تفسير سورة الذاريات

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة الذّاريات
مكية. وهى ستون آية. ومناسبتها لما قبلها ما ختمت به من قوله تعالى: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ «١»، فأقسم سبحانه فى صدر هذه السورة إنه لواقع، حيث قال:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالذَّارِياتِ الرياح الذاريات لأنها تذرو التراب والحشيش وغير ذلك، يُقال:
ذرت الرياحُ تذرو ذرواً، وأذرت تذري، وذَرْواً: مصدر، والعامل فيه اسم الفاعل. فَالْحامِلاتِ وِقْراً، أي:
السحاب الحاملة للأمطار، أو: الرياح الحاملة للسحاب الموقورة بالماء. وقال ابن عباس: السفن الموقورة بالناس، ف «وِقراً» : مفعول بالحاملات، فَالْجارِياتِ يُسْراً أي: السفن الجارية في البحر والرياح الجارية في مهابها، أو السحاب الجارية في الجو تسوق الرياحَ، او: الكواكب السيارة الجارية في مجاريها ومنازلها بسهولة، (يسراً) : نعت لمصدر محذوف، أي: جرياً ذا يسر.
فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً أي: الملائكة التي تقسم الأمور الغيبية من الأمطار والأرزاق والآجال، والخَلْق في الأرحام، وأمر الرياح، وغير ذلك لأن هذا كله إنما هو بملائكة تخدمه، ف «أمراً» هنا جنس، وأنَّثَ «المقسّمات» لأن المراد الجماعات، ويجوز أن يُراد الرياح في الكل، فإنها تنشئ السحاب، وتُقلّه، وتُصرّفه، وتجري به في الجو جرياً سهلاً، وتقسّم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار. ومعنى الفاء على الأول: أنه تعالى أقسم بالرياح، فبالسحاب التي تسوقه، فبالفلك الجارية بهبوبها، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق، وعلى الثاني: أنها تبتدئ بالهبوب، فتذرو التراب والحصباء، فتُقل السحاب، فتجري في الجو باسطةً له، فتقسّم المطر.
وقال أبو السعود: فإن حملت الأمور المقْسم بها على ذوات مختلفة، فالفاء لترتيب الإقسام باعتبار ما بينها في التفاوت في الدلالة على كمال القوة، وإلا فهي لترتيب ما صدر عن الريح من الأفاعيل، فإنها تذرو الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحاباً، فتجرى به باسطة له إلى ما أمرت به، فتقسم المطر. هـ.
(١) من الآية ٤٤ من سورة «ق».
والمقسّم عليه قوله: إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث والجزاء، لَصادِقٌ لوعد صادق، وَإِنَّ الدِّينَ أي: الجزاء على الأعمال لَواقِعٌ لكائن لا محالة. وتخصيص الأمور المذكورة بالإقسام بها رمزاً إلى شهادتها بتحقيق مضمون الجملة المُقْسَم عليها، من حيث إنها أمور بديعة، مخالفة لمقتضى الطبيعة، فمَن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود، و «ما» موصولة، أو مصدرية، ووصف الوعد بالصدق كوصف العيشة بالرضا.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: والذاريات: رياح الواردات الإلهية، التي ترد على القلوب، فتذرو منها الأمراض والشكوك والأوهام والخواطر لأنها تأتي من حضرة قهّار، لا تُصادم شيئاً إلا دفعته، فالحاملات وِقراً فالأنفس المطهرة، الحاملة للعلوم والحِكم والمواهب، وِقراً: حِملاً لا حدّ له، فالجاريات يُسراً: فالأفكار الجارية في بحار الأحدية، من الجبروت إلى الملكوت، ثم تنزل إلى عالَم المُلك، تتفنن في علوم الحكمة، في جرياً يُسراً شيئاً فشيئاً، فالمُقَسِّمات أمرا:
فالأرواح أو الأسرار الكاملة، التي تقسم الأرزاق المعنوية والحسية، حيث جعل الله لها ذلك بفضله عند كمالها، وهذه أرواح أهل التصرُّف من الأولياء. إنما تُوعدون من الوصول إلينا لَصادِقٌ لمَن صدق في الطلب، وإنَّ الجزاء على المجاهدة بالمشاهدة لواقع. قال القشيري: إن الله تعالى وعد المطيعين بالجنة، والتائبين بالمحبة، والأولياء بالقُربة، والعارفين بالوصلة، والطالبين بالوجدان. ولعلّ مراده بالأولياء عموم الصالحين.
ثم جدّد قسما آخر، فقال: -
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٧ الى ١٤]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١)
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ذات الطُرق الحسيّة، مثل ما يظهر على الماء والرمال من هبوب الرياح، وكذلك الطُرق التي في الأكسية من الحرير وغيره، يقال لها: حُبُك جمع حَبيكةٌ، كطريقة وطُرق، أو: جمع حِباك، قال الرَّاجز:
كأنما جلاَّها «١» الحوَّاكُ طِنْفَسَةً في وشيها حباك «٢»
(١) هكذا فى الأصول. وفى تفسير الطبري وابن عطية وغيرهما: (جلّلها) وهو الصواب.
(٢) يصف الرّاجز ظهر أتان من حمر الوحش بأن فيه خطوطا وطرائق، وجللها: ألبسها وكساها، والطنفسة: البساط أو النّمرقة فوق الرحل، والوشي: الزخرف والنّقش، والحباك: الطريقة.
464
والحوَّاك: صانع الحياكة، والمراد: إما الطريق المحسوسة، التي هي مسير الكواكب، أو: المعنوية، التي يسلكها النُظار في النجوم، فإن لها طرائق. قال البيضاوي: النكتة في هذا القَسَم: تشبيه أقوالهم في اختلافها، وتباين أغراضها، بطرائق السماوات في تباعدها، واختلاف غاياتها، وقال ابن عباس وغيره: ذات الخَلْق المستوي، وعن الحسن: حبكها نجومها. وقال ابن زيد: ذات أشدة، لقوله تعالى: سَبْعاً شِداداً «١».
إِنَّكُمْ يا أهل مكة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ متخالف متناقض، وهو قولهم في حقه صلّى الله عليه وسلم تارة: شاعر، وأخرى ساحر، وفي شأن القرآن، تارة: شعر، وأخرى أساطير الأولين. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ يُصرف عن القرآن، أو عن الرسول، مَن ثبت له الصرف الحقيقي، الذي لا صرف أفظع وأشد منه، فكأنّ لا صرف حقيقة إلا لهذا الصرف، أي: يُصرف عن الإيمان مَن صُرف عن كل سعادةٍ وخير، أو: يُصرف عن الإيمان مَن صُرف في سابق الأزل.
قلت: والأظهر أن يرجع لما قبله، أي: يُصرف عن هذا القول المختلف مَن صُرف في علم الله تعالى، وسَبقت له العناية، يقال: أفكه عن كذا: صرفه عنه، وإن كان الغالب استعماله في الصرف عن الخير إلى الشر، لكنه عُرفي، لا لغوي. والله تعالى أعلم.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، دعاء عليهم، كقوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ «٢»، وأصله: الدعاء بالقتل والهلاك، ثم جرى مجرى «لُعِنَ»، والخرَّاصون: الكذّابون المُقدِّرون ما لا صحة له، وهم أصحاب القول المختلف، كأنه قيل: لُعن هؤلاء الخراصون الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ في جهل يغمرهم، ساهُونَ غافلون عما أُمروا به، يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي: متى وقوع يوم الجزاء، لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة، بل بطريق الاستعجال، استهزاء، فإنَّ «إيّان» ظرف للوقوع المقدّر لأن «أيّان» إنما يقع ظرفاً للحدثان.
ثم أجابهم بقوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي: يقع يوم هم على النار يُحرقون ويُعذّبون، ويجوز أن يكون خبراً عن مضمر، أي: هو يوم هم، وبُني لإضافته إلى مضمر، ويُؤيده أنه قُرئ بالرفع «٣». ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي:
وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا عذابكم وإحراقكم بالنار، هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي: هذا العذاب هو الذي
(١) من الآية ١٢ من سورة النّبإ، وانظر فى هذه الأقوال تفسير البغوي ٧/ ٣٧١- ٣٧٢ والقرطبي (٧/ ٦٣٨٧- ٦٣٨٨).
(٢) الآية ١٧ من سورة عبس.
(٣) «يوم» بالرفع، وهى قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني. انظر مختصر ابن خالويه فى شواذ القراءات (ص/ ١٤٦) والبحر المحيط (٨/ ١٣٤).
465
كنتم تستعجلونه في الدنيا، بقولكم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا «١»، ف «هذا» : مبتدأ، و «الذي..» الخ: خبر، ويجوز أن يكون «هذا» بدلاً من فتنتكم، و «الذي» : صفته.
الإشارة: أقسم الله تعالى بسماء الحقائق، وتُسمى سماء الأرواح لأن أهل الحقائق روحانيون سماويون، ترقَّوا من أرض الأشباح إلى سماء الأرواح، حيث غلبت روحانيتهم، على بشريتهم، كما أن أهل الشرائع اليابسة أرضيين بشريين، حيث غلبت بشريتهم الطينية على روحانيتهم السماوية، ولكلّ واحدة طُرق، فطُرق سماء الحقائق هي المسالك التي تُوصل إليها، وهي قَطْع المقامات والمنازل، وخَرق الحُجب النفسانية، حتى يُفضوا إلى مقام العيان «في مقعد صدق عند مليك مقتدر» وطُرق أرض الشرائع هي المذاهب التي سلكها الأولون، واقتدى بهم الآخرون، يفضوا أهلها إلى رضا الله ونعيمه. وكان الشيخ الشاذلى رضي الله عنه يقول في تلميذه المرسي: إن أبا العباس أعرف بطُرق السماء منه بطُرق الأرض، أي: أعرف بمسالك الحقائق منه بمذاهب الشرائع، وهذا إشارة قوله: ذاتِ الْحُبُكِ أي:
الطُرق. إن أهل الجهل بالله لفي قولٍ مُختلفٍ مضطرب، لا تجد قلوبهم تأتلف على شيء، قلوبهم متشعبة، ونياتهم مختلفة، وهممهم دنية، وأقوالهم مضطربة، بخلاف أهل الحقائق العارفين بالله، قلوبهم مجتمعة على محبة واحدة، وقصدٍ واحد، وهو الله، بدايتهم في السلوك مختلفة، ونهايتهم متفقة، وهو الوصول إلى حضرة العيان، ولله در ابن البنا، حيث قال:
مذاهبُ الناسِ على اخْتلاف ومَذْهَبُ القَوْمِ على ائتلاف
وقال الشاعر:
عِبارَاتُهُم شَتَّى وحُسْنُكَ واحِدٌ وكُلٌّ إلى ذاك الجَمَالِ يُشير
يُؤفك عن هذا الاختلاف مَن صُرف في سابق العناية، أو مَن صُرف من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح. قُتل الخراصُون المعتمدون على ظنهم وحدسهم، فعلومهم جُلها مظنونة، وإيمانهم غيبي، وتوحيدهم دليلي من وراء الحجاب، لا يَسلم من طوارق الاضطراب، الذين هم في غمرة أي: في غفلة وجهل وضلالة- ساهون عما أُمروا به من جهاد النّفوس، والسير إلى حضرة القدوس، أو ساهون غائبون عن مراتب الرجال، لا يعرفون أين ساروا، وفي أيّ بحار سَبَحوا وغاصوا، كما قال شاعرهم:
تركنا البُحُورَ الزاخِراتِ ورَاءنَا فَمِنْ أَينَ يَدْرِِي الناسُ أين توجهنا؟
(١) من الآية ٧٠ من سورة الأعراف.
466
يسألون أيّان يومُ الدين لطول أملهم، أو يسألون أيَّان يوم الجزاء على المجاهدة. قال تعالى: هو (يوم هم) أي:
أهل الغفلة- على نار القطيعة أو الشهوة يُفتنون بالدنيا وأهوالها، والعارفون منزَّهون في جنات المعارف. ويقال للغافلين: ذُوقوا وبال فتنتكم، وهو الحجاب وسوء الحساب، هذا الذي كنتم به تستعجلون، بإنكاركم على أهل الدعوة الربانيين، فتستعجلون الفتح من غير مفتاح، تطلبون مقام المشاهدة من غير مجاهدة، وهو محال في عالم الحكمة «١». وبالله التوفيق.
ثم ذكر أضدادهم، فقال:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٥ الى ١٩]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ عظيمة، لا يبلغ كُنهها، ولا يُقادر قدرها، ولعل المراد بها الأنهار الجارية، بحيث يرونها، ويقع عليها أبصارهم، لا أنهم فيها، آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي:
نائلين ما أعطاهم راضين به، بمعنى أنَّ كلَّ ما يأتهم حسَنٌ مرضي، يتلقى بحسن القبول، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُحْسِنِينَ متقنين لأعمالهم الصالحة، آتين بها على ما ينبغي، فلذلك نالوا ما نالوا من الفوز العظيم، ومعنى الإحسان ما فسره به عليه الصلاة والسّلام: «أن تعبد الله كأنك تراه» الحديث «٢». ومن جملته ما أشار إليه بقوله:
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي: كانوا يهجعون، أي: ينامون في طائفة قليلة من الليل، على أن «قليلاً» ظرف أو كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً، على أنه صفة لمصدر، و «ما» مزيدة في الوجهين، ويجوز أن تكون مصدرية مرتفعة ب «قليلاً» على الفاعل، أي: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. وقال النسفي: يرتفع هجوعهم على البدل من الواو في «كانوا» لا بقليلاً لأنه صار موصوفاً بقوله: مِنَ اللَّيْلِ فبعد من شبه الفعل وعمله، ولا يجوز أن
(١) على هامش النّسخة الأساسية مايلى: ليس بمحال، وكم من واحد جذبته العناية الإلهية وانتشلته.... الغفلة والظلمات فأصبح على بساط القرب والمشاهدة دون أدنى مجاهدة، بل نص العارفون على أن طريق المجاهدة انقطعت، ولم يبق إلا طريق المحبة بعد جذب العناية الإلهية. هـ. [.....]
(٢) جزء من حديث سؤال سيدنا جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، وهو حديث مشهور. أخرجه البخاري فى (الإيمان باب سؤال جبريل النّبى عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، ح ٥٠) ومسلم فى (الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان رقم ٩، ح ٥) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
467
تكون «ما» نافية على معنى: أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويُحْيُونه كله. هـ. أو كانوا ناساً قليلاً ما يهجعون من الله لأن «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولأن المحسنين وهم السابقون كانوا كثيراً في الصدر الأول، وموجودون في كل زمان ومكان، فلا معنى لقلتهم، خلافاً لوقف الهبطي، وأيضاً: فمدحهم بإحياء الليل كله مخالف لحالته صلّى الله عليه وسلم، وما كان يأمر به.
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وصفهم بأنهم يحيون جُل الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار من رؤية أعمالهم. والسَحر: السدس الأخير من الليل، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يُوصفوا بالاستغفار، كأنهم المختصون به، لاستدامتهم له، وإطنابهم فيه.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي: نصيب وافر، يُوجبونه على أنفسهم، تقرُّباً إلى الله تعالى، وإشفاقاً على الناس، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي: لمَن يُصرح بالسؤال لحاجة، وللمتعفف الذي يتعرّض ولا يسأل حياءً وتعففاً، يحسبه الناس غنيّاً فيحرم نفسه من الصدقة. وقد تكلم في نوادر الأصول «١» على مَن سأل بالله، أي: قال: أعطني لوجه الله، هل يجب إعطاؤه أم لا؟، وفي الحديث: «مَن سألكم بالله فأعطوه» «٢». قال: وهو مُقيد بما إذا سأل بحق، أي:
لحاجة، وأما إذا سأل بباطل- أي: لغير حاجة- فإنما سأل بالشيطان لأن وجه الله حق. ثم ذكر كلام عليّ شاهداً، «٣» ثم حديث معاذ: «مَن سألكم بألله فأعطوه، فإن شئتم فدعوه»، قال معاذ: وذلك أن تعرف أنه غير مستحق، وإذا عرفتم أنه مستحق، وسأل فلم تعطوه فأنتم ظَلَمة. وأُلحِقَ بغير المستحق مَن اشتبه حاله لتعليق الظلم على معرفة الاستحقاق خاصة.
وقال النووي في الأذكار: يُكره منع مَن سأل بالله، وتشفَّع به لحديث: «مَن سأل بالله فأعطوه» قال: ويكره أن يسأل بوجه الله عير الجنة. هـ. وفي حديث المنذري: «ملعونٌ مَن سأل بوجه الله، وملعونٌ مَن سأل بوجه الله، ثم مَنَعَ سَائِلَهُ ما لم يَسْأَلْ هُجْراً» «٤». وقال في كتابه «الأخبار» على قوله عليه الصلاة والسّلام: «من سألكم بالله فأعطوه» إجلالاً لله تعالى، وتعظيماً، وإيجاباً لحقه. ثم قال: إذ ليس يجب إعطاء السائل إذا كان في معصية أو
(١) الأصل التاسع عشر والمائتان (فى الاستعاذة بالله تعالى، ٢/ ١٨٧- ١٨٨).
(٢) جزء من حديث أخرجه أحمد فى المسند (٢/ ٦٨) وأبو داود فى (الزكاة، باب عطية من سأل بالله، ح ١٦٧٢) والحاكم فى المستدرك (١/ ٤١٢) «وصحّحه وأقره الذهبي» من حديث ابن عمر رضي الله عنه وكذا أخرجه الطبراني فى الكبير (١٢/ ٣٩٧) والبيهقي (٤/ ١٩٩). وفى أوله: «من استعاذ بالله فأعيذوه... » الحديث.
(٣) قال الحكيم الترمذي: «سأل رجل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه شيئا، فلم يعطه فقال: أسألك بوجه الله تعالى، فقال له: كذبت، ليس بوجه الله سألتى، إنما وجه الله الحق، ولكن سألت بوجهك الخلق».
(٤) ذكره المنذرى فى الترغيب والترهيب (ح ١٢٤٦) وعزاه للطبرانى، من حديث أبى موسى الأشعري. قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (٣/ ١٠٣) :«رواه الطبراني فى الكبير، وإسناده حسن، على ضعف فى بعضه مع توثيق».
وقوله «هجرا» بضم الهاء وسكون الجيم: أي: ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق، ويحتمل أنه أراد: ما لم يسأل سؤالا قبيحا بكلام قبيح.
468
فضول، فمَن سأل بالله فيما ليس عليه ولا عليك فرضه، فإعطاؤك إياه لإجلال حق الله وتعظيمه، وليس عليك بفرض ولا حتم. انظر تمامه في الحاشية الفاسية.
الإشارة: إنَّ المتقين ما سوى الله في جنات المعارف، وعيون العلوم والأسرار. قال القشيري: في عاجلهم في جنة الوصل، وفي آجلهم في جنة الفضل، فغداً نجاة ودرجات، واليوم قربات ومناجاة. هـ. (آخذين ما آتاهم ربهم) من فنون المواهب والأسرار، وغداً من فنون التقريب والإبرار، راضين بالقسمة، قليلة أو كثيرة. إنهم كانوا قبل ذلك: قبل الإعطاء، محسنين، يعبدون الله على الإخلاص، يأخذون من الله، ويدفعون به، وله، ولا يردون ما أعطاهم، ولو كان أمثال الجبال، ولا يسألون ما لم يعطهم، اكتفاء بعلم ربهم.
قال القشيري: كانوا قبل وجودهم محسنين، وإحسانهم: كانوا يُحبون الله بالله، يحبهم ويحبونه وهم في العدم، ولمَّا حصلوا في الوجود، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، كأنَّ نومهم عبادة، لقوله عليه الصلاة والسّلام: «نوم العالم عبادة» «١»، فمن َيكون في العبادة لا يكون نائماً، وهجوع القلب: غفلته، وقلوبهم في الحضرة، ناموا أو استيقظوا، فغفلتهم بالنسبة إلى حضورهم قليلة. وقال سهل رضي الله عنه: أي: كانوا لا يغفلون عن الذكر في حال، يعني هجروا النوم لوجود الأُنس في الذكر، والمراد بالنوم: نوم القلب بالغفلة.
(وبالأسحار هم يستغفرون)، قال القشيري: أخبر عن تهجدهم، وقلة دعاويهم، وتنزُّلهم بالأسحار، منزلةَ العاصين، تصغيراً لقدرهم، واحتقاراً لفعلهم. ثم قال: والسهر لهم فى ليالهم دائم، إما لفرط لهف، أو شدة أسف، وإما لاشتياق، أو للفراق، كما قالوا:
كم ليلةٍ فيك لا صباحَ لها أفنيْتُها قابضاً على كبدي
قد غُصَّت العين بالدموع وقد وضعتُ خدي على بنانِ يدي «٢»
وإما لكمال أُنس، وطيب روح، كما قالوا:
سقى الله عيشاً قصيراً مضى زمانَ الهوى في الصبا والمجون «٣»
لياليه تحكي انسدادَ لحاظٍ لعيْنيّ عند ارتداد الجفون. هـ. «٤»
(١) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ح ٦٧٣١) عن عبد الله بن أبي أوفى، بزيادة «ونفسه تسبيح» وعمله مضاعف، ودعاؤه مستجاب، وذنبه مغفور» وأخرجه الديلمي (ح ٦٧٣٤) والبيهقي فى الشعب (ح ٣٩٣٧) بلفظ «الصائم» بدل «العالم». وانظر كشف الخفاء ٢/ ٤٤٥، والأسرار المرفوعة ص ٣٧٤.
(٢) القائل هو أحمد بن يوسف، صاحب ديوان الرّسائل فى عهد المأمون. انظر الأغانى (٢٢/ ٥٧٠).
(٣) فى الأصول: السجون.
(٤) البيت فى الأصول: [لياليه تحكى إنشاء اللحاظ.. للعين عند ارتداء الجفون] والمثبت هو الذي فى لطائف الإشارات.
469
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي: هم يُواسون مَنْ قصدهم بالحس والمعنى، فيبذلون ما خوّلهم الله من الأموال، للسائل والمتعفف، وما خوّلهم الله من العلوم، للطالب والمعرض، وهو المحروم، فيقصدونه بالدواء بما أمكن فإنهم أطباء، والطبيب يقصد المريض أينما وجده، شفقةً ورحمة، ونُصحاً للعباد. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل قدرته على ما أقسم عليه من البعث، فقال:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ دالة على كمال قدرته على البعث وغيره، من حيث أنها مدحوة كالبساط الممهد، وفيها مسالك وفجاج للمتقلبين في أقطارها، والسالكين في مناكبها، وفيها سهل وجبل، وبحر وبر، وقِطع متجاورات، وعيونٌ متفجرات، ومعادن مقنية، ودواب منبثة، مختلفة الصور والأشكال، متباينة الهيئات والأفعال، وهي مع كبر شكلها مبسوطة على الماء، المرفوع فوق الهواء، فالقدرة فيها ظاهرة، والحكمة فها باهرة، ففي ذلك عبرة لِلْمُوقِنِينَ الموحِّدين، الذين ينظرون بعين الأعتبار، ويُشاهدون صانعها ببصيرة الاستبصار.
وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيات وعجائب القدرة إذ ليس شيء في العالم إلا وفي الأنفس له نظير، مع ما فيه من الهيئات النابعة والمصادر البهية، والترتيبات العجيبة، خَلَقَه نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم فصلها إلى العظم والعصب والعروق، فالعظام عمود الجسد، ضمّ بعضها إلى بعض بمفاصل وأقفال رُبطت بها، ولم تكن عظماً واحدا لأنه إذ ذاك يكون كالخشبة، لا يقوم ولا يجلس، ولا يركع ولا يسجد لخالقه، ثم خلق تعالى المخ في العظام في غاية الرطوبة ليرطب يُبس العظام، ويتقوّى به، ثم خلق سبحانه اللحمَ وعباه على العظام، وسدّ به خلل الجسد، واعتدلت هيئته، ثم خلق سبحانه العروق في جميع الجسد جداول، يجري الغذاء منها إلى أركان الجسد، لكل موضع من الجسد عدد معلوم، ثم أجرى الدم في العروق سيالاً خاثراً، ولو كان يابسا، أو اكتف مما هو فيه، لم يجرِ في العروق، ثم كسى سبحانه اللحمَ بالجلد كالوعاء له، ولولا ذلك لكان قشراً أحمر، وفي ذلك هلاكه، ثم كساه الشعر وقايةً وزينةً، وليّن أصوله، ولم تكن يابسة مثل رؤوس الإبر، وإلا لم يهنه عيش، وجعل الحواجب والأشفار وقاية للعين، ولولا ذلك لأهلكهما الغبار والسقط، وجعلها سبحانه طوع يده، يتمكن من رَفْعِها عند قصد النظر، ومِن إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر عما يضر دِيناً ودُنيا، وجعل شعرها صفا واحدا لينظر من خللها،
470
ثم خلق سبحانه شفتين ينطبقان على الفم يصونان الحلقَ والفمَ من الرياح والغبار، ولما فيهما من كمال الزينة، ثم خلق الله سبحانه الأسنان ليتمكن من قطع مأكوله وطحنه، ولم تكن له في أول خلِقته لئلا يؤذى أمه، وجعلها ثلاثة أصناف: قسم يصلح للكسر، كالأنياب، وقسم يصلح للقطع، كالرباعية، وقسم يصلح للطحن، كالأضراس...
إلى غير ذلك مما في الإنسان من عجائب الصنع وبدائع التركيب.
أَفَلا تُبْصِرُونَ أي: تنظرون نظر مَن يعتبر، وما قيل: إن التقدير: أفلا تبصرون في أنفسكم، فضعيف لأنه يُفضي إلى تقديم ما في حيّز الاستفهام عليه.
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وهو المطر. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه رزقكم إلا أنكم تُحرمونه بخطاياكم «١»، أو: في سماء الغيب تقدير رزقكم، فهو مضمون عند الله في سماء غيبه، ستر ذلك بسر الحكمة، وهو الأسباب، وَما تُوعَدُونَ أي: وفي السماء ما تُوعدون من الثواب لأن الجنة في السماء السابعة، سقفها العرش، أو: أراد: إنما تُوعدونه من الرزق في الدنيا وما تُوعدونه في العقبى كله مقدّر ومكتوب في السماء، وقيل: إنه مبتدأ وخبره: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ أي: ما توعدون من البعث وما بعده، أو: ما توعدونه من الرزق المقسوم، فَوَرَبِّ العالم العلوي والسفلي إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ: أي: مثل نطقكم، شبّه ما وعد به من الرزق وغيره بتحقُّق نطق الآدمي لأنه ضروري، يعرفه من نفسه كلُّ أحد.
قال الطيبي: وإنما خصّ النطق دون سائر الأعمال الضرورية، لكونه أبقى وأظهر، ومن الاحتمال أبعد، فإنّ النطق يُفصح عن كل شيء، ويجلي كل شبهة. هـ. فَضمان الرزق وإنجاز وعده ضروري، كنطق الناطق. رُوي عن الأصمعي أنه قال: أقبلتُ من جامع البصرة، فطلع أعرابي على قَعود، فقال: مَنْ الرجل؟ فقلت: من بني أصمع، فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من موضع يتلى فيه كلام الله، قال: اتل عليَّ، فتلوت: وَالذَّارِياتِ...
فلما بلغت قوله: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها، ووزعها على مَن أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسّرهما، وولّى، فلما حججت مع الرشيد، وطُفت، فإذا أنا بصوت رقيق يهتف بي، فالتفتّ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفرّ، فسلّم عليَّ، واستقرأ السورة، فلما بلغتُ الآية، صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقّاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فقال: سبحان الله! مَن الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يُصدقوه بقوله حتى حلف، قالها ثلاثاً، وخرجت معها نَفْسُه هـ. من النسفي «٢».
قلت: وقد سمعت حكاية أخرى، فيها عبرة، وذلك أن رجلاً سمع قارئاً يقرأ هذه الآية، فدخل بيته، ولزم زاوية منه يذكر فيها، ويتبتل، فجاءت امرأته تنقم عليه، وتأمره بالخدمة، فقال لها: قال تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ
(١) ذكره القرطبى (٧/ ٦٣٩٩).
(٢) وذكره القرطبى (٧/ ٦٣٩٩).
471
، فلما أيست منه ذهبت تحفر شيئاً، فوجدت آنية مملوءة دنانير، فجاءت إليه، وقالت: قد أتانا رزقنا، قم تحفره معي، هو في موضع كذا، فقال: إنما قال تعالى: (في السماء) ولم يقل في الأرض، فامتنع، فذهبت إلى أخٍ لها تستعين به، فلما فتحتها وجدتها مملوءة عقارب، فقالت: والله لأطرحنها عليه لنستريح منه، ففتحت كوة من السقف، وطرحتها عليه، فسقطت دنانير، فقال: الآن نعم، قد آتاني من حيث قال ربي: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ. هـ.
وذكر في التنوير: أن الملائكة لَمَّا نزلت هذه الآية ضجّت في السماء، وقالت: ما أضعف بني آدم حتى أحوجوا ربهم إلى الحلف.
الإشارة: وفي أرض نفوس العارفين آيات، منها: أن الأرض تحمل كل شيء، ولا تستثقل شيئاً، فكذلك نفس العارف، تحمل كُلَّ كَلٍّ وثقيل، ومَن استثقل حملاً، أو تبرّم من أحد، أو من شيء، ساقته القدرة إليه، فلغيبته عن الحق، ومطالعته الخلق بعين التفرقة، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة. ومنها: أنها يلقى عليها كل قذارة وقمامة فتُنبت كل زهر ونَور وورد، فكذلك العارف يُلقى عليه كل جفاء، ولا يظهر منه إلا الصفاء. ومنها: أن الأرض الطيبة تُنبت الطيب، وينصع نباتها، والأرض السبخة لا تُنبت شيئاً، كذلك القلوب الطيبة تُنبت كلَّ ما يُلقى فيها من الخير، والقلوب الخبيثة لا تعي شيئاً، ولا ينبت فيها إلا الخبيث.
وقوله تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ.. قال القشيري: يُشير إلى أن النفس مرآة جميع صفات الحق، لهذا قال عليه الصلاة والسّلام: «مَن عرف نفسه فقد عرف ربه» «١» فلا يعرف أحد نفسه إلا بعد كمالها، وكمالُها: أن تصير مرآةً كاملةً تامة مصقولة، قابلة لتجلِّي صفات الحق لها، فيعرف نفسه بالمرءاتية، ويعرف ربه بالتجلِّي فيها، كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ... الآية «٢». هـ.
قلت: حديث «مَن عرف نفسه» أنكره النووي، وقال إنه من كلام يحيى بن معاذ «٣» وقد اشتهر عند الصوفية حديثاً، ومعناه حق فإنَّ مَن عرف حقيقة نفسه، وأنها مظهر من مظاهر الحق، وغاب عن حس وجوده الوهم، فقد عرف ربه وشَهِدَه، فاطلب المعرفة في نفسك، ولا تطلبها في غيرك، فليس الأمر عنك خارجاً، ولله در الششتري في بعض أزجاله، حيث قال:
وإليْك هو السّيْرُ «٤»... وأنْت مَعْنَى الخَيْر
وما دونك غير
(١) قال السخاوي فى المقاصد (ص ١٩٨) :«لا يعرف مرفوعا، وإنما يحكى عن يحيى بن معاذ الرازي من قوله»، وقال السيوطي فى القول الأشبه (٢/ ٣٥١) من الحاوي للفتاوى: «هذا الحديث ليس بصحيح».
(٢) الآية ٥٣ من سورة فصلت.
(٣) على هامش النّسخة الأم ما يلى: قلت: كذا قالوا لأنهم وجدوه مرويا عنه، فظنوه من كلامه، وهو إنما رواه من التوراة، ففيها:
«قال الله تعالى: يا ابن آدم اعرف نفسك تعرف ربك» فمن هنا أخذ يحيى بن معاذ الرازي. هـ. [.....]
(٤) فى الديوان (ص ١١٤) :[وإليك السير].
472
وقال أيضاً:
يا قاصداً عَيْنَ الْخَبرْ... غطَّاهُ أَيْنَكُ «١»
ارجع لذاتكَ واعْتَبِر... ما ثمَّ غيْرَك
الخيرُ منك والخبَرْ... والسر عندك
وقوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال الورتجبي: وفي سماء صفاتي رزق أرواحكم، من مشاهدة النور، وغذاء العلم الرباني، وما توعدون من مشاهدة الذات وكشف عيانه. هـ.
قلت: هذا قوت الأرواح، أمّا قوت الأشباح فتجب الغيبة عنه، ثقةً بالله، وتوكلاً عليه. قال في قطب العارفين:
اعلم أنه عزّ وجل قسَّم الأرزاق في الأزل، وجزّأه على عمر العبد، ووقَّت أوقاته، وحدَّ للعبد ما يأتيه منه في السنة، والشهر، واليوم، والساعة، ف كل ما حدّ لك أن تناله من رزقك عند صلاة العصر، مثلاً، لا تناله عند صلاة الصبح، ولو طلبته بكل حِيلة في السموات والأرض، فإن الطلب لا يجمع، والتوكل لا يمنع. هـ. وقال فيه أيضاً: العارف يجد في نفسه الاعتماد على الله، وإن كانت السماء لا تُمطر، والأرض لا تُنبت... ، الخ كلامه، ومثله قول ذي النون: لو كانت السماء من زجاج، والأرض من نحاس لا تُنبت شيئاً، ومصر كلها عيالي، ما اهتممتُ لهم برزقٍ لأنَّ مَن خلقهم هو الذي تكفّل برزقهم. هـ. وقال في القطب أيضاً: ومن علامة جهل قلب العالم: خوف شدائد السنيين الآتيات، والاستعداد لها قبل مجيئها، بمصاحبة الاضطراب، وفقد الطمأنينة بالقسمة السابقة، فمَن اتصف بهذه الصفة فقد نازع الربوبية، وانسلخ من العبودية. هـ.
ثم سرد قصص الأمم السالفة، وما جرى عليها لأنّ فيها آيات، فتنخرط فى سلك الآيات المتقدمة، فقال:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٤ الى ٣٧]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧)
(١) فى الديوان: (ص ٢٦٧) غطاه غينك رضي الله عنه.
473
يقول الحق جلّ جلاله: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ، استفتح بالاستفهام التشويقي، تفخيماً لشأن الحديث، وتنبيهاً على أنه ليس مما عَلِمَه رسولُ الله ﷺ بغير طريق الوحي. والضيف في الأصل: مصدر: كالزور، والصوع، يصدق بالواحد والجماعة، قيل: كانوا اثني عشر مَلَكاً، وقيل: تسعة عاشرهم جبريل. وجعلهم ضيفاً لأنهم في صورة الضيف، حيث أضافهم إبراهيم، أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك. وقوله الْمُكْرَمِينَ أي: عند الله، لأنهم عباد مكرمون، أو عند إبراهيم، حيث خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجّل لهم القرى.
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ: ظرف للحديث، أو لِمَا في الضيف من معنى الفعل، أو بالمكَرمين، إن فسر بإكرام إبراهيم لهم، فَقالُوا سَلاماً أي: نُسلم عليك سلاماً، قالَ إبراهيم: سَلامٌ أي: عليكم سلام. عدل به إلى الرفع بالابتداء للقصد إلى الثبوت والدوام حتى تكون تحيته عليه السلام أحسن من تحيتهم، وهذا أيضاً من إكرامه، قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي: أنتم قوم مُنكَرون، لا نعرفكم، فعرّفوني مَن أنتم. قيل: إنما أنكرهم لأنهم ليسوا ممن عهدهم مِن الناس، أو: لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، وقيل: إنما قال ذلك سِرّاً ولم يخاطبهم به، وإلا لعرّفوه بأنفسهم.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي: ذهب إليهم في خِفيةٍ من ضيوفه، فالروغان: الذهاب بسرعة، وقيل: في خفية. ومن آداب المضيف أن يبادر الضيف: بالقِرَى، وأن يخفى أمره من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يكفّه، وكان عامة مال إبراهيم البقر. فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، الفاء فصيحة تُفصح عن جُملٍ حّذفت لدلالة الحال عليها، وإيذاناً بكمال سرعة المجيء، أي: فذبح عجلاً فَحَنَذَه «١»، فجاء به، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، بأن وضعه بين أيديهم، حسبما هو المعتاد، فلم يأكلوا، ف قالَ أَلا تَأْكُلُونَ، أنكر عليهم ترك الأكل، أو: حثَّهم عليه، فَأَوْجَسَ أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً خوفاً، لتوهم أنهم جاءوا للشر لأن مَن لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمِامك. عن ابن عباس رضي الله عنه: وقع في نفسه أنهم ملائكة أُرسلوا للعذاب، قالُوا لا تَخَفْ إنَّا رُسل الله. قيل: مسح جبريل العِجْل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه «٢»، فعرفهم وأمِن منهم، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي: يبلغ ويكون عالما، وهو إسحاق عليه السلام.
(١) أي: شواه، انظر اللسان (حنذ ٢/ ١٠٢١).
(٢) رواه عون بن أبى شداد، فيما ذكره القرطبي (٧/ ٦٤٠٢).
474
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة لمَّا سمعت بشارتهم إلى بيتها، وكانت في زاوية منه تنظر إليهم، فِي صَرَّةٍ صيحة، من الصرير، وهو الصوت، ومنه: صرير الباب وصرير الأقلام. قال الزجَّاج: الصرّة: شدّة الصياح. وفي القاموس الصرّة: - بالكسر: أشد الصياح، وبالفتح: الشدة من الكرب والحزن والحر والعطفة والجماعة وتغضيب الوجه. هـ. ومحله النصب على الحال، أي: فجاءت صارة، وقيل: صرتها: قولها: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ... «١»
أو: فجاءت مغضّبة الوجه، كما هو شأن مَن يُخبر بشيء غريب، استبعاداً له، فَصَكَّتْ وَجْهَها لطمته ببسط يدها، وقيل: ضربت بأطراف أصابعها جبهتها، فعل المتعجِّب، وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي: إنها عجوز عاقر، فكيف ألد؟!.
قالُوا كَذلِكَ أي: مثل ما قلنا وأخبرناك به قالَ رَبُّكِ أي: إنما نخبرك عن الله تعالى، والله قادر على ما يُستعبد، إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ في فعله، الْعَلِيمُ فلا يخفى عليه شيء، فيكون قوله حقاً، وفعله متقناً لا محالة.
رُوي أن جبريل عليه السلام قال لها حين استبعدت: انظري إلى بيتك، فنظرت، فإذا جُذوعُهُ مورقة مثمرة، ولم تكن هذه المفاوضة مع سارة فقط، بل هي وإبراهيمُ عليه السّلام حاضر، حسبما شُرح في سورة الحجر «٢»، وإنما لم يذكرها اكتفاء بما ذكر هناك، كما أنه لم يذكر هناك سارة، اكتفاء بما ذكر هنا وفي سورة هود «٣».
ولمّا تحقق أنهم ملائكة، ولم ينزلوا إلا لأمر، قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي: فما شأنكم وما طِلبتكم وفيمَ أُرسلتم؟
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، هل أُرسلتم بالبشارة خاصة، أو لأمر آخر، أو لهما؟ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أي:
قوم لوط، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي: طين متحجر، هو السجّيل، وهو طينٌ طُبخ، كما يُطبخ الآجر، حتى صار في صلابة الحجارة، مُسَوَّمَةً مُعلَّمةً، على كلِّ واحد اسم مَن يهلك بها، من السّومة وهي العلامة، أو: مرسلة، من أسمت الماشية: أرسلتها، ومر تفصيله في هود «٤» عِنْدَ رَبِّكَ أي: في مُلكه وسلطانه لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في الفجور.
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها، الفاء فصيحة، مفصحة عن جُمل قد حُذفت، ثقةً بذكرها في مواضع أُخر، كأنه قيل: فباشروا ما أُمروا به، فذهبوا إلى لوط، وكان مِن قصتهم ما ذكر في موضع آخر، فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي: مِن قرى قوم لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني لوطاً ومَن آمن معه. قيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة
(١) كما جاء فى الآية ٧٢ من سورة هود.
(٢) عند قوله تعالى: بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الآيتان ٥٥- ٥٦.
(٣) فى قوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ الآية ٧١.
(٤) عند تفسير الآيات ٨١- ٨٢.
475
عشر. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ أي: غير أهل بيت مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وفيه دليل على أنَّ الإسلام والإيمان واحد، أي: باعتبار الشرع، وأما في اللغة فمختلف، والإسلام محله الظاهر، والإيمان محله الباطن. وَتَرَكْنا فِيها أي: في قُراهم آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي: مِن شأنهم أن يخافوا لسلامة فطرتهم، ورقة قلوبهم، وأما مَن عداهم من ذوي القلوب القاسية، فإنهم لا يعتبرون بها، ولا يعدونها آية.
الإشارة: الإشارة بإبراهيم إلى القلب، وأضيافه: تجليات الحق، فنقول حينئذ: هل بلغك حديث إبراهيم القلب، حين يدخل عليه أنوار التجليات، مُسلِّمة عليه، فيُنكرها أول مرة، حيث لم يألف إلا رؤية حس الكائنات، فراغ إلى أهله: عوالمه، فجاء بعِجْل سمينٍ النفس أو السِّوى، فقربّه إليهم، بذلاً لها في مرضاة الله، فقال: ألا تأكلون منها، لتذهب عني شوكتها إذ لا تثبت أنوار الشهود إلا بعد محق النفس وموتها، فأوجس منهم خيفة لان صدمات التجلي تدهش الألباب، إلا مَن ثبته الله، قالوا: لا تخف، أي: لا تكن خوَّافاً، إذ لا ينال هذا السر إلا الشجعان، كما قال الجيلاني «١» :
وإِيَّاكَ حَزْماً لا يَهُولُكَ أمرُهَا فَمَا نَالَهَا إلاَّ الشُّجاعُ المُقّارعُ
وبشَّروه بغلامٍ عليم، وهو نتيجة المعرفة، من اليقين الكبير، والطمأنينة العظمى، فأقبلت النفس تصيح، وتقول:
أألد هذا الغلام، من هذا القلب، وقد كبر على ضعف اليقين، وأنا عجوز، شِخْتُ في العوائد، عقيم من علوم الأسرار؟!، فتقول القدرة: كذلك قال ربك، هو علي هيّن، أتعجبين من قدرة الله، «مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته. فقد استعجز القدرة الإلهية، وَكَانَ الله على كُلِّ شيء مقتدراً» «٢» إنه هو الحكيم في ترتيب الفتح على كسب المجاهدة، العليم بوقت الفتح، وبمَن يستحقه. قال إبراهيم القلب أو الروح: فما خطبكم أيها التجليات، أو الواردات الإلهية، قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، وهم جند النفس، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومةً عند ربك للمسرفين، وهم الأذكار والأوراد والمجاهدات والرياضات والمعاملات المهلِكة للنفس وأوصافها، فأخرجنا مَن كان فيها من المؤمنين، سالمين من الهلاك، وهو ما كان لها من الأوصاف الحميدة، والعلوم الرسمية، إذ لا تُخرِج المجاهدة إلا مَن كان مذموماً، فما وجدنا فيها من ذلك إلا النذر القليل إذ معاملة النفس جُلها مدخولة، وتركنا فيها آيةً من تزكية النفس، وتهذيب أخلاقها، للذين يخافون العذاب الأليم، فيشتغلون بتزكيتها لئلا يلحقهم ذلك العذاب.
(١) الشيخ عبد الكريم الجيلي فى عينيته (ص ٧٨).
(٢) حكمة عطائية رقم (١٩٧) انظر تبويب الحكم (ص ١٨).
476
ثم ذكر آيات أخرى فى بقية الأمم، فقال:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣٨ الى ٤٩]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧)
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩)
قلت: (وفي موسى) : عطف على (وفي الأرض)، أو على قوله: (وتركنا فيها آية) على معنى: وجعلنا في موسى آية، كقوله:
علفتها تبنا وماءا بارداً «١».
و (إذ أرسلناه) : منصوب بآيات، أو: بمحذوف، أي: كائنة وقت إرسالنا، أو بتَركنا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَفِي مُوسى آية ظاهرة حاصلة إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة، وهي ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فأعرض عن الإيمان وازوَرّ عنه «٢» بِرُكْنِهِ بما يتقوى به من جنوده ومُلكه، والركن: ما يركن إليه الإنسان من عِزٍّ وجند، وَقالَ في موسى: هو ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، كأنه نسب ما ظهر على يديه عليه السلام من الخوارق العجيبة إلى الجن، وتردد هل ذلك باختياره وسعيه، أو بغيرهما. أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ
، وفيه من الدلالة على عِظَمِ شأن القدرة الربانية، ونهاية حماقة فرعون ما لا يخفى، هُوَ مُلِيمٌ
، آتٍ بما يُلام عليه من الكفر والطغيان.
(١) شطر بيت، تمامه: حتى شتت همالة عيناها.
(٢) أي: مال عنه.
477
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، وُصفت بالعقيم لأنها أهلكتهم، وقطعت دابرهم، أو: لأنها لم تتضمن خيراً مَّا، من إنشاء مطرٍ، أو إلقاح شجرٍ، وهي الدَّبور، على المشهور، لقوله عليه السلام: «نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدّبور» «١»، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي: مرت عليه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وهو كل ما رمّ، أي: بلي وتفتت، من عظم، أو نبات، أو غير، والمعنى: ما تركت شيئاً هبتَ عليه من أنفسهم وأموالهم إلا أهلكته.
وَفِي ثَمُودَ آية أيضاً إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، تفسيره قوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «٢»، رُوي أن صالحاً قال لهم: تُصبح وجوهكم غداً مصفرة، وبعد غدٍ مُحْمَرة، وفي الثالث مسودة، ثم يُصحبكم العذاب، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبروا عن الامتثال، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ العذاب، وكل عذاب مُهلك صاعقة. قيل: لما رأوا العلامات من اصفرار الوجوه، واحمرارها، واسودادها، التي بينت لهم، عَمدوا إلى قتله عليه السلام فنجّاه الله تعالى إلى أرض فلسطين، وتقدّم في النمل «٣»، ولمّا كان ضحوة اليوم الرابع تحنّطوا وتكفّنوا بالأنطاع، فأتتهم الصيحة، فهلكوا، كبيرهم وصغيرهم وهم ينظرون إليها، ويُعاينونها جهراً، فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ من هرب، أو هو من قولهم: ما يقوم بهذا الأمر: إذا عجز عن دفعه. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ممتنعين من العذاب بغيرهم، كما لم يمتنعوا بأنفسهم.
وَقَوْمَ نُوحٍ أي: وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه، أو: واذكر قوم نوح، ومَن قرأ بالجر «٤» فعطف على ثمود، أي: وفي قوم نوح آية، ويؤيده قراءة عبد الله «وفي قوم نوح» مِنْ قَبْلُ أي: قبل هؤلاء المذكورين، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الحدود بما كانوا فيه من الكفر والمعاصي وإذاية نوح عليه السلام.
وَالسَّماءَ بَنَيْناها من باب الاشتغال، أي: بنينا السماء، بنيناها بِأَيْدٍ بقوة، والأيد: القوة، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ لقادرين، من الوسع، وهو الطاقة، والمُوسِع: القويُّ على الإنفاق، أو: لموسعون بين السماء والأرض، أو: لموسعون الأرزاق على مَن نشاء، وهو تتميم كما تمّم ما بعده بقوله: (فَنِعْمَ الماهدون) لزيادة الامتنان.
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها بسطناها ومهّدناها لتستقروا عليها، فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نحن. وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ نوعين ذكر وأنثى، وقيل: متقابلين، السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر،
(١) متفق عليه، وسبق تخريجه عند تفسير الآية ٤٦ من سورة الرّوم (٤/ ٣٤٩).
(٢) من الآية ٦٥ من سورة هود. [.....]
(٣) راجع تفسير الآيات ٤٨- ٥٣ من سورة النّمل، فى المجلد الرّابع (ص ٢٠٢- ٢٠٣).
(٤) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف (وقوم) بجر الميم، وقرأ الباقون بنصبها. راجع الإتحاف ٢/ ٤٩٣.
478
الموت والحياة. قال الحسن: كل شيء زوج، والله فرد لا مِثل له. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: جعلنا ذلك كله، من بناء السماء، وفرش الأرض، وخلق الأزواج، لتذكَّروا، وتعرفوا أنه خالق الكل ورازقهم، وأنه المستحق للعبادة، وأنه قادر على إعادة الجميع، وتعملوا بمقتضاه. وبالله التوفيق.
الإشارة: وفي موسى القلب إذ أرسلناه إلى فرعون النفس، بسلطانٍ، أي: بتسلُّط وحجة ظاهرة، لتتأدب وتتهذب، فتولى فرعون النفس برُكنه، وقوة هواه، وقال لموسى القلب: ساحر أو مجنون، حيث يأمرني بالخضوع والذل، الذي يفرّ منه كلُّ عاقل، طبعاً، فأخذناه وجنوده من الهوى والجهل والغفلة، فنبذناهم في اليمِّ في بحر الوحدة، فلما غرقت في بحر العظمة، ذابت وتلاشت، ولم يبقَ لها ولا لجنودها أثر، وهو- أي: فرعون النفس- مُليم:
فَعل ما يُلام عليه من الميل إلى ما سوى الله قبل إلقائه في اليم.
وفي عادٍ، وهي جند النفس وأوصاف البشرية، من التكبُّر، والحسد، والحرص، وغير ذلك، إذ أرسلنا عليهم الريحَ العقيم ريح المجاهدة والمكابدة. أو: ريح الواردات القهرية، ما تذر من شيء من الأوصاف المذمومة إلا أهلكته، وجعلته كالرميم. وفي ثمود، وهم أهل الغفلة، إذ قيل لهم: تمتعوا بدنياكم إلى حين زمان قليل مدة عمركم القصير، فعتوا: تكبّروا عن أمر ربهم، وهو الزهد في الدنيا، والخضوع لمَن يدعوهم إلى الله، فأخذتهم صاعقة الموت على الغفلة والبطالة، وهم لا ينظرون إلى ارتحالهم عما جمعوا، فما استطاعوا من قيام، حتى يدفعوا ما نزل بهم، ولو افتدوا بالدنيا وما فيها، وما كانوا ممتنعين من قهرية الموت، فرحلوا بغير زاد ولا استعداد. وقوم نوح من قبل، وهو مَن سلف من الأمم الغافلة، إنهم كانوا قوماً فاسقين خارجين عن حضرتنا.
والسماء، أي: سماء الأرواح، بنيناها ورفعناها بأَيد، ورفعنا إليها مَن أحببنا من عبادنا، وإنا لمُوسعون على المتوجهين إلينا في المعارف والأنوار، والعلوم والأسرار، والأرض وأرض النفوس، فرشناها للعبودية، والقيام بآداب الربوبية، فنِعم الماهدون، مهدنا الطريق لذوي التحقيق، ومن كل شيء من تجليات الحق، خلقنا، أي: أظهرنا زوجين، الحس والمعنى، الحكمة والقدرة، الشريعة والحقيقة، الفرق والجمع، الملك والملكوت، الأشباح والأرواح، الذات والصفات، فتجلى الحق جلّ جلاله بيَّن هذين الضدين ليبقى الكنز مدفوناً، والسر مصوناً، ولو تجلّى بضد واحد لبطلت الحكمة، وتعطلت أسرار الربوبية، فمَن لم يعرف الله تعالى في هذين الضدين، لم يعرفه أبداً، ومَن لم يُفرق بين هذين الضدين، في هذه الأشياء المذكورة، لم تنسج فكرته، فصفاء الغزول هو التمييز بين هذين الضدين، ذوقاً، وبينهما تنسج الفكرة، وبالغيبة عن الأول فى شهود الثاني يحصل القرب إلى الله تعالى، كما أبان ذلك فى قوله:
479

[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٠ الى ٥٥]

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)
يقول الحق جلّ جلاله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: إذا كان الأمر كما ذكر من شئونه تعالى في إهلاك مَن تعدى الحدود، ففِروا إلى الله بالإيمان والطاعة، كي تنجو من غضبه، وتفوزوا بثوابه، أو: ففِرُّوا من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، أو: من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، تعليل للأمر بالفرار إليه تعالى، فإنّ كونه صلّى الله عليه وسلم منذراً منه تعالى، لا من تلقاء نفسه، موجب للفرار، وفيه وعد كريم بنجاتهم من المهروب، وفوزهم بالمطلوب، وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ هو نهي موجبٌ للفرار من سبب العقاب، بعد الأمر بالفرار من نفس العقاب، كما يُشعر به قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي:
من الجعل المنهي عنه نَذِيرٌ مُبِينٌ كأنه قيل: ففرُّوا إلى الله من عقابه، ومن سببه، وهو جعلكم مع الله إلهاً آخر.
كَذلِكَ أي: الأمر ما ذكر من تكذيبهم الرسول، وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً، ثم فسر ما أجمل بقوله ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل قومك مِنْ رَسُولٍ من رسل الله إِلَّا قالُوا في حقه: هو ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، فرموهم بالسحر والجنون لجهلهم، أَتَواصَوْا بِهِ، الضمير للقول، أي: أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول، حتى قالوه جميعاً متفقين عليه، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي: لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بل جمعتهم العلة الواحدة، وهي الطغيان، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: أعرِضْ عن الذين كرّرت عليهم الدعوة، فلم يجيبوا عناداً، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ فلا لوم عليك في إعراضك بعد ما بلّغت الرسالة، وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة. وَذَكِّرْ وَعِظ بالقرآن فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الذين قدّر الله سبحانه وتعالى إيمانهم، أو آمنوا بالفعل، فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين والعلم. وبالله التوفيق.
الإشارة: الفرار إلى الله يكون من خمسة أشياء: من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة بالتوبة، ومن الغفلة إلى اليقظة بدوام الذكر، ومن المقام مع العوائد والحظوظ إلى الزهد بالمجاهدة وخرق العوائد، ومن شهود الحس إلى شهود المعنى، وهو مقام الشهود. وفي القوت: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الفَرْد، (ففروا إلى الله) أي: من الأشكال والأضداد إلى الواحد الفرد. وفي البخاري: «معناه: من الله إليه» «١».
(١) ذكره البخاري فى (التفسير- سورة الذاريات).
قال القشيري: ارجعوا إلى الله، والإشارة إلى حالتين، إما رغبة في شيء، أو رهبة من شيء، أو حالي خوف ورجاء، أو طلب نفع أو دفع ضر، وينبغي أن يفر من الجهل إلى العلم، ومن الهوى إلى التقوى، ومن الشك إلى اليقين، ومن الشيطان إلى الله، ومِن فعله الذي هو بلاؤه إلى فعله الذي هو كفايته، ومن وصفه الذي هو سخطه، إلى وصفه الذي هو رحمته، ومن نفسه، حيث قال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «١» إلى نفسه، حيث قال: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ. هـ. ونقل الورتجبي عن الخراز «٢»، فقال: أظهر معنى الربوبية والوحدانية، بأن خلق الأزواج «٣» فتخلُص له الفردانية، فلما تبين أن أشكال الأشياء تواقع «٤» علة الفناء دعا العباد إلى نفسه لأنه الباقي، وغيره فانٍ، بقوله:
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي: ففروا مِن وجودكم، ومِن الأشياء كلها، إلى الله بنعت الشوق والمحبة والتجريد عما سواه. هـ.
ولمّا أمرهم بالفرار إليه، أعلم أنه ما خلقهم إلا لذلك، فقال:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي: إلا لنأمرهم بالعبادة والخضوع لربوبيتي، لا لنستعين بهم على شأن من شئونى، كما هي عادة السادات في كسب العبيد، ليستعينوا بهم على أمر الرزق والمعاش، ويدلّ على هذا التأويل: قوله تعالى ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ... الخ، قال ابن المنير: إلا لأمرهم بعبادته، لا لطلب رزقٍ لأنفسهم، ولا إطعام لي، كما هو حال السادات من الخلق مع عبيدهم، بل الله هو الذي يرزق، وإنما على عباده العبادة له لأنهم مُكلَّفون، ابتلاءً وامتحاناً، أما الإرادة فكما تعلقت بالعبادة تعلقت بما يخالفها، لقوله:
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «٥». هـ. وقيل المعنى: ما خلقهم إلا مستعدين للعبادة، متمكنين منها أتم استعداد، وأكمل تمكُّن، فمنهم مَن أطاع، ومنهم مَن كفر، وهو كقولهم: البقر مخلوقة للحرث، أي: قابلة لذلك، وقد يكون فيها مَن لا يحرث. والحاصل: أنه لا يلزم من كون الشيء مُعدّاً لشيءٍ أن يقع منه جميع ذلك.
أو: ما خلقتهم إلا ليتذللوا لي، ولقدرتي، وإن لم يكن ذلك على قواعد شرع، وهذا عام في الكل، طوعاً أو كرهاً إذ كل ما خلق مُنقاد لقدرته وقهريته، عابد له بهذا المعنى. وفي البخاري: وما خلقت أهل السعادة من
(١) من الآية ٢٨ من سورة آل عمران.
(٢) فى الورتجبي: الحراز.
(٣) فى الورتجبي: الأرواح.
(٤) فى الورتجبي: مواضع.
(٥) من الآية ١٧٩ من سورة الأعراف.
481
الفريقين إلا ليُوحِّدون. وقال بعضهم: خلقهم ليفْعلوا، ففعل بعضٌ وترك بعضٌ. وليس فيه حجة لأهل القدر. هـ.
منه «١». والمراد بأهل القدر: المعتزلة، القائلون بأن الله تعالى لم يُرد الكفر والمعاصي، وهو باطل، وسيأتي في الإشارة بقية تحقيق إن شاء الله.
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي: ما خلقتهم ليَرزقوا أنفسهم، أو واحداً من عبادي، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، قال ثعلب: أن يُطعموا عبادي، وهو إضافة تخصيص، كقوله عليه السلام: «مَن أكرم مؤمناً فقد أكرمني ومَن آذى مؤمناً فقد آذاني» «٢»، والحاصل: أنه تعالى بيَّن أن شأنه مع عباده متعالياً عن أن يكون كشأن السادات مع عبيدهم، حيث يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم، وتهيئة أرزاقهم، أي: ما أريد أن أصرفهم في تحصيل رزقي ولا رزقهم، بل أتفضّل عليهم برزقهم، وبما يصلحهم ويعيشهم من عندي، فليشتغلوا بما خُلقوا له من عبادتي.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ أي: يرزق كل مَن يفتقر إلى الرزق، وفيه تلويح بأنه غني عنه، ذُو الْقُوَّةِ ذو الاقتدار، الْمَتِينُ أي: الشديد الصلب. وقرأ الأعمش «المتِين» بالجر «٣»، نعت للقوة، أي: ذو القوة المتينة، وإنما ذكّره لتأول القوة بالاقتدار.
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم، بتعريضها للعذاب، حيث كذّبوا الرّسول صلّى الله عليه وسلم، أو: وضعوا التكذيب مكان التصديق، وهم أهل مكة، ذَنُوباً أي: نصيباً وافراً من العذاب، مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ مثل عذاب نظائرهم من الأمم المحكية. قال الزجاج: الذَنوب في اللغة: النصيب، مأخوذ من مقاسمة السُقاة الماءَ بالذنوب، وهو الدلو العظيم المملوء. فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ذلك النصيب، فإنه لاحق بهم، وهذا جواب النضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالكفر، أي: فويلٌ لهم مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، أي: من يوم القيامة، أو يوم بدر، والأول أنسب لما في صدر السورة الآتية.
الإشارة: اعلم أن الحق- جلّ جلاله- إنما بعث الرسلَ بإظهار الشرائع، ليحوّشوا العباد إلى الله، ويدعوهم إليه كافة، ويأمروهم بالتبتُّل والانقطاع، من غير التفات لمَن سبق له السعادة أو الشقاء لأن ذلك من سر القدر، وغيب المشيئة لا يجوز كشفه في حالة الدعوة، فقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ هذا ما يمكن
(١) ذكره البخاري فى (التفسير، سورة «والذاريات» )
(٢) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ح ٥٨٠٦) والطبراني فى الأوسط (ح ٨٦٤٥) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: «من أكرم أخاه المؤمن فإنما يكرم الله عز وجل». وليس فيه الجزء الأخير.
(٣) انظر «المحتسب فى تبيين وجوه شواذ القراءات» لابن جنى (٢/ ٢٨٩).
482
الأمر به في ظاهر الأمر، ويُؤمر بإظهاره في حالة الدعوة، وكون الحق تبارك وتعالى أراد من قوم الكفر والمعاصي من غيب المشيئة، وسر القدر لا يقدح في عموم الدعوة التي تعلقت بالظواهر لأنه من قبيل الحقيقة، وما جاءت الرسل إلا بالشريعة، فالدعاة إلى الله يُعممون الدعوة، ويُحرِّضون على التبتُّل والأنقطاع إلى الله، وينظرون إلى ما يبرُز من غيب المشيئة. وقال الورتجبي: عن جعفر الصادق وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي:
ليعرفوني. هـ. ومداره قوله صلّى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن رب العزة: «كنت كنزا مخفيا لم أُعرف، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقت الخلق لأُعرف» «١» أي: ما أظهرت الخلق إلا لأُعرف بهم، فتجليت بهم في قوالب العبودية، لتظهر ربوبيتي في قوالب العبودية، فتظهر قدرتي وحكمتي، فسبحان الحكيم العليم.
قال أبو السعود: ولعل السر في التعبير عن المعرفة بالعبادة للتنبيه على أن المعتَبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى، لا ما يحصل بغيرها، كمعرفة الفلاسفة. هـ. قلت: وكل معرفة وحقيقة لا تصحبها شريعة لا عبرة بها، بل هي زندقة أو دعوى «٢». وبالله التوفيق.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، هذه الآية وأمثالها هي التي غسلت الأمراض والشكوك من قلوب الصدِّيقين، حتى حصل لهم اليقين الكبير، فسكنت نفوسُهم، واطمأنت قلوبهم، فهم في روح وريحان. والأحاديث في ضمان الرزق كثيرة، وأقوال السلف كذلك، وفي حديث أبي سعيد الخدري عنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لو فَرَّ أحدُكم من رِزْقه لتبعه كما يَتْبعه الموتُ» «٣» وقال أيضاً عن الله عزّ وجل: «يقول: يا ابن آدم تفرَّغْ لعبادتي، املأ صدرك غِنىً، وأسُد فقرك، وإلا تفعل ملأت يدك شغلا» «٤»، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن كانت الآخرة هَمَّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شَمْلَه، وأتته الدنيا وهي صاغرة، ومَن كانت الدنيا همه جعل الله فقرّه بين عينيه، وفرَّق عليه شملَه، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا ما قُدِّر له» «٥».
(١) قال ابن تيمية: إنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف» وتبعه الزركشي وابن حجر. انظر: الشذرة (ح ٧١٧) وأسنى المطالب (١١١٠) وتنزيه الشريعة (١/ ١٤٨).
(٢) صدقت يا شيخنا رضي الله عنك.
(٣) أخرجه الطبراني فى الصغير (١/ ٢٢٠) والأوسط (ح ٤٤٤٤) وقال الهيثمي فى مجمع الزوائد (٤/ ٧٢) :«رواه الطبراني فى الأوسط والصغير، وفيه عطية العوفى، وهو ضعيف وقد وثّق». [.....]
(٤) أخرجه أحمد فى المسند (٢/ ٣٥٨) والترمذي فى (صفة القيامة ٤/ ٥٥٤، ح ٢٤٦٦) وابن ماجة فى (الزهد، باب الهم بالدنيا، ح ٤١٠٧) والحاكم (٢/ ٤٤٣) «وصحّحه وافقه الذهبي» من حديث أبى هريرة.
(٥) أخرجه الترمذي فى الموضع السابق (ح ٢٤٦٥) من حديث أنس، وبنحوه أخرجه ابن ماجة فى الموضع السابق (ح ٤١٠٥) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
483
وقال المحاسبي: قلت لشيخنا: من أين وقع الاضطراب في القلوب، وقد جاء الضمان من الله عزّ وجل؟ قال:
من وجهين من قلة المعرفة وقلة حسن الظن. ثم قال: قلت: شيء غيره؟ قال: نعم، إن الله عزّ وجل وَعَدَ الأرزاق وضمِنها، وغيّب الأوقات، ليختبر أهل العقول، ولولا ذلك لكان كل المؤمنين راضين، صابرين، متوكلين، لكن الله- عزّ وجل- أعلمهم أنه رازقهم، وحلف لهم، وغيّب عنهم أوقات العطاء، فمِن هنا عُرف الخاص من العام، وتفاوت العباد، فمنهم ساكن، ومنهم متحرك، ومنهم ساخط، ومنهم جازع، فعلى قدر ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين. هـ. مختصراً. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
484
Icon