ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)معناه اقتربت القيامة، ومثله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).
والمعنى - واللَّه أعلم - اقترب للناس وقت حسابهم.
* * *
وقوله: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
(٢)
الخفضً القراءة، ويجوز في غَير القراءة (مُحْدَثاً ومُحْدَثٌ).
النصب على الحال، والرفع بإضمار هو.
* * *
(لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)
(لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)
معطوفٌ على معنى (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ).
معناه استمعوه لاعبين
(لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ويجوز أن يكون (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) منصوباً بقوله (يلعبون).
(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا).
في (أَسَرُّوا) قولان أجْوَدهمَا أن يكون (الَّذِينَ ظَلَمُوا) في موضع رفع بدلًا من
الواو من (أَسَرُّوا) ومُبَيِّناً عن معنى الواو.
والمعنى إلا استمعوه وهم يلعمون.
(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى)، ثم بين من هم هؤلاء فكان بدلاً من الواو.
ويجوز أن يكون
ويجوز أن يكون في موضع نصبٍ على معنى أعني الذين ظلموا.
وقوله: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).
بينَ ما أسروه، والمعنى قالوا سِرًّا هل هذا إلَا بشرٌ مثلكم، يعنون
النبي - ﷺ - أعلمهم الله عزَّ وجلَّ أنه يعلم القول في السماء والأرض، وأطلَعَ النبيَّ - ﷺ - عَلَى قِيلِهِمْ، وسَرِّهِمْ.
* * *
(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)
وقرئت (قَلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ)، و (قَالَ رَبِّي)
* * *
وقوله: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)
أي قالوا: الذي يأتي به النبي - ﷺ - أضْغَاث أحْلام. وجاء في التفسير أهاوِيل أحْلام، والأضغاثُ في اللغة الأشياء المختلطة.
(بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ).
أي أخذوا ينقضون أقوالهم بعضها ببعض، فيقولون مرة: هذه أحلام.
ومرة هذا شعر ومرة مفترى.
(فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ).
فاقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمْهَالٌ إذَا كُذِّبَ بهَا، فقال اللَّه
عزَّ وجلَّ: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)
أي ما آمن أهل قرية أتتهم هذه الآيات حتى أوجب الله استئصالهم
وإهلاكهم بالعذاب، واللَّه جعل مَوْعِدَ هذه الأمةِ القيامةَ.
فقال:
واللَّهُ قد أعطاهم الآيات التي تبينُوا بها نبوة النبي - ﷺ - من القرآن الذي دُعُوا أنْ يأتوا بسورةٍ مثله، ومن انشقاق القمر، ومن
قوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فظهر أهل الِإسلام حتى صاروا أكثر من كل
فرقةٍ فليس أهلُ مِلَّةٍ واحدة لهم كثرة أهْلِ الِإسْلَامِ، وأظهره اللَّه أيضاً
بالحجة القاطعة.
* * *
وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧)
أي سَلُوا كل من يقر برسول اللَّه - ﷺ - من أهل التوراة والإِنجيل.
(إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
أي إن كنتم لَمْ تَعْلَمُوا أنَّ الرسُلَ بَشَر.
وهذا السؤال واللَّه أعلم لمن كان مؤمناً من أهل هذه الكتب، لأن القبول يكون من أهل الصدق والثقة.
* * *
وقوله: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (٨)
(جَسَداً) هو واحد ينبئ عن جماعة، أي وما جَعَلْنَاهم ذوي أجَسَادٍ إلا
ليأكُلُوا الطعَامَ، وذلك أنهم قَالُوا: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ)
فأُعْلِمُوا أن الرسُلَ أجمعين يأكلون الطعام، وأنهُم يَمُوتُونَ وهوَ قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ).
* * *
وقوله: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠)
أي فيه تذْكِرة لكم بما تلقونه من رحمة أو عذاب، كما قال عزَّ وجلَّ:
(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ)
وقد قيل (فِيه ذِكُرُكمْ) فيه شَرَفُكُمْ.
* * *
وقوله: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (١١)
ومعنى قصمنا أهلكنا وأذهبنا، يقال قصم اللَّه عُمْرَ الكافِرِ أي أذْهبَهُ
* * *
وقوله: (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (١٢)
أي يهربون من العذاب.
* * *
(لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (١٣)
جاء في التفسير أنه قيل لهم ذلك على جهة الاستهزاء بهم.
وقيل لعلكم تسألون شيئاً مما أُتْرفتُم فيه.
ويجوز لعلكم تسألون فتجيبون عما تشاهدون
إذا رأيتم ما نزل بمساكنكم وَمَا أترفتم فيه.
* * *
وقوله: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (١٤)
" ويل " كلمة تقال لكل من وقع في هَلَكَةٍ، وكذلك يقولها كل من وقع
في هلكة.
* * *
وقوله: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (١٥)
أي ما زالت الكلمةُ التي هي قولُهم: (يَا ويلَنَا إنا كُنا ظَالِمِينَ) دعواهم.
يجوز أن تكون (تلك) في موضع رفع اسم زَالتْ
و (دعواهم) في موضع نصب خبر زالت
وجائز أن يكون (دعواهم) الاسم في موضع رفع، و (تلك) في موضع
نصب على الخبر لا اختلاف بين النحويين في الوجْهَيْن.
* * *
وقوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧)
اللَّهْو في لُغَةِ حَضْرمَوْتَ الولد، وقيل اللهو المرأةُ، وتأويلُه أن الوَلَدَ لَهْوُ
الدنْيَا، فلو أردنا أن نتخِذَ ذَا لَهْوٍ يُلْهَى بِهِ.
ومعنى (لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) أي لاصطفيناه مما نخلق.
(إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ).
وكذلك جاء في التفسير.
ويجوز أن يكون للشرط أي: إنْ كُنا مِمنْ يَفْعَلُ ذلك ولسنا ممن يفعله. والقول الأول قول المفسرين، والقول الثاني قول النحويين، وهم أجمعون يقولون القولَ الأول ويستجيدُونه.
لأن (إنْ) تكون في معنى النفي، إلا أن أكثر ما تأتي مع اللام تقول: إن كنت
لصالحاً، معناه مَا كنْتَ إلا صَالِحاً.
* * *
وقوله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)
يعنى بالحق القرآن على باطلهم
" فَيَدْمَغُهُ " فيذهبُه ذهاب الصغار والإذلال.
(فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ).
أي ذاهب.
(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ).
أي مِمَّا تَكْذِبُونَ في وصفكم في قولكم إنَّ للَّهِ وَلَداً.
* * *
وقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩)
أي هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أوْلَادُ اللَّه - عزَّ وجلَّ - عبادُ اللَّهِ، وهم
الملائكة.
وقوله: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ).
أي لا يَعْيَوْنَ، يُقَال حَسِرَ واسْتَحْسَرَ إذَا تَعِب وأعْيَا، فالملائكة لا يَعْيَوْنَ.
* * *
(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠)
أي لا يشْغَلُهم عن التسبيح رِسَالة، ومجرى التسبيح منهم كمجرى
* * *
وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١)
و (يَنْشِرُونَ)، فمن قرأ (يُنْشِرُونَ) فمعناه أم اتخذوا آلهة يُحْيُونَ الموتَى.
يقال: أنْشَر اللَّهُ الموْتَى ونَشَرُوا هُمْ، ومن قرأ يَنْشُرون بفتح الياء، فمعناه: أم اتخذوا آلهة لا يَمُوتُونَ يَحيَوْنَ أبَداً.
* * *
وقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢)
(فِيهِمَا) في السماء والأرْضِ.
وَ " إِلَّا " في معنى " غير "، المعنى لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتَا.
ف " إِلَّا " صفة في معنى غير، فلذلك ارتفع ما بعدها على لفظ الذي قبلها قال الشاعر:
وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أَخُوه... لَعَمْرُ أَبِيكَ إلاَّ الفَرْقدانِ
المعنى وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه.
* * *
وقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).
(سبحان اللَّهِ) معناه تنزيه الله من السوء وقد فسرنا ذلك.
وهذا تفسير عن النبي - ﷺ -.
* * *
وقوله: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣)
أي لَا يُسْأَلُ في القيامة عن حكمه في عباده، وَيَسأل عباده عن أعمالهم
سؤالُ مُوَبِّخٍ لمن يستحق التوبيخ، ومجَازِياً بالمغفرة لمن استحق ذلك، لأن
اللَّه عزَّ وجلَّ قد علم أعمَال العِبَادِ، ولكن يسألهم إيجاباً للحجة عليهم، وهو
أي سؤال الحجة التي ذكرنا، فأما قوله:
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩).
فهذا معناه لا يسأل عن ذنبه ليستعلم منه، لأن الله قد علم أعمالهم قبل وقوعها وحين وقوعها وبعد وقوعها. (عَالِم الغَيبِ والشهادة).
* * *
وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)
قد أبَانَ اللَّه الحجةَ عَلَيهم في تثبيت توحيده وأن آلهتهم لا تُغْني عنهم
شيئاً، ثم قيل لهم: هاتوا برهانكم بأنَّ رَسُولاً من الرسل أنبأ أمَّتَة بأنَّ لهم إلهاً
غير اللَّه، فهلْ في ذكرِ مَنْ معيَ وذِكْر مَنْ قبلي إلا توحيدُ الله عزَّ وجلَّ، وقد
قُرِئَتْ: هذا ذكرٌ مِنْ مَعِي وذكرٌ مِنْ قَبْلِي، ووجهها جَيدٌ.
ومَعْنَاه: هذا ذكرٌ مما أنزل عَلَى مِمَّا هو مَعِي، وذكرٌ مِنْ قبلي.
قال أبو إسحاق: يريد بقوله " مَن مَعِي " أي من الذي عندي، أو من
الذي قبلي. ثم بين فقال:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
(٢٥)
و (نُوحِي إِلَيْهِ) ويجوز يُوحِي إليه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
* * *
وقوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦)
يعنى الملائكة وعيسى ابنَ مَرْيَمَ عليه السلام.
والذي في التفسير أنهم الملائكةُ، ولو قرئت بل عباداً مكْرَمِينَ لم يجز لمخالفة المصحف، وهي في العربية جائزة ويكون المعنى: بل اتَخَذَ عِباداً مُكْرَمِين، والرفع أجْود وأحْسَنُ
قوله: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠)
سماء واحدة، وكذلك الأرضون كانت أرضاً واحدة، فالمعنى أن السَّمَاوَات
كانتا سماء واحدة مُرْتَتَقَةً ليس فيها ماء، ففتق اللَّه السماء فجعلها سَبْعاً وجعل الأرْضَ سَبْعَ أرضين.
وجاء في التفسير أن السًماء فتقت بالمطر، والأرضَ بالنبَاتِ، وَيَدلُّ على
أنه يراد بفتقها كون المطر فيهَا قوله - عزَّ وجلَّ -: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
وقيل (رَتْقاً) ولم يَقُلْ رتقَيْن، لأن الرتق مَصْدَر.
المعنى كانتا ذَوَاتِيْ رَتْقٍ فَجُعِلَتَا ذواتَيْ فتْقٍ.
ودَلَّهم بهذا عَلَى توحِيده - جلَّ وعزَّ - ثم بَكَّتَهُمْ فقال: (أفَلَا يؤمِنُونَ).
* * *
وقول: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١)
المعنى كراهة أن تميد بهم، وقال قوم: معناه ألا تميدَ بهم.
والمعنى كذلك، إلا أن " لا " لا تُضْمَرُ والاسم المضاف يحذف، وكراهة أن تميدَ بِهِمْ يؤدي عن معنى ألَّا تميد بهم.
ومعنى تميد في اللغة تدور، ويقال للذي يُدَارُ بِهِ إذا رَكِبَ البحرَ مَائِد.
ومَيْدَى
والرواسي تعني الجبال الثوابت.
(وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً).
فِجَاج: جَمع فَجٍّ، وهوكل منخرق بين جبلين، وسُبُلاً: طُرَقاً.
* * *
(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (٣٢)
حَفِظَهُ اللَّه من الوُقُوع على الأرْض (إلا بإذْنِهِ) وقيل محفوظاً، أيْ
(وَهُمْ عَنْ آيَاتنَا مُعْرِضُونَ).
معناه وهم عنْ شَمْسِها وقَمرها ونُجُومها، وقد قُرئت عن آيتها، وتأويله
أن الآية فيها في نفسها أعظم آيةً لأنها مُمْسَكة بقدرته عزَّ وجلَّ، وقد يقال
للذي ينتظم علامات كثيرةً آية، يراد به أنه بجملته دليل على توحيد اللَّه
عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
قيل يسبحون كما يقال لما يعقل، لأن هذه الأشياء وصفت بالفعل كما
يوصف مَنْ يعقل، كما قالت العرب - في رواية جميع النحويين - أكلوني
البراغيث لما وصفت بالأكل قيل أكلوني.
قال الشاعر:
شربت بها والدِّيكُ يَدْعُو صَباحَهُ... إِذا ما بَنُو نَعْشٍ دَنَوْا فتَصَوَّبُوا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (٣٤)
(أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ).
يُقْرأ مُتَّ بضم الميم، ومِتَّ بكسرها، وأكثر القُراء بِالضم.
وقد فسرنا ما في هذا الباب.
زُرْتني فأنا أخوك، ودخلت الفَاءُ على " هم " لأنها جواب (إنْ).
* * *
وقوله: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٦)
(أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)
(هذا) على إضمار الحكاية، المعنى وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا يقولون أهذا الذي يَذْكُرُ آلهتكم.
والمعنى أهذا الذي يعيب آلهتكم يقال فلان يَذْكُرُ الناس أي يغْتَابُهُمْ ويَذْكُرُهُمْ بالعُيوبِ، ويقال فلان يذكر اللَّه، أي يصفه بالعظمة، وُيثْنِي عليه وُيوَحِّدُه. وإنما يحذف مع الذكر ما عُقِلَ معناه.
قال الشاعر:
لا تذكري فرسي وما أطعمته... فيكون لَوْنُكِ مثل لون الأجْرَبِ
المعنى لا تذكري فرسي وإحساني إليه فتعيبيني بإيثاري إيَّاهُ عليك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧)
قال أهل اللغة: المعنى خُلِقَتِ العَجَلَةُ مِنَ الإنْسانِ، وحقيقته يدل
عليها، (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولًا)، وإنما خوطبت العرب بما تعقل، والعرب
تقول للذي يكثر الشيء خُلِقْتَ منه، كما تقول: أنْتَ مِنْ لَعِبٍ، وخلقت من لعبٍ، نريد المبالغة بوصفه باللعب.
* * *
وقوله: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩)
أي حينَ لا يَدْفَعُونَ عن وُجُوهِهمُ النارَ، وجَوَابُ (لو) محذوف، المعنى
وجعل الله عزَّ وجلَّ الساعة مَوْعِدَهم ثم قال:
(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)
بغتة فُجَاءَةً وهم غافلون عنها، فتبهتم فتحيرهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢)
معناه - واللَّه أعلم - من يحفظكم من بأس الرحمن، كما قال: (فَمَنْ
يَنْصُرُني مِنَ اللَّه) أي من عذاب الله.
وقوله: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (٤٤)
(أفَهُمُ الغَالِبُونَ).
أي قد تبين لكم أنا ننقص الأرض من أطرافها، ولأن الغلبة لنا، وقد
فسرنا نأتي الأرض نَنقصُهَا من أطرافها في سورة الرعد، أي فاللَّه الغالب
وهم المغلوبون، أعني حزب الشيطان.
* * *
وقوله: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (٤٥)
(وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ).
ويجوز ولا تُسمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ، والضم هَهُنا المعوضون عَما يُتْلَى
عَلَيْهِمْ من ذكر اللَّه فهم بمنزلة من لا يسمع كما قال الشاعر:
أصم عما ساءه سميعُ.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٤٦)
أي إن مَسَّتْهُمْ أدنى شيء من العذاب.
(لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧)
(القسط) العدل، المعنى ونضع الموازين ذوات القسط، وقِسْط مثل
عدل مصدر يوصف به، تقول ميزان قِسْط وميزانان قِسْط، وموازين - قِسْطِ.
والميزان في القيامة - جاء في التفسير - أن له لساناً وكفتين، وتُمثَّلُ الأعمال بما يوزَنُ، وجاء في التفسير أنه يوزن خاتمة العَمَل، فمن كانت خاتمة عَمَله
خيراً جوزي بخير، ومن كانت خاتمة عمله شرا فجزاؤه الشر.
وقوله: (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ).
نصب (مِثْقَالَ) على معنى وإنْ كان العَمَلُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ من خردل، ويقرأ
وإن كان مثقالُ حبَّةٍ بالرفع على معنى وإن حصل للعبد مثقال حبة من خردَل
أتَيْنَا بها.
(أَتَيْنَا بِهَا) معناه جئنا بها، وقد قُرئت آتينا بها على معنى جازينا بها
وأعطينا بها، وأتَيْنَا بها أحسنُ في القراءة وأقْرَبُ في أمل العَفْو.
(وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).
منصوب على وَجْهَيْن، على التمييز، وعلى الحال، ودخلت الباء في
وكفى بنا، لأنه خبر في معنى الأمر، المعنى اكتفوا باللَّهِ حسيباً.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)
جاء عن ابن عباس أنه يرى حذف الواو، وقال بعض النحويين معناه
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضِياء وعند البَصْريينَ أن الواو لا تُزَادُ وَلَا
تَأتي إلُّا بمعنى العطف.
وتفسير الفرقان: التوراةُ التي فيها الفرق بين الحلال
ويجوز وذكرى لِلمُتقينَ.
* * *
وقوله: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
المعنى هذا القرآن ذكر مبارك.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١)
أي آتيناه هداه حَدَثاً، وهو مثل قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا).
* * *
وقوله: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ
(٥٢)
" إذْ " في موضع نصبٍ، المعنى آتيناه رشده في ذلك الوقت، ومعنى
التماثيل ههنا الأصنام، ومعنى العُكوفُ المُقَامُ على الشيء.
* * *
وقوله: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧)
معناه - واللَّه أعلم - وَوَاللَّهِ لأكيدَن، ولا تصلح التاء في القسم إلا في
الله، تقول: وحق اللَّهِ لأفْعَلَنَّ، ولا يجوز تَحق اللَّه لأفعلن، وتقول وحق زيد لأفعلن، والتاء بدل من الواو، ويجوز وَبِاللَّهِ لأكيدَنَّ أصنامكم.
وقراءةُ أهل الأمصار تاللَّهِ، ولا نعلم أحداً من أهل الأمصار قرأ بالباء، ومعناها صحيح جيِّدٌ.
* * *
وقوله: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)
وَجِذَاذاً تقرأ بالضمِّ والكسر فمن قرأ (جُذَاذاً) فَإن بِنْيةَ كُل ما كُسِّر
جذِيذ وجِذَاذٍ نحو ثَقيل وثقال وخَفيف وخِفَاف.
ويجوز جَذاذاً على معنى القَطَاع والحَصَادِ، ويجوز نُجذُذ على معنى جَذِيدَ وجُذُذ مثل جَدِيد وجُدُد.
وقوله: (إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ) أي كسَّر هذه الأصْنَام إلَّا أكبَرَهَا، وجائزٌ أن يكون
أكبرها عندهم في تعظيمهم إياه، لا في الخلقة، ويجوز أن يكون أعظمَها
خلقة.
ومعنى (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ).
أي لعلْهم باحتجاج إبراهيم عليهم به يَرْجِعُون فيعلمون وجوبَ الحجةِ -
عليهم.
* * *
قوله: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (٦٠)
أيْ يَذْكُرُهُمْ بالعَيْب، وقالوا للأصنام يَذْكرهم لأنهم جعلوها في عبادتِهم
إياها بمنزله ما يعقل، وإبراهيم يرتفع على وجهين:
أحَدُهُما على معنى يقال له هو إبراهيم، والمعروف به إبراهيم، وعلى النداء على معنى يقال له يا إبراهيم.
* * *
(قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١)
أي لعلهم يعرفونه بهذا القول فَيَشْهَدُونَ عَلَيْه، فيكون ما ينزله بهِ بحُجةٍ
عليه، وجائز أن يكون لَعَلَّهم يَشْهدون عقوبتنا إياه.
* * *
(قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)
يعني الصَّنَم العظيم.
(فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ).
في التفسير أن إبراهيم نطق بثلاث كلمات على غير ما يوجبه لفطها لما في
ذلك من الصلاح، وهي قوله: (فَقَالَ إني سَقِيم) وقوله (فَعَلَه كَبيرهمْ هَذَا).
وقوله إنَّ سَارَّة أخْتي، والثلاث لهن وجه في الصدْقِ بَيِّنٌ.
فسَارَّة أخته في الدِّين، وقوله (إني سَقِيمٌ) فيه غير وجه أحدها إني مغْتَمٌّ بِضَلاَلتِكمْ حتى أنا كالسقيم، ووجه آخر إني سقيم عندكم، وجائز أن يكون ناله في هذا الوقت مَرَضٌ.
ووجه الآية ما قلناه في قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ).
واحتج قوم بأن قول إبراهيم مثل قول يوسف لِإخوته: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) ولَم يَسْرِقوا الصَّاعَ، وهذا تأويله - واللَّه أعلم - إنكم لسارقونَ يوسف.
* * *
وقوله: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
جاء في التفسير أنه أدْركتِ القومَ حَيْرَة.
ومعنى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ).
أي ثم نكسوا على رؤوسهم فقالوا لِإبراهيم عليه ابسلام: (لَقَدْ عَلِمْتَ ما
هؤلاء يَنْطِقَون)، فقد اعترفوا بعجز ما يعبدونه عن النطق.
يقرأ (أُفِّ لَكُمْ) بغير تنوين، وَ (أُفٍّ) بتنوين، ويجوز أفٌّ لكم وأفُّ لكم
- بالضم والتنوين وبترك التنوين - ويجوز أُفَّ لكم بالفتح.
فأمَّا الكسر بغير تنوين فلالتقاء السَّاكنين وهما الفاءان في قوله أف، لأن ما أصل الكلمة السكون لأنها بمنزلة الأصوات، وحذف التنوين لأنها معرفة لا يَجِبُ إعرابها، وتفسيرها (النَّتْنُ) لكم ولما تعبدون فمن نَوَّنَ جعله نكرة بمنزلة نَتْناً لكم ولما تعبدون من دون اللَّه، وكسر لأن أصل التقاء السَّاكنين الكسر، ولأن أكثر الأصوات مَبْني على الكسر نحو قوله غَاقْ وجَيْرِ وأمْسِ وويه، ويجوز الفتح لالتقاء السَّاكنين لثقل التضعيف والكسر، ويجوز الضم لضمةِ الألفِ كما قالوا: رُدَّ يا هذا ورُدُ، ورُدِ - بالكسر، ومن نوَّنَ مع الضم فبمنزلة التنوين مع الكسر.
* * *
وقوله: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (٧١)
جاء في التفسير أنها من أرض الشام إلى العراق.
* * *
قوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (٧٢)
النافلة ههنا وَلَدُ الوَلدِ، يعني به يعقوبُ خاصة
* * *
وقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٧٣)
(إقَامَ الصَّلَاةِ).
إِقام مفرد قليل في اللغة، تقول أقمت إقامَةً، قاما إقام الصلاة فجائز
لأن الِإضافة عوض من الهاء.
* * *
وقوله: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (٧٤)
(لوطاً) منصوب بفعل مضْمَرٍ لأن قبله فعلاً، فالمعنى وأوحينا إليهم وآتينا
لُوطاً آتيناه حكماً وعِلْماً، والنصب ههنا أحسن من الرفع لأن قبل آتينا فِعْلاً وقد
إبراهيم قد جرى فحمل لوط على معنى واذكر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)
منصوب على واذكر، وكذلك قوله:
(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨)
على مَعْنى واذكر داوود وسليمان (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ)
النفْش بالليل، والهَمَلُ بالنهار.
وجاء في التفسير أن غنماً على عهد داوود وسُلَيْمَانَ مَرتْ بحَرْثٍ لِقَوم
فَأفْسدَتْه، ورُوِيَ أن الحَرْث كان حنطة، ورُوِيَ أنه كان كرماً، فأفسدت ذلك الحرث فحكم داود بدفع الغنم إلى أصحاب الكرم وحكم سليمان بأن يدفع الغنم إلى أصحاب الكرم فيأخذوا منافعها من ألْبانها وأصوافها وعَوَارِضها إلى أن يعودَ الكرمُ كهيئتِه وقت أفْسِدَ فإذا عاد الكرم إلى هيئته رُدَّتِ الغنم إلى أرْبابها ويدفع الكرم إلى صاحب الكرم.
قال أبو إسحاق: يجوز أن تكون عوارضُها من أحد وجهين، إما أن يكون
جمع عريض وعُرْضَان، وهو اسم للحَمَلِ، وأكثر ذلك في الجدْي، ويجوز أن
يكون بما يعرض من منافِعِها حتى يَعُودَ الكَرْمُ كما كان، وهذا - واللَّه أعلم - يدل على أن سُليمان عَلِمَ أن قيمةَ ما أفْسَدَتِ الغنمُ من الكرم بمقدار نفع
الغنم.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (٧٩)
أي فهمناه القَضيةَ، والحكومةَ.
(وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا).
ويجوز والطُّيْرُ، على العطف على ما في يسبحن، ولا أعلم أحداً قَرأ بها.
(وَكُنَّا فَاعِلِينَ).
أي وكنا نقدر على ما نريده، ونصب " الطيرَ " من جهتين "
إحداهما على معنى وسَخرنَا الطيرَ.
والأخرى على معنى يسبحن مع الطير.
* * *
وقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (٨٠)
وقرئت (لنحصنكم من بأسكم) بالنون، ويجوز (ليُحصِنكُمْ) بالياء.
فمن قرأ بالياء أراد ليحصنكم هذا اللبوسُ، ويجوز على معنى ليحصنَكُمْ بالياء، فمن قرأ بالياء أراد ليحصنكم هذا اللبوسُ، ويجوز على معنى ليحصنَكُمْ اللَّهُ من باسكم وهي مثل لِنُحَصنَكُمْ - بالنون
ومن قرأ بالتاء أراد لتُحْصِنَكُمْ الصنعةُ.
فهذه الثلاثة الأوجه قد قرئ بهِنَّ، ويجوز فيها ثلاث لم يُقْرأ بهِنَ، ولا ينبغي
أن يُقْرأ بهِنَ لأن القراءة سنة.
يجوز لنحصِّنَكمْ بالنون والتشديد، ولتحصِّنَكُمْ بالتاء والتشديد.
وليحصِّنَكمْ بالياء مشددَةَ الصاد في هذه الثلاث.
وعلَّم الله داوودَ صنعةَ الدروع من الزَرَدِ، ولم تَكن قبلَ دَاوود عليه السلام
فجمَعَتِ الخفَةَ والتحْصِينَ، كذا رُوِيَ.
* * *
(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (٨١)
وقرئت الرياح عاصفة، وقرئت الريحُ عاصفةً - برفع الريح.
فمن قرأ الريحُ عَاصِفَةً بالنصب فهي عطف على الجبال.
والمعنى وسخرنا مع داود الجبال، وسخرنا لسليمان الريح، وعاصفةً منصوب على الحال ومن قرأ الريحُ
(تجري بأمره إلى الأرض) ففي الكلام دليل على أن اللَّه جل ثناؤه - سخَّرهَا.
* * *
وقوله: (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (٨٢)
يجوز أن يكون موضع " مَنْ " نصباً عطفاً على الريح، ويجوز أن يكون " مَنْ "
- في موضع رفع من جهتين:
إحداهما العطف على الريح، المعنى ولسليمان الريح وله من يَغُوصونَ من الشياطين، ويجوز أن يكون رفعاً بالابتداء، ويكون " له " الخبر.
وقوله: (وَيعملون عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ).
معناه سوى ذلك، أي سوى الغوص.
(وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ).
كان اللَّه يحفظهم مِن أنْ يُفْسِدُوا مَا عَمِلُوا.
* * *
وقوله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
(٨٣)
(أَيُّوبَ) منصوب على معنى واذكر أَيُّوبَ.
* * *
وقوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (٨٤)
أكثر التفاسير أن اللَّه - جل ثناؤه - أحيا من مات من بنيه وَبَنَاتِه ورَزَقَه
مِثلهمْ من الْوَلَدِ، وقيل (آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) آتيناه في الآخرة.
* * *
(وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥)
هذا كله منصوب على (واذكر).
يقال إن ذا الكفل سمي بهذا الاسم لأنه تكفل بأمر نَبّيٍّ في أمَّتِهِ فقام بما يجب فيهم وفيه، ويقال إنه تكفل بعمل رجل صالحٍ فقام به، والكِفْلُ في اللغة الكسَاءُ الذي يُجْعَلُ وراء الرَّحْل على
* * *
وقوله: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)
(ذَا النُّونِ) يونس، والنون السمكة، والمعنى واذكر ذا النون، ويررى أنه
ذهب مغاضباً قومه، وقيل إنه ذهَب مغاضبا مَلِكاً من الملوك.
(فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ).
أي ظن أن لن نُقَدِّرَ عَليه ما قَدَّرْنَاهُ من كونه في بطن الحوت، ويقْدِر
بمعنى يُقَدِّر.
وقد جاء هذا في التفسير، وقد روي عن الحسن أنه قال عَبْدٌ أبَق
مِنْ رَبِّه، وتأويل قول الحسن أنه هرب من عذاب رَبِّه، لا أن يُونُسَ ظن أن
الهرب ينجيه من اللَّه - عزَّ وجلَّ - وَلَا مِنْ قَدَرِه.
وقوله: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ).
(في الظلمات) وجهانِ، أحدهما يعنى به ظلمةُ الليل وظلمةُ البحر.
وظلمةُ بطن الحوت، ويجوز أن يكون " نادى في الظلمات " أن يكون أكثر
دعائه وندائه كان في ظُلُماتِ الليْلِ.
والأجود التفسير الأول لأنه في بطن الحوت لا أحسبه كان يفصل بين ظلمة الليل وظلمة غيره ولكنه أولُ ما صادف ظلمةُ الليل ثم ظلمة البحر ثم ظلمة بطن الحوت.
وجائز أنْ يَكُونَ الظلُماتُ اتفَقت في وقتٍ واحِدٍ، فتكون ظلمة بطن الحوت في الليل والبحرِ نهايَةً في الشِّدَّةِ.
(وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)
الذي في المصحف بنون واحدة، كَتِبَتْ، لأن النون الثانية تَخْفَى مَعَ
الجيم، فأمََّا ما روي عَنْ عَاصم بنون واحدة فَلَحْن لا وجه له، لأن ما لا
يُسمَّى فاعِلُه لا يكون بِغَير فاعل.
وقد قال بعضهم: نُجِّي النَجَاءُ المؤمنين.
وهذا خطأ بإجماع النحويين كلهم، لا يجوز ضُرِبَ زيداً -، تريد ضرب الضرب زيداً لأنك إذا قلتَ ضرب زيد فقد علم أنه الذي ضُربَه ضَرْبٌ، فلا فائدة في إضماره وإقامته مع الفاعل.
ورواية أبي بكر بن عياش في قوله نُجِّي المؤمنين يخالف قراءة أبي عمروٍ نُنْجي بنونين (١).
* * *
وقوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠)
(وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ)
يروى أنها كانت عقيماً فجعلها اللَّه - عزَّ وجلَّ - ولوداً، ويروى أنه كان
في خُلُقِها سُوءٌ فأصلح اللَّه ذلك وحسنَ خُلُقَها.
وقوله: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا).
وقرئتْ رغْباً ورَهْباً، فالرَّغبُ والرهْبُ مَصْدرَانِ، ويجوز رُغْباً ورُهْباً، ولا
أعلم أحداً قرأ بهما، أعني الرغْب والرهْبُ - في هذا المَوْضِع.
والرُّغْبُ والرَّغَب مثل البُخْل والبَخَل، والرُّشْد والرَّشَد.
* * *
وقوله: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٩١)
" التي " في موضع نَصْبٍ، المعنى واذكر التي أحصنت فرجها.
ويروى في بعض التفسير أنه يعني جيبها.
قوله: ﴿وكذلك نُنجِي﴾: الكاف نعتٌ لمصدرٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ. وقرأ العامَّة «نُنْجي» بضم النونِ الأولى وسكونِ الثانية مِنْ أَنْجى يُنْجي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم «نُجِّيْ» بتشديد الجيمِ وسكونِ الياءِ. وفيها أوجهٌ، أحسنها: أن يكونَ الأصل «نُنَجِّي» بضمِّ الأولى وفتح الثانيةِ وتشديد الجيمِ، فاستثقل توالي مِثْلين، فحُذِفت الثانيةٌ، كما حُذِفَت في قوله ﴿وَنُزِّلَ الملائكة﴾ [الفرقان: ٢٥] في قراءةِ مَنْ قرأه كما تقدَّم، وكما حُذِفَتْ التاءُ الثانيةُ في قولِه ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٢] و ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٥] وبابِه.
ولكنَّ أبا البقاء استضعَفَ هذا التوجيهَ بوجهين فقال: «أحدهُما: أنَّ النونَ الثانية أصلٌ، وهي فاءُ الكلمةِ فَحَذْفُها يَبْعُدُ جداً. والثاني: أنَّ حركَتها غيرُ حركةِ النونِ الأولى، فلا يُسْتَثْقَلُ الجمعُ بينهما بخلافِ» تَظاهَرون «ألا ترى أنَّك لو قلتَ:» تُتَحامى المظالِمُ «لم يَسُغْ حَذْفُ الثانية».
أمَّا كونُ الثانيةِ أصلاً فلا أثرَ له في مَنْعِ الحَذْفِ، ألا ترى أن النَّحْويين اختلفوا في إقامة واستقامة: أيُّ الألفينِ المحذوفة؟ مع أنَّ الأولى هي أصلٌ لأنَّها عينُ الكلمةِ. وأمَّا اختلافُ الحركةِ فلا أثرَ له أيضاً؛ لأنَّ الاستثقالَ باتحادِ لفظِ الحرفين على أيِّ حركةٍ كانا.
الوجه الثاني: أن «نُجِّي» فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول، وإنما سُكِّنَتْ لامُه تخفيفاً، كما سُكِّنت في قوله: ﴿مَا بَقِيْ مِنَ الربا﴾ [البقرة: ٢٧٨] في قراءةٍ شاذةٍ تقدَّمَتْ لك. قالوا: وإذا كان الماضي الصحيحُ قد سُكِّن تخفيفاً فالمعتلُّ أولى، فمنه:
٣٣٥٧ إنّما شِعْرِيَ قَيْدٌ... قد خُلِطْ بجُلْجُلانِ
وقد ذَكَرْتُ منه جملةً صالحةً.
وأُسْنِدَ هذا الفعلُ إلى ضميرِ المصدرِ مع وجودِ المفعول الصريحِ كقراءةِ أبي جعفرٍ ﴿ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الجاثية: ١٤] وهذا رأيُ الكوفيين والأخفش. وقد ذكرْتُ له شواهدَ فيما مضى من هذا التصنيفِ، والتقدير: نُجِّيَ النَّجاءُ. قال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ من وجهين، أحدُهما: تسكينُ آخرِ الفعلِ الماضي، والآخرُ إقامةُ المصدرِ مع وجودِ المفعولِ الصَّريح». قلت: عَرَفْتَ جوابَهما ممَّا تقدم.
الوجه الثالث: أنَّ الأصلَ: ننجِّي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنَّ النونَ الثانيةَ قُلِبَتْ جيماً، وأُدغِمت في الجيم بعدها. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن النونَ لا تُقارِبُ الجيمَ فتُدغَمُ فيها.
الوجه الرابع: أنه ماضٍ مسندٌ لضمير المصدرِ أي: نُجِّي النَّجاءُ كما تقدم في الوجه الثاني، إلاَّ أن «المؤمنين» ليس منصوباً بنجِّي بل بفعلٍ مقدرٍ، وكأنَّ صاحبَ هذا الوجهِ فَرَّ من إقامةِ غيرِ المفعول به مع وجودِه، فجعله مِنْ جملةٍ أخرى.
وهذا القراءةُ متواترةٌ، ولا التفاتَ على مَنْ طَعَن على قارئِها، وإنْ كان أبو عليٍ قال: «هي لحنٌ». وهذه جرأةٌ منه قد سبقه إليها أبو إسحاق الزجَّاج. وأمَّا الزمخشري فلم يَطْعن عليها، إنما طعن على بعضِ الأوجهِ التي قدَّمْتُها فقال: «ومَنْ تَمَحَّل لصحتِه فجعله فُعِل وقال: نُجِّي النَّجاءُ المؤمنين، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدرِه ونَصَبَ المؤمنين، فتعسُّفٌ باردُ التعسُّفِ». قلت: فلم يَرْتَضِ هذا التخريجَ بل للقراءةِ عنده تخريجٌ آخرُ. وقد يمكنُ أن يكونَ هو الذي بدأت به لسلامتِه ممَّا تقدَّم من الضعف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
لو قيل آيتين لصلح، ولكن لما كان شأنهما واحدا، وكانت الآية فيهما جميعا معناها آية واحدة، وهي ولادة من غير فحل، جاز أن يقول آية.
وقوله: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)
(أُمَّتُكُمْ) رفع خبر هذه، المعنى أن هذه أمتكم في حال اجتماعها على الحق، فإذا افترقت فليس من خالف الحق داخلا فيها، ويقرأ (أمةٌ واحدةٌ)، على أنه خبر بعد خبر، ومعناه إن هذه أمة واحدة ليست أمماً، ويجوز نصب (أُمَّتَكُمْ) على معنى التوكيد، قيل إن أمتكم كلها أمة واحدة (١).
وقوله: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)
المعنى أن الله أعلمهم أن أمر الحجة واحد، وأنهم تفرقوا، لأن تقطيعهم أمرهم بينهم تفرقة.
وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (٩٤)
كفران: مصدر مثل الغفران والشكران، والعرب تقول:
غفرانك لا كفرانك.
وقوله عز وجل: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٩٥)
قُرئت: حِرمٌ وحَرَامٌ، هاتان أكثر القراءة، وقد قرئت حَرُمَ على قريةٍ، وحَرِم على قريةٍ.
وجاء في التفسير حِرمٌ في معنى حتْمٌ.
وجاء أيضا عن ابن عباس أنه قال:
حَتْم عليهم ألا يرجعوا إلى دنياهم، وجاء عنه وعن قَتادة أنهم لا يرجعون إلى توبة، وعند أهل اللغة حِرْمٌ وحرام في معنى واحد، مثل: حِلٌ وحلالٌ.
وظاهر "حرام عليهم أنهم لا يرجعون"، يحتاج إلى أن يُبَيَّن، ولا أعلم أحداً من أهل اللغة، ولا من أهل التفسير بَيَّنه.
قوله: ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾: العامَّةُ على رفع «أمتكُم» خبراً ل «إنَّ» ونصب «أمةً واحدةً» على الحالِ. وقيل على البدل من «هذه»، فيكونُ قد فُصِلَ بالخبرِ بين البدلِ والمبدلِ منه نحو «إن زيداً قائمٌ أخاك».
وقرأ الحسنُ «أُمَّتَكم» بالنصبِ على البدل من «هذه» أو عطف البيان. وقرأ أيضاً هو وابن أبي إسحاق والأشهبُ العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وهارون عن أبي عمرو «أُمَّتُكم أمَّةٌ واحدةٌ» برفع الثلاثة على أنْ تكونَ «أمتُكم» خبرَ «إنَّ» كما تقدَّم و «أمةٌ واحدةٌ» بدلٌ منها بدلُ نكرةٍ من معرفةٍ، أو تكونَ «أمةٌ واحدةٌ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أعلمنا أن اللَّه عزَّ وجلَّ قَِد حرَّمَ قُبُولَ أعمال الكافرين وبين ذلك بقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)
فالمعنى حَرام عَلَى قَرْيةٍ أهلكناها أن نَتقبل منهم عملًا لأنهم لا يرجعون، أي لا يتوبون، وحَرِمَ وحَرُمَ في معنى حرام.
إلا أنَّ حَرَاماً اسم، وحَرِمَ وَحَرُمُ فعل (١).
* * *
وقوله: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ
(٩٦)
بهمزٍ وغير هَمْزٍ، وهما قبيلَتَانِ من خلق اللَّه.
ويروى أن الناس عشرة أجزاء تسعة منهم يأجوج ومأجوج، وهما اسمان أعجميان، واشتقَاقُ مثلهما من كلام العَرَبِ يخرج من أججت النار، ومن النار الأجَاجِ وهو أشَد وهو الشديد الملوحة، المحرق من مُلُوحَتِهِ.
وقوله: (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)
ورويت أيضاً من كل جَدَثٍ ينسلون، - بالجيم والثاء - والأجود في
هذا الحرف، (حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) بالحاء، والحدب كل أكَمةٍ، و (يَنْسِلُونَ) يُسْرِعُونَ.
* * *
وقوله: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (٩٧)
قال بعضهم: [لا يجوز طرح الواو] (٢).
والجوابُ عِندَ البَصْريِّينَ قوله: (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا)
وههنا قول محذوف، المعنى حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوجُ واقترب الوعْدُ الحق قالوا: (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ).
وجاء في التفسير أن خروجَ يأجوجَ ومأجوجَ من أعْلَامِ الساعة.
قوله: ﴿وَحَرَامٌ﴾: قرأ الأخَوان وأبو بكر ورُوِيَتْ عن أبي عمرو «وحِرْمٌ» بكسرِ الحاء وسكونِ الراءِ. وهما لغتان كالحِلِّ والحَلال. وقرأ بن عباس وعِكْرمة و «حَرِمَ» بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم، على أنه فعلٌ ماضٍ، ورُوي عنهما أيضاً وعن أبي العالية بفتح الحاء والميم وضمِّ الراءِ بزنة كُرمَ، وهو فعلٌ ماض أيضاً. ورُوي عن ابن عباس فتحُ الجميع. وهو فعلٌ ماضٍ أيضاً. واليمانيُّ بضم الحاء وكسر الراءِ مشددةً وفتح الميم ماضياً مبنياً للمفعول. ورُوي عن عكرمةَ بفتح الحاء وكسرِ الراء وتنوين الميم.
فَمَنْ جعله اسماً: ففي رفعه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ، وفي الخبر حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدهُا: قوله ﴿أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ وفي ذلك حينئذٍ أربعةُ تأويلاتٍ، التأويلُ الأولُ: أنَّ «لا» زائدةٌ والمعنى: وممتنعٌ على قريةٍ قدَّرْنا إهلاكَها لكفرِهم رجوعُهم إلى الإِيمانِ، إلى أَنْ تقومَ الساعةُ. وممَّن ذهب إلى زيادتِها أبو عمروٍ مستشهداً عليه بقولِه تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] يعني في أحدِ القولين. التأويل الثاني: أنها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ المعنى: أنَّهم غيرُ راجعين عن معصيتهم وكفرِهم. التأويلُ الثالث: أنَّ الحرامَ يُرادُ به الواجب. ويَدُلُّ عليه قولُه تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ﴾ [الأنعام: ١٥١] وتَرْكُ الشِّرْكِ واجبٌ، ويَدُلُّ عليه أيضاً قولُ الخنساء:
٣٣٥٩ حرامٌ عليَّ لا أرى الدهرَ باكياً... على شَجْوِه إلا بَكَيْتُ على صَخْرِ
وأيضاً فمن الاستعمالِ إطلاقُ أحدٍ الضدين على الآخرِ.
ومِنْ ثَمَّ قال الحسن والسدي: لا يَرْجِعون عن الشرك. وقال قتادة: إلى الدنيا. التأويل الرابع: قال أبو مسلم ابن بَحْر: «حرامٌ: ممتنع. وأنهم لا يرجعون: انتفاء الرجوعِ إلى الآخرةِ، فإذا امتنع الانتفاءُ وَجَبَ الرجوعُ. فالمعنى: أنه يجبُ رجوعُهم إلى الحياة في الدار الآخرة. ويكون الغرضُ إبطالَ قولِ مَنْ يُنْكر البعثَ. وتحقيقُ ما تقدَّم من أنه لا كُفْرانَ لسَعْي أحدٍ، وأنه يُجْزَى على ذلك يومَ القيامةِ». وقولُ ابن عطية قريبٌ من هذا قال: «وممتنعٌ على الكفرةَ المُهْلَكين أنهم لا يَرْجعون إلى عذاب الله وأليم عِقابِه، فتكون» لا «على بابِها، والحرامُ على بابه».
الوجه الثاني: أنَّ الخبرَ منحذوفٌ تقديرُه: حرامٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثهم، ويكونُ «أنَّهم لا يَرْجعون» علةً لما تقدَّم من معنى الجملة، ولكن لك حينئذ في «لا» احتمالان، الاحتمال الأول: أَنْ تكونَ زائدةً. ولذلك قال أبو البقاء في هذا الوجهِ بعدَ تقديرِه الخبرَ المتقدم: «إذا جَعَلْتَ لا زائدةً» قلت: والمعنى عنده: لأنهم يَرْجعون إلى الآخرة وجزائها. الاحتمال الثاني: أن تكونَ غيرَ زائدةٍ بمعنى: ممتنعٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثِهم؛ لأنهم لا يَرْجعون إلى الدنيا فَيَسْتدركوا فيها ما فاتهم من ذلك.
الوجهُ الثالث: أَنْ يكونَ هذا المبتدأ لا خبرَ له لفظاً ولا تقديراً، وإنما رَفَع شيئاً يقوم مقامَ خبرِه من باب «أقائم أخواك». قال أبو البقاء: «والجيدُ أن يكونَ» أنهم «فاعلاً سَدَّ مَسَدَّ الخبر»، قلت: وفي هذا نظرٌ؛ لأن ذلك يًُشْترطُ فيه أن يَعتمد الوصفُ على نفيٍ أو استفهامٍ، وهنا فلم يعتمِدْ المبتدأُ على شيءٍ من ذلك، اللهم إلاَّ أَنْ ينحوَ نَحْوَ الأخفشِ، فإنه لا يَشترطُ ذلك. وقد قررتُ هذه المسألةَ في غيرِ هذا الموضوع، والذي يظهر قولُ الأخفش، وحينئذ يكون في «لا» الوجهان المتقدمان من الزيادة وعدمِها، باختلاف معنيين: أي امتنع رجوعُهم إلى الدنيا أو عن شركِهم إذا قَدَّرْتَها زائدةٌ، أو امتنع عدمُ رجوعِهم إلى عقابِ اللهِ في الآخرة إذا قَدَّرْتها غيرَ زائدة.
الوجه الثاني: من وجهَيْ رفعِ «حرام» أنه خبرُ مبتدأ محذوف، فقدَّره بعضهم: الإِقالةُ والتوبةُ حرامٌ. وقَدَّره أبو البقاء: «أي ذلك الذي ذُكِرَ من العملِ الصالحِ حرامٌ». وقال الزمخشري: «وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها ذَاك، وهو المذكورُ في الآية المتقدمةِ من العملِ الصالح والسَّعيِ المشكورِ غير المكفورِ. ثم عَلَّل فقيل: إنهم لا يرجعون عن الكفر فكيف لا يمتنع ذلك؟
وقرأ العامَّةُ» أَهْلكناها «بنونِ العظمة. وقرأ أبو عبد الرحمن وقتادةُ» أهلكتُها «بتاءِ المتكلم. ومَن قرأ» حَرِمٌ «بفتح الحاءِ وكسرِ الراء وتنوينِ الميم، فهو في قراءتِه صفةٌ على فَعلِ نحو: حَذِر. وقال:
٣٣٦٠ وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
ومَنْ قرأه فعلاً ماضياً فهو في قراءتِه مسندٌ ل» أنَّ «وما في حَيِّزها. ولا يَخْفى الكلامُ في» لا «بالنسبة إلى الزيادةِ وعدمِها، فإنَّ المعنى واضحٌ مما تقدَّم وقُرِىء» إنَّهم «بالكسرِ على الاستئناف، وحينئذٍ فلا بد من تقديرِ مبتدأ يَتِمُّ به الكلام، تقديرُه: ذلك العملُ الصالحُ حرامٌ. وتقدَّم تحريرُ ذلك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) التصويب من تفسير البغوي.
(٩٨)
قرئت على ثلاثهَ أوجه، حَصَبُ " جهَنمَ، وحطب جهَنَّمَ، وحَضَبُ جَهَنمَ
- بالضاد معجمة -. فمن قرأ حصَبُ فمعناها كل ما يرمى به في جهنم ومن
قال حطب فمعناه ما توقد به جهنم - كما قال عزَّ وجلَّ: (وَقُودُهَا النَّاسُ
والحِجَارَةُ)، ومن قال. حَضب - بالضادِ معجمة - فمعناه ما تهيجُ به النارُ
وتُذْكى به، والحَضْبُ الحيَّةُ (١).
* * *
وقوله: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (١٠٤)
وللكتاب، ويقرأ السِّجْل بتخفيف اللام، فمن خَففَ أسْكَنَ الجيم.
وجاء في التفسير أن السِّجِل الصحِيفةُ التي فيها الكتابُ.
وقيل إن السِّجِلً مَلَك وقيل إن السِّجل بِلُغَةُ الجيْشِ الرجُل.
وعن أبي الجوزاء أن السِّجِل كاتب كان للنبي - ﷺ - وتَمَامُ الكلام (للكُتُب).
وقوله: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ).
مستأنف، المعنى نبعث الخلق كما بدأناهم، أي قدرتنا على الإعادة
كَقدرتنا على الابتداء، ويجوز " يوم تُطوى السَّمَاءُ كطي السجِل "
ويجوز يوم يَطْوِي السمَاءَ كطيِّ السُّجِل، ولم يقرأ (يَطْوِي).
وقرئت نَطْوِي وتُطْوَى بالنون والتاء (٢).
وقوله: (وَعْدًا عَلَيْنَا).
(وَعْدًا) منصوب على المصَدْرِ، لأن قوله (نُعِيدُهُ) بمعنى وَعَدْنَا هَذَا وَعْدًا
وقرأ العامَّةُ «حَصَبُ» بالمهملتين والصادُ مفتوحةٌ، وهو ما يُحْصَبُ أي: يرمى في النارِ، ولا يقالُ له حَصَب إلاَّ وهو في النارِ. فأمَّا [ما] قبل ذلك فَحَطَبٌ وشجرٌ وغير ذلك وقيل: هي لغةٌ حبشية. وقيل: يُقال له حَصَبٌ قبل الإِلقاء في النار. وقرأ ابن السَّميفع وابن أبي عبلة ورُويت عن ابنِ كثير بسكونِ الصادِ وهو مصدرٌ، فيجوز أن يكونَ واقعاً موقع المفعول، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ. وقرأ ابن عباس بالضاد معجمةً مفتوحة أو ساكنةً، وهو أيضاً ما يُرمَى به في النار، ومنه المِحْضَبُ: عُوْدٌ تُحَرَّك به النارُ لِتُوقَدَ. وأًنْشِدَ:
٣٣٦٤ فلا تَكُ في حَرْبِنا مِحْضَباً... فتجعلَ قومَك شَتَّى شُعوبا
وقرأ أميرُ المؤمنين وأُبَيٌّ وعائشة وابن الزبير «حَطَبُ» بالطاء، ولا أظنُّها إلاَّ تفسيراً لا تلاوةً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿يَوْمَ نَطْوِي﴾: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ ب «لا يَحْزُنُهم». والثاني: أنه منصوبٌ ب «تتلقَّاهم». الثالث أنه منصوبٌ بإضمار اذكر أو أعني. الرابع: أنه بدلٌ من العائدِ المقدرِ تقديرُه: تُوْعَدُونه/ يومَ نَطْوي ف «يومَ» بدل من الهاء. ذكره أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ إذ يَلْزَمُ مِنْ ذلك خُلُوُّ الجملةِ الموصولِ بها من عائدٍ على الموصول، ولذلك مَنَعُوا «جاء الذي مررتُ به أبي عبد الله» على أن يكونَ «أبي عبد الله» بدلاً من الهاء لِما ذكرْتُ، وإن كان في المسألة خلاف. الخامس: أنه منصوبٌ بالفزع، قاله الزمخشري، وفيه نظر؛ من حيث إنه أَعْمَلَ المصدرَ الموصوفَ قبل أَخْذِه معمولَه.
وقد تقدَّم أنَّ نافعاً يقرأ «يُحْزِنُ» بضم الياء إلاَّ هنا، وأن شيخَه ابن َ القَعْقاع يَقْرأ «يَحْزُن» بالفتح إلاَّ هنا.
وقرأ العامَّة «نَطْوي» بنون العظمة وشيبة بن نصاح في آخرين «يطوي» بياء الغَيْبة، والفاعلُ هو الله تعالى، وقرأ أبو جعفر في آخرين «تطوى» بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وفتحِ الواوِ مبنياً للمفعول.
وقرأ العامَّةُ «السِّجِلِّ» بكسر السينِ والجيمِ وتشديدِ اللامِ كالطِّمِرِّ. وقرأ أبو هريرة وصاحبُه أبو زرعةَ بن عمرو بن جرير بضمِّهما، واللامُ مشددةٌ أيضاً بزنةِ «عُتُلّ». ونقل أبو البقاء تخفيفَها في هذه القراءةِ أيضاً، فتكونَ بزنةِ عُنُق، وأبو السَّمَّال وطلحة والأعمش بفتح السين. والحسن وعيسى بن عمر [بكسرِها]. والجيمُ في هاتين القراءتين ساكنةٌ واللامُ مخففةٌ، قال أبو عمرو: «قراءةُ أهلِ مكةً مثل قراءةِ الحسن».
والسِّجِلُّ: الصحيفةُ مطلقاً. وقيل: بل هو مخصوصٌ بصحيفةِ العهد، وهي من المساجلةِ، والسَجْل: الدَلْوُ الملأى. وقال بعضهم: هو فارسيٌّ معرَّب فلا اشتقاقَ له.
و «طَيّ» مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ. والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه: كما يطوي الرجلُ الصحيفةَ ليكتبَ فيها، أَو لما يكتُبه فيها من المعاني، والفاعلُ يُحْذف مع المصدرِ باطِّراد. والكلامُ في الكاف معروفٌ أعني كونَها نعتاً لمصدرٍ مقدرٍ أو حالاً مِنْ ضميرِه. وأصلُ طيّ: طَوْيٌ فأُعِلَّ كنظائره.
وقيل: السِّجِلُّ سامُ مَلَكٍ يَطْوي كتبَ أعمالِ بني آدم. وقيل: اسمُ رجلٍ كان يكتب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وعلى هذين القولين يكون المصدرُ مضافاً لفاعله. و «الكتاب» اسمٌ للصحيفةِ المكتوبِ فيها. وقال أبو إسحاق: «السِّجِلُّ: الرجلُ بلسان الحبشة». وقال الزمخشري: كما يطوى الطُّومارُ للكتابة، أي: ليُكتبَ فيه، أو لما يُكتب فيه؛ لأن الكتابَ أصلُه المصدرُ كالبناء ثم يوقع على المكتوب «. فقدَّره الزمخشريُّ من الفعلِ المبنيِّ للمفعول.
وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف.
واللام في «للكتاب»: إمَّا مزيدةٌ في المفعولِ إنْ قلنا إنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعلِه، وإمَّا متعلقةٌ بطَيّ، وإمَّا بمعنى «على». وهذا ينبغي أَنْ لا يجوزَ لبُعْدِ معناه على كل قولٍ. والقراءاتُ المذكورةُ في «السِّجِلْ» كلُّها لغات. وقرأ الأخَوان وحفص «للكتب» جمعاً، والباقون «للكتاب» مفرداً، والرسُم يحتملهما: فالإِفرادُ يُراد به الجنسُ، والجمعُ للدلالةِ على الاختلافِ.
قوله: ﴿كَمَا بَدَأْنَآ﴾ في متعلِّقِ هذه الكافِ وجهان، أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ ب «نُعِيده»، و «ما» مصدريةٌ و «بدأنا» صلتُها، فهي وما في حَيِّزِها في محلِّ جر بالكاف. و «أولَ خَلْقٍِ» مفعولُ «بَدَأْنا»، والمعنى: نُعيد أولَ خَلْقٍ إعادةً مثلَ بَداءَتِنا له أي: كما أبْرَزْناه من العَدَمِ إلى الوجودِ نُعيده من العَدَمِ إلى الوجود. وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال: «الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: نُعيده عَوْداً مثلَ بَدْئه» وفي قولِه: «عَوْد» نظرٌ إذ الأحسنُ أَنْ يقولَ: إعادة.
والثاني: أنها تتعلَّقُ بفعلٍ مضمرٍ. قال الزمخشري: «ووجهٌ آخرُ: وهو أَنْ تَنْتَصِبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره» نُعيده «و» ما «موصولةٌ أي: نُعيد مثلَ الذي بَدَأْنا نُعيده، و» أولَ خَلْقٍ «ظرف ل» بَدَأْناه «أي: أولَ ما خلق، أو حالٌ من ضميرِ الموصولِ السَّاقط من اللفظِ الثابتِ في المعنى».
قال الشيخ: «وفي تقديرِه تهيئةُ» بَدَأْنا «لأَنْ يَنْصِبَ» أولَ خَلْقٍ «على المفعوليةِ وقَطْعُه عنه، من غيرِ ضرورةٍ تدعو إلى ذلك، وارتكابُ إضمارٍ بعيدٍ مُفَسَّراً ب» نُعِيْدُه «، وهذه عُجْمَةٌ في كتاب الله. وأمَّا قولُه» ووجهٌ آخرُ: وهو أن تنتصبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّرُه «نُعِيْدُه» فهو ضعيفٌ جداً؛ لأنه مبنيٌّ على أن الكافَ اسمٌ لا حرفٌ، وليس مذهبَ الجمهور، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفشُ. وكونُها اسماً عند البصريين مخصوصٌ بالشعرِ «. قلت: كلُّ ما قَدَّره فهو جارٍ على القواعدِ المنضبطةِ، وقادَه إلى ذلك المعنى الصحيحُ، فلا مُؤَاخَذَةَ عليه. يظهرُ ذلك بالتأمُّلِ لغيرِ الفَطِنِ.
وأمَّا قوله:» ما «ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها مصدريةٌ. والثاني: أنَّها بمعنى الذي. وقد تقدَّم تقريرُ هذين والثالث: أنها كافةٌ للكافِ عن العملِ كما هي في قولِه:
٣٣٦٦........................... كما الناسُ مَجْرُوْمٌ عليه وجارِمُ
فيمَنْ رفع» الناس «. قال الزمخشري:» أولَ خَلْقٍ «مفعولُ» نُعيد «الذي يُفَسِّره» نُعِيده «، والكافُ مكفوفةٌ ب» ما «. والمعنى: نُعيد أولَ الخَلْقِ كما بَدَأْناه تَشْبيهاً للإِعادةِ بالابتداء في تناوُلِ/ القُدْرَةِ لهما على السَّواء.
فإنْ قلتَ: فما أولُ الخَلْقِ حتى يُعيدَه كما بدأه؟ قلت: أوَّلُه إيجادُه عن العَدَمِ، فكما أوجدَه أولاً عن عدمٍ يُعيده ثانياً عن عدمٍ «.
وأمَّا» أولَ خلق «فتَحصَّل فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مفعولُ» بَدَأْنا «. والثاني: أنه ظرفٌ ل» بَدَأْنا «. والثالث: أنه منصوبٌ على الحال مِنْ ضميرِ الموصولِ كما تقدَّم تقريرُ كل ذلك. والرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعول» نُعيده «قاله أبو البقاء، والمعنى: مثلَ أولِ خَلْقِه.
وأمَّا تنكيرُ» خَلْقِ «فللدلالةِ على التفصيلِ. قاله الزمخشري:» فإن قلتَ «ما بالُ» خَلْقٍ «منكَّراً؟ قلت: هو كقولِك:» هو أولُ رجلٍ جاءني «تريد: أول الرجال. ولكنك وَحَّدْتَه ونَكَّرتَه إرادةَ تفصيلِهم رجلاً رجلاً، وكذلك معنى» أولَ خَلْقٍ «بمعنى: أول الخلائق؛ لأنَّ الخَلْقَ مصدرٌ لا يُجْمَعُ».
قوله: ﴿وَعْداً﴾ منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة المتقدِّمة، فناصبُه مضمرٌ أي: وَعَدْنا ذلك وَعْداً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أي قادرين على فِعْل ما تشاءُ.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)
الزَّبُور: جميع الكتب، التوراة، والإنجيل، والفرقان، زبور، لأن الزَّبُورَ
والكتاب بمعنىً واحدٍ. ويقال زَبَرْتُ وكتبتُ بمعنىً واحدٍ، والمعنى: ولقد
كتبنا في الكتُبِ من بَعْدِ ذِكْرِنَا في السماء (الأرْضَ يرثها عبادِيَ الصالِحُونَ).
قيل في التفسير إنها أرْضُ الجنة، ودَليلُ هذا القول قوله:
(أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ).
وقيل إن الأرض ههنا يعنى بها أرض الدنيا، وهَذَا القَوْلُ أشْبَهُ -
كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) والأرْضُ إذَا ذُكِرَتْ فهي دليلة على الأرض التي نعرفها، ودليل هذا القول أيضاً: قوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا).
وهذه الآية من أجل شواهد الفقهاء أن الأرض ليس مجراها مجرى سائرِ
مَا يُعْمَرُ.
* * *
وقوله: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(١٠٨)
الأجود (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ) بفتح أنَّ، وهي القراءة، ولو قرئت إنما لجاز، لأن معنى
* * *
وقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (١٠٩)
(آذَنْتُكُمْ) أعْلَمْتكُم بما يوحى إليَّ لِتَسْتَوُوا في الإِيمان به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (١١١)
أي وما أدري ما آذنتكم به فتنة لكم أي اختبارٌ لَكُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١١٢)
(قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ).
ويقرأ: (قَلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ).
ويجوز وقد قرئ به: قال رَبِّي أَحْكَمُ بالحقِّ، وكان من مضى من الرُّسل يقولون: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ).
ومعناه احكم، فأمر اللَّه - عزَّ وجلَّ - نَبِيه أن يقول: (رَبِّ احكُمْ بالحَقِّ) (١).
وقوله: (وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).
أَيْ عَلى مَا تَكْذِبُون.
قوله: ﴿قَالَ﴾: قرأ حفص «قال» خبراً عن الرسولِ عليه السلام. الباقون «قل» على الأمر. وقرأ العامَّةُ «رَبِّ» بكسرِ الباءِ اجتزاءً بالكسرةِ عن ياءِ الإِضافةِ، وهي الفصحى. وقرأ أبو جعفر بضمِّ الباءِ، فقال صاحبُ «اللوامح»: «إنه منادى مفردٌ ثم قال:» وحَذْفُ حَرْفِ النداء فيما جاز أن يكونَ وصفاً ل «أَيّ» بعيدٌ، بابُه الشعرُ «. قلت: ليس هذا من المنادى المفردِ، بل نَصَّ بعضُهم على أنَّ هذه بعضُ اللغاتِ الجائزةِ في المضافِ إلى ياء المتكلم حالَ ندائه.
وقرأ العامَّةُ» احْكُمْ «على صورةِ الأمر. وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر» رَبِّيْ «بسكونِ الياء» أَحْكَمُ «أفعلُ تفضيلٍ فهما مبتدأ وخبر.
وقُرِىء» أَحْكَمَ «بفتح الميم كألزَمَ، على أنَّه فعلٌ ماضٍ في محلِّ خبرٍ أيضاً ل» ربِّي «وقرأ العامَّةُ» تَصِفُوْن «بالخطاب. وقرأ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على أُبَي رضي الله عنه» يَصِفُون «بالياء مِنْ تحت، وهي مَرْوِيَّةٌ أيضاً عن عاصم وابن عامر. والغيبة والخطاب واضحان. اهـ (الدُّرُّ المصُون).