هي ثمانية عشرة آية بالاتفاق، وهي مدنية في قول الأكثر
وقال الضحاك، هي مكية، وقال الكلبي : هي مدنية ومكية، وقال ابن عباس : نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، وعن ابن عباس أيضا قال : نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدنية في عوف بن مالك الأشجعي شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله :﴿ يا أيها الذين آمنوا عن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ﴾ إلى آخر السورة، وعن عطاء ابن يسار نحوه.
أخرج البخاري في تاريخه.
" عن عبد الله بن عمرو قال : ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من أول سورة التغابن " ( ١ )، أخرجه ابن حبان في الضعفاء والطبراني وابن مردويه وابن عساكر مرفوعا عنه، قال ابن كثير : وهو غريب جدا بل منكر.
ﰡ
(له الملك وله الحمد) أي يختصان به ليس لغيره منهما شيء، وما كان لعباده منهما فهو من فيضه، وراجع إليه وتقديم الظرف يفيد الاختصاص به تعالى من حيث الحقيقة لأنه مبدىء كل شيء ومبدعه فكان الملك له حقيقة دون غيره، ولأن أصول النعم وفروعها منه تعالى، فالحمد له بالحقيقة، وحمد غيره إنما يقع من حيث ظاهر الحال، وجريان النعم على يديه، والملك هو الاستيلاء، والتمكن من التصرف في كل شيء على حسب ما أراد في الأزل، قال الرازي. الملك تمام القدرة واستحكامها، يقال: ملك بين الملك
" بقوله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "، ذكره الخطيب، قال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر وكافر في العلانية، كعمار ابن ياسر ونحوه مما أكره على الكفر.
وقال عطاء: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ومنكم مؤمن بالله، كافر بالكواكب. قال الزجاج: إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان، والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه، لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه، لأن وجود خلاف المقدر عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل، هذا طريق أهل السنة، فمن سلك هذا أصاب الحق وسلم من مذهب الجبرية والقدرية، قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال، وهو الذي عليه جمهور الأمة وقدم الكافر على المؤمن لأنه الأغلب عند نزول القرآن، وفيه رد لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين.
(والله بما تعملون بصير) لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم.
قرأ الجمهور صوركم بضم الصاد وقرىء بكسرها.
(وإليه المصير) في الدار الآخرة لا إلى غيره.
" وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس، فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض، فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق، وقرأ أبو ذر من فاتحه التغابن خمس آيات إلى قوله: (وإليه المصير) " أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(فكفروا) بالرسل وبما جاؤوا به وقيل: كفروا بسبب هذا القول الذي
" عن ابن مسعود أنه قيل له: ما سمعت النبي ﷺ يقول في (زعموا)؟ قال: سمعته يقول: بئس مطية الرجل "، أخرجه أحمد والبيهقي وغيرهما، وعنه أنه كره زعموا، ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ بأن يرد عليهم، ويبطل زعمهم فقال:
(قل بلى) هي لإيجاب النفي، فالمعنى بلى تبعثون، ثم أقسم على ذلك بقوله (وربي) وجواب القسم (لتبعثن) أي لتخرجن من قبوركم، أكد الإخبار باليمين، فإن قلت: ما معنى اليمين على شيء أنكروه، قلت: هو جائز لأن التهدد به أعظم موقعاً في القلب، فكأنه قيل لهم: ما تنكرونه كائن لا محالة (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) أي لتخبرن بذلك إقامة للحجة عليكم، ثم تجزون به (وَذَلِكَ) البعث والجزاء (عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) إذ الإعادة أيسر من الابتداء.
(ذلك) يعني أن يوم القيامة هو (يوم التغابن) وذلك أنه يغبن فيه بعض أهل المحشر بعضاً فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر، وأهل الطاعة أهل المعصية، ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار عند دخول هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، فتركوا منازلهم التي كانوا يستنزلونها، لو لم يفعلوا ما يوجب النار، فكأن أهل النار استبدلوا الخير بالشر، والجيد بالرديء، والنعيم بالعذاب، وأهل الجنة على العكس من ذلك يقال: غبنت فلاناً إذا بايعته أو شاركته، فكان النقص عليه، والغلبة والغبن فوت الحظ، كذا قال المفسرون، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة، فإطلاق التغابن على ما يكون فيها إنما هو بطريق الاستعارة، وإن التفاعل ليس من اثنين، وكذا المغابنة على سبيل التجريد، قال ابن عباس يوم التغابن من أسماء يوم القيامة، وعنه قال: غبن أهل الجنة أهل النار.
(ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته) أي من وقع منه التصديق مع العمل الصالح استحق تكفير سيئاته (ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) قرأ الجمهور يكفر ويدخله بالتحتية وقرىء بالنون وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم (خالدين فيها أبداً) حال مقدرة فيه مراعاة معنى من (ذلك) أي ما ذكر من التكفير والإدخال (الفوز العظيم) أي الظفر الذي لا يساويه ظفر، والعظيم أعلى حالاً من الكبير الذي ذكر في سورة البروج، لأن ما فيها قد رتب على إدخال الجنات فقط، وما هنا قد رتب على الأمرين المذكورين، فهو جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع.
وقال سعيد بن جبير: يهد قلبه عند المصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون وقال الكلبي: هو إذا ابتلى صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر. وقال ابن عباس في الآية: يعني يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قرأ الجمهور يهد بفتح الياء وكسر الدال أي يهده الله وقرىء بضم الياء وفتح الدال على البناء للفعول ونهد بالنون ويهدأ بهمزة ساكنة ورفع قلبه أي يطمئن ويسكن (والله بكل شيء عليم) أي بليغ العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية.
(وإن تعفوا) عن ذنوبهم التي ارتكبوها بترك المعاقبة (وتصفحوا) بالإعراض وترك التثريب عليها (وتغفروا) بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها وتستروها (فإن الله غفور رحيم) بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم.
" عن ابن عباس قال: هؤلاء رجال أسلموا من هل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي ﷺ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم إلى أن
" وعن أبي بريدة قال: كان النبي ﷺ يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله ﷺ من المنبر فحملهما واحداً من ذا الشق وواحداً من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال صدق الله: إنما أموالكم وأولادكم فتنة، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما " (١) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن مردويه وابن أبي شيبة.
(والله عنده أجر عظيم) أي الجنة، وهي لمن آثر طاعة الله وترك معصيته في محبة ماله وولده، ثم أمرهم سبحانه بالتقوى والطاعة فقال:
(واسمعوا) ما تؤمرون به سماع قبول لأنه لا فائدة في مجرد السماع (وأطيعوا) الأوامر قال مقاتل: اسمعوا أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم وأطيعوا الرسول فيما يأمركم وينهاكم (وأنفقوا) من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير والطاعة ولا تبخلوا بها. وقوله: (خيراً لأنفسكم) منتصب بفعل مضمر دل عليه اتقوا، كأنه قال: ائتوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم، أو قدموا خيراً لها، كذا قال سيبويه وقال الكسائي والفراء؛ هو نعت لمصدر محذوف، أي إنفاقاً خيراً وقال أبو عبيدة: هو خبر لكان المقدرة أي يكن الإنفاق خيراً لكم، وقال أهل الكوفة: نصبه على الحال، وقيل: هو مفعول به لأنفقوا أي فأنفقوا مالاً خيراً، والظاهر في الآية الإنفاق مطلقاً من غير تقييد بالزكاة الواجبة، وقيل: المراد زكاة الفريضة، وقيل: النافلة وقيل النفقة في الجهاد.
(ومن يوق شح نفسه) فيفعل في ماله جميع ما أمر به من الإنفاق موقناً به مطمئناً إليه، ولم يمنعه ذلك منه (فأولئك هم المفلحون) أي الظافرون بكل خير، الفائزون بكل مطلوب، وقد تقدم تفسير هذه الآية مراراً.
(يضاعفه لكم) فيجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وقد تقدم تفسير هذه الآية في البقرة والحديد.
" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله استقرضت عبدي فأبى أن يقرضني، ويشتمني عبدي وهو لا يدري، يقول: وادهراه، وادهراه، وأنا الدهر، ثم تلا أبو هريرة هذه الآية " أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه (ويغفر لكم) أي يضم إلى تلك المضاعفة غفران ذنوبكم (والله شكور حليم) يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة.
_________
(١) السيوب: الركاز.
(إحدى أو اثنتا أو ثلاث عشرة آية)
وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع. وعن ابن عباس قال: نزلت بالمدينة.
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (١) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣)