تفسير سورة القارعة

التفسير المنير
تفسير سورة سورة القارعة من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

المندوف، مما يوجد الذعر والهلع والتأثر الشديد في قلوب الناس: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [٥].
وكانت خاتمتها الإخبار عن نصب موازين الحساب التي توزن بها أعمال الناس، فثقيل الميزان بالحسنات إلى الجنة، وخفيف الميزان بالسيئات إلى النار:
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ.. [٦- ١١].
أهوال القيامة وأماراتها وميزان الحساب فيها
[سورة القارعة (١٠١) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١)
الإعراب:
الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ الْقارِعَةُ: مبتدأ. ومَا: مبتدأ ثان، وما بعده خبره.
وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ما الأولى: مبتدأ، وما بعدها خبره. وما الثانية:
المبتدأ، وخبرها في محل المفعول الثاني ل «أدراك».
يَوْمَ ظرف عامله تقرع، دل عليه القارعة.
كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ في موضع نصب لأنه خبر يَكُونُ. وكذلك كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ في موضع نصب لأنه خبر يَكُونُ.
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ الفاء: جواب (أما) التي فيها معنى الشرط. وهو: مبتدأ، وفِي عِيشَةٍ: ظرف في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ. وراضِيَةٍ: أي مرضي بها، وهو مما جاء على وزن فاعل، ويراد به مفعول.
375
البلاغة:
وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟ الاستفهام للتفخيم والتهويل، وكذلك: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟.
الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وضع الظاهر موضع الضمير للتخويف والإرهاب، والأصل أن يقال: القارعة ما هي؟
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ تشبيه مرسل مجمل، ذكر فيه أداة التشبيه، وحذف وجه الشبه، وهو: في الكثرة والانتشار، والضعف والهوان. ومثله: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي في تطايرها وخفة تناثرها.
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ بينهما مقابلة.
فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ مجاز عقلي إذا أريد بالراضية اسم الفاعل، أي راض بها صاحبها.
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ.. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ.. فيهما احتباك: وهو أن يحذف في كلّ نظير ما أثبته في الآخرة، حذف من الأول (فأمه الجنة) وذكر فيها عِيشَةٍ راضِيَةٍ وحذف من الثانية (فهو في عيشة ساخطة) وذكر فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ.
الْقارِعَةُ، راضِيَةٍ، هاوِيَةٌ، ما هِيَهْ، حامِيَةٌ سجع مرصّع.
المفردات اللغوية:
الْقارِعَةُ من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لأنه تقرع القلوب والأسماع بأهوالها وأفزاعها الشديدة، من القرع: الضرب بشدة. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ما أعلمك، وهو زيادة تهويل لها. كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ أي كالفراش المنتشر المتفرق في الكثرة والانتشار، والذلة والاضطراب، يموج بعضهم في بعض للحيرة، إلى أن يدعوا للحساب. والفراش: طائر معروف أحمق يتهافت على النار.
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ كالصوف المندوف في خفة سيرها وتبددها، حتى تستوي مع الأرض. ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بأن رجحت حسناته على سيئاته. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ذات رضا أو مرضية لصاحبها في الجنة. خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن رجحت سيئاته على حسناته. فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فمسكنه أو مأواه الذي يأوي إلى نار جهنم. ما هِيَهْ ما هي النار؟ وهاء هيه للسكت تثبت وصلا ووقفا. والهاوية: من أسماء جهنم. نارٌ حامِيَةٌ أي هي نار شديدة الحرارة.
376
التفسير والبيان:
الْقارِعَةُ، مَا الْقارِعَةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟ الْقارِعَةُ من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع، وأي شيء هي، وما أعلمك ما شأن القارعة؟ وقوله: مَا الْقارِعَةُ لتعظيم شأنها وتفخيمه، وقوله:
وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ تأكيد لشدة هولها، وتعظيم أمرها، وتهويل شأنها.
ثم فسر ذلك وأبان زمانها وأماراتها، فقال:
١- يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ أي يوم يخرج الناس من القبور، يسيرون على غير هدى في كل اتجاه، شأنهم في ذلك، كالحشرة الطائرة المعروفة المنتشرة المتفرقة. أو كجميع الحشرات الطائرة، كالبعوض والجراد، فهم في انتشارهم وتفرقهم وذهابهم ومجيئهم بسبب حيرتهم مما هم فيه، كأنهم فراش مبثوث، أي متفرق منتشر، كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر ٥٤/ ٧]. قال الزمخشري: شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب، كما يتطاير الفراش إلى النار.
٢- وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي وتصير الجبال كالصوف ذي الألوان المختلفة، المندوف الذي نقش بالندف لأنها تتفتت وتتطاير، كما في قوله تعالى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ [التكوير ٨١/ ٣] وقوله سبحانه: وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [المزمّل ٧٣/ ١٤].
وفي ذكر هاتين الأمارتين تخويف للناس وتحذير شديد.
ثم ذكر الجزاء على الأعمال وأحوال الناس وتفرقهم فريقين إجمالا، فقال:
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي أما من ثقلت موازينه بأن رجحت حسناته أو أعماله الصالحة على سيئاته، فهو في عيشة مرضية
377
يرضاها صاحبها في الجنة. والعيشة: كلمة تجمع النعم التي في الجنة.
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ، نارٌ حامِيَةٌ أي وأما من رجحت سيئاته على حسناته، أو لم تكن له حسنات يعتد بها، فمسكنه أو مأواه جهنم. وسماها أمه لأنه يأوي إليها كما يأوي الطفل إلى أمه، وسميت جهنم هاوية وهي الهالكة لأنه يهوي فيها مع عمق قعرها، ولأنها نار عتيقة.
ونحن نؤمن بالميزان كما ورد في القرآن، دون أن ندري كيفية وزنه وتقديره.
وما أعلمك ما هذه النار؟ والاستفهام للتهويل والتخويف، ببيان أنها خارجة عن المعهود، بحيث لا يدرى كنهها. قال الزمخشري: هيه ضمير الداهية التي دل عليها قوله: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أو ضمير هاوية، والهاء للسكت، وإذا وصل القارئ حذفها.
هي نار شديدة الحرارة، انتهى حرها وبلغ في الشدة إلى الغاية، فهي حارة شديدة الحرارة، قوية اللهب والسعير. وهذا دليل على قوتها التي تفوق جميع النيران.
أخرج مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، قالوا: يا رسول اللَّه، إن كانت لكافية؟ فقال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا».
وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم».
وأخرج أحمد أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «إن أهون أهل النار عذابا: من له نعلان، يغلي منهما دماغه».
378
وثبت في الصحيحين: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- القيامة ذات أهوال وشدائد ومخاوف تهز القلوب وتقرع الأسماع، لا يعلم أحد بكنهها لأنها في الشدة بحيث لا يتصورها عقل أحد، وكيفما قدرت فهو أعظم من تقديرك، كأنه تعالى قال: قوارع الدنيا في جنب تلك القارعة كأنها ليست بقوارع، ونار الدنيا في جنب نار الآخرة كأنها ليست بنار.
وفي هذا تحذير شديد وإرهاب لا مثيل له. قال مقاتل: إنها تقرع أعداء اللَّه بالعذاب، وأما أولياؤه فهم من الفزع آمنون.
٢- وصف اللَّه يوم القيامة بأمرين:
الأول- كون الناس فيه كالفراش المتفرق المنتشر، وهو الحيوان الذي يتهافت في النار.
الثاني- صيرورة الجبال فيه كالصوف ذي الألوان، المندوف، الذي ينفش بعضه عن بعضه.
ويلاحظ أنه تعالى وصف تغير الأحوال على الجبال من وجوه أربعة:
أولها- أن تصير قطعا، كما قال: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة ٦٩/ ١٤].
وثانيها- أن تصير كثيبا مهيلا، كما قال: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل ٢٧/ ٨٨].
379
وثالثها- ثم تصير كالعهن المنفوش، وهي أجزاء كالذر الداخل من النافذة.
ورابعها- تصير سرابا، كما قال: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ، فَكانَتْ سَراباً [النبأ ٧٨/ ٢٠] «١».
٣- يقسم الناس يوم القيامة إلى قسمين بحسب ثقل موازين أعمالهم وخفتها، فأما من رجحت حسناته على سيئاته فهو في الجنة في عيشة مرضية، وأما من رجحت سيئاته على حسناته فهو في نار حامية شديدة الحرارة. وقوله: نارٌ حامِيَةٌ إشارة إلى أن سائر النيران بالنسبة إلى نار الآخرة غير حامية. وهذا القدر كاف في التنبيه على قوة سخونتها.
والموازين جمع ميزان، فيؤتى بحسنات المطيع في أحسن صورة، فإذا رجح، فله الجنة، ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة، فيخف وزنه، فيدخل النار.
وقال المتكلمون: إن نفس الحسنات والسيئات لا يصح وزنهما، بل المراد أن الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات توزن، أو يجعل النور علامة الحسنات، والظلمة علامة السيئات.
قال أبو بكر رضي اللَّه عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا.
وقال مقاتل: إنما كان كذلك لأن الحق ثقيل، والباطل خفيف «٢».
(١) تفسير الرازي: ٣٢/ ٧٢
(٢) تفسير الرازي: ٣٢/ ٧٣
380

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة التكاثر
مكيّة، وهي ثماني آيات.
تسميتها:
سميت سورة التكاثر لقوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أي شغلكم التفاخر بالأموال والأولاد والأعوان.
مناسبتها لما قبلها:
أخبرت سورة القارعة عن بعض أهوال القيامة، وجزاء السعداء والأشقياء، ثم ذكر في هذه السورة علة استحقاق النار وهو الانشغال بالدنيا عن الدين، واقتراف الآثام، وهددت بالمسؤولية في الآخرة عن أعمال الدنيا.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة المكية ذم العمل للدنيا فقط، والتحذير من ترك الاستعداد للآخرة. لذا تناولت مقاصد ثلاثة:
١- بيان انشغال الناس بملذات الحياة ومغرياتها، والغفلة حتى يأتي الموت:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ [١- ٢].
٢- الإنذار بالسؤال عن جميع الأعمال في القيامة: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [٣- ٤].
381
Icon