في السورة تنويه بالمؤمنين المحسنين وتقريع للكافرين المعطلين المستكبرين. وحكاية لبعض أقوالهم. وردود مفحمة عليهم وإشارة إلى لقمان وحكمته وجملة من مواعظه لابنه على سبيل ضرب المثل والحث على كريم الأخلاق والمبادئ. واستدراك في صدد طاعة الوالدين وتنويه بعظمة الله وسوابغ نعمه على الناس. وحث على الاستجابة إلى الدعوة وعدم إضاعة الفرصة. وتنديد بتمسك المشركين بتقاليد الآباء رغم سخفها وبطلها.
وأسلوب السورة وترابط فصولها يسوغان القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة.
وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [ ٢٧ – ٢٩ ] مدنية والرواية تتحمل التوقف لانسجام الآيات وتواثقها مع سائر الآيات السابقة واللاحقة لها.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الم ( ١ ) تلك آيات الكتاب الحكيم ( ٢ ) هدى ورحمة للمحسنين ( ١ )( ٣ ) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ( ٤ ) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( ٥ ) ﴾ [ ١ -٥ ].بدأت السورة بحروف الألف، واللام، والميم، لاسترعاء السمع والذهن لما بعدها. وأعقبها إشارة تنويهية إلى آيات الكتاب المحكم في أسلوبه وأهدافه وعظاته، الذي فيه الهدى والرحمة لمن حسنت نيتهم وأعمالهم، التي منها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان اليقيني بحقيقة الحياة الأخروية وما وعد الله فيها.
فهؤلاء هم على هدى الله وهم الناجحون الفائزون.
وصيغة الآية الخامسة تنطوي كما هو المتبادر على التنويه بشأن الذين تحققوا بالصفات الثلاثة التي جمعت الآية الرابعة بينها، وينطوي فيها بطبيعة الحال حث على التحقق بها، وروح الآية الثالثة ومضمونها يلهمان تقرير كون الذين ينتفعون بآيات الكتاب ويكون لهم فيها هدى ورحمة هم ذوي القلوب السليمة والروح الطيبة الراغبة في الحق والخير والهدى. ولقد نبهنا إلى ما في التنويه بالمحسنين من مقصد جليل في تعليق كتبناه على الكلمة في سورة المرسلات التي سبق تفسيرها. وهذا المقصد الجليل بارز في هذه الآيات بروزا قويا كما هو المتبادر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الم ( ١ ) تلك آيات الكتاب الحكيم ( ٢ ) هدى ورحمة للمحسنين ( ١ )( ٣ ) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ( ٤ ) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( ٥ ) ﴾ [ ١ -٥ ].بدأت السورة بحروف الألف، واللام، والميم، لاسترعاء السمع والذهن لما بعدها. وأعقبها إشارة تنويهية إلى آيات الكتاب المحكم في أسلوبه وأهدافه وعظاته، الذي فيه الهدى والرحمة لمن حسنت نيتهم وأعمالهم، التي منها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان اليقيني بحقيقة الحياة الأخروية وما وعد الله فيها.
فهؤلاء هم على هدى الله وهم الناجحون الفائزون.
وصيغة الآية الخامسة تنطوي كما هو المتبادر على التنويه بشأن الذين تحققوا بالصفات الثلاثة التي جمعت الآية الرابعة بينها، وينطوي فيها بطبيعة الحال حث على التحقق بها، وروح الآية الثالثة ومضمونها يلهمان تقرير كون الذين ينتفعون بآيات الكتاب ويكون لهم فيها هدى ورحمة هم ذوي القلوب السليمة والروح الطيبة الراغبة في الحق والخير والهدى. ولقد نبهنا إلى ما في التنويه بالمحسنين من مقصد جليل في تعليق كتبناه على الكلمة في سورة المرسلات التي سبق تفسيرها. وهذا المقصد الجليل بارز في هذه الآيات بروزا قويا كما هو المتبادر.
في الآيات تنديد بفريق من الناس يتمسكون بالأحاديث الباطلة ليضلوا بها سامعيها عن سبيل الله دون علم. وحينما تتلى عليهم آيات الله استكبروا وولوا كأنهم لم يسمعوها أو كأن في آذانهم صمما يحول دون سماعها. وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار هؤلاء وتبشيرهم بعذاب الله المهين الأليم. وهناك مقابلهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقد وعدهم الله جنات النعيم وعدا حقا وهو العزيز القادر على تحقيق وعده الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمة وإتقان، والذي من آياته الباهرة خلق السماوات وإمساكها بدون سند يراه الناس، وإرساء الجبال فوق الأرض لئلا تتحرك من تحتهم وتكبهم، وبثه فيها من كل نوع من أنواع الدواب وإنزاله الماء من السماء وإنباته به من كل وصف كريم من صنوف النبات.
وقد انتهت الآيات بالهتاف بالسامعين وتحديهم : فهذا ما خلق الله وأبدع فما الذي خلقه غيره من الآلهة التي يشركها الناس معه بالعبادة والاتجاه. ثم قررت حقيقة أمر الظالمين الذين يدعون غير الله فهم في ضلال ليس بعده ضلال.
وقد روى بعض المفسرين١ أن الآية الأولى عنت النضر بن الحرث الذي كان يرحل إلى بلاد فارس ويعود منها فيقول للناس : إن محمدا يحدثكم عن عاد وثمود وأنا أستطيع أن أحدثكم عن رستم واسفنديار وإن حديثي لأشهى من حديثه. والرواية محتملة مع التنبيه على أنها تكررت في مناسبات عديدة ومع التنبيه كذلك على أن الآيات وحدة منسجمة بحيث يمكن القول إنها نزلت جميعها – وليست الآية الأولى فقط – في صدد الموقف الذي ذكرته الرواية أو موقف مماثل له فيه تشويش من بعض نبهاء الكفار على القرآن. ومقابلته ما يتلى عليه منه بالاستهزاء والاستخفاف والإعراض والاستكبار. ومن المحتمل أن يكون هذا الموقف وجاهيا كما أن من المحتمل أن تكون الآيات الأولى من السورة جاءت كمقدمة تمهيدية له.
تعليق على الآية
﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ﴾
وحديث ورد في صددها في الغناء والمغنيات
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل في الصدد الأول أن جملة ﴿ لهو الحديث ﴾ تعني الغناء. وأوردوا حديثا رواه الترمذي أيضا عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام )٢ وفي مثل هذا أنزلت الآية ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ( ٦ ) ﴾ ولقد علق ابن كثير على الحديث قائلا إنه غريب وإن أحد رواته وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء.
ومع هذه العلل فإذا صح الحديث فيكون فيه استلهام نبوي في العهد المدني من تلقين الآية وحسب. ومع أن الغناء في حد ذاته يمكن أن يوصف بصفة ( اللهو ) فالمتبادر من روح الآيات ومضمونها أن المقصود من الكلمة هو أوسع شمولا من الغناء بحيث يمكن أن تتناول كل باطل من قول وعمل مؤد إلى احتلال الناس وصرفهم عن الحق والطريق السوي والتلهي بذلك والاستهزاء والاستهانة به عن الحق. ولقد أورد الطبري الأقوال ثم قال : إن الكلمة عامة تتناول الغناء والشرك وتتناول كل ما نهى الله ورسوله عن سماعه والاشتغال به، وهذا هو المتبادر من روح الآيات كما ذكرنا.
تعليق على وصف الجبال
بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس
وعلى وصف السماء بأنها رفعت بدون عمد
ووصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس ووصف السماء بأنها رفعت بدون عمد يراها الناس قد تكرر في سور أخرى ترتيبها متأخر عن هذه السورة. والإيمان بما جاء في القرآن في صدد المشاهد الكونية واجب مع واجب الوقوف عندما اقتضت الحكمة وحيه بالأسلوب الذي جاء به استشفاف الحكمة في ذلك. والمتبادر من ذلك أن هذا الوصف مما كان مستقرا أيضا في أذهان السامعين الذين كانوا يعترفون بالله وكونه خالق السموات والأرض على ما ذكرناه في مناسبات سابقة، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بها من خلال ذلك بقدرة الله وإبداعه والتدليل على شمول قدرته للبعث والجزاء الأخرويين أيضا. وعلى كل حال إن القرآن لم يقصد تقريرات فنية ؛ لأن ذلك خارج عن هدفه في الهداية والإرشاد على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وعلى ضوء هذا الشرح تبدو الآيات قوية رائعة في تذكيرها وتنويهها وتحديها، والله أعلم
في الآيات تنديد بفريق من الناس يتمسكون بالأحاديث الباطلة ليضلوا بها سامعيها عن سبيل الله دون علم. وحينما تتلى عليهم آيات الله استكبروا وولوا كأنهم لم يسمعوها أو كأن في آذانهم صمما يحول دون سماعها. وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار هؤلاء وتبشيرهم بعذاب الله المهين الأليم. وهناك مقابلهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقد وعدهم الله جنات النعيم وعدا حقا وهو العزيز القادر على تحقيق وعده الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمة وإتقان، والذي من آياته الباهرة خلق السماوات وإمساكها بدون سند يراه الناس، وإرساء الجبال فوق الأرض لئلا تتحرك من تحتهم وتكبهم، وبثه فيها من كل نوع من أنواع الدواب وإنزاله الماء من السماء وإنباته به من كل وصف كريم من صنوف النبات.
وقد انتهت الآيات بالهتاف بالسامعين وتحديهم : فهذا ما خلق الله وأبدع فما الذي خلقه غيره من الآلهة التي يشركها الناس معه بالعبادة والاتجاه. ثم قررت حقيقة أمر الظالمين الذين يدعون غير الله فهم في ضلال ليس بعده ضلال.
وقد روى بعض المفسرين١ أن الآية الأولى عنت النضر بن الحرث الذي كان يرحل إلى بلاد فارس ويعود منها فيقول للناس : إن محمدا يحدثكم عن عاد وثمود وأنا أستطيع أن أحدثكم عن رستم واسفنديار وإن حديثي لأشهى من حديثه. والرواية محتملة مع التنبيه على أنها تكررت في مناسبات عديدة ومع التنبيه كذلك على أن الآيات وحدة منسجمة بحيث يمكن القول إنها نزلت جميعها – وليست الآية الأولى فقط – في صدد الموقف الذي ذكرته الرواية أو موقف مماثل له فيه تشويش من بعض نبهاء الكفار على القرآن. ومقابلته ما يتلى عليه منه بالاستهزاء والاستخفاف والإعراض والاستكبار. ومن المحتمل أن يكون هذا الموقف وجاهيا كما أن من المحتمل أن تكون الآيات الأولى من السورة جاءت كمقدمة تمهيدية له.
تعليق على الآية
﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ﴾
وحديث ورد في صددها في الغناء والمغنيات
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل في الصدد الأول أن جملة ﴿ لهو الحديث ﴾ تعني الغناء. وأوردوا حديثا رواه الترمذي أيضا عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام )٢ وفي مثل هذا أنزلت الآية ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ( ٦ ) ﴾ ولقد علق ابن كثير على الحديث قائلا إنه غريب وإن أحد رواته وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء.
ومع هذه العلل فإذا صح الحديث فيكون فيه استلهام نبوي في العهد المدني من تلقين الآية وحسب. ومع أن الغناء في حد ذاته يمكن أن يوصف بصفة ( اللهو ) فالمتبادر من روح الآيات ومضمونها أن المقصود من الكلمة هو أوسع شمولا من الغناء بحيث يمكن أن تتناول كل باطل من قول وعمل مؤد إلى احتلال الناس وصرفهم عن الحق والطريق السوي والتلهي بذلك والاستهزاء والاستهانة به عن الحق. ولقد أورد الطبري الأقوال ثم قال : إن الكلمة عامة تتناول الغناء والشرك وتتناول كل ما نهى الله ورسوله عن سماعه والاشتغال به، وهذا هو المتبادر من روح الآيات كما ذكرنا.
تعليق على وصف الجبال
بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس
وعلى وصف السماء بأنها رفعت بدون عمد
ووصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس ووصف السماء بأنها رفعت بدون عمد يراها الناس قد تكرر في سور أخرى ترتيبها متأخر عن هذه السورة. والإيمان بما جاء في القرآن في صدد المشاهد الكونية واجب مع واجب الوقوف عندما اقتضت الحكمة وحيه بالأسلوب الذي جاء به استشفاف الحكمة في ذلك. والمتبادر من ذلك أن هذا الوصف مما كان مستقرا أيضا في أذهان السامعين الذين كانوا يعترفون بالله وكونه خالق السموات والأرض على ما ذكرناه في مناسبات سابقة، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بها من خلال ذلك بقدرة الله وإبداعه والتدليل على شمول قدرته للبعث والجزاء الأخرويين أيضا. وعلى كل حال إن القرآن لم يقصد تقريرات فنية ؛ لأن ذلك خارج عن هدفه في الهداية والإرشاد على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وعلى ضوء هذا الشرح تبدو الآيات قوية رائعة في تذكيرها وتنويهها وتحديها، والله أعلم
تميد بكم : تتحرك بكم.
من كل دابة : من كل نوع من أنواع الحيوان.
زوج : بمعنى صنف.
في الآيات تنديد بفريق من الناس يتمسكون بالأحاديث الباطلة ليضلوا بها سامعيها عن سبيل الله دون علم. وحينما تتلى عليهم آيات الله استكبروا وولوا كأنهم لم يسمعوها أو كأن في آذانهم صمما يحول دون سماعها. وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار هؤلاء وتبشيرهم بعذاب الله المهين الأليم. وهناك مقابلهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقد وعدهم الله جنات النعيم وعدا حقا وهو العزيز القادر على تحقيق وعده الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمة وإتقان، والذي من آياته الباهرة خلق السماوات وإمساكها بدون سند يراه الناس، وإرساء الجبال فوق الأرض لئلا تتحرك من تحتهم وتكبهم، وبثه فيها من كل نوع من أنواع الدواب وإنزاله الماء من السماء وإنباته به من كل وصف كريم من صنوف النبات.
وقد انتهت الآيات بالهتاف بالسامعين وتحديهم : فهذا ما خلق الله وأبدع فما الذي خلقه غيره من الآلهة التي يشركها الناس معه بالعبادة والاتجاه. ثم قررت حقيقة أمر الظالمين الذين يدعون غير الله فهم في ضلال ليس بعده ضلال.
وقد روى بعض المفسرين١ أن الآية الأولى عنت النضر بن الحرث الذي كان يرحل إلى بلاد فارس ويعود منها فيقول للناس : إن محمدا يحدثكم عن عاد وثمود وأنا أستطيع أن أحدثكم عن رستم واسفنديار وإن حديثي لأشهى من حديثه. والرواية محتملة مع التنبيه على أنها تكررت في مناسبات عديدة ومع التنبيه كذلك على أن الآيات وحدة منسجمة بحيث يمكن القول إنها نزلت جميعها – وليست الآية الأولى فقط – في صدد الموقف الذي ذكرته الرواية أو موقف مماثل له فيه تشويش من بعض نبهاء الكفار على القرآن. ومقابلته ما يتلى عليه منه بالاستهزاء والاستخفاف والإعراض والاستكبار. ومن المحتمل أن يكون هذا الموقف وجاهيا كما أن من المحتمل أن تكون الآيات الأولى من السورة جاءت كمقدمة تمهيدية له.
تعليق على الآية
﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ﴾
وحديث ورد في صددها في الغناء والمغنيات
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل في الصدد الأول أن جملة ﴿ لهو الحديث ﴾ تعني الغناء. وأوردوا حديثا رواه الترمذي أيضا عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام )٢ وفي مثل هذا أنزلت الآية ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ( ٦ ) ﴾ ولقد علق ابن كثير على الحديث قائلا إنه غريب وإن أحد رواته وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء.
ومع هذه العلل فإذا صح الحديث فيكون فيه استلهام نبوي في العهد المدني من تلقين الآية وحسب. ومع أن الغناء في حد ذاته يمكن أن يوصف بصفة ( اللهو ) فالمتبادر من روح الآيات ومضمونها أن المقصود من الكلمة هو أوسع شمولا من الغناء بحيث يمكن أن تتناول كل باطل من قول وعمل مؤد إلى احتلال الناس وصرفهم عن الحق والطريق السوي والتلهي بذلك والاستهزاء والاستهانة به عن الحق. ولقد أورد الطبري الأقوال ثم قال : إن الكلمة عامة تتناول الغناء والشرك وتتناول كل ما نهى الله ورسوله عن سماعه والاشتغال به، وهذا هو المتبادر من روح الآيات كما ذكرنا.
تعليق على وصف الجبال
بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس
وعلى وصف السماء بأنها رفعت بدون عمد
ووصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس ووصف السماء بأنها رفعت بدون عمد يراها الناس قد تكرر في سور أخرى ترتيبها متأخر عن هذه السورة. والإيمان بما جاء في القرآن في صدد المشاهد الكونية واجب مع واجب الوقوف عندما اقتضت الحكمة وحيه بالأسلوب الذي جاء به استشفاف الحكمة في ذلك. والمتبادر من ذلك أن هذا الوصف مما كان مستقرا أيضا في أذهان السامعين الذين كانوا يعترفون بالله وكونه خالق السموات والأرض على ما ذكرناه في مناسبات سابقة، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بها من خلال ذلك بقدرة الله وإبداعه والتدليل على شمول قدرته للبعث والجزاء الأخرويين أيضا. وعلى كل حال إن القرآن لم يقصد تقريرات فنية ؛ لأن ذلك خارج عن هدفه في الهداية والإرشاد على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وعلى ضوء هذا الشرح تبدو الآيات قوية رائعة في تذكيرها وتنويهها وتحديها، والله أعلم
الجمهور على أن جملة ( أن شكر لله ) وما بعدها هي خطاب رباني للقمان أي : أننا آتيناه الحكمة وأمرناه أن يشكر الله الخ.
الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع، وبين له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة، وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه.
وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان. ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر :
١- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضره كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه.
٢- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة، وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون الدنيا من جهة، وإتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائر في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جميعهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله.
٣- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم.
٤- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو، فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها.
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل، وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين.
تعليق على شخصية لقمان
وما في مواعظه من تلقين
وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في القول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة١.
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين، بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه مشتق من ( لقم ) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات٢ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له : لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن. ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار٣. منها المعقول ومنها الغريب. وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته.
ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له :( أنت لقمان عبد بني الحسحاس ؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم ؟ قال نعم. قال أنت الأسود ؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له : يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال :( غضي بصري وكفي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى ). ومما أورده الطبري ( إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له : ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا ). وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي أتاه الله إياها.
وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليست من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يريد في القرآن من ذلك، ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم.
والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك، ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في الكلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورة النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه لأقوامهم من ذلك من سياق السورة التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء.
وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة، وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح، ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة ﴿ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ﴾ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذر عن رسول الله عن الله تعالى قال :( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذ دخل البحر ). وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خياركم أحاسنكم أخلاقا ). وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق ). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد ).
ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء
والآيتان [ ١٤و ١٥ ] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان، أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بينما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورة الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البر بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبر بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم إتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل هو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم.
وفي آيات سورة الممتحنة هذه :﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ﴾ وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يأمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )٤.
ولقد ذكرت الرواية٥ أن الآيتين نزلتا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش، فأخذت أمه تحاول رده عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبر بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالات سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارات على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين و
الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع، وبين له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة، وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه.
وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان. ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر :
١- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضره كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه.
٢- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة، وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون الدنيا من جهة، وإتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائر في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جميعهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله.
٣- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم.
٤- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو، فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها.
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل، وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين.
تعليق على شخصية لقمان
وما في مواعظه من تلقين
وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في القول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة١.
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين، بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه مشتق من ( لقم ) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات٢ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له : لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن. ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار٣. منها المعقول ومنها الغريب. وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته.
ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له :( أنت لقمان عبد بني الحسحاس ؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم ؟ قال نعم. قال أنت الأسود ؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له : يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال :( غضي بصري وكفي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى ). ومما أورده الطبري ( إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له : ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا ). وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي أتاه الله إياها.
وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليست من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يريد في القرآن من ذلك، ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم.
والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك، ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في الكلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورة النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه لأقوامهم من ذلك من سياق السورة التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء.
وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة، وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح، ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة ﴿ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ﴾ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذر عن رسول الله عن الله تعالى قال :( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذ دخل البحر ). وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خياركم أحاسنكم أخلاقا ). وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق ). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد ).
ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء
والآيتان [ ١٤و ١٥ ] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان، أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بينما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورة الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البر بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبر بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم إتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل هو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم.
وفي آيات سورة الممتحنة هذه :﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ﴾ وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يأمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )٤.
ولقد ذكرت الرواية٥ أن الآيتين نزلتا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش، فأخذت أمه تحاول رده عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبر بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالات سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارات على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين و
فصاله في عامين : إرضاعه عامين ثم فطمه ؛ حيث كان العرب يرون ذلك هو الأفضل. وقد جاء هذا صريحا في آية سورة البقرة هذه :﴿ *والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾ [ ٢٣٣ ] والفصال بمعنى الفطام.
الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع، وبين له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة، وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه.
وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان. ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر :
١- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضره كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه.
٢- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة، وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون الدنيا من جهة، وإتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائر في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جميعهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله.
٣- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم.
٤- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو، فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها.
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل، وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين.
تعليق على شخصية لقمان
وما في مواعظه من تلقين
وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في القول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة١.
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين، بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه مشتق من ( لقم ) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات٢ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له : لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن. ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار٣. منها المعقول ومنها الغريب. وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته.
ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له :( أنت لقمان عبد بني الحسحاس ؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم ؟ قال نعم. قال أنت الأسود ؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له : يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال :( غضي بصري وكفي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى ). ومما أورده الطبري ( إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له : ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا ). وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي أتاه الله إياها.
وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليست من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يريد في القرآن من ذلك، ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم.
والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك، ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في الكلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورة النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه لأقوامهم من ذلك من سياق السورة التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء.
وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة، وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح، ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة ﴿ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ﴾ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذر عن رسول الله عن الله تعالى قال :( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذ دخل البحر ). وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خياركم أحاسنكم أخلاقا ). وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق ). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد ).
ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء
والآيتان [ ١٤و ١٥ ] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان، أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بينما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورة الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البر بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبر بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم إتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل هو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم.
وفي آيات سورة الممتحنة هذه :﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ﴾ وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يأمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )٤.
ولقد ذكرت الرواية٥ أن الآيتين نزلتا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش، فأخذت أمه تحاول رده عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبر بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالات سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارات على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين و
وصاحبهما في الدنيا معروفا : وعاشرهما وكن لهما صاحبا رفيقا في الدنيا مما هو متعارف عليه ومحمود من الأبناء للآباء.
من أناب إلي : من آمن بي وسلك سبيلي واتجه إلي.
الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع، وبين له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة، وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه.
وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان. ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر :
١- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضره كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه.
٢- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة، وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون الدنيا من جهة، وإتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائر في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جميعهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله.
٣- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم.
٤- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو، فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها.
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل، وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين.
تعليق على شخصية لقمان
وما في مواعظه من تلقين
وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في القول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة١.
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين، بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه مشتق من ( لقم ) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات٢ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له : لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن. ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار٣. منها المعقول ومنها الغريب. وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته.
ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له :( أنت لقمان عبد بني الحسحاس ؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم ؟ قال نعم. قال أنت الأسود ؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له : يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال :( غضي بصري وكفي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى ). ومما أورده الطبري ( إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له : ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا ). وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي أتاه الله إياها.
وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليست من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يريد في القرآن من ذلك، ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم.
والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك، ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في الكلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورة النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه لأقوامهم من ذلك من سياق السورة التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء.
وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة، وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح، ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة ﴿ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ﴾ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذر عن رسول الله عن الله تعالى قال :( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذ دخل البحر ). وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خياركم أحاسنكم أخلاقا ). وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق ). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد ).
ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء
والآيتان [ ١٤و ١٥ ] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان، أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بينما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورة الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البر بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبر بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم إتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل هو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم.
وفي آيات سورة الممتحنة هذه :﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ﴾ وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يأمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )٤.
ولقد ذكرت الرواية٥ أن الآيتين نزلتا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش، فأخذت أمه تحاول رده عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبر بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالات سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارات على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين و
الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع، وبين له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة، وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه.
وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان. ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر :
١- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضره كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه.
٢- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة، وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون الدنيا من جهة، وإتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائر في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جميعهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله.
٣- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم.
٤- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو، فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها.
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل، وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين.
تعليق على شخصية لقمان
وما في مواعظه من تلقين
وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في القول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة١.
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين، بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه مشتق من ( لقم ) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات٢ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له : لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن. ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار٣. منها المعقول ومنها الغريب. وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته.
ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له :( أنت لقمان عبد بني الحسحاس ؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم ؟ قال نعم. قال أنت الأسود ؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له : يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال :( غضي بصري وكفي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى ). ومما أورده الطبري ( إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له : ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا ). وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي أتاه الله إياها.
وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليست من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يريد في القرآن من ذلك، ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم.
والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك، ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في الكلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورة النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه لأقوامهم من ذلك من سياق السورة التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء.
وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة، وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح، ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة ﴿ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ﴾ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذر عن رسول الله عن الله تعالى قال :( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذ دخل البحر ). وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خياركم أحاسنكم أخلاقا ). وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق ). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد ).
ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء
والآيتان [ ١٤و ١٥ ] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان، أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بينما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورة الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البر بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبر بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم إتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل هو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم.
وفي آيات سورة الممتحنة هذه :﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ﴾ وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يأمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )٤.
ولقد ذكرت الرواية٥ أن الآيتين نزلتا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش، فأخذت أمه تحاول رده عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبر بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالات سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارات على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين و
المنكر : كل ما هو متعارف على أنه شر وضار وخبيث.
الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع، وبين له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة، وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه.
وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان. ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر :
١- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضره كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه.
٢- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة، وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون الدنيا من جهة، وإتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائر في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جميعهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله.
٣- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم.
٤- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو، فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها.
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل، وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين.
تعليق على شخصية لقمان
وما في مواعظه من تلقين
وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في القول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة١.
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين، بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه مشتق من ( لقم ) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات٢ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له : لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن. ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار٣. منها المعقول ومنها الغريب. وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته.
ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له :( أنت لقمان عبد بني الحسحاس ؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم ؟ قال نعم. قال أنت الأسود ؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له : يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال :( غضي بصري وكفي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى ). ومما أورده الطبري ( إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له : ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا ). وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي أتاه الله إياها.
وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليست من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يريد في القرآن من ذلك، ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم.
والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك، ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في الكلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورة النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه لأقوامهم من ذلك من سياق السورة التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء.
وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة، وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح، ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة ﴿ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ﴾ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذر عن رسول الله عن الله تعالى قال :( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذ دخل البحر ). وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خياركم أحاسنكم أخلاقا ). وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق ). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد ).
ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء
والآيتان [ ١٤و ١٥ ] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان، أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بينما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورة الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البر بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبر بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم إتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل هو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم.
وفي آيات سورة الممتحنة هذه :﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ﴾ وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يأمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )٤.
ولقد ذكرت الرواية٥ أن الآيتين نزلتا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش، فأخذت أمه تحاول رده عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبر بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالات سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارات على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين و
مرحا : بطرا وزهوا.
المختال : الذي يمشي متمايلا منتفخا بالكبر والزهو.
فخور : الذي يتفاخر بنفسه وقوته وماله.
الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع، وبين له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة، وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه.
وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان. ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر :
١- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضره كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه.
٢- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة، وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون الدنيا من جهة، وإتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائر في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جميعهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله.
٣- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم.
٤- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو، فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها.
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل، وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين.
تعليق على شخصية لقمان
وما في مواعظه من تلقين
وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في القول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة١.
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين، بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه مشتق من ( لقم ) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات٢ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له : لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن. ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار٣. منها المعقول ومنها الغريب. وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته.
ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له :( أنت لقمان عبد بني الحسحاس ؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم ؟ قال نعم. قال أنت الأسود ؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له : يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال :( غضي بصري وكفي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى ). ومما أورده الطبري ( إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له : ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا ). وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي أتاه الله إياها.
وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليست من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يريد في القرآن من ذلك، ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم.
والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك، ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في الكلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورة النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه لأقوامهم من ذلك من سياق السورة التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء.
وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة، وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح، ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة ﴿ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ﴾ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذر عن رسول الله عن الله تعالى قال :( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذ دخل البحر ). وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خياركم أحاسنكم أخلاقا ). وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق ). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد ).
ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء
والآيتان [ ١٤و ١٥ ] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان، أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بينما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورة الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البر بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبر بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم إتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل هو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم.
وفي آيات سورة الممتحنة هذه :﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ﴾ وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يأمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )٤.
ولقد ذكرت الرواية٥ أن الآيتين نزلتا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش، فأخذت أمه تحاول رده عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبر بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالات سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارات على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين و
اغضض من صوتك : اخفض صوتك وخففه.
أنكر الأصوات : أقبح الأصوات وأشدها بعثا على الإنكار والاشمئزاز، ولعل المناسبة هي علو صوت الحمير ؛ حيث جاء التشبيه مقابل الأمر بالغض من الصوت وعدم رفعه.
الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع، وبين له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة، وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه.
وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان. ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر :
١- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضره كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه.
٢- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة، وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون الدنيا من جهة، وإتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائر في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جميعهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله.
٣- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم.
٤- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو، فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها.
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل، وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين.
تعليق على شخصية لقمان
وما في مواعظه من تلقين
وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في القول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة١.
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين، بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه مشتق من ( لقم ) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات٢ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له : لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن. ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار٣. منها المعقول ومنها الغريب. وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته.
ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له :( أنت لقمان عبد بني الحسحاس ؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم ؟ قال نعم. قال أنت الأسود ؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له : يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال :( غضي بصري وكفي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى ). ومما أورده الطبري ( إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له : ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا ). وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي أتاه الله إياها.
وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليست من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يريد في القرآن من ذلك، ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم.
والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك، ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في الكلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورة النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه لأقوامهم من ذلك من سياق السورة التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء.
وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة، وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح، ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة ﴿ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ﴾ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذر عن رسول الله عن الله تعالى قال :( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذ دخل البحر ). وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خياركم أحاسنكم أخلاقا ). وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال :( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق ). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد ).
ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء
والآيتان [ ١٤و ١٥ ] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان، أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بينما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورة الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البر بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبر بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم إتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل هو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم.
وفي آيات سورة الممتحنة هذه :﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ﴾ وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يأمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )٤.
ولقد ذكرت الرواية٥ أن الآيتين نزلتا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش، فأخذت أمه تحاول رده عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبر بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالات سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارات على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين و
وجه الكلام في الآية الأولى إلى السامعين المخاطبين على سبيل الالتفات فنبهوا إلى ما سخره الله لهم من وسائل وقوى في السماوات والأرض، وما أسبغه عليهم من نعمه الظاهرة والباطنة مما يقع تحت مشاهدتهم الحسية، ويرون آثار أنفسهم وما يحيط بهم، ومما يكفل لهم السلام والقوة والرخاء. ثم أشير إشارة تنديدية إلى الذين يجادلون رغم ذلك في الله ووحدته وعظمته وحقه وحده بالخضوع جدلا لا يستند إلى علم وهدى ولا كتاب. واستمرت الآية الثانية في التقريع بهم، وحكت ما يقولون إذا ما دعوا إلى إتباع ما أنزل الله حيث كانوا يجيبون أنهم يفضلون إتباع ما وجدوا عليه آباءهم. وانتهت الآية بسؤال استنكاري لاذع عما إذا كان هؤلاء يقفون هذا الموقف العنيد، ولو كان الشيطان هو الذي يمليه عليهم ويدفعهم به إلى عذاب السعير في الحقيقة وواقع الأمر.
وفي الآيتين وصل بين أجزاء المشهد الذي بدئ بحكايته في آيات السورة الأول والذي اعترضته آيات لقمان على سبيل الاستطراد وضرب المثل إذا ما أمعن النظر فيها.
وقد روي١ أن الآيتين نزلتا في الحارث بن النضر وآخرين من زعماء المشركين كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صفات الله وشفاعة الملائكة وصلة عقائدهم بالله وكون ما هو عليه وما كان آباؤهم عليه هو الأولى بالإتباع. وروح الآيتين تتسق إجمالا مع الرواية، وتلهم أنهما بسبيل وصف موقف جدل وحجاج مع زعماء الكفار مثل الآيات الأولى من السورة. وكل ما هناك أن تسلسل السياق يلهم أن الآيتين لم تنزلا لحدتهما من أجل هذا الموقف، وإنما احتوتا الإشارة إليه في سياق حكاية مواقف الكفار ومشاهد جدلهم بصورة عامة.
ولذعة الفقرة الأخيرة من الآية الثانية قوية حقا، وفيها صدى للصرخة القوية الجزئية التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوجهها بلسان القرآن إلى الكفار وزعمائهم حينما تنعقد بينهم وبينه مواقف مناظرة أو يحتدم الجدل واللجاج.
تعليق على الحملة القرآنية على التمسك بتقاليد الآباء
والآية التي احتوت حكاية قول الكفار ﴿ بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ والتنديد بهم فيها بسبب قولهم تأتي بصيغتها لأول مرة. وقد تكرر فحواها مرارا في القرآن المكي والمدني ؛ حيث يدل هذا على شدة تمسك كفار العرب بتقاليد آبائهم واعتبارهم إياها مقدسة واعتبار الدعوة إلى تركها بدعة وعدوانا. ومن المرجح أن الموقف الشديد الذي وقفوه من الدعوة النبوية التي فيها تهديم لكثير من تلك التقاليد متأت من ذلك، أو أن ذلك من أهم أسبابه. ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن هذا ليس خاصا بالعرب، وإنما هو قدر مشترك بين الناس جميعا حيث لا يستسيغ التساهل في التقاليد الموروثة أو تركها إلا الفئة النيرة الفتية التي تفتحت أذهانها ولم تكن تلك التقاليد راسخة فيها.
ولعل هذا يفسر لنا حكمة الله عز وجل في اختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة ولما يتجاوز سن الشباب، ويفسر لنا كون معظم أفراد الرعيل الأول من السابقين إلى الإسلام هم من زمرة الشباب وغير المتقدمين في السن كأبي بكر وعمر وعثمان وسعيد وعلي وأبي عبيدة وجعفر وأبي سلمة وخالد بن سعيد وطلحة والزبير وسعيد وغيرهم رضوان الله عليهم. ولعل بين هذا الذي نقرره في مناسبة الآيتين وبين آيات لقمان ثم بينه وبين تقرير سقوط حق الطاعة على الأبناء إذا ما أرادهم آباؤهم على الشرك مناسبة قوية أيضا. فكثير من أفراد هذا الرعيل من قريش شبابا وفتيات آمنوا رغم آبائهم، بل ومنهم من كان آباؤهم يقودون حملة المعارضة الشديدة ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته. ولقد بقي معظم شيوخ بني هاشم عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأقربين على الشرك تمسكا بتقاليد الآباء، وفي مقدمتهم أبو طالب عمه وحاميه، وأبو جعفر وعلي اللذين اتبعا دين ابن عمهم وأسلما في أول الدعوة، مع أنهم كانوا يعلنون حمايتهم له بدافع العصبية.
وغني عن البيان أن التنديد القرآني بالتمسك بتقاليد الآباء التي لا تستند إلى علم وحق ومنطق يحتوي تلقينا عاما مستمر المدى في صدد تقبيح التمسك بالتقاليد المورثة تمسكا أعمى، والاعتذار بها عن إتباع ما هو الأفضل، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
تعليق على جملة
﴿ ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ﴾
وجملة ﴿ ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ﴾ مستمدة من مشاهدات الناس وممارساتهم وأن سامعي القرآن مباشرة يعرفون مداها، فقصدت حكمة التنزيل تنبيههم إلى ما يعرفون ويتمتعون به من فضل الله عليهم، وواجب الاعتراف به والشكر على ذلك. ولا نراها من جهة أخرى تقتضي أن يكون معناها إن الله خلق السماوات والأرض وما فيهما لأجل بني الإنسان خاصة ولكنها قد تنطوي مع ذلك على تقرير اختصاصهم دون غيرهم من الأحياء بالتغلب على ما في السماوات والأرض من قوى ونواميس وتسخيرها والانتفاع بها نتيجة لما اختصهم به من تكامل عقلي. وهكذا يكون هذا المعنى قائما واسع المدى متساوقا مع تطور العقل والفكر والمعارف الإنسانية والنشاط الإنساني في كل ظرف ومكان. ويكون قد انطوى على حث الإنسان والمسلمين بخاصة على الانتفاع بهذه القوى والنواميس بمختلف الأساليب والوسائل والصور. وقد تكرر تقرير ذلك فيما يأتي من السور. وفي بعضها يبدو المعنى أوضح على ما سوف ننبه عليه في مناسباته
وجه الكلام في الآية الأولى إلى السامعين المخاطبين على سبيل الالتفات فنبهوا إلى ما سخره الله لهم من وسائل وقوى في السماوات والأرض، وما أسبغه عليهم من نعمه الظاهرة والباطنة مما يقع تحت مشاهدتهم الحسية، ويرون آثار أنفسهم وما يحيط بهم، ومما يكفل لهم السلام والقوة والرخاء. ثم أشير إشارة تنديدية إلى الذين يجادلون رغم ذلك في الله ووحدته وعظمته وحقه وحده بالخضوع جدلا لا يستند إلى علم وهدى ولا كتاب. واستمرت الآية الثانية في التقريع بهم، وحكت ما يقولون إذا ما دعوا إلى إتباع ما أنزل الله حيث كانوا يجيبون أنهم يفضلون إتباع ما وجدوا عليه آباءهم. وانتهت الآية بسؤال استنكاري لاذع عما إذا كان هؤلاء يقفون هذا الموقف العنيد، ولو كان الشيطان هو الذي يمليه عليهم ويدفعهم به إلى عذاب السعير في الحقيقة وواقع الأمر.
وفي الآيتين وصل بين أجزاء المشهد الذي بدئ بحكايته في آيات السورة الأول والذي اعترضته آيات لقمان على سبيل الاستطراد وضرب المثل إذا ما أمعن النظر فيها.
وقد روي١ أن الآيتين نزلتا في الحارث بن النضر وآخرين من زعماء المشركين كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صفات الله وشفاعة الملائكة وصلة عقائدهم بالله وكون ما هو عليه وما كان آباؤهم عليه هو الأولى بالإتباع. وروح الآيتين تتسق إجمالا مع الرواية، وتلهم أنهما بسبيل وصف موقف جدل وحجاج مع زعماء الكفار مثل الآيات الأولى من السورة. وكل ما هناك أن تسلسل السياق يلهم أن الآيتين لم تنزلا لحدتهما من أجل هذا الموقف، وإنما احتوتا الإشارة إليه في سياق حكاية مواقف الكفار ومشاهد جدلهم بصورة عامة.
ولذعة الفقرة الأخيرة من الآية الثانية قوية حقا، وفيها صدى للصرخة القوية الجزئية التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوجهها بلسان القرآن إلى الكفار وزعمائهم حينما تنعقد بينهم وبينه مواقف مناظرة أو يحتدم الجدل واللجاج.
تعليق على الحملة القرآنية على التمسك بتقاليد الآباء
والآية التي احتوت حكاية قول الكفار ﴿ بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ والتنديد بهم فيها بسبب قولهم تأتي بصيغتها لأول مرة. وقد تكرر فحواها مرارا في القرآن المكي والمدني ؛ حيث يدل هذا على شدة تمسك كفار العرب بتقاليد آبائهم واعتبارهم إياها مقدسة واعتبار الدعوة إلى تركها بدعة وعدوانا. ومن المرجح أن الموقف الشديد الذي وقفوه من الدعوة النبوية التي فيها تهديم لكثير من تلك التقاليد متأت من ذلك، أو أن ذلك من أهم أسبابه. ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن هذا ليس خاصا بالعرب، وإنما هو قدر مشترك بين الناس جميعا حيث لا يستسيغ التساهل في التقاليد الموروثة أو تركها إلا الفئة النيرة الفتية التي تفتحت أذهانها ولم تكن تلك التقاليد راسخة فيها.
ولعل هذا يفسر لنا حكمة الله عز وجل في اختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة ولما يتجاوز سن الشباب، ويفسر لنا كون معظم أفراد الرعيل الأول من السابقين إلى الإسلام هم من زمرة الشباب وغير المتقدمين في السن كأبي بكر وعمر وعثمان وسعيد وعلي وأبي عبيدة وجعفر وأبي سلمة وخالد بن سعيد وطلحة والزبير وسعيد وغيرهم رضوان الله عليهم. ولعل بين هذا الذي نقرره في مناسبة الآيتين وبين آيات لقمان ثم بينه وبين تقرير سقوط حق الطاعة على الأبناء إذا ما أرادهم آباؤهم على الشرك مناسبة قوية أيضا. فكثير من أفراد هذا الرعيل من قريش شبابا وفتيات آمنوا رغم آبائهم، بل ومنهم من كان آباؤهم يقودون حملة المعارضة الشديدة ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته. ولقد بقي معظم شيوخ بني هاشم عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأقربين على الشرك تمسكا بتقاليد الآباء، وفي مقدمتهم أبو طالب عمه وحاميه، وأبو جعفر وعلي اللذين اتبعا دين ابن عمهم وأسلما في أول الدعوة، مع أنهم كانوا يعلنون حمايتهم له بدافع العصبية.
وغني عن البيان أن التنديد القرآني بالتمسك بتقاليد الآباء التي لا تستند إلى علم وحق ومنطق يحتوي تلقينا عاما مستمر المدى في صدد تقبيح التمسك بالتقاليد المورثة تمسكا أعمى، والاعتذار بها عن إتباع ما هو الأفضل، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
تعليق على جملة
﴿ ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ﴾
وجملة ﴿ ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ﴾ مستمدة من مشاهدات الناس وممارساتهم وأن سامعي القرآن مباشرة يعرفون مداها، فقصدت حكمة التنزيل تنبيههم إلى ما يعرفون ويتمتعون به من فضل الله عليهم، وواجب الاعتراف به والشكر على ذلك. ولا نراها من جهة أخرى تقتضي أن يكون معناها إن الله خلق السماوات والأرض وما فيهما لأجل بني الإنسان خاصة ولكنها قد تنطوي مع ذلك على تقرير اختصاصهم دون غيرهم من الأحياء بالتغلب على ما في السماوات والأرض من قوى ونواميس وتسخيرها والانتفاع بها نتيجة لما اختصهم به من تكامل عقلي. وهكذا يكون هذا المعنى قائما واسع المدى متساوقا مع تطور العقل والفكر والمعارف الإنسانية والنشاط الإنساني في كل ظرف ومكان. ويكون قد انطوى على حث الإنسان والمسلمين بخاصة على الانتفاع بهذه القوى والنواميس بمختلف الأساليب والوسائل والصور. وقد تكرر تقرير ذلك فيما يأتي من السور. وفي بعضها يبدو المعنى أوضح على ما سوف ننبه عليه في مناسباته
معاني الآيات واضحة، وقد جاءت معقبة على سابقاتها كما هو المتبادر واحتوت في الوقت نفسه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على عناد الكفار وأقوالهم وتمسكهم بتقاليد الآباء الباطلة وإنذارا لهم، فلا ينبغي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحزن من كفرهم. وقصارى أمرهم متعة قصيرة الأمد ثم يصيرون إلى العذاب الشديد الخالد الذي استحقوه. واحتوت كذلك حثا على إسلام النفس لله عز وجل والاتجاه إليه وحده والجمع بين ذلك وبين الأعمال الحسنة الصالحة وتنويها بالذين يفعلون ذلك. فإنهم يستمسكون بعروة وثقى لا تنفصم.
وأسلوب من الأساليب الصريحة المحكمة التي تقرر كسب الناس لأعمالهم واستحقاقهم للجزاء وفق ذلك والتي تكرر أمثالها كثيرا.
معاني الآيات واضحة، وقد جاءت معقبة على سابقاتها كما هو المتبادر واحتوت في الوقت نفسه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على عناد الكفار وأقوالهم وتمسكهم بتقاليد الآباء الباطلة وإنذارا لهم، فلا ينبغي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحزن من كفرهم. وقصارى أمرهم متعة قصيرة الأمد ثم يصيرون إلى العذاب الشديد الخالد الذي استحقوه. واحتوت كذلك حثا على إسلام النفس لله عز وجل والاتجاه إليه وحده والجمع بين ذلك وبين الأعمال الحسنة الصالحة وتنويها بالذين يفعلون ذلك. فإنهم يستمسكون بعروة وثقى لا تنفصم.
وأسلوب من الأساليب الصريحة المحكمة التي تقرر كسب الناس لأعمالهم واستحقاقهم للجزاء وفق ذلك والتي تكرر أمثالها كثيرا.
معاني الآيات واضحة، وقد جاءت معقبة على سابقاتها كما هو المتبادر واحتوت في الوقت نفسه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على عناد الكفار وأقوالهم وتمسكهم بتقاليد الآباء الباطلة وإنذارا لهم، فلا ينبغي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحزن من كفرهم. وقصارى أمرهم متعة قصيرة الأمد ثم يصيرون إلى العذاب الشديد الخالد الذي استحقوه. واحتوت كذلك حثا على إسلام النفس لله عز وجل والاتجاه إليه وحده والجمع بين ذلك وبين الأعمال الحسنة الصالحة وتنويها بالذين يفعلون ذلك. فإنهم يستمسكون بعروة وثقى لا تنفصم.
وأسلوب من الأساليب الصريحة المحكمة التي تقرر كسب الناس لأعمالهم واستحقاقهم للجزاء وفق ذلك والتي تكرر أمثالها كثيرا.
الآيتان استمرار في السياق، وفيهما التفات إلى المشركين وتنديد بسبب ما يبدو منهم من تناقض، فلو سئلوا عمن خلق السماوات والأرض لأجابوا أنه الله ثم يقفون من الدعوة إليه وحده ومن رسوله موقفهم العنيد العجيب. وقد أمرتا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحمد الله على هداه، وقررتا حقيقة أمر الكفار، وهي أن أكثرهم جاهلون فيقعون في التناقض جهلا وحمقا. كما قررتا حقيقة من حقائق الله عز وجل وهي أن كل ما في السماوات والأرض له، وأنه الغني عن الناس، المستوجب للوجود والحمد، سواء آمنوا به أم جحدوه.
والآية الأولى صريحة في تقرير عقيدة مشركي العرب بكون الله هو الخالق الرازق المتصرف في الكون مما حكته آيات عديدة أخرى مرت أمثلة منها في السور السابقة. ومن هنا جاء الإفحام قويا مستحكما ضدهم.
الآيتان استمرار في السياق، وفيهما التفات إلى المشركين وتنديد بسبب ما يبدو منهم من تناقض، فلو سئلوا عمن خلق السماوات والأرض لأجابوا أنه الله ثم يقفون من الدعوة إليه وحده ومن رسوله موقفهم العنيد العجيب. وقد أمرتا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحمد الله على هداه، وقررتا حقيقة أمر الكفار، وهي أن أكثرهم جاهلون فيقعون في التناقض جهلا وحمقا. كما قررتا حقيقة من حقائق الله عز وجل وهي أن كل ما في السماوات والأرض له، وأنه الغني عن الناس، المستوجب للوجود والحمد، سواء آمنوا به أم جحدوه.
والآية الأولى صريحة في تقرير عقيدة مشركي العرب بكون الله هو الخالق الرازق المتصرف في الكون مما حكته آيات عديدة أخرى مرت أمثلة منها في السور السابقة. ومن هنا جاء الإفحام قويا مستحكما ضدهم.
في الآيات :
١- تقرير بأنه لو قطعت كل شجرة في الأرض، وجعلت قطعها أقلاما وصار البحر ومعه سبعة أبحر مدادا لتدوين آيات الله وآلائه ومشاهد ربوبيته ونواميسه ومخلوقاته وحكمه لنفدت الأقلام والمداد، ولم تنفد هذه الآيات والآلاء والمشاهد والنواميس والمخلوقات والحكم، فهو العزيز الجانب القادر الحكيم في كل ما يقتضي ويخلق ويشاء.
٢- وتقرير آخر بأن خلق الناس جميعا وبعثهم جميعا بالنسبة إليه ليس إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. وهو السميع لكل ما يقال، والبصير لكل ما يكون.
٣- وسؤال في معنى التقرير بأن الله هو الذي يعاقب بين الليل والنهار فيدخل الليل على النهار والنهار على الليل. وأنه هو الذي سخر الشمس والقمر ليجريا وفقا للنظام الذي رتبه لهما إلى الأجل المعين في عمله وحكمته. وأنه هو الخبير بكل ما يفعله الناس، وأن في هذه المشاهد التي يراها الناس بأعينهم ويتمتعون بفوائدها أقوى الأدلة على قدرته وعظمته وأفضاله، وأنه هو الحق وحده المستحق للعبادة والدعاء والخضوع وحده، وأن ما عداه مما يدعوه المشركون باطل، وأنه هو العلي الكبير الذي لا يدانيه شيء في علوه وعظمته.
والمتبادر أن الصلة بين هذه الآيات والآيات السابقة وثيقة، وأنها استمرار في تقرير المعاني التي احتوتها تلك الآيات وتوكيد لها من جهة، ولإفحام المجادلين المكابرين الذين حكيت أقوالهم ومواقفهم وعقائدهم في تلك الآيات من جهة أخرى.
وقد جاءت بأسلوب قوي نافذ إلى القلوب والعقول معا، وتضمنت فيما تضمنته حقيقة يقينية يظهر كل يوم مظهر من مظاهرها، وأثر من آثارها فيما ينكشف للناس نتيجة لتقدم العلوم من عظمة كون الله ونواميسه وحكمته، وتجاوز ذلك كل معنى من معاني التحديد مما يثير الدهشة والذهول.
تعليق على رواية مدنية
الآيات [ ٢٧، ٢٨، ٢٩ ].
ولقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [ ٢٧، ٢٨، ٢٩ ] مدنيات. ولقد روى الطبري عن ابن عباس :( أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة : يا محمد أرأيت قوله ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾ الإسراء :[ ٧٥ ]. إيانا تريد أم قومك ؟ فقال : كلاكما. فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك إنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء ؟ فقال : إنها في علم الله قليل، وعندكم من ذلك ما يكفيكم، فأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك ﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام......... ﴾ الخ [ ٢٧ ] ونحن نتوقف في هذه الرواية وفي رواية مدنية الآيات بالتبعية ؛ لأنها منسجمة مع ما قبلها وبعدها انسجاما وثيقا سبكا ومعنى وتوجيها وموضوعا على ما يبدو عند إنعام النظر. ولا تفهم أي حكمة لوضعها لو كانت مدنية في هذا السياق.
وقد روى بعض المفسرين١ أن بعض المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك السؤال بإيعاز من اليهود. وقد يكون هذا صحيحا ؛ لأن من المشركين من كان يحاول إفحام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاجته في ما يتخيله من تناقض في ما يتلوه من الفصول القرآنية. وقد كان في مكة والمدينة يهود كثيرون، ولا يبعد أن يكون بعضهم وسوس لبعض المشركين بإلقاء ذلك السؤال بقصد التعجيز والإفحام وإظهار التناقض أيضا.
غير أن الذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها منفصلة عن ما سبقها ولحق بها، والصلة الوثيقة بين ما سبقها ولحق بها بارزة.
وكل ما يحتمل أنها احتوت ردا على ما أورده أو احتج به بعض المشركين أو بعض الكتابيين في موقف من المواقف.
في الآيات :
١- تقرير بأنه لو قطعت كل شجرة في الأرض، وجعلت قطعها أقلاما وصار البحر ومعه سبعة أبحر مدادا لتدوين آيات الله وآلائه ومشاهد ربوبيته ونواميسه ومخلوقاته وحكمه لنفدت الأقلام والمداد، ولم تنفد هذه الآيات والآلاء والمشاهد والنواميس والمخلوقات والحكم، فهو العزيز الجانب القادر الحكيم في كل ما يقتضي ويخلق ويشاء.
٢- وتقرير آخر بأن خلق الناس جميعا وبعثهم جميعا بالنسبة إليه ليس إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. وهو السميع لكل ما يقال، والبصير لكل ما يكون.
٣- وسؤال في معنى التقرير بأن الله هو الذي يعاقب بين الليل والنهار فيدخل الليل على النهار والنهار على الليل. وأنه هو الذي سخر الشمس والقمر ليجريا وفقا للنظام الذي رتبه لهما إلى الأجل المعين في عمله وحكمته. وأنه هو الخبير بكل ما يفعله الناس، وأن في هذه المشاهد التي يراها الناس بأعينهم ويتمتعون بفوائدها أقوى الأدلة على قدرته وعظمته وأفضاله، وأنه هو الحق وحده المستحق للعبادة والدعاء والخضوع وحده، وأن ما عداه مما يدعوه المشركون باطل، وأنه هو العلي الكبير الذي لا يدانيه شيء في علوه وعظمته.
والمتبادر أن الصلة بين هذه الآيات والآيات السابقة وثيقة، وأنها استمرار في تقرير المعاني التي احتوتها تلك الآيات وتوكيد لها من جهة، ولإفحام المجادلين المكابرين الذين حكيت أقوالهم ومواقفهم وعقائدهم في تلك الآيات من جهة أخرى.
وقد جاءت بأسلوب قوي نافذ إلى القلوب والعقول معا، وتضمنت فيما تضمنته حقيقة يقينية يظهر كل يوم مظهر من مظاهرها، وأثر من آثارها فيما ينكشف للناس نتيجة لتقدم العلوم من عظمة كون الله ونواميسه وحكمته، وتجاوز ذلك كل معنى من معاني التحديد مما يثير الدهشة والذهول.
والآية الثانية [ ٢٨ ] جاءت بأسلوب المخاطب. ونرجح أنها موجهة للمشركين الذين ينكرون البعث الأخروي بسبيل الرد عليهم. فهم يعترفون بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض كما جاء في الآية [ ٢٥ ] وهم يعترفون بأن الله هو الذي خلقهم كما جاء في آية سورة الزخرف هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون ( ٨٧ ) ﴾ فمن المناقضة أن يعترفوا بقدرة الله بدءا وينكروها إعادة، ومن الغباء أن يظنوا أن هناك تحديدا لقدرة الله وفرقا بالنسبة إليها بين خلق فرد وبين خلق جميع الناس وبعثهم، وفي ما هو ماثل أمامهم من عظمة كون الله الذي يعترفون بخلقه إياه وبآياته ونواميسه الباهرة فيه برهان لا يدحض على ذلك.
وجملة ﴿ ألم ترى ﴾ التي تبدأ بها الآية الثالثة قد تلهم أن سامعي القرآن يعرفون ويفهمون مدى ما احتوته الآيات من نواميس كونية ربانية، وبذلك يستحكم في المشركين منهم التنديد القرآني بقوة أشد، والله تعالى أعلم. وفي القرآن آيات فيها جملة ﴿ أولم يعلموا ﴾ في مقام ﴿ أولم يروا ﴾ كما هو الأمر في الآية [ ٣٧ ] من سورة الروم والآية [ ٥٢ ] في
سورة الزمر.
تعليق على رواية مدنية
الآيات [ ٢٧، ٢٨، ٢٩ ].
ولقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [ ٢٧، ٢٨، ٢٩ ] مدنيات. ولقد روى الطبري عن ابن عباس :( أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة : يا محمد أرأيت قوله ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾ الإسراء :[ ٧٥ ]. إيانا تريد أم قومك فقال : كلاكما. فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك إنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء ؟ فقال : إنها في علم الله قليل وعندكم من ذلك ما يكفيكم فأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك ﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام......... ﴾ الخ [ ٢٧ ] ونحن نتوقف في هذه الرواية وفي رواية مدنية الآيات بالتبعية لأنها منسجمة مع ما قبلها وبعدها انسجاما وثيقا سبكا ومعنى وتوجيها وموضوعا على ما يبدو عند إنعام النظر. ولا تفهم أي حكمة لوضعها لو كانت مدنية في هذا السياق.
وقد روى بعض المفسرين١ أن بعض المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك السؤال بإيعاز من اليهود. وقد يكون هذا صحيحا لأن من المشركين من كان يحاول إفحام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاجته في ما يتخيله من تناقض في ما يتلوه من الفصول القرآنية. وقد كان في مكة والمدينة يهود كثيرون، ولا يبعد أن يكون بعضهم وسوس لبعض المشركين بإلقاء ذلك السؤال بقصد التعجيز والإفحام وإظهار التناقض أيضا.
غير أن الذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها منفصلة عن ما سبقها ولحق بها، والصلة الوثيقة بين ما سبقها ولحق بها بارزة.
وكل ما يحتمل أنها احتوت ردا على ما أورده أو احتج به بعض المشركين أو بعض الكتابيين في موقف من المواقف.
في الآيات :
١- تقرير بأنه لو قطعت كل شجرة في الأرض، وجعلت قطعها أقلاما وصار البحر ومعه سبعة أبحر مدادا لتدوين آيات الله وآلائه ومشاهد ربوبيته ونواميسه ومخلوقاته وحكمه لنفدت الأقلام والمداد، ولم تنفد هذه الآيات والآلاء والمشاهد والنواميس والمخلوقات والحكم، فهو العزيز الجانب القادر الحكيم في كل ما يقتضي ويخلق ويشاء.
٢- وتقرير آخر بأن خلق الناس جميعا وبعثهم جميعا بالنسبة إليه ليس إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. وهو السميع لكل ما يقال، والبصير لكل ما يكون.
٣- وسؤال في معنى التقرير بأن الله هو الذي يعاقب بين الليل والنهار فيدخل الليل على النهار والنهار على الليل. وأنه هو الذي سخر الشمس والقمر ليجريا وفقا للنظام الذي رتبه لهما إلى الأجل المعين في عمله وحكمته. وأنه هو الخبير بكل ما يفعله الناس، وأن في هذه المشاهد التي يراها الناس بأعينهم ويتمتعون بفوائدها أقوى الأدلة على قدرته وعظمته وأفضاله، وأنه هو الحق وحده المستحق للعبادة والدعاء والخضوع وحده، وأن ما عداه مما يدعوه المشركون باطل، وأنه هو العلي الكبير الذي لا يدانيه شيء في علوه وعظمته.
والمتبادر أن الصلة بين هذه الآيات والآيات السابقة وثيقة، وأنها استمرار في تقرير المعاني التي احتوتها تلك الآيات وتوكيد لها من جهة، ولإفحام المجادلين المكابرين الذين حكيت أقوالهم ومواقفهم وعقائدهم في تلك الآيات من جهة أخرى.
وقد جاءت بأسلوب قوي نافذ إلى القلوب والعقول معا، وتضمنت فيما تضمنته حقيقة يقينية يظهر كل يوم مظهر من مظاهرها، وأثر من آثارها فيما ينكشف للناس نتيجة لتقدم العلوم من عظمة كون الله ونواميسه وحكمته، وتجاوز ذلك كل معنى من معاني التحديد مما يثير الدهشة والذهول.
تعليق على رواية مدنية
الآيات [ ٢٧، ٢٨، ٢٩ ].
ولقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [ ٢٧، ٢٨، ٢٩ ] مدنيات. ولقد روى الطبري عن ابن عباس :( أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة يا محمد أرأيت قوله ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾ الإسراء :[ ٧٥ ]. إيانا تريد أم قومك ؟ فقال : كلاكما. فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك إنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء ؟ فقال : إنها في علم الله قليل وعندكم من ذلك ما يكفيكم فأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك ﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام......... ﴾ الخ [ ٢٧ ] ونحن نتوقف في هذه الرواية وفي رواية مدنية الآيات بالتبعية ؛ لأنها منسجمة مع ما قبلها وبعدها انسجاما وثيقا سبكا ومعنى وتوجيها وموضوعا على ما يبدو عند إنعام النظر. ولا تفهم أي حكمة لوضعها لو كانت مدنية في هذا السياق.
وقد روى بعض المفسرين١ أن بعض المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك السؤال بإيعاز من اليهود. وقد يكون هذا صحيحا لأن من المشركين من كان يحاول إفحام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاجته في ما يتخيله من تناقض في ما يتلوه من الفصول القرآنية. وقد كان في مكة والمدينة يهود كثيرون، ولا يبعد أن يكون بعضهم وسوس لبعض المشركين بإلقاء ذلك السؤال بقصد التعجيز والإفحام وإظهار التناقض أيضا.
غير أن الذي نرجحه أن الآيات لم تنزل لحدتها منفصلة عن ما سبقها ولحق بها، والصلة الوثيقة بين ما سبقها ولحق بها بارزة.
وكل ما يحتمل أنها احتوت ردا على ما أورده، أو احتج به بعض المشركين أو بعض الكتابيين في موقف من المواقف.
في الآيات :
١- تقرير بأنه لو قطعت كل شجرة في الأرض، وجعلت قطعها أقلاما وصار البحر ومعه سبعة أبحر مدادا لتدوين آيات الله وآلائه ومشاهد ربوبيته ونواميسه ومخلوقاته وحكمه لنفدت الأقلام والمداد، ولم تنفد هذه الآيات والآلاء والمشاهد والنواميس والمخلوقات والحكم، فهو العزيز الجانب القادر الحكيم في كل ما يقتضي ويخلق ويشاء.
٢- وتقرير آخر بأن خلق الناس جميعا وبعثهم جميعا بالنسبة إليه ليس إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. وهو السميع لكل ما يقال، والبصير لكل ما يكون.
٣- وسؤال في معنى التقرير بأن الله هو الذي يعاقب بين الليل والنهار فيدخل الليل على النهار والنهار على الليل. وأنه هو الذي سخر الشمس والقمر ليجريا وفقا للنظام الذي رتبه لهما إلى الأجل المعين في عمله وحكمته. وأنه هو الخبير بكل ما يفعله الناس، وأن في هذه المشاهد التي يراها الناس بأعينهم ويتمتعون بفوائدها أقوى الأدلة على قدرته وعظمته وأفضاله، وأنه هو الحق وحده المستحق للعبادة والدعاء والخضوع وحده، وأن ما عداه مما يدعوه المشركون باطل، وأنه هو العلي الكبير الذي لا يدانيه شيء في علوه وعظمته.
والمتبادر أن الصلة بين هذه الآيات والآيات السابقة وثيقة، وأنها استمرار في تقرير المعاني التي احتوتها تلك الآيات وتوكيد لها من جهة، ولإفحام المجادلين المكابرين الذين حكيت أقوالهم ومواقفهم وعقائدهم في تلك الآيات من جهة أخرى.
وقد جاءت بأسلوب قوي نافذ إلى القلوب والعقول معا، وتضمنت فيما تضمنته حقيقة يقينية يظهر كل يوم مظهر من مظاهرها، وأثر من آثارها فيما ينكشف للناس نتيجة لتقدم العلوم من عظمة كون الله ونواميسه وحكمته، وتجاوز ذلك كل معنى من معاني التحديد مما يثير الدهشة والذهول.
في الآية الأولى سؤال تقريري بقصد لفت النظر إلى أحد النواميس الكونية في سير المراكب فوق البحار، وما في ذلك من نفع للناس، وفرص لمشاهدتهم آثار الله وآياته في كونه. فإن ذلك هو من نعيم الله، وفيه دلائل راهنة على عظمته وقدرته، يدركها الصابرون الثابتون عند حدود الله، الشاكرون لنعمه وأفضاله.
وفي الآية الثانية حكاية تنطوي على التعجيب والتقريع لحال بعض الناس الذين يركبون البحر، فإذا تعاظمت أمواجه حتى أصبحت كالظلل من فوقهم وأحدق بهم الخطر ذكروا الله وحده ودعوه وحده مخلصين له الدين. فإذا ما نجاهم إلى البر فمنهم من يكف عن غلوائه، ويبقى على إخلاصه الذي عاهد الله عليه، ومنهم من ينكث ويغدر، وهذا دأب الختار الجحود.
والمتبادر أن الآيتين متصلتان بما سبقهما اتصال سياق وموضوع وأسلوب. ولقد روي١ أنهما نزلتا في عكرمة بن أبي جهل الذي فر من مكة حينما فتحها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وركب البحر فأحدق به الخطر فعاهد الله لئن نجاه ليؤمنن فنجاه فآمن. ويلحظ أن الآيتين مكيتان ولم نقع على رواية لمدنيتهما أولا، وأنهما منسجمتان مع السياق أسلوبا وموضوعا ثانيا، وأن مثل هذا قد تكرر في آيات مكية كما جاء في آيات سورة يونس [ ٢٢ – ٢٣ ] التي سبق تفسيرها ثالثا. ومع ذلك فقد يلمح فيهما صورة جديدة في حادث واقعي. ولا يبعد أن يكون بعض المكيين قاموا برحلة بحرية فأحاق بهم الخطر فدعوا الله وحده وعاهدوه على البقاء على ذلك أو الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما نجوا وعادوا إلى مكة وفى بعضهم بعهده، فكف عن موقفه الجحودي واعتدل أو آمن، في حين نكث الآخرون عهدهم وغدروا وعادوا إلى موقف الجحود والعناد. وهذا لا يعني فيما نرى أن الآيتين نزلتا منفصلتين عن السياق، فنحن نرجح أنهما جزء منه. وأن الإشارة إلى الحادث جاءت للاستطراد والإفحام.
مقتصد : معتدل في جحوده وغلوائه. ومن المفسرين١ من أول الكلمة بأنه الذي كف عن غلوائه ووفى بعهده بإخلاص لله، بعد أن نجاه الله من خطر البحر. ولا يخلو التأويل من وجاهة بقرينة الجملة التي أتت بعد الكلمة.
ختار : شديد الختل والغدر.
في الآية الأولى سؤال تقريري بقصد لفت النظر إلى أحد النواميس الكونية في سير المراكب فوق البحار، وما في ذلك من نفع للناس، وفرص لمشاهدتهم آثار الله وآياته في كونه. فإن ذلك هو من نعيم الله، وفيه دلائل راهنة على عظمته وقدرته، يدركها الصابرون الثابتون عند حدود الله، الشاكرون لنعمه وأفضاله.
وفي الآية الثانية حكاية تنطوي على التعجيب والتقريع لحال بعض الناس الذين يركبون البحر، فإذا تعاظمت أمواجه حتى أصبحت كالظلل من فوقهم وأحدق بهم الخطر ذكروا الله وحده ودعوه وحده مخلصين له الدين. فإذا ما نجاهم إلى البر فمنهم من يكف عن غلوائه، ويبقى على إخلاصه الذي عاهد الله عليه، ومنهم من ينكث ويغدر، وهذا دأب الختار الجحود.
والمتبادر أن الآيتين متصلتان بما سبقهما اتصال سياق وموضوع وأسلوب. ولقد روي١ أنهما نزلتا في عكرمة بن أبي جهل الذي فر من مكة حينما فتحها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وركب البحر فأحدق به الخطر فعاهد الله لئن نجاه ليؤمنن فنجاه فآمن. ويلحظ أن الآيتين مكيتان ولم نقع على رواية لمدنيتهما أولا، وأنهما منسجمتان مع السياق أسلوبا وموضوعا ثانيا، وأن مثل هذا قد تكرر في آيات مكية كما جاء في آيات سورة يونس [ ٢٢ – ٢٣ ] التي سبق تفسيرها ثالثا. ومع ذلك فقد يلمح فيهما صورة جديدة في حادث واقعي. ولا يبعد أن يكون بعض المكيين قاموا برحلة بحرية فأحاق بهم الخطر فدعوا الله وحده وعاهدوه على البقاء على ذلك أو الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما نجوا وعادوا إلى مكة وفى بعضهم بعهده، فكف عن موقفه الجحودي واعتدل أو آمن، في حين نكث الآخرون عهدهم وغدروا وعادوا إلى موقف الجحود والعناد. وهذا لا يعني فيما نرى أن الآيتين نزلتا منفصلتين عن السياق، فنحن نرجح أنهما جزء منه. وأن الإشارة إلى الحادث جاءت للاستطراد والإفحام.
في الآية الأولى هتاف بالناس ودعوة لهم إلى تقوى الله والخوف من يوم القيامة ؛ حيث لا يسد فيه والد مسد ولد، ولا ولد مسد والد، وحيث يكون كل امرئ مسؤولا عن عمله ومشغولا بنفسه عن غيره، وإن كان أقرب الناس إليه وألصقهم به، وتوكيد لهم بأن وعد الله هذا حق، وتحذير لهم من الاغترار بالحياة الدنيا والاستماع إلى وساوس الشيطان وإغراءاته.
وفي الثانية تقرير بأن علم موعد يوم القيامة هو عند الله الذي ينزل الغيث، ويعلم ما تحمل الأرحام، وبأنه ليس من أحد يستطيع أن يعرف ماذا يفعل غدا وماذا يكسب، وفي أي أرض يموت، فالله وحده هو العليم بكل شيء، الخبير بحقائق الأمور وسيرها ونتائجها.
ولقد روى الطبري١ أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة سؤال رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلا :( إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد ؟ وبلادنا محل جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث ؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت ؟ فأنزل الله ﴿ إن الله عنده علم الساعة ﴾ إلى آخر الآية ). وروى البغوي أنها نزلت في الحارث بن عمرو من أهل البادية الذي جاء إلى النبي فسأله هذه الأسئلة. وروح الآيتين تلهم وجود ترابط قوي بينهما أولا وبينهما وبين الآيات السابقة لهما ثانيا. وتلهم كون الآية الثانية جاءت لتدعيم ما احتوته الآية الأولى من إنذار وتحذير، هذا فضلا عن تساوق الفاصلة في الآيتين وتساوقها كذلك في الآيات السابقة. وكل هذا يجعلنا نرى أن الآيتين متصلتان بسابقاتهما سياقا وسبكا وموضوعا، وأنهما جاءتا خاتمة للسورة وما احتوته من فصول المناظرة أو مشاهدها معا. وقد تضمنتا هتافا قويا للناس محذرا منذرا داعيا إلى الله وتقواه.
وما قلناه لا يمنع أن يكون بعض الناس قد وجهوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الأسئلة، وأن الآية الأخيرة قد احتوت إجابات عليها
في الآية الأولى هتاف بالناس ودعوة لهم إلى تقوى الله والخوف من يوم القيامة ؛ حيث لا يسد فيه والد مسد ولد، ولا ولد مسد والد، وحيث يكون كل امرئ مسؤولا عن عمله ومشغولا بنفسه عن غيره، وإن كان أقرب الناس إليه وألصقهم به، وتوكيد لهم بأن وعد الله هذا حق، وتحذير لهم من الاغترار بالحياة الدنيا والاستماع إلى وساوس الشيطان وإغراءاته.
وفي الثانية تقرير بأن علم موعد يوم القيامة هو عند الله الذي ينزل الغيث، ويعلم ما تحمل الأرحام، وبأنه ليس من أحد يستطيع أن يعرف ماذا يفعل غدا وماذا يكسب، وفي أي أرض يموت، فالله وحده هو العليم بكل شيء، الخبير بحقائق الأمور وسيرها ونتائجها.
ولقد روى الطبري١ أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة سؤال رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلا :( إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد ؟ وبلادنا محل جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث ؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت ؟ فأنزل الله ﴿ إن الله عنده علم الساعة ﴾ إلى آخر الآية ). وروى البغوي أنها نزلت في الحارث بن عمرو من أهل البادية الذي جاء إلى النبي فسأله هذه الأسئلة. وروح الآيتين تلهم وجود ترابط قوي بينهما أولا وبينهما وبين الآيات السابقة لهما ثانيا. وتلهم كون الآية الثانية جاءت لتدعيم ما احتوته الآية الأولى من إنذار وتحذير، هذا فضلا عن تساوق الفاصلة في الآيتين وتساوقها كذلك في الآيات السابقة. وكل هذا يجعلنا نرى أن الآيتين متصلتان بسابقاتهما سياقا وسبكا وموضوعا، وأنهما جاءتا خاتمة للسورة وما احتوته من فصول المناظرة أو مشاهدها معا. وقد تضمنتا هتافا قويا للناس محذرا منذرا داعيا إلى الله وتقواه.
وما قلناه لا يمنع أن يكون بعض الناس قد وجهوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الأسئلة، وأن الآية الأخيرة قد احتوت إجابات عليها
تعليق على آية
﴿ إن الله عنده علم الساعة ﴾
الخ وحديث مفاتيح الغيب
ولقد أورد المفسرون١ في مناسبة الآية الأخيرة حديثا نبويا عن ابن عمر جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : مفاتيح الغيب خمس ثم تلا الآية. وأوردوا ٢ كذك حديثا آخر عن ابن عمر أيضا جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، فلا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت.
والحديث الأول مما أخرجه البخاري ٣، ونحن في حيرة من ذلك ؛ لأن بدء كل من الحديثين يفيد الحصر، ويعني أن الأمور الخمس هن مفاتح الغيب مع أنهن لسن كل ما يغيب عن الناس علمه، ثم إن جملة ﴿ وينزل الغيث ﴾ في الآية لا تعني أنه لا يعلم وقت نزول الغيث إلا الله، والله أعلم.
٢ المصدر نفسه..
٣ التاج جـ ٤ ص ١٨١..