تفسير سورة الإنسان

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الإنسان
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم جبّار توحّد في آزاله بوصف جبروته، وتفرّد في آباده بنعت ملكوته فأزله أبده، وأبده أزله، وجبروته ملكوته، وملكوته جبروته.
أحديّ الوصف، صمديّ الذات، مقدّس النّعت، واحد الجلال، فرد التعالي، دائم العزّ، قديم البقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)
فى التفسير: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا له خطر ومقدار. قيل:
كان آدم عليه السلام أربعين سنة مطروحا جسده بين مكة والطائف. ثم من صلصال أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة، فتمّ خلقه بعد مائة وعشرين سنة «١».
ويقال: «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ... » : أي لم يأت عليه وقت إلا كان مذكورا إليّ.
ويقال: هل غفلت ساعة عن حفظك؟ هل ألقيت- لحظة- حبلك على غاربك؟
هل أخليتك- ساعة- من رعاية جديدة وحماية مزيدة.
قوله جل ذكره: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً».
(١) وزاد ابن مسعود أربعين سنة فقال: وأقام وهو من تراب أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وستين سنة ثم نفخ فيه الروح (حكاه الماوردي).
«مِنْ نُطْفَةٍ» : أي من قطرة ماء، «أَمْشاجٍ» : أخلاط من بين الرجل والمرأة.
ويقال: طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا عظما، وطورا لحما.
«نَبْتَلِيهِ» : نمتحنه ونختبره. وقد مضى معناه. «فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً».
«إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» أي: عرّفناه الطريق أي طريق الخير والشرّ.
وقيل: إمّا للشقاوة، وإمّا للسعادة، إمّا شاكرا من أوليائنا، وإما أن يكون كافرا من أعدائنا فإن شكر فبالتوفيق، وإن كفر فبالخذلان.
قوله جل ذكره:
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٤ الى ٥]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥)
أي: هيّأنا لهم سلاسل يسحبون فيها، وأغلالا لأعناقهم يهانون بها، «وَسَعِيراً» :
نارا مستعرة.
«إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» قيل: البرّ: الذي لايضمر الشّرّ، ولا يؤذى الذّرّ.
وقيل: الأبرار: هم الذين سمت همّتهم عن المستحقرات، وظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فاتّقوا عن مساكنة الدنيا.
يشربون «١» من كأس رائحتها كرائحة الكافور، أو ممزوجة بالكافور.
ويقال:
اختلفت مشاربهم في الآخرة فكلّ يسقى ما يليق بحاله وكذلك في الدنيا مشاربهم مختلفة فمنهم من يسقى مزجا، ومنهم من يسقى صرفا، ومنهم من يسقى على
(١) يتحدث القشيري في هذه السورة عن الشراب على نحو تفصيلى يستحق التأمل، وينبغى أن يضاف إلى حديثه عنه في رسالته عند بحث هذا الموضوع عند هذا الصوفي السنّى الجليل.
النّوب، ومنهم من يسقى بالنّجب ومنهم من يسقى وحده ولا يسقى مما يسقى غيره، ومنهم من يسقى هو والقوم شرابا واحدا.. وقالوا:
إن كنت من ندماى فبالأكبر اسقني... ولا تسقنى بالأصغر المتثلم
وفائدة الشراب- اليوم- أن يشغلهم عن كل شىء فيريحهم عن الإحساس، ويأخذهم عن قضايا العقل.. كذلك قضايا الشراب في الآخرة، فيها زوال الأرب، وسقوط الطلب، ودوام الطّرب، وذهاب الحرب، والغفلة عن كلّ سبب.
ولقد قالوا:
عاقر عقارك واصطبح... واقدح سرورك بالقدح
واخلع عذارك في الهوى... وأرح عذولك واسترح
وافرح بوقتك إنما... عمر الفتى وقت الفرح
قوله جل ذكره:
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٦ الى ١٠]
عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠)
يشقّقونها تشقيقا، ومعناه أن تلك العيون تجرى في منازلهم وقصورهم على ما يريدون.
واليوم- لهم عيون في أسرارهم من عين المحبة، وعين الصفاء، وعين الوفاء، وعين البسط، وعين الروح.. وغير ذلك، وغدا لهم عيون.
«يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» ثم ذكر أحوالهم في الدنيا فقال: يوفون بالعهد القديم الذي بينهم وبين الله على وجه مخصوص.
«وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً».
قاسيا، منتشرا، ممتدا.
«وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» أي: على حبّهم للطعام لحاجتهم إليه. ويقال: على حبّ الله، ولذلك يطعمون.
ويقال: على حبّ الإطعام.
وجاء في التفسير: أن الأسير كان كافرا- لأنّ المسلم ما كان يستأسر في عهده- فطاف على بيت فاطمة رضى الله عنها «١» وقال: تأسروننا ولا تطعموننا «٢» ! «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً» إنما نطعمكم ابتغاء مرضاة الله، لا نريد من قبلكم جزاء ولا شكرا.
ويقال: إنهم لم يذكروا هذا بألسنتهم، ولكن كان ذلك بضمائرهم.
«إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً» أي: يوم القيامة
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١١ الى ١٧]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥)
قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧)
(١) هكذا في م، وفي ص (صلى الله عليها).
(٢) قال الأسير وهو واقف بالباب: «السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعمونى فإنى أسير محمد». فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح.. حتى لصق بطن فاطمة بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع». فلما رآها النبي (ص) وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال:
«واغوثاه يا ألله! أهل بيت محمد يموتون جوعا» فنزلت الآية. ولكن بعض رجال الحديث يطعنون في هذا الخبر.
يقول الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: «هو حديث مزوق مزيف لأن الله تعالى يقول: يسألونك ماذا ينفقون قل العفو»، والنبي يقول: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى».
663
«وَلَقَّاهُمْ» أي: أعطاهم «نَضْرَةً وَسُرُوراً».
«وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً» كافأهم على ما صبروا من الجوع ومقاساته جنّة وحريرا «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ» واحدها أريكة، وهي السرير في الحجال «١».
«لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» أي: لا يتأذّون فيها بحرّ ولا برد.
«وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» يتمكنون من قطافها على الوجه الذي هم فيه من غير مشقة فإن كانوا قعودا تدّلى لهم، وإن كانوا قياما- وهي على الأرض- ارتقت إليهم.
«وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ» الاسم فضة، والعين لا تشبه العين «٢» «وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً» أي: فى صفاء القوارير وبياض الفضة.. قدّر ذلك على مقدار إرادتهم.
«وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا» المقصود منه الطّيب، فقد كانوا (أي العرب) يستطيبون الزنجبيل، ويستلذون نكهته،
(١) جمع حجلة وهي ستر يضرب على سرير العروس كالقبة.
(٢) من هذا يتضح أن القشيري برى أن الجنة وصفت بما يمكن أن يكون منتهى تصوراتهم الدنيوية لمجالات النعمة... فالألفاظ هي الألفاظ ولكن الحقائق شىء آخر.
664
وبه يشبّهون الفاكهة، ولا يريدون به ما يقرص اللسان «١».
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١٨ الى ٢١]
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١)
أي: يسقون من عين- أثبت السقيّ وأجمل من يسقيهم لأنّ منهم من يسقيه الحقّ- سبحانه- بلا واسطة.
قوله جل ذكره: «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً» أي: يخدمهم ولدان مخلدون (وصفا لا يجوز واحد منهم حدّ الوصائف) «٢».
وجاء في التفسير: لا يهرمون ولا يموتون. وجاء مقرّطون.
إذا رأيتهم حسبتهم من صفاء ألوانهم لؤلؤا منثورا «٣».
وفي التفسير: ما من إنسان من أهل الجنة إلا ويخدمه ألف غلام.
قوله جل ذكره: «وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً» «ثَمَّ» : أي في الجنة.
«مُلْكاً كَبِيراً» : فى التفاسير أن الملائكة تستأذن عليهم بالدخول.
وقيل: هو قوله: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها» «٤» ويقال: أي لا زوال له.
(١) من ذلك قول المسيب بن علس يصف ثغر المرأة:
وكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر
وقال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبي ل باما بفيها وأريا مشورا
(والأرى- هو العسل).
(٢) هكذا في النسختين وفيها شىء من غموض.
(٣) قيل: إنما شبههم باللؤلؤ المنثور لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ المكنون المخزون لأنهن لا يمتهنّ بالخدمة (القرطبي ح ١٩ ص ١٤٤).
(٤) آية ٣٥ سورة ق. [.....]
665
«عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» يحتمل أن يكون هذا الوصف للأبرار. ويصح أن يكون للولدان وهو أولى، والاسم يوافق الاسم دون العين «١».
«شَراباً طَهُوراً» : الشراب الطهور هو الطاهر في نفسه المطهّر لغيره.
فالشراب يكون طهورا في الجنة- وإن لم يحصل به التطهير لأن الجنة لا يحتاج فيها إلى التطهير.
ولكنه- سبحانه- لمّا ذكر الشراب- وهو اليوم في الشاهد نجس- أخبر أنّ ذلك الشراب غدا طاهر، ومع ذلك مطهّر يطهّرهم عن محبة الأغيار، فمن يحتس من ذلك الشراب شيئا طهّره عن محبة جميع المخلوقين والمخلوقات.
ويقال: يطهّر صدورهم من الغلّ والغشّ، ولا يبقى لبعضهم مع بعض خصيمة (ولا عداوة) «٢» ولا دعوى ولا شىء.
ويقال: يطهّر قلوبهم عن محبة الحور العين.
ويقال: إن الملائكة تعرض عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم، ويقولون:
لقد طال أخذنا من هؤلاء، فإذا هم بكاسات تلاقى أفواههم بغير أكفّ من غيب إلى عبد.
ويقال: اليوم شراب وغدا شراب... اليوم شراب الإيناس «٣» وغدا شراب الكأس، اليوم شراب من الّلطف وغدا شراب يدار على الكفّ.
(١) أرأيت كيف يلمح القشيري على هذا المعنى؟
(٢) غير موجودة في م وموجودة في ص.
(٣) هكذا في ص وهي في م (الأنفاس)، والصواب ما أثبتنا كما يتضح فيما بعد (آنسه).
666
ويقال: من سقاه اليوم شراب محبّته آنسه وشجّعه فلا يستوحش في وقته من شىء، ولا يضنّ بروحه عن بذل. ومن مقتضى شربه بكأس محبته أن يجود على كلّ أحد بالكونين من غير تمييز، ولا يبقى على قلبه أثر للأخطار.
ومن آثار شربه تذلّله لكلّ أحد لأجل محبوبه، فيكون لأصغر الخدم تراب القدم، لا يتحرّك فيه للتكبّر عرق.
وقد يكون من مقتضى ذلك الشراب أيضا في بعض الأحايين أن يتيه على أهل الدارين.
ومن مقتضى ذلك الشراب أيضا أن يملكه سرور ولا يتمالك معه من خلع العذار وإلقاء قناع الحياء «١» ويظهر ما هو به من المواجيد:
يخلع فيك العذار قوم... فكيف من ماله عذار؟
ومن موجبات ذلك الشراب سقوط الحشمة، فيتكلم بمقتضى البسط، أو بموجب لفظ الشكوى، وبما لا يستخرج منه- فى حال صحوه- سفيه بالمناقيش «٢»... وعلى هذا حملوا قول موسى: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» «٣» فقالوا: سكر من سماع كلامه «٤»، فنطق بذلك لسانه. وأمّا من يسقيهم شراب التوحيد فينفى عنهم شهود كلّ غير فيهيمون في أودية العزّ، ويتيهون في مفاوز الكبرياء، وتتلاشى
(١) هكذا في م وهي في ص (الحياة)، والملائم لخلع العذار إلقاء قناع (الحياء). والمقصود بهما تجاوز حد الصبر على المكتوم من الحب، ونطق العبد وهو في غلبات الشهود بشطحات ظاهرها مستشنع وإن كان باطنها فى غاية السلامة (انظر تعريف السراج للشطح في اللمع).
(٢) المناقيش جمع منقاش، ويقال في المثل: استخرجت منه حقى بالمناقيش أي تعبت كثيرا حتى استخرجت منه حقى (الوسيط).
(٣) آية ١٤٣ سورة الأعراف.
(٤) الضمير فى (كلامه) يعود على الرب سبحانه حينما قال: «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ»، وفي موضع آخر يصف القشيري موسى عليه السلام بأنه كان في حال التلوين فظهر عليه ما ظهر، بينما المصطفى (ص) ليلة المعراج كان فى حال التمكين فما زاغ بصره وما طغى.
667
جملتهم في هواء الفردانية.. فلا عقل ولا تمييز ولا فهم ولا إدراك.. فكلّ هذه المعاني ساقطة.
فالعبد يكون في ابتداء الكشف مستوعبا ثم يصير مستغرقا ثم يصير مستهلكا..
«وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٢ الى ٢٧]
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦)
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧)
يقال لهم: هذا جزاء لكم، «مَشْكُوراً» : وشكره لسعيهم تكثير الثواب على القليل من العمل- هذا على طريقة العلماء، وعند قوم شكرهم جزاؤهم على شكرهم.
ويقال: شكره لهم ثناؤه عليهم بذكر إحسانهم على وجه الإكرام.
قوله جل ذكره: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» فى مدّة «٢» سنين.
«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» أي: ارض بقضائه، واستسلم لحكمه.
«وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» : أي: ولا كفورا، وهذا أمر له بإفراد ربّه بطاعته.
«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» الفرض في الأول، ثم النّفل «٣» «إِنَّ هؤُلاءِ... »
(١) آية ٤٢ سورة النجم.
(٢) هكذا في النسختين ولا نستبعد أنها في الأصل (عدة) وكلاهما صحيح في السياق.
(٣) فالصلاة جاءت في الأول (بكرة وأصيلا) صلاة الصبح ثم الظهر والعصر (ومن الليل) المغرب والعشاء ثم من بعد ذلك النفل وهو (وسبحه ليلا طويلا) : لأنه تطوع، قيل: هو منسوخ بالصلوات الخمس، وقيل: هو خاص بالنبي (ص) وحده.
أي كفّار قريش.
«يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا».
أي: لا يعملون ليوم القيامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٨ الى ٣١]
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
أعدمناهم، وخلقنا غيرهم بدلا عنهم. ويقال: أخذنا عنهم الميثاق «١».
«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ... »
أي: القرآن تذكرة.
«فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا».
بطاعته.
«وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» أي: عذابا أليما موجعا يخلص وجعه إلى قلوبهم.
(١) تأخرت هذه العبارة عن موضعها، فأرجعناها إلى مكانها.
Icon