ﰡ
مكّيّة وهى سبع ثلاثون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ ان جعلت حم مبتدا خبره تنزيل الكتاب وان جعلتها تعديدا للحروف وكان تنزيل مبتدا خبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ فى انتقامه الْحَكِيمِ (٢) فى تدبيره وعلى التأويل الاول من الله صلة لتنزيل وقيل حم مقسم به وتنزيل الكتاب صفة وجواب القسم.
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ دالة على قدرة الله ووحدانيته لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) يحتمل ان تكون الاية على ظاهرها وان يكون المعنى ان فى خلق كما فى قوله.
وَفِي خَلْقِكُمْ اى فى خلق كل منكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة الى ان صار إنسانا وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ جاز ان يكون عطفا على الضمير المجرور والأحسن ان يقال انه معطوف على خلقكم فان بثه وتنوعه واستجماعه لما يتم به معاشه الى غير ذلك آياتٌ دلائل على وجود الصانع المختار ووحدته وكمالاته قرأ حمزة والكسائي ويعقوب آيات منصوبا بكسر التاء عطفا على اسم ان والباقون بالرفع عطفا على محلها- لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) انه لا اله الا الله وان البعث حق.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ صيفا وشتاء وفى ذهابها ومجيئها وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ اى مطر سماه رزقا لكونه سببه فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
تِلْكَ الآيات آياتُ اللَّهِ دلائل قدرته مبتدا وخبر نَتْلُوها عَلَيْكَ حال عاملها معنى الاشارة او خبر ثان بِالْحَقِّ متلبسين به او متلبسة به فَبِأَيِّ حَدِيثٍ الفاء جزائية تقديره فان لم تؤمنوا بايات الله فباىّ حديث بَعْدَ اللَّهِ اى بعد كتاب الله وَآياتِهِ الدالة على وجوده يُؤْمِنُونَ (٦) اى كفار مكة اى لا يؤمنون قرأ ابن عامر وحمزة «وخلف وابو محمد» والكسائي وابو بكر ويعقوب «اى رويس- ابو محمد» بالتاء الفوقانية على الالتفات من الغيبة الى الخطاب والباقون بالتحتانية على الغيبة-.
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ كذاب أَثِيمٍ (٧) كثير الإثم أريد به النضر بن الحارث هذه الجملة الى آخرها معترضة.
يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ صفة لاثيم تُتْلى عَلَيْهِ حال من الآيات او من الضمير المرفوع ثُمَّ يُصِرُّ عطف على يسمع وثم لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات مُسْتَكْبِراً عن الايمان كَأَنْ مخففة من الثقيلة وحذف ضمير الشأن اى كانّه لَمْ يَسْمَعْها الجملة فى موضع الحال اى يصر مشابها لغير السامع فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) الفاء للسببية والبشارة خبر يظهر السرور على بشرته واستعمل هاهنا تهكما فى خير يظهر الحزن على بشرته.
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ حال من هم فى أولئك لهم والوراء اسم للجهة التي يوازيها الشخص من خلف او قدام وجهنم قدام باعتبار انهم متوجهون اليه وخلفه من حيث انه بعد اجالهم وَلا يُغْنِي اى لا يدفع عَنْهُمْ ما كَسَبُوا من الأموال والأولاد شَيْئاً من عذاب الله وَلا يغنى عنهم مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ اى ما عبدوه من الأصنام او الذين اتبعوهم من الرؤساء ما مصدرية او موصولة وجملة لا يغنى الى آخرها حال اخر من ضمير لهم فى أولئك لهم وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) حال اخر.
هذا اى القران هُدىً اى ما به الهداية من الضلالة جملة معترضة وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ وهو أشد العذاب أَلِيمٌ (١١) قرأ ابن كثير ويعقوب وحفص بالرفع على انه صفة عذاب والباقون بالجر على انه صفة رجز وجملة والّذين كفروا عطف على هذا هدى-.
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ مبتدا وخبر اى جعله أملس السطح يطغو عليه ما يتخلخل كالاخشاب ولا يمنع الغوص فيه لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بتسخيره وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الأرزاق بالتجارة والغوص والصيد من فضله حال من المفعول المحذوف لتبتغوا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) عطف على لتبتغوا اى لتشكروا هذه النعمة وجملة الله الّذى سخّر لكم البحر متصل بما سبق من آيات قدرته تعالى وما بينهما معترضات.
وَسَخَّرَ لَكُمْ عطف على سخر ما فِي السَّماواتِ من شمس وقمر ونجم وماء وثلج وغيرهما وَما فِي الْأَرْضِ من حيوان ونبت ومعدن وعين ونهر جَمِيعاً
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا حذف المقول لدلالة جواب الأمر عليه وهو قوله يَغْفِرُوا اى قل لهم اغفروا ان تقل لهم اغفروا يغفروا اى يعفوا ويصفحوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ اى لا يتوقعون ولا يخافون أَيَّامَ اللَّهِ اى وقائعه باعدائه من قولهم ايام العرب لوقائعهم يعنى لا يتوقعون الأوقات التي وقتها الله لنصر المؤمنين وثوابهم وقال البغوي قال القرظي والسدىّ نزلت فى اصحاب رسول الله ﷺ من اهل مكة كانوا فى أذى شديد من المشركين قبل ان يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك الى رسول الله ﷺ فانزل الله هذه الاية ثم نسختها اية القتال لِيَجْزِيَ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» بالنون على التكلم والتعظيم والباقون بالياء التحتانية اى ليجزى الله وقرأ ابو جعفر بضم الياء التحتانية وفتح الزاء على البناء للمفعول والفعل حينئذ مسند الى مصدره اى ليجزى الجزاء كذا قال الكسائي والمراد بالجزاء ما يجزى به فان الاسناد الى المصدر سيما عند وجود المفعول به ضعيف وقال ابو عمرو وهو لحن والجار والمجرور متعلق بقوله يغفروا قَوْماً يعنى يجزى المؤمنين على صبرهم على اذية الكفار او يجزى الكافرين جزاء كاملا لا ينقص منه بالانتقام فى الدنيا او يجزى كليهما بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) من الخير او الشر.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ اى يعمل لنفسه فان ثوابه لها وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها اى يعمل عليها لان وباله يعود عليه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) يعنى بعد ما استحققتم
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ التورية والإنجيل والزبور وَالْحُكْمَ حيث جعلنا فيهم اهل الحكم من العلماء والملوك وَالنُّبُوَّةَ خصها بالذكر لكثرة الأنبياء فيهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ المن والسلوى وغيرهما من الاطعمة اللذيذة الحلال وَفَضَّلْناهُمْ بمراتب القرب الى الله تعالى إرجاع الضمير الى بنى إسرائيل باعتبار كون الأفضلين بعضهم وهم الأنبياء عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) اى على عالمى زمانهم قال ابن عباس لم يكن من العالمين أحد فى زمانهم أكرم على الله ولا أحب اليه منهم وهذه الاية تدل على ان خواص البشر أفضل من خواص الملائكة.
وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ اى ادلة بينة فى امر الدين بحيث حصل لهم العلم بكل ما يجب به العلم والاعتقاد وحصل لهم العلم بمبعث محمد ﷺ وعلاماته حتى عرفوه كما يعرفون أبناءهم فَمَا اخْتَلَفُوا فى امر الدين او فى امر محمد ﷺ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بحقيقة الحال بَغْياً بَيْنَهُمْ اى عداوة وحسدا واتباعا للهوى والشهوات لابناء على علم مستند الى دليل وهذا يدل على ان افتراق اليهود والنصارى الى احدى وسبعين فرقة او اثنان وسبعين فرقة لم يكن مبنيّا على دليل وكذلك افتراق امة محمد ﷺ الى ثلاث وسبعين ليس مستندا الى دليل بل انما هو باتباع الوهم فى مقابلة النصوص القاطعة كالمعتزلة تشبثوا بأذيال الفلاسفة زعما منهم بان العقل كاف فى كثير من الإدراكات والمجسمة قالوا الموجود لا يكون الا جسما او باتباع الحسد والعناد كالروافض والخوارج ونحو ذلك إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بالمؤاخذة والمجازاة يوم الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) من امر الدين-.
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ اى طريقة حقة وصراط مستقيم بعت عليها الرسل كلها- على شريعة مفعول ثان لجعلنا مِنَ الْأَمْرِ اى امر الدين
إِنَّهُمْ يعنى ان الذين يستتبعونك الى غير الطريق الحق ان اتبعتهم لَنْ يُغْنُوا اى لن يدفعوا عَنْكَ مِنَ عذاب اللَّهِ شَيْئاً منصوب على المفعولية ومن الله حال مقدم عليه بيان له او على المصدرية اى شيئا من الإغناء ومن فى من عذاب الله للتبعيض الجملة فى مقام التعليل للنهى عن اتباع اهوائهم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إذ المجانسة علة الانضمام فلا تتخذ أنت منهم اولياء وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) فاتخذه وليّا بالتقوى واتباع الشريعة قيل هذان الجملتان كناية عن قوله وانهم لا يضرونك لانّ الظّالمين بعضهم اولياء بعضهم والله ولىّ المتّقين وكم بين الولايتين فلا يضرنك لقوة ولاية الله.
هذا اى القران او اتباع الشريعة بَصائِرُ اسباب تبصر لِلنَّاسِ يظهر به وجوه فلاحهم فى الدارين وَهُدىً من الضلال وَرَحْمَةٌ من الله لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) بانه من الله تعالى..
أَمْ حَسِبَ
عطف على هذا بصائر أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها انكار الحسبان والتوبيخ ومعنى بل الاضراب عن ايقانهم بان القران بصائر وهدى يعنى انهم لا يوقنون ذلك بل حسب الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
اى اكتسبوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
اى نجعلهم مثلهم وهو ثانى مفعولى نجعل نزلت فى نفر من مشركى مكة قالوا للمؤمنين ان كان ما تقولون اى البعث حقّا لنفضّلن عليكم فى الاخرة كما فضّلنا فى الدنيا سَواءً
قرأ حمزة والكسائي وحفص «وخلف ابو محمد» بالنصب على البدل من قوله
فاعل لسواء والضميران للموصول الاول وان كان الضميران للثانى فسواء حال من الموصول الثاني وجاز ان يكون الضميران للفريقين وسواء بدل من كالّذين أمنوا او حال من الموصول الثاني وضمير الاول وقرأ الباقون سواء بالرفع على انه خبر محياهم ومماتهم مبتدا والجملة بدل من المفعول الثاني وجاز كون الجملة مفعولا ثانيا او استئناف يبين المقتضى للانكار او حال والضميران للفريقين والمعنى انكار ان يستووا بعد الممات فى الكرامة او ترك المؤاخذة كما استووا فى الرزق والصحة فى الحيوة الدنيا وقيل الضميران للفريقين والجملة مستأنفة والمعنى المؤمن مؤمن محب لله تعالى فى الدنيا والاخرة والكافر مبغوض لله تعالى فى الدنيا والاخرة ساءَ ما يَحْكُمُونَ
(٢١) حكمهم هذا بالمساوات قال البغوي قال مسروق قال لى رجل من اهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري لقد والله ذات ليلة أصبح او كرب ان يصبح يقرأ اية من كتاب الله يركع بها ويسجد ويبكى أم حسب الّذين اجترحوا السّيّئات ان نجعلهم كالّذين أمنوا وعملوا الصّلحت الاية..
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ اى ليدل على وجوده وقدرته وصفات كماله كانه دليل على ما سبق يعنى خلق هذه الأشياء ليس على سبيل اللهو والعبث بل هو متلبس بالحق المقتضى انتصار المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن فاذا لم يكن ذلك فى المحيا لا بد ان يكون بعد الممات وَلِتُجْزى عطف على قوله بالحقّ لانه فى معنى العلة او على علة محذوفة مثل ليستدل الناس بها على الصانع وقدرته وعدله وليقوموا على طاعته ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ محسنة ومسيئة بِما كَسَبَتْ من خير او شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) بنقص ثواب او تضعيف عذاب وتسميته ظلما مع ان فعل الله تعالى لا يكون ظلما لاجل المشاكلة فانه لو فعله غيره لكان ظلما كالابتلاء والاختيار..
أَفَرَأَيْتَ الفاء للعطف على محذوف تقديره أتهتم ان تهديهم فرأيت
اخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابى هريرة قال كان اهل الجاهلية يقولون انما
وَقالُوا عطف على مضمون الكلام السابق اى ضل الكافرون باتباع الهوى وقالوا ما هِيَ اى الحيوة شيئا إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التي نحن فيها نَمُوتُ فى بعض الأوقات وَنَحْيا فى بعضها بيان لقصر الحيوة على الحيوة الدنيا وقوله نموت ونحيا لا يدل على تعاقب الحيوة بعد الموت فان الواو للجمع المطلق كذا قال الزجاج وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ عطف على نموت ونحيا اى ما يهلكنا الا مرور الزمان فان بمرور الزمان يهرم المرء ويموت وحاصل ذلك انكار الصانع الواجب وجوده والدهر فى الأصل مدة بقاء العالم من مبدا وجوده الى انقضائه تم يعبر عنه عن كل مدة مديدة بخلاف الزمان فانه يطلق على المدة قليلة كانت او كثيرة وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ فان العلم انما يحصل بالبداهة او بالبرهان ولا شىء من ذلك بل البرهان قائم على وجود الصانع القديم الحكيم الجملة حال من فاعل قالوا إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٢٤) اى يحكمون بلا علم وبلا دليل تأكيد لما سبق عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر- رواه مسلم وروى البغوي بلفظ قال الله تعالى لا تقل ابن آدم يا خيبة الدهر فانى انا الدهر أرسل الليل والنهار وان شئت قبضتها- ومعنى الحديث ان سب الدهر منكم مبنى على زعمكم ان الدهر فاعل النوائب والحوادث- وجالب الحوادث ومنزّلها فى الواقع هو الله تعالى لا غيره فسبّكم يرجع الى الله تعالى وقيل معنى قوله عليه السلام فان الله هو الدهر ان الله داهر دهر اى خالق الدهر وما فيها فسبّكم الدهر زعما منكم بانه الخالق للاشياء مشرك فاجتنبوه والله اعلم-.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ اى حال كونها واضحات الدلالة على خلاف معتقدهم وعلى البعث بعد الموت او مبينات لذلك ما كانَ حُجَّتَهُمْ متشبثم لمعارضها شيئا إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) فى دعوى البعث وهذا شرط مستغن عن الجزاء بما مضى سماه حجة على حسبانهم او على اسلوب قوله تحيتهم بينهم ضرب وجيع وانه يلزم من عدم حصول الشيء
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ الى اىّ وقت شاء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ إذا أراد كما دلت الحجج ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ للجزاء إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كلمة الى زائدة او بمعنى اللام اى ليوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ لان وعد الله حق ومن قدر على الإبداء قادر على الاعادة والحكمة يقتضى المجازاة والجملة تأكيد لما سبق وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) قدرة الله على ذلك لقلة تفكرهم وقصور نظرهم على ما يحسبونه جملة قل الله يحييكم الى آخرها مستأنفة..
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تعميم للقدرة بعد تخصيصها والجملة عطف على خلق الله السّموت والأرض وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ بدل من الاول والظرف متعلق بقوله يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) اى يظهر خسرانهم بان يصيروا الى النار.
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً عطف على يخسر قال البغوي جاثية يعنى باركة على الركب وهى جلسة المخاصم بين يدى الحاكم ينتظر القضاء قال على رضى الله عنه انا أول من يجثو للخصومة بين يدى الله تعالى وقد ذكرنا فى سورة الحج فى تفسير قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ- قال سلمان الفارسي ان فى القيامة ساعة وهى عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى ابراهيم ينادى نفسى لا أسئلك الا نفسى- وقيل معنى كلّ امّة جاثية اى مجتمعة من الجثوة وهى الجماعة ذكر الجزري فى النهاية حديث ابن عمران الناس يصيرون يوم القيامة جثأ اى جماعة تتبع نبيها وتروى هذه اللفظة جثىّ بتشديد الياء جمع جاث وهو الذي يجلس على ركبتيه واخرج عبد الله بن احمد فى زوائد الزهد والبيهقي عن عبد بن ثانية قال قال رسول الله ﷺ كانى أراكم بالكرم دون جهنم جاثين ثم قرأ سفيان وترى كلّ امّة جاثية قال ابن حجر المراد بالكرم المكان العالي الذي عليه امة محمد ﷺ كُلَّ أُمَّةٍ قرأ يعقوب بالنصب على انه بدل من كلّ امّة او تأكيد وما بعده صفة او مفعول ثان والجمهور بالرفع على انه مبتدا خبره تُدْعى
اى صحيفة أعمالها اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا عن انس عن النبي ﷺ قال الكتب كلها تحت العرش فاذا كان الموقف بعث الله الريح فتطيرها بالايمان والشمائل أول خط فيها اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا- رواه البيهقي الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) صفة ثانية او خبر ثان لقوله كلّ امّة بتقدير القول اى يقال لهم اليوم تجزون الى قوله تعملون او مستأنفة.
هذا كِتابُنا اى صحائف أعمالكم التي كتبها الكرام الكاتبون بامرنا أضاف الى نفسه لتلك الملابسة وكتابنا صفة لهذا والخبر يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ اى يشهد عليكم بما عملتم او هما خبران لهذا او ينطق حال والعامل معنى الاشارة بِالْحَقِّ اى بالصدق بلا زيادة ونقصان إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ اى نستكتب الحفظة ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) وقيل معنى نستنسخ اى نأخذ نسخة وذلك ان الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله منه ما كان له ثواب او عقاب ويطرح منه اللغو نحو قولهم هلم واذهب وهذه الجملة فى مقام التعليل لينطق-.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ التي جملتها الجنة والجملة تفصيل لما أجمل فى قوله اليوم تجزون ما كنتم تعملون ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) اى الظفر الظاهر لخلوصه عن الشوائب.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ الاستفهام لانكار النفي وتقرير المنفي والفاء للعطف على محذوف تقديره الم يأتكم رسلى فلم تكن آياتي تتلى عليكم فحذف قوله فيقال لهم وقوله الم يأتكم رسلى اكتفاء بالمقصود واستغناء للقرينة فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الايمان بها هذه الجملة مع ما عطف على مضمون ما سبق يعنى قد أتاكم رسلى وتليت عليكم آياتي فاستكبرتم عن الايمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) اى قوما عادتكم الكفر والاجرام وكانت المقابلة يقتضى ان يكون الكلام وامّا الّذين كفروا فيدخلكم ربهم فى غضبه الذي من جملتها جهنم لكن عدل الى هذا تنبيها على موجب الغضب.
وَإِذا
عطف على قوله استكبرتم يعنى وإذا قيل لكم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ يحتمل الموعود والمصدر يعنى الموعود او متعلق الوعد وهو البعث حقّ كائن لا محالة وَالسَّاعَةُ قرأ حمزة بالنصب عطفا على اسم ان والباقون بالرفع عطفا على محله لا رَيْبَ فِيها اى فى إتيانها لاستحالة الخلف فيما اخبر الله به قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ اى اىّ شىء الساعة استغرابا لها إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أصله نظن ظنّا فادخل حرف النفي والاستثناء لاثبات الظن ونفى ما عداه كانّه قال ما نحن الا نظن ظنّا او لنفى ظنهم فيما سوى ذلك او يقال تنكير الظن للتحقير ومعناه ان نظن الا ظنا ضعيفا فى مرتبة الوهم فان الظن قد يطلق على العلم كما فى قوله تعالى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وقد يطلق على الوهم فالمراد بالأول مطلق العلم وبالثاني الوهم وأكّد نفى الظن بقوله وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا فى الدنيا اى ظهر لهم قبحها او جزاء ما عملوا عطف على مضمون ما سبق يعنى امّا الّذين كفروا فيدخلهم ربهم فى غضبه ويبدو لهم سيئات ما عملوا.
وَحاقَ اى نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) اى جزاء استهزائهم..
وَقِيلَ عطف على بدا لهم الْيَوْمَ نَنْساكُمْ اى نترككم فى العذاب ترك المنسى كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا اى كما تركتم عدته ولم تبالوه واضافة اللقاء الى اليوم اضافة المصدر الى ظرفه اى يوم لقاء ربكم او يوم لقاء جزاء أعمالكم وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) يخلصونكم منها هذان الجملتان اما معطوفتان على مقول قبل او حالان من مفعول ننساكم.
ذلِكُمْ الترك فى العذاب بِأَنَّكُمُ اى بسبب انكم اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً اى مهزوا بها يعنى استهزأتم بها ولم تتفكروا فيها وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا اى حسبتم ان لا حيوة سواها ولا حساب جملة ذلكم الى آخرها مستأنفة فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها قرأ حمزة «وخلف- ابو محمد» والكسائي بفتح الياء وضم الراء على البناء للفاعل والباقون بضم الياء وفتح الراء على البناء
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ اى الوصف بالجميل على وفائه الوعد في المؤمنين والمكذبين رَبِّ السَّماواتِ بدل من الله وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) كرر لفظ الرب لان ربوبية كل شى نعمة مستقلة من الله تعالى دالّة على كمال قدرته- ذكر العاطف بين الأرض والسماوات لتغائرهما وترك العاطف فى ربّ العالمين للاتحاد معنى فان السّموت والأرض معظم افراد العالم فكانّه بمعنى العالمين.
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى اثار عظمته وكبريائه ظاهرة فيهما او يقال الظرف متعلق بمحذوف اى يحكم بهذا الحكم اهل السماوات واهل الأرض فيهما وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا يغلبه أحد ولا يجوز لاحد ان يستكبر عليه الْحَكِيمُ (٣٧) فيما قدر وقضى عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ يقول الله تعالى الكبرياء ردائى والعظمة إزاري فمن نازعنى واحدا منهما أدخلته النار- وفى رواية قذفته فى النار- رواه مسلم- تم تفسير سورة الجاثية من التفسير المظهرى (ويتلوه تفسير سورة الأحقاف ان شاء الله تعالى) والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين فى التاريخ الثاني والعشرين من الربيع الثاني سنة ثمان بعد الف ومائتين (سنة ١٢٠٨).