللَّه تعالى ينجي رسله من العذاب الذي ينزل بالأقوام الذين يكفرون (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣).
ثم يخاطب اللَّه الناس خطابا عاما يدعو إلى عبادة اللَّه وحده ويأمر نبيه - ﷺ - بإقامة الدين الحق.
(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (١٠٩).
* * *
3505
معاني السورة الكريمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
* * *
3506
Icon