تفسير سورة الجاثية

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٣٧.

تفسير سورة الجاثية
وهي مكّيّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨)
قوله عزَّ وجلَّ: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ قال أبو حيَّان «١» : أجاز الفَخْرُ الرَّازِي في الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أنْ يكونا صفتينِ ل «اللَّه»، وهو الراجح، أو ل «الكتاب» ورُدَّ بأنَّه لا يجوز أنْ يكونا صفتين للكتاب من وجوهٍ، انتهى.
وذكر تبارَكَ وتعالى هنا الآياتِ الَّتِي في السموات والأرضِ مُجْمَلَةً غَيْرَ مُفَصَّلَةٍ، فكأَنَّها إحالةٌ على غوامِضَ تُثِيرُها الفِكَر، ويُخْبِرُ بكثير منها الشَّرْعُ فلذلك جعلها للمؤمنين، ثم ذكر سبحانه خلق البشر والحيوان، وكأَنَّه أَغْمَضَ فجعله/ للموقنين الذين لهم نظر يُؤَدِّيهم إلى اليقين، ثم ذكر اختلاف الليل والنهار، والعِبْرَة بالمطرِ والرياحِ، فجعل ذلك لقومٍ يعقلون إذ كُلُّ عاقلٍ يُحَصِّلُ هذه ويفهم قَدْرَهَا.
قال ع «٢» : وإنْ كان هذا النَّظَرُ لَيْسَ بلازِمٍ وَلاَ بُدَّ، فإن اللفظ يعطيه، والرزق المُنَزَّلُ من السماء هو: المَاءُ، وسَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رِزْقاً بمآلِهِ، لأَنَّ جَمِيعَ ما يَرْتَزِقُ، فَعَنِ الماءِ هُوَ.
وقوله: نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي: بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها.
وقال جلَّتْ عظمته: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ آية تقريع وتوبيخ، وفيها
(١) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٤٣).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٧٩).
قُوَّةُ تهديدٍ، والأَفَّاكُ: الكَذَّابُ الذي يقَعُ منه الإفْكُ مِرَاراً، والأَثِيمُ: بناءُ مُبَالَغَةٍ، اسمُ فاعلٍ من أَثِمَ يأْثَمُ، ورُوِيَ أَنَّ سبب الآية أبو جَهْلٍ، وقيل: النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، والصواب أَنَّها عامَّةٌ فيهما وفي غيرهما، وأَنَّها تَعُمُّ كُلَّ مَنْ دخل تحت الأوصافِ المذكورة إلى يوم القيامة ويُصِرُّ معناه: يَثْبُتُ على عقيدته من الكُفْرِ.
وقوله: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي: مؤلم.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠)
وقوله تعالى: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً أي: أُخْبِرَ بشيْءٍ من آياتنا، فعلم نَفْسَ الخبر لا المعنى الذي تضمَّنه الخَبَرُ، ولو عَلِمَ المعانِيَ الَّتِي تَضَمَّنَها أخبارُ الشَّرْعِ، وَعَرَفَ حقائِقَهَا- لكان مؤمناً.
ت: وفي هذا نظر لأَنَّه ينحو إلى القَوْلِ بأَنَّ الكفر لا يُتَصَوَّرُ عناداً مَحْضاً، وقد تَقَدَّمَ اختيارُهُ- رحمه اللَّه- لذلك في غير هذا المَحَلِّ، فَقِفْ عليه، وخَشْيَةُ الإطالة منَعَتْنِي مِنْ تَكْرَارِهِ هنا.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١١ الى ١٣]
هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)
وقوله سبحانه: هذا هُدىً إشارة إلى القرآن.
وقوله: لَهُمْ عَذابٌ بمنزلة قولك: لهم حَظٌّ، فَمِنْ هذه الجهةِ/ ومِنْ جِهَةِ تَغَايُرِ اللفظَيْنِ حَسُنَ قوله: عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ، إذ الرِّجْزُ هو العذابُ.
وقوله: لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ أَقَامَ القُدْرَةَ والإذْنَ مُنَابَ أَنْ يَأْمُرَ البَحْرَ والنَّاسَ بذلك، وقرأ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ «١» :«جَمِيعاً مِنْه» بضم التاء، وقرأ أيضاً: «جَمِيعاً مَنُّهُ» [بفتح الميم وشد النون والهاء] «٢» وقرأ ابن عبّاس: «منّة» بالنصب على المصدر «٣».
(١) أما الأولى فذكرها ابن عطية في «البحر الوجيز» (٥/ ٨٢)، وأما القراءة الثانية عنه، فقد ذكرها ابن عطية أيضا، وكذلك ابن خالويه في «مختصر الشواذ» ص: (١٣٩)، وابن جني في «المحتسب» (٢/ ٢٦٢)، والزمخشري في «الكشاف» (٤/ ٢٨٨).
(٢) سقط في: د.
(٣) وقرأ بها عبيد بن عمير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والجحدري.
وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قال الغَزَّاليُّ في «الإحياء» : الْفِكْرُ والذِّكْرُ أعلى مقامَاتِ الصالحين، وقال- رحمه اللَّه-: اعلم أَنَّ الناظرين بِأنوار البصيرة عَلِمُوا أنْ لا نجاةَ إلاَّ في لقاء اللَّه عزَّ وجلَّ، وأَنَّه لا سبيل إلى اللقاء إلاَّ بأَنْ يَمُوتَ العبد مُحِبًّا للَّه تعالى، وعارِفاً به، وأَنَّ المحبَّةَ والأُنْسَ لا يتحصَّلانِ إلاَّ بدوامِ ذِكْرِ المحبوب، وأَنَّ المعرفة لا تحصل إلاَّ بدوام الفِكْرِ، ولن يتيسَّر دوامُ الذِّكْرِ والفِكْر إلاَّ بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقَدْرِ البُلْغَةِ والضَّرُورَةِ، ثم قال: والقرآنُ جامعٌ لفَضْلِ الذِّكْرِ والفِكْرِ والدُّعَاءِ مَهْمَا كان بِتَدَبُّرٍ، انتهى.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٤ الى ١٧]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧)
وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا... الآية، قال أَكْثَرُ النَّاسِ: هذه الآيةُ منسوخٌة بِآية القتال، وقالَتْ فرقةٌ: بل هي مُحْكَمَةٌ قال ع «١» : الآية تتضمَّن الغُفْرَانَ عُمُوماً، فينبغي أَنْ يقال: «إنَّ الأُمور العظام، كالقتل والكُفْرِ مُجَاهَرَةً ونحو ذلك- قد نَسَخَتْ غفرانَهُ، آيةُ السَّيْفِ والجِزْيَةِ، وما أحكمه الشَّرْعُ لا محالة، وأَنَّ الأُمورَ الحقيرةَ كالجَفَاءِ في القول ونحوِ ذلك تحتملُ أنْ تبقى مُحْكَمَةً، وأنْ يكونَ العفْوُ عنها أقربَ إلى التقوى.
وقوله أَيَّامَ اللَّهِ قالت فرقة: معناه: أيام إنعامه، ونَصْرِهِ، وتنعيمه/ في الجنة، وغَيْرُ ذلك، وقال مجاهد: أَيَّامَ اللَّهِ: أيامُ نِقَمِهِ وعَذَابِهِ «٢»
، وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله سبحانه:
فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ الآيةُ، قَدْ تَقَدَّم بيان نظيرها في سورة يونس وغيرها.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)
- ينظر: «الشواذ» ص: (١٣٩)، و «المحتسب» (٢/ ٢٦٢)، و «الكشاف» (٤/ ٢٨٨)، و «المحرر» (٥/ ٨٢). [.....]
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٨/ ٨٢).
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٨٣).
وقوله سبحانه: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ... الآية: «الشريعةُ» لُغَةً: مَوْرِدُ المياه، وهي في الدين من ذلك لأَنَّ الناس يَرِدُونَ الدينَ ابتغاءَ رحمةِ اللَّهِ والتقرُّبِ منه، و «الأمر» وَاحدُ الأمور، ويحتمل أنْ يكون وَاحِدَ الأوامر، والَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ هم:
الكُفَّارُ، وفي قوله تعالى: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ تحقيرٌ للكفرة من حيث خروجُهم عن ولاية الله تعالى.
ت: وقد قال صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ أُحُدٍ: «أَجِيبُوهُمْ فَقُولُوا: اللَّهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مولى لَكُمْ» «١»، وذلك أَنَّ قريشاً قالوا للصحابة: لنا العزّى، ولا عزّى لكم.
وقوله عز وجل: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ يريد: القرآن، وهو جمع «بَصِيرَةٍ»، وهو المُعْتَقَدُ الوثيقُ في الشيء، كأَنَّه من إبصار القلب قال أبو حيّان: وقرىء: «هذه» أي: هذه الآيات، انتهى.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢)
وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
قيل: إنَّ الآية نزلَتْ بسبب افتخار كان للكُفَّارِ على المؤمنين، قالوا: لَئِنْ كَانَتْ آخِرَةٌ، كما تزعمون، لَنُفَضَّلَنَّ عليكم فيها، كما فُضِّلْنَا في الدّنيا.
واجْتَرَحُوا
معناه: اكتسبوا، وهذه الآية متناولة بلفظها حالَ العُصَاةِ من حال أهل التقوى، وهي موقف للعارفين يَبْكُونَ عنده، ورُوِيَ عن الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، أَنَّهُ كانَ يُرَدِّدُهَا ليلةً حتَّى أَصْبَحَ «٢»، وكذلك عن الفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ «٣»، وكان يقول لنفسه: لَيْتَ/ شِعْرِي! مِنْ أيِّ الفَرِيقَيْنِ أَنْتَ؟ وقال الثعلبيُّ: كانت هذه الآية تُسَمَّى مَبْكَاةَ العابدين «٤»، قال ع «٥» : وأَمَّا لفظها فيعطى أَنَّه اجتراحُ الكُفْرِ، بدليل معادلته بالإِيمان، ويحتمل أَنْ تكون
(١) تقدم تخريجه.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٨٥).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٨٥).
(٤) ذكره ابن عطية (٥/ ٨٥).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٨٥).
المعادلة بَيْنَ الاِجتراحِ وَعَمَلِ الصالحات، ويكونَ الإيمانُ في الفريقَيْنِ، ولهذا بكى الخائفون- رضي اللَّه عنهم-.
ت: وروى ابن المُبَارك في «رقائقه» بسنده أنَّ تَمِيماً الدَّارِيَّ- رضي اللَّه عنه- باتَ ليلةً إلى الصَّبَاحِ، يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، وَيُرَدِّدُ هذه الآية: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
الآية، ويبكي- رضي اللَّه عنه-، انتهى.
وقوله: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
: «ما» مصدريةٌ، والتقدير: ساء الحكم حكمهم.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤)
وقوله سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ... الآية: تسلية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي: لا تَهْتَمَّ بأمر الكَفَرَةِ من أجل إعراضهم عن الإيمان، وقوله: إِلهَهُ هَواهُ إشارة إلى الأصنام إذ كانوا يعبدون ما يَهْوَوْنَ من الحجارة، وقال قتادة: المعنى: لا يَهْوَى شيئاً إلا رَكِبَهُ، لا يخافُ اللَّه «١» فهذا كما يقال: الهوى إله مَعْبُودٌ، وهذه الآية وإنْ كانت نزلَتْ في هَوَى الكُفْر فهِي مُتَنَاوِلَةٌ جميعَ هوى النفس الأَمَّارَةِ قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وتمنى عَلَى اللَّهِ» «٢»، وقال سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: هَوَاكَ دَاؤُكَ فَإنْ خَالَفْتَهُ فَدَوَاؤُك، ، وقال وهْبٌ: إذا عَرَضَ لك أمران، وشككْتَ في خَيْرِهِمَا، فانظر أَبْعَدَهُمَا مِنْ هَوَاكَ فَأْتِهِ ومن الحكمة في هذا قول القائل: [الطويل]
إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الهوى قَادَكَ الهوى إلى كُلِّ مَا فيهِ عَلَيْكَ مَقَالُ
قال الشيخ ابن أبي جَمْرَةَ: قولُهُ/ صلّى الله عليه وسلّم: «فَيُقَالُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئاً فَلِيَتْبَعْهُ» «شيئاً» يعم جَمِيعَ الأشياء، مُدْرَكَةً كانَتْ أو غَيْرَ مُدْرَكَةٍ، فالمُدْرَكُ: كالشمس والقمر، وَغَيْرُ المُدْرَكِ، مِثْلُ: الملائكة والهوى لقوله عزَّ وجَلَّ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، وما أشبه ذلك، انتهى، قال القُشَيْرِيُّ في «رسالته» : وحُكِيَ عن أبي عمران الواسطيِّ قال:
انكسرت بنا السفينةُ، فَبَقِيتُ أنا وامرأتي على لَوْحٍ، وقد وَلَدَتْ في تِلْكَ الحَالِ صَبِيَّةٌ، فصَاحَتْ بي، وقالت: يَقْتُلُنِي العَطَشُ، فقلْتُ: هو ذا يرى حالَنَا، فرفعتُ رَأْسِي، فإذا رجُلٌ في الهواء جالِسٌ في يده سِلْسِلَةٌ من ذَهَبٍ، وفيها كُوزٌ من ياقوت أحمر، فقال: هاك،
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٥٩، ١٦٠) آية رقم: (٢١).
(٢) تقدم.
اشربا، قال: فأخذتُ الكُوزَ فَشَرِبْنَا منه، فإذا هو أطيبُ مِنَ المِسْكِ، وأبردُ مِنَ الثَّلْجِ، وأحلى من العَسَلِ، فقلت: مَنْ أَنْتَ- رَحِمَكَ اللَّه؟ - فقال: عبدٌ لمولاكَ، فقلْتُ له: بِمَ وَصَلْتَ إلى هذا؟ فقال: تركْتُ هَوَايَ لمَرْضَاتِهِ، فأجلَسَنِي في الهواء، ثُمَّ غَابَ عَنِّي، ولم أره، انتهى.
وقوله تعالى: عَلى عِلْمٍ قال ابن عباس «١» : المعنى: على عِلْمٍ من اللَّه تعالى سَابِقٍ، وقالت فرقة: أي: على عِلْمٍ من هذا الضَّالِّ بتَرْكِهِ للحَقِّ وإعراضِهِ عنه، فتكُونُ الآية على هذا التأويل من آيات العِنَادِ من نحو قوله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: ١٤].
وقوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً استعاراتٌ كُلُّهَا.
وقوله: مِنْ بَعْدِ اللَّهِ فِيهِ حَذْفُ مضافٍ، تقديره: مِنْ بعدِ إضلالِ اللَّهِ إيَّاه، واخْتُلِفَ في معنى قولهم: نَمُوتُ وَنَحْيا فقالت فرقة: المعنى: يَمُوتُ الآباء، ويحيا الأبناء، وقالت فرقة: المعنى: نَحْيَا ونَمُوتُ، / فوقع في اللفظ تقديم وتأخير، وقولهم:
وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي: طول الزمان.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَّا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)
وقوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ يعني: قريشاً، مَّا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا أي: يا محمَّد، أَحْيِ لنا قُصَيًّا حتى نَسْأَلَهُ، إلى غَيْرِ ذلك من هذا النحو، فنزلت الآية في ذلك، ومعنى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي: في قولكُمْ أَنَّا نُبْعَثُ بعد الموت.
ثم أمر اللَّه تعالى نَبِيَّه أنْ يخبرَهم بالحال السابقة في علم اللَّه التي لا تُبَدَّلُ بأَنَّه يحيي الخلق ثم يميتهم... إلى آخر الآية، وباقي الآية بيّن.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٢٦٢) برقم: (٣١٢٠٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ٨٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧٥٨)، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، واللالكائي في «السنة»، والبيهقي في «الأسماء والصفات».
والْمُبْطِلُونَ: الداخلون في الباطل.
وقوله سبحانه: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً هذا وصفُ حالِ القيامة وهولها، والأُمَّةُ:
الجماعة العظيمة من الناس، وقال مجاهد «١» : الأُمَّةُ: الواحد من الناس قال ع «٢» :
وهذا قلق في اللغة، وإنْ قيل في إبراهيمَ «أُمَّة» وفي قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، فذلك تَجوُّزٌ على جهة التشريف والتشبيه، وجاثِيَةً معناه: على الرُّكَب قاله مجاهد وغيره «٣»، وهي هَيْئَة المُذْنِبِ الخَائِفِ، وقال سُلَيْمَانُ: في القيامة ساعَةٌ قَدْرُ عَشْرِ سنين، يَخِرُّ الجميعُ فيها جُثَاةً على الرُّكَبِ.
وقوله: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا قالت فرقة: معناه: إلى كتابها المنزّل عليها، فتحاكم إِليه، هل وافقته أو خالفته؟ وقالت فرقة: أراد إلى كتابها الذي كتبته الحَفَظَةُ على كل واحد من الأُمَّةِ.
وقوله سبحانه: هذا كِتابُنا يحتمل أنْ تكون الإشارة إلى الكتب المُنَزَّلَةِ، أو إلى اللوح المحفوظ أو إلى كُتُبِ الحَفَظَةِ وقال ابن قُتَيْبَةَ: إلى القرآن.
وقوله سبحانه: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال الحَسَنُ: هو كُتُبُ الحَفَظَةِ على بني آدمَ «٤»، وروى ابن عباس وغيره حديثاً أَنَّ اللَّه تَعالى يَأْمُرُ/ بِعَرْضِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ، فَيُنْقَلُ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَتْ تَرَفَعُ الحَفَظَةَ- كُلُّ مَا هُوَ مُعَدٌّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ، وَيُلْغَى الباقي فهذا هو النسخ من أصل.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣)
وقوله عز وجل: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي: في جنّته.
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٨٨).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٨٨).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٢٦٥) برقم: (٣١٢١٣) عن مجاهد، (٣١٢١٤) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (٥/ ٨٨)، وابن كثير (٤/ ١٥٢).
(٤) ذكره البغوي (٤/ ١٦١) آية رقم: (٢٩)، وابن عطية (٥/ ٨٩). [.....]
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ أي: فيقال لهم: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ وقرأ حمزة وحده: «وَالسَّاعَةَ» «١» - بالنصب- عطفاً على قوله: وَعْدَ اللَّهِ، وقرأ ابن مسعود «٢» :«وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا»، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا... الآية، حكايةُ حالِ يوم القيامة وَحاقَ معناه: نزل وأحَاطَ، وهي مُسْتَعْمَلَة في المَكْرُوهِ، وفي قوله: مَّا كانُوا حذفُ مضافٍ، تقديره: جزاءَ ما كانوا به يستهزئون.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)
وقوله عز وجل: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ معناه: نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا، وآياتِ اللَّهِ هنا: لفظ جامعٌ لآِيات القرآن وللأدِلَّةِ التي نَصَبَهَا اللَّهُ تعالى، للنَّظَرِ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: لا يُطْلَبُ منهم مراجعةٌ إلى عملٍ صَالِحٍ.
وقوله سبحانه: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ... إلى آخر السورة- تحميدٌ للَّه عزَّ وجلَّ، وتحقيقٌ لأُلُوهِيَّتِهِ، وفي ذلك كَسْرٌ لأمرِ الأصنام وسائر ما تعبده الكفرة، والْكِبْرِياءُ: بناء مبالغة.
(١) وعلى قراءة الباقين فيها ثلاثة أوجه: الابتداء، وما بعدها من الجملة المنفية خبرها.
«الثاني» : العطف على محل اسم «إن» لأنه قبل دخولها مرفوع بالابتداء.
«الثالث» : أنه عطف على محل «إن» واسمها معا، لأن بعضهم- كالفارسي والزمخشري- يرون: أن ل «إن» واسمها موضعا، وهو الرفع بالابتداء.
ينظر: «الدر المصون» (٦/ ١٣٢)، و «السبعة» (٥٩٥)، و «الحجة» (٦/ ١٧٩)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٣١٥)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٧٧)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٢٣٥)، و «العنوان» (١٧٤)، و «حجة القراءات» (٦٦٢)، و «شرح شعلة» (٥٨٢)، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢/ ٤٦٨).
(٢) وينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٨٩).
Icon