ﰡ
حم: حرفان من الحروف الصوتية ابتدأت بهما هذه السورة وقد سبق الكلام عن مثله.
إن هذا الكتابَ الكريم أنزله الله، الحكيمُ في تدبيره لهذا الكون العجيب ولكل ما خلق، وان في خلْق السمواتِ والأرض من بديع صُنْع الله لآياتٍ دالة على ألوهيته ووحدانيته يؤمن بها المصدّقون بالله العظيم. وكذلك في خلْق الناس على أحسنِ تقويم، وما ينشرُ في الأرض من الدواب - دلالات قوية واضحة ﴿لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
ومثل هذا في اختلافِ الليل والنهار وتعاقُبهما على نظام ثابت، وفيما أنزل اللهُ من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها ويبْسِها، وتصريف الرياح إلى جهاتٍ متعددة علاماتٌ واضحة ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
تلك آياتُ الله الكونية التي أقامها للناس، نتلوها عليك أيها الرسولُ مشتملةً على الحق، فاذا لم يؤمنوا بها ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ ؟
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب: لآياتٍ بكسر التاء في المواضع الثلاثة، والباقون: لآياتٍ بكسر التاء الأولى، وفي الموضعين بعد ذلك ىياتٌ لقوم، بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي: وتصؤبف الريح بالافراد. والباقون: وتصريف الرياح بالجمع. وقرأ الحجازيان وحفص وابو عمرو وروح: يؤمنون ب الياء. والباقون: تؤمنون بالتاء.
الهلاكُ والعذاب لكل كذّاب في قوله وأثيم في فعله.. يسمع هذا المفتري آياتِ الله تُقرأ عليه ثم يبقى مصرّاً على كفره مستكبراص كأنْ لم يسمعها، فبشّره أيها الرسولُ بأشدّ العذاب.
وفي قوله تعالى ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ تهكم واحتقار لهؤلاء المكذبين.
واذا وصل مثلُ هذا الى علمه شيء من آياتنا واستهزأ بها وسخِر منها.
﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾
من ورائهم جهنمُ تنتظرهم، ولا يدفعُ عنهم العذابَ ما كسبوا في الدنيا من الأموال والأولاد. ولا تُغني عنهم أصنامُهم التي عبدوها من دون الله شيئا، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
إن هذا القرآن هدى من عند الله، والذين كفروا بآياتِ ربّهم لهم العذابُ المؤلم يوم القايمة! أما يعلمون انه وحده الذي ذلل البحرَ تجري السفنُ فيه بأمره، تحمِلُ الناسَ وجميع ما يحتاجون!! بفضله يَسَعُكم أن تطلبوا من خيراتِ البحر بالتجارة والصيد واستخراج ما فيه من لآلئ وتشكروه على ما أفاض عليكم من هذه النعم.
كذلك سخّر لكم جميع ما في السموات وما في الأرض ليوفّر لكم منافعَ الحياة، وكل هذه النعم آياتٌ تدلّ على قدرته تعالى لقومٍ يتفكّرون في صنائع الله القدير.
ناظرَ طبيبٌ نصراني من أطباء الرشيد عليّ بن الحسين الواقدي المَرْوَزِيَّ، في مجلس الرشيد فقال له: ان في كتابكم ما يدلّ على ان عيسى بن مريم جزءٌ من الله تعالى، وتلا قوله: ﴿إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ [النساء: ١٧١].
فقرأ الواقدي قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ﴾ ثم قال: اذنْ يلزم ان تكونَ جميع تلك الأشياء جزءاً من الله! فانقطع الطبيب واسلم. وفرح الرشيد بذلك فرحاً شديدا، ووصَل الواقديَّ بصلةٍ فاخرة.
ثم بعد ذلك أمر الله المؤمنين ان يتحلّوا بأحسنِ الأخلاق، فطلب اليهم ان يصفَحوا عن الكافرين ويحتملوا أذاهم، وعند الله جزاؤهم بقوله تعالى:
﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾
يا أيها الذين آمنوا: تسلَّحوا بالصبر، واغفِروا واصفَحوا تربحوا، فَ ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾ ثم إنكم جميعاً إلى خالقكم تُرجَعون للجزاء.
قراءات:
قرأ حفص وابن كثير: من رجز أليمٌ برفع ميم اليم. والباقون: من رجز أليمٍ بجر أليمٍ على انه صفة لرجز. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: لنجزي بالنون. والباقون: ليجزي بالياء.
يأتي الحديث هنا عن القيادة المؤمنة للبشرية، وأن هذه القيادة تركّزت أخيراً في الاسم. والله سبحانه يُقسِم بأنه اعطى بني إسرائيلَ التوراةَ والحكم بما فيها النبوة، ورَزَقَهم من الخيرات المتنوعة وفضّلهم بكثيرٍ من النعم على الخلْق في عصرهم. وأعطاهم دلائلَ واضحةً في أمرِ دينهم، فما حدثَ فيهم هذا الخلافُ إلا من بعدِ ما جاءهم العلمُ بحقيقة الدين وأحكامه، بغياً بينهم بطلب الرياسة والتكالب على الدنيا، والجشعَ في جمع الأموال.
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.
وفي هذا تحذيرٌ لنا يا أمةَ محمد، وقد سلك الكثيرُ منا مسلكهم، واستهوتْهم الدنيا، وغرِقوا في متاعها ولذّاتها، فلْنحذَر الانحدارَ الى الهاوية.
ولما بيّن ما آل اليه بنو إسرائيل بإعراضهم عن الحق بغياً وحسَدا، أمر رسولَه الكريم ان يبعد عن هذه الطريقة، وان يستمسك بالحقّ الذي أرسله به.
ثم جعلْناك يا محمدُ (بعد بني إسرائيل الذين تقدمتْ صفاتُهم) على نهج خاصٍّ من أمرِ الدين الذي شرعناه لك، فاتبعْ ما أُوحيَ إليك.
﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ من المشرِكين الجاهلين، ذلك ان هؤلاء الكافرين لا يدفعون عنك شيئاً من عذابِ الله إنِ اتّبعتهم، وان الكافرين بعضهم أولياء بعض.
﴿والله وَلِيُّ المتقين﴾
هو ناصرُهم، فلا ينالهم ظلم الظالمين.
وهذه كانت بشرى من الله للرسول وللمؤمنين وهم لا يزالون في مكة.
وبعد هذا كله يبين الله فضل القرآن، وما فيه من الهداية والرحمة للناس اجمعين فيقول: ﴿هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
إن هذا القرآن وما فيه من احكام واخلاق وتهذيب دلائلُ للناس تبصّرهم في أمور دينهم ودنياهم، وهدى يرشدُهم إلى مسالك الخير، ورحمةٌ من الله لقوم يوقنون به ويؤمنون بالله ورسوله.
لا يمكن ان يكون المحسنُ والمسيء في منزلة واحدة، ولا يجوز ان نسوّيَ بين الفريقين في الحياة الدنيا، وفي دار الآخرة. كلا لا يستوون في شيء منهما. كما قال تعالى: ﴿لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون﴾ [الحشر: ٢٠].
فالله سبحانه وتعالى قد أقام هذا الكون بما فيه على نظام ثابت، وعلى اساس الحق والعدل، فاذا استوى المؤمن والكافر ينتفي العدل. وهذا محلٌ على الله تعالى. وكذلك قال في آية اخرى: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: ١٨]. يتكرّرُ ذكر اقامة هذا الكون على اساس العدل والحق كثيرا في القرآن الكريم، لأنه أصلٌ من أصول هذه العقيدة. من ثم علينا ألا نأسف عندما نرى أناساً يتقلبون في النعيم، وهم من الفَجَرة الفسقة، فان وراءهم حساباً عسيرا، فلا نعيمُ الحياة الدنيا دليل على رضا الله، ولا بؤسُها دليل على غضبه.
ولذلك يقول تعالى:
﴿وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾
وفي هذه الآية تعليل قويّ لنفي المساواة بين المحسن والمسيء، وهو أن تُجزى كل نفس بما كسبت من خير او شر ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾.
ثم يُتبع الله ذلك بصورة عجيبة لأولئك الناس الذين لايتقيّدون بدين، ولا يتمسكون بخلُق: أرأيتَ أيها الرسُول مَن ركب رأسه، وترك الهدى، وأطاع هواه فدعله معبوداً له، وضل عن سبيل الحق وهو يعلم بهذا السبيل ﴿على عِلْمٍ﴾ منه ثم مضى سادِراً في ملذّاته غير آبهٍ بدين ولا خلق!؟ لقد أغلقَ سمعه فلا يقبل وعظاً، وقلبه فلا يعتقد حقا ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾، يا مشركي قريشٍ هذا؟
انها صورة عجيبة من الواقع الذي نراه دائماً، وما اكثر هذا الصنف من الناس. واتباعُ الهوى هذا قد ذمّه اللهُ في عدة آيات من القرآن الكريم. ﴿واتبع هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب﴾ [الأعراف: ١٧٦] ﴿واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ [الكهف: ٢٨]. ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ [ص: ٢٦]. نسأل الله السلامة.
ثم بعد ذلك يذكر اللهُ مقالةَ المنكرين للبعث، والذين يقال لهم الدَّهرِيّون. هؤلاء الناس أنكروا البعث وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا هذه، نموتُ ونحيا وما يُهلكنا الا الدهر.
﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾
إنهم لا يقولون ذلك عن علمٍ ويقين، ولاكن عن ظنّ وتخمين، واوهامٍ لا مستَنَدَ لها من نقل او عقل. ولمّا لم يجدوا حجةً يقولونها تعلّلوا بقولهم: ان كان ما تقوله يا محمد حقاً فلْتُرجِع آباءنا الموتى الى الحياة ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
قراءات
قرأ حمزة والكسائي وحفص: سواءً محياهم، بنصب سواء. والباقون: سواءٌ بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي: غشوة، والباقون: غشاوة. قال في لسان العرب الغشاء: الغطاء، وعلى بصره وقلبه غشوة وغشوة مثلثة العين، وعشاوة وغشاوة بفتح الغين وكسرها، وكلها معناها الغطاء.
في هذه الآيات الكريمة يبين الله تعالى أنه مالكُ الكون كلّه، وهو وحده القادرُ على التصرف فيه ملكاً وتدبيرا، ويومَ القيامة يحشرُ الناسَ فيظهر خسرانُ أولئك المبْطِلين.
ثم بين حال الأمم في ذلك اليوم الرهيب، وان كل أمةٍ تجثو على رُكَبها وتجلس جلسة المخاصِم بين يدي الحاكم، وكل أمةٍ تُدعى الى سجلّ أعمالها، ويقال لهم: اليومَ تَسْتَوفون جزاءَ ما كنتم تعملون في الدنيا، هذا كتابُنا الذي سجّلنا فيه أعمالكم، وهو صادق عليكم، إذ كتبتهُ الملائكةُ في دنياكم.
وبعد ان ينتهيَ الحسابُ يُدخل اللهُ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنته ﴿ذلك هو الفوزُ العظيم﴾.
وأما الذين كفروا بالله ورسله فيقال لهم: ألم تأتِكم رسُلي، يتلون عليكم آياتِ كتبي، فكنتم تتعالون وتستكبرون عن قَبول الحق والايمان بها، وبذلك كنتم قوماً كافرين، فالنارُ مثواكم وبئس المصير.
واذا قال لكم رسول الله: ان وعدَ الله ثابت، وان يوم القيامة لا شكّ فيه، قلتم: ما نعلم ما هي الساعة وما حقيقة القيامة، وما عِلمُنا بذلك الا ظنّ، وما نحنُ بموقنين أنها آتية.
وظهرت لهم قبائح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، ونزل بهم جزاءُ استهزائهم بآياتِ الله، ويقال لهؤلاء المشركين: اليومَ نترككم في العذاب وننساكم فيه، كما تركتم العملَ للقاءِ يومكم هذا، ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ ينصرونكم اليوم.
فالله تعالى جمع لهم ثلاثة ألوان من العذاب: قطْع الرحمة عنهم، وجعلِ مأواهم النار، وعدم وجود من ينصرهم، وذلك لأنهم أصرّوا على إنكار الدين الحق، واستهزؤا بالله ودينه ورسله، واستغرقوا في حب الدنيا. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ﴾
لا يخرجون من النار بل يخلَّدون فيها، ولا هم يُردُّون الى الدنيا، ولا يُطلب منهم ان يسترضوا الله ويتوبوا.
وبعد هذا الاستعراض فيما حوته السورة من آلائه واحسانه، وما اشتملت عليه من الدلائل على قدرته بدءَ الخلق واعادته - أثنى الله على نفسه بما هو أهلٌ له فقال:
﴿فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم﴾.
فلله وحده الحمد والثناء، خالق هذا الكون بما فيه، وله وحده العظَمة والسلطان في السموات والأرض، وهو العزيز الذي لا يُغلب، ذو الحكمة رب العرش العظيم.