ﰡ
﴿مِنَ الله العزيز الحكيم﴾ كما مرَّ في صدرِ سورةِ الزمرُ على التفصيلِ وقيلَ حم مقسمٌ به وتنزيلُ الكتابِ صفتُه وجوابُ القسمِ قوله تعالى
﴿وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ﴾ عطفٌ على المضافِ دونَ المضافِ إليه أي وفيمَا ينشرُه ويفرقه من دابة
﴿آيات﴾ بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه الظرف المقدم والجمل معطوفةٌ على ما قبلها كم الجملةِ المصدرةِ بإنَّ وقيلَ آياتٌ عطفٌ على ما قبلَها من آياتٍ باعتبارِ المحلِّ عندَ من يُجوِّزُه وقرئ
﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أي من شأنِهم أنْ يُوقنوا بالأشياءِ على ما هيَ عليه
﴿وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء﴾ عطفٌ على اختلافِ
﴿مِن رّزْقِ﴾ أي من مطرٍ وهو سببُ للرزقِ عُبرَ عنهُ بذلكَ تنبيهاً على كونِه آيةً من جِهتَيْ القُدرةِ والرحمةِ
﴿فَأحْيَا بِهِ الأرض﴾ بأنْ أخرجَ منها أصنافَ الزروعِ والثمراتِ والنباتِ
﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ وعرائها عن آثارِ الحياة وانتفاء قوةِ التنميةِ عنها وخُلوِّ أشجارِها عن الثمارِ
﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾ من جهة أُخرى ومن حالٍ إلى حال وقرئ بتوحيدِ الريحِ وتأخيرُه عن إنزالِ المطرِ مع تقدمِه عليهِ في الوجودِ إمَّا للإيذانِ بأنه آيةٌ مستقلةٌ حيثُ لو رُوعيَ الترتيبُ الوجوديُّ لربَّما توهِّم أنَّ مجموعَ تصريفِ الرياحِ وإنزالِ المطرِ آيةٌ واحدةٌ وإمَّا لأنَّ كونَ التصريفِ آيةً ليس لمجرد كونه مبدألإنشاء المطرِ بل لهُ ولسائرِ المنافعِ التي من جُملتها سَوْقُ السفنِ في البحارِ
﴿آيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه ما تقدمَ من الجارِّ والمجرورِ والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها وقرئ بالنصبِ على الاختصاصِ وقيلَ على أنَّها اسمُ أنَّ والمجرورُ المتقدمُ خبرُها بطريقِ العطفِ على معمولَيْ عاملينِ مختلفينِ هُمَا أنَّ وفي أقيمتِ الواوُ مُقامَهُما فعملتِ الجرَّ في اختلافِ والنصبَ في آياتٍ وتنكيرُ آياتٍ في المواقعِ الثلاثةِ للتفخيمِ كماً وكيفاً واختلافُ الفواصلِ لاختلافِ مراتبِ الآياتِ في الدقةِ والجلاءِ
﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾ حالٌ عاملُها معنى الإشارةِ وقيلَ هو الخبرُ وآياتُ الله بدلٌ أو عطفُ بيانٍ
﴿بالحق﴾ حالٌ من فاعلِ نتلُو ومن مفعولِه أي نتلُوها مُحِقينَ أو ملتبسةً بالحقِّ
﴿فَبِأَىّ حَدِيثٍ﴾ من الأحاديثِ
﴿بَعْدَ الله وآياته﴾ أي بعد آياتِ الله وتقديمُ الاسمِ الجليلِ لتعظيمِها كان في قولِهم أعجبنِي زيدٌ وكرمُه أو بعدَ حديثِ الله الذي هُو القرآنُ حسبما نطق به قوله تعالى نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث وهو المراد بآياته ومناطُ العطفِ التغايرُ العُنوانِي
﴿يؤمنون﴾ بصيغة الغيبة وقرئ بالتار
﴿أثيم﴾ كثر الآثام
﴿تتلى عَلَيْهِ﴾ حالٌ من آياتِ الله ولا مساغَ لجعلِه مفعولاً ثانياً ليسمعُ لأنَّ شرطَهُ أنْ يكونَ ما بعَدهُ مما لا يسمع
﴿ثُمَّ يُصِرُّ﴾ أي يقيمُ على كُفره وأصلُه من إصرارِ الحمارِ على العانة
﴿مُسْتَكْبِراً﴾ عن الإيمانِ بما سمعهُ من آياتِ الله تعالى والإذعان لما تنطق مُزدرياً لها مُعجَباً بما عندَهُ من الأباطيلِ وقيلَ نزلتْ في النَّضْر بنِ الحرث وكان يشترِي من أحاديثِ الأعاجمِ ويشغلُ بها النَّاسَ عن استماعِ القُرآنِ لكنَّها وردتْ بعبارةٍ عامةٍ ناعية عليهِ وعلى كلِّ من يسيرُ سيرتَهُ ما هم فيه من الشرِّ والفسادِ وكلمةُ ثمَّ لاستبعادِ الإصرارِ والاستكبارِ بعد سماعِ الآياتُ التي حقُّها أنْ تُذعنَ لها القلوبُ وتخضعَ لها الرقاب كما في قوله مَنْ قالَ يَرَى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يزورُهَا
﴿كَأَن لم يسمعها﴾ أي كائن لم يسمعْهَا فخُفف وحُذف ضميرُ الشأنِ والجملةُ حالٌ من يُصرُّ أي يصرُّ شبيهاً بغيرِ السامعِ
﴿فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ على إصرارِه واستكبارِه
﴿اتخذها﴾ أي الآياتِ كلها
﴿هزوا﴾ أي مهزوئا بها لاما سمَعهُ فقطْ وقيلَ الضميرُ للشيءِ والتأنيثُ لأنَّه في معنى الآيات
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى كلِّ أفاكٍ من حيثُ الاتِّصافُ بما ذُكر من القبائح والجمعُ باعتبارِ الشمولِ للكلِّ كما في قوله تعالى كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ من الضمائرِ باعتبارِ كلِّ واحدٍ واحدٍ
﴿لَهُمْ﴾ بسببِ جناياتِهم المذكورةِ
﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ وصفٌ العذابِ بالإهانةِ توفيةً لحقِّ استكبارِهم واستهزائِهم بآياتِ الله سبحانه وتعالى
﴿وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم﴾ ولا يدفعُ
﴿مَّا كَسَبُواْ﴾ من الأموالِ والأولادِ
﴿شَيْئاً﴾ من عذابِ الله تعالى أو شيئاً من الإغناءِ
﴿وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء﴾ أي الأصنامَ وتوسيطُ حرفِ النفي بينِ المعطوفينِ مع أنَّ عدمَ إغناءِ الأصنامِ أظهرُ وأجلى من عدمِ إغناءِ الأموالِ والأولادِ قطعاً مبنيٌّ على زعمِهم الفاسدِ حيثُ كانُوا يطعمون في شفاعتِهم وفيه تهكمٌ
﴿وَلَهُمْ﴾ فيما وراءَهُم من جهنمَ
﴿عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ لا يقادَرُ قَدرُه
﴿هُدًى﴾ في غايةِ الكمالِ من الهدايةِ كأنَّه نفسُها
﴿والذين كَفَرُواْ﴾ أي بالقرآنِ وإنما وضع موضع ضميره قوله تعالى
﴿بآيات رَبّهِمْ﴾ لزيادةِ تشنيعِ كفرِهم به وتفظيعِ حالِهم
﴿لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ﴾ أي من أشدِّ العذابِ
﴿أَلِيمٌ﴾ بالرَّفعِ صفة عذاب وقرئ بالجر على أنه صفةٌ رجزٍ وتنوينُ عذابٌ في المواقعِ الثلاثةِ للتفخيمِ ورفعُه إما على الابتداء وإما على الفاعلية
﴿لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ﴾ وأنتم راكبوها
﴿وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ بالتجارةِ والغوصِ والصيدِ وغيرِها
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ولكيْ تشكرُوا النعَم المترتبةَ على ذلكَ
﴿جَمِيعاً﴾ إما حالٌ مِنْ ما في السمواتِ والأرضِ أو توكيدٌ له
﴿مِنْهُ﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لجميعاً أو حالٌ مِنْ مَا أيْ جميعاً كائناً منْهُ تعالَى أو سخَّر لكُم هذهِ الأشياءَ كائنةً منه مخلوقةً له تعالى أو خبرٌ لمحذوفٍ أيْ هي جميعاً منه تعالى وقرئ منه عَلى المفعولِ لَهُ ومنه على أنه فاعلُ سخَّر على الإسنادِ المجازيِّ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي ذلكَ منْهُ
﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ أي فيما ذكر من الأمور العظائم
﴿لأَيَاتٍ﴾ عظيمةَ الشأنِ كثيرةَ العددِ
﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في بدائع صنعِ الله تعالى فإنَّهم يقفونَ بذلكَ على جلائلِ نعمهِ تعالى ودقائِقها ويوفقونَ لشكرِها
﴿يَغْفِرُواْ﴾ عليهِ فإنَّه جوابٌ للأمرِ باعتبارِ تعلقهِ به لا باعتبارِ نفسِه فقطْ أي قُلْ لهم اغفِروا يغفروا
﴿لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله﴾ أي يعفُوا ويصفحوا عنِ الذينَ لا يتوقعونَ وقائعَهُ تعالى بأعدائِه من قولِهم أيامُ العربِ لوقائِعها وقيلَ لا يأملون الأوقاتَ التي وقَّتها الله تعالى لثوابِ المؤمنينَ ووعدهم الفوزَ فيها قيلَ نزلتْ قبلَ آيةِ القتالِ ثمَّ نُسختْ بها وقيلَ نزلتْ في عمر رضي الله عنه حينَ شتمَهُ غفاريٌّ فهَّم أنْ يبطشَ بهِ وقيلَ حينَ قالَ ابنُ أُبيِّ ما قالَ وذلكَ أنَّهم نزلُوا في غزوةِ بني المصطلِقِ على بئرٍ يقالُ لها المريسيع فأرسلَ ابنُ أُبيَ غلامَهُ يستَقي فأبطأَ عليهِ فلمَّا أتاهُ قالَ له ما حسبك قال غلامُ عمرَ قعدَ على طرفِ البئرِ فما تركَ أحداً يستَقي حتى ملأ قرب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقُرَبَ أبي بكرٍ فقالَ ابنُ أُبيَ ما مثلُنا ومثلُ هؤلاءِ إلا كَما قيلَ سمِّنْ كلْبكَ يأكلْكَ فبلغَ ذلكَ عمرَ رضيَ الله عنه فاشتملَ سيفَهُ يريدُ التوجَه إليهِ فأنزلَها الله تعالَى
﴿لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ تعليلٌ للأمرِ بالمغفرةِ والمرادُ بالقومِ المؤمنونَ والتنكيرِ لمدحِهم والثناءِ عليهم أي أُمروا بذلكَ ليجزيَ يومَ القيامةِ قوماً أيَّما قومٍ قوماً مخصوصينَ بما كسبوا في الدُّنيا من الأعمالِ الحسنةِ التي من جُملتها الصبرُ على أذيةِ الكفارِ والإغضاءُ عنهم بكظمِ الغيظِ واحتمالِ المكروهِ ما يقصُر عنه البيانُ من الثوابِ العظيمِ هذا وقد جوِّز أن يراد بالقومِ الكفرةُ وبما كانُوا يكسبونَ سيئاتُهم التي من جُملتها ما حُكِيَ من الكلمةِ الخبيثةِ والتنكيرُ للتحقيرِ وفيهِ أنَّ مطلقَ الجزاءِ لا يصلحُ تعليلاً للأمرِ بالمغفرةِ لتحققِه على تقديريْ المغفرةِ وعدمِها فلا بُدَّ من تخصيصِه بالكلِّ بأنْ لا يتحققَ بعضٌ منه في الدُّنيا أو بما يصدرُ عنه تعالى بالذاتِ وفي ذلكَ من التكلفِ مالا
﴿ثُمَّ إلى رَبّكُمْ﴾ مالكِ أمورِكم
﴿تُرْجَعُونَ﴾ فيجازيكُم على أعمالِكم خيراً كانَ أو شراً
﴿والحكم﴾ أي الحكمة النظرية والعلمية والفقهَ في الدِّينِ أو فصلَ الخصومات بينَ النَّاسِ إذْ كانَ الملكُ فيهم
﴿والنبوة﴾ حيثُ كثُرَ فيهم الأنبياء مالم يكثرْ في غيرِهم
﴿وَرَزَقْنَاهُمْ من الطيبات﴾ مما أخل الله تعالى من اللذائذِ كالمنِّ والسلوى
﴿وفضلناهم عَلَى العالمين﴾ حيث آتيناهم مالم يؤت من عَداهُم من فلقِ البحر وإضلال الغمام ونظائرها وقيلَ على عالَمِي زمانِهم
﴿فَمَا اختلفوا﴾ في ذلك الأمرِ
﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم﴾ بحقيقتِه وحقِّيتهِ فجعلُوا ما يوجبُ زوالَ الخلافِ مُوجباً لرسوخهِ
﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ أي عداوةً وحسداً لا شكاً فيه
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ بالمُؤاخذةِ والجَزَاءِ
﴿فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من أَمْرِ الدِّينِ
﴿مِنَ الأمر﴾ أي أمرِ الدينِ
﴿فاتبعها﴾ بإجراءِ أحكامِها في نفسِك وفي غيرِك من غيرِ إخلالٍ بشيءٍ منَها
﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي آراءَ الجهلةِ واعتقاداتِهم الزائغةَ التابعةَ للشهواتِ وهم رؤساءُ قريشٍ كانُوا يقولونَ له عليه الصلاة والسلام ارجعْ إلى دينِ آبائِك
﴿وَإِنَّ الظالمين بعضَهم أولياءُ بَعْضٍ﴾ لا يوُاليهم ولا يتبع أهواءهم إلأا من كان ظالما مثلها
﴿والله وَلِىُّ المتقين﴾ الذين أنت قدوتهم قدم على ما أنت عليه من توليه خاصة الأعراض عمَّا سواهُ بالكُلِّيةِ
﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾
﴿وهدى﴾ منْ ورطةِ الضلالةِ
﴿وَرَحْمَةً﴾ عظيمةٌ
﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ منْ شأنِهم الإيقانُ بالأمورِ
﴿أَن نَّجْعَلَهُمْ﴾ أي نُصيَّرهُم في الحُكمِ والاعتبارِ وهُم على ما هم عليه من مساوئ الأحوال
﴿كالذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ وهُم فيمَا هُم فيهِ من محاسنِ الأعمالِ ونعاملُهُم معاملتهم في الكرامة ورفع الدرجة
﴿سَوَاء محياهم ومماتهم﴾ أيْ محيَا الفريقينِ جميعاً ومماتُهم حال من الضمير في الظرفِ والموصولِ معاً لاشتمالِه على ضميريِهما على أنَّ السواء بمعنى المستوى محياهُم ومماتُهم كلاَّ لا يستوونَ في شيءٍ منهُمَا فإنَّ هؤلاءِ في عزِّ الإيمانِ والطاعةِ وشرفِهما في المَحيا وفي رحمةِ الله تعالَى ورضوانِه في المماتِ وأولئك في ذلك الكفر والمعاصي وهو أنهما في المَحيا وفي لعنةِ الله والعذابِ الخالدِ في المماتِ شتانَ بينهما وقد قيلَ المراد إنكارُ أنْ يستووا في المماتِ كما استَووا في الحياةِ لأن المسيئينَ والمحسنينَ مستوٍ محياهُم في الرزقِ والصحةِ وإنما يفترقون في الممات وقرئ محياهم ومماتَهم بالنصبِ على أنَّهما ظرفانِ كمقْدَمِ الحاجِّ وسواء حاله على حالِه أي حالَ كونِهم مستوينَ في محياهُم ومماتِهم وقد ذُكرَ في الآية الكريمة وجوه من الإعرابِ والذي يليقُ بجزالة التنزيل هو الأول فتدبر وقرئ سواءٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ ومحياهُم مبتدأٌ فقيلَ الجملةُ بدل من الكافِ وقيل حالٌ وأيَّا ما كان فنسبة حسبات التساوي إليهم في ضظم الإنكارِ التوبيخيِّ مع أنَّهم بمعزلٍ منه جازمونَ بفضلِهم عليه إنكارٌ لحسبانِ الجزمِ بالفضلِ وتوبيخٌ عليهِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه
﴿سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ أي ساءَ حكمُهم هَذا أو بئسَ شيئاحكموا به ذلكَ
﴿ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ عطفٌ عَلى بالحقِّ لأنَّ فيهِ مَعْنى التعليلِ إذْ معناهُ خلَقَها مقرونةً بالحكمة والصواب دون البعث والباطلِ فحاصلُه خلقَها لأجلِ ذلكَ ولتُجزَى الخ أو على علة
﴿وَهُمْ﴾ أي النفوسُ المدلولُ عليها بكلِّ نفسٍ
﴿لاَ يُظْلَمُونَ﴾ بنقصِ ثوابٍ أو بزيادةِ عقابٍ وتسميةُ ذلكَ ظُلماً معَ أنَّه ليسَ كذلكَ على ما عرف قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ لبيانِ غايةِ تنزهِ ساحةِ لُطفهِ تعالى عما ذكر بتنزيله منزلةَ الظلمِ الذي يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالَى
﴿وَأَضَلَّهُ الله﴾ وخذلَه
﴿على عِلْمٍ﴾ أي عالماً بضلالِه وتبديلِه لفطرةِ الله تعالى التي فَطَرَ النَّاسَ عليها
﴿وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ بحيثُ لا يتأثرُ بالمواعظِ ولا يتفكرُ في الآياتِ والنذرِ
﴿وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة﴾ مانعةً عن الاستبصار والاعتبار وقرئ بفتح الغين وضمها وقرئ غشوةً
﴿فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله﴾ أي من بعدِ إضلالِه تعالى إيَّاهُ بموجبِ تعاميهِ عنِ الهُدى وتماديهِ في الغيِّ
﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ أي أَلاَ تلاحظونَ فلا تذكرون وقرئ تتذكرونَ على الأصلِ
﴿مَا هِىَ﴾ أيْ ما الحَيَاةُ
﴿إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾ التي نحنُ فيَها ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ أي يصيبنا الموتُ والحياةُ فيها وليسَ وراءَ ذلكَ حياةٌ وقيلَ نكونُ نطفاً وما قبلَها وما بعدَها ونحيا بعدَ ذلكَ أو نموتُ بأنفسِنا ونحيَا ببقاءِ أولادِنا أو يموتُ بعضُنا ويحيا بعضُنا وقد جُوِّزَ أنْ يريدُوا به التناسخَ فإنَّه عقيدةُ أكثرِ عبدةِ الأوثان وقرئ نَحْيَا
﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر﴾ إلا مرورُ الزمانِ وهُو في الأصلِ مدةُ بقاءِ العالمِ من دَهَرهُ أي غلبه وقرئ إلا دهرٌ يمرُّ وكانُوا يزعمونَ أن المؤثرَ في هلاكِ الأنفسِ هُو مرورُ الأيامِ والليالِي وينكرونَ ملكَ الموتِ وقبضَه للأرواحِ بأمرِ الله تعالى ويضيفونَ الحوادثَ إلى الدهرِ والزمانِ ومنْهُ قوله ﷺ لا تسبُّوا الدهرَ فإنَّ الله هو الدهرُ أي فإنَّ الله هُو الآتِي بالحوادثِ لا الدهرُ
﴿وَمَا لَهُم بِذَلِكَ﴾ أي بما ذُكر من اقتصارِ الحياةِ على ما في الدُّنيا واستنادِ الحياةِ والموتِ إلى الدهرِ
﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ مَا مستندٍ إلى عقلٍ أو نقلٍ
﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ ما هُم إلا قوم صارى أمرِهم الظنُّ والتقليدُ من غيرِ أنْ يكونَ لهم شيءٌ يصحُّ أنْ يتمسكَ به في الجملةِ هذا معتقدُهم الفاسدُ في أنفسِهم
﴿بَيّنَاتٍ﴾ واضحاتِ الدِلالة على ما نطقت بهِ أو مبيناتٍ له
﴿مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ﴾ بالنصبِ
﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بآبائنا إِن كُنتُمْ صادقين﴾ في أنَّا نبعثُ بعدَ الموتِ أي هذا القولُ الباطلُ الذي يستحيلُ أنْ يكونَ من قبيل الحجة وتسمية حجةً إمَّا لسوقِهم إيَّاهُ مساقَ الحُجَّةِ على سبيلِ التهكمِ بهم أو لأنَّه من قبيلِ تحيةٌ بينِهم ضربٌ وجيعُ وقرئ برفعِ حجَّتَهم على أنَّها اسمُ كانَ فالمَعْنى ما كانَ حجَّتُهم شيئاً من الأشياءِ إلا هَذا القولَ الباطلَ
﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عندَ انقضاءِ آجالِكم لا كما تزعمونَ من أنَّكم تحيَونَ وتموتونَ بحُكمِ الدهرِ
﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ﴾ بعدَ الموتِ
﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ للجزاءِ
﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي في جمعِكم فإن من قدَر على البدءِ قدرَ على الإِعادةِ والحكمةُ اقتضتْ الجمعَ للجزاءِ لا محالةَ والوعدُ المصدقُ بالآيات الدال على وقَوعِها حتماً والإتيانُ بآبائِهم حيثُ كانَ مُزاحماً للحكمةِ التشريعيةِ امتنعَ إيقاعُه
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ استدراكٌ من قولِه تعالَى لاَ رَيْبَ فِيهِ وهُو إمَّا من تمامِ الكلامِ المأمورِ بهِ أو كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على أنَّ ارتيابَهُم لجهلِهم وقُصُورِهم في النظرِ والتفكرِ لا لأنَّ فيه شائبةَ رَيْبٍ مَا
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون﴾ العاملُ في يوم يخسرو يومئذ بدلٌ منه
﴿جَاثِيَةً﴾ باركةً على الركب مستوفزة وقرئ جاذيةً أي جالسةً على أطرافِ الأصابعِ والجَذْوُ أشدُّ استيفازاً منَ الجُثُوّ وعنِ ابن عباس رضي الله عنهما جاثية مجتمعةً وقيلَ جماعاتٍ من الجثو وهيَ الجماعةُ
﴿كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها﴾ إلى صحيفة أعمالها وقرئ كُلَّ بالنَّصبِ على أنَّه بدلٌ من الأولِ وَتُدْعَى صفةٌ أو حالٌ أو مفعولٌ ثانٍ
﴿اليوم تُجْزَوْنَ ما كنتم تعملون﴾ أي يقالُ لهم ذلكَ وقوله تعالى
} ٤
سورة الأحقاف مكية وآيها خمس وثلاثون
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾