ﰡ
(مدنية حروفها ثلاثمائة وستة وتسعون كلمها أربع وتسعون آياتها ثمان)
[سورة البينة (٩٨) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
القراآت
البريئة بالهمزة نافع وابن ذكوان.
الوقوف:
الْبَيِّنَةُ لا مُطَهَّرَةً هـ ك قَيِّمَةٌ هـ ك الْبَيِّنَةُ هـ ط الْقَيِّمَةِ هـ ط فِيها ط الْبَرِيَّةِ هـ ط الصَّالِحاتِ هـ لا الْبَرِيَّةِ هـ ط أَبَداً ط عَنْهُ ط رَبَّهُ هـ
التفسير:
استصعب بعض العلماء ومنهم الواحدي حل هذه الآية لأنه تعالى لم يبين أنهم منفكون عن أي شيء إلا أن الظاهر أنه يريد انفكاكهم عن كفرهم، ثم إنه فسر البينة بالرسول ﷺ ومعلوم أن «حتى» لانتهاء الغاية، فالآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول وهذا ينافي قوله وَما تَفَرَّقَ الآية. والجواب على ما قال صاحب الكشاف، أن هذه حكاية كلام الكفار، وتقديره أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك عما نحن فيه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي ﷺ الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد ﷺ فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه. ثم قال وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والإنفاق على الحق إذا جاءهم الرسول. ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم
والبينة الحجة الواضحة، وإطلاقها على الرسول كإطلاق النور والسراج عليه. والصحف القراطيس التي يكتب فيها القرآن المطهر من النقائص ومس المحدث إياه، ومعنى تلاوة الصحف إملاؤه إياها. وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه ﷺ كان يقرأ من الكتاب وإن كان لا يكتب ولعل هذا من معجزاته. والكتب المكتوبات. والقيمة المستقيمة أو المستقلة بالدلالة من قولهم «قام فلان بأمر كذا». وقال أبو مسلم: البينة مطلق الرسل وهم الملائكة أي رسل من السماء يتلون عليهم صحفا كقوله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ
[النساء: ١٥٣] وكقوله بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: ٥٢] قال الجبائي: في قوله وما تفرقوا إلا من بعد كذا دلالة على أن الشقاوة والسعادة لم يثبتا في الأزل ولا في أصلاب الآباء. وزيف بأن المراد ظهور التفرق منهم لا حصوله في علم الله وهو ظاهر. قوله وَما أُمِرُوا أي وما أمروا بما أمروا به في التوراة والإنجيل إلا لأجل أن يعبدوا الله على حالة الإخلاص والميل عن الأديان الباطلة. فقوله حُنَفاءَ حال مترادفة أو متداخلة وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ موصوفها محذوف أي دين الملة القيمة. ويعلم من هذا الإخبار أن الأمر المذكور ثابت في شرعنا أيضا كما في شرعهم، ويحتمل أن يراد وما أمروا على لسان محمد ﷺ قاله مقاتل. استدل بالآية من قال: إن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والعمل بيانه أن الله تعالى ذكر العبادة المقرونة بالإخلاص وهو التوحيد، ثم عطف عليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم أشار إلى المجموع بقوله وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ورد بالمنع من أن المشار إليه هو المجموع، ولم لا يجوز أن يكون إشارة إلى التوحيد فقط؟ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يراد بدين القيمة الدين الكامل المستقل بنفسه وهو أصل الدين ونتائجه وثمراته؟ ثم ذكر وعيد الكفار ووعد الأبرار. وقدم في الوعيد أهل الكتاب على المشركين، والسر فيه بعد ما مر أنه ﷺ كان يقدم حق الله على حق نفسه ولهذا حين كسروا رباعيته قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وحيث فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال: ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا فقال الله تعالى: كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضا أقدم حقك على حقي، فمن ترك الصلاة طول عمره لم يكفر، ومن طعن فيك بوجه يكفر. ثم إن أهل الكتاب طعنوا فيك فقدمتهم في الوعيد على المشركين الذين طعنوا فيّ، وأيضا المشركون رأوه صغيرا يتيما فيما بينهم. ثم إنه بعد النبوة سفه أحلامهم وكسر أوثانهم وهذا أمر شاق يوجب العداوة الشديدة عند أهل الظاهر. وأما أهل الكتاب فقد كانوا مقرين بنبي آخر الزمان وكان النبي ﷺ مثبتا لنبيهم وكتابهم فلم يوجب لهم ذلك عداوة شديدة، فطعنهم في محمد ﷺ طعن في غير موقعه فاستحقوا التقديم في الوعيد لذلك وكانوا شر البرية، وهذه جملة يطول تفصيلها شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا على سفلتهم طريق الحق، وشر من الجهال لأن العناد أقبح أنواع الكفر، وفيه دلائل على أن وعيد علماء السوء أفظع. قوله في هذه الآية خالِدِينَ فِيها وفي آية الوعد خالِدِينَ فِيها أَبَداً إشارة إلى كمال كرمه وسعة رحمته كما قال «سبقت رحمتي غضبي» «١» قال العلماء: هذه الآية مخصوصة في صورتين إحداهما
روى أبو هريرة أنه ﷺ قال: «أتعجبون من منزلة الملائكة من الله والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من ذلك وقرأ هذه الآية»
أجاب المنكرون بأن الملك أيضا داخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو المراد بالبرية بنو آدم لأن اشتقاقها من البرء وهو التراب لا من برأ الله الخلق، وتمام البحث في المسألة قد سبق في أول البقرة. قوله ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ مع قوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] ظاهر في أن العلماء بالله هم خير البرية اللهم اجعلنا منهم والله أعلم.