تفسير سورة الحديد

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
سورة الحديد
آيها تسع وعشرون
هذه السورة مدنية، نزلت بعد الزلزلة.
ووجه مناسبتها لما قبلها :
١ )إن هذه بدئت بالتسبيح، وتلك ختمت به.
٢ )إن أول هذه واقع موقع العلة لآخر ما قبلها من الأمر بالتسبيح فكأنه قيل : سبح باسم ربك العظيم، لأنه سبح له ما في السموات والأرض.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم( ١ ) له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير( ٢ )هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم( ٣ )هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير( ٤ ) له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور( ٥ )يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور ﴾( الحديد : ١-٦ ).
تفسير المفردات : جاء في الكتاب الكريم سبح ويسبح وسبح، ويقال : سبحته وسبحت له كما يقال : نصحته ونصحت له، وتسبيح العقلاء أن يقولوا ما يدل على تنزيهه من كل نقص، وإبعاده عما لا يليق به من صفات المحدثات، كإثبات شريك له أو ند، وكون الملائكة بنات له، وكون عيسى ابنا له، وتسبيح غيرهم دلالة وجوده على عظم خالقه، وانقياده له في كل آن.
وما مثل هذا إلا مثل إشارتك لصاحبك على وضع خاص يفهم منها تأن واصبر، وإشارتك له على هيئة أخرى يفهم منها أنك لا تفعل هذا.
فهذه الدلالة في الحالين أفهمت صاحبك إفهاما كإفهام الكلام، بل أقوى وأبلغ أثرا، وكم للإنسان في حركاته من معان يفهمها الآخرون بطريق لا لبس فيها.
وإذا كان هذا حال الإنسان المحدود العلم والإدراك، فما بالك بما أطلعنا الله عليه من بدائع القدرة والعلم والحكمة، وقد فهمنا منها ما لا نفهم بالقول، فلو أنك وقفت في الخلوات، وراقبت المزارع والجنات، والأشجار مترنحات، وأنواع الكلأ متحركات، والأوراق تغني بموزون الأصوات، وقد أرخى الليل سدوله، وأرسل من الخافقين جحافل جنوده، تلمع من بينها الكواكب، فتضيء من بينها السباسب لتجلت لك العبر، وقرأت علوم المبتدإ والخبر، ولعلمت أنها تحت قبضة ذي الملك والملكوت، الحي الذي لا يموت، الفرد الصمد، المنزه عن الصاحبة والولد، سبوح قدوس، رب الملائكة والروح.
العزيز : أي الذي لا ينازعه في ملكه شيء، الحكيم : الذي يفعل أفعاله وفق الحكمة والصواب.
الإيضاح :﴿ سبح لله ما في السموات والأرض ﴾أي إن ما دونه من خلقه ينزه عن كل نقص، تعظيما له وإقرارا بربوبيته، وإذعانا لطاعته كما قال :﴿ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ﴾ ( الإسراء : ٤٤ ).
﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾أي وهو القادر الغالب الذي لا ينازعه شيء، الحكيم في تدبير أمور خلقه، وتصريفها فيما شاء وأحب.
تفسير المفردات : يحيي ويميت : أي يحيي النطف فيجعلها أشخاصا عقلاء فاهمين ناطقين، ويميت الأحياء، وهو على كل من الإحياء والإماتة قدير.
الإيضاح :﴿ له ملك السموات والأرض ﴾أي له التصرف والسلطان فيهما، وهو نافذ الأمر، ماضي الحكم، فلا شيء فيهن يمتنع منه.
﴿ يحيي ويميت ﴾أي يحيي ما يشاء من الخلق كيف شاء، فيحدث من النطفة الميتة حيوانا ينفخ فيه الروح، ويميت ما يشاء من الأحياء حين بلوغ أجله.
﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾أي وهو ذو قدرة لا يتعذر عليه شيء أراده من إحياء وإماتة، وإعزاز وإذلال إلى نحو أولئك.
تفسير المفردات : وهو الأول : أي السابق على سائر الموجودات، والآخر : أي الباقي بعد فنائها، والظاهر والباطن : أي وهو الذي ظهرت دلائل وجوده وتكاثرت، وخفيت عنا ذاته فلم ترها العيون، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، وباطن بذاته، ومشرق بجماله وكماله، وهو ظاهر بغلبته على مخلوقاته وتسخيرها لإرادته وباطن بعلمه بما خفي منها، فلا تخفى عليه خافية.
الإيضاح :﴿ هو الأول والآخر ﴾أي هو الأول قبل كل شيء بغير حد كما جاء في الحديث القدسي :
( كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني )وهو الآخر بعد كل شيء بغير نهاية كما قال :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ ( القصص : ٨٨ ).
﴿ والظاهر والباطن ﴾أي وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه، وهو الباطن بذاته، فلا تحوم حوله الظنون، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، وباطن بعلمه بما بطن وخفي، فلا شيء إليه أقرب من شيء كما قال :﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾ ( ق : ١٦ ).
﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ أي وهو ذو علم تام بكل شيء، فلا يخفى عليه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
تفسير المفردات : والمراد بستة الأيام : ستة الأطوار، كما تقدم ذلك في سورة الأعراف، والاستواء على العرش تقدم تفسيره في سورتي يونس وهود، يلج في الأرض : أي يدخل فيها من كنوز ومعادن وبذور، وما يخرج منها : كالزرع والمعادن لمنفعة الناس، وما ينزل من السماء : كالمطر والملائكة ونحوهما، وما يعرج فيها : كالأبخرة المتصاعدة والأعمال والدعوات.
سورة الحديد
آيها تسع وعشرون
هذه السورة مدنية، نزلت بعد الزلزلة.

ووجه مناسبتها لما قبلها :

١ )إن هذه بدئت بالتسبيح، وتلك ختمت به.
٢ )إن أول هذه واقع موقع العلة لآخر ما قبلها من الأمر بالتسبيح فكأنه قيل : سبح باسم ربك العظيم، لأنه سبح له ما في السموات والأرض.
الإيضاح :﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ﴾أي هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين، فدبرهن وما فيهن في ستة أطوار مختلفات، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه.
﴿ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ﴾ أي يعلم ما يدخل في الأرض من خلقه، فلا تخفى عليه خافية منه، وما يخرج منها من نبات وزرع وثمار ومعادن كما قال :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ﴾الأنعام : ٥٩ ).
﴿ وما ينزل من السماء ﴾ من شيء كالمطر والملائكة.
﴿ وما يعرج فيها ﴾ أي وما يصعد إليها من الأرض كالأبخرة المتصاعدة، والأعمال الصالحة كما قال :﴿ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ﴾ ( فاطر : ١٠ ).
﴿ وهو معكم أينما كنتم ﴾ أي وهو مطلع على أعمالكم أينما كنتم، ويعلم متقلبكم ومثواكم.
﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ أي وهو رقيب عليكم، سميع لكلامكم، يعلم سركم ونجواكم كما قال :﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ﴾( الرعد : ١٠ )وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان :( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
وقال عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : زودني حكمة أعيش بها، فقال :( استح الله كما تستحي رجلا من صالحي عشيرتك لا يفارقك ).
وكان الإمام أحمد كثيرا ما ينشد هذين البيتين :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
الإيضاح :﴿ له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور ﴾ أي هو الملك لما فيهما، والمدبر لأمورهما، والنافذ حكمه فيهما، وإليه مصير جميع خلقه، فيقضي بينهم بحكمه كما قال :﴿ وإن لنا للآخرة والأولى ﴾( الليل : ١٣ ) وقال :﴿ وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون ﴾( القصص : ٧٠ ).
تفسير المفردات : يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل : تقدم تفسير هذا فيما تقدم، ذات الصدور : أي مكنونات النفوس وخفيات السرائر.
الإيضاح :﴿ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ﴾ أي يقلب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطول الليل ويقصر النهار والعكس بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وحينا يجعل الفصل شتاء أو ربيعا أو قيظا أو خريفا، وكل ذلك بتدبيره وفائدة خلقه.
﴿ وهو عليم بذات الصدور ﴾أي وهو عليم بالسرائر وإن دقت وخفيت، فهو يعلم نوايا خلقه كما يعلم ظواهر أعمالهم من خير أو شر.
وفي ذلك حث لنا على النظر والتأمل ثم الشكر على ما أولى وأنعم.
﴿ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير( ٧ )وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ( ٨ )هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم( ٩ )وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير( ١٠ )من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ﴾( الحديد : ٧ – ١١ ).
تفسير المفردات : مستخلفين فيه : أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه في التصرف من غير أن تملكوه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أنواعا من الأدلة تثبت وحدانيته وعلمه وقدرته، فبين أن كل ما في السماوات والأرض فهو في قبضته يصرفه كما يشاء على ما تقتضيه حكمته، ثم ذكر أنواعا من الظواهر في الأنفس ترشد إلى هذا وأومأ إلى النظر والتأمل فيها، أعقب هذا بذكر التكاليف الدينية، فأمر بدوام الإيمان الكامل الذي له آثاره العملية من إخبات النفس لله وإخلاص العمل له، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن ثم طلب إنفاق المال في سبيله، وأبان أن المال عارية مستردة فهو ملك له وأنتم خلفاؤه في تثميره في الوجوه التي فيها خير لكم ولأمتكم ولدينكم، ولكم على ذلك الأجر الجزيل الذي يضاعفه إلى سبعمائة ضعف، ثم حث على ذلك بأن جعل هذا صفوة دعوة الرسول وقد أخذ عليكم العهد به، وآيات كتابه هادية لكم تخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، والله رؤوف بكم إذ أنقذكم من هاوية الشرك وهداكم إلى طاعته، ثم ذكر فضل السابقين الأولين الذين أسلموا قبل فتح مكة، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إعلاء كلمة الله حين عز النصير وقل المعين، فهؤلاء لا يستوون مع من فعل ذلك بعد الفتح وبعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا، وهؤلاء وأولئك لهم المثوبة الحسنى والأجر الكريم عند ربهم ؛ ثم حث على الإنفاق مرة أخرى وسماه قرضا له، وأنه سيرد هذا القرض ويجازي به أجمل الأجر يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
الإيضاح :﴿ آمنوا بالله ورسوله ﴾أي أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسوله فيما جاءكم به عن ربكم – تنالوا الفوز برضوانه، وتدخلوا فراديس جناته، وتسعدوا بما لم يدر لكم بخلد، ولم يخطر لكم ببال.
﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ أي وأنفقوا مما هو معكم من المال على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، واستعملوه في طاعته وإلا حاسبكم على ذلك حسابا عسيرا، ولله در لبيد إذ يقول :
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع
وفي هذا ترغيب أيما ترغيب في الإنفاق، لأن من علم أن المال لم يبق لمن قبله وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له بل ينتقل إلى غيره، وبذا يسهل عليه إنفاقه.
قال شعبة : سمعت عن قتادة يحدث عن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال :( انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول :( ألهاكم التكاثر }( التكاثر : ١ ) يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس ) رواه مسلم.
ثم حث على ما تقدم من الإيمان والإنفاق في سبيل الله فقال :
﴿ فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ﴾ أي فالذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله منكم، وأنفقوا مما خولهم الله عمن قبلهم – في سبيل الله، لهم لثواب العظيم عند ربهم، وهناك يرون من الكرامة والمثوبة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
تفسير المفردات : أخذ الميثاق : نصب الأدلة في الأنفس والآفاق والتمكين من النظر فيها.
الإيضاح : ثم وبخهم على ترك الإيمان الذي أمروا به، وأبان أنه ليس لهم في ذلك من عذر فقال :
﴿ وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ﴾ أي وأي شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به ؟
روى البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه :( أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا ؟ ) قالوا : الملائكة، قال :( وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم )، قالوا : فالأنبياء، قال :( وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم )، قالوا : فنحن قال :( وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها ).
﴿ وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ﴾ أي وقد أخذ الله عليكم الميثاق بما نصب لكم من الأدلة على وحدانيته في الكون، أرضه وسمائه، بره وبحره، وفي الأنفس بما تشاهدون فيها من بديع صنعها، وعظيم خلقها، إن كنتم تؤمنون بالدليل العقلي والنقلي.
وصفوة القول : إن الأدلة تظاهرت على وجوب الإيمان بالله ورسوله، فقد نصب في الكون ما يرشد إلى وجوده، وأرسل الرسل يدعون إلى ذلك، وأقاموا البراهين على صدق ما يقولون، فما عذركم، وإلام تستندون في رد هذا ؟.
الآن قد تبين الرشد من الغي، وأفصح الصبح لذي عينين، وماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ فهل من مدكر ؟
تفسير المفردات : والآيات البينات : هي القرآن.
الإيضاح : ثم قطع عليهم الحجة وأزال معذرتهم فقال :
﴿ هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم ﴾أي هو الذي ينزل على رسوله دلائل واضحات، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن الضلالة إلى الهدى، ولرأفته بكم مكن لكم من النظر في الأنفس والآفاق، لتهتدوا إلى معرفته على أتم وجه، وأهون سبيل.
تفسير المفردات : والفتح : هو فتح مكة، والحسنى : أي المثوبة الحسنى، وهي النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
الإيضاح : وبعد أن وبخهم على ترك الإيمان، وبخهم على ترك الإنفاق، وأبان أنه لا معذرة لهم في ذلك فقال :
﴿ وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ﴾ أي وما لكم أيها الناس لا تنفقون مما رزقكم الله في سبيله ؟ وأموالكم صائرة إليه إن لم تنفقوها في حياتكم، لأن له ما في السماوات والأرض ميراثا.
والخلاصة : أنفقوا أموالكم في سبيل الله قبل أن تموتوا، ليكون ذلك ذخرا لكم عند ربكم، فبعد الموت لا تقدرون على ذلك، إذ تصير الأموال ميراثا لمن له السماوات والأرض.
ثم بين تفاوت درجات المنفقين بحسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق فقال :
﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ﴾أي لا يستوي من آمن وهاجر وأنفق ماله في سبيل الله قبل فتح مكة، ومن أنفق من بعد الفتح – ذاك أنه قبل فتحها كان الناس في جهد وضيق ولم يؤمن إذ ذاك إلا الصديقون، أما بعد الفتح فقد انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا، ومن ثم قال :
﴿ أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ﴾.
قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان : إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك.
﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ أي وكل من المنفقين قبل الفتح وبعده لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في مقدار الجزاء كما قال في آية أخرى :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ﴾( النساء : ٩٥ ).
أخرج أحمد عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال :( دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم ).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ).
ثم وعد وأوعد فقال :
﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ أي والله عليم بظواهر أحوالكم وبواطنها، فيجازيكم بذلك، ولخبرته تعالى بكم فضل أعمال من أنفق من قبل الفتح وقاتل على من أنفق بعده وقاتل، وما ذاك إلا لعلمه بإخلاص الأول في إنفاقه في حال الجهد والضيق.
ولأبي بكر الصديق الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيد من عمل بها، إذ أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله، ولم يكن لأحد عنده من نعمة يجزيه بها.
تفسير المفردات : يقرض الله : أي ينفق ماله في سبيله رجاء ثوابه.
الإيضاح : ثم ندب إلى الإنفاق في سبيله، ووبخ على تركه فقال :
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ﴾ أي من هذا الذي ينفق أمواله في سبيل الله محتسبا أجره عند ربه، فيضاعف له ذلك القرض، فيجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة، وله بعد ذلك جزاء كريم بمثوبته بالجنة ؟.
وعن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ﴾ ( البقرة : ٢٤٥ )قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال :( نعم يا أبا الدحداح )، قال : أرني يدك يا رسول الله، قال : فناوله يده، قال : إني أقرضت ربي حائطي( بستاني )وكان له حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح، قالت : لبيك، قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها فقال رسول الله :( كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح )وهذا الأسلوب يستعمل في الأمر العزيز النادر فيقال : من ذا الذي يفعل كذا، إذا كان أمرا عظيما، وعلى هذا جاء قوله :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ ( البقرة : ٢٥٥ ).
﴿ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم( ١٢ )يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب( ١٣ )ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور( ١٤ )فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ﴾( الحديد : ١٢ – ١٥ ).
تفسير المفردات : المراد بالنور هنا : ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة من علم وعمل، بشراكم : أي ما تبشرون به.
المعنى الجملي : بعد أن أمر بالإيمان والإنفاق في سبيل الله، وحث على كل منهما بوجود موجباته فحث على الإيمان بوجود الأسباب التي تساعد عليه وهي وجود الرسول بين أظهرهم، وكتابه الذي يتلى بين أيديهم، وحث على الإنفاق فأبان أن المال مال الله وهو عارية بين أيديهم ثم يرد إليه، وأنهم ينالون على إنفاقه الأجر العظيم في جنات النعيم، ثم ذكر أن المنفقين أول الإسلام لهم من الأجر أكثر ممن أنفقوا من بعد حين كثر النصير والمعين – ذكر هنا حال المؤمنين والمنفقين يوم القيامة، فبين أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدهم إلى الجنة، وأنهم يبشرون بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ثم أردفه ذكر حال المنافقين إذ ذاك، وأنهم يطلبون من المؤمنين شيئا من الضوء يستنيرون به ليهديهم سواء السبيل، فيتهكم بهم المؤمنون ويخيبون آمالهم ويقولون لهم : ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل العلوم والمعارف، فلا نورا إلا منها ثم أرشد إلى أنه يضرب بين الفريقين حاجز باطنه مما يلي المؤمنين فيه الرحمة، ومما يلي المنافقين فيه العذاب، لأنه في النار، ثم ذكر السبب فيما صاروا إليه، وهو أنهم أهلكوا أنفسهم بالنفاق والمعاصي، وانتظروا أن تدور على المؤمنين الدوائر، فينطفئ نور الإيمان، وشكوا في أمر البعث وغرهم الشيطان فأوقعهم في مهاوي الردى، ثم أعقبه ببيان أنه لا أمل في النجاة لهم إذ ذاك، فلا تجدي الفدية كما كانت تنفع في الدنيا، فلا مأوى لهم إلا النار وبئس القرار.
الإيضاح :﴿ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ أي لهم الأجر الكريم حين ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى بين أيديهم ما يكون السبب في نجاتهم وهدايتهم إلى سبيل الجنة من العلوم التي كملوا بها أنفسهم في الدنيا كالاعتقاد بالتوحيد وخلع الأنداد والأوثان، والأعمال الصالحة التي زكوا بها أنفسهم، وبها أخبتوا لربهم وأنابوا إليه مخلصين له الدين، وبأيمانهم تكون كتبهم كما جاء في آية أخرى :﴿ فأما من أوتي كتابه بيمينه( ٧ )فسوف يحاسب حسابا يسيرا( ٨ )وينقلب إلى أهله مسرورا ﴾( الانشقاق : ٧ – ٩ ).
﴿ بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾ أي وتقول لهم الملائكة : أبشروا بجنات تجري من تحتها الأنهار جزاء وفاقا لما قدمتم من صالح الأعمال، وجاهدتم به أنفسكم في ترك الشرك والآثام، وكنتم تذكرون الله بالليل والناس نيام، فطوبى لكم وهنيئا بما عملتم.
ونحو الآية قوله :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب*سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ﴾( الرعد : ٢٣ – ٢٤ ).
﴿ ذلك هو الفوز العظيم ﴾ أي ذلك الخلود في الجنات التي سمعتم أوصافها هو النجح العظيم الذي كنتم تطلبونه بعد النجاة من عقاب الله.
تفسير المفردات : انظرونا : أي انتظرونا، وأصل الاقتباس طلب القبس : أي الجذوة من النار، والسور : الحاجز، من قبله : أي من جهته.
الإيضاح : وبعد أن ذكر حال المؤمنين في موقف القيامة أتبعه ببيان حال المنافقين فقال :
﴿ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ﴾أي في هذا اليوم يقول المنافقون والمنافقون : أيها الذين نجوتم بإيمانكم بربكم وفزتم برضوانه حتى دخلتم فسيح جناته، انتظروا نلحق بكم ونقتبس من نوركم حتى تخرج من ذلك الظلام الدامس، والعذاب الأليم الذي نحن مقبلون عليه، فيجابون بما يخيب آمالهم ويلحق بهم الحسرة والندامة كما قال :
﴿ قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ﴾ أي ارجعوا من حيث أتيتم، واطلبوا لأنفسكم هناك نورا، فإنه لا سبيل إلى الاقتباس من نورنا الذي كان بما قدمنا لأنفسنا وادخرنا لها من عمل صالح، فأيهات أيهات أن تنالوا نورا، إذ لا ينفع المرء حينئذ إلا عمله، ولله در القائل :
صاح هل ريت أو سمعت براع رد في الضرع ما قرى في الحلاب
ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم، والاستهزاء بطلبهم، كما استهزؤوا بالمؤمنين في الدنيا حين قالوا آمنا، وما هم بمؤمنين، وذلك ما عناه سبحانه بقوله :﴿ الله يستهزئ بهم ﴾ ( البقرة : ١٥ )أي حين يقال لهم :﴿ ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ﴾.
ثم ذكر ما يكون بعد هذه المقالة فقال :
﴿ فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ﴾ أي فضرب بين الفريقين حاجز جانبه الذي يلي مكان المؤمنين وهو الجنة فيه الرحمة، وجانبه الذي يلي المنافقين وهو النار فيه العذاب.
تفسير المفردات : بلى : أي كنتم معنا، فتنتم أنفسكم : أي أهلكتموها بالمعاصي والشهوات، وتربصتم : أي انتظرتم بالمؤمنين مصايب الزمان، وارتبتم : أي شككتم في أمر البعث، والأماني : الأباطيل من طول الآمال والطمع في انتكاس الإسلام واحدها أمنية، والغرور ( بالفتح )الشيطان.
الإيضاح : ثم أرشد إلى ما يكون من المنافقين حينئذ فقال :
﴿ ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور ﴾ أي ينادي المنافقون المؤمنين : أما كنا معكم في الدار الدنيا نصلي معكم الجماعات، ونقف معكم بعرفات، ونحضر معكم الغزوات، ونؤدي معكم سائر الواجبات ؟ فيجيبهم المؤمنون قائلين لهم : بلى كنتم معنا، ولكنكم أهلكتم أنفسكم باللذات والمعاصي، وأخرتم التوبة، وشككتم في أمر البعث بعد الموت، وغرتكم الأماني، فقلتم سيغفر لنا، وما زلتم كذلك حتى حضركم الموت، وغركم الشيطان فقال لكم : إن الله عفو كريم لا يعذبكم.
والخلاصة : إنكم كنتم معنا بأبدانكم لا بقلوبكم، وكنتم في حيرة من أمركم، فلا تذكرون الله إلا قليلا.
تفسير المفردات : والفدية والفداء : ما يبذل لحفظ النفس أو المال من الهلاك، مأواكم : أي منزلكم الذي تأوون إليه، مولاكم : أي أولى بكم، والمصير : المآل والعاقبة.
الإيضاح : ثم أيأسوهم من عاقبة أمرهم، وأنهم هالكون لا محالة ولا سبيل إلى الخلاص من النار فقال :
﴿ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ﴾ أي فاليوم لو جاء أحدكم بملء الأرض ذهبا ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ما قبل منه، فمصيركم إلى النار، وإليها متقلبكم ومثواكم، وهي أولى بكم من كل منزل آخر، لكفركم وارتيابكم، وساءت مصيرا ومآلا.
والخلاصة : إنه لا مناص من النار، فلا فداء ولا فكاك منها.
﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون( ١٦ )اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ﴾( الحديد : ١٦ – ١٧ ).
تفسير المفردات : ألم يأن : ألم يجيء وقت ذلك من قولهم أنى الأمر أنيا وأناء وإناء إذا جاء أناه أي وقته، والخشوع : الخشية والخوف، وذكر الله : مواعظه، والحق : هو القرآن، والذين أوتوا الكتاب : هم اليهود والنصارى، والأمد : الزمان، وطال عليهم الأمد : أي طال العهد بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم : أي صلبت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة، فاسقون : أي خارجون عن حدود دينهم، رافضون لما جاء فيه من أوامر ونواه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فرق ما بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، وأن الأولين لهم نور يهديهم إلى طريق الجنة، وأن الآخرين يطلبون منهم أن يأتوهم قبسا من نورهم يهديهم إلى سبيل النجاة، فيردونهم خائبين، ويقولون لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا – أردف هذا عتاب قوم من المؤمنين فترت هممهم عن القيام بما ندبوا له من الخشوع، ورقة القلوب بسماع المواعظ وسماع القرآن، ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب الذين طال العهد بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وأعرضوا عن أوامر الدين ونواهيه، ثم أبان لهم بضرب المثل أن القلوب القاسية تحيا بالذكر وتلاوة القرآن كما تحيا الأرض الميتة بالغيث والمطر.
روي عن ابن مسعود أنه قال : لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم المدينة، فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد أن كانوا في جهد جهيد، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت الآية.
وعن ابن عباس أنه قال :( إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال :﴿ ألم يأن للذين آمنوا ﴾ الآية.
الإيضاح :﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ﴾ أي أما آن للمؤمنين أن ترق قلوبهم عند سماع القرآن والمواعظ، فتفهمه وتنقاد له، وتطيع أوامره، وتنتهي عن نواهيه ؟.
وإذا كان المؤمنون قد أصابهم الوهن ولم يمض على الإسلام أكثر من ثلاث عشرة سنة كما قال ابن عباس، فما بالهم اليوم وقد مضى عليهم أكثر من ثلاثة عشر قرنا، فتعبير الآية عن حالهم الآن بالأولى، فالوهن الآن أضعاف مضاعفة عما كان في تلك الحقبة، ومن ثم أفرط الفرنجة في إذلالهم واستعبادهم، وصاروا غرباء في ديارهم، والأمر والنهي فيها لسواهم :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود
ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب قبلهم فقال :
﴿ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ﴾ أي لا يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى حين طال الأمد بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم ولم تقبل موعظة ولم يؤثر فيها وعد ولا وعيد، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا في دين دون دليل ولا برهان، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وكثير منهم خرج عن أوامر الدين في الأعمال والأقوال كما قال :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾( المادة : ١٣ ) أي فسدت قلوبهم فقست وصار سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، فتركوا الأعمال التي أمروا بها، واجترحوا ما نهوا عنه.
والخلاصة : إن الله نهى المؤمنين أن يكونوا حين سماع القرآن غير متدبرين مواعظه كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم، لما طال العهد بينهم وبين أنبيائهم.
تفسير المفردات : الأرض الميتة : هي التي لا تنبت شيئا، والآيات : هي البينات والحجج، تعقلون : أي تتدبرون.
الإيضاح : ثم ضرب المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن في القلوب فقال :
﴿ اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ﴾ أي إن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي النفوس الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، ببراهين القرآن ودلائله، وبالمواعظ والنصائح التي تلين الصخر الأصم، ويحييها بعد موتها كما يحيي الأرض الهامدة المجدبة بالغيث الوابل الهتان، وقد ضرب لكم الأمثال كي تتدبروا وتكمل عقولكم ؛ فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، وهو الفعال لما يشاء الحكم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير المتعال.
﴿ إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم( ١٨ )والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾( الحديد : ١٨ – ١٩ ).
تفسير المفردات : المصدقين : أي المتصدقين بأموالهم على البائسين وذوي الحاجة، والقرض الحسن : هو الدفع بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه، يضاعف لهم : أي يضاعف الله لهم ثواب أعمالهم.
المعنى الجملي : بعد أن وازن بين المؤمنين والمنافقين فيما مضى، وأبان ما يكون بينهما من فارق يوم القيامة – ذكر هنا التفاوت بين حال المؤمنين وحال الكافرين.
الإيضاح :﴿ إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم ﴾ أي إن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم ابتغاء مرضاة الله لا يريدون جزاء ولا شكورا يضاعف لهم ربهم ثواب إنفاقهم، فيقابل الحسنة الواحدة بعشر أمثالها، ويضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف، ولهم ثواب جزيل، ومرجع صالح.
تفسير المفردات : والصديق : من كثر منه الصدق وصار سجية له، والشهداء : من قتلوا في سبيل الله، واحدهم شهيد.
الإيضاح :﴿ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ﴾ أي والذين أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسله، وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربهم، أولئك هم في حكم الله بمنزلة الصديقين.
﴿ والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ﴾ أي والذين استشهدوا في سبيل الله لهم أجر جزيل، ونور عظيم يسعى بين أيديهم، وهم يتفاوتون في ذلك بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال.
والخلاصة : إن العاملين أقسام : فمنهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون كما قال تعالى :﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين ﴾ ( النساء : ٦٩ ).
ولما ذكر السعداء ومآلهم أردف ذلك ذكر حال الأشقياء فقال :
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ أي والذين كفروا بالله وكذبوا بحججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وصدق رسله أولئك هم أصحاب النار خالدين فيها أبدا لا يفارقونها.
﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور( ٢٠ )سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾( الحديد : ٢٠ – ٢١ ).
تفسير المفردات : اللعب : ما لا ثمرة له كلعب الصبيان، واللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، وزينة : أي كالملابس الفاخرة، وتفاخر : أي الأنساب والعظام البالية، وتكاثر في الأموال والأولاد : أي مباهاة بكثرة العدد والعدد، والغيث : المطر، والكفار : الزراع، يهيج : أي يبتدئ في اليبس والجفاف بعد أن كان أخضر ناضرا، حطاما : أي هشيما متكسرا من يبسه، والغرور : الخديعة.
المعنى الجملي : بعد أن بشر المؤمنين بأن نورهم يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وحثهم على بذل الجهد وترك الغفلة، وذكر ثواب المتصدقين والمتصدقات – أردف ذلك وصف حال الدنيا وسرعة زوالها وتقضيها، وضرب لذلك مثل الأرض ينزل عليها المطر فتنبت الزرع البهيج الناضر الذي يعجب الزراع لنمائه وجودة غلته، وبينا هو على تلك الحال، إذا به يصفر بعد النضرة والخضرة ويجف ثم يتكسر ويتفتت، وما الحياة الدنيا إلا مزرعة للآخرة، فمن أجاد زرعه حصد وربح، ومن توان وكسل ندم ولات ساعة مندم.
قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
ثم حث على عمل ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه، ويمهد إلى الدخول في جنات عرضها السماوات والأرض، أعدها لمن آمن به وبرسله فضلا منه ورحمة وهو المنعم عظيم الفضل.
الإيضاح :﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ﴾أي اعلموا أيها الناس أن متاع الدنيا ما هو إلا لعب ولهو تتفكهون به، وزينة تتزينون بها، وبها يفخر بعضكم على بعض، وتتباهون فيها بكثرة الأموال والأولاد.
ثم ضرب مثلا يبين أنها زهرة فانية، ونعمة زائلة فقال :
﴿ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما ﴾أي ما مثل هذه الحياة في سرعة فنائها وانقضائها على عجل إلا مثل أرض أصابها مطر وابل، فأنبتت من النبات ما أعجب الزراع وجعلهم في غبطة وحبور، وبهجة وسرور، وبينا هو على تلك الحال إذا هو يصوح ويأخذ في الجفاف واليبس، ثم يكون هشيما تذروه الرياح.
ونحو الآية قوله :﴿ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ﴾( يونس : ٢٤ ).
ثم ذكر عاقبة المنهمكين فيها، الطالبين لتحصيل لذاتها، المتهالكين في جمع حطامها والمعرضين عنها الطالبين لرضوان ربهم فقال :
﴿ وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ﴾ أي وفي الآخرة إما عذاب شديد دائم لمن انهمك في لذاتها، وأعرض عن صالح الأعمال، ودسى نفسه بالشرك والآثام، وإما مغفرة من الله ورضوان من لدنه لمن زكى نفسه وأخبت لربه وأناب إليه :
قدم لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقا عن غرة زلجا
﴿ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾أي وما هذه الحياة الدنيا إلا متاع فان زائل خادع، من ركن إليه، واغتر به وأعجبه، حتى اعتقد أن لا دار سواها، ولا معاد وراءها.
المعنى الجملي : بعد أن بشر المؤمنين بأن نورهم يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وحثهم على بذل الجهد وترك الغفلة، وذكر ثواب المتصدقين والمتصدقات – أردف ذلك وصف حال الدنيا وسرعة زوالها وتقضيها، وضرب لذلك مثل الأرض ينزل عليها المطر فتنبت الزرع البهيج الناضر الذي يعجب الزراع لنمائه وجودة غلته، وبينا هو على تلك الحال، إذا به يصفر بعد النضرة والخضرة ويجف ثم يتكسر ويتفتت، وما الحياة الدنيا إلا مزرعة للآخرة، فمن أجاد زرعه حصد وربح، ومن توان وكسل ندم ولات ساعة مندم.
قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
ثم حث على عمل ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه، ويمهد إلى الدخول في جنات عرضها السماوات والأرض، أعدها لمن آمن به وبرسله فضلا منه ورحمة وهو المنعم عظيم الفضل.
الإيضاح : ولما أبان أن الآخرة قريبة، وفيها العذاب الأليم، والنعيم المقيم – حث على المبادرة إلى فعل الخيرات فقال :
﴿ سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ﴾أي سابقوا أقرانكم في مضمار الأعمال الصالحة، وأدوا ما كلفتم به من أوامر الشريعة، واتركوا نواهيها يدخلكم ربكم بما قدمتم لأنفسكم، جنة سعتها كسعة السماوات والأرض.
ثم بين المستحقين لها فقال :
﴿ أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ﴾ أي هيئت للذين اعترفوا بوحدانية الله وصدقوا رسله.
﴿ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ﴾ أي هذا الذي أعده الله لهم هو من فضله ورحمته ومنته عليهم.
وفي الصحيح : أن فقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور – الأموال – بالأجور، والدرجات العلى، والنعيم المقيم، قال :( وما ذاك ؟ )قالوا : يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال :( أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين )، قال : فرجعوا فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ).
﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ أي والله واسع العطاء، عظيم الفضل، فيعطي من يشاء ما شاء كرما منه وفضلا، ويبسط له الرزق من الدنيا، ويهب لهم النعم، ويعرفهم مواضع الشكر، ثم يجزيهم في الآخرة ما أعده لهم مما وصفه قبل.
﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير( ٢٢ )لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ( ٢٣ ) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ﴾( الحديد : ٢٢ – ٢٤ ).
تفسير المفردات : في الأرض : أي كالجدب والفاقة، واحتلال الأجانب الظالمين، واستيلاء الحكام الفاسقين، في أنفسكم : أي كالمرض والفاقة : في كتاب : هو اللوح المحفوظ، نبرأها : أي نخلقها.
المعنى الجملي : بعد أن أبان أن متاع هذه الدنيا زائل فان، وأن ما فيها من خير أو شر لا يدوم – أردف ذلك تهوين المصايب على المؤمنين، فذلك يكون مصدر سعادة نفوسهم واطمئنانها، وبدونه يكون شقاؤها وكآبتها، وآية ذلك أن لا يحزنوا على فائت، ولا يفرحوا بما يصل إليهم من لذاتها الفانية.
ثم بين أن المختالين الذين يبخلون بأموالهم على ذوي الحاجة والبائسين، ويأمرون الناس بذلك، ويعرضون عن الإنفاق لا يجنن إلا على أنفسهم، والله غني عنهم، وهو المحمود على نعمه التي لا تدخل تحت حد.
الإيضاح :﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ﴾ أي ما أصابكم أيها الناس من مصايب في آفاق الأرض كقحط وجدب وفساد زرع، أو في أنفسكم من أوصاب وأسقام إلا في أم الكتاب من قبل أن نبرأ هذه الخليقة.
﴿ إن ذلك على الله يسير ﴾ أي إن علمه بالأشياء قبل وجودها، وكتابته لها طبق ما توجد في حينها – يسير عليه، لأنه يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون.
أخرج الحاكم وصححه عن أبي حسان : أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله عنها فقالا إن أبا هريرة يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار، فقالت : والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ما هكذا كان يقول : كان يقول : كانت أهل الجاهلية يقولون : إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار ثم قرأ :﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ﴾.
تفسير المفردات : تأسوا : أي تحزنوا، لا ما فاتكم : أي من نعيم الدنيا، ما آتاكم : أي ما أعطاكم، والمختال : المتكبر بسبب فضيلة تراءت له من نفسه، والفخور : هو المباهي بالأشياء العارضة كالمال والجاه.
المعنى الجملي : بعد أن أبان أن متاع هذه الدنيا زائل فان، وأن ما فيها من خير أو شر لا يدوم – أردف ذلك تهوين المصايب على المؤمنين، فذلك يكون مصدر سعادة نفوسهم واطمئنانها، وبدونه يكون شقاؤها وكآبتها، وآية ذلك أن لا يحزنوا على فائت، ولا يفرحوا بما يصل إليهم من لذاتها الفانية.
ثم بين أن المختالين الذين يبخلون بأموالهم على ذوي الحاجة والبائسين، ويأمرون الناس بذلك، ويعرضون عن الإنفاق لا يجنن إلا على أنفسهم، والله غني عنهم، وهو المحمود على نعمه التي لا تدخل تحت حد.
الإيضاح :﴿ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل وجودها، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تحزنوا على فائت، ولا تفرحوا بآت.
والخلاصة : إن كل شيء قدر في الكتاب، فكيف نفرح أو نحزن ؟
قال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يحزن أو يفرح، ولكن اجعلوا الفرح شكرا، والحزن صبرا.
وقال حكيم : الصبر مخرج من الشقاء، فلا سعادة إلا بالصبر، ووصول النفس إلى كمالها الخلقي، بحيث يمر المال والولد والقوة والعلم عليها، فيصيبها مرة ويخطئها أخرى وهي مطمئنة، لا يدخلها زهو ولا إعجاب بما نالت، ولا حزن على ما فاتها اه.
وعلى الجملة فالحزن المذموم هو ما يخرج بصاحبه إلى ما يذهب عنه الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء الثواب، والفرح المنهي عنه هو الذي يطغى على صاحبه ويلهيه عن الشكر.
﴿ والله لا يحب كل مختال فخور ﴾ أي إن المختال الفخور يبغضه الله ولا يرضى عنه.
المعنى الجملي : بعد أن أبان أن متاع هذه الدنيا زائل فان، وأن ما فيها من خير أو شر لا يدوم – أردف ذلك تهوين المصايب على المؤمنين، فذلك يكون مصدر سعادة نفوسهم واطمئنانها، وبدونه يكون شقاؤها وكآبتها، وآية ذلك أن لا يحزنوا على فائت، ولا يفرحوا بما يصل إليهم من لذاتها الفانية.
ثم بين أن المختالين الذين يبخلون بأموالهم على ذوي الحاجة والبائسين، ويأمرون الناس بذلك، ويعرضون عن الإنفاق لا يجنن إلا على أنفسهم، والله غني عنهم، وهو المحمود على نعمه التي لا تدخل تحت حد.
الإيضاح : ثم بين أوصاف المختالين الفخورين فقال :
﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ﴾ أي إن المختالين بما أوتوا من المال يضنون به لأنهم يرون عزتهم في وجوده، ويعدهم الشيطان بالفقر إذا هم أنفقوه، وقد يبلغ الأمر بهم أن يأمروا سواهم بالبخل ويبدوا لهم النصائح التي تجعلهم يضنون به مدعين أن ذلك إشفاق عليهم ونصح لهم.
﴿ ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ﴾ أي ومن يعرض عن الإنفاق فلا يضرن بذلك إلا نفسه، فالله غني عن ماله وعن نفقته، محمود إلى خلقه بما أنعم به عليهم من نعمه، ولا يضير الإعراض عن شكره كما قال موسى عليه السلام لقومه :﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾( إبراهيم : ٨ ).
الإيضاح :﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ﴾( الحديد : ٢٥ ).
تفسير المفردات : البينات : المعجزات والحجج، والكتاب : أي كتب التشريع، والميزان : العدل، والقسط : الحق، وأنزلنا الحديد : أي خلقناه، والبأس : القوة، وليعلم الله : أي ليعلمه علم مشاهدة ووجود في الخارج.
الإيضاح :﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ﴾أي ولقد أرسلنا الأنبياء إلى أممهم ومعهم البراهين الدالة على صدقهم، المؤيدة لبعثهم من عند ربهم، ومعهم كتب الشرائع التي فيها هداية البشر وصلاحهم في دينهم ودنياهم، وأمرناهم بالعدل ليعملوا به فيما بينهم، ولا يظلم بعضهم بعضا.
ولما كان الناس فريقين فريقا يقوده العلم والحكمة، وفريقا يقوده السيف والعصا، وكان ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن، وكان العدل والقانون لا بد له من حام يحميه وهو الدولة والملك وأعوانه والجند، وهؤلاء لا بد لهم من عدة يحمون بها القانون والعدل في داخل البلاد وفي خارجها أعقب هذا بقوله :
﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ﴾ أي وخلقنا الحديد لتكون منه السيوف والرماح والدروع والسفن البحرية وما أشبه ذلك، وفيها القوة التي ترغم أنف الظالم، وتحمي المظلوم، وفيه منافع للناس في حاجاتهم في معايشهم كأدوات الصناعات، وحاجات البيوت، وقطر السكك الحديدية ونحوها.
﴿ وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ﴾ أي وإنما فعل ذلك ليراكم ناصري دينه باستعمال السلاح والكراع لمجاهدة أعدائه، وناصري رسله وهم غائبون عنكم لا يبصرونكم.
روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ).
﴿ إن الله قوي عزيز ﴾ أي إن الله يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته، وهو غالب على أمره، لا يقدر أحد على دفع العقوبة متى أحلها بأحد من خلقه.
﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون( ٢٦ )ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ﴾( الحديد : ٢٦_٢٧ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأنه أنزل الميزان والحديد، وأمر الخلق بأن يقوموا بنصرة رسله أتبع ذلك ببيان ما أنعم به على أنبيائه من النعم الجسام، فذكر أنه شرف نوحا وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة، ثم جعل في ذريتهما النبوة والكتاب، فما جاء أحد بعدهما بالنبوة إلا كان من سلائلهما.
الإيضاح :﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ أي ولقد بعثنا نوحا إلى طائفة من خلقنا، ثم بعثنا إبراهيم من بعده لقوم آخرين، ولم نرسل بعدهما رسلا بشرائع إلا من ذريتهما.
ثم بين أن هذه الذرية افترقت فرقتين فقال :
﴿ فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ﴾ أي فمن ذريتهما مهتد إلى الحق مستبصر، وكثير منهم ضلال خارجون عن طاعة الله ذاهبون إلى طاعة الشيطان، مدنسون أنفسهم باجتراح الآثام.
وفي الآية إيماء إلى أنهم خرجوا عن الطريق المستقيم بعد أن تمكنوا من الوصول إليه، وبعد أن عرفوه حق المعرفة، وهذا أبلغ في الذم وأشد في الاستهجان لعملهم.
تفسير المفردات : قفاه : اتبعه بعد أن مضى، والإنجيل : الكتاب الذي أنزل على عيسى وفيه شريعته، والمراد من الرأفة : دفع الشر، ومن الرحمة : جلب الخير، وبذا يكون بينهم مودة، والرهبانية : ترهبهم في الجبال فارين بدينهم من الفتنة، مخلصين أنفسهم للعبادة، محتملين المشاق من الخلوة واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف، وقوله : ابتدعوها : استحدثوها ولم تكن في دينهم، ابتغاء رضوان الله : أي طلبا لرضاه ومحبته، فما رعوها : أي ما حافظوا عليها.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأنه أنزل الميزان والحديد، وأمر الخلق بأن يقوموا بنصرة رسله أتبع ذلك ببيان ما أنعم به على أنبيائه من النعم الجسام، فذكر أنه شرف نوحا وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة، ثم جعل في ذريتهما النبوة والكتاب، فما جاء أحد بعدهما بالنبوة إلا كان من سلائلهما.
الإيضاح :﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا ﴾ أي ثم بعثنا بعدهم رسولا بعد رسول على توالي العصور والأيام.
ثم خص من أولئك الرسل عيسى لشهرة شريعته في عصر التنزيل ولوجود أتباعه في جزيرة العرب وغيرها فقال :
﴿ وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل ﴾ أي ثم أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام، وأعطيناه الإنجيل الذي أوحيناه إليه، وفيه شريعته ووصاياه، وقد جاء ما فيه مكملا لما في التوراة ومخففا بعض أحكامها التي شرعت تغليظا على بني إسرائيل، لنقضهم العهد والميثاق كما جاء في قوله :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾( النساء : ١٦٠ ).
ثم بين صفات أتباع عيسى فقال :
﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ﴾ أي إن أتباعه الذين ساروا على نهجه وشريعته اتصفوا بما يأتي :
١ )الرأفة بين بعضهم وبعض، فيدفعون الشر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ويصلحون ما فسد من أمورهم.
٢ )الرحمة فيجلب بعضهم الخير لبعض كما قال في حق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ رحماء بينهم ﴾( الفتح : ٢٩ ).
٣ )الرهبانية المبتدعة، فقد انقطعوا عن الناس في الفلوات والصوامع معتزلين الخلق وحرموا على أنفسهم النساء ولبسوا الملابس الخشنة، تبتلا إلى الله وإخباتا له.
﴿ ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ﴾ أي ما فرضنا عليهم هذه الرهبانية، ولكنهم استحدثوها طلبا لمرضاة الله والزلفى إليه.
ثم ذكر أنهم ما حافظوا عليها كما قال :
﴿ فما رعوها حق رعايتها ﴾أي فما حافظوا على هذه الرهبانية المبتدعة، وما قاموا مما التزموه حق القيام، بل ضيعوها، وكفروا بدين عيسى ابن مريم، فضموا إليه التثليث ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا.
وفي هذا ذم لهم من وجهين :
١ )أنهم ابتدعوا في دين الله ما لم يأمر به.
٢ )أنهم لم يقوموا بما فرضوه على أنفسهم مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى ربهم، وقد كان ذلك كالنذر الذي يجب رعايته، والعهد الذي يجب الوفاء به.
روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا بن مسعود )، قلت : لبيك يا رسول الله، قال :( اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم، فرقة من الثلاث وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فقتلتهم الملوك بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى صلوات الله عليه، فلحقوا بالبراري والجبال فترهبوا فيها فهو قول الله عز وجل :﴿ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ﴾ الآية، فمن آمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون ).
﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ﴾أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا طبعت آثاره في أعمالهم، فزكوا أنفسهم، وأخبتوا لربهم، وأدوا فرائضه أجورهم التي استحقوها كفاء ما عملوا، وكثير منهم فسقوا عن أمر الله، واجترحوا الشرور والآثام، وظهر فسادهم في البر والبحر بما كسبت أيديهم، فكبكبوا في النار، وباءوا بغضب من الله، ولهم عذاب عظيم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم( ٢٨ )لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾ ( الحديد : ٢٨ – ٢٩ ).
تفسير المفردات : قال المؤرج السدوسي : الكفل : النصيب بلغة هذيل، وقال غيره بل بلغة الحبشة، وقال المفضل الضبي : أصل الكفل كساء يديره الراكب حول سنام البعير ليتمكن من القعود عليه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن من آمنوا من أهل الكتاب إيمانا صحيحا لهم أجرهم عند ربهم – ذكر هنا أن من آمنوا منهم بعيسى أولا وبمحمد صلى الله عليه وسلم ثانيا يؤتيهم أجرهم مرتين، لإيمانهم بنبيهم، ثم بمحمد من بعده، ثم ذكر أن النبوة فضل من الله ورحمة منه لا يخص به قوما دون قوم، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، لا كما يقول اليهود : إن الوحي والرسالة فينا لا تعدونا إلى سوانا، فنحن شعب الله المختار، ونحن أبناء الله وأحباؤه.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ﴾ أي أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين التوراة والإنجيل – خافوا الله بأداء طاعته واجتناب معاصيه وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم – يعطكم ضعفين من الأجر، لإيمانكم بعيسى والأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم ثم بإيمانكم بمحمد بعد أن بعث نبيا، ويجعل لكم هدى تستبصرون به من العمى والجهالة، ويغفر لكم ما أسلفتم من الذنوب وما فرطتم في جنب الله، والله واسع المغفرة لمن يشاء، رحيم بعباده يقبل توبتهم – متى أنابوا إليه، وخشعت له قلوبهم.
والخلاصة : إنه تعالى وعد المؤمنين برسوله بعد إيمانهم بالأنبياء قبله بأمور ثلاثة :
١ )أنه يضاعف لهم الأجر والثواب.
٢ )أن يجعل لهم نورا بين أيديهم وعن شمائلهم يوم القيامة يهديهم إلى الصراط السوي ويوصلهم إلى الجنة.
٣ )أن يغفر لهم ما اجترحوا من الذنوب والآثام.
روى الشعبي عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ). رواه البخاري ومسلم.
تفسير المفردات : لئلا يعلم : أي لكي يعلم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن من آمنوا من أهل الكتاب إيمانا صحيحا لهم أجرهم عند ربهم – ذكر هنا أن من آمنوا منهم بعيسى أولا وبمحمد صلى الله عليه وسلم ثانيا يؤتيهم أجرهم مرتين، لإيمانهم بنبيهم، ثم بمحمد من بعده، ثم ذكر أن النبوة فضل من الله ورحمة منه لا يخص به قوما دون قوم، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، لا كما يقول اليهود : إن الوحي والرسالة فينا لا تعدونا إلى سوانا، فنحن شعب الله المختار، ونحن أبناء الله وأحباؤه.
الإيضاح : ثم رد على أهل الكتاب الذين خصوا فضل الرسالة بهم فقال :
﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ﴾ أي فعلنا ذلك ليعلم أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا من فضل الله من الأجرين ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة ذلك : إن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أخرج ابن أبي حاتم قال لما نزلت :﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾( القصص : ٥٤ )فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لنا أجران ولكم أجر، فاشتد ذلك على أصحابه فأنزل الله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور.
﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ أي والله واسع الفضل كثير العطاء، يمنحه من شاء من عباده لا يخص به قوما دون آخرين ولا شعبا دون آخر.
سبحانك قسمت حظوظك بين عبادك بمقتضى عدلك وفضلك، وآتيتهم فوق ما يستحقون بجودك وكرمك. فاللهم آتنا من لدنك الرشد والتوفيق، واهدنا لأقوم طريق.
Icon