تفسير سورة الحج

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الحج من كتاب التفسير القيم من كلام ابن القيم المعروف بـالتفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

سورة الحج

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الحج (٢٢) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١)
المرضع: من لها ولد ترضعه. والمرضعة: من ألقمت الثدي للرضيع.
وعلى هذا فقوله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
أبلغ من مرضع في هذا المقام. فإن المرأة قد تذهل عن الرضيع إذا كان غير مباشر للرضاعة. فإذا التقم الثدي واشتغلت برضاعه لم تذهل عنه إلا لأمر هو أعظم عندها من اشتغالها بالرضاع.
وتأمل رحمك الله السر البديع في عدوله سبحانه عن كل حامل إلى قوله: ذاتِ حَمْلٍ
فإن الحامل قد تطلق على المهيأة للحمل، وعلى من هي في أول حملها ومباديه. فإذا قيل: ذات حمل لم يكن إلا لمن قد ظهر حملها وصلح للوضع كاملا، أو سقطا. كما يقال: ذات ولد.
فأتى في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرضاعة دون التهيؤ لها.
وأتى في الحامل بالسبب الذي يحقق وجود الحمل وقبوله للوضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)
فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله. وتعلق بغيره.
ويجوز لك في هذا التشبيه أمران.
أحدهما: أن تجعله تشبيها مركبا. ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة. فصور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير في الهواء فتفرق مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة.
وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به.
الثاني: أن يكون من التشبيه المفرق، فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به.
وعلى هذا فيكون قد شبه الايمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه. فمنها هبط إلى الأرض وإليها يصعد منها.
وشبه تارك الايمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين، من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة. والطير التي تتخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها سبحانه وتعالى عليه تؤزه أزّا وتزعجه وتدفعه إلى مظان هلاكه. فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه، كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوى به في مكان سحيق: هو هواه الذي يحمله
على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء.
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)
حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره.
فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه.
وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره. والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب، ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا محا عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه. فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات، ولا على الانتصار منه، واسترجاع ما سلبهم إياه. فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها. فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟
وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك، وتجهيل أهله، وتقبيح عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة، حيث أعطوا الآلهة التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات، ولإحاطة بجميع المعلومات، والغني عن جميع المخلوقات، وأن يصمد إلى الرب في جميع الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات- فأعطوها الصور وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الإلة الحق، وأذلها وأصغرها وأحقرها. ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه.
385
وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء آلهتهم: أن هذا الخلق الأقل الأذل والعاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه.
ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ قيل: الطالب والعابد، والمطلوب: المعبود، فهو عاجز متعلق بعاجز.
وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب منه وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز.
وعلى هذا فقيل: الطالب الإله الباطل، والمطلوب الذباب يطلب منه، ما استلبه منه.
وقيل: الطالب الذباب، والمطلوب الإله فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه.
والصحيح: أن اللفظ يتناول الجميع، فضعف العابد والمعبود والمستسلب.
فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز، فما قدر الله حق قدره، ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظمه.
386
Icon