تفسير سورة الحديد

الماوردي
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ﴾ في هذا التسبيح ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أن خلق ما في السموات والأرض يوجب تنزيهه عن الأمثال والأشباه.
الثاني : تنزيه الله قولاً مما أضاف إليه الملحدون، وهو قول الجمهور.
الثالث : أنه الصلاة، سميت تسبيحاً لما تتضمنه من التسبيح، قاله سفيان، والضحاك.
فقوله :﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ﴾ يعني الملائكة وما فيهن من غيرهم وما في الأرض يعني في الحيوان والجماد، وقد ذكرنا في تسبيح الجماد وسجوده ما أغنى عن الإعادة.
﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ في انتصاره، ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ في تدبيره.
﴿ هُوَ الأَوَّلُ وِالأخِرُ ﴾ يريد بالأول أنه قبل كل شيء لقدمه، وبالآخر لأنه بعد كل شيء لبقائه.
﴿ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : الظاهر فوق كل شيء لعلوه، والباطن إحاطته بكل شيء لقربه، قاله ابن حيان.
الثاني : أنه القاهر لما ظهر وبطن كما قال تعالى :﴿ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِم فََأصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ﴾.
الثالث : العالم بما ظهر وما بطن.
﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٍ ﴾ يعني بالأول والآخر والظاهر والباطن.
ولأصحاب الخواطر في ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : الأول في ابتدائه بالنعم، والآخر في ختامه بالإحسان، والظاهر في إظهار حججه للعقول، والباطن في علمه ببواطن الامور.
الثاني : الأول بكشف أحوال الآخرة حين ترغبون فيها، والآخر بكشف أحوال الدنيا حين تزهدون فيها، والظاهر على قلوب أوليائه حين يعرفونه، والباطن على قلوب أعدائه حين ينكرونه.
الثالث : الأول قبل كل معلوم، والآخر بعد كل مختوم، والظاهر فوق كل مرسوم، والباطن محيط بكل مكتوم.
﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ ﴾ قال مقاتل : من مطر، وقال غيره : من مطر وغير مطر.
﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ قال مقاتل : من نبات وغير نبات.
﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ قال مقاتل : من الملائكة، وقال غيره : من ملائكة وغير ملائكة.
ويحتمل وجهاً آخر : ما يلج في الأرض من بذر، وما يخرج منها من زرع، وما ينزل من السماء من قضاء، وما يعرج فيها من عمل، ليعلموا إحاطة علمه بهم فيما أظهروه أو ستروه، ونفوذ قضائه فيهم بما أرادوه أو كرهوه.
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : علمه معكم أينما كنتم حيث لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، قاله مقاتل.
والثاني : قدرته معكم أينما كنتم حيث لا يعجزه شيء من أموركم.
﴿ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ تحتمل هذه النفقة وجهين :
أحدهما : أن تكون الزكاة المفروضة.
والثاني : أن يكون غيرها من وجوه الطاعات.
وفي ﴿ ما جَعَلَكْم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ قولان :
أحدهما : يعني مما جعلكم معمرين فيه بالرزق، قاله مجاهد.
الثاني : مما جعلكم مستخلفين فيه بوراثتكم له عمن قبلكم، قاله الحسن.
ويحتمل ثالثاً : مما جعلكم مستخلفين على القيام بأداء حقوقه.
﴿ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : معناه ولله ملك السموات والأرض.
الثاني : أنهما راجعان إليه بانقباض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق.
﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : لا يستوي من أسلم من قبل فتح مكة وقاتل ومن أسلم بعد فتحها وقاتل، قاله ابن عباس، ومجاهد.
الثاني : يعني من أنفق ماله في الجهاد وقاتل، قاله قتادة.
وفي هذا الفتح قولان :
أحدهما : فتح مكة، قاله زيد بن أسلم.
الثاني : فتح الحديبية، قاله الشعبي، قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الأخر، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك.
﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الحسنى الحسنة، قاله مقاتل.
الثاني : الجنة، قاله مجاهد.
ويحتمل ثالثاً : أن الحسنى القبول والجزاء.
﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرضُ اللَّه قَرْضاً حَسَناً ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن القرض الحسن هو أن يقول : سبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أكبر، رواه سفيان عن ابن حيان.
الثاني : أنه النفقة على الأهل، قاله زيد بن أسلم.
الثالث : أنه التطوع بالعبادات، قاله الحسن.
الرابع : أنه عمل الخير، والعرب تقول لي عند فلان قرض صدق أو قرض سوء، إذا فعل به خيراً أو شراً، ومنه قول الشاعر :
وتجزي سلاماً من مقدم قرضها بما قدمت أيديهم وأزلت
الخامس : أنه النفقة في سبيل الله، قاله مقاتل بن حيان.
وفي قوله :﴿ حَسَناً ﴾ وجهان :
أحدهما : طيبة بها نفسه، قاله مقاتل.
الثاني : محتسباً لها عند الله، قاله الكلبي، وسمي قرضاً لاستحقاق ثوابه، قاله لبيد :
وإذا جوزيت قرضاً فاجزه إنما يجزى الفتى ليس الجمل
وفي تسميته ﴿ حَسَناً ﴾ وجهان :
أحدهما : لصرفه في وجوه حسنة.
الثاني : لأنه لا مَنَّ فيه ولا أذى.
﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : فيضاعف القرض لأن جزاء الحسنة عشر أمثالها.
الثاني : فيضاعف الثواب تفضلاً بما لا نهاية له.
﴿ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : لم يتذلل في طلبه. الثاني : لأنه كريم الخطر.
الثالث : أن صاحبه كريم.
فلما سمعها أبو الدحداح تصدق بحديقة فكان أول من تصدق بعد هذه الآية.
وروى سعيد بن جبير أن اليهود أتت النبي ﷺ عند نزول هذه الآية، فقالوا يا محمد، أفقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ﴾ الآية.
233
﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ﴾ وفي نورهم ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضياء يعطيهم الله إياه ثواباً وتكرمة، وهذا معنى قول قتادة.
الثاني : أنه هداهم الذي قضاه لهم، قاله الضحاك.
الثالث : أنه نور أعمالهم وطاعتهم.
قال ابن مسعود : ونورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم مَن نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً مَن نوره على إبهام رجله يوقد تارة ويطفأ أخرى.
وقال الضحاك : ليس أحد يعطى يوم القيامة نوراً، فإذا انتهوا إلى الصراط أطفىء نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن ينطفىء نورهم كما طفىء نور المنافقين، فقالوا :﴿ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ﴾.
وفي قوله :﴿ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ وجهان :
أحدهما : ليستضيئوا به على الصراط، قاله الحسن.
والثاني : ليكون لهم دليلاً إلى الجنة، قاله مقاتل.
وفي قوله :﴿ بِأَيْمَانَهِم ﴾ في الصدقات والزكوات وسبل الخير.
الرابع : بإيمانهم في الدنيا وتصديقهم بالجزاء، قاله مقاتل.
قوله تعالى ﴿ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن نورهم هو بشراهم بالجنات.
الثاني : هي بشرى من الملائكة يتلقونهم بها في القيامة، قاله الضحاك.
234
﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ ﴾ الآية. قال ابن عباس وأبو أمامة : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة أظنها بعد فصل القضاء، ثم يعطون نوراً يمشون فيه.
وفي النور قولان :
أحدهما : يعطاه المؤمن بعد إيمانه دون الكافر.
الثاني : يعطاه المؤمن والمنافق، ثم يسلب نور المنافق لنفاقه، قاله ابن عباس.
فيقول المنافقون والمنافقات حين غشيتهم الظلمة.
﴿ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ حين أعطوا النور الذي يمشون فيه :
﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ أي انتظروا، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا
﴿ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : ارجعوا إلى الموضع الي أخذنا منه النور فالتمسوا منه نوراً.
الثاني : ارجعو فاعملوا عملاً يجعل الله بين أيديكم نوراً.
ويحتمل في قائل هذا القول وجهان :
أحدهما : أن يقوله المؤمنون لهم.
الثاني : أن تقوله الملائكة لهم.
﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه حائط بين الجنة والنار، قاله قتادة.
الثاني : أنه حجاب في الأعراف، قاله مجاهد.
الثالث : أنه سور المسجد الشرقي، [ بيت المقدس ] قاله عبد الله بن عمرو بن العاص.
﴿ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبلِهِ الْعَذَابُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الرحمة التي في باطنه الجنة، والعذاب الذي في ظاهره جهنم، قاله الحسن.
الثاني : أن الرحمة التي في باطنه : المسجد وما يليه، والعذاب الذي في ظاهره : وادي جهنم يعني بيت المقدس، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص.
ويحتمل ثالثاً : أن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين.
وفيمن ضرب بينهم وبينه بهذا السور قولان :
أحدهما : أنه ضرب بينهم وبين المؤمنين الذي التمسوا منهم نوراً، قاله الكلبي ومقاتل.
الثاني : أنه ضرب بينهم وبين النور بهذا السور حتى لا يقدروا على التماس النور.
﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ﴾ يعني نصلي مثلما تصلون، ونغزو مثلما تغزون، ونفعل مثلما تفعلون.
﴿ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَكُم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالنفاق، قاله مجاهد.
الثاني : بالمعاصي، قاله أبو سنان.
الثالث : بالشهوات، رواه أبو نمير الهمداني.
﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : بالحق وأهله، قاله قتادة.
الثاني : وتربصتم بالتوبة، قاله أبو سنان.
﴿ وَارْتَبْتُمْ ﴾ يعني شككتم في أمر الله.
﴿ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : خدع الشيطان، قاله قتادة.
الثاني : الدنيا، قاله ابن عباس.
الثالث : سيغفر لنا، قاله أبو سنان.
الرابع : قولهم اليوم وغداً.
﴿ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : الموت، قاله أبو سنان.
الثاني : إلقاؤهم في النار، قاله قتادة.
﴿ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُوْرُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : الشيطان، قاله عكرمة.
الثاني : الدنيا، قاله الضحاك.
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها نزلت في قوم موسى عليه السلام قبل أن يبعث النبي ﷺ، قاله ابن حيان.
الثاني : في المنافقين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، قاله الكلبي.
الثالث : أنها في المؤمنين من أمتنا، قاله ابن عباس وابن مسعود، والقاسم بن محمد.
ثم اختلف فيها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما رواه أبو حازم عن عون بن عبد الله عن ابن مسعود قال : ما كان بين أن أسلمنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول ما أحدثنا. قال الحسن : يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه.
الثاني : ما رواه قتادة عن ابن عباس أن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاثة عشرة سنة، فقال تعالى :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ الآية.
الثالث : ما رواه المسعودي عن القاسم قال : مل أصحاب رسول الله ﷺ مرة فقالوا يا رسول الله حدثنا، فأنزل الله تعالى :﴿ نَحنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسنَ الْقَصَصِ ﴾ ثم ملوا مرة فقالوا : حدثنا يا رسول الله، فأنزل الله ﴿ أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾.
قال شداد بن أوس : كان يروى لنا عن النبي ﷺ أنه قال :« أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الخُشُوعُ ». ومعنى قوله :﴿ أَلَمْ يَأْنِ ﴾ ألم يحن، قال الشاعر :
ألم يأن لي يا قلب أن اترك الجهلا وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا
وفي ﴿ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكْر اللَّهِ ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن تلين قلوبهم لذكر الله.
الثاني : أن تذل قلوبهم من خشية الله.
الثالث : أن تجزع قلوبهم من خوف الله.
وفي ذكر الله ها هنا وجهان :
أحدهما : أنه القرآن، قاله مقاتل.
الثاني : أنه حقوق الله، وهو محتمل.
﴿ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : القرآن، قاله مقاتل.
الثاني : الحلال والحرام، قاله الكلبي.
الثالث : يحتمل أن يكون ما أنزل من البينات والهدى.
﴿ اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يلين القلوب بعد قسوتها، قاله صالح المري.
الثاني : يحتمل أنه يصلح الفساد.
الثالث : أنه مثل ضربه لإحياء الموتى. روى وكيع عن أبي رزين قال : قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الأرض بعد موتها؟ فقال :« يَا أَبَا رُزَينَ أَمَا مَرَرْتَ بِوَادٍ مُمْحَلٍ ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضْرَةً؟ قال : بلى، قَالَ كَذَلِكَ يُحْيي اللَّهُ المَوتَى ».
﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : المصدقين لله ورسوله.
الثاني : المتصدقين بأموالهم في طاعة الله.
﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ﴾ أي المؤمنون بتصديق الله ورسله.
﴿ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء عند ربهم، قاله زيد بن أسلم.
الثاني : أن قوله :﴿ أَوْلئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ﴾ كلام تام.
وقوله :﴿ وَالشُّهَدَآءُ عِنَدَ رَبِّهِمْ ﴾ كلام مبتدأ وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب، قاله الكلبي.
الثاني : أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة.
وفيما يشهدون به قولان :
أحدهما يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية، وهذا معنى قول مجاهد.
الثاني : يشهدون لأنبيائهم بتبليغ الرسالة إلى أممهم، قاله الكلبي.
وقال مقاتل قولاً ثالثاً : أنهم القتلى في سبيل الله لهم أجرهم عند ربهم يعني ثواب أعمالهم.
﴿ وَنُورُهُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : نورهم على الصراط.
الثاني : إيمانهم في الدنيا، حكاه الكلبي.
﴿ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أكل وشرب، قاله قتادة.
الثاني : أنه على المعهود من اسمه، قال مجاهد : كل لعب لهو.
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : أن اللعب ما رغَّب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة.
ويحتمل رابعاً : أن اللعب الاقتناء، واللهو النساء.
﴿ وَزِينَةٌ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الدنيا زينة فانية.
الثاني : أنه كل ما بوشر فيها لغير طاعة.
﴿ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : بالخلقة والقوة.
الثاني : بالأنساب على عادة العرب في التنافس بالآباء.
﴿ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ ﴾ لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأموال والأولاد، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعات.
ثم ضرب لهم مثلاً بالزرع ﴿ كَمَثَلٍ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمََّ يَهِيْجُ ﴾ بعد خضرة.
﴿ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ حُطَاماً ﴾ بالرياح الحطمة، فيذهب بعد حسنه، كذلك دنيا الكافر.
﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَبِّكُمْ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : النبي ﷺ، قاله أبو سعيد.
الثاني : الصف الأول، قاله رباح بن عبيد.
الثالث : إلى التكبيرة الأولى مع الإمام، قاله مكحول.
الرابع : إلى التوبة : قاله الكلبي.
﴿ وَجَنَةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ ﴾ ترغيباً في سعتها، واقتصر على ذكر العرض دون الطول لما في العرض من الدلالة على الطول، ولأن من عادة العرب أن تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله، قال الشاعر :
كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب حلقة خاتم.
﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مِن يَشَآءُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : الجنة، قاله الضحاك. الثاني : الدين، قاله ابن عباس.
وفي ﴿ مَن يَشَآءُ ﴾ قولان :
أحدهما : من المؤمنين، إن قيل إن الفضل الجنة.
الثاني : من جيمع الخلق، إن قيل إنه الدين.
﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : الجوائح في الزرع والثمار.
الثاني : القحط والغلاء.
﴿ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : في الدين، قاله ابن عباس.
الثاني : الأمراض والأوصاب، قاله قتادة.
الثالث : إقامة الحدود، قاله ابن حبان.
الرابع : ضيق المعاش، وهذا معنى رواية ابن جريج.
﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ يعني اللوح المحفوظ.
﴿ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ﴾ قال سعيد بن جبير : من قبل أن نخلق المصائب ونقضيها.
﴿ لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من الرزق الذي لم يقدر لكم، قاله ابن عباس، والضحاك.
الثاني : من العافية والخصب الذي لم يقض لكم، قاله ابن جبير.
﴿ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من الدنيا، قاله ابن عباس.
الثاني : من العافية والخصب، وهذا مقتضى قول ابن جبير.
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله :﴿ لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ ﴾ قال : ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً، والخير شكراً.
﴿ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : الذين يبخلون يعني بالعلم، ويأمرون الناس بالبخل بألا يعلموا الناس شيئاً، قاله ابن جبير.
الثاني : أنهم اليهود بخلوا بما في التوارة من ذكر محمد ﷺ، قاله الكلبي، والسدي.
الثالث : أنه البخل بأداء حق الله من أموالهم، قاله زيد بن أسلم.
الرابع : أنه البخل بالصدقة والحقوق، قاله عامر بن عبد الله الأشعري.
الخامس : أنه البخل بما في يديه، قال طاووس.
وفرق أصحاب الخواطر بين البخيل والسخي بفرقين :
أحدهما : أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك، والسخي الذي يلتذ بالعطاء.
الثاني : أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال.
﴿ وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الله أنزله مع آدم. روى عكرمة عن ابن عباس قال : ثلاث أشياء نزلت مع آدم : الحجر الأسود، كان أشد بياضاً من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع مثل طول موسى، والحديد، أنزل معه ثلاثة أشياء : السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة.
الثاني : أنه من الأرض غير منزل من السماء، فيكون معنى قوله :
﴿ وَأَنزَلْنَا ﴾ محمولاً على أحد وجهين :
أحدهما : أي أظهرناه.
الثاني : لأن أصله من الماء المنزل من السماء فينعقد في الأرض جوهره حتى يصير بالسبك حديداً.
﴿ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لأن بسلاحه وآلته تكون الحرب التي هي بأس شديد.
الثاني : لأن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً.
﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ما تدفعه عنهم دروع الحديد من الأذى وتوصلهم إلى الحرب والنصر.
الثاني : ما يكف عنهم من المكروه بالخوف عنه.
وقال قطرب : البأس السلاح، والمنفعة الآلة.
﴿.. وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رأْفَةً وَرَحْمَةً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الرأفة اللين، والرحمة الشفقة.
الثاني : أن الرأفة تخفيف الكل، والرحمة تحمل الثقل.
﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ﴾ فيه قراءتان :
إحداهما : بفتح الراء وهي الخوف من الرهب.
الثانية : بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان ومعناه أنهم ابتدعوا رهبانية ابتدؤوها.
وسبب ذلك ما حكاه الضحاك :[ أنهم ] بعد عيسى ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا، فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا النساء واتخذوا الصوامع، فكان هذا ما ابتدعوه من الرهبانية التي لم يفعلها من تقدمهم وإن كانوا فيها محسنين.
﴿ مَا كتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾ أي لم تكتب عليهم وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها رفض النساء واتخاذ الصوامع، قاله قتادة.
الثاني : أنها لحوقهم بالجبال ولزومهم البراري، وروي فيه خبر مرفوع.
الثالث : أنها الانقطاع عن الناس والانفراد بالعبادة.
وفي الرأفة والرحمة التي جعلها في قلوبهم وجهان :
[ الأول ] : أنه جعلها في قلوبهم بالأمر بها والترغيب فيها.
الثاني : جعلها بأن خلقها فيهم وقد مدحوا بالتعريض بها.
﴿ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رَضْوَانِ اللَّهِ ﴾ أي لم تكتب عليهم قبل ابتداعها ولا كتبت بعد ذلك عليهم.
الثاني : أنهم تطوعوا بها بابتداعها، ثم كتبت بعد ذلك عليهم، قاله الحسن.
﴿ فَمَا رَعَوْهَا حِقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنهم ما رعوها لتكذيبهم بمحمد.
الثاني : بتبديل دينهم وتغييرهم فيه قبل مبعث الرسول الله ﷺ، قاله عطية العوفي.
﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ ﴾ معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد.
﴿ يُؤْتِكُم كِفْلَينِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن أحد الأجرين لإيمانهم بمن تقدم من الأنبياء، والآخر لإيمانهم بمحمد ﷺ، قاله ابن عباس.
الثاني : أن أحدهما : أجر الدنيا، والآخر أجر الآخرة، قاله ابن زيد.
ويحتمل ثالثاً : أن أحدهما أجر اجتناب المعاصي، والثاني أجر فعل الطاعات.
ويحتمل رابعاً : أن أحدهما أجر القيام بحقوق الله والثاني أجر القيام بحقوق العباد.
﴿ وَيَجْعَلَ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه القرآن، قاله ابن عباس.
الثاني : أنه الهدى، قاله مجاهد.
ويحتمل ثالثاً : أنه الدين المتبوع في مصالح الدنيا وثواب الآخرة. وقد روى أبو بريدة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال : قال رسول الله ﷺ « ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَينِ : رَجُلٌ آمَنَ بِالكِتَابِ الأَوَّلِ وَالْكِتَابِ الآخِرِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَه أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا وَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لَسَيِّدِهِ ».
﴿ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ﴾ قال الأخفش : معناه ليعلم أهل الكتاب وأن « لا » صلة زائدة وقال الفراء : لأنْ لا يعلم أهل الكتاب و « لا » صلة زائدة في كلام دخل عليه جحد.
﴿ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من دين الله وهو الإسلام قاله مقاتل.
الثاني : من رزق الله، قاله الكلبي.
وفيه ثالث : أن الفضل نعم الله التي لا تحصى.
Icon