فيها ثلاث آيات
ﰡ
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَزَلَتْ :﴿ الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ﴾ إلَى قَوْلِهِ :﴿ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾. قَالَ : فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ.
وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : غَلَبَتِ الرُّومُ وَغُلِبَتْ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :( أَمَا إنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ ) فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ، فَقَالُوا : اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَك أَجَلًا ؛ فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا. فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ :( أَلَا أَخْفَضْت ). وَفِي رِوَايَةٍ :( أَلَا أَحْبَطْت ). وَفِي رِوَايَةٍ :( أَلَا جَعَلْته إلَى دُونٍ، أَرَاهُ الْعَشَرَةَ ).
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَالْبِضْعُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ ؛ ثُمَّ ظَهَرَتْ الرُّومُ ؛ فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :﴿ الم غُلِبَتْ الرُّومُ ﴾ إلَى قَوْلِهِ :﴿ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾
قَالَ سُفْيَانُ : سَمِعْت أَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ نِيَارِ بْنِ مَكْرَمٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ :﴿ الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ من بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ وَكَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَاهِرِينَ لِلرُّومِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ :﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ، وَلَا إيمَانٍ بِبَعْثٍ ؛ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ :﴿ الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ من بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾. قَالَ نَاسٌ من قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ : فَذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، زَعَمَ صَاحِبُك أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ؛ أَفَلَا نُرَاهِنُك عَلَى ذَلِكَ، قَالَ : بَلَى. وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ.
فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشْرِكُونَ، وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ، وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ : كَمْ تَجْعَلُ ؟ الْبِضْعُ ثَلَاثُ سِنِينَ إلَى تِسْعِ سِنِينَ. فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَسَطًا. قَالَ : فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ قَالَ : فَمَضَتْ السِّتُّ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا ؛ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَعَابَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : فِي بِضْعِ سِنِينَ. قَالَ : وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ ؛ فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ حِسَانٌ غُرَابٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُرَاهَنَةِ :
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْغَرَرِ وَالْقِمَارِ ؛ وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِلرِّهَانِ جَوَازٌ إلَّا فِي الْخَيْلِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾
الْبِضْعُ فِيهِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَا بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَى عَشْرَةٍ، أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ إلَى عِشْرِينَ، فَيُقَالُ : بِضْعَ عَشْرَةَ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَبِضْعَةَ عَشَرَ فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ.
الثَّانِي : الْبِضْعُ سَبْعَةٌ ؛ قَالَهُ الْخَلِيلُ.
الثَّالِثُ : الْبِضْعُ من الثَّلَاثِ إلَى التِّسْعِ.
الرَّابِعُ : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هُوَ مَا بَيْنَ نِصْفِ الْعِقْدَيْنِ، يُرِيدُ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إلَى الْأَرْبَعَةِ. الْخَامِسُ : هُوَ مَا بَيْنَ خَمْسٍ إلَى سَبْعٍ ؛ قَالَهُ يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ.
وَيُقَالُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا، قَالَ أَكْثَرُهُمْ : وَلَا يُقَالُ بِضْعٌ وَمِائَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى التِّسْعِينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إلَى الْعَشْرِ، وَبِذَلِكَ يَقْضِي فِي الْإِقْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي فُرُوعِ الْأَحْكَامِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا مَعَ نُظَرَائِهَا من آيَاتِ الصَّلَاةِ.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : بَيَّنَّا الرِّبَا وَمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَشَرَحْنَا حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَهُوَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ وَهُنَا مُحَلَّلٌ، وَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ قِسْمَانِ ؛ مِنْهُ حَلَالٌ وَمِنْهُ حَرَامٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الرَّجُلُ يَهَبُ هِبَةً يَطْلُبُ أَفْضَلَ مِنْهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي : أَنَّهُ الرَّجُلُ فِي السَّفَرِ يَصْحَبُهُ رَجُلٌ يَخْدُمُهُ وَيُعِينُهُ، فَيَجْعَلُ الْمَخْدُومُ لَهُ بَعْضَ الرِّبْحِ جَزَاءَ خِدْمَتِهِ، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ ؛ قَالَه الشَّعْبِيُّ.
الثَّالِثُ : الرَّجُلُ يَصِلُ قَرَابَتَهُ، يَطْلُبُ بِذَلِكَ كَوْنَهُ غَنِيًّا، لَا صِلَةً لِوَجْهِ اللَّهِ ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَّا مَنْ يَصِلُ قَرَابَتَهُ لِيَكُونَ غَنِيًّا فَالنِّيَّةُ فِي ذَلِكَ مُتَنَوِّعَةٌ، فَإِنْ كَانَ لِيَتَظَاهَرَ بِهِ دُنْيَا فَلَيْسَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَا لَهُ من حَقِّ الْقَرَابَةِ وَبَيْنَهُمَا من وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، فَإِنَّهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَنْ يُعِينُ الرَّجُلَ بِخِدْمَتِهِ فِي سَفَرِهِ بِجُزْءٍ من مَالِهِ فَإِنَّهُ لِلدُّنْيَا لَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُرْبِي لَيْسَ لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِيَرْبُوَ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَصَرِيحُ الْآيَةِ فِيمَنْ يَهَبُ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ من أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الْمُكَافَأَةِ، وَذَلِكَ لَهُ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ :" أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهَا لِلثَّوَابِ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ حَتَّى يَرْضَى مِنْهَا ".
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْهِبَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلَّهِ أَوْ لِجَلْبِ الْمَوَدَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ :( تَهَادَوْا تَحَابُّوا ).
وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ الْهِبَةَ لَا يَطْلُبُ إلَّا الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا، وَتَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْمَوَدَّةُ تَبَعًا لِلْهِبَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثَابَ عَلَى لَقْحَةٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى صَاحِبِهَا حِينَ طَلَبَ الثَّوَابَ، إنَّمَا أَنْكَرَ سَخَطَهُ لِلثَّوَابِ، وَكَانَ زَائِدًا عَلَى الْقِيمَةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا إذَا طَلَبَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ زَائِدًا عَلَى مُكَافَأَتِهِ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ قَائِمَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ، فَيَأْخُذُ مَا شَاءَ، أَوْ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ.
وَقِيلَ : تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، كَنِكَاحِ التَّفْوِيضِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ فَوَاتِ الْهِبَةِ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْقِيمَةُ اتِّفَاقًا.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ ﴾ أَيْ لَا تُعْطِ مُسْتَكْثِرًا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.