ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣)الَّذِينَ في موضع رفع بالابتداء ومن العرب من يقول: اللّذون في غير القرآن إذا كان موضع رفع.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٤]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الفراء «١» : وفي قراءة عبد الله قل أريتم من تدعون من دون الله يعني بالنون، «أريتم» لغة معروفة للعرب كثيرة، وأرأيتم الأصل، ولغة ثالثة أن يخفف الهمزة التي بعد الراء فتجعل بين بين. ومن قرأ «ما تدعون» جاء به على بابه لأنه للأصنام. ومن قرأ من فلأنهم قد عبدوها فأنزلوها منزلة ما يعقل.
وعلى هذا أجمعت القراء على أن قرءوا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ ولم يقرءوا خلقن ولا خلقت ولا لهنّ ولا لها. ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ وقرأ أبو عبد الرحمن السّلميّ أو أثرة «٢» وحكى الفراء «٣» لغة ثالثة وهي (أثرة) بفتح الهمزة وحكى الكسائي لغة رابعة وهي «أو أثرة» بضم الهمزة والمعنى في اللغات الثلاث عند الفراء واحد، والمعنى عند بقيّة من علم. ويجوز أن يكون المعنى عنده شيئا مأثورا من كتب الأولين. فأثارة عنده مصدر كالسّماحة والشّجاعة، وأثرة عنده بمعنى أثر كقولهم: قترة وقتر، وأثرة كخطفة. فأما الكسائي فإنه قال: أثارة وأثرة وأثرة كلّ ذلك تقول العرب،
(٢) انظر البحر المحيط ٨/ ٥٦، والمحتسب ٢/ ٢٦٤.
(٣) انظر معاني الفراء ٣/ ٥٠.
«إنّ الله جلّ وعزّ ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله جلّ وعزّ أو ليسكت» «١» قال عمر: فما حلفت بها بعد ذاكرا ولا أثرا. وفي بعض الحديث «من حلف بغير الله جلّ وعزّ فقد أشرك» «٢» وفي أخر «فقد كفر» فقوله «ذاكرا» معناه متكلّما بها، وقائلا بها، كما يقال: ذكرت لفلان كذا ومعنى «ولا أثرا» ولا مخبرا بها عن غيري أنه حلف بها. ومن هذا حديث مأثور، يقال: أثر الحديث يأثره، وأثر يفعل ذلك واثر فلان فلانا، إذا فضّله، وأثار التراب يثيره، ووثر الشيء ويؤثر إذا صار وطيئا ومنه قيل: ميثرة انقلبت الواو فيها ياء.
وفي معنى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف بغير الله جلّ وعزّ فقد أشرك». أقوال:
أصحّها أنّ المعنى فقد أشرك في تعظيم الله جلّ وعزّ غير الله لأنه إنما يحلف الإنسان بما يعظّمه أكبر العظمة، وهذا لا ينبغي أن يكون إلّا لله جلّ وعزّ. وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فقد كفر» أقوال: فمن أصحّها أنّ الكفر هو التغطية. والمعنى: فقد غطّى وستر ما يجب أن يظهر من تعظيم الله جلّ وعزّ.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٥]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ومن أضلّ عن الحقّ ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة. قال الفراء «٣» : وفي قراءة عبد الله ما لا يستجيب له والقول فيه مثل ما تقدّم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٦]
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً أي يتبرؤون منهم ومن عبادتهم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٧]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ نصب على الحال.
(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٢/ ٦٧، ٨٧، وذكره الطحاوي في مشكل الآثار ٣٥٨، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٣٤١٩، وابن حجر في فتح الباري ١٠/ ٥١٦، والمتقي الهندي في كنز العمال (٤٦٣٢٨)، وابن كثير في تفسيره ٤/ ٣٤٢.
(٣) انظر معاني الفراء ٣/ ٥٠.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٨]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ قال محمد بن يزيد: أي بما تمضون فيه قال: ومنه حديث مستفيض ومستفاض فيه إذا شاع حتّى يتكلم النّاس فيه كَفى بِهِ شَهِيداً نصب على الحال، ويجوز أن يكون نصبا على البيان والباء زائدة جيء بها للتوكيد لأن المعنى: اكتفوا به، قال: فإذا قلت: كفى بزيد، فمعناه كفى زيد.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٩]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ قال محمد بن يزيد: البدع والبديع الأول. يقال: ابتدع فلان كذا، إذا أتى بما لم يكن قبله، وفلان مبتدع من البدعة وهي التي لم يتقدّم لها شبه، وقال عزّ وجلّ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: ١١٧] أي مبتدئهما. وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ حذفت الضمّة من الياء لثقلها، وكذا وإن أدري.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ قيل: شاهد بمعنى شهود تشهد جماعة من بني إسرائيل ممن أسلم على أنهم قد قرءوا التوراة. وفيها تعريف نزول القرآن من عند الله جلّ وعزّ ومن أجّل ما روي في ذلك ما رواه مالك بن أنس عن أبي النّضر عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشهد لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا عبد الله بن سلام ففيه نزلت وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ قال أبو جعفر: ومع هذا فقد عارض هذا الحديث علماء جلّة منهم مسروق والشّعبي فقالا: لم تنزل في عبد الله بن سلام لأن السورة مكّية وعبد الله بن سلام بالمدينة، وإنما نزلت في غيره. والحديث صحيح السند وقد احتجّ على من أنكر ذلك بأن السورة وإن كانت مكّية فإنه قد يجوز أن يضمّ إليها بعض ما أنزل بالمدينة لأن التأليف من عند الله جلّ وعزّ يأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أحبّ وأراد. فهذا قول بيّن، وقد قيل: إنّ قريشا وجّهت من مكّة إلى المدينة لأنه كان بها علماء اليهود يسألون عن أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فشهد عبد الله بن سلام بنبوته صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله جلّ وعزّ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ الآية ومع هذا كلّه فإنّ الحديث، وإن كان صحيح السند فقد قيل: إنّ الذي في الحديث من قوله وفيه نزلت ليس من كلام سعد وإنما هو من كلام بعض المحدّثين خلط بالحديث ولم يفصل.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١١]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ روى ابن المبارك عن معمر عن قتادة قال: قال قوم من المشركين: نحن ونحن يفتخرون لو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان يعنون عمّارا وبلالا وصهيبا وضروبهم فأنزل الله جلّ وعزّ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ [البقرة: ١٠٥]. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ زعم سيبويه «١» أن «إذ» لا يجازى بها حتّى يضمّ إليها «ما»، وكذا «حيث». قال أبو جعفر: والعلّة في ذلك أن «ما» يفصلها من الفعل الذي بعدها فتعمل فيه، وإذا لم تأت بما كان متّصلا بها وهي مضافة إليه فلم تعمل فيه فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي تقدّم مثله في سالف الدهور.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٢]
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)
إِماماً منصوب على الحال أي يؤتمّ به وَرَحْمَةً عطف على إمام أي ونعمة.
وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا منصوب على الحال والضعيف في العربية يتوهّم أنه حال من نكرة لأن الذي قبله نكرة والحال من النكرة ليس بجيد ولا يقال في كتاب الله جلّ وعزّ ما غيره أجود منه فلسانا منصوب على الحال من المضمر الذي في مصدّق، والمضمر معرفة وجاز نصب لسان على الحال لأنه بمعنى مبين وكان علي بن سليمان يقول: في هذا هو توطئة للحال و «عربيا» منصوب على الحال، كما تقول: هذا زيد رجلا صالحا لتنذر الّذين ظلموا بالتاء، هذه قراءة المدنيين، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا «٢» واختيار أبي عبيد لتنذر «٣» بالتاء، واحتج بقوله جلّ وعزّ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد: ٧]. قال أبو جعفر: والمعنى في القراءتين واحد، ولا اختيار فيهما من قرأ «لينذر» جعله للقرآن أو لله جلّ وعزّ، وإذا كان للقرآن فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المنذر به وكذا إذا كان لله جلّ وعزّ فإذا عرف المعنى لم يقع في ذلك اختيار كما قال جلّ وعزّ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال:
٣٨] فقد علم أن الغافر هو الله جلّ وعزّ والقراءة نغفر ويغفر واحد، وكذا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ [البقرة: ٥٨] و «يغفر» واحد ليس أحدهما أولى من الآخر. وَبُشْرى في موضع رفع عطفا على «كتاب»، ويجوز أن يكون في موضع نصب على المصدر لِلْمُحْسِنِينَ قال ابن عيينة: الإحسان التفضّل والعدل والإنصاف.
(٢) انظر تيسير الداني ١٦١.
(٣) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٥٩٦.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٣ الى ١٤]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أي على طاعة الله جلّ وعزّ ثم أخبر جلّ ثناؤه بما لهم فقال: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي في الآخرة. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا في الدنيا. كذا قال أهل التفسير، وبعده خبر أخر وهو أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها نصب على الحال. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مصدر.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٥]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً هذه قراءة «١» المدنيين والبصريين، وكذا في مصاحفهم، وقرأ حمزة والكسائي إِحْساناً «٢» وروي عن عيسى بن عمر أنه قرأ حسنا بفتح الحاء والسين فأما «حسنى» بغير تنوين فلا يجوز في العربية لأن مثل هذا لا تنطق به العرب إلّا بالألف واللام الفضلى والأفضل والحسنى والأحسن. وإحسان مصدر أحسن وحسنا بمعناه، وحسن على إقامة النعت مقام المنعوت أي فعلا حسنا وينشد بيت زهير: [البسيط] ٤٢٠-
يطلب شأو امرأين قدّما حسنا | فاقا الملوك وبذّا هذه السّوقا |
(٢) انظر تيسير الداني ١٦١.
(٣) مرّ الشاهد رقم (٣١٦).
(٤) انظر تيسير الداني ١٦١، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٩٦.
(٥) انظر البحر المحيط ٨/ ٦٠.
إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الأصل إنّني حذفت النون لاجتماع النونات.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
أولئك الّذين يتقبّل عنهم أحسن ما عملوا قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ بالنون وكذا «نتجاوز» بالنون أنها أخبار من الله جلّ وعزّ عن نفسه وإنما اختار هذه القراءة لقوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ وقرأ الباقون يتقبّل بالياء، وكذا يتجاوز على ما لم يسمّ فاعله وأَحْسَنَ ما عَمِلُوا ومن قرأ بالنون نصب أحسن لأنه مفعول به. وَعْدَ الصِّدْقِ منصوب على المصدر.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٧]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧)
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما قال الفراء «٤» : أي قذرا لكما. وقد ذكرنا «٥» ما في
(٢) ذكره البيهقي في السنن الكبرى ٧/ ٣١٩، والطبراني في المعجم الصغير ٢/ ٦٨، والزيلعي في نصب الرآية ٣/ ٢١٩، وابن حجر في المطالب العالية (١٧٠٧)، والسيوطي في الدر المنثور ١/ ٢٢٨.
(٣) ذكره في إعراب الآية ٣٢ سورة يوسف.
(٤) انظر معاني الفراء ٣/ ٥٣. [.....]
(٥) انظر إعراب الآية ٢٣- الإسراء.
وفتح هذه النون لحن ولا يلتفت إلى ما أنشد وهو: [الرجز].
٤٢١-
أعرف منها الأنف والعينانا
«٢» وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: إن كان مثل هذا يجوز فليس بين الحق والباطل فرق. يتركون كتاب الله جلّ وعزّ ولغات العرب الفصيحة ويستشهدون بأعرابي بوال. أَنْ أُخْرَجَ وقرأ الحسن أن أخرج «٣» وتقديره أن أخرج من قبري. وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي يسألانه ويطلبان إليه أن يلطف لهما بما يؤمن به.
وَيْلَكَ آمِنْ يدلّك على أنهما احتجّا عليه ووعظاه، ونصب ويلك على المصدر.
وتوهّم القائل لهذا القول أن الأمم لمّا لم تخرج من قبورها أحياء في الدنيا أنّها لا تبعث فذلك قوله: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٠]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
أَذْهَبْتُمْ هذه القراءة مروية عن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه، وهي قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم وابن أبي إسحاق وحمزة والكسائي. وقرأ يزيد بن القعقاع أذهبتم «٤» وهذه القراءة مروية عن الحسن والقراءتان عند الفراء «٥» بمعنى واحد.
قال الفراء: العرب تستفهم في التوبيخ ولا نستفهم، فيقولون: ذهبت ففعلت وفعلت، ويقولون: أذهبت ففعلت وفعلت، وكلّ صواب. قال أبو جعفر: فأما ما روي عن محمد بن يزيد فتحقيق هذا، وهو أن الصواب عنده ترك الاستفهام فيقرأ «أذهبتم» وفيه معنى التوبيخ، وإن كان خبرا. والمعنى عنده: أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا فذوقوا العذاب. والاستفهام إذا قرأ «أذهبتم» فهو على التوبيخ والتقرير، وإنما اختار أذهبتم
(٢) الرجز لرؤبة بن العجاج في ملحق ديوانه ١٨٧، ولرؤبة أو لرجل من ضبة في الدرر ١/ ١٣٩، والمقاصد النحوية ١/ ١٨٤، ولرجل في نوادر أبي زيد ص ١٥، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١/ ٦٤، وتخليص الشواهد ٨٠، وخزانة الأدب ٧/ ٤٥٢، ورصف المباني ص ٢٤، وسرّ صناعة الإعراب ص ٤٨٩، وشرح الأشموني ١/ ٣٩، وشرح التصريح ١/ ٧٨، وشرح ابن عقيل ص ٤٢، وشرح المفصل ٣/ ١٢٩، وهمع الهوامع ١/ ٤٩، وبعده:
«ومنخرين أشبها ظبيانا»
(٣) وهذه قراءة ابن يعمر وابن مصرف والضحاك أيضا، انظر البحر المحيط ٨/ ٦٢.
(٤) انظر تيسير الداني ١٦٢.
(٥) انظر معاني الفراء ٣/ ٥٤.
٤٢٢-
ألستم خير من ركب المطايا | وأندى العالمين بطون راح |
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤)
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ صرف عاد لأنه اسم للحيّ ولو جعل اسما للقبيلة لم ينصرف وإن كان على ثلاثة أحرف، وكذا لو سمّيت امرأة بزيد لم ينصرف وإن سمّيتها بهند جاز الصرف عند الخليل وسيبويه «٢» والكسائي والفراء إلّا أنّ الاختيار عند الخليل وسيبويه ترك الصرف، وعند الكسائي والفراء الأجود الصّرف. فأما أبو إسحاق فكان يقول: إذا سمّيت امرأة بهند لم يجز الصّرف البتّة. وهذا هو القياس لأنها مؤنّثة وهي معرفة.
فأما قول بعض النحويين: إنّك إذا سمّيت بفعل ماض لم ينصرف فقد ردّه عليه سيبويه بالسّماع من العرب خلاف ما قال، وأنّ له نصيرا من الأسماء، وكذا يقال: كتبت أبا جاد بالصرف لا غير إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ قال مجاهد: الأحقاف أرض. وقال ابن أبين نعيم: الأحقاف: اسم أرض. وقال وهب بن منبّه: الأحقاف باليمن الأصنام والأوثان وقد قهروا الناس بكثرتهم وقوتهم. وقال محمد بن يزيد: واحد الأحقاف حقف وهو رمل مكتنز ليس بالعظيم وفيه اعوجاج، قال: ويقال: احقوقف الشيء إذا اعوجّ حتّى كاد يلتقي طرفاه، كما قال: [الرجز] ٤٢٣-
سماوة الهلال حتّى احقوقفا
«٣» وانصرف الأحقاف وإن كان اسم أرض لأن فيه ألفا ولاما. قال سيبويه: واعلم أن كلّ ما لا ينصرف إذا دخلته ألف ولام أو أضيف انصرف. وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ جمع نذير، وهو الرسول. ويجوز أن تكون النذر اسما للمصدر. قال الفراء: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
(٢) انظر الكتاب ٣/ ٢٦٥.
(٣) الشاهد للعجاج في ديوانه ٢/ ٢٣٢، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٣١٩، ولسان العرب (حقف) و (زلف) و (وجف)، و (سما) بلا نسبة في الكتاب ١/ ٤٢٥، وجمهرة اللغة ٥٥٣.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٤]
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤)
قال محمد بن يزيد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً فيه جوابان: يكون التقدير فلمّا رأوا السحاب، وإن كان لم يتقدّم للسّحاب ذكر لأنّ الضمير قد عرف ودل عليه «عارضا»، والجواب الآخر أن يكون جوابا لقولهم فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي فلمّا رأوا ما يوعدون عارضا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ يقدّر فيه التنوين، وكذا قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أو ممطر لنا، كما قال: [البسيط] ٤٢٤-
يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم
«١» أي غابط لنا. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ قال الفراء «٢» : وفي حرف عبد الله: قل بل ما استعجلتم به هي ريح فيها عذاب أليم. قال: وهي وهو مثل مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [القيامة: ٣٧] ويمنى. من قال: هو، ذهب إلى العذاب، ومن قال هي، ذهب إلى الريح.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٥]
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم هذه قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو والكسائي «٣»، وهي المعروفة من قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس.
وقرأ الأعمش وحمزة وعاصم فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ وهي المعروفة من قراءة ابن مسعود ومجاهد، وقرأ الحسن وعاصم الجحدريّ فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم «٤» بالتاء ورفع المساكن على اسم ما لم يسمّ فاعله. وهذه القراءة عند الفراء
«لاقى مباعدة منكم وحرمانا»
(٢) انظر معاني الفراء ٣/ ٥٥.
(٣) انظر تيسير الداني ١٦٢، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٩٨.
(٤) انظر البحر المحيط ٨/ ٦٥.
لم يقم إلّا هند لأن المعنى عنده: لم يقم أحد إلّا هند.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٦]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ قال محمد بن يزيد: «ما» بمعنى الذي و «إن» بمعنى «ما» أي ولقد مكّنّاهم في الذي مكّنّاكم فيه. وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فجاء السمع مفردا وما بعده مجموعا ففيه غير جواب منها أنّه مصدر فلم يجمع لذلك، ومنها أن يكون فيه محذوف أي وجعلنا لهم ذوات سمع، ومنها أن يكون واحدا يدلّ على جمع فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ تكون «ما» نعتا لا موضع لها من الإعراب، وإن جعلتها استفهاما كان موضعها نصبا. قال الفراء «١» : وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي عاد، قال: وأهل التفسير يقولون: أحاط ونزل.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٧]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى هذه لام توكيد. و «قد» عند الخليل وسيبويه بمعنى التوقّع مع الماضي فإذا كانت مع المستقبل أدّت معنى التقليل، تقول: قد يقوم أي يقلّ ذلك منه.
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ لولا وهلّا واحد، كما قال: [الطويل] ٤٢٥-
بني ضوطرى لولا الكميّ المقنّعا
«٢»
(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ٩٠٧، وتخليص الشواهد ص ٤٣١، وجواهر الأدب ص ٣٩٤، وخزانة الأدب ٣/ ٥٥، والخصائص ٢/ ٤٥، والدرر ٢/ ٢٤٠، وشرح شواهد الإيضاح ٧٢، وشرح شواهد المغني ٢/ ٦٦٩، وشرح المفصل ٢/ ٣٨، والمقاصد النحوية ٤/ ٤٧٥، ولسان العرب (أمالا)، وتاج العروس (لو)، وللفرزدق في الأزهيّة ١٦٨، ولسان العرب (ضطر)، ولجرير أو للأشهب بن رميلة في شرح المفصّل ٨/ ١٤٥، وبلا نسبة في الأزهية ص ١٧٠، والأشباه والنظائر ١/ ٢٤٠، والجنى الداني ص ٦٠٦، وخزانة الأدب ١١/ ٢٤٥، ورصف المباني ٢٩٣، وشرح الأشموني ٣/ ٦١٠، وصدره:
«تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم»
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٨]
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)أي هلّا: قُرْباناً آلِهَةً يكون «قربانا» مصدرا، ويكون مفعولا من أجله، ويكون مفعولا و «الهة» بدل منه بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وإن شئت أدغمت اللّام في الضاد. وزعم الخليل وسيبويه «١» أن الضاد تخرج من الشقّ اليمين ولبعض النّاس من الشقّ الشمال.
وَذلِكَ إِفْكُهُمْ «ذلك» في موضع رفع بالابتداء «إفكهم» خبره والهاء والميم في موضع خفض بالإضافة ومثله سواء في الإعراب والمعنى. قال الفراء «٢» : إفك وأفك مثل حذر وحذر أي هما بمعنى واحد. ويروى عن ابن عباس أنه قرأ أفكهم «٣» على أنه فعل ماض والهاء والميم على هذه القراءة في موضع نصب، وفي إسنادها عن ابن عباس نظر ولكن قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق عن سليمان بن حرب عن حمّاد بن سلمة قال: حدّثنا عطاء بن السائب قال: سمعت أبا عياض يقرأ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ فعلى هذه القراءة يكون وَما كانُوا يَفْتَرُونَ في موضع رفع على أحد أمرين إما أن يكون معطوفا على المضمر الذي في «أفكهم» ويكون المعنى وذلك أرداهم وأهلكهم هو وافتراؤهم إلّا أنّ العطف على المضمر المرفوع بعيد في العربية إلّا أن يؤكّد ويطول الكلام لو قلت: قمت وعمرو، كان قبيحا حتّى تقول: قمت أنا وعمرو أو قمت في الدار وعمرو. والوجه الثاني أن يكون «وما كانوا يفترون» معطوفا على ذلك أي وذلك أهلكهم وأضلّهم وافتراؤهم أيضا أهلكهم وأضلّهم. والقراءة البيّنة التي عليها حجّة الجماعة «وذلك إفكهم» أي وذلك كذبهم وما كانوا يفترون على هذه القراءة معطوف على إفكهم أي وذلك إفكهم وافتراؤهم تكون ما والفعل مصدرا فلا تحتاج إلى عائد لأنها حرف فإن جعلتها بمعنى الذي لم يكن بدّ من عائد مضمر أو مظهر. فيكون التقدير والذي كانوا يفترونه ثم تحذف الهاء ويكون حذفها حسنا لعلل منها طول الاسم وأنه لا يشكل مذكّر بمؤنّث وأنه رأس آية وأنه ضمير متّصل، ولو كان منفصلا لبعد الحذف، وإن كان بعضهم قد قرأ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الأنعام: ١٥٤] بمعنى على الذي هو أحسن، وتأوّل بعضهم قول سيبويه «٤» «هذا باب علم ما الكلم» بمعنى الّذي هو الكلم، وروى بعضهم «هذا باب علم ما الكلم» بغير تنوين على أنه حذف أيضا هو وفيه من البعد ما ذكرنا فإذا كان متصلا حسن الحذف كما قرئ وفيها ما تشتهي الأنفس [الزخرف: ٧١] وتشتهيه، وحكى أبو إسحاق «وذلك أأفكهم» أي أكذبهم.
(٢) انظر معاني الفراء ٣/ ٥٦.
(٣) انظر البحر المحيط ٨/ ٦٦، والمحتسب ٢/ ٢٦٧.
(٤) انظر الكتاب ١/ ٤٠.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٩]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩)وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ «إذ» في موضع نصب قيل: مضى «صرفنا» وقفناهم لذلك فسمّي صرفا مجازا فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ من تلاوته وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي مخوّفين من ترك قبول الحق ونصب «منذرين» على الحال.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٣٠]
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠)
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً وأجاز سيبويه «١» في بعض اللغات فتح «أنّ» بعد القول. أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ «يهدي» في موضع نصب لأنه نعت لكتاب، ويجوز أن يكون منصوبا على الحال، وهو مرفوع لأنه فعل مستقبل.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ جواب الأمر، وكذا وَيُجِرْكُمْ.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٣٣]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ليس من التعب وإنما يقال في التعب: أعيا يعيي وعيي بالأمر يعي وعيّ به إذا لم يتّجه له. بقدر «٢» هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ عبد الرحمن الأعرج وابن أبي إسحاق وعاصم الجحدري يقدر «٣» وقد زعم بعض النحويين أن القراءة بيقدر أولى لأن الباء إنما تدخل في النفي وهذا إيجاب وتعجّب من أبي عمرو والكسائي كيف جاز عليهما مثل هذا حتّى غلطا فيه مع محلّهما من العربية قال أبو جعفر: وفي هذا طعن على من تقوم الحجّة بقراءته ومع ذلك فقد أجمعت الأئمة على أن قرءوا أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ [يس:
٨١] ولا نعلم بينهما فرقا ولا تجتمع الجماعة على ما لا يجوز. وقد تكلّم النحويون في الآية التي أشكلت على قائل هذا فقال الكسائي: إنما دخلت الباء من أجل «لم» وهذا
(٢) انظر البحر المحيط ٨/ ٦٧.
(٣) انظر البحر المحيط ٨/ ٦٨.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٣٤]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ بمعنى واذكر يوما.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٣٥]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
بَلاغٌ في معناه قولان: أحدهما أنه بمعنى قليل. يقال: ما معه من الزاد إلّا بلاغ أي قليل، والقول الآخر: أن المعنى فيما وعظوا به بلاغ، كما قال الأخفش. قال بعضهم: البلاغ القرآن. وهو مرفوع على إضمار مبتدأ أي ذلك بلاغ، ومن نصبه جعله مصدرا أو نعتا لساعة. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي من فسق في الدنيا. ويقال: إنّ هذه الآية من أرجى آية في القرآن إلّا أن ابن عباس قال: أرجى آية في القرآن وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: ٦].